ومع كل هذا فإن لفلسفة نيتشه أوجها عديدة تتعارض بوضوح مع النازية، ومن المستحيل أن يعد مسئولا عن جميع الآثام التي ارتكبت باسمه؛ فهو قطعا لم يكن من المعجبين، ب «الروح» الألمانية أو القومية الألمانية. ورغم أنه كان من أنصار السلطة المفروضة،
1
فقد عارض عقيدة تسلط الدولة، وكان ينظر إلى نفسه دائما على أنه «أوروبي صالح»، على عكس معظم معاصريه من الألمان. وكان يبغض «أخلاق العبيد»، التي اعتقد أن أصلها يرجع إلى الشعب اليهودي. ولكن هذا هو الأساس الحقيقي لكراهيته المزعومة للسامية. وكان يعجب كثيرا ب «الرجال العظماء» مثل نابليون، ولكن السبب الرئيسي لهذا الإعجاب هو أنه كان يرى فيه رمزا رومانتيكيا للوثوق الباطن من الذات، ولحرية العمل الخارجية، في عصر كان فيه الوثوق والحرية يتزايدان استحالة. وفضلا عن ذلك فإني مقتنع بأن مثله الأعلى «الإنسان الأرقى»، هو أقرب إلى الفنان المبدع أو النبي الديني منه إلى باني الإمبراطوريات.
وقد ظهرت منذ الحرب العالمية الأخيرة موجة أخرى من الاهتمام بفلسفة نيتشه، صدرت من جهات أكثر عطفا عليه. ومنذ ظهور الوجودية أصبح من الشائع تمجيده، هو وكيركجورد، بوصفه واحدا من أهم الممهدين لهذه الفلسفة المفرطة في نزعتها الفردية. وهكذا ينمو الآن اتجاه أقوى ميلا إلى تفكير نيتشه. وقد أخذت وجهة النظر هذه تستعيض عن الصورة التي كانت مرسومة له، وهي صورة آكل النار الذي يفتقر إلى النضج والتوازن، والذي استخدم قلمه بديلا لسيف عجز عن حمله، بصورة أخرى يظهر فيها منعزلا مغتربا، يشغل سخف حياة الإنسان كل تفكيره، ويشعر على نحو أعمق من أي من معاصريه بأنه يعيش «في نهاية العالم». وهنا أيضا يطلب إلينا أن نعده أول فيلسوف، منذ هيوم، أدرك «في قرارة نفسه» عدم وجود ارتباطات ضرورية بين الأمور المنتمية إلى مجال الواقع، وواجه بحسه وعقله الحقيقة القائلة إن الوجود حافل بالسخف والامتناع.
وقد كثر الحديث في هذه الأيام عن قدرة نيتشه في ميدان «علم النفس المتعمق»؛ فقد اعترف نيتشه، مثل شوبنهور، الذي كان له تأثير عظيم في تفكيره، بمدى ضآلة الدور الذي يقوم به الاختيار الواعي والتفكير الواقعي في تحديد الأفعال البشرية. كما أدرك مدى تحكم تجارب الخيبة والقلق العميقة الغور، والتي لا يشعر بها الفرد عادة، في اتجاهاته الأيديولوجية، الدينية منها والسياسة. وعرف نيتشه، على نحو أفضل كثيرا من أي مفكر سبقه، تلك الطرق التي لا تعد ولا تحصى، التي يمكن بها استخدام الرموز الانفعالية في التحكم في الاتجاهات البشرية وتسييرها. بل إنه كان أكثر فلاسفة القرن التاسع عشر إدراكا للخطر الكامن في حياة العقل، وللأقنعة الرمزية الهائلة العدد التي يمكن أن يرتديها اللاعقل. وإذا بدا أحيانا أنه يقع في حب كشوفه الخاصة، ويجد لذة غير مألوفة في إبداء احتقاره لمخلوق يمكن أن تخدعه انفعالاته على أنحاء شتى إلى هذا الحد، فإنه إنما يكشف في سلوكه عن بعض الصفات التي قد تساعدنا فلسفته ذاتها على فهمها؛ فالواقع أن نيتشه ذاته كان ضحية تعسة لبعض من تلك العلل النفسية والاجتماعية التي فعل هو ذاته الكثير للكشف عنها. والعجيب في الأمر أنه، مع مرضه، قد استطاع الغوص إلى مثل هذا العمق من وراء الأقنعة التي يستخدمها الناس لإخفاء وحدتهم وخيبتهم.
ولم ينجح نيتشه أبدا في وضع مذهب فلسفي؛ ولذا يبدو أن من الخطأ في نظري أن نحاول وصف فلسفته المعقدة الغامضة بالطريقة المعتادة، وعلى ذلك فسوف أتبع طريقة مختلفة إلى حد ما في تحديد معالم هذه الفلسفة؛ فسوف أبدأ بإجراء عدد من المقارنات بين نيتشه وبين الفلاسفة الآخرين الذين بحثناهم، حتى أوضح بعضا من السمات البارزة لطريقة تفكيره، ثم أخلص من ذلك إلى بعض الملاحظات العامة حول موقعه الفلسفي التاريخي.
