La philosophie de l'histoire chez Vico
فلسفة التاريخ عند فيكو
Genres
مقدمة
الباب الأول: أصول العلم الجديد
1 - مدخل إلى فلسفة فيكو وعصره
2 - أصول ومبادئ العلم الجديد
الباب الثاني: قانون التطور
1 - قانون تطور الأمم
2 - مسار الأمم في ضوء الحكمة الشعرية
الباب الثالث: المعرفة التاريخية وأثرها
1 - نظرية المعرفة التاريخية
2 - أثر فيكو في الفكر الفلسفي الغربي
Page inconnue
خاتمة
المراجع
مقدمة
الباب الأول: أصول العلم الجديد
1 - مدخل إلى فلسفة فيكو وعصره
2 - أصول ومبادئ العلم الجديد
الباب الثاني: قانون التطور
1 - قانون تطور الأمم
2 - مسار الأمم في ضوء الحكمة الشعرية
الباب الثالث: المعرفة التاريخية وأثرها
Page inconnue
1 - نظرية المعرفة التاريخية
2 - أثر فيكو في الفكر الفلسفي الغربي
خاتمة
المراجع
فلسفة التاريخ عند فيكو
فلسفة التاريخ عند فيكو
تأليف
عطيات أبو السعود
مقدمة
فلسفة التاريخ مبحث هام من المباحث الفلسفية الحديثة العهد في الفكر الفلسفي، فلم تتضح كعلم مستقل إلا في القرن السابع عشر، ثم تحددت معالمها في القرن الثامن عشر الذي شهد العديد من فلاسفة التاريخ أمثال فيكو ومونتسكيو وتورجو وفولتير وكوندورسيه وهردر وغيرهم. وبلغ الاهتمام بالدراسات التاريخية ذروته في القرن التاسع عشر - حتى ليمكن أن نطلق عليه اسم «عصر التاريخ» - على يد أعلام هذا القرن أمثال هيجل وكونت وماركس. وترجع أهمية فلسفة التاريخ إلى حيوية موضوعها حيث تتناول بالدراسة حركة المجتمعات البشرية وتطورها وأسباب انهيارها وسقوطها في مرحلة معينة من تاريخها، والقوانين التي تحكم حركة التاريخ وتطوره.
Page inconnue
ولا تذكر فلسفة التاريخ إلا ويذكر معها اسم فيكو. وهو فيلسوف إيطالي ولد وعاش في نابولي وعانى الفقر وتجاهل معاصريه ولم يبدأ الاهتمام الحقيقي به إلا منذ عهد قريب، وعلى الرغم من هذا التجاهل الذي استمر طويلا فهو يعد المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ في الفكر الفلسفي الغربي. ويمكن القول إن مكانته في التراث الغربي تماثل مكانة ابن خلدون في التراث العربي. حقا لقد ذكره بعض فلاسفة القرن الثامن عشر وربما اطلعوا على شيء من إنتاجه، وخاصة على بعض أجزاء من العلم الجديد، ولكنه لم يكتشف اكتشافا حقيقيا إلا عندما ترجم إلى اللغة الألمانية لأول مرة عام 1822م، ثم عندما ترجم «ميشليه» مختارات من العلم الجديد عام 1825م مع مقدمة كان لها أثرها في توجيه الأنظار إلى أهمية أفكاره وأصالتها، والتفت إليه أبناء بلده بعد أن أغفلوه طويلا وخاصة مع حركة البعث القومي الإيطالي، إلى أن جاء فيلسوف إيطاليا الأكبر بندتو كروتشه فأحيا فكره من جديد وأفرد له كتابا مستقلا. ثم توالت الدراسات العلمية الدقيقة التي سلطت الأضواء على جوانب فكره المختلفة سواء في فلسفة التاريخ بوجه عام أو فقه اللغة والقانون الروماني أو نظريته في اكتشاف حقيقة هوميروس. والواقع أن فيكو ليس مجهولا في حياتنا العقلية والعلمية؛ فقد اهتم به بعض الأساتذة الذين يستحقون كل التقدير والعرفان، فكتب عنه المرحوم الدكتور عبد العزيز عزت فصلا في كتابه «فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع»،
1
وحاول أن يقدمه كمفكر اجتماعي قبل كل شيء، ثم قدم الدكتور أحمد حمدي محمود عرضا موجزا لحياته وكتابه الأساسي «العلم الجديد» في مجلة «تراث الإنسانية»،
2
وخصص المرحوم الأستاذ الدكتور محمد فتحي الشنيطي فصلا عنه في كتابه «دراسات في الفلسفة الحديثة»،
3
كما كتب عنه الأستاذ الدكتور أحمد محمود صبحي فصلا قيما في كتابه «فلسفة التاريخ»
4
أبرز فيه بإيجاز منهج فيكو ومذهبه ونظريته في التعاقب الدوري للحضارات. وكان آخر هذه الجهود مقال الأستاذ الدكتور حسن حنفي في مجلة الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة فاس،
5
Page inconnue
وقد قدم فيه عرضا وافيا - إلى حد كبير - للعلم الجديد ختمه بتقييم شامل لتفكير فيكو وبيان حدوده وجوانب القصور فيه.
وعلى الرغم من أهمية هذه البحوث إلا أنها لم تستقص كل جوانب فلسفة فيكو ولم تقدم نظريته في التاريخ بصورة وافية، ومع اعترافنا بقيمة هذه الدراسات فإن المكتبة العربية كانت وما تزال في أشد الحاجة إلى بحوث متخصصة في فلسفة فيكو؛ ولهذا حاولنا في هذا البحث أن نقدم صورة واضحة عن هذا الفيلسوف معتمدين في المقام الأول على نصوصه نفسها. والواقع أن هذا لم يكن أمرا سهلا بسبب كثافة المادة التاريخية التي تناولها مما أعجزه عن تنظيمها والسيطرة عليها؛ فقد كان ينتقل من موضوع إلى آخر - ربما دون أن يدري هو نفسه بهذا الانتقال - بحيث يصعب الفصل بين هذه الموضوعات، ومما زاد من صعوبة البحث أن فيكو لم يشر إلى هوامش ولم يقم بعمل إحالات للنصوص، بل حشد في النص الأصلي ما كان يجب أن يشير إليه في الهامش مما جعل العثور على الأفكار الأساسية أمرا شاقا في خضم التفصيلات الجزئية الكثيرة والمتشابكة.
وقد حاولت أن ألتزم بالنصوص وأن أقدمها تقديما وافيا منظما مع الحرص على عدم إغفال أية نقطة جوهرية في الكتاب كله، وقد كانت قراءة النص وحدها مسألة شائكة لأنه يفترض إلمام القارئ بالثقافة الكلاسيكية (الثقافة اليونانية والرومانية) إلماما تاما، وكذلك معرفة تاريخ القانون الروماني، كما يستلزم قدرا كافيا من الإلمام باللغة اللاتينية بوجه خاص والقدرة على تتبع المؤلف في تحليلاته الاشتقاقية المرهقة التي جعل لها أهمية كبرى في تتبع تطور التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية من خلال التطور اللغوي.
والمنهج المتبع في البحث هو المنهج التحليلي النقدي؛ فقد توخينا عرض النصوص عرضا أمينا بحيث لا نغفل شيئا هاما منها مع الحرص على ترتيب وتنسيق ما وجدناه محتاجا إلى الترتيب والتنسيق، وعلى سبيل المثال وجدنا أنه من الضروري تصنيف المسلمات إلى مجموعات رئيسية حسب موضوعاتها ووضع عناوين مناسبة لها؛ إذ إن فيكو وضع مائة وأربع عشرة مسلمة في موضوعات متعددة وتركها بغير تصنيف أو تنسيق، ومن الطبيعي أن عرض النصوص وحده لا يكفي، فكان لا بد من تحليلها وتقييمها بعد ذلك. كما اتبعنا المنهج المقارن لبيان أثر فيكو على بعض فلاسفة التاريخ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وقد اعتمدنا على نصوص فيكو من خلال مؤلفاته الأصلية، وخاصة أهم مؤلفاته «العلم الجديد في الطبيعة المشتركة للأمم»، وهو الذي شمل فلسفته بأكملها وفلسفته التاريخية بصفة خاصة بجانبيها النظري الميتافيزيقي والتطبيقي التجريبي، كما اعتمدنا على الترجمة الإنجليزية ل «العلم الجديد» التي قام بترجمتها العالمان
Fisch
و
Bergin
عن الطبعة الثالثة للنسخة الإيطالية الصادرة عام 1744م، أما عن بقية مؤلفاته فقد كانت بمثابة إرهاصات لفلسفته التي تبلورت في النهاية في المؤلف الكبير «العلم الجديد» الذي عكف على تأليفه وتعديله وتنقيحه أكثر من ربع قرن من حياته، ومع ذلك فقد رجعنا إلى ما توفر من بقية مؤلفاته مترجما للغة الإنجليزية ومن أهمها «السيرة الذاتية» و«مناهج الدراسة في عصرنا» الذي عارض فيه بوضوح نظرية المعرفة الديكارتية. وأما عن مؤلفه «الحكمة الإيطالية القديمة» فقد تعذر الحصول على ترجمة له بالإنجليزية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن موضوع هذا المؤلف لا يتعلق بالقضايا الأساسية التي تناولناها في هذا البحث. أضف إلى هذا أن مضمون مؤلفات فيكو كلها - التي كتبها باللغة اللاتينية قبل أن يتحول إلى اللغة الإيطالية في العلم الجديد - متضمنة في آخر مؤلفاته وأهمها وهو «العلم الجديد»، فبعد اكتشافه علمه الجديد كرس البقية الباقية من حياته لتنقيحه وإضافة فصول جديدة له؛ ولهذا اعتمد البحث في المقام الأول على النصوص الأصلية.
وقد قسمنا البحث إلى ثلاثة أبواب مترابطة يؤدي كل منها إلى الآخر؛ عرضنا في الباب الأول أصول العلم الجديد، وحاولنا في الفصل الأول منه تتبع نشأة العلم الجديد وتبلوره في ذهن مؤلفه، وكان لزاما علينا أن نعرض للظروف التاريخية والثقافية التي عاش في ظلها وأثرت على تفكيره؛ فقد عاصر سيطرة الفلسفة الديكارتية العقلانية، وكان له موقف محدد منها جعله يميل إلى تغليب منهج بيكون الاستقرائي، وإن كان في النهاية قد جمع بين الاثنين دون أن يشعر، ويقدم الفصل الثاني أصول العلم الجديد ومبادئه ومنهجه.
