1 - البادية والحرب
2 - قريش ومخزوم
3 - نشأة خالد
4 - إسلامه
5 - مع النبي صلى الله عليه وسلم
6 - حروب الردة
7 - الفتوح
8 - العزل
9 - عبقريته الحربية
10 - مفتاح شخصيته
11 - نهاية من صنع القدر
1 - البادية والحرب
2 - قريش ومخزوم
3 - نشأة خالد
4 - إسلامه
5 - مع النبي صلى الله عليه وسلم
6 - حروب الردة
7 - الفتوح
8 - العزل
9 - عبقريته الحربية
10 - مفتاح شخصيته
11 - نهاية من صنع القدر
عبقرية خالد
عبقرية خالد
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
البادية والحرب
كان قتيبة بن مسلم من نوابغ القادة المعدودين الذين أنجبتهم الأمة العربية في صدر الإسلام.
وكان يلي خراسان لملوك الدولة الأموية، فخرجت بها خارجة أهمته، فقيل له: «ما يهمك منهم؟ ... وجه إليهم وكيع بن أبي مسعود فإنه يكفيكهم.» فأبى، وقال: «لا ... إن وكيعا رجل به كبر يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا قلت مبالاته بعدوه فلم يحترس منه، فيجد عدوه منه غرة ...»
وهذه كلمة من كلمات القائد العربي تنبئ عن كثير؛ تنبئ عن ملكة القيادة فيه، وتنبئ عن ملكة السيادة في الأمة التي نشأ منها، واستطاعت بها أن تسوس الأمم في الحرب والسلم سياسة للنجاح وللبقاء ...
فالحق أن شروط القيادة على وفرتها وعظم التبعة فيها جميعا، ليس يوجد بينها ما هو ألزم للقائد من القدرة على سبر قوته وسبر قوة خصمه. وكل ما عدا ذلك فإنما هو ترتيب لما يصنعه بقوته، وما يتوقع من القوة التي ينازلها أن تصنعه، أو هو تنظيم للأهبة والحيطة بين الفريقين في المكان الذي يتلاقيان فيه ...
وقد كانت لهزيمة الدول أمام العرب أسباب كثيرة: منها ضعف العقيدة واختلال النظام ونقص القيادة، وانحلال الترف وتفرق الآراء، ولكن البلاء الأكبر إنما حاق بتلك الدول من آفة الغرور الباطل والاستخفاف بالخصم المقاتل. فانتصر العرب؛ لأنهم ظنوهم لا ينتصرون ولا يعتزمون الانتصار، وكان الاستخفاف والإهمال شرا على تلك الدول المتصلفة من الاستهوال والفزع؛ بل كان الاستخفاف والإهمال سببا لانقلابهم آخر الأمر إلى استهوال يخذل المفاصل وفزع يفت في الأعضاد، فاجتمعت عليهم البليتان من سوء التقدير، ولم تنفعهم قلة المبالاة بالعدو ولا فرط المبالاة به بعد الأوان ...
كانت دولة الفرس لا تنظر إلى البادية العربية إلا نظرة السيد المبجل إلى الغوغاء المهازيل، الذين يحتاجون إما إلى العطاء وإما إلى التأديب، وبلغ من طغيان كسرى حين جاءته الدعوة المحمدية أن بعث إلى النبي العربي بشرذمة من الجند تأتيه به في الأصفاد! ... وبلغ من طغيان جنده عامة، وخاصة أنهم كانوا يأنفون أن يقرنهم أحد بالعرب في معرض من المعارض أو غرض من الأغراض ولو للحيلة والمكيدة. فاتفق في بعض وقعات العراق أن زعيما عربيا من جيرة الفرس أقبل على القائد الفارسي مهران بن بهرام؛ ليمده بأبناء قبيلته ويعينه على خالد بن الوليد وجنده. فقال له: «إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدا» فجاراه القائد الفارسي مجاملة وخدعة؛ ليستخلص منه أقصى العون والنجدة، وقال له: «صدقت لعمري! لأنتم أعلم بقتال العرب وأنتم مثلنا في قتال العجم ...» فغضب أتباعه لمجاملته هؤلاء القوم الذين يعينونهم ويقاتلون في صفوفهم، وسألوه «كيف تقول ما قلت لهذا الكلب؟» فلم يهدءوا عنه حتى اعتذر لهم بأنه يخدع القوم ويغرر بهم، وقال لهم: «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم ... فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغوكم - أي المسلمون - حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم مضعفون ...»
وسخفوا في طلائع وقعة «أليس» فلم يحفلوا بجيش خالد الزاحف إليهم، وتنادوا إلى طعامهم الذي هيئوه، ولم يكلفوا أنفسهم قبل ذلك مشقة استطلاع الطريق ... ليأمنوا البغتة قبل تهيئة الطعام.
أما الروم، فكان لهم غرور كهذا الغرور في مواجهة البادية العربية، وكان قصارى ما حذروه في أول الأمر أن يغير العرب على تخومهم لينهبوا ويسلبوا، ثم يفروا بسلبهم إلى الصحراء ... فإن أوغلوا في بلاد الدولة الرومانية، فهم مأخوذون بالهبات والوعود أو مأخوذون بالكثرة المستعدة، لا يقوم لها جند قليل يوشك أن يتجرد من السلاح بالقياس إليهم، فلما جد الجد، وعرفت الدولة الرومانية من تقاتل من أولئك الجند العزل على زعمها، إذا هي تنقلب من الغفلة الشديدة إلى الفزع الشديد ...
ويبدو لنا أن المؤرخين المحدثين لم يبرءوا كل البرء من هذا الخطأ القديم.
فلا يزال الأكثرون منهم يستعظمون على العرب أن يغلبوا الفرس والروم، ويحسبون هذه الغلبة شيئا قد حصل وكان ينبغي ألا يحصل، لولا أنها فلتة لا يقاس عليها ومصادفة لا تقبل التكرار ...
وبعضهم يلتمس العلة، فيقول: «إنما هي وهن الدولتين ومصابهما بالخور والانحلال»، أو يلتمس العلة، فيقول: «إنها عقيدة المسلمين القوية وافتقار الفرس والروم إلى مثل هذه العقيدة.»
وكل أولئك تعليل ناقص من كل نواحيه ...
فالمصادفة لا محل لها في حوادث الوجود، ولا تطرد في قتال بعد قتال، من جوف الصحراء إلى عمران العراق والشام ومصر ومشارق الأرض ومغاربها بين إفريقية والصين.
وانحلال دولة من الدول قد يفنيها ويعجزها عن النصر، ولكنه لا يقيم دولة أخرى لم تتجمع لها أسباب النهوض والتمكين.
والعقيدة قوة لا غناء عنها بقوة أخرى لمن يفقدها، ولكنها هي وحدها لا تغني عن الخبرة والاستعداد، ولا تفسر لنا اختلاف النجاح باختلاف الخطط والقواد. وقد كان المسلمون على عقيدتهم الراسخة يوم لقائهم هوازن وشيعتها بوادي حنين، فأوشكوا أن ينهزموا؛ لاعتدادهم بكثرتهم وقلة مبالاتهم بعدوهم، وأوشكت عاقبة الاستخفاف هنا أن تصيب المسلمين كما أصابت الفرس والروم، وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (التوبة 25).
فمهما يهرب هؤلاء المؤرخون من الحقيقة، فلا محيص لهم من الرجوع إليها لفهم الغلبة الإسلامية، أو فهم الهزيمة الفارسية والرومانية. وهذه الحقيقة هي أن المسلمين كانوا أيضا أخبر بالفنون العسكرية من أهل فارس والروم، وكانوا أقدر على تنفيذ الخطط العسكرية التي تنفعهم من قواد تينك الدولتين، وإن البادية العربية سواء في عصور الجاهلية أو صدر الإسلام لم تكن من الجهل بفن الحرب بتلك الحالة التي توهمها المؤرخون الأوربيون؛ بل معظم المؤرخين عامة ولا نحاشي
1
منهم العرب والمسلمين ... •••
فالصورة الشائعة في خيال أكثر القارئين عن البادية أن حروب الصحراء لم تكن إلا مشاجرات بالسيوف والرماح أو بالقسى والمقاليع، لا ترجع إلى نظام ولا تنهج على خطة، ولا يخلص منها فن يتعلمه المتعلم، ويتلقاه اللاحق عن السابق، وقوام أمرها شراذم من السطاة
2
والمغيرين سرعان ما تقبل حتى تدبر، وقصارى ما تعرفه من أساليب القتال أن تفر بعد الكر أو تكر بعد الفرار.
وهذه صورة مضللة لمن يسترشد بها في اختبار قدرة البادية على الحروب الكبيرة والمناوشات الصغيرة.
فمن الخطأ «أولا» أن تستخف بالرياضة التي يراض عليها الجيل بعد الجيل حيث تتعاقب الأجيال على أمثال هذه المناوشات، أو على ما نسميه اليوم حرب العصابات، حتى لو صح أنها كانت هي كل ما يعرفه أهل الصحراء من فنون القتال.
فالذي لا ريب فيه أن الصحراء قد تعاقبت فيها الأجيال على حروب العصابات التي تشترك فيها القبائل أبدا بين عادية ومعدو عليها، وأن البدوي قد عاش زمنا كما جاء في التوراة «يده على كل إنسان ويد كل إنسان عليه». فحصل من ذلك على ملكة مطبوعة يصح أن تسمى «حاسة الحرب»، أو أهبة الميدان الخالد التي لا تفارقه في ليل ولا نهار. فلا يزال حياته في حيطة المدافع واستعداد المهاجم ويقظة القلب للنضال، الذي يتعرض له بين مضطر مغتصب أو طائع مختار.
وهذه ملكة لا تحصل لأبناء المدن الذين يندبون للقتال بين آونة وأخرى، ويتدربون عليه كأنه عمل يؤدي في مكان العمل، ثم يطرح عن العاتق في سائر الأوقات.
ومن الرياضة التي يراض عليها الجيل بعد الجيل حيث تتعاقب حروب العصابات أنهم يتعودون الصبر على الفرار ويملكون الجأش عند الإدبار؛ لأن الفرار عندهم حركة من الحركات المألوفة في كل وقعة يخوضون غمارها، وليست هزيمة تطيش باللب وتخلع الفؤاد وتوقع في روع صاحبها أنه ضيع الأمل، ولم يبق له من أطوار القتال غير التسليم. فهو في حالة صالحة لاستئناف القتال إن أقبل وإن أدبر، وسواء طمع في النصر أو لاذ بالنجاة، وكأنه يتأخر ليتقدم في حينها أو بعد حين، ويتحول إلى الوراء كما يتحول إلى الشمال أو اليمين؛ طوعا لأمر مقصود وجريا في عنان ممدود، ومن هنا تيسر لقواد العرب في الغزوات الكبيرة أن يلموا شمل الجيش المنهزم في سويعات معدودات، وأن يتداركوا الخذلان من حيث يعسر على الجيوش المنظمة أن تتداركه قبل زمن طويل.
ولن تخلوا العصابات المغيرة - مع طول المرانة - من علم بأصول الاستطلاع والمباغتة والتبييت والمخاتلة وحسبان الحساب للرجعة والإفلات، وهي على بساطتها أصول لا ندحة عنها في أكبر الميادين وأصغرها على السواء.
هذا إن صح أن حروب العصابات هي كل ما حذقه عرب البادية من فنون القتال في تاريخهم القديم.
وذلك غير صحيح ...
فالعرب قد عرفوا في حروبهم التي وقعت بينهم تسيير الجيوش بعشرات الألوف على اختلاف الأسلحة والأقسام، وقيل: إن جيش الغساسنة الذي حارب المنذر بن ماء السماء لم يكن يقل عن أربعين ألفا بين راجل وفارس، وكان في الجيش معا راكبو الخيل، وراكبو الإبل، وحاملو السيوف، وحاملو الرماح، والضاربون بالسهام والنبال، والضاربون بالحراب والحجارة. •••
ولقد كان الغساسنة والمناذرة أصحاب ملك قائم لا يعسر عليهم تسيير هذه الألوف المؤلفة إلى الميادين القريبة، ولكن القبائل التي لم تكن على شيء من هذا الملك كانت تسوق الألوف للقاء أمثالها، وتستعد لها بالجيوش التي تساوي في عددها بعض جيوش القتال في عصرنا الحديث، فاستعدت مذحج لقتال تميم يوم الكلاب الثاني بثمانية آلاف، وجرى بين الفريقين من حيل الاستطلاع والمراوغة والهجوم والمطاردة ما هو محتو لكل عناصر الكفاح الأولي في كل زمان.
على أن البادية لم يفتها قط علم الحرب، كما علمته دول الحضارة في عصور الجاهلية العربية، فكانت غسان على مقربة من الروم تدخل معهم في الفرق المتطوعة على حالي الدفاع والهجوم، وكان ملوك الحيرة على مقربة من الفرس يخدمهم أحيانا كتيبتان من الجيش الفارسي، هما الشهباء والدوسر أو «الدوشير» بمعنى الأسدين شعار الدولة الفارسية. وكان جند الشهباء من أبناء فارس وجند الدوسر من أبناء القبائل العربية، وليس يحتاج العربي إلى أكثر من هذه المقاربة وهذه القدوة؛ لالتقاط الفنون التي يحتاج إليها في تعبئة الجيوش وللفطنة إلى المخاوف التي يتقيها في مواجهة التعبئة النظامية من جانب دول الحضارة .
وقد تبين هذا فعلا في وقعة ذي قار التي تغلب فيها العرب على الدولة الفارسية، فإن العرب كانوا في تلك الواقعة أبرع قيادة وأخبر بفنون الزحف والتعبئة من قادة الجيوش النظامية، لم يغفلوا قط عن حيطة واجبة أو حيلة نافعة قبل اشتباكهم بالجيوش الفارسية؛ بعثوا الطلائع وبثوا العيون وقسموا جموعهم إلى ميمنة تولاها بنو عجل، وميسرة تولاها بنو شيبان وقلب تولته بطون من بكر عليهم رئيسهم القدير هانئ بن مسعود، وأنفذوا إلى قبائل العرب الذين في جيش الفرس رسلا يثيرون نخوتهم ويغرونهم بالتخلي عن أصحابهم حين يجد الجد ويلتحم الجيشان، فوافقتهم إياد وبرت بوعدها فولت من الميدان في أحرج الأوقات ... •••
ولما أصبح يوم الوقعة الحاسمة أقبل الفرس ومعهم الأفيال والفرق المدرعة، فلم يرع قادة العرب ما شاهدوا من ذلك الجيش الزاخر وتلك العدة الوافية؛ بل تشاوروا في أمرهم وعقدوا بينهم ما يشبه «مجلس الحرب» في اصطلاح هذه الأيام. فقال ربيعة بن غزالة السكوني: «لا تستهدفوا لهذه الأعاجم فتهلككم بنشابها، ولكن تكردسوا كراديس، فإذا أقبلوا على كردوس شد الآخر». وقال حنطة بن ثعلبة: «إن النشاب الذي مع الأعاجم يفرقكم، فإذا أرسلوه لم يخطئكم، فعاجلوهم اللقاء، وابدءوهم بالشدة». وقال يزيد بن حمار: «أكمنوا لهم كمينا»، ففعلوا وأكمنوه في موضع يقال له الخبيء، وأوصوه أن يظهر حين يشتد القتال بين العسكرين، وتفر قبيلة إياد من صفوف الأعاجم، فيكون فرار أنصارهم وإقبال المدد إلى خصومهم مع احتدام القتال ضربتين متداركتين، لا يقوون بعدهما على الثبات.
ولم يغفلوا عن حمية الجند والفرسان يلهبونها للمجازفة بالحياة والأنفة من طلب النجاة، وهو ما نسميه اليوم بالروح المعنوية، فعمد حنطة بن ثعلبة إلى وضين راحلة امرأته - أي حزامها - فقطعه، وتتبع رواحل النساء فقطع وضنها جميعا فسقطت على الأرض، وصاح بقومه: «ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته ...» وراح السيافون يقطعون أقبيتهم من مناكبها لتخف أيديهم لضرب السيوف، وتسابق الخطباء والشعراء في التذمير والتحريض فذهبوا جميعا يرددون قول قائلهم: «المنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره.»
وتبارز بعض الفرسان من العسكرين، ثم التحم الفريقان وحمي الوطيس، وظهر الكمين في أوانه وولت إياد، فتبعها فريق ممن كسرت قلوبهم هذه الصدمة التي فوجئوا بها على غير رقبة، وأطبق الكمين على قلب الجيش ومعه كوكب الجيش العربي كله فحقت الهزيمة العاجلة على أقوى الجيشين، وكتب النصر لأولى الفريقين به في ميزان الفن العسكري الذي يشمل جميع المرجحات، ما عدا المرجح المادي دون غيره، وهو العدد والسلاح.
إذ الحقيقة أن غلبة العرب في يوم ذي قار إنما كانت غلبة لليقظة على الغفلة، وللكفاية على العجز، وللخفة على الفخامة، وللفن الحربي الصحيح على النظم التقليدية التي لا تصرف فيها، وللعزة المشكورة على الكبرياء المذمومة، وكان العرب خلقاء أن ينتصروا بكل وسيلة من وسائل النصر في الحروب القديمة والحروب الحديثة، إلا تفوق الفرس في بعض العدد التي لم ينفعهم تفوقهم فيها عند التحام الصفوف.
وليس في وسع عالم من علماء الحرب في زماننا هذا أن يأخذ عليهم خللا في خطتهم لم يلتفتوا إليه، أو يحصي عليهم وجها من وجوه التدبير قصروا فيه؛ لأن وجوه التدبير كلها فضول بعد أن تستقيم للمقاتل: (1) أهبة الاستطلاع. (2) رسم الخطة. (3) تنظيم الجيش في مواقفه. (4) تنظيم الجيش في حركاته. (5) إذكاء العزيمة في نفوسه. (6) إضعاف العزيمة في نفوس خصومه ... وهذه كلها هي صفوة لباب الحرب في العصر الحاضر وفي العصور الغابرة، وفي جميع العصور إلى آخر الزمان.
ويبدو لنا أن مزية الفرس والروم في أنواع الأسلحة والعدد كانت مزية مبالغا فيها على الأقل في ميادين الاشتباك والالتحام، إذا صح أن لها الرجحان في مواقف الحصار ومواقف الحرب من بعيد؛ لأننا عرفنا من أخبار الحروب الماضية أن بعض الفرسان البواسل كانوا يترجلون ليحكموا الضرب والحركة، وكانوا يخلعون عنهم شكتهم تبرما بها وتخففا من ثقلها ولا سيما في أيام القيظ أو في المواضع الوعرة التي تصعب فيها حركة المدرعين في الشكة السابغة، وكان بعض الضباط من النبلاء يستصحبون خدما لهم؛ ليحملوا لهم شكتهم إلى حين الحاجة إليها، وجاء في كتاب فيجتيوس
Végétius
إنجيل الحرب عند الرومان الأقدمين أن الجنود كانوا يضيقون ذرعا بالدروع المعدنية ويستثقلونها ويودون لو يطرحونها ويتاح لهم العمل بغيرها، ولم تكن لهم حاجة بها إلا حين يرادون على الاقتراب من مواقع السهام والنبال والحراب الطويلة، لأداء عمل من الأعمال.
وعندنا أن العرب قد كسبوا الطريقتين معا بنشأتهم في البادية واقترابهم من دول الحضارة، ونعني بهما طريقة العصابات وطريقة الجيوش في إدارة الحروب.
فهم قد برعوا في حرب العصابات بالمرانة الطويلة، ثم اقتبسوا ما لزمهم أن يقتبسوه من فنون الحرب عند الدول الكبرى على أيامهم، فلم يخسروا بذلك إحدى الطريقتين بل جمعوا بينهما واستفادوا بما تفيده كل منهما في موضعها، فأضافوا سرعة العمل في طريقة العصابات على إحكام التنظيم في طريقة الجيوش ... وكانوا يقاتلون بفنين متساندين، يأخذون منهما ما يأخذون ويدعون منهما ما يدعون، حيث كان الفرس أو الروم يتقيدون بفن واحد على التراث المحفوظ الذي لا يحسنون التجديد فيه ...
ومن المحقق أن قبائل العرب التي أقامت في الحواضر كانت على الزمن تتلقى النصيب الأوفى من كلتا الطريقتين، إما بالقدوة والتلقين أو بالتعليم المقصود، ولا سيما قبائل قريش التي كانت تقيم في عاصمة العواصم العربية من الوجهة الأدبية والثقافية، وكانت تجمع كل ما تفرق بين أبناء الجزيرة من المزايا والمعارف والصفات؛ لأنها أخذت نفسها بآداب الرئاسة المدنية والبدوية التي يدين بها جميع هؤلاء.
فالتاريخ الصادق يتقاضانا أن نعرف هذه الحقيقة؛ لنعرف موقع العدل والإنصاف من حكم الزمن بين الأمم الكبيرة التي تنازعت السيادة بعد ظهور النهضة العربية. •••
فالنهضة العربية لم يكتب لها النصر؛ لأن الفرس والروم كانوا يستحقون الهزيمة وكفى، بل هي قد انتصرت؛ لأنها كانت تستحق النصر بأسبابه التي لا مصادفة فيها ولا محاباة، ولا محل لفلتة نادرة لا تقبل التكرار ...
وإنما كانت أسباب النصر عند العرب ناقصة، فتمت في أوانها فغلبوا بوسائل الغلبة جميعها.
كانوا متفرقين بغير باعث إلى الوحدة والنهوض، فجاءتهم الدعوة الإسلامية تجمع شتاتهم وتبعث كرامتهم وتنطلق بهم في سبيلهم. فتم لهم ما نقص وتهيأت لهم ذرائع النصر في شرعة الأرض والسماء، وعلم النبي - عليه السلام - بيوم «ذي قار» وهو يدعو العرب إلى دين التوحيد، فرأى فيه بوادر نصر العرب على العجم، وأيقن أنه يوم تتلوه أيام، وأنه مسمع بدعوته الأمم جميعا عما قريب.
الفصل الثاني
قريش ومخزوم
كانت قريش موئل الثقافة من أنحاء الجزيرة كلها بين حاضرة وبادية، ومن قديم عصورها إلى حديثها.
