كان أفاضل الملوك والخلفاء يستعملون هذه الخصلة كثيرا، فلا يسرعون إلى قتل رجل معروف مشهور، خوفا أن يحتاجوا إليه بعد ذلك، فيتعذر عليهم بل كانوا يحبسونه في غوامض دورهم، ويقيمون له كلّ ما يحتاج إليه من أطعمة شهيّة، وفواكه وثلج وأشربة وفرش وثير، ويحملون إليه كتبا يلهو بها ويقطعون خبره عن الناس، حتى يثبت في نفوس أهله وأصحابه أنّه قد هلك، ثمّ تستصفى أمواله وأموال أصحابه، وتستخرج ذخائره وودائعه، ويصير في عداد الموتى. فلا يزال كذلك، حتّى تدعوهم الحاجة إليه فيخرجوه مكرما وقد تأدب وتهذّب.
من لم يؤدّبه والداه ... أدّبه الليل والنّهار
(منسرح) وهاهنا مزلّة ربما وقع فيها أفاضل الملوك، وهي أن بعض الملوك ربّما كان معجبا بنفسه، محبّا لأن ينتشر عنه حديث صرامة وشهامة، وسياسة قاهرة.
فيستهين بالقتل ويسهّل أمره ويبادر إليه. وغرضه إثبات الهيبة وإقامة السياسة، من غير التفات إلى ما في طيّ ذلك من إزهاق النفس، التي حرّمت إلا بالحق. وهذا من أخطر الأمور على الملك والصّواب ألا يزال في نفسه كارها للقتل، صادفا عنه مهما أمكن، حتّى تدعو إليه ضرورة ليس فيها حيلة، فحينئذ يقدم عليه بنفس قوية وجنان ثابت. فإنّ قتل واحد أصلح من تركه حتى يحتاج إلى قتل خمسة، وقتل خمسة خير من تركهم حتى يدبّ فسادهم حتى تبلغ الحاجة إلى قتل مائة، ومن أجل ذلك قال الله تعالى: وَلَكُمْ في الْقِصاصِ حَياةٌ ٢: ١٧٩ [١] وقيل: القتل أنفى للقتل. قال الشاعر:
بسفك الدما يا جارتي تحقن الدّما ... حتى يراق على جوانبه الدم [٢]
(طويل)
_________
[١] سورة البقرة، الآية/ ١٧٩/.
[٢] صواب البيت.
بسفك الدّما يا جارتي تحقن الدّما وبالقتل تنجو كلّ نفس من القتل انظر طبعة بيروت ص ٤٣، ورحما ص ٣. وألما ص ٥٣.
1 / 48