فإنها لتجتمع كلها في فرق واحد يغني من وعاه عن كل تفرقة بعدها، مسهبة كانت أو مقتضبة، وهو الفرق بين قوم ضيعوا كل ثقة في النصر، وقوم ضيعوا كل شك فيه وآمنوا بحقهم في النصر كل إيمان.
ضاعت ثقة هرقل في نفسه، وضاعت ثقة الروم في صلاحهم للحكم، وضاعت ثقة الأعوان في صلاح العاهل والدولة، ولم تبق لهم إلا بقية من تمسك يقيمها الخوف من عقاب الرؤساء، ويوشك أن يذهب بها خوف أعظم منه وهو الخوف من بأس المغيرين!
ومن الجانب الآخر ملك العرب كل ثقة بالنصر وكل إيمان بحقهم فيه، واطمأنوا إلى خليفة قوي، وقائد قوي، وصبر قوي على كل بلاء! وعلم عدوهم هذا منهم فوصفهم بعد رؤية وخبرة بأنهم «قوم الموت أحب إليهم من الحياة! والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة! ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة!»
ومع هذا الفارق الذي هو خلاصة جميع الفوارق، لم تكن الثقة وحدها هي العدة التي رجح بها العرب وانخذل بها الروم، بل ظهر من تقابل الفريقين في شتى المعارك أن العرب كانوا أخبر بفنون القتال - ولا سيما في المفاجأة - من قادة الروم الذين كلوا وكلت عقولهم بالإهمال والاستنامة إلى الترف والغرور.
فقد كان عمرو يوجه خطط القتال كما يشاء منذ تخطى الحدود وأوغل في جوف البلاد، وكان يضطر أعداءه إلى تبديل خططهم وتحويل معسكراتهم كلما تحرك في الشمال أو الجنوب حركة مفاجئة لا يدرون ما يعقبها، فبينما هم يتجمعون في الفيوم إذا هو يزحف إلى منف شمالا، ويوهمهم أنه موغل في الجنوب إلى تخوم النوبة، وقد أعانه على المفاجأة خفة العدة وقلة الزاد وسرعة الخيل العربية في سهول الريف ورمال الصحراء، ومن هذه المفاجآت البارعة تلك المفاجأة التي دهم بها الروم عند الجبل الأحمر، وفقدوا بها جيشا يقارب عشرين ألفا لم يبق منه إلا بضع مئات، وكان قائدهم «ثيودور» قد خرج للقاء عمرو عند عين شمس، فاستعد له عمرو بقلب جيشه، وأقام من جناحيه كمينا عند الجبل الذي يلي المكان المعروف بالعباسية الآن، وكمينا آخر عند «أم دنين» حيث قامت الأزبكية الحديثة، واستمر القتال بين الجيشين، والروم يحسبون أنهم يواجهون الجيش العربي كله، ويستنفدون الجهد أجمع في الغلبة عليه، فما راعهم إلا الجيشان الكمينان ينقضان على حين غرة، فيبتعد الأمل القريب ويدب اليأس في مكانه إلى القلوب، ويرجع القوم بثلاثمائة مشردين من ألوف ربما تجاوزت العشرين!
وكلما خطر للروم أن يأخذوا العرب بحيلتهم ويرتدوا عليهم بمفاجأة من مفاجآتهم، حبطت الحيلة في أيديهم ووجدوا العرب أيقاظا لهم كأنهم كانوا على علم بنياتهم ومكائدهم، فما خرجوا من معاقلهم المحصورة في ليل ولا نهار ليدهموا العرب على غرة، إلا تجمعت لهم أهبة الجيش كله في لحظات معدودات، فإذا هم المأخوذون بما دبروه، كأنهم سيقوا على كره منهم إلى شرك منصوب.
فالعرب لم ينتصروا اتفاقا ولا جزافا، ولكنهم انتصروا بخير ما يكفل النصر للمجاهدين: بالثقة والخبرة، ثم بشيء آخر يعين الثقة والخبرة أيما عون في الميادين البعيدة عن ديار المعسكرين المقاتلين، وهو اطمئنان العرب إلى أهل البلاد من حيث خشيهم الروم وتوقعوا منهم كل مكروه؛ لأن العداء بين المذهب الملكي - وهو مذهب الروم - والمذهب اليعقوبي - وهو مذهب القبط - لم يدع مكانا لتوفيق بين الكنيستين، ولم يبق في النفوس بقية للرحمة ولا للصلح والهوادة، وبلغ من لدد هذا العداء أن الروم أمهلوا ثلاثة أيام للخروج من حصن بابليون، فقضوا يوما منها في تعذيب القبط وتقطيع أيديهم وأرجلهم ليتركوهم في حالة لا يفرغون فيها لشماتة بعدوهم المهزوم.
نعم، إن التضارب كثير فيما كان من موقف القبط بين حكامهم الروم، وبين المسلمين المغيرين على أرضهم، ولكنه تضارب لا غرابة فيه، ولا موجب لاتخاذه دليلا على كذب الأخبار في جملتها، ولا لتقييد المؤرخ بترجيح قول منها على قول؛ فإن التضارب حالة لا محيص عنها في الموقف كله، وفي أقوال المؤرخين الذين كتبوا عنه بعد زمن طويل أو قصير.
فكراهة القبط للروم ثابتة لا جدال فيها ولا يتطرق الشك إليها، فإذا جاء في بعض التواريخ أنهم أظهروا المودة للعرب، وجاء في تواريخ أخرى أنهم لبثوا على موالاة الروم إلى ما بعد الهزيمة الحاسمة، فليس سبب ذلك أنهم أحبوا أولئك وكرهوا هؤلاء، ولكنما السبب أنهم ترقبوا جلاء الموقف بين الجيشين المقاتلين، وأنهم كانوا يعملون متفرقين، لامتلاء البلاد بالمعسكرات التي تقطع الصلة بين أجزائها، فيكون قوم منهم على مقربة من جند الروم تارة ومن جند العرب تارة أخرى، ويكون الأقوام المتفرقون على نية متشابهة وأعمال متخالفة على حسب الحوائل والأحوال.
وعلينا أن نترقب تضاربا كهذا في أكثر الأخبار التي تصل إلينا عن فترة الفتح، وعن حركات الجيوش ومفاوضات الصلح في خلالها.
Page inconnue