فقلت له ببرود: إنها كما ترى من أصل شعبي، وما كانت تحلم بالعرش، ولن تجازف أبدا بإغضاب زوجها الملك!
وقد ساءلت نفسي: ترى أكانت نفرتيتي ترضى بالأمير زوجا لو لم يكن وليا للعهد؟! الحق أنه لا يمكن أن يكون فارس أحلام أي فتاة ولو كانت فلاحة ساذجة. وقد ازداد الأمير بعد الزواج تحديا للتقاليد. وعلمت متأخرا بعض الوقت بادعاءاته الغريبة عن تجلي إلهه له وسماع صوته، ورأيت المستقبل يتسربل بليل بهيم. وبازدياد التوتر غضب الملك أمنحتب الثالث وأمر بإرساله لزيارة الإمبراطورية. •••
هنا حدثني بإسهاب عن مناقشاته الدينية، واتصاله بالرعايا، وتبشيره بالمساواة والحب والدين الجديد دون إضافة جديدة إلى ما حدثني به الحكيم آي. •••
وقال معلقا على الأحداث: ولأول مرة، ورغم الصداقة والولاء، تمنيت أن أقتله بسيفي قبل أن يجلب علينا الخراب. والحق أني تمنيت قتله دون أن أضمر له أي شعور بالكراهية. ومات أمنحتب الثالث، واستدعي الأمير للجلوس على عرش تحتمس الثالث. وتولى العرش، ودعا الرجال واحدا في إثر واحد ليعرض عليهم دينه. ولما جاء دوري قال لي: لا بد من إعلان الإيمان بالإله الواحد لمن شاء أن يتعاون معي يا حور محب.
وبصراحتي المعهودة قلت له: مولاي، موقفي من الآلهة معروف لديكم، ولكني رجل الواجب وخادم العرش، وإني أعلن إيماني بالإله الواحد إخلاصا لعرشك وخدمة لوطني ...
فقال باسما: حسبي ذلك الآن، لا أحب أن يخلو قصري منك يا حور محب، وسوف تتلقى رحمة الإيمان ذات يوم.
وبدأت حياة جديدة في خدمة ملك جديد وإله جديد، وبإخلاص كامل غريب؛ لأنه استند إلى الإيمان بالواجب وحده دون غيره. ولكن لا مفر من الاعتراف بأن الملك تكشف عن قوى خفية لم أعرفها فيه من قبل. رغم الضعف الجسدي والأنوثة الخلقية، انطلقت منه عزيمة متحدية مثل ألسنة اللهب لا تدري من أي مجهول استعارها، ناضل بها أقوى الرجال وهم الكهنة، وحطم بها التقاليد العريقة الراسخة والسحر والتعاويذ. وتكشفت نفرتيتي عن ملكة كأنما لم تخلق إلا كي تكون ملكة عظمى مثل تيى وحتشبسوت ، فكانت هي المدبرة لشئون الملك على حين تفرغ هو لرسالته. بيد أنها بدت لي - وللجميع - مؤمنة بالدين الجديد إيمانا فاق للأسف كل تصور. والحق لقد قيل عن هذه المرأة كل ما يمكن أن يقال، وأنا أكره شخصيا ترديد ما يقال عن الأمور الشخصية، ومع ذلك فإن إيمانها يبقى لغزا يطلب حلا. أحيانا لم أشك في صدقها، وأحيانا أخرى ساورتني شكوك. هل تتظاهر بالإيمان محافظة على مركزها الرفيع؟ هل تشجعه عليه لتستأثر وحدها بشئون الأرض والرعايا؟ أكان لأبيها في ذلك دور خفي لعبه بيد ابنته؟ وقد حاول الكهنة أن يبصروها بالعواقب، ولكنها خيبت رجاءهم، فصبوا عليها مقتهم حتى هذه الساعة. إنهم آمنوا بضعف إخناتون، ولم يتصوروا به قدرة على التحدي أو النضال أو الابتكار؛ من أجل ذلك اتهموا أمه تيى بأنها خالقة أفكاره، كما اتهموا نفرتيتي بأنها سر عناده وصلابته، وهي صورة خاطئة. لك أن تدين الجميع، ولكن لا شك أن جميع الخزعبلات قد خرجت من رأس إخناتون نفسه. وبالانتقال إلى العاصمة الجديدة أخت آتون أعلن الملك حربه على جميع الآلهة، وانغمس في التبشير لدينه في جميع الأقاليم. وهادنتنا أيام نصر وسعادة ورخاء حتى خيل إلي أن هذا الشاب المتهافت قد قيض له أن يقوض بنيان الدنيا، وأنه يعيد بناءه من جديد على مثال من صنعه وتخطيطه. تابعت غزواته للأقاليم، واستقبال الجموع له بانبهار. آنست في الجو قوة من نوع جديد تمارس بجدارة مذهلة، ولكنني لم أخل أبدا من شك في العالم الجديد الذي يتخلق فيما يشبه الاكتساح. أيصمد هذا العالم للزمن؟ هل يمكن أن تتوازن الأمور على سنة الحب والسلام والسرور؟! وأين تذهب حقائق الحياة وتجاربها؟ وقالت لي نفرتيتي مرة وهي قارئة للأفكار: إنه ملهم، ولن يخذله إلهه الذي أغدق عليه حبه، وسيكون النصر لنا ...
وانفردت يوما بالوزير ناخت في مجلس صفو وشراب، وكنت وما زلت مؤمنا بمقدرته السياسية، فسألته: أتؤمن حقا بالإله الواحد؛ إله الحب والسلام؟
فقال بهدوء: نعم، ولكني لست مع مصادرة الآلهة الأخرى.
فقلت بارتياح: حل وسط ، ألم تشر عليه به؟ - بلى، ولكنه يعتبره كفرا. - ونفرتيتي؟
Page inconnue