Page inconnue
ويتناول الباب الثاني قانون تطور الأمم، وقد أفردنا الفصل الأول لقانون تطور الأمم وبينا كيف أنه قانون يحدد المراحل الثلاث التي مر بها تاريخ الأمم الأممية (وهي الأمم الوثنية)، ثم انتقلنا إلى الفصل الثاني وعرضنا تطبيق هذا القانون على المسار الأول للأمم الأممية في ضوء الحكمة الشعرية خاصة في الحضارتين اليونانية والرومانية، ثم تطبيقه على المسار الثاني للأمم في العصور الوسطى الأوروبية. وبنهاية الباب الثاني نكون قد عرضنا منهج فيكو ومذهبه عرضا مستفيضا، وتعاطفنا مع فكره إلى حد كبير، واقتربنا منه حتى يتسنى لنا فهم مذهبه فهما صحيحا. وربما نكون بذلك قد عملنا بنصيحة فيكو نفسه للباحثين في التاريخ بألا يسقطوا ثقافة عصرهم على فكر العصور القديمة، واستجبنا إلى دعوته لهم بالتعاطف الوجداني مع فكر القدماء لكي يفهموا ما كان يدور في عقولهم. وهذا ما حاولناه في البابين الأول والثاني. وقد وجدنا من الضروري أن نبتعد في الباب الثالث قليلا عن هذا المذهب لنتمكن من تقييمه، ورأينا أن نفرد هذا الباب لنظرية المعرفة التاريخية وأثرها، فقدمنا في الفصل الأول تقييما وتحليلا لنظرية المعرفة التاريخية انطلاقا من مبدأ فيكو الأساسي في المعرفة؛ وهو أن «الإنسان لا يعرف إلا ما يصنعه بنفسه.» وقد وقفنا عند هذه النظرية لإلقاء الضوء على جوانبها المختلفة ومضمونها الاجتماعي والتاريخي، وقد كان من الطبيعي أن نعرض لموقف فيكو من فلسفة عصر التنوير الذي عاش فيه، فأوضحنا أن مفهوم التقدم عنده يختلف إلى حد كبير عنه عند فلاسفة هذا العصر، ثم انتقلنا في الفصل الثاني من هذا الباب إلى بيان أثر نظرية المعرفة التاريخية على أهم فلاسفة التاريخ الذين جاءوا بعده ومن أهمهم هردر وكونت وماركس. وأخيرا بلورنا الرؤية الكلية للبحث في خاتمة قدمنا فيها تقييما للأفكار الأساسية العامة في مذهب فيكو، وهي الأفكار التي وردت في ثنايا البحث، أما عن بعض التفاصيل الجزئية فقد عقبنا عليها أثناء عرضها في ثنايا الفصول، ورأينا أن نتناولها في موضوعها حتى يكون التقييم النهائي للبحث منصبا على الأفكار الرئيسية واستخلاص أهم النتائج التي أمكننا التوصل إليها.
وأخيرا نقول لعل أهمية فيكو تكمن في أنه يعد بحق أحد آباء الوعي التاريخي في وقت كان فيه الضمير الأوروبي في حاجة إلى هذا الوعي، ولما كنا، نحن العرب، نمر بمرحلة تشتد فيها حاجاتنا إلى الوعي التاريخي لإدراك دورنا في التاريخ المعاصر وتوجيه خطانا من التمزق إلى الوحدة ومن الغيبوبة إلى الوعي، فما أحوج أمتنا العربية - في مرحلتها الراهنة - إلى هذه الدراسات، وعسى أن يكون هذا البحث مساهمة متواضعة في إيقاظ وعينا التاريخي وتوجيه خطانا نحو التقدم والمشاركة الفعالة في الحضارة الإنسانية.
الباب الأول
أصول العلم الجديد
الفصل الأول
مدخل إلى فلسفة فيكو وعصره
(1) حياة فيكو ومؤلفاته
جامباتيستا فيكو
Giambattista Vico
مؤرخ وفيلسوف إيطالي ولد في نابولي في 23 يونيو عام 1668م في حجرة متواضعة فوق مكتبة يملكها والده، نشأ في أسرة رقيقة الحال؛ فكان والده ابنا لفلاح نزح إلى نابولي عام 1656م، وكانت أمه ابنة صانع عربات كما كانت هي الزوجة الثانية لأبيه. كان جامباتيستا هو الطفل السادس لأسرة مكونة من ثمانية أطفال، التحق في سن مبكرة بمدرسة الآباء اليسوعيين وفيها درس اللغات القديمة، وخاصة اللاتينية وبعض اليونانية، كما درس الآداب والبلاغة والفلسفة والمنطق واللاهوت والتشريع، وخاصة التشريع الروماني، بالإضافة إلى ما حصله من فترات اعتكافه في مكتبة والده.
Page inconnue
انشغل بالقانون الروماني والقانون الكنسي واضطره الفقر إلى الاشتغال بالمرافعات القضائية في ساحات المحاكم، وفي ذلك الوقت تدهورت صحته وشعر بالاشمئزاز من صخب ساحات القضاء، وقلت موارد أسرته واشتعلت فيه رغبة التفرغ للدراسة، فكانت فرصة سانحة عندما عرض عليه أحد الأساقفة من عائلة روكا
Rocca
أن يعمل مدرسا لابن أخيه في قلعة تشيلنتو
Cilento
في فاتولا وهي تتميز بالموقع الجميل والمناخ الصحي الذي أفاد صحة فيكو كثيرا. ولم يجد من معاشرته لهذه الأسرة سوى المعاملة الكريمة؛ فكان بمثابة أحد أبنائها. عاش في هذه القلعة لمدة تسع سنوات، ووجد الفراغ الكافي للدراسة فعكف على دراسة القانون الطبيعي للشعوب، وبدأ بأصول القانون الروماني والقانون المدني للأمميين، ودرس اللغة اللاتينية وبدأ بمؤلفات شيشرون ثم الشعراء اللاتين مثل فرجيل وهوراس وغيرهم.
1
عاد فيكو بعد ذلك إلى نابولي عام 1695م ليجد أن ديكارت قد تربع على عرش الفكر وسادت فلسفته العقلية في جامعات نابولي، فكان إحساسه بعد العودة إحساس الغريب في وطنه، وبعد أربع سنوات وفي عام 1696م تولى منصب كرسي البلاغة بجامعة نابولي، وظل في هذا المنصب حتى عام 1741م.
عانى فيكو كثيرا من الفقر والأزمات المادية، وكان أجره زهيدا متواضعا فظل يأمل في تحسين أحواله المادية، وتقدم عام 1717م لمسابقة أكاديمية للفوز بمنصب كرسي القانون المدني الذي كان شاغرا ولكنه أخفق، ولم يكن إخفاقه في الفوز بهذا الكرسي لسبب يتصل بكفاءته العلمية، بل كان راجعا لعدم معرفته بلعبة السياسة الأكاديمية التي لم يفكر في خوضها؛ ولهذا عكف على بحث في القانون ليتقدم به في المسابقة التالية.
لم تكن كتابات فيكو حتى ذلك الوقت إلا بالتكليف من بعض الأمراء؛ إذ عهد إليه ابن أحد الأمراء بكتابة تاريخ عمه مارشا كارافا
Marshat Carafa
Page inconnue
ونشر هذا الكتاب عام 1716م، وقد اطلع أثناء تأريخه لهذه الأسرة على كتاب جروسيوس (1583-1645م) «قانون الحرب والسلام»، كما كلفته الدولة بتأريخ مؤامرة ماكيا
Macchia
فكتب مقالا لم ينشر.
وسعيا وراء الكسب وبدافع من الفقر والعوز وضع فيكو كتابات مرتبطة بمناسبات خاصة كخطب المديح والخطب الجنائزية وقصائد الزفاف، بالإضافة إلى محاضراته في البلاغة والخطب الافتتاحية التي بلغ عددها ست خطب كتبها باللغة اللاتينية وتبنى فيها مبادئ تربوية تؤمن بتحديث التراث الإنساني، وقد نشرت إحدى هذه الخطب في كتاب تحت عنوان «مناهج الدراسة في عصرنا» عام 1709م، ثم كتب بعد ذلك رسائل عن الشعر والشعراء مثل دانتي، ورسائل عن ديكارت ورسائل دفاع عن العلم الجديد ضد معارضيه. وفي عام 1710م كان كتابه «الحكمة الإيطالية القديمة» أول مؤلف يكتبه بدون تكليف وبغير ارتباط بالمناسبات، وقد قدم فيه نظرية جديدة في المعرفة والميتافيزيقا (تعارض نظرية ديكارت) رأى فيها ياكوبي
Jacobi (1743-1819م) فيما بعد حدسا بمذهب كانط في المبادئ القبلية للإدراك الحسي والعلم الطبيعي.
والواقع أن دراسات فيكو سواء كانت لغوية أو أدبية أو فلسفية أو قانونية أو تاريخية كانت إرهاصا لفلسفة المجتمع البشري؛ ففي أثناء إعداد نفسه لكرسي القانون المدني الذي خلا في يناير عام 1723م ألف المسودة الأولى لهذه الفلسفة تحت اسم «القانون العالمي» وجعل شعاره عبارة مشهورة من كتاب «القوانين» لشيشرون (106-43ق.م.): «إن علم القانون ليس مستمدا من قرارات إدارية، كما يعتقد أغلبية الناس، ولا من قانون الألواح الاثني عشر، كما اعتقد البعض قديما، ولكنه مستمد من أعمق أعماق الفلسفة.» وأصدر فيكو مؤلفه «القانون العالمي» في ثلاثة أجزاء، ظهر الجزء الأول منها عام 1720م والثاني عام 1721م والثالث عام 1722م، وكان أحد فصول هذا الكتاب بعنوان: «محاولة عن العلم الجديد». وتقدم فيكو بمؤلفه هذا للمسابقة، ولكنه أخفق للمرة الثانية، ولعل من سخرية القدر أن يفوز في المسابقة أفاق يدعى دومينيكو جنتيله
Domenico Gentile
وقد كان زير نساء يهتم بمغازلة الخادمات حتى انتهت حياته بالانتحار مع إحداهن، ولم يسبق له أن كتب شيئا يستحق الذكر عدا محاولته الوحيدة في وضع كتاب فشل بسبب انتحاله. ذهبت كل آمال فيكو في الفوز بهذا المنصب ولم يعد الكرة مرة أخرى، وما كان منه إلا أن هجر اللغة اللاتينية، وهي لغة العالم الأكاديمي في ذلك الحين، أي لغة المنصب الذي يشغله (كرسي البلاغة) والمنصب الذي كان يريد أن يشغله (كرسي القانون المدني) وتحول إلى الإيطالية لغة أهله ومواطنيه.