لأنها كانت وسطا بين الحضارة والبداوة، وكانت تقيم في عاصمة الحجاز وإلى جوار الكعبة التي يحج إليها العرب، تبركا بحرمتها ولياذا بأصنامها، ويحملون إلى أسواقها أزواد الأدب والشعر والحكمة، كما يحملون إليها أزواد القوت وسلع التجارة.
وكانت قريش تنتقل إلى بلاد العرب كما ينتقل العرب إليها من بلادهم، فكان لها رحلتان في الشتاء والصيف؛ إحداهما إلى اليمن والأخرى إلى الشام، وكانت تضيف إلى ما تعلمه بالسماع والرواية علم المشاهدة والمراس، حيثما نزلت في طريقها من ديار العرب أو من ديار الروم والحبشة، وسائر الأمم الأعجمية كما كانت تسميها.
والعرب من دأبهم حفظ السير ورواية الأحاديث والتنقيب عن الأخبار والطوايا؛ لأن الاستطلاع من طبيعة سكان الصحاري، وتتوقف سلامتهم أحيانا على خبر يعلمونه في أوانه، كما تستهدف أرواحهم أحيانا للخطر العظيم من جراء طارئ داهم تفوتهم الحيطة له في حينه، ولم يزل أبناء القبائل على ولعهم المأثور بالسير والأخبار لغير هذه الضرورة التي يدعوهم إليها حب الأمن والسلامة. فهم غيورون على تراث الآباء والأجداد تفاخرا بالنسب العريق، وتصحيحا للعلاقات، وتمييزا للأقربين والبعداء ...
ومع هذا الولع الأصيل في الطبيعة العربية باستقصاء الخبر، يصعب على الذهن أن يتخيل أن قريشا تجهل شأنا من شئون الثقافة العربية، وهي تقيم في مثابة الجزيرة كلها وتسهر على عاصمة العرب، وتجوب أنحاء هذا الوطن الكبير من شماله إلى جنوبه ومن جنوبه إلى شماله، وتتابع العصور حقبة بعد حقبة وهي في مرقبها الذي تطل منه كل ما يعنيها ...
فقلما غاب عنها علم عربي وصل إليه أبناء الحواضر والبوادي باجتهادهم واختبارهم، أو وصلوا إليه بالقدوة والسماع عن الأمم الأجنبية.
وقلما خفي عنها فن من فنون ثقافة العرب في مصالح السلم والحرب، أو معارض السياسة والشئون الاجتماعية.
ونظن أن خطأ المؤرخين في تقدير معارف العرب السياسية لا يقل عن خطئهم في تقدير معارفهم الحربية، وقد كانت كما رأينا كفؤا لحضارة الدولة الفارسية وتجارب قوادها وأساورتها.
وكذلك كانت لهم في السياسة والنظم الحكومية خبرة لا يستخف بها من ينفذ إلى بواطنها، فهي لا تبلغ أن تكون فلسفة مشروحة ومذاهب مفصلة على مثال النظم العصرية، ولكنها كذلك لا تنزل إلى الفوضى، ولا إلى الغريزة الهمجية التي لا مساك لها ولا تدبير فيها.
وأوجز ما يقال عن خبرتهم بالنظم الحكومية أن العالم القديم لم يعرف قط نظاما من أنظمة الحكم إلا كان للعرب نموذج منه يوافق مصالحهم وعقائدهم، ويجري على عاداتهم وخلائقهم.
عرفوا نظام الإمارة التي ينفرد فيها الأمير برأيه ويستأثر فيها بشريعته وقضائه.
وعرفوا نظام الإمارة التي يتولى فيها الحكم نائب عن الأمير يفصل في قضايا الرعية بمعونة ذوي الرأي منها «إلا أن يكون غزو أو قتال»، فهو باسم الملك دون غيره، وهو النظام الذي جرى عليه أهل الحيرة زمنا مع ملكهم المنذر ونائبه زيد بن حماد من بني أيوب.
وعرفوا نظام الإمارة التي يختار أميرها من أمة أخرى كما تنتقل الأسر الأوروبية اليوم من مواطنها إلى الموطن الذي تحكمه بالمصاهرة أو بالاتفاق بين الدولتين. وعلى هذه السنة، اجتمع البكريون حين غلبهم سفهاؤهم وأكل قويهم ضعيفهم، فقال شيوخهم: «لا نستطيع دفع ذلك إلا أن نملك علينا ملكا نعطيه الشاة والبعير؛ فيأخذ للضعيف من القوي، ويرد على المظلوم من الظالم، ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون، ولكنا نأتي تبعا فيختار لنا». فقصدوه فملك عليهم حجرا أمير كندة، وهو أبو امرئ القيس الشاعر المشهور.
وعرفوا الحمايات على أنواعها؛ حماية الإمارة التي تستعين بجيش أجنبي، وحماية الإمارة التي تعتمد على جيشها، وحماية الإمارة التي تدين لدولة واحدة، أو تدين لدولتين. كما حدث ذلك في ملك اليمن بين الحبشة وفارس وسادات البلاد.
وعرفوا رئاسة القبائل المنفردة ورئاسة القبائل المجتمعة إلى نسب واحد، ورئاسة الرحل الذين يرعون الإبل والشاء، ورئاسة أهل المدر الذين يغرسون المروج والبساتين ويزاولون التجارة من موسم إلى موسم ... •••
وكانت قريش تسمع بهذه النظم وتشاهدها في مواضعها وتقتبس منها ما هي في حاجة إليه. ولكنها لم تأخذ بنظام الإمارة؛ لأن التنافس بين بطونها يمنعها أن تتفق على ملك من إحداها، ولم تتعرض لنظام الحماية؛ لأنها بنجوة من سلطان الدول الأجنبية، ولم يوافقها نظام أهل الوبر ولا نظام أهل المدر؛ لأنها كانت وسطا بين الحضارة والبداوة كما قدمنا، وكانت ترعى مصالحها ومصالح الوفود التي تقبل إليها حاجة أو متجرة وليست هي من عشائرها التي تقبل منها حكم الشيخ في قبيلته على أية صفة من صفاتها.
فاختارت لها نظاما فريدا يوفق بين هذه الأطوار الاجتماعية المختلفة فيها، ولعله أشبه النظم بنظام المشيخة بين الرومان الأقدمين، وإنما يئول الرأي الأخير فيه إلى مجلس يجتمع من رؤساء كل بطن في القبيلة، ويوشك أن يكون أمره شورى أو على صورة الشورى التي ترضى بالمجاملة وإن لم يكن فيها رضا بالحقيقة؛ إذ الحقيقة أن المرجع الأخير إلى أقوى الأقوياء من أولئك الزعماء، كلما حزب الأمر وتشعبت الآراء ...
ومن زكانة الحكم عندهم أنهم فهموا مناط الرئاسة القرشية التي يدين بها حجاج البيت الحرام وقصاد مكة من الحضر والبادية، وهي الدين واللغة والتجارة المشتركة.
فحفظوا مناسك الكعبة، وجعلوا أسواقهم معرضا للبلاغة الشعرية والخطب المروية، وتعاهدوا على ضمان الثقة بالتجارة كلما غدر غادر بذمتها، أو اعتدى معتد على حقوقها. •••
واحتالوا على التوفيق بينهم بتقسيم المفاخر والمراسم على بطونهم وزعمائهم حسب أقدارهم ومزاياهم، فانتهى الشرف إلى عشرة بطون هم: هاشم وأمية ونوفل وعبد الدار وأسد وتيم ومخزوم وعدي وجمح وسهم، فكانت لهاشم سقاية الحاج، وكانت لأمية راية الحرب يخرجها عند القتال ليسلموها إلى قائدهم المختار، وكانت لنوفل الرفادة وهي إعانة الحجاج المنقطعين بالمال، وكانت لعبد الدار السدانة والحجابة واللواء، وكانت لبني أسد المشورة أو رئاسة مجلس الشورى في مهمات الأمور، وكانت لبني تيم الديات والمغارم، وكانت لبني مخزوم القبة وهي مجتمع الجيش والأعنة وهي قيادة الفرسان، وكانت لبني عدي السفارة، ولبني جمح الأيسار أو الأزلام، ولبني سهم الحكومة والأموال المحجرة، وظلوا يتولونها جيلا بعد جيل إلى ظهور الإسلام.
ولم يكن لهذه «الوظائف» الموزعة شأن واحد في جميع الأوقات والأحوال؛ بل كانت تعلو وتهبط على حسب الزعيم الذي يتولاها، وعلى حسب القوة التي يكون عليها بيته عند ولايته إياها، ولكننا إذا نظرنا إليها مجملة وجدنا منها ما كان يقصد به «جبر الخاطر» والإرضاء.
وما كان يشبه الوظائف الشورية أو الإدارية الثانوية في حكوماتنا الحاضرة، ولم تجد بينها «سلطات» فعالة خليقة أن تتعاقب مع الزمن غير ثلاث متفرقات، وهي السلطة الروحية لهاشم وعبد الدار، والسلطة السياسية لأمية، والسلطة العسكرية لمخزوم.
من بني مخزوم هؤلاء نشأ خالد بن الوليد - بطل هذا الكتاب - وكانت نشأته في أعرق بيوتها وأعلاها وأشرفها وأغناها، فلم يكن من أبوته أو عمومته إلا رئيس ابن رئيس لا تعلو مكانته مكانة أحد من رؤساء الجاهلية ...
كان جده المغيرة بن عبد الله، الذي كان الرجل من بني مخزوم يؤثر أن ينسب إليه، فيسمى المغيرة تشرفا بالانتساب إلى الفرع الذي أناف على الأصول ...
وكان أبوه الوليد بن المغيرة الملقب بالعدل وبالوحيد؛ لأنه كان يكسو الكعبة وحدة سنة وتكسوها قريش كلها كسوة مثلها سنة أخرى.
وكان عمه هشام قائد بني مخزوم في حرب الفجار، وبوفاته أرخت قريش كما تؤرخ بالأحداث العظام، ولم تقم سوقا بمكة ثلاثا لحزنها عليه ... •••
وكان عمه الفاكه بن المغيرة من أكرم العرب في زمانه، له بيت للضيافة يأوي إليه من شاء بغير استئذان.
وكان عمه أبو حنيفة أحد الأربعة الذين أخذوا بأطراف الرداء، وحملوا فيه الحجر الأسود إلى موضعه من الكعبة، كما أشار النبي - عليه السلام - قبل الدعوة الإسلامية ...
أما الذي فض النزاع بين القبائل على هذا الشرف حين أذن التنافس بينها بالشر المستطير فهو عم آخر من أعمامه، وهو أبو أمية بن المغيرة الملقب بزاد الراكب كما جاء في بعض الروايات. فقد أشار عليهم أن يكلوا الحكم إلى أول داخل من باب المسجد ليختار من بينهم من يرفع الحجر إلى مكانه، فارتضوا مشورته وتم صواب المشورة بتوفيق البشارة النبوية قبل إهلالها على العالم بسنين.
ولقب أبو أمية زاد الراكب؛ لأنه كان يكفي أصحابه في السفر مئونتهم، فلا يتزودون بزاد.
ويظهر أن بني مخزوم هؤلاء كانوا في ثروتهم وعدتهم وبأسهم أقوى البطون القرشية حين ينفرد كل بطن منها عن سائر بطونها. ولكنهم لم يستأثروا بالزعامة القرشية؛ لأنهم كانوا ينافسون بني هاشم وبني أمية وبني عبد الدار، وهم ثلاثة بطون قوية يلتقون في جد واحد أقرب من الجد الذي يجمعهم ببني مخزوم، وهو مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر جد قريش أجمعين.
وقد تبينت رجاحتهم هذه في مواقف كثيرة قبل الإسلام وبعده، فاضطلعوا وحدهم ببناء ربع الكعبة بين الركنين الأسود واليماني، واشتركت قريش كلها في بناء بقية الأركان ...
وكان لبني مخزوم وحدهم في وقعة بدر ثلاثون فرسا من مائة فرس لقريش كلها، ومائتا بعير وأربعة أو خمسة آلاف مثقال من الذهب غير الأزواد والأمداد ...
فلا جرم يعظم على نفوسهم أن يغلبهم منافس على الشرف والعزة، وأن يحوزوا كل ما حازوه من الرجال والأموال ثم تشيل كفتهم مرجوحة في ميزان الفخار ...
ولا جرم يأخذون الأمر مأخذ الأنفة والخنزوانة بينهم وبين بني عبد مناف حين تظهر النبوة في هؤلاء ولا تظهر فيهم.
وقد أخذوها هذا المأخذ حيث قال أبو جهل: «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء ... فمتى ندرك هذه؟»
وإنما قال أبو جهل «بنو عبد مناف» ذهابا إلى الجد الذي يجمع هاشما وأمية وعبد الدار، كأنه يستعلي في كبريائه أن ينافس هاشما وحدها دون أن يصعد إلى أبيها الذي يجمع بينها وبين غيرها.
وكان الوليد بن المغيرة يزعم أنه هو أحق الناس بالنبوة والقرآن ويقول: «أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها؟» ففي ذلك يقول القرآن الكريم:
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (الزخرف: 31).
ونحن نعلم الآن أي عقبة كانت هذه الخنزوانة المخزومية في طريق الإسلام إذ نرجع إلى الآيات التي نزلت في رؤسائهم ووصفت ما كان من عنادهم وعتادهم، وما كانوا يقابلون دعوة الدين الجديد بدعواهم في آبائهم وأجدادهم، فلم ينزل في رؤساء قبيلة مثل ما نزل في رؤساء هذه القبيلة، ولم تتمثل منعة قوم كما تمثلت منعتهم في ردود القرآن على أقوالهم، وهي أقوى ردود عرفت في السور المكية الأولى، على ما جاء في الآيات الكثيرة من سورة «ن» وسورة «المدثر» وسورة «الكافرون» عدا إشارات أخرى في سورة «الحجر» و«عبس وتولى». •••
وكل أولئك فحواه شيء واحد، وهو أن بني مخزوم باءوا بأسباب المحافظة على القديم جميعا حين تصدى الإسلام لتبديل ذلك القديم، فهم أول من يصاب بهذه الدعوة الجديدة وآخر من يلبيها وله مندوحة عنها، ومن ثم كانت المصاولة بين الإسلام والجاهلية في وجه من وجوهها مصاولة بين محمد - عليه السلام - وبين خالد بن الوليد الذي انتهى إليه شرف الرئاسة المخزومية في ذلك الأوان.
والناس يختلفون في تمثيل بيئاتهم وطبقاتهم غاية الاختلاف، ويصدقون في تمثيلها غاية الصدق وهم يتفاوتون بينهم تفاوت النقيض والنقيض؛ لأن البيئة مستودع شامل يوجد فيه الحسن والرديء ويأكل كل منه على حسب مأتاه ومورده، وحسب ما هو مستعد له وقادر عليه.
فإذا قيل سيد من سادات قريش أو نموذج من نماذج القرشية الجاهلية، جاز لنا أن نتمثله على ألوان كثيرة لا على لون واحد، وجاز أن يكون هذا السيد خير السادات من طبقته أو شرهم وشر أهل زمانه من جميع الطبقات.
ولكننا مع هذا قد نحصر الخصال المشتركة والنعوت الوسطى التي تشيع في هواء هؤلاء السادات غير من تجاوزوا الحد وبلغوا الندرة في الشذوذ والاستثناء.
فالغالب على هؤلاء السادة أنهم يتوارثون الثقافة العربية ويتدارسونها بالتعليم والتلقين والمعاشرة، ويستوعبون أخبار الحكماء وذوي الأحلام في علاج المشكلات، وتدبير الحيل ومصانعة الناس والأيام.
ويكثر فيهم أن يجمعوا الثقافة السياسية والعسكرية كما وصلت إليهم من تراث الأقدمين من عرب وعجم، وبخاصة من كان منهم منوطا بعدة الحرب وقيادة القبيلة في غزواتها أو مواقف دفاعها، كما كان خالد بن الوليد. •••
ومن صفاتهم الشائعة فيهم حب السيطرة، والصرامة، وقلة الرحمة، والاستزادة من المال، ومتع الحياة، والتفاخر بالوفر، والثراء، وجمع الحطام من حيثما اجتمع بأساليبهم التي كانوا يستجيزونها ولا يتحرجون منها، وأشيعها الربا والمغالاة بالأسعار.
وقد وجد في أسرة خالد من يكثر من الإقراض بالربا، ومن يرى في أموال الربا شيئا من الدنس يقاربه في أحوال ويستبعده في أحوال أخرى.
فمات أبوه وله على قبائل مكة وأرباضها ديون تحسب بالألوف لم يزل خالد يتقاضاها حتى أسلم وأسلم المدينون، فترك الربا من بعدها واكتفى برأس المال؛ عملا بالقرآن الكريم:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (البقرة: 278، 279).
وكذلك وجد في أسرته من نزه الكعبة عن أموال الربا وما شابهها، فقال لقومه: «يا معشر قريش ... لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا؛ لا يدخل فيه مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد».
وكلهم قرشي جاهلي من طبقة السادة وأصحاب المال.
فحين نقول: إن خالدا كان مثال طبقته وعنوان المحافظة على مزايا هذه الطبقة يحسن بنا أن نتجه إلى تلك الخلائق الوسطى ونترقب منه نماذجها المشتركة التي لا غلو فيها من هنا أو هناك، حتى نرى دلائل الزيادة في خليقة من تلك الخلائق، فذاك إذن خاصته التي يتميز بها بين قرنائه ولا تخرجه من معهود الطبقة كلها على الإجمال.
ولا يتم الكلام على تراث بني مخزوم حتى نضيف إلى مزاياهم المختلفة مزية ملحوظة لها شأنها في كل مجتمع إنساني وليس شأنها بالقليل في حياة خالد على التخصيص.
فقد كانت هذه القبيلة - على كثرة الأقطاب بين رجالها - مشهورة بجمال النساء بين الحواضر العربية، وبقيت لها هذه الشهرة إلى ما بعد قيام الدولة العباسية، إذ كان يقال لأبي العباس السفاح: إن المخزوميات رياحين العرب، وعندك منهن يا أمير المؤمنين ريحانة الرياحين.
ولا بدع يكون هذا شان القبيلة التي نبغ منها خالد بن الوليد وعمر بن أبي ربيعة. فقديما كانت الفروسية والغزل والمرأة بيئة واحدة تتعاون فيها البطولة والشاعرية والجمال.
وصفوة هذا جميعه أن خالد بن الوليد قد دخل الإسلام بأوفى نصيب من حمية السيادة العربية في عهد الجاهلية، فصنع للإسلام وصنع الإسلام له الأعاجيب، وكان مقياس العبقرية العربية في عهدين متقابلين.
الفصل الثالث
نشأة خالد
خالد بن الوليد بن المغيرة أحد سبعة إخوة من الذكور وقيل عشرة، بل ثلاثة عشر بين ذكور وإناث، ومنهم أختان ...
وقد تقدم إجمال القول في شرف قومه ونصيب أعمامه خاصة من الرئاسة والزعامة. أما أبوه الوليد، فقد كان الرأس بين الرءوس والزعيم بين الزعماء، وكانت له في بعض نواحي خلقه وعقله لمحات تلك المواهب التي تجلت بعد ذلك في عبقرية ولده العظيم.
كان أغنى أبناء زمانه في صنوف الثراء المعروفة بينهم كافة؛ الذهب والفضة والبساتين والكروم، والتجارة والعروض، والخدم والجواري والعبيد، وسمي من أجل ذلك بالوحيد، ولقب من أجل ذلك بريحانة قريش.
وهو الذي قال فيه القرآن الكريم من سورة المدثر (11-14):
ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا .
ويروي سفيان الثوري أنه كان يملك ألف ألف دينار، ويروي ابن عباس أنه كان يملك من الفضة تسعة آلاف مثقال.
ولكبريائه في جوده أو جوده في كبريائه، كان ينهى أن توقد نار غير ناره في منى لإطعام الحجيج.
وكان يأنف لنفسه في الجاهلية أن يرى سكران، على إباحة الخمر وشيوعها في تلك الأيام، فانتهى عنها بغير ناه، وقيل إنه قطع يد السارق على سبيل القصاص.
وقد كان من أصحاب الحيلة والحول والإقدام، ضربة من ضرباته في موقف اللبس والتردد ترينا فيه أبا خالد قبل أن يعرف العالم ضربات خالد، وذلك يوم تداعت الكعبة وأوجس المشركون أن يهدموها ليعيدوا بناءها، توقيرا لتلك الحرمة التي كانوا يقاربونها بالضراعة والخشوع ويدخلها بعضهم حفاة الأقدام ولم يقربوها قط بهدم أو عدوان، فلما رأى وسواسهم وفزعهم تناول المعول وضرب الضربة الأولى بيديه وهو يقول: «اللهم لم ترع. اللهم لا نريد إلا الخير»، ومضى في أثره الهادمون غير متهيبين.
ويؤخذ من بعض أحاديثه مع أبي جهل أنه كان من أفقه الناس لمعاني الكلام ومن أحفظهم للشعر والخطب في أيامه.
قام النبي
صلى الله عليه وسلم
في المسجد يصلي والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي
صلى الله عليه وسلم
لاستماعه أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم، فقال: «والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى ... ثم انصرف إلى منزله.»
فقالت قريش: «صبأ والله الوليد ولتصبون قريش كلهم.» فأوفدوا إليه أبا جهل يحتال لصرفه عن الإسلام إن كان قد نوى الدخول فيه، وما زال به حتى قام معه إلى مجلس قومه، فقال لهم: «تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط؟ تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه تكهن قط؟ تزعمون أنه شاعر وما فيكم أحد أعلم بالشعر مني، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟»
يسألهم ويجيبونه: «كلا»، في كل سؤال.
حتى أعياهم أن يردوا كلامه، فسألوه رأيه في تفسير بلاغة القرآن، ففكر ثم قال: «ما هو إلا سحر يؤثر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فهو ساحر وهذا هو السحر المبين ...» فذاك إذ يقول القرآن الكريم:
إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (المدثر: 18-24).
واختلف المفسرون في تفسير المعنى المقصود بالعتل الزنيم الذي قيل إنه نزل فيه.
فرأى بعضهم أن الزنيم هو الدعي، وأن الوليد بن المغيرة يوصف به؛ لأن أباه ادعاه بعد ثماني عشرة من مولده.
