وحانت منها التفاتة إلى المرآة، فلمحته وهو يهم بالكلام بحال تدل على أنه استسلم للاعتراف. استصرخته في الأعماق أن يفعل، دعت ربها أن يأمره بالكلام، لكنه استرخى دفعة واحدة بسرعة تثير الحنق، وراح يقرأ. - عدت كما كنت أعزب! - أنا؟ - كأن لا شريك لك، عش وحدك، سأحزن حتى الموت! - ألا يتعب الإنسان أحيانا؟ - ماذا عن رجل يشرب الخمر، ويقرأ كتب الأرواح؟ - الخمر أيضا مشروب روحي، هكذا يسمونها! - نضب معيني من الضحك! - سوف تضحكين من نفسك، عندما تتأكدين من ضلال أوهامك! - قلبي لا يكذبني قط.
وقال لنفسه: ما أصدق قلبها. إنها تنطق عن قلب صادق وا أسفاه. قلب ملؤه خوف حقيقي، قلب يكابد إرهاصات أحزانه ووحدته الآتية. وهو يتعذب أيضا عذابا مضاعفا لنفسه ولها. وقلبه ينصهر ويتطاير شررا، وسيتلاشى في الفراغ. وأفكاره تحوم بجنون حول انحلال المادة وتشعشع الضوء وانتشار الرماد وتبدد الهواء. لعله كان من الأرحم أن يجد مهربا بعيدا عن بيته، أن يشرب في حانة من الحانات، بعيدا عن الجلسة السعيدة التي يتشكل فيها جسده في ثلاثة أجساد حارة محبوبة. ولكن حنينه القاسي وأشواقه الملتهبة ويأسه العميق منعته من الهرب وشدته إلى مأواه الحنون. بل يود أحيانا لو يغلق دكانه ليجلس طوال وقته مع زوجته وطفلته، عصمت ولولو، وأن يقبلهما حتى يكل فوه، أن يضمهما إلى صدره حتى يخذله ساعداه، أن يغرقهما بدموعه، وأن يستحم بدموعهما. وكان بوده أن يمثل دوره بمهارة يخدع بها امرأته، ولكن كان ذلك فوق طاقته. فهو يقرأ ويشرب ويختلس إليها النظر، يتحمل نظراتها المعذبة بصبر، حابسا دمعه، شادا على إرادته. ويصر على ذلك، وهو يشعر بأن كل شيء يخصه هباء. الأبوة هباء، الحب هباء، الزوجية هباء. ويرى كل معنى وهو يتلاشى في النسيان والضياع. وهو في الحقيقة لا شيء يبكي لا شيئا، البكاء نفسه لا حقيقي كالقراءة، كالخمر، كهذه الأنغام الصادرة عن الراديو تنعى الحياة كلها. لم لا يجذبها إليه ويفضي إليها بكل سره ؟ ولكن أي فائدة ترجى من ذلك إلا أن تزيد من تعقيد الأمور واختلاطها وقسوتها ووحشتها؟ ولم يحول جلسة المساء إلى مأتم والغناء إلى حداد؟ لن يؤخر ذلك ولن يقدم، ولكنه سيهدم الأسرة هدما. أجل، إن وحدته تزداد عمقا ويأسا، لكنه لن يذعن للجبن والأنانية، فعلى الأقل عصمت لن تفقد الأمل، وها هي لولو تلعب وتغني وتنطح وتخربش. إنها الوحيدة التي تبدو جديرة بالحياة. تحياها ببساطة وبلا معنى ولا تفكير. وهي الوحيدة أيضا التي لا تعرف الموت ولا اليأس، ويبدر كل شيء لعينيها العسليتين خالدا سعيدا خاضعا. حتى المنغصات البسيطة التي تطرأ على بحبوحتها لا تبقى إلا لحظات. قد تتوارى وراء باب صارخة باكية، ثم سرعان ما تظهر باسمة الثغر، ولما تجف دموعها وفي عينيها نذر مشروعات جديدة للشقاوة والعفرتة. وعصمت لا تدري شيئا عن لياليه، فهي تجالسه حتى يحين موعد النوم، ولما تظن أنه استسلم للنوم تطوي جفونها على أحزانها، لكنه في الحقيقة لا يغمض له جفن، ويظل محملقا في الظلام وخلايا رأسه تحترق بالأفكار المحمومة. وهيهات أن يدري أحد شيئا عن أحاديث الظلام، عن رعب الظلام .. عن التفكير في الهاوية التي ليس لها قرار. في الظلام تطمس معالم كل شيء إلا الموت. الموت وحده يرى بلا ضوء، وهو كالظلام لا شيء يؤخره عن ميعاده. وإذا جال بالخاطر فقد كل شيء معناه وقيمته وحقيقته. ويتساءل وهو يكاد يحس تردد أنفاس زوجته ما العمل؟ ماذا يطلب من الحياة في الأيام الباقية؟ ويجيء الجواب: كل شيء، ويجيء الجواب: لا شيء، وهنا يستوي كل شيء ولا شيء. ولكن النفس تأبى التسليم وتخشى الفراغ، فتتعلق بالأحلام. يرى أنه لم يعد زوجا ولا أبا. إنه طليق يجوب الآفاق. فوق طيارة تحلق في الفضاء، في سفينة تمخر عباب المحيطات، على مركبات لا حصر لها ولا عدد. ينطلق من غابة إلى بحيرة، ومن جبل إلى سهل، يخوض الرياض والرمال والمدن، يجوب مناطق حارة ينصهر بها الحديد، وبقاعا متجمدة تتجمد فيها النيران، ويرى من الناس أشكالا وألوانا. إن ذلك كله لا يطرد شبح الموت ولا يؤخره، ولكنه يحول الأيام الباقية إلى رحلة شائقة ومشاهد عجيبة وتسلية ساحرة. أو يرى نفسه جاريا وراء نوازعه، يتقلب بين أمواج الشهوات العاتية، وينعم بكل طيب، وينتشي بكل مذهل، ويمتع غرائزه بالمغامرة والإثارة والعربدة، بل وبالانفعالات الرهيبة والعدوان العنيف. لكنها تظل أحلاما؛ لأن الموت نفسه لم يستطع أن ينسيه أنه زوج وأنه أب وأنه بالتالي إنسان؛ لذلك تتبدد الأحلام ويبقى له السهاد، بل ويواصل عمله في الدكان، ويثوب مشتاقا إلى جلسته العائلية المحبوبة، ولكن لم يجد مفرا من الشراب، ومن مطالعة كتب الأرواح؛ سعيا وراء طمأنينة ولو تكن وهمية، وسلام ولو على غير أساس. حتى إيمانه الراسخ انهزم أمام الموت. ليس للشعر كثافة الموت وثقله. وهو يكاد يراه ويلمسه، وفظاعة التجربة حملته على دفن السر في أعماقه، على الانفراد به وحده، وعلى كتمانه عن امرأته تعيسة الحظ، فلتبق في قلق هو على أي حال أهون من اليأس، ولتمرح لولو في جو خال من الحقيقة الرهيبة.
وذهب إلى قهوة ماتاتيا على غير عادة. كان اليوم عطلة الأحد، والوقت عصرا، والفصل خريفا، فاتخذ مجلسا عند رأس المنعطف تحت البواكي. وقلب عينيه في تطلع المنتظر حتى رأى رجلا ريفيا معمما يقبل نحوه في عباءة سوداء. كان يشبهه إلى حد كبير فتعانقا، ثم جلسا حول المائدة والقادم يقول: كيف حالك يا جمعة؟ وما الحكاية؟ لم بالله ضربت لي موعدا في القهوة؟!
فقال جمعة وهو يبتسم في ارتباك: أتعبتك يا أخي، أنا آسف جدا. - ليس المجيء من القناطر بالأمر الشاق، ولكن ماذا تعني مقابلتنا في القهوة؟
وفكر جمعة قليلا فيما ينبغي أن يقول، وكان الآخر يتفحصه بعناية، فلم يمهله حتى يتكلم وقال: خلاف عائلي! يقطعني ربنا إن لم يكن الأمر كذلك، ماذا عن امرأتك؟
فقال جمعة بصوت شاحب: عصمت بخير، لا خلاف بيننا على الإطلاق! - غريبة! ولماذا لم تدعني إلى بيتك؟ - أريد أن أنفرد بك. - بعيدا عن بيتك! - بعيدا عن كل شيء!
وعاد يتفحصه مليا، ثم قال بقلق : جمعة .. أنت لست على ما يرام!
فصمت جمعة، فعاد الأخ يقول بجزع: خبر أخاك عما بك!
رفع إليه عينيه الذابلتين، وقال: أخي، أنا في مسيس الحاجة إليك، سأعترف لك بكل شيء، ويجب أن تصدقني، الحق أني سأموت في خلال أشهر قلائل!
تجمدت قسمات الشيخ، وعكست عيناه جميع صيغ الدهشة، ثم غمغم: ماذا قلت؟! مريض؟ كيف عرفت هذا؟ هل ذهبت إلى طبيب؟
Page inconnue