وبشخصيته المثابرة العنيدة ارتفع فوق كل هذا الإحباط الذي صادفه في حياته، وآمن بأنه قد اهتدى إلى فكرة علم جديد وضع يديه على بدايته بحيث لا يحتاج منه إلا أن يؤصله ويتفرغ له. وبعد أن كان العلم الجديد فصلا في الجزء الأول من مؤلفه «القانون العالمي» - الذي قال عنه جنتيله، منافسه في منصب القانون المدني، إنه غير مفهوم ويكاد أن يكون ملحقا للدراسات التشريعية
2 - أفرد له فيكو مؤلفا خاصا وآمن في هذه الفترة بأن العناية الإلهية وحدها هي التي هدته إلى هذا الكشف الجديد، وعكف على هذا المؤلف وبذل أقصى جهده حتى انتهى من الجزء الأكبر من العلم الجديد في أواخر عام 1724م وأطلق عليه اسم «العلم الجديد في صورته السلبية» وفيه ينقد أصحاب نظريات القانون الطبيعي، أمثال جروسيوس وسيلدن وبافندروف (1632-1694م)، والمذاهب النفعية للرواقيين والأبيقوريين، كما يوجه نقده لهوبز (1588-1679م) وإسبينوزا (1632-1677م) ولوك (1632-1704م) وفي ديسمبر من العام نفسه حصل فيكو على تصريح من الكاردينال لورنسو كورزيني
Page inconnue
Lorenzo Corsini
بإهداء الكتاب له، وقد وعده الكاردينال - كما جرت العادة في ذلك الوقت - بتحمل نفقات الطباعة والنشر.
وبينما كان فيكو مشغولا بإتمام كتابه تلقى دعوة من أحد نبلاء البندقية بورشيا
3
لكتابة سيرته الذاتية، رفض فيكو في البداية عدة مرات إلا أنه وافق بعد إلحاح، وبعد أن انتهى من إعداد كتابه «العلم الجديد في صورته السلبية» في 15 يوليو 1725م وفي انتظار أن يفي الكاردينال بوعده كتب الجزء الأول من سيرته الذاتية، ولكن سوء الحظ الذي لازم فيكو كظله صفعه مرة أخرى بتخلي الكاردينال عن وعده بتحمل نفقات الطباعة والنشر. وقد كانت صفعة تعادل ضربة القدر عندما أخفق في الفوز بمنصب كرسي القانون المدني قبل ذلك التاريخ بعامين.
واهتدى فيكو - أثناء تعثر الطبع والبحث عن ناشر - إلى أن الكتاب بمنهجه السلبي خطأ وأنه لو أعيدت كتابته على أساس منهج إيجابي لاختصره لربع حجمه ولحقق بذلك كسبا عظيما. وآمن فيكو أن إخلاف الكاردينال لوعده كان بتدبير من العناية الإلهية مرة أخرى حتى يصدر الكتاب في صورة أفضل. وعكف على إعادة صياغة الكتاب طوال شهري أغسطس وسبتمبر فكانت الطبعة الأولى بعنوان «مبادئ العلم الجديد الخاص بالطبيعة المشتركة بين الأمم والذي يسمح باكتشاف مبادئ نسق آخر للقانون الطبيعي للشعوب».
4
واجتهد فيكو أن يصدر الكتاب بإمكانياته المتواضعة في أكتوبر عام 1725م ومعه إهداء لنفس الكاردينال الذي نكث عهده معه من قبل. وأرسل له نسخة من الكتاب مع خطاب رقيق يقول له فيه: «كنت أود أن أرسل لسموك نسخة في طباعة أفخم وتغليف أفخر وحروف أوضح ولكن ضعف إمكانياتي لم يسمح لي إلا بهذا.»
5
بيد أن الكاردينال أهمل الكتاب ولم يقرأه بل أعطاه للماركيز كابوني
Page inconnue
Capponi . وبعد موت هذا الأخير ظل الكتاب مع بقية مخلفات الماركيز في مكتبة الفاتيكان حتى اليوم.
وفي ديسمبر عام 1725م وبعد نشر الطبعة الأولى من العلم الجديد كتب فيكو الجزء الثاني من سيرته الذاتية، وهي سيرة طريفة يروي فيها تفاصيل مشوقة عن مراحل تطوره العقلي والجهود المضنية التي بذلها لإخراج كتابه العظيم «العلم الجديد». غير أن هذا العمل المبدع لم يلق من أبناء عصره إلا التجاهل والجحود، وقد عبر فيكو عن ذلك في رسالة له لأحد أصدقائه الرهبان شرح له فيها كيف أن كتابه لم يجد صدى في مدينته ومسقط رأسه التي وصفها بالتبلد ، وأن من أهدى إليهم كتابه لم يترك لديهم أثرا ولا أدنى استحسان، وكأن الكتاب قد سقط في صحراء قاحلة. ويذكر فيكو في رسالته أن كل أعماله السابقة كان لها غايات محددة؛ وهي شغل أحد الكراسي بالجامعة، ولكن هذه الأخيرة اعتبرته غير كفء مما جعله يعكف على عمله الجديد وهو الكتاب الوحيد الذي تمنى أن يبقى بعد موته. وقد أثبت التاريخ صدق حدسه، وعبر في رسالته أيضا عما لقيه في حياته من سوء الحظ وطعنات الحقد وفساد الحياة الثقافية في عصره، ولكنه بعد أن أتم كتابه شعر أن العناية الإلهية كانت رحيمة به، وأنها قد توجت آلامه بتاج العلم الجديد مما جعله ينسى كل ما صادفه من عذاب وبؤس وفقر وشقاء، فكتب يقول: «أمدني هذا الكتاب بروح بطولية حتى إنني لم أخش المنافسين بل لم أعد أخشى الموت نفسه.»
ولم يمر يوم 10 مارس من عام 1728م إلا وأرسل فيكو الجزء الثاني من سيرته الذاتية لبورشيا مع تصحيح وإضافات للجزء الأول، هذه السيرة التي لم تكن من قبيل السير الذاتية الأدبية بل تميزت بطابع تعليمي يجعلها قدوة لطلاب المدارس وناشئة الباحثين. وفي العام نفسه طلب منه الناشر إعادة طبع «العلم الجديد» في البندقية طبعة جديدة تكون أحسن حظا في الطباعة والتغليف وبحروف أوضح مع كتابة شروح ومقدمة للكتاب تلقي الضوء على فكرته،
6
واعتكف فيكو ما يقرب من عام ونصف العام لإضافة تعليقات وهوامش للنص الأصلي وأرسل إليه المخطوطة في أكتوبر عام 1729م، ولكنه اختلف مع الناشر على ما وصفه الأخير بأنه تكرار غير مترابط للكتاب وإسهاب في التفاصيل فضلا عن صعوبة فهمه، مما دعا فيكو إلى استعادة مخطوطته فكان هذا آخر عهده بالناشرين في البندقية. وبذلك واجه ما واجهه من قبل عندما أخلف الكاردينال وعده، في الوقت الذي كان يعاني فيه من جحود النقاد وهجومهم على العلم الجديد واعتلال صحته بجانب المتاعب التي واجهته في بيته؛ فقد كان له أربعة أبناء لويزا الابنة الكبرى وكانت شاعرة مرهفة الحس، والابن الثاني وهو ابن عاق اقترف كل الآثام فكان مصدر شقاء لأبيه الذي بذل ما في وسعه لتقويمه ووضعه على الطريق السليم ولكن ضاعت جهوده هباء، وقضى الابن سنوات طويلة من عمره في السجن بعد أن طاردته الشرطة، ولم يصغ لتوسلات أبيه للعدول عن طريق الضلال إلى أن مات هذا الابن في 1736م، وفي غمرة شقاء الأب بعقوق ابنه الأكبر مرضت ابنته الصغرى مرضا شديدا حفر في نفسه حزنا عميقا؛ لأنه كان شديد التعلق ببنتيه اللتين وجد فيهما عوضا عن ابنه الضال. أضف إلى هذا ما سببه له هذا المرض من إرهاق مادي.
7
أما جنيارو ثالث أبنائه فقد شارك والده اهتماماته الفكرية إلى أن خلفه في إلقاء محاضرات البلاغة في الجامعة. وعلى الرغم من هذه المعاناة تمكن فيكو بعناده المعهود وإيمانه بعلمه الجديد من إعادة صياغة الكتاب بأكمله على أساس خطة جديدة، فكانت الطبعة الثانية التي اختصر فيها العنوان عما كان عليه في الطبعة الأولى فأصبح «مبادئ العلم الجديد الخاص بالطبيعة المشتركة للأمم»،
8
ونشرت هذه الطبعة الثانية في ديسمبر عام 1730م مطبوعة بصورة لم تكن أكثر حظا من سابقتها ولنفس السبب وهو فقر مؤلفها.
في 17 مايو 1730م التحق فيكو بأكاديمية
Page inconnue
Assorditi ، وكان قد التحق من قبل عام 1710م بأكاديمية أركاديا
Arcadia
وهي أكاديمية علمية أدبية، وفي عام 1735م التحق بأكاديمية
Oziosi
وفي نفس العام عين مؤرخا ملكيا للملك شارل بوربون الذي غزا نابولي 1734م وجدير بالذكر هنا أن مملكة نابولي تعاقب عليها ثلاثة نظم ملكية في عصر فيكو؛ فقد حكمها نواب ملوك إسبانيا من عام 1509 إلى 1707م ثم حل الحكم النمسوي محل الحكم الإسباني من عام 1707م وحتى غزو شارل بوربون لنابولي 1734م. ويذكر بعض المؤرخين أن الحكم الملكي المستنير ساد في عهد هذا الأخير. وفي عام 1741م بدأ فيكو يعاني من ضعف صحته وذاكرته فتوقف عن دروسه الخصوصية وتوقف أيضا عن إلقاء محاضراته في الجامعة. وتقدم بطلب إلى الملك ليتابع ابنه محاضراته في الجامعة، فخلفه ابنه الثاني جينارو
Gennaro
في الأستاذية.
