À dessein... Écoute et tu entendras

Youssef Idriss d. 1412 AH
63

À dessein... Écoute et tu entendras

عن عمد … اسمع تسمع‎

Genres

أمسكت بالخطاب بعد قراءته وأنا حائر فعلا. لقد كنت جهزت نفسي عقليا ووجدانيا لمعالجة قضية من أخطر قضايا مجتمعنا، وإذا بهذا الخطاب القادم لا يعنيه أبدا ما أبديه من آراء، وإنما مشكلته الكبرى هي هذا السؤال الذي ليس أول سؤال، ولكن الأسئلة الأخرى على الأقل كانت تلقى علي شفويا. أما أن يجشم قارئ أو قارئة نفسه عناء الجلوس إلى مكتب وتدبيج خطاب طويل عريض يسأل تحريريا هذه المرة عن كنه ديانتي، فتلك مسألة أخرى في حاجة إلى وقفة، بل إن هذا التساؤل السطحي بدأ يتشابك في عقلي ويتعانق إلى أن وجدت نفسي في قلب مشكلة التعليم دون أن أدري. سأفعل كما تفعل أجاثا كريستي وسأبقي الإجابة إلى النهاية، عسى هؤلاء الذين وصل بهم الوضع التعليمي والثقافي إلى هذا الحد يتابعون معي ومع غيرهم من القراء «حكاية» التعليم في مصر. •••

الحكاية أصلها ثابت وفرعها في السماء. إن التعليم هو: تلميذ يريد المعرفة، وأستاذ لديه المعرفة، ومكان يجمعهما ومع الآخرين ليصبحا في النهاية مدرسة أو جامعة أو دراسات عليا دقيقة التخصص.

إلى أن تخرجت أنا في الجامعة في الخمسينات وربما بعدها بقليل، لم تكن هناك مشكلة تعليم في مصر. كانت هناك بالطبع مشاكل للتعليم، ولكن لم تكن هناك «مشكلة» تربية وتعليم عويصة ورهيبة، وكالأمراض الخبيثة وصلت إلى داء الحلقة المفرغة التي ربما استغرقت أجيالا لحلها أو الخروج منها.

كان حجم وزارة التربية والتعليم مساويا لعدد القادرين على التعليم، أو بالضبط مجتمع ال 5٪ كما أطلقت عليه ثورة يوليو.

وجاءت ثورة يوليو، ومصر الاقتصاد الأجنبي، ثم ما لبث أن أمم هو الاقتصاد المصري بالمرة، واندفعت إلى الطبقة المتوسطة كميات هائلة من رصيد المعدمين حتى وصلنا بعد قرارات التأميم في يوليو وبعد أن بدأ فعل الثورة عمله في رج المجتمع المصري رجا عنيفا، إلى أن وصل عدد القادرين على التعليم إلى عشرة أضعاف.

المكون الثاني للمعادلة «المدرس»، وتمشيا مع سياسة تصدير التعليم والمدرس المصري إلى كل أشقائنا العرب نقص عدده بدرجة كبيرة، ليس هذا فقط، وإنما أن مستواه «الكيفي» قد قل بدرجة خطيرة.

المكون الثالث للمعادلة «المدرسة»، صحيح أنشئت مدارس كثيرة، أنشئت جامعات أكثر - ست جامعات - ولكن هل الاتساع الأفقي هذا كان متناسبا مع الأعداد الأكبر من الطلبة؟ أي هل وصل عدد المدارس إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل الثورة؟ قبل الثورة كانت هناك جامعتان ونصف «النصف هو بداية تكوين جامعة عين شمس»، مفروض أن يكون عدد جامعاتنا الآن خمسا وعشرين جامعة، ولكنها «كلها على بعضها» الآن تسع جامعات.

وليس هذا هو المهم، المهم أن عدد التلاميذ له أن يتضاعف ويتكاثر إن شاء له الهوى، ولكن لا بد ليكون التعليم تعليما - أو على الأقل للوصول إلى الحد الأدنى من التعليم - أن تقابل هذه الزيادة بزيادة كيفية وكمية لعدد المدرسين والأساتذة. وما حدث كان العكس تماما، فالمدارس الابتدائية عندنا تشكو من نقص هائل في عدد المدرسين المثقفين تربويا، بل نحن نعهد بالتعليم الابتدائي إلى أقل المدرسين تعليما وكفاءة. •••

والنتيجة هي ما نراه الآن؛ وضع يكاد يشبه لوحات الرسم العبثية، أعداد رهيبة من خريجي جامعات لا معنى لتعليمهم الجامعي بالمرة حيث يعهد إليهم بأعمال بعيدة كل البعد عما درسوه، نقص شديد في العمالة اليدوية والحرفية، ولا أقول التكنولوجية والصناعية. تصوروا رغم تعدادنا الهائل هذا نشكو عجزا رهيبا في عدد السمكرية والكوائين والنجارين وبالذات نجارو البناء ونجارو الباب والشباك.

إن المثل الذي يقول إن الشيء إذا زد عن حده انقلب إلى ضده لا ينطبق على شيء بقدر ما ينطبق على التعليم في مصر؛ فبدلا من أن تأتي الثورة بعقول وأناس أكفاء يضعون في الخمسينات سياسة طويلة المدى لمصر الثورة التي تريد أن تتطور بسرعة قصوى، ولا بد لكي تحقق أهدافها الستة التي قامت من أجلها أن يكون التعليم - والتعليم على أرقى مستوى - هو وسيلتها للوصول إلى ذلك. جاءت بضابط شاب انتهز فرصة ركوع بعض أساتذة الجامعة وبعض المسئولين عن التعليم لرغباته وتخبطاته، لا أقول وضع سياسة، وإنما جعل من كلمة طه حسين «التعليم ضروري كالماء والهواء ولكافة فئات الشعب» أصبح ليس المهم عنده هو نوع التعليم وضرورة أن يكون كالماء والهواء فعلا؛ الماء النقي والهواء النقي، وليس التجهيل وحتمية أن يؤدي إلى ماء ملوث وهواء خانق سام. لم تضع الثورة إذن «سياسة» للتعليم، لم تحاول أن تفهم ما تحدثه هي في المجتمع من دفع بأعداد هائلة إلى فئة القادرين وضرورة أن تعد لهذه الأعداد وما يتلوها الفرصة لتعليم ولعلاج ولرعاية، المفروض في الثورات كلها أن يكون الهدف من قيامها أولا وأخيرا الإنسان والأخذ بيده ورفع مستواه حضاريا وفكريا وثقافيا ... •••

Page inconnue