ورأى بعضهم أن الزنيم وصف له من زنمة كان يعرف بها في عنقه، وهي اللحمة المدلاة، ويخالفهم آخرون فيقولون إن الرجل الذي كان يعرف بهذه الزنمة هو الأخنس بن شريق، وكان أصله من ثقيف وعداده في زهرة.
وفي رواية أنه - عليه السلام - سئل عن العتل الزنيم فقال إنه هو الفاحش اللئيم، وغير ذلك من الروايات والتأويلات كثير.
إلا أن الذي يعنينا فيما نحن بصدده أن الوليد لم ينسب قط إلى أحد غير أبيه المغيرة، وأن المغيرة لم يكن بحاجة إلى استلحاق ولد غريب عنه لكثرة أولاده ونجابتهم بين فتيان مخزوم وقريش عامة، وأن شبه الوليد ببني المغيرة ظاهر حتى في بعض الفروع البعيدة. فإن عمر بن الخطاب كانت أمه قريبة خالد بن الوليد، وكان يشبهه أقرب الشبه كما يتفق في أيامنا هذه كثيرا بين أبناء العمات والأخوال، وأن غير الوليد لأولى بذلك الوصف لما تقدم من اعتزاز قريش بنسبته فيهم حتى لقب بريحانة قريش وسمي بينهم بالوحيد.
وعلى أية حال، فقد نشأ خالد في بيت الوليد بن المغيرة وهو سيد بني مخزوم، وأحد السادات المعدودين في قريش، وصاحب الكلمة التي يتعلق بها مصير قومه فيما يجنح إليه من شرعة أو دين.
أما أمه فهي لبابة بنت الحارث الهلالية، وهي أخت ميمونة أم المؤمنين زوج النبي عليه السلام، وأخت لبابة بنت الحارث الكبرى زوج العباس عمه، وأخت أسماء بنت عميس التي تزوجها جعفر بن أبي طالب ثم أبو بكر الصديق، ثم علي بن أبي طالب، ولها أخوات أخريات بنى بهن رجال من ذوي الأخطار ومقاديم العشائر النابهين.
وندر في بيوت العرب النبيلة بيت لم يكن له صلة بخالد وذويه بالنسب والمصاهرة، من جانب أمه أو جانب أبيه.
والأقوال في سن خالد وتاريخ مولده لا تنتهي إلى قول يمتنع فيه الخلاف. فمن المؤرخين من يقول إنه مات وله من العمر ستون سنة، فإذا كان قد مات في السنة الحادية والعشرين أو الثانية والعشرين للهجرة؛ فقد ولد إذن في السنة الثامنة والثلاثين أو السنة التاسعة والثلاثين قبل الهجرة.
ولكنه قول يحول دون تصديقه والأخذ به أن خالدا كان صغير السن في عام الفتح - فتح مكة - كما يفهم من تلقيب أبي سفيان له بالغلام وشيوع هذا اللقب بين عارفيه.
فقد كان أبو سفيان والعباس يرقبان عبور الكتائب والقبائل في يوم الفتح، فكان خالد بن المغيرة أول من مر في بني سليم. فسأل أبو سفيان: من هذا؟ قال العباس: هذا خالد بن الوليد، فعاد أبو سفيان يسأل وهو يخفي حنقه: الغلام؟ قال العباس: نعم، كأنه لقب كان معروفا بين شيوخ قريش.
والرجل لا يقال له «غلام» وهو في نحو السادسة والأربعين، وقد يقال له ذلك وهو حول الأربعين إذا كان القائلون من رؤساء الشيوخ، وكان اللقب قد عرف قبل ذلك بسنوات وبقي بحكم العادة والتردد على الأفواه. فإذا كان خالد بن الوليد يومئذ في نحو السادسة والثلاثين أو السابعة والثلاثين، فمولده على التقريب بين سنتي ثمان وعشرين وثلاثين قبل الهجرة.
وعندئذ تخطر لنا قصة أخرى لها صلة بهذا التقدير، وهي قصة المصارعة بينه وبين عمر بن الخطاب وهما غلامان وغلبته عمر وكسره ساقه في هذه المصارعة، وإنما يتصارع الندان أو المتقاربان. وعمر على تقدير مشهور قد ولد قبل الهجرة بأربعين سنة أو قرابة هذا التاريخ ...
فالتوفيق بين هذه الأقوال جميعا إنما يستقيم لنا بتأخير مولد عمر قليلا عن سنة أربعين، وتقديم مولد خالد قليلا عن سنة ثلاثين، فيرجح إذن أن يكون مولده في نحو سنة أربع وثلاثين قبل الهجرة، ولا مانع إذن أن يصارع عمر ويغلبه كما يغلب الفتى في الرابعة عشرة مثلا زميلا له في السادسة أو السابعة عشرة، إذا كان مولودا للدربة على الرياضة وألعاب الفروسية، وكان خالد ولا شك كذلك؛ لأنه ورث قيادة الأعنة من باكر صباه.
نعم يظهر أنه كانت عليه مخايل الفروسية منذ صباه الباكر؛ إذ رشحه أبوه لقيادة الخيل ولم يكن أكبر أبنائه، ورأيناه على قيادة الفرسان - فرسان قريش - في وقعة أحد التي أحاط فيها برماة المسلمين من ورائهم، فحلت الهزيمة بجيش المسلمين بعد انتصاره.
وقد أسلفنا أن بني مخزوم كان لهم في الجاهلية أمر القبة والأعنة، فالقبة هي خيمة عظيمة يضربونها ليجمعوا فيها عدة القتال، والأعنة هي الخيل وفرسانها، وولاية خالد هذه «الوظيفة» الموكولة إلى قبيلته بين بطون قريش جميعا هي آية استعداده للرئاسة والقيادة منذ صباه.
وفي أخبار خالد قصة واحدة تنفعنا في تصوير ملامحه وسماته لقلة أوصافه المحفوظة، على خلاف ما تعودناه من أحاديث العرب عن أبطالهم، وهي في الغالب مفيضة في وصف أولئك الأبطال.
تلك القصة هي ما أشرنا إليه من المشابهة بينه وبين عمر بن الخطاب، حتى كان أناس من ضعاف النظر يخلطون بينهما من قريب، ولا يميزونهما بالرؤية ولا بسماع الصوت الخفيض.
وخلاصتها أن علقمة بن علاثة لقي عمر بن الخطاب ليلا فقال له: مرحبا بك يا أبا سليمان ... ثم دنا منه فلم يميزه مع دنوه وسماع صوته برد السلام عليه، فقال: عزلك ابن الخطاب؟ فأجابه عمر: نعم. فمضى علقمة يقول: ما يشبع، لا أشبع الله بطنه.
وأصبح عمر، فدعا بخالد وعلقمة وسأل خالدا: «ماذا قال لك علقمة؟» فنفى أن يكون قد لقيه أو جرى بينهما كلام، وكرر عمر السؤال فأقسم خالد بالله ما رآه ولا سمع منه شيئا ... فقال علقمة كالموسع له من حرج: «حلا أبا سليمان» ... ولم يفطن لغلطه، حتى تبسم عمر وأخبرهما بالحديث.
ومن هنا تفهم أن خالدا كان طويلا بائن الطول، وأنه كان عظيم الجسم والهامة، مهيب الطلعة يميل إلى البياض.
وغني عن تواريخ المؤرخين - ولا جدال - أن خالدا قد تعلم في صباه كل ما يتعلمه الفتى المرشح للحرب والفروسية وشمائل الرئاسة، ومن الصغائر العارضة التي زعم أناس أنها أصل الجفاء بينه وبين قريبه عمر بن الخطاب أنه صارعه كما تقدم، فغلبه وكسر ساقه، وهي صغيرة تنبئ عن دراية باكرة بفنون الصراع والكفاح، ولكنها لو لم تذكر في مصادرها لأغنانا عنها علم القائد الكبير بفنون الفروسية على أنواعها، وسرعته في مأزق النزال إلى مصارعة أقرانه ومبارزيه واحتضانهم بعنف شديد حتى يعجزهم عن الحراك.
وغير بعيد أنه تعود عيشة الشظف وراض نفسه على الخشونة عمدا في البادية ليصبر على مضانك الحرب وشدائد الجوع والظمأ حيثما تفرد عن موارد الزاد. فقد جاء في بعض الأحاديث أن خالدا كان يأكل الضب ويشتهيه كما يأكله الأعراب ويشتهونه، وهو أغنى إنسان في مكة أن يسيغ هذه الأكلة الأعرابية، مع يساره وافتنان أهله في الأطعمة الحضرية.
قال ابن عباس رواية عن خالد: إنه دخل مع رسول الله على خالته ميمونة بنت الحارث، فقدمت إلى رسول الله لحم ضب جاءها مع قريبة لها من نجد، وكان رسول الله لا يأكل شيئا حتى يعلم ما هو، فاتفق النسوة ألا يخبرنه حتى يرين كيف يتذوقه ويعرفه إن ذاقه. فلما سأل عنه وعلم به تركه وعافه. فسأله خالد: أحرام هو؟ قال: «لا، ولكنه طعام ليس في قومي فأجدني أعافه ...» قال خالد: «فاجتررته إلي فأكلته ورسول الله ينظر ...»
ومثل هذه التربية لقائد من قواد الحرب نموذج يحتذى في كل مدرسة من مدارس الفنون العسكرية الحديثة، وعلى سنتها كتب نابليون تقريره وهو طالب في المدرسة الحربية يعيب على النظام يومئذ أنه يسمح لأبناء الأعيان بمعيشة الترف واستصحاب الخدم بين جدران المدرسة، وهم أحرى بخدمة أنفسهم في مدرسة يتعلمون فيها الصبر على شدائد الحروب.
وكان لخالد - ولا ريب - علم بالبادية العربية من غير هذا الطريق، طريق الرياضة المقصودة إن صح ما رجحناه. فلعله سافر كثيرا في الجزيرة قبل الإسلام، ولعله عرف في تلك الأسفار دروبها العصية التي كان يطرقها من العراق إلى الحجاز، ومن الحجاز إلى اليمن، ومن نجد إلى الشام، وبعضها كان يعتسفه على عجل بغير أدلاء.
ولم تكن بخالد ولا بإخوته حاجة على التجارة لكسب العيش وتحصيل المال؛ إذ كان أبوه على تلك الثروة التي لا مزيد عليها في البلاد العربية، وكانت ثروته أشبه شيء في عصرنا هذا بثروة المصارف التي تعمل في صفقات القروض والربا ومضاربات الأسعار. أما الثمرات والخضر في مزارعه، فلم تكن مما يحمل إلى البلاد القصية للبيع والشراء. وإنما قصاراها أن تباع في الحواضر الحجازية وما قاربها من البوادي القادرة على شيء من الترف والمتعة، ولا سيما في أيام الأسواق والحجيج. ولهذا فسر بعضهم وصف بنيه ب «الشهود» فيما تقدم من الآيات بأنهم كانوا أبدا في صحبته وجواره مفاخرة بهم وتنزيها لهم عن الكدح والتصرف في شئون المعاش. فإن قضيت لأحدهم رحلة أو سياحة، ففي غير هذه الأغراض أو غير حاجة ملحة إلى الاتجار، وإنما هي الدربة والتمرس بالمصاعب والانتفاع بخبرة السياحة وآدابها، وقد ينفقون في ذلك خير ما يكسبون، كما كان يصنع عمه «زاد الراكب» وأعمامه الآخرون الذين اشتهروا بالأنفة من مجاراة أحد لهم في الضيافة وبذل العطايا والهبات.
وموضع الترجيح والاستنتاج هنا إنما هو في إرسال خالد إلى البادية قصدا لرياضة النفس والجسد على خشونة الأعراب وشدائد الميادين ... فهذا، وإن جرت به عادة بعض الأشراف في حواضر الحجاز، لم يقطع به قول من الأقوال في سيرة الوليد بن المغيرة وبنيه «الشهود» على احتمال الشهادة للمعنى الذي قدمناه.
ولكن الأمر الموثوق به كل الثقة، الذي لا موضع فيه لترجيح ولا استنتاج - أن خالدا قد نشأ في الحاضرة أو البادية مستعدا للخشونة مستطيعا لمعيشة الأعراب، مستجيب السليقة والبيئة لما يتكلفه المجاهد في أوعر القفار وأعنف الحروب، وكانت له ضلاعة العصبيين الأقوياء المعهودين بين رجال السيف، وهي ضلاعة يوشك أن تستمد من حماسة النفس وشهامة القلب أضعاف ما تستمده من العضلات والأوصال.
فلم تعفه العبقرية من ضريبتها التي لا مناص من أدائها، وآية ذلك أنه مات على فراشه في نحو الخامسة والخمسين، وليست هي بالسن الغالبة فيمن يموتون بداء الشيخوخة من غير علة أخرى.
وإذا تجاوزنا هذه المظنة، وهي كافية، ألفينا في تراجم الأسرة كلها ما ينبئ عن عوارض الأسر التي تهيئها الأقدار لإنجاب العباقرة في شتى المواهب والمزايا.
فهذه الأسرة الغريبة تكثر فيها عوارض الاختلاف عن جملة الناس في تركيب الأعصاب خاصة، ويشاهد فيها فرد أو أفراد تتجمع فيهم عللها وتمعن بهم مخالفاتها وعناصر شذوذها حتى تسلمهم إلى الاختلال والاضطراب كأنهم ضحايا الأسرة كلها في سبيل إنجاب العبقرية منها.
وكانت هذه العوارض مشاهدة في أسرة خالد وفي إخوته على التخصيص. فذكر كتاب الاستيعاب في أسماء الأصحاب: «إن الوليد بن الوليد كان يروع في منامه، مثل حديث مالك سواء في قصة خالد.»
وعن مسند ابن أبي شيبة أن خالد بن الوليد كان يفزع في نومه، فشكا إلى النبي عليه السلام، فقال له: «إن عفريتا من الجن يكيدك.»
وبذلت هذه الأسرة الممتازة ضحيتها الكبرى في شخص سليلها عمارة بن الوليد أحد الإخوة المذكورين بأسمائهم من ذرية الوليد بن المغيرة.
وعمارة هذا، هو صاحب عمرو بن العاص في رحلة الحبشة رسولين إلى النجاشي؛ لتسليم المسلمين بها إلى قريش.
وكان مولعا بالخمر والغزل، وسيما محببا إلى النساء. فلما كان بالسفينة مع عمرو وامرأته شرب ونظر إلى امرأة عمرو نظرة مريبة.
وقد نلمح عوارض الأسرة هذه في أعظم أفراد الأسرة كما نلمحها في هذا المسكين الذي ابتلى بالثمن الفادح والضحية الكبرى. فخالد بن الوليد - شرف بني المغيرة - لم يفتنه الميل إلى المرأة كما فتن أخاه، ولم يصرفه قط عن عبء من أعباء البطولة ولا عن فريضة من فرائض العظمة والعبقرية، ولكنه على هذا قد تعرض للمؤاخذة من عمر بن الخطاب ومن أبي بكر الصديق في صدد الزواج المعجل في غير حينه، فسبى امرأة مالك بن نويرة، وتزوج في حرب اليمامة وهو بميدان القتال، وسبى ابنة الجودي في دومة الجندل، وقيل: إنه فقد أربعين ولدا في طاعون الشام وهو بقيد الحياة لما يجاوز الخمسين بكثير.
وتلك في جملتها شواهد العوارض التي يقرر النفسانيون المحدثون أنها سمات العبقرية في منابتها، ومنابتها هي الأسر التي تنجبها وتبذل أثمانها قبل أن تنعم بمجدها وفخارها.
وكما ظهرت هذه العوارض في لون من ألوانها على أخيه عمارة، ظهرت في بعض ألوانها الأخرى على أخيه الوليد الذي كان مثله يراع في رقاده.
فهذا الأخ الكريم كان مع جيش المشركين في وقعة بدر فأسره المسلمون، وطال الكلام في فدائه لغناه وعداوة أهله للإسلام، فطلب آسره أربعة آلاف درهم، وأوصى النبي ألا يقبلوا فدية له غير شكة أبيه الوليد وهي درع فضفاضة وسيف وبيضة. وكل هذه المطاولة والمساومة والوليد باق على دين الشرك في أسر المسلمين. فلما تم فداؤه وذهب إلى أهله، أعلن إسلامه بينهم وهم كارهون، وعجب المشركون لأمره فسألوه: هلا أسلمت قبل أن تفتدى؟ فقال: كرهت أن يظن بي أنني جزعت من الإسار ... وصبر على التعذيب والنكاية والحبس بين أهله حتى أفلت بعد جهد وحيلة ولحق بالنبي مشيا على قدميه ...
هذه أيضا نفحة خالدية من نفحات تلك الأسرة القوية التي تأبى لخلائقها إلا أن تحير الناس وأن ترد عليهم من مورد التفاوت والإغراب والمخالفة للمألوف.
وهي في أطوارها المتباينة منجم العبقرية الذي لا مراء فيه، ومعدن البطولة التي تكتب لصاحبها وهو في الأصلاب.
فها هنا نشأة بطل عبقري مدخر للقيادة والرئاسة بميراث حسبه وطبعه، وملكات نفسه وجسده، جاءته البطولة وهو ينتظرها ولا يشك فيها، وتهيأ لها بالقدرة على الشدة والرخاء والنعمة والبأساء، ويكاد الصدق والإشاعة معا يتوافيان إلى دلالة واحدة في تربية هذا البطل المنذور للبطولة والعبقرية من قبل ميلاده، فأكلة الضب التي سبق ذكرها واحدة؛ وغيرها أكلات مسمومات يبدو لنا أنها مخترعة أو محرفة ولكن اختراعها وتحريفها يدلان لا محالة على شيء، وهو اشتهار خالد بترويض بنيته على تجرع الغصص التي يتقزز منها الناس ويخافون منها الهلاك. ففي اليواقيت للقطب الشعراني أنه حاصر قوما من الكفار في حصن لهم، فقالوا: تزعم أن دين الإسلام حق؟ فأرنا آية؛ لنسلم، فقال احملوا إلي السم القاتل، فأتوه به فأخذه وقال: بسم الله، وشربه فلم يضره. وتردد مثل ذلك في كتاب الإصابة فروي عن مصادر شتى أنه لما قدم الحيرة أتى بسم فوضعه في راحته، ثم سمى وشربه، ولم يؤثر فيه.
وقد سمعنا نيتشه - بشير السوبرمان في العصر الحديث - يقول: إن السم الذي لا يميتني يزيدني قوة ...
فهذه بنية بطل نشأته للمجد على هذا الغرار.
الفصل الرابع
إسلامه
كان إسلام خالد ضربا من التسليم ...
كان ضربا من التسليم بمعناه «العسكري» المصطلح عليه في عرف القادة ورجال الكفاح ...
لأنه أسلم أو سلم تسليم القائد البصير بحركة القتال بين المد والجزر والنصر والهزيمة، الخبير بموضع الإقدام وموضع الإحجام، المقاتل والقتال شجاعة، المسالم والسلم ضرورة لا محيص عنها.
ولم يكن تسليمه تسليم العاجز الوكل، ولا الجازع المنخذل، بل لعله بلغ من نفسه غاية الثقة بالقدرة وحمادى اليقين بالخبرة، يوم أسلم وسلم إلى معسكر الدين الجديد. كأنه آمن بالله؛ لأنه علم من ذات نفسه أنه لن يغلبه إلا الله، وكأنه كان يقول في قرارة ضميره: أيهزمني أحد وليس له مدد من النبوة؟ أيعلو سيف على سيفي وليس له سر من السماء؟
فبلغ نهاية الإيمان بنفسه يوم بلغ بداية الإيمان بالله.
وقد كان على ذويه في بني مخزوم أن يحاربوا حربهم إلى نهايتها؛ لأن الصراع بين الجاهلية والإسلام لم يكن إلا صراعا لهم قبل كل جاهلي وكل قرشي وكل عربي على التعميم.
وكان معسكرهم أولى المعسكرات أن يصمد إلى موقف الحسم من النضال بين الفريقين؛ لأن بلاءه بإدبار الجاهلية أكبر من كل بلاء، وموقفه أمام الإسلام موقف من ينافح عن عزته وعزة بيته وعزة آبائه وأجداده، وعزة «النظام» الاجتماعي كله كما قررته الجاهلية أحقابا بعد أحقاب؛ لأنه النظام الذي به يقومون وبهم يقوم.
وقد أبلى أبوه في هذا الصراع قصارى ما في وسعه من بلاء، وهو شرح يطول، وتفصيل تضيق به الفصول، ولكن إشارة واحدة فيه تغني عن بيان طويل، وصفحة موجزة من صفحاته تغني عن الإطناب في القال والقيل.
وحسبنا من تفصيل مكائده وجهوده كلها في حرب الإسلام أن نقول: إنه قد هان عليه في هذا السبيل أن يبذل العزيزين؛ الولد والمال.
ففي بداية الدعوة المحمدية، سعى وقومه إلى عم النبي أبي طالب؛ ليسلمهم محمدا أو يتخلى عنه، وله بديلا منه عمارة بن الوليد ... وقد وصفوه بأنه أنهد الفتيان وأشعرهم وأجملهم في قريش.
وبعد استفاضة الدعوة المحمدية يسعى إلى النبي فيمن سعى إليه من سراة قريش ليشاطروه أموالهم ويسكت عن أربابهم وعباداتهم، وفي ذلك يقول القرآن الكريم في سورة الأحزاب آية (1):
ولا تطع الكافرين والمنافقين .
وبمقياس هذا البذل السخي في سبيل الدين تقاس كراهة الرجل للدين الجديد، وهي كراهة الهرم التي تبقى إلى الموت؛ لأنه فوجئ بالإسلام وهو يقارب الثمانين وظل على الكيد له حتى مات بعيد الهجرة وقد نيف على الخامسة والتسعين. •••
وكان خالد فتى ناشئا يوم ظهر النبي بالدعوة الجديدة، فنفر منها كما نفر قومه أجمعون، وزاد على النفرة لهبا من حمية صباه، وتحفزا فتيا يسبق به أباه.
فما هو إلا أن بلغ مبلغ الزعامة في القتال حتى تجرد لها بعزيمة الفتوة وشجاعة البطولة، ولم تنقض سنتان على موت أبيه حتى كان قائد الميمنة في وقعة أحد المشهورة، وتولى الهجمة التي مالت بكفة النصر من جانب المسلمين إلى جانب المشركين.