ولنبدأ أولا بمقارنته بهيجل؛ ففي كلتا الحالتين نجد الأسلوب دالا على الفيلسوف. ولو أجرينا مقارنة سطحية، لبدا أنهما على طرفي نقيض. فإذا كانت هناك كلمة واحدة تصف أسلوب هيجل، فهي أنه «معتم»؛ إذ رفض مذهب ديكارت في «الأفكار الواضحة والمتميزة»، ولم يثق بقدرة اللغة المعتادة على التعبير عن أفكاره، فكتب بطريقة ثقيلة مركزة، محملة بالمصطلحات وبالعبارات الوصفية التي كثيرا ما تعقد أفكاره دون أن تلقي عليها مع ذلك مزيدا من الضوء. أما نيتشه، فيكتب بطريقة تختلف تماما عن طريقة «الفيلسوف المدرسي»؛ فهو أستاذ في استخدام اللغة المعتادة للتعبير عن كل ما يريد قوله. وهو يتحدث بأسلوب صادق غير متكلف، وفي فقرات منفصلة، وتحتشد مؤلفاته باستعارات وتشبيهات رائعة يبدو أن دلالتها تزداد، بطريقة غامضة، كلما أمعن المرء تفكيره فيها. وهو، مثل هيجل، أستاذ في التهكم والمعارضة. ولكن إذا كانت معانيه الكامنة بدورها بعيدة المنال، فإن الوجه الظاهر من نثره، على خلاف هيجل، واضح إلى أبعد حد. وحيثما يتحدث هيجل بطريقة لا شخصية و«موضوعية» إلى حد يكاد يكون مضحكا، فيخفي ذاته من وراء قناع من المعرفة التاريخية الشاملة، نجد نيتشه يتحدث دائما عن نفسه ويمجد ذاتيته. ولقد كان «حسه التاريخي» مرهفا بقدر ما كان حس هيجل على الأقل، ولكنه اتصف بميزة استثنائية لم تتوافر لهيجل، وهي تطبيق هذا الحس التاريخي على نفسه؛ فهو لا ينسى أبدا، ولا يدع قراءه ينسون موقعه التاريخي المتأرجح الغامض. وهو أيضا يدرك بوضوح نقط الضعف في الحس التاريخي، كميله مثلا إلى الاستعاضة عن الاختيار والمسئولية الأخلاقيين بنوع من التمثيل الخيالي للأفعال الماضية، وهروبه من المصير الوجودي للحياة البشرية، وانحلاله. وأخيرا، فإن نيتشه، على خلاف هيجل، ليس فيلسوفا فحسب، بل إن كتابه «هكذا تكلم زرادشت» من أعظم الأشعار الفلسفية في الأدب الغربي.
ولقد كان موقف نيتشه المعقد من المسيحية والمسيح حافلا بالتضارب مثله في ذلك مثل هيجل؛ فقد تمكن هيجل، كما رأينا، من القيام بنوع من التوفيق الروحي مع المسيحية عن طريق تفسيره التاريخي والرمزي الخاص لها. أما نيتشه فلم يكن في ذهنه مكان لروحية هيجل شبه المسيحية. حقا إن هيجل قال إن «الله قد مات»، ولكن نيتشه كان يؤمن بذلك؛ فإلحاده كان عقليا وعاطفيا؛ فليس الله غير موجود فحسب، بل إنه قد مات. وهكذا يتساءل زرادشت بلسانه : «إن كان ثمة آلهة، فكيف كنت أطيق ألا أكون إلها؟ لذلك، فليس ثمة آلهة.» غير أن رفض نيتشه للمسيحية لا يستتبع إنكار وجود الله فحسب، وإنما هو يعارض بعنف المسيحية التاريخية، التي يعتقد أنها عممت أخلاق العبيد الموروثة عن اليهود، ووقفت في جميع المراحل حجر عثرة في وجه التنوير العقلي والحرية الروحية.
ولقد قيل إن نيتشه لم يعد نفسه معاديا للمسيح بقدر ما عد نفسه معاديا للمسيحية، وإن عدوه الحقيقي هو بولس، الذي جعل من سيده معلما، وأحال أساطيره الطريفة إلى لاهوت منظم. وهكذا قيل إن ما كان نيتشه يعترض عليه بحق، هي أخلاق الخدمة الداعية إلى الطبية، والتواضع الكاذب والإحسان اللذان يتوجان بوصفهما أعلى الفضائل المسيحية؛ فهي مليئة بالمتناقضات الغريبة، وتنادي بأن خلاص البشر لا يتحقق إلا بالعزوف والتضحية والعذاب. وهنا يبدو نيتشه في صورة شخص يقسو لكي يكون رحيما، ولا هدف له إلا طرد تجار المال والمنافقين من المعبد، وقتل أفعوانات التكاسل الروحي، والتهاون، والجري السوقي وراء اللذة، كما فعل المسيح ذاته. بل إن في وسعنا أن نمضي خطوة أخرى أبعد من ذلك، ونصف فكرة العود الأبدي، التي قال بها نيتشه، بأنها لا تعدو أن تكون تحويرا طفيف الاختلاف لفكرتي التجسد والبعث المسيحيتين.
هذا كله ممكن، ولكنه لا ينبغي أن يدفعنا إلى إنكار بغض نيتشه للمسيحية وجميع ثمارها الروحية. ولست أعتقد أن معارضة نيتشه للمسيحية كانت أخلاقية فحسب، كما قال برتراند رسل. إنها أخلاقية قطعا، ولكنها تتجاوز ذلك بكثير؛ فمن وراء حملته على أخلاق الحب الأخوي، ومن وراء عدم إيمانه بالمسيح بوصفه مخلصا، يكمن عدم إيمانه، من حيث هو فيلسوف، بوجود إله متجسد يدخل، على نحو يحتشد بالتناقض، في مجرى التاريخ، ويتدخل في مصائر البشر ويتحكم فيها، ويضمن للناس بعث أجسادهم في الآخرة. وهنا أيضا يقول زرادشت: «إني لأبتهل إليكم، أيها الأخوة، أن تظلوا مخلصين للأرض، وألا تصدقوا من يحدثكم عن آمال تعلو على الأرض! إنهم ينفثون السم، سواء أكانوا يعلمون ذلك أم لا يعلمونه.»
Page inconnue