وتوفر فيكو في آخر سنوات عمره على كتابة إضافات لسيرته الذاتية وأيضا إضافات وتعديلات لكتابه الأساسي «العلم الجديد» وانتهى منها عام 1743م وأرسلها للمطبعة فكانت الطبعة الثالثة عام 1744م، ولكنه توفي في يناير 1744م قبل أن يشهد الطبعة الثالثة لعلمه الجديد الذي كان الهدف الأوحد لحياة مؤلفه فلم تكن السيرة الذاتية مجرد تتبع الخطوات التي أدت به للوصول إلى العلم الجديد وإنما كانت أيضا، كما لاحظ كروتشه، تطبيقا للعلم الجديد على حياة مؤلفه.
وقضى فيكو أيامه الأخيرة معتكفا في بيته هادئا صامتا في أحد الأركان، غير قادر - في أحيان كثيرة - على التمييز بين الأشخاص أو الأشياء، وحين اقتربت النهاية استرد وعيه وتعرف على أولاده الذين التفوا حوله. وحين شعر بقرب النهاية استدعى القسيس ليكون بجانبه في اللحظات الأخيرة، وأخذ يصلي ويتلو مزامير داود إلى أن أسلم الروح في سلام في 20 يناير 1744م. ولقد لاحقه سوء الحظ الذي لازمه في حياته حتى بعد وفاته؛ فقد كانت تقاليد الجامعة الملكية تقضي بأن يصطحب الأساتذة رفات زميلهم الراحل لمثواه الأخير، وعندما حانت ساعة الجنازة حضر زملاؤه الأساتذة وزملاؤه في الأكاديمية وتم نقل الرفات إلى فناء الدار ووضعت عليه علامة الجامعة الملكية، ولكن ما لبث أن دب الخلاف بين زملاء الجامعة وزملاء الأكاديمية؛ إذ رفض أعضاء الأكاديمية أن يحمل أساتذة الجامعة الجثمان وانتهى الخلاف بانسحاب أعضاء الأكاديمية تاركين الجثمان، ولم يستطع أساتذة الجامعة الملكية أن يقوموا بالطقوس الجنائزية بمفردهم فأعيد الجثمان إلى مكانه، وحزن ابنه جينارو حزنا شديدا فقام في اليوم التالي بالاتفاق مع الكاتدرائية على نقل الجثمان إلى مثواه الأخير وتحمل النفقات الزائدة، ودفن فيكو في ركن منزو من الكنيسة وظلت رفاته مجهولة وغير معروفة حتى عام 1689م حين قام ابنه بعمل نقش على قبر والده وسجل في هذا النقش اسم جامباتيستا فيكو أستاذ البلاغة الملكي والمؤرخ الملكي، كم كان رقيقا في حياته عظيما في كتاباته، توفي في 20 يناير عام 1744م عن ستة وسبعين عاما.
9
Page inconnue
وقد جمع ابنه جينارو السيرة الذاتية والإضافتين التاليتين لها اللتين لم تنشرا ووجدتا بين أوراقه بعد وفاته عام 1806م وسلمها للماركيز فيلاروزا
Villarosa
الذي تعهد بنشرها وألحق بها هو الآخر بعض الإضافات التي جمعها من بعض الروايات الشفوية وبعض الإشاعات عنه. وأيا كان الرأي في هذه الإضافات فهي تعد المرجع الوحيد عن السنوات الأخيرة من حياة فيكو. (2) بداية التفكير التاريخي في القرن الثامن عشر
يعرف القرن الثامن عشر بأنه عصر التنوير وسيادة فلسفة عقلية تجريبية تتخذ من الميتافيزيقا والدين موقفا نقديا حرا، وتهتم بالرياضة والفلك والطبيعة والكيمياء والتاريخ الطبيعي والجغرافيا والطب، فلسفة تؤمن بالتقدم وتسعى إلى التجديد في كل شيء، تحدوها ثقة مطلقة في العقل ويدور التفكير فيها حول الإنسان؛ ولهذا كان الاهتمام بالتاريخ في هذا القرن مظهرا من مظاهر الاهتمام بالإنسان.
10
وتعد سيطرة النزعة الإنسانية في هذا القرن رد فعل لما ساد أوروبا في العصور الوسطى من سيطرة الكنيسة وقتلها روح الاجتهاد بنظرتها للإنسان كمخلوق ضعيف وتسليمها بعجز العقل البشري وضعف الإرادة الإنسانية مما جعل الإنسان بحاجة إلى عقل أسمى من عقله وإرادة أقوى من إرادته ألا وهما العقل الإلهي والإرادة الإلهية التي تسير التاريخ البشري. كانت إحدى النتائج المترتبة على هذا التفكير، كما يقول كولنجوود
11 (1889-1943م) في كتابه «فكرة التاريخ»، أن المؤرخين زعموا بأن في مقدورهم التنبؤ بالمستقبل وأنهم انصرفوا إلى البحث عن جوهر التاريخ خارج نطاق التاريخ نفسه، وبذلك انصرفوا عن أعمال الإنسان للبحث عن الخطة التي رسمتها المقادير لتوجيه أحداث التاريخ.
هكذا كانت المشكلة الرئيسية التي عرض لها التفكير في ذلك الوقت تتعلق بفلسفة الأديان، فتناولت الصلة بين الله والإنسان، وانتشر التفسير الديني الذي ساد فيه الإيمان على العقل، كما يقول القديس أنسلم (1033-1109م): «أنا لا أعقل لأومن وإنما أومن لأعقل.» وبذلك جعل العقل تابعا للإيمان يسبح بتعاليمه ولا يجد منه مخرجا، ويجعل نفسه حبيس الحدود الدينية.
12
ولما جاء القرن السادس عشر انصرف الفكر إلى وضع أسس العلوم الطبيعية، وكان الموضوع الرئيسي الذي عرضت له الفلسفة هو العلاقة بين العقل الإنساني، بوصفه أداة التفكير، وبين الكون المادي من حوله بوصفه موضوع التفكير؛ ومن ثم جاء التفكير التاريخي - على الرغم من الاهتمام بالماضي والتراث - تفكيرا بدائيا ضعيفا من حيث النقد والتحليل فلم يستهدف الدراسة العلمية الدقيقة للحقائق التاريخية، حتى جاء القرن الثامن عشر فبدأ الاهتمام بدراسة التاريخ على أسس من النقد والتحليل ولم تكن حركة الاستنارة، كما قال كولنجوود،
Page inconnue
13
ثورة ضد سلطان الديانة التقليدية فحسب، بل ضد الدين كيفما كان؛ فقد اعتبر فولتير (1694-1778م) نفسه قائد حملة تستهدف القضاء على المسيحية؛ إذ اعتبر أن الدين دالة على كل ما هو رجعي بربري في الحياة الإنسانية. كان هدف عصر التنوير إنهاء العصر الديني في تاريخ الحياة البشرية وبداية عصر جديد متعقل، وكان القرن الثامن عشر بداية التفكير الحر بالقدر الذي سمح بتقديم علوم كثيرة منها العلوم التجريبية والدراسات التاريخية. وإذا كانت فلسفة التاريخ لم تظهر بصورة واضحة إلا في القرن الثامن عشر على يد فيكو، إلا أن هناك بدايات للتفكير التاريخي قبل ذلك ساعدت فيكو بطريقة غير مباشرة على بلورة أفكاره الرئيسية في فلسفة التاريخ، على الرغم من أن هذه البدايات يمكن أن توصف بأنها إرهاصات ساذجة لم تتخذ الشكل العلمي وإن كانت دفعات قوية للاهتمام بالدراسات التاريخية كما في حركة الإصلاح الديني التي تزعمها مارتن لوثر (1483-1546م).
وإذا كانت حركة الإصلاح الديني قد ساعدت، كما ساعد أصحاب النزعة الإنسانية بوجه عام، على إحياء تراث المؤلفين والكتاب القدامى والاقتداء بنماذجهم ونشر مخطوطاتهم وتيسيرها للعلماء والدارسين، فإن حركة الإصلاح المضادة قد اضطرت هي الأخرى إلى محاربة التاريخ بالتاريخ، مما اتضح أثره في تأسيس علوم تاريخية مساعدة كعلم النقوش أو الكتابة القديمة الباليوجرافيا
الإغريقية واللاتينية الذي أسسه كل من مابيلون
Mabillon
ومونتفيكون
Montfaucon ، فنشر مابيلون كتابه عن الوثائق
De re diplomatica
عام 1681م ووضع فيه نظام الوثائق والباليوجرافيا اللاتينية، والباليوجرافيا اللاتينية، وبعدها بأربع سنوات - وكان فيكو يبلغ من العمر سبعة عشر عاما - عكف مابيلون في نابولي على البحث عن الكتب والمخطوطات، وحضر مونتفيكون أيضا لنابولي عام 1698م وصدر كتابه «النقوش الإغريقية»
عام 1708م وقد قدم كلاهما إسهامات في التاريخ الفرنسي وتجاوزت أعمالهما في عصر فيكو كل الأعمال السابقة لها من حيث الدقة والشمول.