وذلك أن النبي - عليه السلام - أقام الرماة من وراء جيشه وقال لهم: «قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا.» فلما ولى المشركون منهزمين وتبعهم المسلمون مغتنمين، خالفت كثرة الرماة وصاية النبي وتصايحوا بينهم: «ما مقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون»، فكانت هي الغرة التي اهتبلها خالد، ولم تذهله عنها الهزيمة المطبقة بقومه، فكر بالخيل وتبعه عكرمة بن أبي جهل صاحب الميسرة وداروا من وراء جيش المسلمين، فحملوا على من بقي من الرماة، فقتلوهم وقتلوا أميرهم عبد الله بن جبير، وانتقضت صفوف المسلمين، واستدارت رحاهم، واختلطوا، فصاروا يقتتلون على غير شعار ويضرب بعضهم بعضا من العجلة والدهش، وشاع أن النبي - عليه السلام - قتل في المعركة، وقتل فيها حمزة وسبعون من الأنصار، وأرجف المرجفون بكبار الصحابة حتى ظن أبو سفيان أن أبا بكر وعمر من القتلى، وصاح بين الصفوف: «يوم بيوم بدر والحرب سجال.» •••
واشترك خالد في وقعة أخرى هي وقعة الأحزاب، أو الخندق، فكانت هي أيضا من أهول الغزوات على المسلمين وأوشكت أن تحيق بهم دوائرها ، لولا يقظة علي ابن أبي طالب ووقيعة بعض الدهاة بين أحزاب قريش وهبوب الريح التي عصفت ببيوتهم وقدورهم وزادتهم يأسا من اقتحام الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة، وفي هذه الغزوة يقول القرآن الكريم:
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (الأحزاب: 9-11).
وقد كان خالد في هذه الغزوة يطوف بخيله حول الخندق يلتمس مضيقا يقحم منه الخيل، فأعياه، وفشل عمرو بن ود حين حاول العبور من إحدى نواحيه. فلما حبطت حملة عمرو وقتله علي بن أبي طالب. بات المشركون ليلتهم يقسمون كتائبهم لكل فريق من المسلمين كتيبة تدهمه مع الصباح، فكان خالد هو الموكل بالنبي - عليه السلام - في كتيبة غليظة من خيل قريش والأحزاب، فاندفع يقاتل سحابة النهار وهويا من الليل، إلى أن تحاجز الفريقان ورجع المشركون وانصرف المسلمون إلى قبة النبي، فارتد خالد بعد هنيهة يطلب الغرة، وكاد أن يظفر بها لولا حرس من المسلمين بقيادة أسيد بن حضير تنبه له وفوت عليه غرضه. ثم انقطع القتال وهو لا يزال على الطلب والطواف، وكان آخر من ترك الحومة بعد يأس الأحزاب من عبور الخندق ودخول المدينة، فلبث هو وعمرو بن العاص على ساقة الجيش في مائتي فارس ردءا للجيش كله، مخافة أن يتعقبه المسلمون. •••
وتصدى خالد مرة أخرى للنبي - عليه السلام - في سنة الحديبية وهو في طريقه إلى مكة، وكان النبي قد خرج إليها معتمرا في نحو ألف وخمسمائة من المسلمين لا يحملون سلاحا غير السيوف في القرب، فأوجس المشركون خيفة أن يكون قدومه إلى البيت الحرام للقتال لا للعمرة، وندبوا خالدا في مائتي فارس للقائه قبل بلوغ مكة. فدنا خالد حتى نظر إلى أصحاب رسول الله، وأمر رسول الله عباد ابن بشر فتقدم في خيله وأقام بإزائه وصف من ورائهم رجاله ، ثم حانت صلاة الظهر فصلى رسول الله بأصحابه صلاة الخوف، وهم خالد أن يغير عليه لولا نخوة من الفروسية أبت له العدوان على المسالم وقمعت فيه طمع الرئيس المغيظ على مكانته وعروض دنياه، فعلت هنا كفة الفارس النبيل على كفة الرئيس الموتور، وقال خالد يصف ذلك بعد إسلامه: «هممنا أن نغير عليه ثم لم يعزم لنا، وكان فيه خيرة، فاطلع على ما في أنفسنا من الهجوم به فصلى بأصحابه العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك مني موقعا، وقلت الرجل ممنوع.»
إلا أنه مع هذا بقي على لدده في خصومة الإسلام ومعاندة نفسه دون الإصغاء له والنظر إليه. فلما صالح النبي قريشا ودخل مكة في عمرة القضية كره خالد أن يشهد دخوله، وتغيب من جوار البيت ريثما يعتمر المسلمون ويرجعون من حيث أتوا، وهو معفي النظر من رؤية شيء لا يستحبه ولا يخلي بينه وبين حربه.
كذلك كانت كراهة خالد للإسلام بعد كراهة أبيه.
ومن وثباته هذه، ولجاجه ذاك، يغلب على الظن أن كراهته كانت من نوع تلك الكراهة التي هي أقرب إلى المبارزة والمناجزة منها إلى المقت والضغينة؛ لأنها لا تعني صاحبها بالبعد من موضوعها كما تعنيه بالاشتغال به والعكوف عليه، كأنه زميل المبارزة اللازم لإتمام الصراع وإذكاء حرارته وامتحان قدرة النفس عليه.
وهذه الحرارة حركة جياشة في النفس وليست كذلك الموات الذي تنقبض عليه النفس في الشيخوخة الفانية، وكذلك الضغن الذي يتغذى بقبحه المخزون في طبيعة منغولة معدومة الخير والنجدة.
مثل هذه الحركة الجياشة في النفس الحية الفتية كالسيل المتدفع الآتي في واديه المحيط بجانبيه، يظل متدفعا آتيا ما بقي في الوادي وما انهمر عليه الغيث من ضفتيه، ولكنه إلى أمد لا محالة؛ لأنه سينتهي إلى مفترق الوادي فلا يجيش ولا يتدفع، وسيقصر عنه الغيث فلا يربو ولا يترع، وسيكون طريقه مع الوادي المفترق غير طريقه مع الوادي المحصور.
والوادي هنا قد افترق في مجراه شعبة بعد شعبة منذ عهد قريب وإن لم ينته بعد إلى غاية المفترق في الأرض البراح.
افترق الوادي قليلا حين انقسم بيت المغيرة بين معسكر الجاهلية ومعسكر الإسلام، وأصبح في معسكر الإسلام أخوان حبيبان إلى خالد، وهما الوليد وهشام.
وافترق قليلا يوم أصغى أبوه إلى القرآن، فحدث آل بيته عنه ذلك الحديث الذي أرابهم وأشجاهم، فحسبوه قد صبأ عن دينه وسألوه عن نبأ محمد فأوشك أن يقع في قلبه أنه وحي السماء لو لم ينطق لسانه بأنه السحر الذي يفرق بين الرجل وزوجه والولد وبنيه والسيد ومولاه.
وافترق قليلا يوم شهد خالد سكينة المسلمين في طريق الحديبية وهم قائمون للصلاة، وهجس في خاطره أن يغير عليهم فصدته عنهم رهبة الصلاة ونخوة الفارس المحجم عن الغدر والغيلة، وسرى في روعه أن لمحمد لسرا وأن الرجل لممنوع.
وكان لتلك الحركة الجياشة مدد من تحريك الكتائب وتجريد الطلائع وإقامة الأرصاد والتقاء الجموع واتفاق الكلمة بين المشركين على الحرب والعداء، فإذا هم يتبلبلون مختلفين بعد صلح الحديبية، وإذا بصلح الحديبية يلقي السلاح من الأيدي سنين طوالا لا لقاء فيها ولا نزال، ولا سورة من غضب ولا جذوة من غيظ مثار.
ومات الشيوخ الذين كانوا يخيمون بوقارهم وجمودهم على العقول، وتهيأ الجو للسؤال: فيم هذا العداء والنضال؟ أمن أجل الكعبة ومحمد يرعاها ويحترم جوارها ويحج إليها؟ أم من أجل العصبية القومية وشرف محمد شرف العرب أجمعين؟ أم من أجل الكرامة ومحمد يصون للعزيز كرامته ويعرف للحسيب قدره؟
ومن أين لمحمد ذلك النصر المبين بعد النصر المبين؟
ومن له تلك المهابة التي ترد عنه الأعين والأيدي من قريب؟
ومن أين له ذلك العون الذي يدركه وقد أحاطت به الهزيمة من كل فج، فإذا هو ناصل منها وإذا هو الطارد الظافر وقد خيل إليهم أنه الطريد المخذول؟
ومن أين للمسلمين ذلك الأدب وذلك الخشوع؟ ومن أين للنبي بينهم ذلك السلطان الصادع والصوت المسموع؟
لقد رآهم ورآه سيد أهل الطائف عروة بن مسعود، فعاد إلى قومه يقول: «والله يا معشر قريش ... جئت كسرى في ملكه، وقيصر في عظمته فما رأيت ملكا في قومه مثل محمد بين أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه بشيء أبدا، فانظروا رأيكم فإنه عرض عليكم رشدا، فاقبلوا ما عرض عليكم فإني لكم ناصح، مع أني أخاف ألا تنصروا عليه.»
ولقد رأوه بعد ذلك في عمرة القضية لا يتوضأ إلا كاد المسلمون يقتتلون عليه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدون النظر إليه، ورأوهم في نظامهم ومودتهم وصدق إيمانهم وخالص نياتهم، فأكبروهم وعز عليهم أن يصغروهم أو يتمادوا في الزراية بهم والإعراض عنهم، وانقلبوا إلى أنفسهم فإذا هم مرتابون في الغد متدابرون في المقصد، منهزمون وهم الأكثرون، محجمون وهم المتربصون، فحانت الساعة لوزن الأمور ومراجعة الحاضر والمصير، وفرضت هذه المراجعة فرضا على كل ذي بصر بالقيادة في معارك النضال أين تفشل وأين يتسع لها المجال، فإذا بالرجلين المفطورين على توجيه الوجوه قد انتهيا إلى رأي في مصير المعركة بين الجاهلية والإسلام في ساعة واحدة، وعلما أين يقف الدينان المتناجزان من حق النصر وعوارض الهزيمة، وهما عبقريا قريش في أصول القيادة على تباين السن والمذهب والمزاج: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص.
وفي تلك الآونة التي يشتد فيها الجذب والدفع بين الإنسان وقرارة ضميره، وتجب فيها الموازنة وجوبا على كل ضليع يها قادر عليها، لم يترك خالد لنفسه ولم يلبث أن جاءته الدعوة التي تنصره على عناده وتخرجه من تردده، وتستدعي منه البث العاجل بجوابه، وتمسح الغضاضة التي لعلها كانت تثنيه عن تلبية ضميره.
وتلك رسالة من أخيه له من كلام محمد ولا غنى فيها عن جواب.
قال أخوه الوليد: «... أما بعد ... فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام يجهله أحد؟!»
ثم مضى يقول: «سألني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به. فقال: ما مثل خالد يجهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين على المشركين لكان خيرا له، ولقدمناه على غيره. فاستدرك يا أخي ما فاتك منه، فقد فاتتك مواطن صالحة.»
تلك كانت هي الدعوة التي جاءت في أوانها.
وكان إسلام خالد هو الجواب.
فهي مراحله الطبيعية التي لا بد له من عبورها بين الجاهلية والإسلام؛ لم يكن طبيعيا أن يلبي أول دعوة وهو هو في قريش صاحب معقلها المنيع.
ولم يكن طبيعيا أن يلبي الدعوة في وطيس الحرب ومحتدم العداء.
ولم يكن طبيعيا أن يسكن هنيهة إلى الموازنة وقد انقسم بيته، ثم انقسمت نفسه، ثم جاءته الدعوة الكريمة في حينها فلا يكون الإسلام جوابه المنظور.
فهو قد انتقل من الإصرار إلى القتال، إلى الموادعة، إلى الموازنة، إلى الترجيح، إلى الإجابة، ولو عجل بواحدة من هذه الخطوات لكانت هذه العجلة هي مكان العجب وهي الأمر المخالف لطبائع الأمور.
وقد أسلفنا أن الإسلام كان في أمر خالد ضربا من التسليم، فنعيد هنا أنه تسليم القائد في معركة نفسية وليس بتسليم القائد في معركة حسية وكفى، ولهذا عناه أن يستغفر له النبي ربه عن ماضيه، ولم يكن قصاراه أن يرحب به النبي ويسلكه بين صحابته ومريديه، فقال: «يا رسول الله ... قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندا عن الحق، فادع الله يغفرها لي.»
فأجابه النبي عليه السلام: أن الإسلام يجب ما كان قبله.
فعاد خالد يؤكد رجاءه ويقول: يا رسول الله، وعلى ذلك!
فدعا النبي ربه: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيلك.
فرضي خالد واستراح ...
ولا يكون هذا إلا تسليم القلب نفض عنه الكفر، وليس تسليم اليد رمت منها السلاح.
وأحرى بنا أن نرجع إلى كلام خالد؛ لبيان تاريخ إسلامه وسبب اهتدائه وتلخيص الأحاديث التي كاشف بها خلصاءه قبل لحاقه بالنبي في المدينة ليسلم على يديه، فإنه أجمل ذلك كله إجمالا يفصح عن تلك الأطوار النفسية التي ساورته وإن لم يقصد إلى الإفصاح عنها، ولعل صدورها منه على البديهة أبين لها، وأقرب إلى توكيدها من الشرح المقصود.
قال: «لما أراد الله بي من الخير ما أراد، قذف في قلبي حب الإسلام وحضرني رشدي وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد، فليس موطن أشهده إلا وأنصرف وإني أرى في نفسي أني موضع في غير شيء وأن محمدا سيظهر، فلما خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى الحديبية خرجت في خيل المشركين فلقيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في أصحابه بعسفان، فقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر إماما، فهممنا أن نغير عليه ثم لم يعزم لنا. وكان فيه خيرة. فاطلع على ما في أنفسنا من الهجوم به فصلى بأصحابه العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك مني موقعا وقلت: الرجل ممنوع، وافترقنا وعدل على سنن خيلنا، فأخذ ذات اليمين، فلما صالح قريشا بالحديبية ودافعته قريش بالراح قلت في نفسي: أي شيء بقي؟ أين المذهب؟ أإلى النجاشي؟ فقد اتبع محمدا وأصحابه آمنون عنده، فأخرج إلى هرقل؟ فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية؟ أفأقيم في عجم؟ أو أقيم في داري فيمن بقي؟» «وبينما أنا كذلك إذ دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في عمرة القضية، وتغيبت فلم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد قد دخل مع النبي
صلى الله عليه وسلم
في تلك العمرة، فطلبني فلم يجدني. فكتب إلي كتابا فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام يجهله أحد؟! وقد سألني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: أين خالد؟ فقلت يأتي الله به، فقال: ما مثل خالد يجهل الإسلام؟ ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين على المشركين لكان خيرا له، ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا أخي ما فاتك منه، فقد فاتتك مواطن صالحة».» «فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام، وسرتني مقالة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ورأيت في النوم كأني في بلاد ضيقة جدبة، فخرجت إلى بلد أخضر واسع، فقلت: إن هذه الرؤيا حق! فلما قدمت المدينة قلت لأذكرنها لأبي بكر، فذكرتها فقال: هو مخرجك الذي هداك للإسلام، والضيق الذي كنت فيه الشرك. فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قلت: من أصاحب إلى محمد؟ فلقيت صفوان بن أمية، فقلت: أما ترى يا أبا وهب؟ أما ترى ما نحن فيه؟ إنما نحن أكلة رأس، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا عليه فاتبعناه؟ فإن شرف محمد شرف لنا. فأبى علي أشد الإباء، وقال: لو لم يبق غيري من قريش ما تبعته أبدا، فافترقنا، وقلت: هذا رجل موتور يطلب وترا، قتل أبوه وأخوه ببدر. ولقيت عكرمة بن أبي جهل، فقلت له مثل ما قلت لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان ... فقلت له: فاطو ما ذكرت لك ... وخرجت إلى منزلي، فأمرت براحلتي تخرج إلي، إلى أن ألقى عثمان بن أبي طلحة، وهو صديق لي أذكر له ما أريد. ثم تذكرت من قتل من آبائه فكرهت أن أذكره، ثم قلت: وما علي وأنا راحل من ساعتي؟ فذكرت له ما صار الأمر إليه، وقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صب عليه ذنوب من ماء خرج، وقلت له نحوا مما قلته لصاحبيه، فأسرع الإجابة ... وأدلجنا بسحرة فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج - على ثمانية أميال من مكة - فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة، فوجدنا عمرو بن العاص بها فقال: مرحبا بالقوم. قلنا: وبك. فقال: أين سيركم؟ قلنا: ما أخرجك؟ قال: فما الذي أخرجكم؟ قلنا: الدخول في الإسلام واتباع محمد قال: وذاك الذي أقدمني. فاصطحبنا جميعا حتى قدمنا المدينة، فأنخنا بظاهر الحرة ركائبنا، وأخبر بنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فسر بنا. فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فلقيني أخي فقال: أسرع فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أخبر بقدومك فسر بقدومك وهو ينتظركم، فأسرعت المشي، فطلعت فما زال يبتسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة، فرد علي السلام بوجه طلق فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: الحمد لله الذي هداك، وقد كنت أرى لك عقلا ورجوت ألا يسلمك إلا لخير.»
إلى أن قال : «وتقدم عمرو وعثمان فبايعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان قدومنا في شهر صفر من سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله يوم أسلمت يعدل بي أحدا من أصحابه فيما حزبه.»
فهذا السرد البسيط قد يحوم بنا حول الخالجة الأولى التي حركت قلب خالد إلى الإيمان بالدين الجديد، ونحسب أنها قد خالجته يوم التقائه بالمسلمين في طريقهم إلى مكة قبيل صلح الحديبية ... يوم ردته سكينة الصلاة عن جموع المسلمين وهم مسالمون قانتون إلى جوار البيت الحرام، ويوم بدا له أن هذا البيت العتيق غير خاسر شيئا بدعوة محمد وغلبة أصحابه على البلد الأمين، ويوم تراءى العنت من قريش أن يذودوا ابن عبد المطلب عن كعبة آبائه وأجداده، ويفسحوا طريقها للوافدين من حمير، كما قال الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش ...
فمنذ تلك الساعة تباعد ما بين خالد وبين الشرك وتقارب ما بينه وبين الإسلام، وطفق يتباعد من هناك ويتقارب من هنا حتى كانت مبايعته النبي على ما تقدم قبل فتح مكة بشهور.
وفي تحقيق هذا التاريخ - تاريخ إسلامه - خلاف غير قليل، ولكن التاريخ الذي جاء في سرده المنسوب إليه أرجح التواريخ جميعا لأسباب كثيرة، ليس بأهونها ولا أوهنها السبب النفساني الذي يقترن بغيره. فإن الوقت المشار إليه آنفا لهو أشبه الأوقات أن يتفق فيه قائد الحرب وقائد السياسة على انتهاء الجولة بين قريش والإسلام، ولن نجد وقتا هو أولى باتفاق القائدين على اختياره للتسليم من ذلك الوقت الذي تواردت فيه الخواطر بين خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. وبعده قضي الأمر ولم يبق لمكة إلا أن تفتح أبوابها طائعة لمن هجرته وهجرها تلك السنوات الثماني.
وقد علم النبي - عليه السلام - جلية الأمر منذ قدم إليه الرفاق الثلاثة، فقال لصحبه: رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها، وحق للمسلمين أن يحسبوا منذ تلك الساعة أن أولئك الرفاق الأفذاذ قد جاءوهم بمقاليد الكعبة ومسالك البلد الأمين.
فالواقع أن مكة قد أذنت بالفتح منذ فارقها خالد وعمرو وعثمان بن أبي طلحة، فأصبحت «المدينة المفتوحة» التي نعرفها في اصطلاح هذه الأيام، وأصبحت قضية مغلقيها في وجه الدين الجديد قضية عبث وحبوط.
ويخطئ الكاتبون الذين يزعمون أنها فتحت بعد شهور لأنها أخذت على غرة وزحف عليها جيش المسلمين في عشرة آلاف وأهلها معجلون عن الأهبة والدفاع.
فإن النبي - عليه السلام - إنما زحف عليها؛ لأن قريشا غدرت بعهدها وسطت على حلفائه من خزاعة، ثم أشفقت من القصاص فأوفدت أبا سفيان إلى النبي يستأمنه ويسأله مد العهد الذي أبرم بينهم في صلح الحديبية، فأبى النبي ولم يجبه، وأحس المشركون منذ اللحظة الأولى أن المسلمين زاحفون عليهم لا محالة، فلو أن قضية الشرك بقيت لها بقية من عزم لاستعدوا قبل السطو بخزاعة أو بعده على الأثر وأراحوا أنفسهم من الوساطة في التأجيل والمراوغة، ولكنه التسليم الذي بدأ بإسلام خالد وصاحبيه قد تراخى به الوقت إلى أجله المعلوم. •••
فلما جاءها المسلمون دخلوها آمنين على كثرة من بها من المشركين، وتقدم النبي صلوات الله عليه في كتيبته الخضراء، وتقدم سعد بن عبادة والزبير بن العوام وخالد بن الوليد إلى أبوابها فدخلوها كل من الباب الذي وكل إليه، ونهى النبي أصحابه عن القتال فيها، فلم يحدث قط قتال إلا من صوب خالد بن الوليد؛ لأن صفوان بن أمية وسهيل بن عمر وعكرمة بن أبي جهل رصدوا للباب الذي وصل منه وجمعوا له جمعهم فمنعوه ورموه بالنبل وشهروا عليه السلاح، فبطش بهم وقتل منهم قرابة ثلاثين أكثرهم من قريش وأقلهم من هذيل، وولى السادة والأتباع بعد ذلك في هزيمة نكراء.
أهو تدبير أم مصادفة أحكم من التدبير؟
خالد دون غيره تصادفه جنود رفقائه بالأمس في جيوش المشركين فيرمونه ويرميهم، وقد كانوا معا يرمون المسلمين عن قوس واحدة.
