وكان فتى يعقل الدنيا يوم أغار القائد الروماني نقتاس على الديار المصرية من المغرب، بجيش لا تزيد عدته على ثلاثة آلاف منهم البدو والسودان، ففتحت له الثغور والمدائن بمواطأة من أهل البلاد، ومن بعض الرومان الناقمين على عاهل القسطنطينية.
وكان يزور بيت المقدس ويصغي إلى حجاجه ورهبانه المقيمين فيه، فيسمع أخبارا تنم على ما في مصر من قلق الرعية، وضعف الرعاة، واستفحال الشقاق بين طوائف النصارى، وغضب المصريين من الروم، سواء منهم الموافقون لهم في المذهب والمخالفون.
وكان يلقى اليهود في وادي الأردن وكلهم مغيظ من الدولة الرومانية، لما أصابهم على يديها من الذبح والنهب والتشريد، وفيهم من هو أعلم بمصر وبمداخلها وبمخارجها ومواقع الخلل فيها من حكامها الرومان.
وحضر غزوات الشام وسمع بغزوات العراق، فعلم أن جيوش الإسلام على قلتها قد غلبت الفرس وغلبت من غلبوهم في النضال الأخير: غلبت هرقل وهو في أوج مجده، فما أحراها أن تغلبه وهو مهيض بعد هزائم الشام وفلسطين، وقد شاخ وغامت على عقله الوساوس وحاقت به الدسائس، وتلكأ زمنا بين الحياة والموت! ...
فإن لم يكن عمرو قد علم هذا تفصيلا، فقد علمه جملة وافية، علمه بالقدر الصحيح الذي يتيح له أن يقول للخليفة: إنه يقدم على فتح بلد «ليس أقل منه قوة، ولا أعظم منه ثروة».
ولو أنه علم تفصيل الحوادث التاريخية كما علمناها اليوم، لكان ذلك أحرى أن يزيده إقداما، وأن يلهب من شوقه إلى الفتح ما يرسله في سبيله قدما، قليل المبالاة بكل تحذير وتهويل!
لأنه كان أحرى أن يعلم أن أهل البلاد يرحبون به، وإن لم يرحبوا بالفرس من قبله؛ لأن الفرس الرهبان والقسوس في طريقهم إلى مصر، ولم يكن من عادة جيوش المسلمين أن يقتلوا أحدا من الرهبان والقسوس؛ ولأنه يسلك طريقا بدويا يستطيعه البدو، واستطاعوه في قديم ولا يزال سكانه منذ عرفه التاريخ بدوا يشعرون بعصبية القرابة لهذا الفاتح الجديد.
ولأن الروم أنفسهم كانوا قد فقدوا عزيمة القتال، بل فقدوا ما هو ألزم من ذلك للمقاتل، وهو إيمانه بحقه في النصر وبرضوان الله عليه؛ فقد كان إيمان الروم الغالب عليهم في معارك الشام أنهم استحقوا غضب الله، وأن العرب لهم سوط العذاب الذي يصبه الله على عباده الواقعين في الخطيئة، وصاح بينهم بهذا النذير صائح مسموع الكلمة في مؤتمر أنطاكية الذي اجتمع إليه كبارهم وأحبارهم، فقال لهم - وهرقل يسمع: إن الروم ليلقون من الله جزاء العصاة! وربما كان هرقل نفسه يشعر بذلك الشعور؛ لأنه كان في شيخوخته دائم الندم معذبا بوسواس الخطيئة، لبنائه ببنت أخته «مرتينة»، بعد علاقة بينه وبينها وهو إثم محرم في دينه!
ولا نخال عمرا قد غفل عن استطلاع البلاد المصرية برسل من عنده، أو بالاستماع إلى أناس يغنونه عن الرسل، فعلم أن الحصون مهملة، وأن الدساكر معطلة وأن الجنود المفرقين هنا وهناك يدفعون عن معاقلهم في وهن ويأس من المصير، ويعيشون بين شعب يبغضهم ويتمنى لهم الهلاك والضياع، ويجهر بعدائهم ومشايعة أعدائهم، إذا أمن عاقبة الجهر بالعداء، ورجح عنده الأمل في غلبة المغير عليهم! وأي عدو هو أولى بالأمل في غلبته من غزاة العرب الذين صدوا الأكاسرة والقياصرة، واقتحموا عليهم عقر دارهم وهم مجلبون إليهم من قرار سحيق؟ فإذا أصبح لهؤلاء العرب مقام محمي في تخوم مصر وعلى مداخلها، أيشق عليهم إذن أن ينتزعوا مصر من هرقل وليس فيها غير ظل له بعيد؟ •••
تقدم العرب إلى الديار المصرية، وبينهم وبين عدوهم فروق كثيرة في العدد والعدة والحضارة والعقيدة، من الفضول أن نعرض لحصرها في هذا المقام، ومن الإسهاب في غير موضعه أن نتتبع أصولها ونتعقب فروعها في تاريخ الأمتين.
Page inconnue