La Philosophie Anglaise en Cent Ans (Première Partie)
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Genres
ولوتسه، ولا شك أن أهم علاقة له كانت تلك التي تربطه بكانت وهيجل، كما أن من المسائل الهامة التي طالما نوقشت: البحث فيما إذا كان «كانت» أم هيجل أعظم تأثيرا فيه، فإذا نظرنا إلى الأمر من الوجهة الخارجية، لبدا لنا جرين كانتيا في المحل الأول، ولقد كان يدين لكانت بالكثير فعلا في نظرية المعرفة والأخلاق إذ نجده يتابع أفكار كانت الرئيسية وحججه خلال أجزاء طويلة من مؤلفاته. وكثيرا ما كان تفكيره يبدأ من وجهة النظر الكانتية ، ويبني على مسلمات كانتية، كما أن نتائجه كثيرا ما كانت تتفق مع نتائج «كانت» أو تقترب منها كثيرا على الأقل. وكثيرا ما يصادفنا اسم كانت في جميع كتاباته، بينما لا نصادف اسم هيجل إلا نادرا، وفي بعض مؤلفاته لا كلها (أي في «المقدمة إلى الأخلاق» مثلا). ومع ذلك فإن تأثير هيجل كان هائلا في التمهيد لتفكير جرين، وهو واضح إلى حد لا تخطئه العين، وإن يكن من العسير أن يحدد المرء موقعه بدقة. ويتبدى هذا التأثير بكل وضوح في تفسير جرين لكانت، وهو تفسير مضاد تماما لتفسير هاملتن ومدرسته، يحول به كانت في اتجاه المثالية المطلقة عند هيجل، وقد يصادف المرء من آن لآخر تعبيرا يوحي بوجود عداء من جانب جرين لهيجل، كما في قوله: «لقد تدبرت أمر هيجل بالأمس ووجدته لا يزيد عن ثرثرة كلامية غريبة.»
39
غير أن مثل هذه التعبيرات لا تغير من الحقيقة الواقعة، وهي أن هيجل كان من العوامل المتحكمة في تفكير جرين، وبالاختصار فقد كان جرين كانتيا في المحل الأول، ولكنه قرأ كانت بمنظار هيجلي.
ورغم نقص عدد المؤلفات التي عبر بها جرين عن تفكيره، فإن هذا التفكير يكون كلا منظما، يندرج تحت ثلاثة أبواب: الميتافيزيقا، والأخلاق، والفلسفة السياسية. ولقد كان الباب الأخلاقي هو الرئيسي من بينها، كما يحق للمرء أن يتوقع من ذهن كان اتجاهه أخلاقيا في أساسه؛ فالأخلاق هي مركز الثقل في المذهب، تسبقها وتمهد لها الميتافيزيقا (التي هي بدورها مسبوقة بنظرية المعرفة). وتسفر عن مذهب في الدولة، وفي الشروط الأخلاقية للحياة الاجتماعية والسياسية، وبتعبير آخر فإن المذهب يبحث على التوالي في المسائل الآتية، التي تفضي الإجابة عن كل منها إلى الإجابة عن الأخرى: ما هو الحقيقي؟ ما هي الطبيعة الحقيقية للإنسان؟ وما مكانه في عالم الواقع؟ وما الذي يتعين عليه أن يفعله إذا شاء أن يؤدي رسالته؟ وماذا ستكون مهام المجتمع إذا شئنا أن يؤدي الإنسان في هذا المجتمع وبفضله رسالته الأخلاقية؟ وأخيرا فهناك السؤال الذي لم يناقشه جرين صراحة، وهو السؤال المتعلق بالحقيقة العليا أو الله، بوصفه أساس كل وجود مخلوق. وهكذا فإن مذهب جرين يتعلق بطبيعة الحقيقة، وبالإنسان بوصفه شخصا أو موجودا أخلاقيا، وبالمجتمع أو الدولة بوصفها كثرة من هذه الموجودات، وبالله بوصفه الموجود الذي تستمد منه كل الموجودات الأخرى معناها.
وتقوم نظرية المعرفة عند جرين، أو على حد تعبيره، ميتافيزيقا المعرفة، وهي لها دلالتها، على أساس معارضة المذهب الحسي القائل بالانفصال المطلق (
sensationalistic atomism ) عند التجريبيين، ولا سيما عند هيوم، ومعارضة الواقعية والمذهب المادي القائل بالانفصال المطلق في العلم الحديث. ففي كلا هذين المذهبين يكون موضوع المعرفة مجموعة من الجزئيات غير المترابطة، أي من الإحساسات والكيانات المادية المستقلة عن الوعي، أو من الذرات، حسبما يقتضيه الحال، وفي جميع هذه الحالات يسقط العنصر الذاتي في المعرفة من الحساب تماما، وتنعدم الصلة، ليس فقط بين الذات والموضوع، بل بين الموضوعات ذاتها أيضا، بل إن هيوم، الذي كان يهوى دائما استخلاص أشد النتائج تطرفا، قد حلل الذات نفسها إلى معطيات متتابعة، أو «حزمة من الانطباعات»، وبذلك رد كل حقيقة، أيا كانت، إلى الانطباعات، غير أن من المحال أن نتصور كيف تستطيع الإحساسات المفككة أن تؤثر بعضها في البعض، أو تدخل في أي نوع آخر من أنواع الارتباط، والأكثر من ذلك استحالة أن نتصور كيف يمكنها التجمع سويا في ذلك الكل المنظم الذي يتبدى عليه العالم لنا في المعرفة. فمثل هذا الكلام إنما هو نهاية لأية نظرية عن الحقيقة، وهو دفع للفكر في طريق مسدود، لا يخلصه منه إلا تغيير حاسم، فالإحساس كما قال به هيوم لا يناظر شيئا حقيقيا، وإنما هو شيء مختلق وتجريد محض.
