La Philosophie Anglaise en Cent Ans (Première Partie)
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Genres
synthetic unity of apperception
عند كانت، كما أن رأي جرين القائل إن هذا الفعل الرابط هو الذي يكون الحقيقة، هذا الرأي إنما هو تعبير آخر عن قول كانت إن الذهن هو الذي يفرض على الطبيعة قوانينها.
وسرعان ما يظهر بعد ذلك، بطبيعة الحال، اتجاه إلى تجاوز موقف كانت الإبستمولوجي واستخلاص نتائج ميتافيزيقية تسير في اتجاه الفلاسفة التالين لكانت ولا سيما هيجل. وقد اتجه المجهود الأكبر لجرين إلى التغلب على الثنائية التي وضعها كانت بين المظهر والشيء في ذاته، وطبيعي أنه كان من المحال، في ضوء مذهبه القائل بأن العلاقات تسري على كل شيء وتكون كل شيء، أن يقنع بعالمين لا تربطهما أية علاقة. وهكذا أوضح، في مقابل هذه الثنائية، أن فكرة الشيء في ذاته تنطوي على تناقض مشابه لذلك الذي تنطوي عليه فكرة الانطباعات عند هيوم، إذ كيف يمكن أن يدخل ما هو - حسب تعريفه - غير قابل للمعرفة، في أية علاقة مع ذهن عارف؟ لو كان الشيء في ذاته علة المظاهر؛ لوجب أن يكون هو ذاته مظهرا، على حين أن تعريفه ذاته ينص على أنه ليس كذلك، ولو كان هو المادة الخام - غير المشكلة على الإطلاق - للتجربة، لوجب أن يكون خلوا من أي تحدد عقلي. فالمادة المحسوسة المستقلة تماما عن التحديد الفكري لا تعدو أن تكون «س» غير مرتبطة بشيء، وبهذا الوصف لا يمكن أن تكون موضوعا للمعرفة ولا واقعة حقيقية، «فالإحساس المحض» تعبير لا يناظر شيئا في الواقع، وإنما هو ناتج عن تجريد مصطنع. وهكذا يقف جرين موقف المعارضة الشديدة للمذهب الحسي، ويلمح أثرا باقيا من هذا المذهب حتى في فكرة الشيء في ذاته عند كانت، وهو يذهب إلى أننا ملزمون بأن ننسب إلى الإحساس شيئا من التحدد، أعني التعاقب والشدة، وهذا يستتبع أن الفكر هو الشرط الضروري لوجود هذه الوقائع المحددة، وأن الإحساس المحض لا يمكن أن يكون عنصرا مكونا للعالم الفعلي.
وإذن فما هو هذا المبدأ الذاتي الذي هو أساس كل وجود موضوعي وشرطه؟ هنا أيضا يسارع جرين إلى ترك نظرية المعرفة، أي المذهب الكانتي بمعناه الضيق، وينتقل إلى تطبيق تأملي نظري يبدأ فيه ظهور أفكار منتمية إلى هيجل وباركلي، فمقابل الطبيعة - أي الطبيعة بوصفها نسقا من الأشياء المرتبطة فيما بينها - هو الروح، ولكن ليس المقصود بالروح هو الذات الفردية منظورا إليها نفسيا، ولا الوعي في عمومه منظورا إليه معرفيا، وإنما المقصود مبدأ ميتافيزيقي كلي، أو وعي أزلي، كما يفضل جرين أن يسميه. فالكون، بوصفه نسقا، كل عنصر فيه يرتبط بكل عنصر آخر ويفترضه مقدما ويفترض فيه، يقتضي وعيا كليا شاملا لكل شيء، يكون شرطا لوجوده، ذلك هو وحدة الكثرة، والهوية في كل تغير للمظهر، وعلاقة محتويات الإدراك العابرة بنسق الفكر، وكذلك علاقة الأشياء والوقائع الجزئية بنسق العالم في كليته. فهذا هو المبدأ المنظم الذي يبعث الوحدة وكل نوع من النظام، وهو الكل الذي يجد فيه كل جزء مكانه المنطقي، والكلي الذي يصبو إليه كل جزئي، والذي يحتاج إليه ليكمل ذاته، ولا يكون بدونه شيئا، وهو للوحدة الإلهية التي تحمل كل شيء وتحفظه، والتي يعيش فيها كل شيء ويتحرك ويجد وجوده، فهو العنصر الروحي المطلق، الذي يعلو ويتجاوز ويسبق كل ما هو طبيعي، والذي لا يوجد في مكان ولا في زمان، واللامادي اللامتحرك، الواحد أزلا مع ذاته. وواضح من ذلك أن للمبدأ الأول عند جرين أوجها متعددة؛ فهو تارة العقل الكانتي، وتارة أخرى الروح الهيجلية، وتارة ثالثة إله باركلي. ونظرا إلى قوة الاتجاه إلى الألوهية عند جرين، فإن الأخير من هؤلاء - أعني إله باركلي - يظهر لديه كثيرا، لا سيما في فكرته عن حضور كل الأشياء (أو كل الأفكار، كما كان باركلي خليقا بأن يقول) وتساميها في الله، ولهذا السبب كان في تعاليمه سلاح رحب اللاهوت المحافظ في كفاحه ضد المذهب الطبيعي والمادي المنبثق عن العلم الطبيعي. ولقد لاحظ الكثيرون أن تجدد المثالية في إنجلترا قد نشأ نتيجة المصالح الدينية والكنسية، التي اتخذت من المثالية وسيلة للدفاع ضد تأثير الداروينية والتطورية الهادم للإيمان.