Page inconnue
14
ولا بد من القول إن كل ما تمخضت عنه حركة الإصلاح الديني والإصلاح المضاد لم يؤد إلى دراسة التاريخ بالمعنى الحديث ولم يتعد تهيئة الأدوات والمواد المساعدة على دراسته، كما يمكن القول بأن نشأة الدول القومية الأوروبية وحاجتها إلى مؤرخين قد جعلت المؤرخين الإيطاليين يتأثرون بفيلسوف العصر ليبنيز (1646-1716م) فكتب موراتوري
Muratori
الذي كان أمين مكتبة نابولي، تاريخ أسرة إسته
Este
على غرار التاريخ الذي كتبه ليبنتز لأسرة برونشفيك
Brunswick
ولكن ظلت الغاية الأساسية من التاريخ عند ليبنتز مثل الغاية النهائية من الشعر أن يعلمنا الحكمة والفضيلة عن طريق الأمثلة التي يقدمها لنا من خلال التاريخ وأن يعرض الرذيلة في صورة تدعو إلى تجنبها وكراهيتها. ساهم أصحاب النزعة الإنسانية في عصر النهضة في نشر مؤلفات الكتاب القدامى وبعث التراث الكلاسيكي في البلاغة والأدب والنحو والفلسفة والتاريخ، فاهتموا بنشر كتابات المؤرخين الرومان مثل ليفيوس (59ق.م.-17م) وتاسيتوس (55-120م) لاستخلاص ما فيها من عبرة وقيم تربوية وتعليمية وأخلاقية، وتاريخ بلوتارك (46-190م) الذي يزخر بالشخصيات العظيمة مثل الإسكندر وهانيبال وقيصر، غير أن النزعة الإنسانية قد اقتصرت على النظر للتاريخ نظرة عملية أخلاقية بحيث لم تظهر لديها النظرة العلمية.
ثم كان كتاب بيكون (1561-1626م) «تقدم العلم» بداية الانتقال من الناحية الفلسفية إلى الناحية التاريخية، من النظر إلى العمل، وفيه وجه بيكون الأنظار إلى ضرورة الاهتمام بالتاريخ بجانب الاهتمام بالأخلاق. وبالرغم من قول بيكون: «إن المعارف كالأهرامات قاعدتها التاريخ.» إلا أنه لم ينظر للتاريخ بوصفه مبادئ لفلسفة أخلاقية وتم الانتقال من النظر للتاريخ كمصدر للعظة الأخلاقية والتربوية، واعتباره رصيدا نافعا يستخلص منه القدوة والمثل، إلى الاهتمام بدراسة الوقائع التاريخية نفسها وكيفية دراسة التاريخ دراسة علمية.
15
Page inconnue
ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن هذا التحول بدأ عند هوبز متأثرا بما وصلت إليه علوم الطبيعة من الدقة والإحكام، فتطور علوم الطبيعة ووصولها إلى اليقين والدقة والإحكام في مناهجها على أيدي رواد العلم الحديث خاصة جاليليو وبعده نيوتن ، جعل المؤرخين يحاولون بالتدريج أن ينظروا إلى عملهم نظرة علمية ويحاولوا أن يصلوا فيه إلى اليقين.
واستمر هذا الانتقال إلى النظرة العلمية للتاريخ عند الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز؛ فقد تحول في بداية حياته عن المناهج المدرسية وتعمق دراسة الكتاب القدامى من إغريق ورومان، وخاصة المؤرخين والشعراء والفلاسفة وبوجه أخص مؤلفات أرسطو في الأخلاق والسياسة، واتجه إلى هوميروس وترجم الإلياذة ، واهتم بقراءة توكيدوديس (460-396ق.م.) الذي اعتبره أهم المؤرخين السياسيين وترجم كتابه عن الحرب الأهلية (البليبونيزيه) بين أثينا وإسبرطة، وكان هوبز عند ترجمته هذا الكتاب لا يزال ينظر للتاريخ من ناحيتيه الأخلاقية والتربوية ويؤكد على أهمية دراسة الماضي بالنسبة للحاضر والمستقبل. ثم عكف هوبز بعد ذلك على دراسة إقليدس (365-300ق.م.) وجاليليو (1564-1642م) وتوصل إلى نظرية في المعرفة قابل فيها بين العلم باعتباره معرفة بالنتائج أو معرفة مشروطة وبين المعرفة المطلقة أو معرفة الوقائع التي يسجلها التاريخ، ولكنه ظل حتى النهاية على رأيه في أن التاريخ ليست له إلا قيمة أخلاقية بل لقد استبعد المعرفة التاريخية من كتابيه «التنين» و«الجسم» ثم انتهى إلى رأي في التاريخ يشبه رأي ديكارت، الذي يحتمل أن يكون قد تأثر به، وهو أن التاريخ مجرد حكايات يمكن أن تساعدنا، كما تساعدنا الأسفار والرحلات، على تكوين أحكامنا والارتقاء بعقولنا وتعريفنا بعادات الأمم الأخرى، ولكن الإمعان في قراءة التاريخ قد يجعل صاحبه يعرف العادات السيئة في الماضي مع جهله كل الجهل بالعادات السائدة في الحاضر، وقد انتهى الأمر عند ديكارت (1596-1650م) إلى التفرقة بين المعرفة العقلية الدقيقة القائمة على أسس رياضية وبين المعرفة التي تقوم على الخبرة البشرية كما نجدها في معرفة اللغات والتاريخ والجغرافيا التي تثقل في رأيه ذاكرة الإنسان بأعباء غير ضرورية وبذلك يكون ديكارت قد تشكك في القيمة العلمية للتاريخ وقلل من شأنه.
والخلاصة أن حركة الإصلاح الديني والإصلاح المضاد ونشأة الدول القومية ساعدت جميعا على دراسة التاريخ كما ساعدت على إحياء البحث التاريخي والاهتمام بالمؤرخين والكتاب القدامى بحيث ظهرت مؤلفات عديدة كانت في الواقع مجاميع تضم ذخيرة من الوثائق والنقوش القديمة، ولكنها لم تكن تاريخا بالمعنى الدقيق، أضف إلى هذا ما ذكرناه من قبل من أن أصحاب النزعة الإنسانية قد شجعوا الإقبال على دراسة التاريخ القديم أو بالأحرى نشر كتب المؤرخين القدامى ولفتوا الأنظار إلى فائدة التاريخ، لكن المؤرخين الذين كتبوا بهذا الأسلوب لم تكن كتاباتهم دقيقة ولم تكن لهم دراية بالوقائع التاريخية، أما نزعة الشك في أصالة الوثائق التاريخية - وهي النزعة التي تأثرت بشك ديكارت - فلم ترق إلى مستوى الشك النقدي أو المنهجي، ولم تحاول أن تضع الفروض التي تختبرها بطريقة صحيحة بحيث انصب اهتمام المؤرخين في تلك الفترة على معرفة ما تم في الماضي لا على معرفة كيف تم وكيف تطور حتى وصل إلى حالته، أي أنه لم يخرج من الرواية التاريخية إلى التفسير والتعليل وبالتالي تفسير حركة التاريخ على أساس فروض ومبادئ تبين وجهته ومساره.
ولعل الكتاب الذي جمع بين هاتين الناحيتين هو كتاب جانونه
عن التاريخ المدني لمملكة نابولي، فكان الكتاب الوحيد الذي قدم تاريخا عاما اهتم فيه بالقوانين والنظم الاجتماعية كما أكد نظريته النقدية، خاصة فيما يتعلق بتاريخ السلطة الكنسية، وقد نشأ فيكو في نفس البيئة الثقافية التي نشأ فيها جانونه فكانت نابولي في ذلك الحين مزدهرة بالثقافة والتفكير الحر والحماس الوطني وانتعشت فيها الفلسفة الأبيقورية والنزعة الذرية. (3) الاتجاهات الفكرية في فلسفة فيكو
هكذا نشأ فيكو في المجتمع الإيطالي في زمن كانت فيه نابولي ملتقى تيارات ثقافية عديدة، فدرس في صباه المذهب الذري والأبيقوري، الذي كانت نابولي في ذلك الحين مركزا له، وتأثر تأثرا كبيرا في بداية حياته بالفلسفة الذرية القديمة عند ديمقريطس وأبيقور ولوكريتوس (94 / 99-51 / 55ق.م.) وخاصة هذا الأخير، يظهر هذا جليا في قصيدته «عواطف يائس» التي كتبها في شبابه المبكر عام 1692م متأثرا بدراساته للوكريتوس وقصيدته الكبرى «طبائع الأشياء» وعبر فيها عن تأثره بشخصية هذا الشاعر الروماني ومزاجه المكتئب، وقرأ الكلاسيكيين أمثال أفلاطون وأرسطو وتاسيتوس. كما توفر كذلك على دراسة مذاهب السابقين لعصر النهضة ورواد النزعة الطبيعية الحديثة (أمثال تيلزيو وبرونو وكامبانيلا) كما أثر عليه المنهج العلمي التجريبي عند جاليلو وبيكون وبويل (1627-1692م) تأثيرا قويا. ولا ننسى أن هذا العصر هو عصر سيادة الفلسفة العقلية لديكارت وهوبز وأن الفكر المسيطر كان فكر ديكارت ومعارضه جاسندي (1592-1655م) اللذين لم يجتمعا إلا على شيء واحد ألا وهو معارضتهما لأرسطو وجالينوس (129-199م) والمدرسيين.
كل هذه التيارات الفكرية مجتمعة كانت هي الفكر السائد في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، وهي الفترة الزمنية التي عاشها فيكو والتي انتشرت فيها تيارات فلسفية جديدة للإعلاء من شأن العلم وتمجيده، ولم تكن مراكز هذه الدراسات الجديدة في الأديرة أو الجامعات، وإنما كانت في بعض الصالونات الأدبية والأكاديميات التي أسسها رواد النهضة الإيطالية على نمط الأكاديميات العلمية في فرنسا وإنجلترا. واتهم أنصار الفلسفة الجديدة من قبل الكنيسة بالإلحاد وقدم بعضهم لمحاكم التفتيش التي كانت تجثم على الأنفاس في ذلك الوقت. وإذا كان فيكو لم يذكر شيئا عن محاكم التفتيش في سيرته الذاتية رغم نشاطها في نابولي طوال فترة حياته، إلا أن كتاباته لا تفهم إلا من خلال هذه الخلفية القاتمة؛ فقد مزقت المدينة نتيجة الصراع بين المكاتب المقدسة الإسبانية والرومانية التي أخذ الأهالي يقاومونها مطالبين بإبعاد محاكم التفتيش، وقد انعزلت محاكم التفتيش الإسبانية قبل مولد فيكو، ولكن المحاكم البابوية أو الكاثوليكية استمرت طوال حياته وحتى بعد مماته، ثم لم تلبث هذه المحاكم الأسقفية أن لجأت إلى نفس الأسلوب الذي اتبعته محاكم التفتيش.
