أيجوز أن أكذب الكاذبين، بأمر الدين وبغير أمر الدين، يشتهر بأنه أصدق الصادقين؟
تصديق هذا غفلة أدعى إلى السخرية من كل غفلة! ولا سيما إذا لجأ الإنسان إليها فرارا من القول بأن إماما شبيها بالأنبياء يصوم أيامه ويعود مرضاه ويعطي مسكينا كسرة من الخبز، وهو قد أعطى الألوف وأنقذ المعسرين وضمن من ليس له ضمان.
وعلى هذا النحو نتوخى التصحيح والترجيح فيما نأخذ به من أوصاف هؤلاء العظماء. أقرب المقاييس إلينا أن يكون تكذيب الوصف أصعب من تصديقه في تقدير العقل والبديهة، وفيما نعهده اليوم من حقائق هذه الأوصاف.
وكذلك أوصاف الصديق كما نقلها الناقلون وكما يفهمها اليوم الفاهمون، فإن الأقدمين ذكروا أوصافا متفرقة لم يقصدوا أن نجمعها نحن، ولا قصدوا بعد جمعها أن نعرضها على علم النفس ووقائع الحياة، كما وضحت لنا بمصباح العلم الحديث.
ولكننا جمعنا تلك الأوصاف وعرضناها على علم النفس فوجدنا بينها ذلك التناسب الذي يقضي بتصديقها، وينفي الظنة عن استقامتها في جملتها.
فأبو بكر كما وصفوه رجل لا محالة من أصلاء المزاج العصبي النابتين في منبت الشرف والمروءة، وقد قالوا: إنه كان يجود بماله، ومثل هذا الرجل خليق أن يجود بماله، وقالوا: إنه يحتد ويعطف، ومثل هذا الرجل معهود في حدته وعطفه، وقالوا: إنه يروض نفسه على السمت والكرم، ومثل هذا الرجل لا يستغني عن هذه الرياضة ولا يعجز عنها، وقالوا: إنه يشتد في اعتقاده، وليس فيما شهدناه وخبرناه أشد من اعتقاد مثله.
قالوا ذلك فلم يقولوا عجبا ولم يقل أحد ما ينقضه وينفيه وله حجة فيه.
فإذا كانت للعقل أمانة فالأمانة في تقرير هذه الأوصاف كما فهمناها بالاستقراء وكما رواها الرواة في مجمل الأنباء، وإذا كانت للعقل مهانة فمهانة العقل أن نعطله عن فهم حقيقة ماثلة، لغير شيء من الأشياء.
الفصل الرابع
مفتاح شخصيته
Page inconnue