إنه حارب في صفوف الإسلام عرب الجزيرة وعرب العراق والشام، وحارب في صفوف الإسلام جيوش الفرس والروم، وحارب في صفوف الإسلام كل من برز لتلك الصفوف، فما بال الجاهلية القرشية وحدها ينصرها على المسلمين ولا ينصر المسلمين عليها؟ وأين يلتقي بها إن فاته لقاؤها في ذلك اليوم ؟ لقد لقيها إذن في ساعتها التي لا ساعة بعدها وقال النبي حين سمع بضربته: ألم أنه عن القتال؟ قالوا: إنه خالد قوتل فقاتل فقال: «قضاء الله خير»، ثم قال: «لا تغزى قريش بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة ...»
وغرائب الاتفاق هكذا تكون حيث تكون.
الفصل الخامس
مع النبي صلى الله عليه وسلم
أحاط بالنبي - عليه السلام - نخبة من كبار الرجال مختلفون في الأعمار والأقدار، مختلفون في البيئات والأحساب، مختلفون في الأمزجة والأخلاق، مختلفون في ملكات العقول وضروب الكفايات، مختلفون في فهم الدين وبواعث الإسلام، فكان اختلافهم هذا آية من أصدق الآيات على رحابة الأفق وتعدد الجوانب في نفس ذلك الإنسان العظيم، وكان علمنا بكل رجل من أولئك الرجال مزيدا من العلم بعظمة هاديهم وسيدهم وموجه كل منهم في وجهته التي هو أصلح لها وأقدر عليها، وهم يلتقون أول الأمر وآخره في ذلك الينبوع الفياض من تلك الفطرة العلوية التي فطرها الله لهداية الأمم وقيادة الرجال، بل لقادة القواد الذين يروضون الأمم والرجال.
وما من عظيم من هؤلاء العظماء إلا كان تقدير النبي إياه بقدره الصحيح آية على عرفانه الشامل بخصائص النفوس وسبرة العميق لأغوار الطبائع والأفكار، ولكن تقديره لخالد بن الوليد على التخصيص كان آية الآيات في هذا الباب؛ لأنه عليه السلام لم يكبره إكبار السياسي الذي يستجمع القوة حواليه وينزل كل زعيم منزلة قومه من الوفرة والجاه والعتاد، وإنما أكبره؛ لأنه عرف أقصى مستطاعه قبل أن يظهر من مستطاعه كثير، وسماه «سيف الله» وبينه وبين الوقائع التي استحق بها ذلك اللقب الجليل بضع سنوات، بل سماه سيف الله وهو قافل من معركة يتلقى المسلمون من عادوا منها بالنكير والتشهير، ويحثون في وجوههم التراب ويصيحون بهم أينما وجدوهم: يا فرار. يا فرار. فررتم من سبيل الله.
لم يكبر النبي خالدا كما أكبر أبا سفيان تألفا له ورعيا لمكانه في قومه، ولكنه أكبره للصفة التي سيوصف بها في تاريخ الإسلام بعد اهتدائه إليه ببضع سنوات.
أكبره؛ لأنه «سيف من سيوف الله »، والناس لا يرون إلا الهزيمة والارتداد، ولم يكن النبي موليه القيادة في المعركة التي ارتد منها بجيش المسلمين، فيقول قائل إنه ينصر المسئول عن اختياره، وهو من ثم المسئول عن ارتداده أو فراره. ولكنه ولى آخرين وترك اختياره بعدهم لمشيئة إخوانه في الجيش، فاختاروه بعد ذلك مجمعين.
كثير من رؤساء الأمم يعرفون موضع الإكليل من رءوس القادة وهم منتصرون ظافرون، ولكنه موضع يخفى جد الخفاء على أنظار هؤلاء الكثيرين إذا لم يدلهم عليه ضياء النصر والظفر ويبقى للعين الملهمة وحدها أن تراه في ظلام المحنة والبلاء.
وقد صحب خالد النبي ثلاث سنوات، وعهد إليه النبي في كثير من الأعمال الصغيرة وأشركه في بعض الأعمال الكبيرة؛ ومنها غزوة مؤتة، وغزوة حنين، وسرية بني جذيمة، فما من هذه الأعمال الكبيرة عمل واحد لم يتسع فيه المقال للشانئ والحاسد ولم ينظر إليه الناظر من وجهين متعادلين تارة إلى جانب العذر وتارة إلى جانب الملام، ولو أنه - رضي الله عنه - قضى نحبه في السنة العاشرة للهجرة أو بعد ذلك بقليل لعجب المؤرخون كيف سمي «سيف الله» وفيم استحق هذا اللقب الذي لا يعلوه لقب في الإسلام، ولكن النبي وحده قد عرف قبل الحادية عشرة للهجرة أنه حقيق بذلك اللقب على أوفى مداه، سماه به قبل أن يهزم المرتدين، وقبل أن يهزم الفرس والروم، وقبل أن يصون للإسلام جزيرة العرب ويضم إليها العراق والشام، وهي الأعمال الجسام التي من أجلها يدعى اليوم سيف الإسلام.
وإنما هو البصر العلوي الذي يلمح هذه القدرة في معدنها حيث ينظر الناس فيرون خالدا مرتدا من غزوة مؤتة، أو مأخوذا مع الخيل وهي تولي في أول المعركة من ميدان حنين، أو صانعا في سرية بني جذيمة ما يبرأ منه النبي عليه السلام.
ولهذا ينبغي أن توزن هذه الأعمال بميزانها الصحيح؛ لإقامة خالد نفسه في مقامه الصحيح، فهي - ولا ريب - من المعدن الذي نجمت منه حروب الردة وفتوح العراق والشام. (1) سرية مؤتة
وأول هذه الأعمال قد اشترك فيه متطوعا بعد إسلامه بشهرين أو ثلاثة أشهر، وهو سرية مؤتة التي سيرت إلى البلقاء.
وكان سبب هذه الغزوة أن النبي - عليه السلام - أرسل وفدا إلى ذات الطلح بمقربة من الشام؛ ليدعوهم إلى الإسلام، فقتلوا جميعا وعدتهم خمسة عشر إلا رئيسهم نجا من القتل وحده، ولعلهم أبقوا عليه عمدا؛ ليخبر بما رآه، على ديدن المنكلين في إبلاغ مثلاتهم إلى من يهددونه بالتمثيل والتنكيل.
وأرسل عليه السلام الحارث بن عمير الأزدي رسولا إلى هرقل، فقتله شرحبيل ابن عمرو الغساني وهو في الطريق.
فأشفق عليه السلام من عقبى السكوت على كلتا الفعلتين وهو غير مأمون ... وعلم أن قبائل الجزيرة العربية نفسها قد أذعنت للدعوة الجديدة ومنها المتربص للغدر متى قدر عليه، والموهون الإيمان الذي لا يصبر على الإغراء والاستثارة، فإذا استضعف الغسانيون وجيران الغسانيين شأن النبي وأفلتوا من جرائر فعلة كتلك الفعلة اللئيمة جرأهم ذلك عاجلا على اقتحام الصحراء للنقمة من المسلمين، فتهب القبائل لنصرتهم في طريقهم وتمدهم الدولة الرومانية بالمال والسلاح تقريرا لهيبتها في عيون أولئك البدو الذين جهلوا بأسها ووهموا أنهم قادرون عليها؛ إذ لا مطمع للدولة الرومانية في مقاتلة المسلمين وإخضاع الجزيرة بغير هذه الوسيلة، ولا سبيل إلى تسيير الجنود الرومانيين بنظامهم المعروف ومعاهداتهم الكثيرة لمنازلة المسلمين في عقر دارهم من وراء المفاوز والنجود، وتسييرهم بحرا إلى شواطئ الحجاز لا يغنيهم عن الاستعانة بأناس من العرب وأهل البادية، وهم أولى أن يستعينوا على هذا المطلب بأتباعهم الأقدمين في تخوم الشام.
فلم يجد عليه السلام مناصا من الثأر لأصحابه المقتولين، وجرد لتأديب المعتدين جيشا صغيرا لا تتجاوز عدته ثلاثة آلاف، وكان في ذلك الجيش خالد بن الوليد ونخبة من أقدم الصحابة عهدا بالإسلام، فلم يتول خالد قيادته؛ لأنه كان على الأرجح أحدثهم عهدا بالدخول فيه، وتولاها زيد بن حارثة «فإن أصيب فالرئيس جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتض المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم.»
وأمرهم عليه السلام أن يذهبوا إلى حيث قتل الرسول فيدعوا القوم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا فالقتال، وأوصاهم: «ألا تغدروا ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا كبيرا ولا فانيا ولا معتزلا بصومعة، ولا تقربوا نخلا ولا تقطعوا شجرا ولا تهدموا بناء.»
ولا شك أن هذا الجيش إنما كان بالوصف العصري «حملة تأديبية وبعثة استطلاع» يقاد على هذا الاعتبار ومن أجل هذه الغاية، ولا يراد به بداهة أن يحطم قوة الدولة الرومانية أو يفتح البلاد التي كانت يومئذ في يديها ...
فمضى لهذه الوجهة حتى نزل معانا وأقام بها ليلتين، وسمع المسلمون هناك أن هرقل قد عسكر بمآب في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من قبائل لخم وجذام والقين وبهراء وبلى على أهبة اللقاء.
وقد يقع في الخاطر أن الروم علموا بمسير جيش المسلمين فأعدوا هذه الجحافل الجرارة ثم سيروها إلى تخوم الدولة في مدى الأيام التي مضت من خروج جيش المسلمين إلى بلوغهم أرض معان، وهو خاطر بعيد جد البعد لما هو معلوم من صعوبة جمع الجيوش وتسييرها في مثل هذه السرعة، ولما يبدو من ضخامة هذه الجحافل بالقياس إلى القوة الإسلامية التي مهدوا للقائها، ولم يكن ليفوتهم أن يعلموا بحقيقتها لو أنهم تلقوا الخبر بخروجها ممن رآها ...
والأرجح أن هرقل إنما كان في جموعه هنالك في زيارة الشكر التي نذر لله أن يؤديها إذا هو ظفر بالفرس ورد منهم صليب الكنيسة الكبرى الذي حملوه معهم يوم فتحوا بيت المقدس، وربما كان هرقل قد بارح بيت المقدس في ذلك الحين، وتخلفت جيوش ركابه لأدار هذه الفريضة معه، أو للقيام بمراسم الحفاوة في تلك الزيارة التاريخية.
ورأى المسلمون أن مدد الروم حاضر على مقربة منهم، وأن الحرب بين عسكرين على هذا التفاوت البعيد عمل غير مجد، ولم يكن منظورا ولا مقصودا عند مسير الجيش من المدينة، فرجع بعضهم وتمهل الأكثرون منهم؛ ليستأذنوا النبي فيما يصنعون، وغلبت حماسة الشاعر وحمية الشهيد على عبد الله بن رواحة فانتهر المترددين والمثبطين وقال لهم: «يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة!»
فاستمعوا إليه ولم يشاءوا بأية حال أن يرجعوا قبل الانتهاء إلى مقصدهم الذي خرجوا من أجله، وهو إبلاغ الدعوة إلى قاتلي الرسول النبوي وإبراء الذمة إليهم قبل القصاص، إن وجب قصاص.
فتقدموا من معان إلى مؤتة على مسيرة نحو ليلتين، وفيها حصن للغسانيين يقيم به أمير منهم في خدمة الرومان.
واحتمى الأمير الغساني منهم بحصنه ثلاثة أيام، لعله كان ينتظر فيها مددا أو أمرا من رؤسائه، ثم التقى الفريقان على مزرعة في جوار البلدة، فاستمات من بقى من جيش المسلمين، وحاربوا على ما يظهر وهم مفاجأون؛ لأننا لم نسمع في أخبار الوقعة بتوجيه الدعوة أو الإجابة عليها؛ ولأن قائدا منهم أعجل عن طعامه ولم يذق القوت ساعات، فلما فوجئوا بالقتال لم تدع لهم المفاجأة من خطة غير خطة الصمود للخطر والثبات في وجهه مخافة المصاب الأكبر في هذه الحالة؛ وهو مصاب الذعر والدهشة والملاحقة بلا هوادة.
وكأنما استحى القادة الثلاثة أن يرشحوا للموت ويرجعوا دونه ابتغاء النجاة، فقاتل زيد بن حارثة حتى قتل، وأحاط القوم بجعفر بن أبي طالب وهو يحمل اللواء ويثير من حوله نخوة المسلمين، فأنحوا عليه بالضرب الدراك حتى قطعت يمينه، ثم قطعت شماله، ثم ضم اللواء إلى عضديه، ولبث يناضل عنه إلى أن مات.
ودعي ابن رواحة إلى الرئاسة، فجاءه ابن عم له بعرق من لحم، وقال له: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهش منه نهشة، ثم سمع الحطمة في ناحية المعترك فألقاه من يده، وجرد سيفه وهو ينشد:
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت
إن تفعلي فعلهما هديت
فطفق يصول بين الصفوف ويهدر بالشعر حتى قتل والمعركة في أشدها.
فما هي إلا لحظة حتى دبر المسلمون أمر الرئاسة بوحي البديهة ونور العقيدة وهداية الفداء التي تهدي إلى المصلحة الكبرى وتغفل كل مصلحة دونها. وإذا باللواء يأخذه في تلك اللحظة ثابت بن أقرم من بني العجلان، وينادي في أصحابه: «يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم». قالوا: «أنت»، قال: «لا ما أنا بفاعل»، فاتفقت الكلمة على خالد بن الوليد، فإذا هو يتولى القيادة في حينها ويصنع لساعته خير ما يصنع في ذلك الحين.
وخير ما يصنع في ذلك الحين هو الارتداد المأمون ...
وهو أصعب من النصر في بعض المآزق؛ لأن النصر ميسور مع اجتماع العدة له واحتمال الشدة فيه، ولكن الارتداد المأمون غير ميسور لكل من يريده وهو في أضعف الموقفين ... إلا أن تكون له خبرة بالقيادة تكافئ الرجحان في قوة العدو الذي يرتد بين يديه.
وأول شيء ينبغي أن يحتاط به لارتداده هو أن يوقع في روع عدوه أنه لا ينوي الارتداد بل ينوي الهجوم أو يقصد إلى الحيلة.
فصمد في الميدان حتى المساء.
ثم بدل مواقف الجيش تحت الليل فنقل الميمنة إلى الميسرة، ونقل الميسرة إلى الميمنة، وجعل الساقة في موضع المقدمة، والمقدمة في موضع الساقة، ورصد من خلف الجيش طائفة يثيرون الغبار ويكثرون الجلبة عند طلوع الصباح. فلما طلع الصباح على الفريقين، إذا بكل طائفة من طوائف الغسانيين والروم ترى قبالتها وجوها غير الوجوه وأعلاما غير الأعلام، وإذا بالجلبة مع هذا الاختلاف في الوجوه والأعلام توهم القوم أن مددا جديدا أقبل على جيش المسلمين، وكانوا قد ذاقوا منهم أمر المذاق بغير مدد وهم مفاجأون، فلما ذهب خالد يدافع القوم ويخاشي بجيشه لم يتبعوه حذرا من الكمين وتوقعا للإحاطة بهم من ورائهم، وأبلى خالد في هذه المدافعة والمخاشاة بلاء لم يبله قط في غزواته الكبرى على كثرتها. فاندقت في يده تسعة سيوف ولم تصبر معه إلا صفيحة يمانية، وكان هذا التراجع المحمي بشجاعة المستميت غطاء صالحا للجيش الصغير في مواجهة الجيش الكبير. فقفل إلى المدينة بسلام، وعرف خالد منذ ذلك اليوم بلقبه الذي أضفاه عليه النبي وهو سيف الله، وعاد الناس يقولون مع النبي إنهم الكرار بإذن الله وليسوا بالفرار ...
وقد سمعنا في عصورنا هذه بالألقاب الكبار تضفى على القادة لأنهم نجحوا في خطة ارتداد لا محيص منها. فتلك هي السنة النبوية تسبق النظم العصرية إلى تقدير القائد البارع بقيمة النجاح في ارتداده كما تقدره بقيمة النجاح في تقدمه وانتصاره. ولو أن خالدا ملكته فطرة المجازفة ولم تملكه فطرة القيادة البصيرة لساءت العقبى أيما سوء وتعرضت الدعوة الإسلامية لمحنة لا نعرف مداها الآن. ولربما تعرضت لهذه المحنة من جانب الجزيرة العربية قبل أن تتعرض لها من جانب الروم والغسانيين؛ لأن الجيش قد خرج من المدينة تأديبا لأناس متصلفين قتلوا رسولا واحدا أو قتلوا وفدا لا تجاوز عدته خمسة عشر. فإذا تورط هذا الجيش في الزحف حتى اصطلم
1
كله ولم يعد منه أحد، فكيف يكون وقع هذا التأديب المعكوس في نفوس البادية المتحفزة أو في نفوس أهل مكة ولما تسلم مفاتيحها للمسلمين؟ إنه ليبعث السخرية والاستهانة من حيث أريدت له الهيبة والمنعة، وإنه ليثير من الفتن ومساوئ الظنون ما يصعب استدراكه في سنين.
ولكن الجيش قد عاد وأبلى في أعدائه، وتسامعت الجزيرة بعدد الجحافل الهرقلية التي حسبتها مرصدة له ولم تقدر على تمزيقه ولا أصابت منه غير اثنى عشر قتيلا منهم القادة الثلاثة الذين ندبوا للشهادة قبل خروجه، فالسرية إذن قد نهضت بأمانتها، ووقع في نفوس المسلمين من فرط الثقة ببأسهم أنها كانت قادرة على جهاد أعظم من جهادها وثبات أطول من ثباتها، وهي مغالاة في القوة والبأس خير من المغالاة في الضعف والخور، ولا ضرر منها ما شفعتها تلك البصيرة العلوية التي تضع الأمور في نصابها، وتصف النجاح بصفاته ولو بدا للناس في ثياب الإخفاق. (2) بنو جذيمة
وقد أثنى النبي على خالد في مهمة لم يندبه لها، ولم يرشحه لها مرشح غير كفاءته واتفاق رأي المسلمين فيها.
ولكنه لامه وبرئ من عمله حين أخطأ في مهمة ندبه لها بعد فتح مكة، وهي السرية التي قادها إلى بني جذيمة ليكشف عن طويتهم ويدعوهم إلى الإسلام .
فبعد فتح مكة، توجهت عنايته عليه السلام إلى تطهير البوادي المحيطة بها من عبادة الأصنام فأرسل السرايا إلى قبائلها: لدعوتها والاستيثاق من نياتها، ومنها سرية خالد إلى بني جذيمة في نحو ثلاثمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار وبني سليم ... أرسلهم دعاة ولم يأمرهم بقتال.
وكان بنو جذيمة «شر حي في الجاهلية يسمون لعقة الدم، ومن قتلاهم الفاكه ابن المغيرة وأخوه عما خالد بن الوليد، ووالد عبد الرحمن بن عوف، ومالك بن الشريد وإخوته الثلاثة من بني سليم في موطن واحد» وغير هؤلاء من قبائل شتى.
فلما أقبل عليهم خالد وعلموا أن بني سليم معه لبسوا السلاح وركبوا للحرب وأبوا النزول، فسألهم: أمسلمون أنتم؟ فقيل إن بعضهم أجابه: نعم! وبعضهم أجابه: صبأنا! صبأنا! أي تركنا عبادة الأصنام، ثم سألهم: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوهم فأخذنا السلاح، فناداهم: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا، فصاح بهم رجل منهم يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبدا. فما زالوا به حتى نزع سلاحه فيمن نزع وتفرق الآخرون. فأمر خالد بهم فكتفوا وعرضهم على السيف، فأطاعه في قتلهم بنو سليم ومن معه من الأعراب، وأنكر عليه الأنصار والمهاجرون أن يقتل أحدا غير مأمور من النبي
صلى الله عليه وسلم
بالقتال، ثم انتهى الخبر إلى النبي فرفع يديه إلى السماء وقال ثلاثا: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد»، وبعث بعلي بن أبي طالب إلى بني جذيمة فودى دماءهم وما أصيب من أموالهم ... قيل إنه «كان يدي حتى ميلغة الكلب» ويسألهم: أبقي دم أو مال لم يود لكم؟ فلما اكتفوا ورضوا فرق بينهم بقية المال «احتياطا لرسول الله» وقد سأل رسول الله فتى من جذيمة انفلت إليه لينبئه نبأ خالد مع آله وذويه: هل أنكر عليه أحد؟! قال: نعم، قد أنكر عليه رجل أصفر ربعة ، ورجل طويل أحمر، فاشتدت مراجعتهما. وكان عمر بن الخطاب بمجلس رسول الله، فقال: أما الأول يا رسول الله فابنى عبد الله، وأما الآخر فسالم ... مولى بني حذيفة ...
ويعزى إلى خالد أنه استند في قتالهم إلى قول عبد الله بن حذافة: «إن رسول الله قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم عن الإسلام.»
وقد عم النكير على الحادث بين أجلاء الصحابة، من حضر منهم السرية ومن لم يحضرها، واشتد عبد الرحمن بن عوف حتى رمى خالدا بقتل القوم عمدا ليدرك ثأر عميه اللذين قتلهما بنو جذيمة مع عوف أبي عبد الرحمن ورجل من بني أمية ... وقصة مقتلهم أنهم كانوا قد خرجوا تجارا إلى اليمن، ثم عادوا ومعهم مال رجل من بني جذيمة قضى نحبه هناك يحملونه إلى ورثته وأهله. فاعترضهم جذمي في رهط من قبيلته يدعى خالد بن هشام وزعم أنه وارث المال وأحق به من غيره، فمنعوه ينظرونه أن يصلوا بالمال إلى أهل الميت. فغضب وقاتلهم بالرهط الذين معه فقتل عوفا والفاكه بن المغيرة ثم عمد عبد الرحمن إلى خالد بن هشام هذا فقتله بثأر أبيه. وهمت قريش بغزو بني جذيمة لولا أن مشي بعض العقلاء بينهم بالصلح فتصالحوا على الدية والمال.