وفي عام 1688م قدم بعض أصدقاء فيكو المقربين إلى هذه المحاكم بتهمة الزندقة. عاش فيكو إذن فترة الإرهاب الديني والفكري التي تصدت فيها محاكم التفتيش للنهضة الإيطالية وكادت أن تخمد أنفاسها، ولعل هذا - كما يؤكد بعض الباحثين - أن يكون هو سبب لجوء فيكو إلى حجب أفكاره بدلا من توضيحها، واستخدام أسلوب يغلب عليه الغموض ولا سيما في المواضع التي احتاج فيها إلى إخفاء نزعاته الفكرية عن محاكم التفتيش أو الحكام المستبدين الأجانب من ملوك نابولي سواء كانوا من الإسبانيين أو النمسويين، وإذا كان فيكو يزعم في سيرته الذاتية أنه نأى بنفسه عن الفلسفة الجديدة أثناء وجوده في فاتولا من 1686 إلى 1695م، إلا أن الواقع يشهد أنه لم يمض عام حتى حضر إلى نابولي وعاش بالقرب من هذه الفلسفة وعلى صلة بها طوال فترة شبابه، وتمثلت مبادئها في تطوره الفكري وتأثره بالمفكرين القدامى والمحدثين ابتداء من ديمقريطس (460-371ق.م.) وأبيقور (341-270ق.م.) ولوكريتوس حتى ديكارت. وعلى الرغم من انتقاده الشديد للفلسفة الديكارتية إلا أنه ظل ديكارتيا حتى سن الأربعين، وهي السن التي تسجل بداية تبلور أفكاره بوضوح وظهور مبدئه الأصلي. والغريب أن أعظم من نقد ديكارت كان هو نفسه أعظم ديكارتي في إيطاليا. وحتى إذا صدقنا زعمه باعتزال الحياة الثقافية لمدة تسع سنوات في فاتولا، فقد كان متأثرا بديكارت وحياته المتوحدة أثناء إقامته في هولندا؛ إذ قال عن نفسه إنه كتب «المقال في المنهج» بعيدا عن كل أصدقائه معتزلا كأنه يعيش في الصحارى المقفرة.
وفي الفترة بين سنتي 1699 و1706م كان فيكو لا يزال يشارك ديكارت ومالبرانش (1638- 1715م) في ازدرائهما للتاريخ الذي لم يرق في نظرهما إلى مستوى العلم كما عبر عن ذلك في إحدى محاضراته، ولكنه بدأ يتخلص من تأثير ديكارت بعد ذلك بعشر سنوات، بل بدأ يستنكر أحكامه على علم اللغة على الرغم من اعترافه بفضله في تحرير العقول من سلطان أرسطو ومناهج المدرسيين، ويكفي أن نذكر سخريته من ديكارت في هذه العبارة: «لقد أصبحت دراسة اللغات هذه الأيام تعد في نظر الناس شيئا عقيما لا فائدة منه، ويرجع هذا إلى سلطان ديكارت الذي يقول إن من يعرف اللغة اللاتينية لن يعرف أكثر مما كانت تعرفه خادمة شيشرون.»
أخذ فيكو بعد تخلصه من تأثير ديكارت يستعيد في ذهنه عداوته السابقة للتاريخ التي كان متأثرا فيها بديكارت، ويكفي أن نقرأ الفقرة التالية من فصل بعنوان «محاولة عن العلم الجديد» في كتابه «القانون العلمي» عام 1721م لنرى كيف يسخر من إهمال الفلاسفة لعلم اللغة وكيف ينصحهم بالتعمق فيه واستنباط مبادئه الفلسفية: «لقد ظللت طوال حياتي أجد السعادة في استخدام العقل أكثر من استخدام الذاكرة، وكلما ازددت معرفة في علم اللغة ازددت إحساسا بجهلي، وكان يبدو لي في ذلك الحين أن ديكارت ومالبرانش كانا على حق عندما قالا إن التعمق في دراسة اللغة يضر بالفيلسوف ولا يلائمه، ولكنه كان من الواجب على هذين الفيلسوفين المرموقين أن يشجعا الفلاسفة على دراسة علم اللغة وأن يبحثا إمكانية رد هذا العلم لمبادئه الفلسفية.»
Page inconnue
16
وإذا كان هذا يدل على شيء فإنما يدل على اقتناعه في تلك الفترة بأن دراسة اللغة شرط لا غنى عنه لدراسة القانون واللاهوت، بل ولتحقيق مجد المسيحية قبل مجد الفلاسفة. أضف إلى هذا أنه بدأ في هذه الفترة يفكر في علمه الجديد الذي سيعتمد على المنهج اللغوي اعتمادا كبيرا في تحليلاته لأصول الكلمات ودلالتها على نشأة الأنظمة الاجتماعية. (4) موقف فيكو من فلسفات عصره (4-1) موقفه من الفلسفة الديكارتية
كانت نقطة الانطلاق في فلسفة فيكو هي نقده لنظرية المعرفة الديكارتية، فقدم نظرية جديدة تعارض بوضوح نظرية المعرفة الديكارتية واحتقار ديكارت للدراسات الإنسانية
Litterae Humanitores
وخصوصا اللغات والتاريخ، وتنم معارضته لديكارت عن معرفة لكتابي «المقال في المنهج» و«قواعد لهداية العقل». وقد كانت بداية ظهور هذه النظرية في الخطبة الافتتاحية التي ألقاها عام 1708م عند توليه منصب التدريس في الجامعة بعنوان «مقارنة المناهج الدراسية القديمة والحديثة» ونشرها عام 1709م في كتابه «مناهج الدراسة في عصرنا»، وكان رأيه أنه إذا كان المحدثون قد أدخلوا إصلاحات كبيرة على العلوم الطبيعية، فقد قللوا من شأن الدراسات التي تقوم على الإرادة الإنسانية مثل اللغات والشعر والبلاغة والتاريخ والتشريع والسياسة، بل حاولوا أن يطبقوا المنهج الرياضي والهندسي على علوم لا تصلح لهما.
ونمت هذه البذور الأولى وتفتحت في شكل نظرية متكاملة للمعرفة أفرد لها كتاب «الحكمة الإيطالية القديمة» (1710م) ومنه انطلق في هجومه على نظرية المعرفة الديكارتية وخاصة نظرتها للتاريخ كمجموعة من الحقائق المضطربة وسلسلة رديئة من الحكايات السخيفة.
هاجم فيكو الأسس الثلاثة التي استند إليها ديكارت؛ أولا: الكوجيتو الديكارتي الشهير الذي يستند إلى الوعي الذاتي كمبدأ أول لليقين؛ فالكوجيتو في رأي فيكو لا يلغي الشك ولا يقدم أساسا للعلم؛ لأن الشاك يكون على يقين كاف من تفكيره ووجوده معا ولكن يقينه هو يقين الشعور البسيط لا يقين العلم، إن الكوجيتو يترك الأمر على هذه الحال، غير أن معيار الحقيقة كما يراه فيكو هو صنعها؛ لأن ما نعرفه ونحن على يقين منه هو ما نفعله؛ فالفعل الإنساني لا الوعي الذاتي هو مبدأ الحقيقة في علم التاريخ، وليست الأفكار الواضحة المتميزة للعقل هي معيار الحقيقة كما رأى ديكارت، وإنما المعيار هو صنع الحقيقة؛ ولهذا فإن الفكرة الواضحة المتميزة لا تصلح لأن تكون معيارا لحقائق أخرى، بل لا تصلح أيضا في رأيه لأن تكون معيارا لحقيقة العقل نفسه؛ لأن العقل عندما يتأمل أو يفهم نفسه لا يصنع نفسه، ولأنه لا يصنع نفسه فهو يجهل الشكل أو الأسلوب الذي يفهم به نفسه. ثانيا: أدلة وجود الله التي تستند إلى وجود معرفة أولية سابقة على التجربة. نقد فيكو كذلك الأدلة العلمية المزعومة على وجود الله، ولعله قد سبق كانط في هجومه على الميتافيزيقا التأملية الدوجماطيقة التي تزعم أنها تثبت وجود الله بأدلة عقلية بحتة، ويكفي أن نقرأ هذه العبارة لفيكو في «الحكمة الإيطالية القديمة»: «إن الذين يحاولون أن يثبتوا وجود الله بصورة قبلية يرتكبون إثم الفضول البعيد عن التقوى والورع؛ لأن من يفعل ذلك يجعل من نفسه إلها يصدر حكمه على الله وبذلك ينكر الوجود الإلهي الذي كان يبحث عنه.» ثالثا: اليقين الرياضي كمعيار للوضوح والبداهة وبالتالي كمعيار للحقيقة، لم يطعن فيكو في صدق المعرفة الرياضية وإنما طعن في نظرية ديكارت للمعرفة بما تضمنته من إنكار ألوان أخرى من المعرفة؛ لذلك طعن في مبدأ ديكارت القائل بأن مقياس صدق المعرفة هو الفكرة الواضحة المتميزة، وزعم أن هذا المقياس إن هو إلا مقياس ذاتي سيكولوجي، فإن ظهر لي أن أفكاري واضحة ففي هذا دليل تصديقي لها. ويرى فيكو أن أية فكرة مهما تكن خطأ قد تكون باعثة على اقتناعنا بها ما دامت واضحة كل الوضوح في حين أنها لا تعدو أن تكون من قبيل الخرافة التي لا أساس لها؛ ولهذا يرى أن ما نحتاج إليه هو قاعدة نستطيع قياسا إليها أن نميز بين ما يمكن معرفته وما لا يمكن.
17
إن الأساس الذي يقوم عليه يقين القضايا الرياضية التي أخذها ديكارت وأتباعه مقياسا للبداهة، ليس في الواقع في البداهة ذاتها بل في أن النظم الرياضية هي نظم صنعها البشر أنفسهم؛ فالحقائق الرياضية تعلو على التناقض لأنها تصورات واصطلاحات تحكمها رموز وقواعد هي من صنع البشر. والرياضة علم ابتكره الإنسان بعقله؛ لذا فإن اليقين الرياضي ليس مسألة بداهة ووضوح كما زعم ديكارت، وإنما هو علم بنائي أو افتراضي وضعه عالم الرياضيات. وقد أدى الأمر بديكارت إلى اعتبار العلوم يقينية بقدر ما تطبق المنهج الرياضي، وأدى هذا بدوره إلى تصور أن العلوم التي لم تقتصر على التجريدات الرياضية وحدها أقل يقينا؛ فالميكانيكا أقل يقينا من الهندسة والحساب، والفيزياء أقل يقينا من الميكانيكا، وعلم النفس والتاريخ أقل يقينا من الفيزياء، وهكذا ...
