الدين (^١) بالموصل، وبلغه الخبر وهو بتل باشر (^٢)، فسار من ليلته طالبًا بلاد الموصل. ولما علم صلاح الدين شدة قصد العدو دمياط، أنفذ إلى البلد، وأودعه من الرجال، والأبطال والفرسان، والميرة، والآلات، والسلاح، ما أمن معه عليه، ووعد المقيمين فيه بإمدادهم بالعساكر، والآلات، وإزعاج العدو عنهم إن نزل عليهم. وبالغ في العطايا والهبات، وكان وزيرًا متحكما لا يُرد أمره في شيء. ولما رأى الفرنج عجزهم عن المسلمين؛ رحلوا خائبين خاسرين، فأحرقت مجانيقهم، ونهبت آلاتهم، وقتل منهم خلق كثير، وسلم البلد بحمد الله تعالي.
وقال العماد (^٣): أقام صلاح الدين بالقاهرة في دار ملكهـ، ومدار فلكهـ، يُنهض إليها المدد بعد المدد، ويُرسل إليها العُدد بعد العُدد، وسبق تقي الدين، ابن أخي السلطان، إلى دمياط فدخلها، وكذا شهاب الدين محمود خاله فنزلها. واتصل الحصار، وتواصلت الأنصار، ودب في الفرنج الفناء، وهب عليهم البلاء، فرحلوا عنها في الحادي والعشرين من ربيع الأول.
قال صاحب تاريخ الدولتين (^٤): وبلغني من شدة اهتمام نور الدين ﵀ بأمر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط، أنه قريء عليه جزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة الأحاديث حديث مسلسل بالتبسُّم، فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يَتَبَسَّمَ لتتم السلسلة، على ما عرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك وقال: إني لأستحي من الله تعالى أن يراني متبسمًا والمسلمون محاصرون بالفرنج. وبلغني أن إمامًا لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي ﷺ وقال له: أَعْلِم نور الدين أن الفرنج رحلوا عن دمياط في هذه الليلة، فقال: يا رسول الله ربما لا يصدقني، فاذكر لي علامة يعرفها، فقال: قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم (^٥) وقلت: يا رب انصر
_________
(^١) هو الأتابك قطب الدين مودود بن الشهيد زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل. تولى السلطنة بعد أخيه سيف الدين غازي سنة ٥٤٤ هـ/ ١١٤٩ م. وتوفي قطب الدين في شوال ٥٦٥ هـ/ يونية ١١٧٠ م. انظر ترجمته في التاريخ الباهر، ص ٩٢ - ٩٣، ص ١٩٦؛ وفيات الأعيان، ج ٤، ص ٣٨٧ - ٣٨٨.
(^٢) تل باشر: قلعة حصينة وكورة واسعة في شمالي حلب. انظر: معجم البلدان، ج ٢، ص ٨٦٤.
(^٣) انظر قول العماد في الروضتين، ج ١ ق ٢، ص ٤٥٩ حيث ينقل العينى عنه بتصرف.
(^٤) الروضتين، ج ١ ق ٢، ص ٤٥٩ - ٤٦١؛ وانظر أيضا: مفرج الكروب، ج ١، ص ١٨٢.
(^٥) تل حارم: حصن حصين وكورة جليلة تجاه أنطاكية. انظر: معجم البلدان، ج ٢، ص ١٨٤. وعن الواقعة التي جرت في قلعة حارم، انظر: التاريخ الباهر، ص ١٢٥ - ١٢٦.
1 / 36