ومن الإسراف أن يظن بخالد بن الوليد أنه تعمد قتل أناس وهو يعلم أن دمهم حرام ويتخذ من مهمة النبي ذريعة إلى شفاء ترة قديمة، فأدنى من ذلك إلى القصد في فهم الحقيقة أن نبحث عن دواعي اللبس ودوافع الطبع التي تدفع خالدا خاصة إلى مثل هذا التصرف، فإن كانت هذه الدواعي وهذه الدوافع قائمة مفهومة فهي تفسير لما حدث وفيها الكفاية، وإن لم تكن قائمة ولا مفهومة فهناك ينفسح مجال الظنون والفروض لمن يشاء.
وقد كانت دواعي اللبس ودوافع الطبع قائمة مفهومة في مقتلة بني جذيمة. فإن البوادي كلها حول مكة كانت تزخر بالشر وتتحفز للوقيعة في تلك الآونة بعد تسليم مكة، فلم تمض أيام على سرية خالد حتى كانت بطون هوازن وثقيف وجشم وغيرها متجمعة في العدة الكاملة والعديد الوافر لمباغتة النبي وجمعه، فإذا ارتاب خالد في نيات طائفة من أهل البادية مشهورين بالشراسة والغدر وهم يلقونه بالسلاح فله في ارتيابه وجه لا يخفى، وإذا أضيف إلى ذلك تلجلج القوم في إعلان إسلامهم والإفضاء بنياتهم فليس اللبس هنا بعازب عن بال المتوجس في أشباه ذلك المقام.
وقد يغني الشعر والقصص في الكشف عن شعور القوم هنا ما ليس يغنيه التاريخ وتسلسل الرواية، فمن كلام أحد الوهبيين في خطاب بني جذيمة بن عامر يسوغ لنا أن نفهم أنهم لم يكونوا متفقين على الإسلام والمسالمة، وذلك إذ يقول:
دعونا إلى الإسلام والحق عامرا
فما ذنبنا في عامر إذ تولت
وما ذنبنا في عامر لا أبا لهم
لئن سفهت أحلامهم ثم ضلت
وقال أحد الجذميين:
فلا قومنا ينهون عنا غواتهم
ولا الداء من يوم العميصاء ذاهب
وفي قصة رواها محمد بن إسحاق بن يسار - وهو من الثقات - شواهد على إصرار بني جذيمة وعنادهم إلى ما بعد الإسار والإنذار، وفحوى هذه القصة كما أثبتها صاحب كتاب الأغاني حيث نقلت ببعض التصرف: «أن خالد بن الوليد كان جالسا عند النبي
صلى الله عليه وسلم
فسئل عن غزوته بني جذيمة، فقال: إن أذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تحدثت، فقال: تحدث، فقال: لقيناهم بالعميصاء عند وجه الصبح. فقاتلناهم، حتى كاد وجه الشمس يغيب، فمنحنا الله أكتافهم فتبعناهم نطلبهم، وإذا بغلام له ذوائب على فرس ذنوب في أخريات القوم، فبوأت له الرمح فوضعته بين كتفيه، فقال: لا إله ... فقبضت عنه الرمح، فقال: إلا اللات ... أحسنت أو أساءت. فهمسته همسة أذريته وقيذا - أي مشرفا على الموت - ثم أخذته أسيرا فشددته وثاقا، ثم كلمته فلم يكلمني واستخبرته فلم يخبرني، فلما كان ببعض الطريق رأى نسوة من بني جذيمة يسوق بهن المسلمون. فقال: أيا خالد! قلت: ما تشاء؟ قال: هل أنت واقفي على هؤلاء النسوة، فأتيت على أصحابي ففعلت وفيهن جارية تدعى حبيشة، فقال لها ناوليني يدك، فناولته يدها في ثوبها. فقال: أسلمي حبيش قبل نفاد العيش ، فقالت: وأنت حييت عشرا أو تسعا وترا، وثمانيا تترى.»
قال: «وتناشدا الأشعار حتى قتل، وأقبلت الجارية ووضعت رأسه في حجرها وجعلت ترشفه وتبكي ...» إلى آخر القصة في الجزء السابع من الأغاني وهي على ظهور الاختراع في بعضها لا تخلو من دلالة على موقف بني جذيمة من سرية خالد.
فإذا صح مع هذا أن خالدا تلقى من عبد الله بن حذافة السهمي أمرا بقتال بني جذيمة نقلا عن النبي
صلى الله عليه وسلم
فهو خليق أن يعتمد على الفتوى من أمثاله لحداثة إسلامه وقلة علمه بفقه الدين وأحكامه، وهي على أية حال رواية لا تغفل كل الإغفال في صدد البحث عن أخبار هذه السرية ...
والجو كله بعد هذا وذاك - سواء في البادية أو في مكة - هو جو الحرب والريبة وجو التربص والنفور، فلا عجب أن تختلف فيه النوازع والآراء وأن تستطار فيه دواعي الشر والنقمة، وأن يتطرق إليه اللبس وتتعذر فيه استبانة الوجه الصراح.
وعند خالد دوافع الطبع إلى جانب دواعي اللبس واختلاط الآراء وهي الدوافع التي قد نعد منها حداثة السن في ذلك الحين، ومنها أنه تناول الموقف كما يتناوله القائد المطبوع على القتال في الصحراء، ويحدث للقائد في هذا الموقف كثيرا أن يفرق بين ضربين من التسليم هما: تسليم المراوغة والختل، وتسليم الإذعان والنصيحة، ولا سيما تسليم العدو المتهم المتردد الذي يحيد عن الصراحة يفند أناس منه مقال أناس آخرين.
ومن دوافع الطبع عند خالد، تلك الصرامة التي ينشأ عليها كل من نشأ في مثل بيئته من الجاهلية، وتلك الشدة التي تثيره إليها أعصابه، ويومئ إليها تفزعه في نومه ومشاركة إخوته في عوارضها الموروثة على نحو من الأنحاء، وهي ولا ريب تلك الشدة التي عناها عمر بن الخطاب حين قال: «إن سيف خالد لرهقا» وهو من أعرف الناس به وأقربهم إليه، وهي التي توقعها جحدم أخو بني جذيمة حين صاح بقومه محذرا إياهم من إلقاء السلاح: ويلكم يا بني جذيمة. إنه خالد! كأنها خليقة معهودة منه لا تحتاج إلى تأويل بعيد.
وندرت في تاريخ الحروب القديمة والحديثة حرب تدور على العقيدة الدينية أو الحمية الوطنية لا تحصى عليها فلتة من أشباه هذه الفلتات ولا يقع فيها نذير السيف حيث ينبغي أن يقع بشير السلام.
ولا يبعد أن يكون خالد قد ورث من عمومته جفوة لبني جذيمة؛ فجنح به شعوره إلى سوء الظن بهم وقلة الطمأنينة إليهم من حيث لا يقصد الترة ولا يتعمد الانتقام.
فكل هذا أقرب إلى تعليل بطشته بالقوم من اتهامه بحمل أمانة النبي على دخل وسوء نية، وهو الرجل الذي حارب أصدقاءه وأقرب الناس إليه على أبواب مكة، وله ندحة عن حربهم لو تعمد اجتنابها أو كان قصاراه أن يتعلل باللسان ولا يرجع إلى صدق النية في إطاعة النبي - عليه السلام ...
ومهما يلم اللائمون أو يعذر العاذرون في هذه الزلة، فمقطع القول فيها بين المنصفين أنها خطأ وأن الإبقاء على خالد بعدها صواب؛ لأن صواب الإبقاء على خدمته بعد غزوة بني جذيمة قد ظهر أيما ظهور في حروب الردة وحروب الفرس والروم.
وذلك مثل من تربية النبي - عليه السلام - لأفذاذ الرجال.
ويتجلى تمام هذا المثل بإعطاء الرجال فرص المراجعة والإصلاح في أمر يشبه الأمر الذي أخطأوا فيه، وموقف قريب من الموقف الذي عرضهم للملامة وهذا الذي توخاه عليه السلام حين أرسل خالدا دون غيره إلى بني المصطلق - وهم من بني جذيمة - ليستخبر له خبرهم ويتبين الحق فيما بلغه عن ارتدادهم، وكان الوليد بن عقبة قد أخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام، فندب عليه السلام خالدا «وأمره أن يثبت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه، فلما جاءوه أخبروه أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى ما يعجبه، فرجع على النبي
صلى الله عليه وسلم
فأخبره».
وهو مثل ينبئ عن كثير، وقد ينبئ فيما ينبئ عنه أن خالدا لم يتعسف كل التعسف في شكه الأول ببني جذيمة على اختلاف بيوتهم؛ لأن الشك فيهم ما زال يتكرر بعد ذلك بشهور، وما زال يدعو إلى تلقي الإشاعة عنهم وإيفاد الوفود إليهم مرتين للتمحيص والاستخبار. (3) غزوة حنين
ولم تمض أيام معدودات على مقتلة بني جذيمة حتى لمس خالد موضع الثقة من نفس النبي في حادث من أكبر حوادث الإسلام وهو غزوة حنين.
لمس هذه الثقة في غزوة حنين مرتين؛ مرة في إسناد قيادة الخيل إليه على طليعة الجيش، ومرة في سؤاله عنه وعنايته به بعد هزيمة الخيل مولية عند اشتباك الجمعين.
وحق خالد في تلك الثقة إنما يستبين من غرض الغزوة كلها لجلاء الأسباب التي أوقعت الهزيمة الأولى بجيش المسلمين، ولا يد فيها لخالد من قريب أو بعيد ... بل لعلها توحي إلينا أن هزيمة خيله يومئذ إنما كانت كصد الأجسام للأجسام ضرورة مادية لا دخل فيها للعوامل النفيسة، أمام جارفة من الجوارف القوية، تأخذ ما أمامها من إنسان أو حيوان ومن شجاع أو جبان.
فقد فتحت مكة والأعراب من حولها ثائرون محنقون، وعلموا يومئذ أنها الوقعة الفاصلة وأنه لا مطمع بعدها في مكافحة النبي إذا تطاولت الأيام على قيام دينه في البلد الحرام وموطن الكعبة والأصنام، فاجتمعت قبائل همدان من هوازن وثقيف وجشم، ومشى بعضهم لبعض يقولون: «إن محمدا قد فزع من قتال قومه ولا ناهية له عنا. فلنغزه قبل أن يغزونا»، واستنفروا القبائل فلباهم من أقربائهم عدد كبير، منهم بنو سعد بن بكر الذين تربى بينهم النبي وهو رضيع.
وتولى قيادتهم مالك بن عوف النضري، وهو فتى جريء في نحو الثلاثين يجمع إلى غطرسة الإمارة وحمية الفروسية وحدة الشباب ولدد الخصومة والعناد ... فساق أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأمرهم إذا رأوا المسلمين «أن يكسروا جفون سيوفهم، ثم يشدوا شدة رجل واحد». فإما فوز وإما فناء. وصفت الخيل ثم الرجالة المقاتلة، ثم الإبل عليها النساء، ثم صفت النعم في حراسة لئلا تفر والجيش مشتغل عنها.
وسأله دريد بن الصمة حكيم القوم: ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله؛ ليقاتل عنهم، فسخر دريد برأيه وقال له: رويعي ضأن والله! وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها - أي الحرب - إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. فرماه مالك بالخرف ولج في عناده ولمح في بني هوازن ميلا إلى كلام دريد، فجمح به غضبه العارم وأقسم: «لتطيعني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري!»
فهي عزمة رجل مستميت لا يبالي ما يصنع بنفسه أو بقومه في سبيل قهر المسلمين ...
ونمى الخبر إلى النبي، فخرج في ألفين من أهل مكة حديثي العهد بالإسلام وعشرة آلاف من أصحابه الذين قدموا معه من المدينة، وقيل إنهم كانوا جميعا ثمانية آلاف.
وأعوزه السلاح، فاستعار من بعض المشركين دروعا فأعطوه ثلاثين أو أربعين درعا - وقيل مائة درع - بما يكفيها من السلاح، واستعار من ابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة آلاف رمح، فأعاره إياها وهو يقول: كأني انظر إلى رماحك هذه تقصف ظهر المشركين.
وأخرج خالدا على طليعة الجيش في مائة فارس من بني سليم.
قال الحارث بن مالك: خرجنا مع رسول الله ونحن حديثو عهد بالجاهلية فسرنا معه إلى حنين، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوما. فرأينا ونحن نسير مع رسول الله سدرة خضراء عظيمة، فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله: الله أكبر. قلتم - والذي نفسي بيده - كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة!
وكان في الجيش كثير من أمثال هؤلاء المسلمين المحدثين، ومعهم في ساقة الجيش جمع من المشركين بين رجال ونساء ينظرون ما يكون، وكان فيهم أبو سفيان الذي قال حين رأى بوادر الهزيمة: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! وفيهم كلدة بن الحنبل الذي صرخ شامتا متعجلا: ألا قد بطل السحر اليوم، وصرخ معه آخرون يقولون: اليوم ترجع العرب إلى دين آبائها ...
وكان الغالب على جيش المسلمين في خروجهم قلة الاكتراث بعدوهم، فقال أبو بكر الصديق: لن نغلب اليوم من قلة ... ونسبت هذه الكلمة إلى غيره، ولكنها قيلت على التحقيق لما جاء في القرآن الكريم:
إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا (التوبة: 25).
وتقدم الجيش حتى حضرت صلاة الظهر، فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبلا فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله وقال: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله، ثم سأل: من يحرسنا الليلة؟ قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله. فأمره عليه السلام أن يستقبل الشعب حتى يكون في أعلاه، وقال له لا نغرن
2
من قبلك الليلة.
فلما أصبحوا سأل النبي: هل أحسستم فارسكم؟ يعني ذلك الحارس المستطلع ... قالوا: يا رسول الله ما أحسسنا، فجعل عليه السلام يصلي ويلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته، قال: أبشروا، فقد جاءكم فارسكم ... فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشعب، وإذا هو قد جاء حتى وقف، وقال: إني انطلقت حتى إذا كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا فسأله: هل نزلت الليلة؟ قال لا، إلا مصليا أو قاضي حاجة.
وروى مسلم من حديث عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه، قال: «غزونا مع رسول الله حنينا فلما واجهنا العدو تقدمت لأعلو ثنية، فاستقبلني رجل من المشركين، فأرميه بسهم وتوارى عني فما دريت ما صنع، ثم نظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم وصحابة رسول الله فولى أصحاب رسول الله، وأرجع منهزما.»
وحدث أبو عبد الرحمن الفهري، قال: «كنا مع رسول الله في حنين فسرنا في يوم قائظ شديد الحر.»
وروى محمد بن إسحاق بسنده: «خرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين فسبق رسول الله إليها، فأعدوا وتهيأوا في مضايق الوادي وأحنائه، وأقبل رسول الله وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدت عليه وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد.»
وفي روايات شتى أن كمينا من المشركين فاجأ المسلمين من شعبة في الوادي وقابلهم بنبل كأنه الجراد المنتشر، «وكانوا رماة ... لا يكاد يسقط لهم سهم»، فأدبرت الخيل وأدبر المقاتلة وراءها لا يلوون على شيء ...
وتلك جملة الأخبار عن بدء المعركة جمعناها من مصادر متعددة وأثبتنا بعضها بحروفها، ويتبين من المعارضة بينها أن الهزيمة انكشفت من الهجمة الأولى؛ لأن الخيل فوجئت في الطليعة بالنبل المنتشر من الكمين المستتر، فولت منهزمة في جفلة حيوانية معروفة في أشباه هذه المواقف ... وقديما ذكر الرواة عن حرب الإسكندر وأمراء الهند أن جفلة الفيلة من الحديد المحمي كانت هي سبب الهزيمة التي أصيبت بها الهند، فانقلبت الفيلة وبالا عليهم، وقضت وهي مولية على الكثيرين من فرسانهم ومشاتهم، تطأ بعضهم وتوقع الآخرين وتدفع من حاول الثبات إلى الفرار، ولم تمض على حنين بضع سنوات حتى لقي الفرس من فيلتهم في حرب المسلمين مثل هذا المصرع ومثل هذه الجفلة الحيوانية، يوم تعمدها المسلمون بالضرب في الأعين والخياشيم.
وقد حدث مثل هذا مرة أخرى في وقعة حنين هذه، حين حاول المسلمون أن يكروا بعد الفرار «فصار الرجل يلوي بعيره فلا يقدر على ذلك؛ لكثرة الأعراب المنهزمين، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم من بعيره ويخلي سبيله ويؤم الصوت.»
وهكذا بدأت الهزيمة بفرار الخيل ولحاق المشاة بهم واختلاط الحابل بالنابل بعد ذلك من الفريقين، وتواتر القول بأن الطلقاء الحديثين في الإسلام أدبروا منهزمين عمدا بعد الهجمة الأولى، فأشاعوا الهزيمة فيمن معهم من المهاجرين والأنصار.
ولقد أوشك أهل مكة أن يستقبلوا الأعراب المتقدمين على رضا من بعضهم لحنينهم إلى الدين القديم، وعلى كره من بعضهم لأنفتهم من غلبة الأعراب على قريش، لولا أن تغير مجرى القتال، ودارت الدائرة على المشركين بعد لحظات، وكان الفضل في ذلك لحركة جاءت من قبل المسلمين وحركة جاءت من معسكر الأعراب، وكان مجيئهما في الموعد المقدور.
فأما الحركة التي جاءت من قبل المسلمين فهي بروز النبي - عليه السلام - بشخصه الكريم إلى مقدمة الصفوف. فقد ثبت في ذلك الهول الجارف ثبوتا يجل عن الوصف وأخذ زمام المعركة كلها في يديه ليمضي وحده في القتال كيفما تصير الأمور.
وكان قد شهد المعركة على بغلته دلدل أو الشهباء، فانحاز إلى اليمين سريعا؛ ليستطع التقدم بين تلك الصفوف المتدفعة من مدبرين ومقبلين، والتفت إلى اليمين ونادي: يا معشر الأنصار ... ثم التفت إلى اليسار ونادى كذلك: يا معشر الأنصار ... فتسامعوا وتجاوبوا وعطفوا - كما وصفهم شاهدو الموقف - عطفة الإبل على أولادها، واجتمع معهم حول رسول الله مئات في لمحة عين. •••
وتختلف الروايات في وصف هذه الحركة المجيدة من بدايتها، فيقول بعضها إن الناس أدبروا يومئذ عن رسول الله حتى بقي وحده، ويقول بعضها: بل بقي معه نفر قليل منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحارث وربيعة بن الحارث ومعتب بن أبي لهب وعبد الله بن مسعود، وقليلون لا يتجاوزون الاثنى عشر، وجعل رسول الله يقول:
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
ثم أمر عمه العباس أن يصرخ في الجيش: يا معشر الأنصار ... يا أهل السمرة يا أصحاب سورة البقرة ... يا بني الخزرج، وكان العباس رضي الله عنه جهير الصوت يسمع صوته على مسافات بعيدة، وقيل إنه كان يقف على سلع وينادي غلمانه بالغابة فيسمعونه، وبينه وبينهم ثمانية أميال.
فلما جلجل صوته بهذا النداء، إذا بالأنصار والمهاجرين يتجاوبون: يا لبيك يا لبيك ... ويسرعون إلى ناحية الصوت زرافات زرافات، حتى تجمع منهم ثلاثمائة أو يزيد في لحظات، ثم شاعت بين الألوف المؤلفة قدوة الكر والإقبال بعد الفر والإدبار، فإذا بالجيش بقضه وقضيضه يعدو إلى ساحة القتال ويرسل الخيل والمطايا ليملك كل منهم زمام يديه وقدميه، وهانت النفوس حتى استهدفت النساء للموت غير مباليات، ومنهن من لم تكن على صحة في النظر كالعميصاء أم أنس بن مالك، وكانت وهي حامل تحزم وسطها ببرد لها، وفي حزامها الخنجر لدفاع من يجترئ عليها.
وكان خالد بن الوليد قد ثنى عنان فرسه بعد التوائه في الهجمة الأولى، فلم يزل يقاتل حتى سقط مثقلا بالجراح لا يقوى على السير من مؤخرة رحله، وهناك وجده النبي - عليه السلام - حين خرج يتفقد الجرحى بعد المعركة، فبارك له وواساه.
أما الحركة التي جاءت من قبل المشركين، فأعانت على هزيمتهم فذاك أنهم قد غرتهم طلائع النصر، فأقبلوا على الغنائم والأسلاب، وشغل الكثيرون منهم بالتقاطها واستلابها عن مطاردة المدبرين، فاتفقت الحركتان في وقت واحد لتحويل وجهة القتال. •••
ويتبين من مقدمات المعركة كلها ومن بوادرها التي أجملناها أن الهزيمة فيها بعد الهجمة الأولى كانت ضرورة مادية لا محيد عنها، وأنها ضرورة لم يكن لخالد يد فيها ولا طاقة باتقائها؛ لأن أسبابها كلها كانت من وراء تدبيره ومشيئته، وهي كثيرة نجملها ما وسعنا الإجمال.
فمنها أن الروح التي غلبت على جيش المسلمين في بداية المعركة كانت روح استهانة وقلة اكتراث، وأن الروح التي غلبت على روح المشركين يومئذ كانت روح استماتة وعناد مع تقارب العدد بين الجيشين.
وربما رجحت كفة المشركين في الدروع والسلاح لما تقدم من حاجة النبي - عليه السلام - إلى استعارة بعض الدروع والرماح.
و«منها» أن جيش المسلمين كان فيه كثير من الطلقاء، قد يبلغون الألفين وقد يزيدون، وكانوا على دخل أو على ضعف يبيتون النية على خذلان النبي فخذلوه، وتبعهم الناس.
و«منها» أن جيش المشركين سبق المسلمين إلى مواقفه، فاختار وأحسن الاختيار، وهجم في الوقت الذي ارتضاه.
و«منها» أن المسلمين كانوا يواجهون الشمس عند الصباح واليوم قائظ لا تقوى فيه العيون على مواجهة شعاعها، فحيل بينهم وبين التثبت والإحكام في مطلع الصباح إلى أن استوت الشمس في كبد السماء.
و«منها» أن استطلاع المسلمين لم يكن على عادته من البراعة والتيقن والإسراع، فقد أبطأ الفارس المستطلع حتى التمسه النبي - عليه السلام - مرات، ثم جاء ولم يخبر بشيء، ثم ظهر الكمين المرهوب من حيث لا يرونه، فأوقع بالخيل وهي لا تحسب له أي حساب، وهذا مع مهارة المشركين في الرماية، حتى قيل إنهم لا يسقط لهم سهم.