ويؤكد فيكو أن علم الفيزياء لا يقترب من العلم الحقيقي بتطبيق المنهج الهندسي على طريقة ديكارت، بل باستخدام المنهج التجريبي الذي طبقه كل من فرنسيس بيكون وجاليليو، ويرجع هذا في رأيه إلى أن العالم الذي يقوم بتجربة ما، يخلق الظروف التي يجمع فيها مشاهداته. كان رأي فيكو هذا سابقا لأوانه وغريبا على عصره لأنه يختلف عن الرأي العام السائد حينذاك؛ لذا لم يتنبه أحد لأهمية أفكاره إلا بعد مرور ما يقرب من مائة عام على موته.
Page inconnue
هكذا ميز فيكو بدقة بالغة بين الحقيقة التي نحصل عليها من الرياضيات والحقيقة التي تخص العلوم التجريبية كالطبيعة؛ فالطبيعة بالضرورة أقل يقينا من الرياضيات لأن الطبيعة من صنع الله؛ ولهذا فهو وحده القادر على معرفتها معرفة تامة. ويرى الأستاذ إميل برييه في كتابه تاريخ الفلسفة أن الفكرة الواضحة في نظر فيكو هامة بدون شك ولكنها محدودة، وهي تصور خاص بالرياضيات والمفاهيم الذهنية المجردة، ولكنه يعود في موضع آخر فيؤكد أن الوضوح والتميز رذيلة وآفة للعقل البشري أكثر منه فضيلة، وأن الفكرة الواضحة فكرة محدودة وقاصرة، إن إحساسي بالألم على سبيل المثال إدراك لا أعرف شكله ولا حدوده، والإدراك اللامتناهي يشهد على عظمة الطبيعة البشرية، هذا الجانب الغامض اللامتناهي من الطبيعة الذي يدركه كل المؤرخين والشعراء بالحدس والذي يفسر حياة الإنسان الدينية والسياسية والأخلاقية هو موضوع فيكو في كتابه «العلم الجديد في الطبيعة المشتركة للأمم».
18
ويرى كل من
Bergin, Fisch
في مقدمتهما لكتاب فيكو «مناهج الدراسة في عصرنا» أن نقد فيكو للديكارتية ينحصر في النقاط التالية: (1) إنكار قدرة المنهج الذي عرضه ديكارت في المقال على الكشف والاختراع. (2) اتهام هذا المنهج بأنه أحادي الجانب أي أنه يهتم بجانب واحد في الإنسان وهو العقل. (3) تأكيد فيكو أن المنهج التأليفي متفوق على المنهج التحليلي ورفضه أن ترد الفيزياء بل والفسيولوجيا والكونيات إلى الرياضيات، والهدف من هذا كله تأكيد أن الإنسان شخصية متكاملة، وأنه ليس عقلا فحسب بل خيال وانفعال وعاطفة؛ فنقد فيكو لديكارت يقوم على تأكيد البعد التاريخي والاجتماعي للإنسان. ولعل أصالة فيكو تكمن في هذه النقطة، وهذا ما وضحه فيكو في الفصل الخامس من «مناهج الدراسة في عصرنا».
19
وينتهي فيكو من نقده لنظرية المعرفة الديكارتية إلى أن دراسة التاريخ تختلف عن دراسة الرياضيات والطبيعة؛ فالفلسفة الديكارتية تقف عقبة في سبيل البحث التاريخي نظرا لإغفال ديكارت دور التجربة، والقول بفطرية الأفكار الواضحة يعزلنا عن الواقع. فكيف نطبق ذلك على التاريخ؟ هل نتصور أفكارا ثم نزعم أن هكذا كان مجرى التاريخ؟
20
إن فكرة موضوع التاريخ قد تبلورت لأول مرة لدى فيكو في نظرته إلى العملية التاريخية بوصفها عملية تمكن الإنسان من ابتكار النظريات الخاصة باللغة والعادات والقانون والحكومة، أي أنه ينظر إلى التاريخ بوصفه نشأة الجماعات الإنسانية وأنظمتها وتطورها، لقد خلق الإنسان صرح الحياة الاجتماعية من العدم؛ لهذا كانت كل صغيرة أو كبيرة في هذا الصرح عملا من أعمال الإنسان يعرفه العقل على حقيقته حق المعرفة. (4-2) موقف فيكو من أصحاب نظريات القانون الطبيعي
على الرغم من أن فيكو كتب ونشر في القرن الثامن عشر إلا أن طفولته كانت في القرن السابع عشر، هذا القرن الذي تميز بالنزعة العقلية والعلمية وبناء المذاهب الفلسفية الشامخة، وقد ساعدت البيئة الثقافية التي عاش فيها فيكو على إثارة طموحه لإيجاد علم جديد للمجتمع البشري يؤدي لعالم الأمم ما أداه جاليليو ونيوتن لعالم الطبيعة.
Page inconnue
وقد اطلع فيكو أثناء كتابته لتاريخ أسرة كارافا
Carafa
على الكتاب المشهور «قانون الحرب والسلام» لجروسيوس ليهيئ نفسه لكتابة التاريخ العالمي الذي دفع لكتابته أثناء تأريخه لهذه الأسرة، ونبهته قراءته لجروسيوس إلى أن الفلسفة وفقه اللغة يجب أن يتحدا ليقيما نسق القانون العالمي، وقاده جروسيوس إلى أصحاب نظريات القانون الطبيعي سيلدن وبافندروف، ثم قاده نقد بافندروف لهوبز إلى الاطلاع على هوبز نفسه، ومن هؤلاء جميعا، جروسيوس وبافندروف وهوبز، أيقن أن مؤسسي المجتمع المدني الأول لم يكونوا فلاسفة ولم تنشأ المجتمعات الأولى من الحكمة الفلسفية العميقة، كما كان يعتقد قديما، ولكن الإنسان الوحشي البعيد عن الحضارة هو الذي دفعته غرائزه الفطرية ورغبته في البقاء وحاجاته ومنافعه الضرورية إلى أن يتطور مع الزمن فيصبح إنسانا اجتماعيا ويضع أول حجر في بناء الحضارة.
تصدى فيكو لنقد نظريات القانون الطبيعي لأن أصحابها في رأيه قد وقعوا في خطأين أساسيين؛ أولا: افتقارهم للحس التاريخي أو الرؤية التاريخية؛ إذ سلموا في مناقشتهم لأصول المجتمع البشري والمؤسسات الاجتماعية بسكون الطبيعة البشرية وجمودها وأنها طبيعة غير متغيرة فكانت مناقشاتهم ضربا من الجدال المجدب انتهى في رأيه إلى تجريدات جوفاء مثل القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي. ثانيا: الخطأ الثاني الذي وقع فيه أصحاب نظريات القانون الطبيعي والنظريات السياسية في القرن السابع عشر هو محاولتهم إسقاط ثقافة عصرهم وتفكيرهم العقلي المنطقي على بدايات المجتمع البشري ففقدوا بذلك المفتاح الأساسي لسيكولوجية الشعوب الأولى وافترضوا أن أولئك البشر كانوا يفكرون مثلهم، كما حاول هؤلاء الفلاسفة تفسير الماضي تفسيرا يتوافق مع مصالح عصرهم وحاضرهم. من هنا كانت أولى مسلمات فيكو في أصول العلم الجديد «أن العقل البشري يجعل من نفسه مقياسا للحكم على الأشياء جميعا كلما ضل في الجهل.» لقد فرض هؤلاء الفلاسفة على مشاعر البدائيين وتفكيرهم أفكارا فلسفية لم تعرفها المجتمعات القديمة، فجاءت مسلمة فيكو الثانية التي تقرر صفة أخرى من صفات العقل البشري وهي حكمه على الأمور المجهولة والبعيدة على أساس الأمور المألوفة له والقريبة منه، ولقد ذكر فيكو هاتين المسلمتين في معرض كلامه عن غرور الباحثين، ولعله قصد بذلك أصحاب نظريات القانون الطبيعي والنظريات السياسية في القرن السابع عشر الذين تصوروا البدايات الأولى للبشرية على ضوء حياتهم وثقافة عصرهم المستنير؛ ولهذا وصف فيكو نظرياتهم بأنها «القانون الطبيعي للفلاسفة» وعارضهم «بالقانون الطبيعي للشعوب» ووجد أنه لا مفر من العودة للوراء لقراءة ما بداخل قلوب الشعوب الأولى وعقولها، وكيفية شعورهم وتفكيرهم ونشأتهم نتيجة فترات طويلة من التطور التاريخي. وبهذا يكون قد شق طريقه عائدا من العصر الذي يتسم بالعقل والإنسانية إلى العصور الأولى البربرية التي لم تعرف التفكير العقلي ولا يمكن فهمها إلا بعناء مضن. من هذه الحقيقة الهامة نستطيع أن نتتبع بدايات المجتمع البشري وأصوله كما نستطيع أن نفهم مسلمته الأساسية: «إن كل نظرية يجب أن تبدأ من حيث يبدأ الموضوع الذي تتناوله.» وبذلك تكون مشكلة تكون المجتمع المدني هي مشكلة الأصول التاريخية لهذا المجتمع، وهي نقطة أساسية أخفقت التشريعات الكبرى والنظريات السياسية للقرن السابع عشر في التعرف عليها.