ومع ذلك ينبغي ألا تنسينا هذه الصفة التي تميزت بها الحركة المثالية في بدايتها، أن تجدد الفكر الإنجليزي، مهما كان قد استغل في خدمة أغراض لها طابع غير نظري؛ يدين بظهوره، بنفس المقدار، لحافز فلسفي أصيل، ولا شك أن هذا الحافز ظاهر عند جرين، رغم أنه لم يكتسب عنده أساسا نظريا محضا، وكان قبل كل شيء تعبيرا عن اهتمامه، الذي كان أخلاقيا واجتماعيا في أساسه، والذي ربما كانت البواعث الدينية بدورها قد لعبت فيها دورا.
وتفضي ميتافيزيقا المعرفة وميتافيزيقا الوجود، اللتان يتأملهما جرين من وجهة نظر واحدة إلى الأخلاق بمجرد أن ينتقل إلى بحث الوعي المتناهي. وعلى الرغم من النقد الذي وجه إليه أحيانا (مثل نقد أ. تيلور
A. E. Taylor
في كتابه «مشكلة السلوك
The Problem of Content » ص59 وما يليها)، من أنه لا توجد إلا هوة بين الميتافيزيقا وبين الأخلاق عند جرين، فإن الأخلاق عنده تكون بالفعل جزءا عضويا من مذهبه، فما هو كل بالنسبة إلى الوعي الأزلي، يكون في البداية شيئا منقسما بالنسبة إلى الوعي المتناهي، ولا يدرك إلا من خلال التعاقب الزمني. ولكن بقدر ما يكون الوعي المتناهي مدركا للكل، مهما كان إدراكه هذا ناقصا، فإنه يشارك، بهذا القدر، في الوعي الإلهي. وعلى ذلك فالإنسان هو نقطة التقاء مركزين للوعي، الزمني والأزلي، المتغير واللامتغير بصفة مطلقة. وتؤلف العلاقة بين هذين مشكلة من أعقد مشكلات فلسفة جرين، ولا يمكن الزعم أنه وصل إلى أي حل مرض لها؛ فهو يقول عن الوعي الفردي إنه الواسطة أو الإرادة بالنسبة إلى الوعي الكلي، وإنه يشارك في هذا الأخير على نحو ما، ولكنه لا ينبئنا بشيء عن طريق هذه المشاركة سوى قوله إن الوعي الأزلي ينقل إلينا في الحدود التي تفرضها علينا أبداننا. ولقد حاول جرين، الذي كان دائما واحدي النزعة عن اقتناع، أن يتخلص من الثنائية الظاهرة هنا، عن طريق افتراض أن الوعي الذي يبدو مزدوجا في الظاهر، لا وجود له في الواقع، وأن ما يبدو لنا منه ناشئ كله عن عجز الذهن المتناهي عن فهم الوعي الواحد اللامنقسم في تمثل واحد، ولكن من الواضح أن هذا الافتراض يتهرب من الثنائية بدلا من أن يتغلب عليها.
ويتكرر مثل هذا الموقف في الأخلاق بمعناها الصحيح عند جرين، بل إن مظاهر الثنائية هنا أوضح منها في أي جزء آخر من مذهبه، وذلك راجع إلى أنه كان في مذهبه الأخلاقي أشد تأثرا بكانت مما كان في ميتافيزيقاه، وهو يتخذ نقطة بدايته من تلك الحاجات الخالصة كالدوافع والغرائز، التي هي في مجال الأخلاق مناظرة للإحساسات الخالصة في المعرفة، وهو يرى أنها بدورها تحتاج لكي تكتمل أو تتحقق إلى مبدأ يعلو عليها. والواقع أننا لا تكون لنا في المجال البشري حاجات خالصة أبدا، بل يضاف إليها دائما وعي بها وبالأشياء المرتبطة بها. وهكذا يتضح لنا هنا أيضا، كما اتضح لنا في مجال المعرفة، أن ما يوصف بأنه موضوعي خالص، ينطوي منذ البداية على إشارة إلى شيء ذاتي، وأن الانتقال من الحاجة الخالصة إلى الوعي بالشيء الذي نحتاج إليه، يفترض مقدما أن الحاجة تتمثل لذات تتميز عنها أساسا بأنها تظل ثابتة طوال تعاقب الحاجات المتغيرة. وهنا أيضا نجد، كما وجدنا من قبل، أن الذات تختلف عن العملية أو التعاقد، المماثل أمامها، وليست هي ذاتها مرحلة أو سلسلة من المراحل داخل هذا التعاقب، وإنما هي شيء باق ثابت من وراء كل ذلك، شيء تستقر فيه المراحل الجزئية المتعاقبة.
Page inconnue