و«منها» أن بني سليم أصحاب الخيل التي تولاها خالد كانوا على قرابة من هوازن، وعز عليهم أن يلاحقهم المسلمون بعد استدارة المعركة، فكانوا يقولون: ارفعوا القتل عن بني أمكم ... وكانوا مع هذا ضعاف الإسلام فسبقوا إلى الردة بعد موت النبي عليه السلام، وما زالوا في موضع الظنة بعد ذلك على عهد الخلفاء.
فتقدير النبي
صلى الله عليه وسلم
لخالد بن الوليد إنما هو التقدير الصحيح لأعمال السرايا والجيوش في مؤتة وبني جذيمة وحنين، وكأنما هو تقويم الجوهري الخبير للجوهر النفيس في معدنه الخفي غير مصنوع ولا مصقول، وللتاريخ من بعده تقويم الجوهر بما يضفي عليه من جمال الصوغ والضياء.
ونعود هنا فنقول: إن تقدير النبي - عليه السلام - خالد بن الوليد لم يكن تقدير المجاملة لمكانه أو لما يرجى من قومه الأقوياء بني مخزوم، فإنه عليه السلام لم يجامله في وصفه الذي طابقته حوادث الأيام، ولم يجامله حين قدم عليه في القيادة ثلاث من السابقين في الإسلام وترك اختياره بعدهم لاتفاق كلمة المسلمين، بل لم يجامله حين خاصم عبد الرحمن بن عوف، فغضب النبي - عليه السلام - وقال له معرضا: «يا خالد ذر أصحابي. لو كان لك أحد ذهبا فأنفقته قيراطا في سبيل الله لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن.»
إنما هو سيد السادة ومربي الرجال والأبطال، يقوم الأعمال بقيمتها وينزل العظماء في منازلهم، ولا يمنعه أداء المجاملة أن يجامل بمقدار على حسب السوابق والأقدار.
وقد تولى خالد للنبي أعمالا أخرى في سنوات صحبته الثلاث، ولكن الأعمال التي اخترناها هي أكبر أعماله في حياته عليه السلام، وهي أقرب الأعمال إلى وزن كفايته وتقويم معدنه وتمييز خلقه، ولكنه أريد لكل عمل صغير، كما أريد لكل عمل كبير، وكانت للنبي - عليه السلام - نظرة في كل مهمة مقدورة ندبه إليها ...
فمن مهامه الصغيرة تسييره في ثلاثين فارسا لهدم «العزى » بعد فتح مكة ببضعة أيام، وهي الصنم الذي كان أبوه يتمسح به وينحر له الإبل والغنم، وكان سدنته من بطون بني سليم الذين قاتلوا مع خالد في مقاوم شتى، وقد كان معبود القبائل التي لقيها المسلمون في يوم حنين، وأصله ثلاث شجرات بأرض نخلة يزعمون أن ربهم كان يشتو بها لحر تهامة، ويصيف باللات عند الطائف لبردها ... وظلت مخوفة إلى ما بعد الإسلام، فيقول الكلبي: «إن اللات والعزى ومناة لكل منها شيطانة تكلمهم، وتراءي للسدنة، من صنيع إبليس وأمره»، وهي التي أرجف من أرجف من المشركين أن القرآن الكريم يرتضيها ويساومهم على عبادتها، ويجعلون منه قولهم: «اللاة والعزى ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى.»
فهي مهمة مخوفة من وجهتها النفسية وإن سهلت من الوجهة الحربية، فخرج خالد حتى انتهى إليها فهدمها، وجاء في بعض الأقاويل أنه: «لما انتهى إليها جرد سيفه، فخرجت إليه امرأة سوداء عريانة ناشرة شعرها، فجعل السادن يصيح بها: «أعزى» إذا لم تقتلي المرء خالدا
فبوئي بإثم عاجل أو تنصري
فأخذ خالدا «اقشعرار في ظهره»، وضربها بالسيف فشقها، ثم لقي النبي، فقال له: الحمد لله الذي أكرمنا بك وأنقذنا بك من الهلكة، لقد كنت أرى أبي يأتي العزى بخير ماله من الإبل والغنم فيذبحها للعزى، ويقيم عندها ثلاثا ثم ينصرف إلينا مسرورا، ونظرت إلى ما مات عليه أبي وإلى ذلك الرأي الذي كان يعاش في فضله، وكيف خدع حتى صار يذبح لما لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع.» فقال عليه السلام: «إن هذا الأمر إلى الله، فمن يسره للهدى تيسر له ومن يسره للضلالة كان فيها.»
وكذلك بلغت العبرة إلى خالد قبل أن تبلغ منه إلى الناس. •••
ومن المهام التي ندب لها في حياة النبي مهمة يمتزج فيها الشك بالأمل، والرفق بالشدة، والترغيب بالترهيب؛ لأنها بعثة إلى أناس غلابين مجتمعي الرأي أولي عصبة وبأس وحنكة ولهم سمة يخالفون بها سمة العرب في معظم أنحاء الجزيرة وهم بنو الحارث بن كعب بنجران.
أرسله إليهم وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثة أيام، فإن استجابوا قبل منهم وإن لم يفعلوا فله أن يقاتلهم، فخرج إليهم وبعث الركبان فيهم يبشرون بالدين الجديد ويبصرونهم بفضائله وأحكامه، فاستجابوا له ودخلوا فيما دعوا إليه.
وأقبل وفد من عظمائهم على النبي - بأمره عليه السلام - فقال حين رآهم: من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند؟ قيل: يا رسول الله، هؤلاء رجال بني الحارث بن كعب، ثم سلموا ونطقوا بالشهادتين، فقال لهم عليه السلام: أنتم الذين إذا زجروا استقدموا؟ وأعادها ثلاثا وهم لا يجيبون، فلما أعادها الرابعة قال زعيمهم يزيد بن عبد المدان وفيه شوس وخيلاء: نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استقدموا، وكررها أربعا، فقال النبي: لو أن خالدا لم يكتب لي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم، فانطلق ابن عبد المدان يقول: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا. قال: فمن حمدتم؟ قالوا: حمدنا الله عز وجل الذي هدانا بك يا رسول الله.
قال: صدقتم، ثم سألهم: بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا متغضبين: لم نكن نغلب أحدا، قال: بلى. كنتم تغلبون من قاتلكم، فعادوا يقولون: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله، أنا كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدا بظلم.
قال: صدقتم ... وقفلوا إلى ديارهم، فأرسل إليهم عمرو بن حزم يفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم الصدقات. •••
وقد شهد خالد مع النبي - عليه السلام - غزوتين لم يجر فيهما لقاء واشتباك، وهما غزوة الطائف وغزوة تبوك.
وكانت غزوة الطائف تتمة لوقعة حنين، لاذت بها القبائل بعد فرارها وامتنعت وراء أسوارها، وجمعت من الميرة ما يكفيها إلى السنة القابلة، فأحاط المسلمون بالأسوار فرماهم المشركون بالنبل كأنهم أسراب الطير، وقتلوا وجرحوا وهم متمكنون في أسوارهم، فبرز خالد لهم يدعوهم إلى النزال ولا يجيبه أحد، ثم صاح به عبد ياليل عظيم ثقيف: «لا ينزل منا أحد ولكن نقيم في حصننا، فإن فيه من الطعام ما يكفينا سنين، فإن أقمت حتى يفنى هذا الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعا حتى نموت عن آخرنا.»
فضربهم المسلمون بالمنجنيق وتقدم نفر من الصحابة تحت دبابتين من جلود البقر يفتحون ثغرة في الحصن. فأرسل عليهم المشركون سكك الحديد المحماة فأحرقت الدبابتين وصدتهم عن السور.
وأمر عليه السلام بكرومهم ونخيلهم فقطعت وهم يصيحون: دعها لله والرحم. فقال عليه السلام: «أدعها لله والرحم»، واستشار نوفل بن معاوية الديلي في أمرهم فأجابه: «يا رسول الله. ثعلب في حجر إن أقمت أخذته وإن تركته لم يضرك.»
وفي الطريق، قسم النبي غنائم حنين قسمة لم ترض أناسا، فغضب رجل من المنافقين وصاح في حضرته: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فاحمر وجهه عليه السلام غضبا وقال له: ويحك، من يعدل إذا لم أعدل؟ ووثب خالد وعمر يستأذنانه في ضرب عنقه فأبى وقال: لا ... لعله أن يكون يصلي، فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فعاد النبي يقول: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق عن بطونهم.
أما غزوة تبوك فقد خرج لها النبي - عليه السلام - إلى حدود الروم سنة تسع للهجرة في أعظم جيش شهده المسلمون في حياته ... ومن ثم، أمر خالدا أن يذهب إلى دومة الجندل ليأتيه بالأكيدر أميرها؛ لأنه كان في وسط الطريق بين الحجاز والعراق والشام عينا للروم وحربا للقوافل يدين للقسطنطينية بالعقيدة وبالطاعة، ومن خبرة النبي - عليه السلام - بالقبائل وأحوالها والأمراء وعاداتهم أنه قال لخالد: «ستجده يصيد البقر» ... فكان كما قال.
وقد ذهب خالد إلى الدومة في أربعمائة وعشرين فارسا فاقتحم الحصن واضطر من فيه إلى التسليم ومنهم الأمير، وجاء به إلى المدينة فصالحه النبي على الجزية وعاهده على الأمان.
وثم بعثة من غير هذا الباب ندب لها خالد، ولم يندب لمثلها قط في عهد النبي ولا عهود خلفائه، وتلك بعثته إلى بني مراد وزبيد ومذحج باليمن، يدعوهم إلى الكتاب ويعلمهم شريعته وأحكامه.
قيل إنه مكث فيه أشهرا يدعوهم فلا يجيبونه، وإنه عليه السلام بعث بعده على بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالدا ومن معه، فإن أراد أحد أن يعقب معه تركه.
ولا غرابة عندنا في هذا الذي حدث - إن كان قد حدث على الوجه الذي ذكره الرواة - فإن خالدا لم يسمع من القرآن ولا من فقه الدين كما سمع الصحابة ممن عاشروا النبي سنين بعد سنين، وإنما هي سنوات قلائل لم يفرغ فيها إلا بضعة أشهر من الغزوات والبعوث، وقد أم الناس بالحيرة - في خلافة الصديق - فقرأ من سور شتى، ثم سلم والتفت إلى الناس معتذرا يقول: «شغلني الجهاد عن كثير من قراءة القرآن.» •••
ويجوز أن النبي - عليه السلام - أرسله في هذه البعثة؛ ليدربه على الدعوة وليفرغ بعض وقته للمدارسة والمذاكرة بهداية من معه من فقهاء الصحابة، ويجوز أنه عليه السلام تعمد أن يرصده للبطل المشهور عمرو بن معد يكرب - فارس زبيد - ندا له يكف من غربه ويلزمه التدبر في عاقبة نكثه وانتقاضه.
وفي تواريخ البعثة اضطراب قد يشكك القارئ في بعض وقائعها وأغراضها فيجوز أيضا أن البعثة وفقت بعض التوفيق أو كل التوفيق وأن الرواة قد فاتهم في هذا الصدد شي كثير أو قليل من التحقيق.
لكنها كائنا ما كان مصيرها ومصير عشر من أمثالها - لو ندب إلى عشر من أمثالها - لتسقطن من سيرة خالد ويبقين له ما هو حسبه من البطولة وصدق البلاء. وليكونن بها أو بغيرها خطيبا يبين من منبر التاريخ، وإن لم يحمله قط منبر التعليم.
الفصل السادس
حروب الردة
لتفصيل الكلام في حروب الردة مكان غير هذا المكان ...
لأننا نتناول منها في هذا الكتاب ما يتصل بأعمال خالد وتقديم خصائصه ومزاياه، وندع ما عدا ذلك لمكانه من الشروح والمطولات.
وقد رجعت الردة - كجميع الثورات والأحداث الاجتماعية - إلى أسباب مختلفة، ولم تنحصر في سبب واحد، وربما كان من أسبابها ما خفي على المؤرخين ولا يزال خافيا علينا حتى الآن، ولكننا نعتقد أن الأسباب الآتية كافية لتفسيرها وتفسير نصيب خالد منها، على القدر اللازم لفهمها وتصحيح دلالتها.
فمن أسباب حروب الردة تمرد القبائل القوية على قريش ، وأقواها القبائل التي تنتمي إلى ربيعة دون مضر؛ فإنها كانت تتعصب لنسبها وتأنف أن تعلوها قريش بفضل النبوة والرئاسة، وصرح بذلك طليحة النمري حين لقي مسيلمة زعيم بني حنيفة ومدعي النبوة في اليمامة، فقال: «أشهد أنك كذاب، لكن كذاب ربيعة أحب إلينا من كذاب مضر.»
وكان مسيلمة هذا يقول: إنه أراد أن يأخذ نصف الأرض ويترك نصفها لقريش «ولكن قريشا قوم لا يعدلون.»
ولم تكن المنافسة بين قبائل مضر أخف ولا أضعف من المنافسة بين مضر وربيعة، فإن المنافسة في الأقربين أشد وأيقظ من المنافسة بين الأبعدين كما هو المعهود في كل قبيل؛ فكانت ذبيان وعبس وبنو أسد تكره من سيادة القرشيين ما تكرهه القبائل البعيدة، وروي عن عيينة بن حصن مثلما روي عن طليحة النمري إذ قال يؤيد المتنبئ طليحة بن خويلد: «نبي من الحليفين أحب إلينا من نبي من قريش»، ويعني بالحليفين بني أسد وبني غطفان.
وكانت قريش تقابل مثل هذه النفرة بمثلها في أيام خصومتها للنبي وثورتها عليه. فكان صفوان بن أمية مشركا في وقعة حنين، ولكنه أنكر من أخيه أن يفرح بنصر هوازن وحلفائها، وصاح به وذهزيمة المسلمين على أشدها: «اسكت فض الله فاك. أتبشرني بظهور الأعراب ... والله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.»
ومن أسباب الردة، ثورة البادية على الحاضرة ... فما زال من دأب البادية في كل زمان أن تنقم على الحاضرة سلطانها ونعمتها، ولم يشذ عن هذه السنة إلا بضع قبائل فيما بين مكة والمدينة كانت تخشى من سطوة القبائل الكبرى ما ليست تخشاه من سطوة المدينتين، وكانت تحتكم في خصوماتها إلى وساطة أهل مكة تارة وأهل المدينة تارة أخرى، فتؤثر مودة الجوار بعد طول الخبرة وطول العشرة على بلاء الفتنة فيما بينها إذا زال سلطان مكة والمدينة، ولزم بعض هذه القبائل الحيدة يترقب ما يكون، وأسرع بعضها إلى تلبية الدعوة، فحارب في صفوف المسلمين.
ومن أسباب الردة، نجاح الدعوة المحمدية بعد فتح مكة ... فإن هذا النجاح أطمع بعض القادة من رؤساء العشائر في بلوغ مثل هذا المطلب الجليل ...
فما هو إلا أن استقر الأمر لمحمد في الحجاز وما حوله حتى اشرأبت الأعناق للاقتداء به، وظن من ظن أنهم قادرون على ما قدر عليه وأن المسألة كلها مسألة كهانة وأسجاع وقيادة وأتباع، وقصرت عقولهم عن إدراك سر القوة الأصلية التي هيأت لمحمد كل ذلك التوفيق العظيم، وهي أن دعوته مطلوبة لإصلاح الأخلاق والمعاملات ونظم الحكم والمعيشة في العالم كله وليست مجرد نهزة تنتهز لظهور رئيس مطاع وتحقيق مجد مرموق ... فنجم الدعاة في حياة النبي باليمن، ونجد، والبحرين، لمجاراة الدعوة بالحجاز، وجاءت وفاته عليه السلام إثر ذلك فجرأتهم على المجاهرة بالعصيان.
ومن الأسباب التي أثارت القبائل، فريضة الزكاة التي فرضها الإسلام على كل مستطيع؛ فإنها أثارتهم لضنهم بالمال، وأنفتهم من الإتاوة، وخالفت ما ألفوه حتى من أكاسرة الفرس وقياصرة الروم؛ لأنهم كانوا يأخذون من هؤلاء أكثر مما يعطون، وكانت الإتاوات التي يرضخون منها أقل من المنح التي توزع عليهم بين حين وحين، باسم الخلع أو الهبات.
بل كان منهم من ضاق ذرعا بالفرائض فأسقطها الدعاة عنهم جميعا وأعفوهم من كل فريضة، ومنهم من أنف من السجود، فقال لهم طليحة الأسدي: «إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم، فاذكروا الله قياما، فإن الرغوة فوق الصريح.»
ويلحق بهذا وأشباهه أن الدين الجديد لم ترسخ جذوره بعد في نفوس الأقصين من أعراب البادية، ولم تهجر طباعهم بعد عادات الجاهلية في العبادة والمعيشة، وقد كان المسلمون أعلم بهم من أن يدهموا بالمفاجأة من قبلهم، لأنهم عرفوا طويتهم قبل ذلك من القرآن الكريم:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم (الحجرات: 14).
وليس أقرب إلى المألوف من نكوص هؤلاء على أعقابهم بعد موت النبي وشيوع الفتنة والاضطراب عن أيمانهم وشمائلهم، مع إغراء الدعة وفرط الحنين إلى القديم وهو منهم جد قريب. •••
وثمة سبب لا يغفل ولو لم تذكره التواريخ بالسند القاطع والنص الصريح؛ وهو الدسيسة المبثوثة من الدول الأجنبية ... كل منها بما يوائمها وبما هي قادرة عليه.
وهذا يفسر لنا أن النبوة ظهرت من العرب أولياء فارس ولم تظهر من العرب أولياء الروم، وهم الغساسنة ومن جاورهم من قبائل التخوم السورية، فهؤلاء يدينون بالمسيحية فلم يظهر بينهم مدع أو مدعية للنبوة، ولكنهم ناوشوا المسلمين على التخوم مناوشة الحرب والوقيعة، أما التغلبيون على مقربة من فارس فلم يكن عليهم حرج من دولتهم التي تحميهم أن يحاربوا دين العرب الجديد بدين آخر، ولم يجدوا حرجا من عقيدتهم أن يسمعوا إلى المتنبئين والمتنبئات؛ لأن عقيدتهم هذه كانت مزيجا من المجوسية والوثنية ومسحة من المسيحية لا يرضاها أتباع كتاب؛ فلهذا ظهرت بينهم سجاح وسلكت في التبشير بدينها العجيب مسلكا لا يستريح العقل إلى تفسيره بغير تفسير واحد، وهو أنها كانت تعمل لغرض سياسي وبإغراء دولة أجنبية، ولا تعمل لغرض ديني ولا بدافع من عندها وعند ذويها.
فسجاح هذه كانت من بني يربوع أقرب بطون بني تميم إلى نفوذ فارس، ثم تزوجت في أخوالها التغلبيين بالعراق، ثم انحدرت من ثم إلى أرض بني تميم مبشرة بدين جديد بعد موت النبي عليه السلام، وانحدر معها جيش كثيف لا يستهان بأمره، فلما دعت قومها الأولين بنى يربوع إلى هذا الدين طلبوا إليها - على ما يظهر - أن تؤلف بطون بني تميم جميعا إلى دينها قبل الزحف على الحجاز لمحاربة المسلمين، فلم يتفق بنو تميم على رأي، وتركتهم إلى اليمامة حيث كان مسيلمة الكذاب يتحفز كذلك للخروج على الإسلام، ولم يكن أوفق لهما بهذه المثابة من التعاهد على غرض واحد؛ هو الزحف على الحجاز ولكنها رجعت إلى قومها وهي تقول: «إنها وجدته على الحق فتزوجته» وأنه سيؤدي لها نصف غلات اليمامة وقد استنجزته شطر هذا النصف قبل مرجعها إلى بلادها ...
فلماذا خالفها بنو تميم؟ ولماذا خالفها مسيلمة؟ ولماذا انحدرت ثم عادت إن كان همها التبشير بدين جديد؟ ولماذا هابها مسيلمة وأعطاها الجزية وهو يأنف أن يعطيها خليفة المسلمين ويجرد لحربه جيشا قيل إن عدته أربعون ألفا وقيل : بل ستون ولم يقل عن عشرين ألفا في تقدير أحد من المؤرخين؟
كل أولئك لغز سخيف لا يقبله العقل إلا على وجه واحد، وهو أنها كانت داعية الفرس لتحريض العرب على الثورة، ومن ثم أصابت ما أصابت من الإخفاق أو النجاح.
ويعزز ذلك أنها لقيت في رحلتها عملاء فارس جميعا من أبناء البوادي العراقية والنجدية، وأنها عملت حيث كان الأكاسرة حريصين على تجديد نفوذهم القديم ...
قال ابن الكلبي: «كانت عير
1
كسرى تبذرق - أي تحرس - من المدائن حتى تدفع إلى النعمان بن المنذر بالحيرة، والنعمان يبذرقها بخفراء من بني ربيعة حتى تدفع إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة، فيبذرقها حتى يخرجها من أرض بني حنيفة، وتجعل لهم جعالة، فتسير بها إلى أن تبلغ اليمن.»
وعلى هذا، تكون مهمة سجاح قد وضحت على هذه الصورة التي لا لغز فيها ولا تناقض بين أجزائها.
ويكون بنو تميم وبنو حنيفة وغيرهم قد عاملوها المعاملة الواجبة لمن يعتز بصولة الأكاسرة ويخلف المناذرة في وقت واحد.
فقد هدمت وقعة ذي قار، التي مر ذكرها بأول هذا الكتاب، هيبة الأكاسرة في الجزيرة العربية.
وساء ظن الأكاسرة بالمناذرة - ملوك الحيرة - الذين كانوا صنائع فارس وكانت فارس تعول عليهم في إخضاع البادية القريبة والبعيدة، فنكلوا بهم وعصفوا بدولتهم قبيل ذلك بقليل، فأرسل الأكاسرة أميرة تغلبية؛ لتخلف المناذرة في هذه المهمة القديمة.
وكان اختيارها من بني تغلب أدنى شيء إلى المعقول والمنظور؛ لأنهم أعداء بني بكر الذين تصدوا لحرب الفرس وهزموهم في وقعة ذي قار.