بهذا يكون «القانون الطبيعي للفلاسفة»، وهو الذي تمخض عن التصور والتحليل الفلسفي، قد تحول عند فيكو إلى «القانون الطبيعي للشعوب» الذي ينمو نموا طبيعيا مع نمو المجتمع ويؤكد أن مراحل تطور هذا المجتمع تكون من داخله، وأن «القانون الطبيعي للشعوب» ليس هو حكمة الحكماء أو فلسفة الفلاسفة بل هو الحكمة الشعبية للشعوب نفسها، يقول برييه في كتابه تاريخ الفلسفة: إن النتائج التي توصل إليها فيكو تعارض ما توصل إليه كل من هوبز ولوك اللذين يقولان إن شكل الدولة قد صاغه الحكماء من البشر، فلا يوجد في رأيه حكماء ولا فلاسفة إذا لم توجد دولة أو حضارة. والميزة الكبرى لفيكو أنه يستند على الوثائق الحية
21
فلم يلجأ إلى التنظيمات والتشريعات أو إلى النزعة العقلية لتفسير نشأة المجتمعات الأولى، وإنما اعتمد على التاريخ نفسه وعادات الشعوب، وعصمته عودته إلى التطور التاريخي والاجتماعي للأمم من السقوط في النزعة العقلية واللجوء إلى فكرة العقد الاجتماعي التي كان يتجنبها، ويرى كل من
Bergin, Fisch
في ترجمتهما لسيرة «فيكو الذاتية»، أنه يتابع تطور المجتمع المدني بكل فروعه ودقائقه كما يتعقب تطور العناصر الحضارية الأخرى الموازية له لكي يدعم فكرته الأساسية وهي أن الدولة توجد وجودا طبيعيا وتاريخيا ولا تنشأ بالمواضعة والاتفاق وأن هذا يصدق على الحضارة البشرية في مجموعها.
22
Page inconnue
ومن الأمور الأساسية في العلم الجديد أن «القانون الطبيعي للشعوب» نشأ نشأة طبيعية في كل شعب على حدة وعرف فيما بعد نتيجة الحروب والسفارات والأحلاف والتجارة، أي أنه مشترك بين الجنس البشري كله لنشأته من الحس المشترك وعادات الشعوب وتقاليدها، وقد عبر فيكو عن هذا المعنى في مسلمات العلم الجديد تعبيرا واضحا، ويكفي أن نقرأ المسلمات التالية لنتأكد من هذا «ولما كانت حرية الإنسان بطبيعتها غامضة وغير محددة فإن الذي يؤكدها ويحددها هو الإحساس المشترك بين الناس بحاجاتهم ومصالحهم وهما المنبعان الأساسيان للقانون الطبيعي للشعوب.» «إن الحس المشترك هو حكم بغير تفكير يشترك فيه أفراد طبقة كاملة أو شعب بأسره أو أمة أو الجنس البشري كله.» «إن نشأة الأفكار المتشابهة عند شعوب مختلفة لا يعرف بعضها بعضا لا بد أن يكون لها أساس مشترك من الحقيقة.»
والواقع، كما سنرى، أن القانون الطبيعي للشعوب قد نشأ بطريقة أولية وبدائية في كل الشعوب مع جهل كل منها بالآخر، كما عرف فيما بعد نتيجة للحروب والسفارات والأحلاف والتجارة وظهر أن له أساسا مشتركا في الجنس البشري بأكمله؛
23
لهذا اهتم فيكو بوضع نظام علم جديد يتعلق بطبيعة الشعوب ويختلف عن القانون الطبيعي لفلاسفة القرن السابع عشر، ويكفي أن نقف قليلا عند عنوان كتابه «مبادئ العلم الجديد المتعلق بالطبيعة المشتركة للشعوب»
the Common Nature of Nations
لنعلم أن المقصود بهذه الطبيعة هو ميلاد ونشأة الشعوب، فكلمة
Nature
يستعملها فيكو بدلالتها الأصلية في اللغة اللاتينية على معنى الميلاد والنشوء، وهي طبيعة تبدأ في كل الأحوال بالعقيدة ثم تكمل بألوان أخرى من العلوم والفنون المعرفة. وإذا كان فيكو قد اختصر العنوان في طبعتيه الثانية والثالثة فإنه لم يتخل عن الموضوع نفسه وهو نظام القانون الطبيعي لنشأة الأمم عبر مراحل تطورها. وهذه النظرة الجديدة للتاريخ قد أبعدته بغير شك عن التفسير اللاهوتي الخالص للتاريخ كما نراه عند أوغسطين وبوسويه، وجعلته يستعين بعلوم أخرى مساعدة مثل الأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع وعلم الميثولوجيا المقارن وعلم القانون المقارن. ويرى
Bergin, Fisch
أن الاستعانة بكل هذه العلوم لمعالجة فلسفة التاريخ يعد اكتشافا عظيما لو حاولنا أن نرمز له برجل واحد وكتاب واحد لكان هذا الرجل هو فيكو وكان الكتاب هو «العلم الجديد» أما عن عنوان الكتاب نفسه فيحتمل أن يكون فيكو قد استوحاه من «الأورجانون الجديد» لفرنسيس بيكون الذي كان له أكبر الأثر عليه، كما يرجح أيضا أن يكون قد استوحاه من عنوان كتاب «محاورات عن العلوم الجديدة» لجاليليو.
Page inconnue
ولعل من العوامل التي ساهمت أيضا في نشأة العلم الجديد عند فيكو؛ اطلاعه في شبابه على الكتاب الخامس من طبائع الأشياء للوكريتوس الذي عرف من خلاله كيف عاش الإنسان الوحشي البدائي بغريزته فقط، وكيف كان الإنسان الأول يعيش في كهوف بعيدا عن العقيدة واللغة والقانون ويتناول طعامه من ثمار الأشجار والفواكه ويصطاد الوحوش بالأحجار ويجامع النساء في العراء، وكيف عرف النار لأول مرة من احتكاك الأشجار في العاصفة واستخدامها في طهي طعامه، ثم كيف تأسست المدن والقلاع ونشأ أصل القوانين وأصل العقيدة من الخوف عندما أرعدت السماء وأبرقت.
وقد استفاد فيكو كذلك من آراء شيشرون وأرسطو وأفلاطون في تنظيم المجتمع البشري ولم يعبأ بالفلسفة الأخلاقية عند الأبيقوريين والرواقيين لأنها فلسفات بشر متوحدين، كما نفر من ميتافيزيقا أرسطو واتجه إلى المثل الخالدة عند أفلاطون وتأثر بفلسفته الأخلاقية التي تقوم على مثل الفضيلة والعدالة؛ ولهذا بدأ فيكو يفكر في نظام اجتماعي مثالي يحقق عدالة مثالية، وأشرقت في ذهنه الفكرة الأساسية التي استحوذت عليه وهي فكرة قانون أبدي مثالي يراعى في مجتمع مثالي في ظل العناية الإلهية.
وقد عرف فيكو أيضا عن طريق قراءته لكل من فرنسيس بيكون ولوكريتوس كيف كان الأصل في الحديث هو الإيماءات التي تعبر عن الكلمات، وكيف نشأت الكتابة بالرموز أو الكتابة الهيروغليفية قبل اختراع الحروف الهجائية، واجتمعت كل هذه الخيوط في ذهن فيكو وتبلورت الفكرة الكاملة للعلم الجديد الذي يعد اكتشافا هاما في فترة زمنية لم تتوافر فيها الدراسات العلمية للتاريخ ولا المادة التاريخية الغزيرة ولم يدون التاريخ العالمي وبالرغم من ذلك استطاع أن ينجز شيئين هامين؛ أولهما: أنه أحسن الاستفادة من التقدم الذي طرأ على منهج البحث التحليلي النقدي الذي جاء ثمرة لجهود مؤرخي القرن السابع عشر، ثم تقدم بهذا الأسلوب التحليلي مرحلة أخرى أثبت فيها كيف أن الفكر التاريخي يمكن أن يكون إنشائيا إلى جانب النقد والتحليل، ثم فصل بينه وبين الاعتماد على المصادر المكتوبة محتفظا له بطابعه الأصيل الذي يستطيع عن طريق التحليل العلمي للمادة المكتوبة أن يكشف عن حقائق أتى عليها النسيان؛ ثانيهما: تطويره للأسس الفلسفية المتضمنة في تصويره للأحداث التاريخية إلى الحد الذي يستطيع عنده أن يقوم بهجوم مضاد على الأسس العلمية والفلسفية لمدرسة ديكارت والمطالبة بأساس أعمق وأوسع مدى لنظرية المعرفة منتقدا ما اتسمت به العقيدة الفلسفية القائمة وقتئذ من ضيق وتفكير نظري مجرد.
24
هكذا نكون قد ألممنا إلمامة سريعة بالظروف التاريخية والعوامل الثقافية التي مهدت لاكتشاف مبادئ العلم الجديد الذي يعد البداية الحقيقية لنشأة علم التاريخ على أساس وطيد من التطور الاجتماعي للإنسان، ويبقى علينا الآن أن ننظر في مبادئ هذا العلم الجديد نفسه والأصول والمسلمات التي يقوم عليها.
الفصل الثاني
أصول ومبادئ العلم الجديد
(1) الأصول
تتركز فلسفة فيكو في أهم مؤلفاته «العلم الجديد»، ويتناول القسم الأول منه الجانب النظري من العلم الجديد ويتضمن ثلاثة موضوعات رئيسية: الأصول والمبادئ ثم المنهج، وقد يخلط المرء بين الأصول والمبادئ لاقتراب اللفظين في المعنى، ولكن الواقع أن الأصول تحوي مجموعة من المسلمات أو البديهيات يلتزم بها الباحث أو يفترضها عند دراسته تاريخ تطور الشعوب بصفة عامة والقديمة منها بصفة خاصة؛ فهي القواعد التي يجب أن يقوم عليها هيكل البناء التاريخي.
أما المبادئ فهي التي اكتشفها العلم الجديد في كل المجتمعات البشرية وتتمثل - كما سنوضح في الجزء الخاص بها - في ثلاثة: الدين، الزواج، دفن الموتى. وأما عن المنهج فقد حدد فيكو منهج علم التاريخ بالنسبة لمناهج العلوم الأخرى كالرياضيات والعلوم الطبيعية لاختلافه عن كل منهما وإن لم يكن التاريخ بعيدا كل البعد عن العلوم الطبيعية؛ لذا كان المنهج الذي سار عليه هو المنهج الاستقرائي الذي سنتحدث عنه بالتفصيل فيما بعد؛ إذ حاول - كما أشرنا في الفصل السابق - أن يقوم في التاريخ بدور بيكون في العلوم الطبيعية، وحاول أن يدرس عالم الأمم من خلال البديهيات أو المسلمات التي تتألف منها هذه الأصول وابتداء من تلك المبادئ وباستخدام هذا المنهج ليقيم صرح البناء التاريخي.
Page inconnue