Discussions en philosophie morale
مباحث في فلسفة الأخلاق
Genres
وتولستوي الكاتب الروسي المعروف (1828-1910)، يحدثنا في روايته «الحرب والسلام» أن أحد أبطالها حينما رأى أنه ضحى بجزء كبير من ثروته في سبيل ما عده واجبا وطنيا، أحس أنه دخل عالما جديدا، فنراه يقول إن مجرد التضحية التي قام بها جعله يحس سرورا عميقا لا يقادر قدره.
ويحضرني أثناء كتابة هذه السطور ما أجاب به زعيم الهند غاندي العظيم حقا بعض من ساورتهم الخشية على حياته، حين نذر صومه الأخير احتجاجا على الإنجليز، حين قال: «لقد وهبت حياتي في سبيل الدفاع عن حقوق بلادي، وإني لأشعر بغبطة عظيمة وسعادة روحية كاملة إذ أضحي بنفسي في سبيل سعادة الهند وسعادة العالم»، هكذا يقول ربيب النعمة وسليل المجد، لا كبعض من يعدون أنفسهم زعماء وهم لا يهمهم أجاع الشعب المسكين أم شبع، وسعد أو شقي، ما داموا ناعمين مترفين، وما دام الشعب بلغ من الجهالة حدا لا يفرق معه بين السعادة والشقاء.
السرور الأخلاقي يختلف عن السرور الذي يجده المرء لثناء يوجه إليه أو لمكافأة ينالها، هذا فرح وقتي يزول بزوال حينه، أما الأول فسرور داخلي يحسه في أعماق قلبه، ولا يرى الآخرون منه إلا الوميض الذي يضيء وجه رجل سعيد أدى واجبه بنبل وشجاعة.
بتحليل هذا النوع من السرور نجده خليطا من عواطف مختلفة؛ عاطفة التحرر من أثرة الشهوات واستعبادها، ورحابة الصدر بواسطة حب الغير؛ لأنه - كما يقول أرسطو - يجد المرء سرورا في أن يكون محبا كما في أن يكون محبوبا، وأخيرا نجد فيه الإحساس بالسمو فوق المستوى العادي، يقول الفيلسوف الهولندي هوفدنج
Hoffding ، الذي عاش في القرن التاسع عشر: «هذا السرور قد يبلغ من العظمة والقوة حدا تكون كل المتع والمسرات الأخرى لا شيء أمامه إذا قورنت به ... بين الرضاء للتضحية المبذولة عن طيب خاطر وأي سرور من نوع آخر يكون الفرق كبيرا جدا، حتى ليتضاءل هذا النوع الأخير من السرور أمام الضمير. الحياة بهذه التضحية في سبيل الواجب تبلغ من السمو منزلة تكون الحياة لولاها لا قيمة لها مطلقا.» (2)
العاطفة المقابلة للسرور الأخلاقي هي عاطفة التأنيب، أعني الحزن الذي أحسه عندما أتذكر أني اجترحت سيئة أخلاقية، والذي يحسه من يندفع بالأثرة فيسبب ألما لآخر كان من الواجب أن يجنبه إياه، فيتألم كلما يتذكر ذلك ألما بالغا.
ولعل شكسبير، شاعر الإنجليز المعروف (1564-1616)، أحسن من مثل التأنيب أصدق تمثيل في روايته الخالدة «مكبث»،
10
اللادي مكبث بعد أن لوثت يديها بالدم المسفوح لم تستطع أن تزيل عنهما ما علق بهما من أثر الجريمة، برغم ما بذلت من جهد وأنفقت من مال، فكانت تقول: «يوجد دائما أثر الدم، دائما رائحته الخبيثة، كل العطور العربية التي لها فعل السحر عجزت عن تنظيف هاتين اليدين الصغيرتين!» هكذا كانت تناجي المسكينة نفسها، وقد استطير قلبها وهلع فؤادها، فلم تنتفع بنفسها بعد جرمها الشنيع!
التأنيب عاطفة بعيدة عن الهوى والغرض وتتصل بالماضي الصرف، ومن أجل هذا يجب ألا تختلط بالأسف، العاطفة الأثرة التي تتصل بالحاضر المقارن بالماضي أكثر من اتصالها بالماضي الخالص، حقيقة حينما يأسف المرء لثروته الضائعة لا يتألم إلا لشقائه الحالي، وحينما يأسف لإفراطه في اللذات السافلة يتألم؛ لأن ذلك هد صحته فأصبح لا يستسيغ الماء القراح.
Page inconnue