فلما أقبل عليهم خالد وعلموا أن بني سليم معه لبسوا السلاح وركبوا للحرب وأبوا النزول، فسألهم: أمسلمون أنتم؟ فقيل إن بعضهم أجابه: نعم! وبعضهم أجابه: صبأنا! صبأنا! أي تركنا عبادة الأصنام، ثم سألهم: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوهم فأخذنا السلاح، فناداهم: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا، فصاح بهم رجل منهم يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبدا. فما زالوا به حتى نزع سلاحه فيمن نزع وتفرق الآخرون. فأمر خالد بهم فكتفوا وعرضهم على السيف، فأطاعه في قتلهم بنو سليم ومن معه من الأعراب، وأنكر عليه الأنصار والمهاجرون أن يقتل أحدا غير مأمور من النبي
صلى الله عليه وسلم
بالقتال، ثم انتهى الخبر إلى النبي فرفع يديه إلى السماء وقال ثلاثا: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد»، وبعث بعلي بن أبي طالب إلى بني جذيمة فودى دماءهم وما أصيب من أموالهم ... قيل إنه «كان يدي حتى ميلغة الكلب» ويسألهم: أبقي دم أو مال لم يود لكم؟ فلما اكتفوا ورضوا فرق بينهم بقية المال «احتياطا لرسول الله» وقد سأل رسول الله فتى من جذيمة انفلت إليه لينبئه نبأ خالد مع آله وذويه: هل أنكر عليه أحد؟! قال: نعم، قد أنكر عليه رجل أصفر ربعة ، ورجل طويل أحمر، فاشتدت مراجعتهما. وكان عمر بن الخطاب بمجلس رسول الله، فقال: أما الأول يا رسول الله فابنى عبد الله، وأما الآخر فسالم ... مولى بني حذيفة ...
ويعزى إلى خالد أنه استند في قتالهم إلى قول عبد الله بن حذافة: «إن رسول الله قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم عن الإسلام.»
وقد عم النكير على الحادث بين أجلاء الصحابة، من حضر منهم السرية ومن لم يحضرها، واشتد عبد الرحمن بن عوف حتى رمى خالدا بقتل القوم عمدا ليدرك ثأر عميه اللذين قتلهما بنو جذيمة مع عوف أبي عبد الرحمن ورجل من بني أمية ... وقصة مقتلهم أنهم كانوا قد خرجوا تجارا إلى اليمن، ثم عادوا ومعهم مال رجل من بني جذيمة قضى نحبه هناك يحملونه إلى ورثته وأهله. فاعترضهم جذمي في رهط من قبيلته يدعى خالد بن هشام وزعم أنه وارث المال وأحق به من غيره، فمنعوه ينظرونه أن يصلوا بالمال إلى أهل الميت. فغضب وقاتلهم بالرهط الذين معه فقتل عوفا والفاكه بن المغيرة ثم عمد عبد الرحمن إلى خالد بن هشام هذا فقتله بثأر أبيه. وهمت قريش بغزو بني جذيمة لولا أن مشي بعض العقلاء بينهم بالصلح فتصالحوا على الدية والمال.
ومن الإسراف أن يظن بخالد بن الوليد أنه تعمد قتل أناس وهو يعلم أن دمهم حرام ويتخذ من مهمة النبي ذريعة إلى شفاء ترة قديمة، فأدنى من ذلك إلى القصد في فهم الحقيقة أن نبحث عن دواعي اللبس ودوافع الطبع التي تدفع خالدا خاصة إلى مثل هذا التصرف، فإن كانت هذه الدواعي وهذه الدوافع قائمة مفهومة فهي تفسير لما حدث وفيها الكفاية، وإن لم تكن قائمة ولا مفهومة فهناك ينفسح مجال الظنون والفروض لمن يشاء.
وقد كانت دواعي اللبس ودوافع الطبع قائمة مفهومة في مقتلة بني جذيمة. فإن البوادي كلها حول مكة كانت تزخر بالشر وتتحفز للوقيعة في تلك الآونة بعد تسليم مكة، فلم تمض أيام على سرية خالد حتى كانت بطون هوازن وثقيف وجشم وغيرها متجمعة في العدة الكاملة والعديد الوافر لمباغتة النبي وجمعه، فإذا ارتاب خالد في نيات طائفة من أهل البادية مشهورين بالشراسة والغدر وهم يلقونه بالسلاح فله في ارتيابه وجه لا يخفى، وإذا أضيف إلى ذلك تلجلج القوم في إعلان إسلامهم والإفضاء بنياتهم فليس اللبس هنا بعازب عن بال المتوجس في أشباه ذلك المقام.
وقد يغني الشعر والقصص في الكشف عن شعور القوم هنا ما ليس يغنيه التاريخ وتسلسل الرواية، فمن كلام أحد الوهبيين في خطاب بني جذيمة بن عامر يسوغ لنا أن نفهم أنهم لم يكونوا متفقين على الإسلام والمسالمة، وذلك إذ يقول:
دعونا إلى الإسلام والحق عامرا
فما ذنبنا في عامر إذ تولت
Page inconnue