Discussions en philosophie morale
مباحث في فلسفة الأخلاق
Genres
كذلك لا يجب أن يشتبه علينا التأنيب بالخوف من اللوم أو العقاب، فكثير من المجرمين يظلون في نضال مع رجال الشرطة والقضاء، ولا يستشعر الواحد منهم التأنيب إلا حين يجد نفسه في أمن من مطاردة رجال البوليس والأمن العام . (3)
يجيء بعد التأنيب عاطفة أخرى هي عاطفة الندم، وهي عاطفة مزيج من التأنيب والسرور الأخلاقي، التأنيب والألم لتذكره ما عمل من سوء، والسرور لعزمه على ترك الشر وعلى أن يكون رجلا خيرا. والندم من الناحية الأخلاقية أعلى جدا من التأنيب المحض؛ إذ ليس من الخير أن يعيش المرء رازحا تحت ألم التأنيب المقعد المقيم، متذكرا دائما الماضي وما كان فيه من سيئات، لا يجب أن يؤنب المرء نفسه إلا بقدر ما يقوي في نفسه الإرادة القوية والعزيمة الصادقة، على أن يكفر عما مضى، وعلى أن يسلك سواء السبيل.
تلك طائفة من العواطف الأخلاقية التي يحسها المرء بالنسبة لأفعاله شخصيا، فإذا نظر لأعمال غيره، وبعبارة أدق: إذا نظر للبواعث والمقاصد التي يعتقد أنه كشفها وراء هذه الأعمال، يشعر بعواطف أخرى غير مغرضة أيضا. نحن نشعر بالتقدير لمن هم على خلقية عادية وفضيلة متوسطة، وبالاحترام لمن هم على خلقية عالية وفضيلة سامية، وهذا الاحترام يجب ألا يشتبه علينا بالإعجاب الذي يتوجه لكل من بلغ الأوج في أية ناحية من النواحي التي هي محل التقدير، كالجمال والقوة والذكاء مثلا، أما الاحترام فهو الإعجاب بالعلو الخلقي فحسب.
التقدير والاحترام يعتبران حقا من العواطف غير المتحيزة، قد أحسهما لمن يعمل ضد فائدتي ومنفعتي الخاصة إذا أيقنت أنه يعمل طبقا للعدالة، فالقاضي العادل محل تقديري واحترامي وإن حكم ضدي، ما دام صدر في حكمه عن عدالة، وكان بنجوة من الغرض والهوى. يقول الأديب الفرنسي فونتينل
Fontenelle :
11 «أنا أنحني أمام رجل عظيم ولكن قلبي لا ينحني»، ثم أضاف: «أمام الرجل المتواضع الذي بلغ من الفضيلة حدا لم أبلغه ولا أجده في نفسي، ينحني قلبي سواء أردت ذلك أم لم أرده، ولو أني أرفع بغطرسة رأسي أمامه عاليا حتى يحس علو مركزي الاجتماعي ... الاحترام ضريبة لا يمكننا أن نأبى دفعها لمن يستحقها طوعا أو كرها، قد يكون في طوقنا أن نخفي آثارها الظاهرة فلا يعرف الفاضل أنه موضع الاحترام منا، ولكن ليس في وسعنا أن نعرف أن نمنع أنفسنا من الإحساس باحترامه داخل أفئدتنا.»
من الممكن أيضا أن أقدر بكل ابتعاد عن التحيز والهوى أعمال الآخرين السيئة فألومهم وأحكم عليهم، ها أنا ذا أحس الاحتقار لهذا الرجل الذي أعلم ما هو عليه من خلقية سافلة وانحطاط شاذ، هذه العاطفة ليست أبدا أثرة، فقد أحتقر أخلاقيا آخر يسرني من ناحية الأثرة أن أنتفع بخدماته؛ ولهذا يسر رجل الحرب أو السياسة بالخدمات التي يؤديها له جاسوس خائن، مع احتقاره له في الوقت نفسه احتقارا بالغا.
كل هذه الأعمال والعواطف، وأمثالها من العواطف الأخرى، تسمى كما قلنا مظاهر الضمير الأخلاقي، الذي لا يصح أن يشتبه بالضمير النفسي «الوجدان»، الضمير النفسي يتحقق ويتأكد، والضمير الأخلاقي يحكم، الأول يخبرني بأني غاضب، والثاني يعلمني أن من الخطأ أن أغضب وأن أدع علي للغضب سلطانا.
وأخيرا، وقد بان تعريف الضمير، والدور الذي يقوم به، ومظاهره المختلفة، يحسن أن نتعرف ماهيته حتى يكون بحثنا عن بينة. (4-5) ماهية الضمير
عرفنا الضمير بخواصه، وليس ذلك بمغن عن تعرف ماهيته متى كان ذلك مستطاعا. وقد تشعبت في بيان هذه الماهية آراء الفلاسفة إلى شعب كثيرة، وانتهوا من بحوثهم إلى آراء مختلفة، تبعا لاختلافهم في أسس فلسفاتهم المتعددة، وها نحن أولاء نسوق أشهر هذه الآراء ونقفي على كل منها بوجوه نقده، حتى يخلص لنا من ذلك كله الرأي الصحيح في تلك القوة الباطنة التي كان خفاؤها مثار الخلف فيها.
Page inconnue