وقد تمكن جرين من تجاوز مذهب الانفصال المطلق هذا عن طريق نظريته المشهورة، التي أثارت كثيرا من الجدل في العلاقات، وهي النظرية التي تكون لب ميتافيزيقا المعرفة عنده، فعلى حين أن هيوم قد ذهب إلى أن أفكارا مثل الجوهر والعلية والخارجية والهوية إنما هي مجرد اختلاق من الذهن؛ لأنها ليست معطاة في أي انطباع، فإن جرين قد بين أن هذه العلاقات «غير الحقيقية» هي التي تتيح إمكان أية معرفة على إطلاقها، فكون أي شيء حقيقيا أو غير حقيقي، هو أمر لا يتوقف على أية واقعة أو معطى في ذاته، أو على إمكان أو عدم إمكان استخلاص أفكار من هذه الواقعة أو تلك، وإنما يتوقف تماما على العلاقات القائمة بين الوقائع، أو التي يمكن أن تدخل فيها الوقائع، «ففكرة مائة القرش، من حيث هي مجرد فكرة، هي بلا شك مختلفة عن امتلاكنا لها، لا لأنها غير حقيقية، وإنما لأن العلاقات التي تكون الطبيعة الحقيقية للفكرة تختلف عن تلك التي تكون الطبيعة الحقيقية للامتلاك.»
40
فالأشياء ليست مقفلة على ذاتها، تامة على نحو نهائي، مستقلة بعضها عن البعض، وإنما هي لا تصبح حقيقية إلا بقدر ما تخرج عن عزلتها وتشير إلى شيء غيرها. أي إن الأشياء ترتبط بعضها ببعض بعلاقات كثيرة، وتتحكم أو تؤثر في بعضها البعض على نحو متبادل، وتتشابه أو تتباين، وتتضارب فيما بينها، وترتبط في المكان أو الزمان، وما إلى ذلك. وليس معنى ذلك أن الأشياء توجد أولا في حالة تكون فيها معطاة على نحو محض، وفي عزلة كاملة، ثم تدخل فيما بعد في علاقات بعضها مع البعض، بل إن من المحال أن تتصور أو يكون لها أي معنى أو أهمية بالنسبة إلينا دون هذه العلاقات، فإذا نزعت عن الأشياء علاقاتها فلن يكاد يبقى بعد ذلك شيء، ومن هنا كانت نظرية جرين القائلة: إن حقيقة الأشياء لا قوام لها إلا ما يربط بينها من العلاقات. وبعد ذلك يتحول هذا الرأي، الذي توصل إليه عن طريق اعتبارات إبستمولوجية، إلى مبدأ ميتافيزيقي، دون أي برهان آخر خاص بهذا المجال الأخير على حدة.
كذلك تتميز أبحاثه التي تلي ذلك بهذه الصفة ذاتها، وهي الاكتفاء بنقل مبدأ إبستمولوجي إلى مجال الميتافيزيقا، فالصيغة المبالغ فيها، القائلة: إن العلاقات هي قوام الحقيقة، لا تكتسب معنى معقولا، في رأي جرين، إلا إذا أضفنا إليها أن العلاقات لا تعطى في الأشياء ومعها، وإنما هي تقرر أو تحدد عن طريق مبدأ معين للتوحيد، هذا المبدأ لا يمكن إلا أن يكون فاعلية الذهن، فالأشياء تتألف من علاقات، والعلاقات تفترض مقدما وظيفة الذهن الرابطة، على أن ما يقرر العلاقات يختلف أساسا عن ذلك الذي تربط بينه العلاقات، فهو ليس شيئا ضمن الأشياء، أو معطى ضمن المعطيات، وإنما هو نفس شروط إمكان المعطيات على إطلاقها، وشرط إمكان أي وجود؛ إذ إننا بدون الوظيفة التوحيدية التشكيلية للذهن لا نستطيع أبدا أن نعلو على المادة المختلطة التي يأتي بها الإحساس. ومن السهل أن يلمح المرء هنا الأفكار الأساسية لكانت، فالعملية الرابطة للذهن هي بعينها الوحدة التركيبية للإدراك الذاتي
Page inconnue