ثم كان تردد بني تميم وبني حنيفة في معاملتها أدنى شيء كذلك إلى المعقول والمنظور؛ لأنهم أصدقاء المناذرة من زمن قديم، فلا هم راضون بهوانهم ولا هم قادرون على إغضاب فارس ... وغاية ما في وسعهم، أن يصرفوا سجاح راضية ويقنعوها بأن الثورة على الإسلام حاصلة، ويكون عملهم جميعا معقولا على هذا التفسير حيث يعوزه الفهم والوضوح على كل تفسير سواه.
بل نحن نخطر هذا في أخلادنا، فنفهم كيف اشتد التغلبيون في حرب المسلمين وكيف اشتد المسلمون في حرب التغلبيين يوم اشتبكت جيوش الإسلام وجيوش الأكاسرة على إثر حروب الردة، فهي شدة لها أوائلها ونهاية جاءت بعد بداية. وكانت رحلة سجاح إلى الجزيرة العربية هي أولى الطلائع في حرب الأكاسرة والإسلام. •••
من جملة هذه الأسباب يجوز لنا أن نقول: إن المدينة ومكة وجيرتهما كانت تقف وحدها في وجه البادية العربية بأسرها، ومن وراء البادية دول كبيرة تنصرها ولا تنصر المدينتين في هذه المعركة.
وقد كانت حروب الردة طائفا من الشر لا شك فيه.
ولكنها ولا ريب لم تكن شرا محضا خلوا من جانب المصلحة والفائدة؛ لأن هذه الحروب وحدت عناصر المدينتين وهما وشيكتان أن تفترقا كل مفترق، فاجتمعت منهما قوة تكافئ كل قوة في البادية على انفراد، وتيسر لهما من ثم أن تأخذا من البادية قوة تفل قوى الدول الواقفة لهما بمرصد قريب ...
ولولا حروب الردة؛ لكان الخلاف بين المهاجرين والأنصار خليقا أن يتشعب ويستفحل، وكان الأنصار فيما بينهم مختلفين شيعتين كبيرتين ثم شيعا صغارا في كل من الشيعتين، وكذلك كان المهاجرون من هاشميين وأمويين ومن سائر بطون قريش، فإن بني هاشم على انفرادهم لم يجتمعوا بينهم إلى كلمة، ولم يكن لهم مطمع في الوفاق بينهم وبين بطون قريش الأخرى، ودع عنك الوفاق بين طوائف المسلمين أجمعين.
فلما تحفزت البادية للوثوب على المدينة، أحس المسلمون جميعا أنهم فريق واحد، مهدد بخطر واحد، فاتفقوا بوحي البداهة التي لا موضع فيها لتعمل التفكير وحيلة الحض والتحريض، ولبثوا متفقين ما كانوا بحاجة إلى الوفاق، وما كان الشقاق بينهم مرهوب العواقب محذور الأخطار.
وغني عن القول، أن خالد بن الوليد كان في وسط هذه الحومة بكل داع من دواعيه النفيسة والعقلية؛ بداعي العقيدة الإسلامية، وداعي العصبية القرشية، وداعي النشأة الحضرية، وداعي القيادة العسكرية التي قدمته إلى طليعة المجاهدين في هذا الميدان.
فشهد حروب الردة من أوائلها إلى نهاياتها، وقسمت له الحصة الكبرى في أهم وقائعها وأعصب أوقاتها، ومنها وقعة واحدة ترجح بها جميعا وتعد من حروب الإسلام الحاسمة في صدر تاريخه، وهي وقعة اليمامة التي انتصر فيها بعد هزيمة قائدين.
وتنقسم أعمال خالد في حروب الردة إلى قسمين: أحدهما الذي اشترك فيه مع كبار الصحابة بقيادة الخليفة في المدينة وما جاورها، والآخر الذي استقل به أو استقل على الأصح بناحيته العسكرية، وهو أعظم عملية في هذه الحروب. •••
توفي النبي - عليه السلام - وجيش أسامة بن زيد في الجرف من أرباض المدينة، والفتنة على مقربة منها تتطلع برءوسها، فعاد فريق منه إلى المدينة وأشار بعض الصحابة على الخليفة أن يرجئ مسيرته ويستبقيه عنده فترة من الزمن ريثما يطمئن في عقر داره خلال تلك الغاشية، فأبى أشد الإباء أن يخلف وصية للنبي أوصى بها في مرض وفاته، وقال قولته المأثورة: «والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولو أن الطير تخطفتنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة» ونادى في المسلمين: «ليتم بعث أسامة! ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف ...»
وسار الجيش إلى وجهته كما أراد، فخلت المدينة من الجند إلا بضع مئات من رجال المهاجرين والأنصار، ودرى أقرب المرتدين إليها بحالها من العزلة وقلة الحامية، فزحفوا عليها، وظنوا أنهم إذا هددوها وهي عزلاء وتوسلوا بالمفاوضة والوساطة في الوقت نفسه - رجع الخليفة عن عناده وقبل منهم ما ساوموه عليه؛ وهو إقامة الفرائض كلها والإعفاء من الزكاة ... أو من الجزية كما سموها!
زحفت مئات من عبس وذبيان وفزارة على المدينة، وتركوا شطرا من جموعهم في الربذة حيث تلتقي طرق كثيرة على مسافة سبعين أو ثمانين ميلا من المدينة، وساروا بالشطر الآخر إلى ذي حسا وذي القصة وهي أقرب محلة إليها، ثم أوفدوا سفراءهم ينزلون بالناس في بيوتهم ويتوسلون بهم إلى الخليفة أن يقبل منهم ما عرضوا عليه، فأبى إباءه الذي لا ينثني وقال: «لو منعوني عناقا لجاهدتهم عليه.»
فقفلت الوفود إلى جماعاتها، وعلم الخليفة بقفولها، وأخذ في التأهب للأمر بحزم العمل وحزم التدبير والحيلة بعد حزم الإيمان. فلم يدع شيئا قط يستعد به للخطر المنتظر إلا أعده في أوانه وعلى الوجه الأمثل في تلك الأحوال ...
فأقام كبار الصحابة على الأبواب، وجمع في المسجد من استطاع جمعه من المجاهدين، وأرسل العيون على الطرقات من كل سبيل، فما هو إلا أن جاءوه بنبأ القوم ومواضع جماعاتهم المختلفة حتى خرج مع الليل، ليضربهم من حيث لا يتوقعون قدومه، ودهم من كان منهم بذي القصة فذعروا لهذه البغتة التي لم تكن لهم على بال، ولاذوا بالفرار حتى لحقوا بأصحابهم في ذي حسا فثبتوا هناك للمقاومة، وقيل إنهم تحيلوا على إبل المسلمين التي لم تروض للقتال فضربوها بالأنحاء المنفوخة في وجوهها؛ فنفرت وولت مجفلة من حيث أتت، فأطمعهم ذلك في الهجوم على المدينة، وظنوا أن أهلها لن يفارقوها يومهم على الأقل بعد هذه الهزيمة ...
إلا أن الخليفة لم ينتظرهم معتصما بالمدينة كما انتظروا، بل خرج بمن معه في هزيع من الليل على تعبئة كاملة، وهبط عليهم عند طلوع الصبح وهم على غير أهبة فلم يلبثوا قليلا حتى تفرقوا وارتدوا، ولم تقم بعدها قائمة في هذه المحاولة الخاسرة؛ لأن جيش أسامة عاد من وجهته قبل أن يسعفهم مدد نافع، فيئسوا أن يأخذوا المدينة عنوة أو غرة بعد ما أعياهم أخذها وهي قليلة الحامية مفتوحة الطريق.
تلك كانت هجمة المرتدين الأولى على معقل الإسلام ... ظفر فيها المسلمون؛ لأنهم اعتصموا بحزم الإيمان وحزم التدبير وحزم الوفاق، وانخذل فيها المرتدون؛ لأنهم كانوا على نصيب ضئيل من هذه العدد الثلاث، فخانتهم عزيمة الدين وعزيمة الرأي وعزيمة الكلمة الواحدة، ولعلهم لو شاءوا أن يتحدوا كلمة وفعلا لفاتهم طلاب ذلك؛ لقلة الكلأ والماء الذي يكفيهم مجتمعين. فكان تفرقهم مما أعان المسلمين عليهم، وعوضهم من قلة الجند رجحانا يقابلون به الكثرة وهي منحلة الوثاق.
ومن عجائب الخليفة الصديق، أنه كان يعتصم بالإيمان حتى يقال لم يدع مزيدا للحيلة والتدبير، ويعتصم بالحيلة والتدبير حتى يقال إنه لم يدع مزيدا للإيمان ...
ففي هذه الفترة التي شغل فيها أولئك المرتدين بالهجوم والدفاع كانت رسله إلى كل مكان تستنفر القبائل الموالية للنجدة، وتمشي بالوقيعة والتفرقة بين القبائل المعادية أو المتربصة للعداء، وتأتيه بالأخبار من كل صوب فيعمل وهو بصير، ويعملون وهم متخبطون مضللون ...
فلم تنقض هجمة فزارة وعبس وذبيان حتى استتم له جيش كبير من أبناء القبائل الموالية في جوار المدينة ومكة، ومعهم جيش أسامة وعدته بضعة آلاف من المدربين على القتال.
ومضى رسوله «عدي بن حاتم الطائي» إلى قومه بني طيئ وهم يترددون: فريق يعصي الخليفة ويلحق بالمتنبئ الأسدي طليحة بن خويلد ومعهم فلول المرتدين عن المدينة، وفريق يحجم عن العصيان ويؤثر البقاء والانتظار، فأرهبهم من مغبة العصيان وساعده على إرهابهم مصير عبس وذبيان، وأنذرهم ليهبطن عليهم جيش لا قبل لهم بدفعه من تلك الأمداد التي تتدفق على المدينة أو يثوبوا إلى الإسلام وإيتاء الزكاة. فأصغوا إليه، وسألوه المهلة حتى يستخرجوا من لحق بطليحة من إخوانهم لئلا يقتلهم وهم بين يديه، ووعدوه أن يدخلوا بهم جميعا في زمرة جيش المسلمين. •••
إلى هنا انتهت المرحلة الأولى التي اشترك فيها المسلمون جميعا بقيادة الخليفة لمدافعة المرتدين عن المدينة، وكان شأن خالد فيها شأن غيره من أبطال المجاهدين.
وآن أن تبدأ المرحلة الثانية وهي المرحلة التي توزع فيها الأعمال بين القادة في شتى الميادين، بعد أن تمت العدة وتوافدت الأمداد من مختلف القبائل، واستراح جيش أسامة، وهدأت سورة القيظ وبدأ الخريف، وأصبح من الميسور للخليفة أن يوجه البعوث إلى المتنبئين في مواطنهم؛ ليعجل كل منهم عن مراده قبل استفحال خطبه.
ففي أول هذه المرحلة، نرى خالدا ب «ذي القصة» حيث عقد له الخليفة لواء القيادة على جيش لا تتجاوز عدته أربعة آلاف مقاتل، أكثرهم من أبناء القبائل الموالية وأقلهم من المهاجرين والأنصار، ووجهته إلى «بزاخة» من أرض بني أسد حيث اجتمع بنو أسد وقيس وحلفاؤهم إلى المتنبئ القائم بأمر الردة هناك طليحة بن خويلد.
وربما كان الصحيح أن خالدا إنما استقل في أول هذه المرحلة بعمل القائد العسكري في تنفيذ خطة مرسومة بتفصيلاتها، إذ كانت هذه الخطة متفقا عليها بينه وبين الخليفة، وكان الخليفة اليقظان يأمره بما يصطنع خطوة بعد خطوة، وينبهه إلى مواقف القبائل ومواطن الخطر منها على درجاته، ويصحبه إلى بداية طريقه.
قال الخليفة وهو يودع الجيش: «أيها الناس، سيروا على اسم الله وبركته، فأميركم خالد بن الوليد إلى أن ألقاكم. فإني خارج فيمن معي إلى ناحية خيبر حتى ألاقيكم.»
ثم خلا بخالد وأسر إليه أمرا، ثم قال: «... عليك بتقوى الله، وإيثاره على سواه، والجهاد في سبيله، والرفق بمن معك من رعيتك، فإن معك أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار فشاورهم فيما نزل بك ثم لا تخالفهم، فإذا دخلت أرض العدو فكن بعيدا من الحملة فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد وسر بالأدلاء، وقدم أمامك الطلائع ترتد لك المنازل، وسر في أصحابك على تعبئة جيدة، واحرص على الموت توهب لك الحياة، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإن في العرب غرة، وأقلل من الكلام واقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله في سريرتهم، وإذا أتيت دارا فاقحم. فإن سمعت أذانا أو رأيت مصليا أمسك حتى تسألهم عن الذين نقموا ومنعوا الصدقة، فإن لم تسمع أذانا ولم تر مصليا شن الغارة، فاقتل وأحرق كل من ترك واحدة من الخمس ... وإذا لقيت أسدا وغطفان فبعضهم لك وبعضهم عليك، وبعضهم لا عليك ولا لك متربص السوء ينظر لمن تكون الدبرة فيميل مع من تكون له الغلبة، ولكن الخوف عندي من أهل اليمامة، فاستعن بالله على قتالهم، فإنه بلغني أنهم رجعوا بأسرهم، فإن كفاك الله الضاحية فامض إلى أهل اليمامة ... سر على بركة الله.»
ولم يكن الخليفة على نية المسير إلى خيبر كما أعلن أمام الناس، ولكنه لم يشأ أن يعلن سير الجيش إلى «بزاخة» نصا لمقاصد متعددة: منها أن يخيف بطون طيئ حين يقصد إليهم جيش خالد بقضه وقضيضه فيجهز على بقية التردد التي تهجس في صدورهم، ومنها أن يقنع طليحة بإرسال من عنده من طيئ لنجدة إخوانهم والدفاع عن بلادهم، ومنها أن يدهم طليحة على غرة وهو يظن أن الجيش متجه إلى غير «بزاخة» ومنصرف عنها إلى حين، ومنها أن يلزم أهل خيبر أماكنهم فلا يشتركوا في قتال ...
وقد عمد خالد بهذه الخطة، فمضى في طريق «بزاخة» ثم عرج على اليسار قبل منتصف الطريق كأنه يريد الحملة على ديار طيئ، وهناك وافاه فوق الألف من مقاتلة البطون الطائية ممن تخلى عن طليحة أو كان على نية اللحاق به بعد قليل. •••
وقبل أن يستوي خالد في طريقه إلى «بزاخة» جاءه أناس من الطائيين فعرضوا عليه أن يكفوه حرب قيس ويعفيهم من حرب بني أسد لأنهم حلفاؤهم منذ الجاهلية. ولم يكن عدي بن حاتم على رأي قومه فقال لخالد: لو ترك هذا الدين أسرتي الأدنى فالأدنى من قومي لجاهدتهم عليه. أفأنا أمتنع عن جهاد بني أسد لحلفهم؟ ... فلم يشأ خالد أن يكره أناسا على حرب من يسالمونهم ولا يتحمسون في قتالهم، وقال لعدي: «لا تخالف قومك، وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط، والله ما قيس بأوهن الشوكتين. امضوا إلى أي القبيلتين أحببتم.»
وأتم تعبئته للقتال وهو على الطريق، فجعل القبائل على ميمنته والأنصار والمهاجرين على ميسرته، وصمد هو في القلب مع فئة من هؤلاء وهؤلاء ...
أما طليحة، فالظاهر أنه كان أحذر من أن يؤخذ على غرة، فإنه قد رصد العيون على فجاج الصحراء فعلم بمقدم المسلمين قبل وصولهم إلى «بزاخة»، وأعد العدة لكلتا الحالتين من غلبة وفرار، فعزل أكثر النساء في مكان أمين؛ لئلا يقعن في السبي إذا دارت الدائرة عليه، وأقام حوله أربعين فارسا من أشد فتيان بني أسد ليدرأوا الهجمة عنه، كأنه كان يعلم أسلوب خالد في قتاله، إذ كان وكده قبل كل وكد أن ينحي بالضربة المصمية على رئيس القوم فيفت في أعضاد القوم جميعا بقتله أو إكراهه على الفرار، ولم يكن طليحة جبانا يتنحى عن الطعن والضرب وراء غيره، بل كان مشهورا بالشجاعة معروفا عنه أنه أقسم لا يدعوه أحد إلى مبارزة إلا أجابه ، ولكنه كان على شجاعته أميل إلى الحذر والحيطة منه إلى المجازفة والحماسة، وكان في هذه الخصلة نقيض نده الذي يصاوله وينازله بالسلاح والأخلاق، فكان خالد أقرب إلى المجازفة والحماسة منه إلى الحذر والحيطة.
ولقد كانت لجيش طليحة مزيتان هما الكثرة والراحة ... فقد كان جيشه يربو على جيش المسلمين بألف مقاتل أو زيادة مع وفرة السلاح والركائب، وكان مستريحا في دياره على خلاف جيش المسلمين الذي كان عليه أن يلقاه بعد مسير مئات من الأميال في الأودية والجبال.
ولهذا أوشك أن يفوز بيومه لولا عزمة من عزمات القيادة التي تأتي في إبانها وتدور برحى الحرب من طرف إلى طرف في ساعات معدودات.
فلما التحم الجيشان، ثبت طليحة وأصحابه ثبات المستميت، وكروا على المسلمين كرة عنيفة فكشفوا الميمنة ولحقت بها الميسرة وانقضت هنيهة خيل فيها إلى المسلمين أنهم منكسرون لا محالة، وجاء بعض بني طيئ إلى خالد ينصح له أن يتراجع يومه ليعتصم بجبال طيئ ويستدرج المرتدين إليها، فأنكر عليه نصيحته وزجره قائلا: لا أعتصم بغير الله!
ثم عول على الكرة في كبة الجمع ليبلغ النصر أو يموت دونه، فأرسل فرسه وترجل مقاتلا على قدميه؛ ليملك الحركة حيث يشاء ويبعث القدوة في قلوب صحبه، ونادى بالأنصار كأنه ذكر موقف النبي يوم حنين: يا أنصار الله ... فلبوه مندفعين إليه، وثاب أبناء القبائل إلى مواضعهم فاستحر القتل في الفريقين حتى قتل حرس طليحة جميعا، واستقر هو في «دثار الكهانة» يوهمهم أنه يتلقى الوحي أو ينتظر المدد من السماء.
وقد كان أتباعه يحبون أن يؤمنوا به مجاملة له ومرضاة لكبرياء القبيلة في أنفسهم، فلما جد الجد أحبوا أن يروا لهذا الإيمان علامة، وسأله زعيم فزارة عيينة بن حصن، وهو من أعز أنصاره وألد أعداء المسلمين: هل جاءك جبريل؟ قال: لا ... ثم رجع له مستعجلا وحي السماء صائحا به - وقد نسي في غضبه أنه يخاطب على زعمه نبيا من الأنبياء - لا أبا لك، أجاءك صاحبك؟ قال: لا ... فصاح به: حتى متى؟ قد والله بلغ منا. فلما عاوده الثالثة خجل أن يجيبه جوابه الأول وقال له: نعم ... جاءني وأوحى إلي «أن لك رحى كرحاه، وحديثا لا ننساه ...» فسخر منه عيينة وقال: «نعم ... حديث لا ننساه»، ونادى في قومه وهو مؤمن بهزيمة طليحة وإدبار أمره: انصرفوا يا بني فزارة ... إنه لكذاب، وجعل طليحة يسألهم من حيرته ما يهزمكم؟ فأجابه أحدهم: «أنا أحدثك ما يهزمنا، إنه ليس رجل منا إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله، وإنا لنلقى قوما كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه.»
وأدرك طليحة حذره، وكان قد أعد لهذا الحذر عدته، فركب فرسه وأردف امرأته النوار على راحلة وراءه، ونجا بها وهو ينادي أتباعه: «من استطاع أن يفعل هكذا فليفعل»، وما زال في فراره حتى لحق بالشام. •••
وتعقب خالد فلول المرتدين ومن مالأهم من قبائل هوازن وسليم حتى لحق بهم في «ظفر» حيث أحاطوا بسلمى أم زمل وهي كأمها من قبلها مضرب المثل في العزة والمنعة. كان يقال عن أمها «أعز من أم قرفة»؛ لأنها تعلق في بيتها خمسين سيفا، كل سيف منها لرجل من ذويها، وقد سبيت هي في عهد النبي عليه السلام فأعتقتها السيدة عائشة - رضي الله عنها - فذهبت إلى قومها مغضبة لتلك العزة التي انتهى بها عناد قومها إلى الأسر والخدمة، واستثارت حمية الرجال بهذه الغضبة التي تثير الطبيعة البدوية ولو لم تجتمع إليها بواعث أخرى للغضب والثورة ... فدار بين خالد وبين جيشها أحر قتال، ووقفت هي على جمل مشهور تضرم النخوة في قلوب جندها، وترد الشجاعة إلى من أدبر للفرار، ومضى اليوم وهي تكافح ومن حولها زعماء جيشها يكافحون، فجعل خالد مائة من الإبل لمن يصيب الجمل ... وأرسل نخبة من فرسانه عليه فعقروه، وقيل: إنهم لم يصلوا إليه حتى قتل من دونه مائة رجل من حماتها المستيئسين.
وقد تفرقت سرايا خالد في أثر المنهزمين تضربهم وتجمع الأسلاب والغنائم وتدعو إلى الإسلام.
فلم تمض أيام حتى كان قد فرغ من مهمتيه الأوليين، وهما: الإنذار والتغلب على الفتنة، وبقيت مهمته الأخيرة وهي القصاص والتأديب ، ولعلها كانت ألزم وأحزم من قمع الفتنة وتمزيق الجيوش؛ لأن المرتدين كانوا قد أسرفوا في التنكيل بالمسلمين الذين أصابوهم بينهم ولم يتورعوا عن مثلة من المثلات التي يتورع عنها المقاتل الكريم، وأصابوا أولئك العزل المنفردين في غير ساحة حرب وبغير نذير من قتال، فكانت أوامر الخليفة إلى خالد صريحة ألا يني في عقاب المعتدين: «ولا يظفرن بأحد قتل المسلمين إلا قتله ونكل به غيره.»
ولم يكن خالد في مواقف الصرامة والبطش بحاجة إلى توكيد وتشديد، فلم يقبل من المرتدين إلا أن يأتوه «بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على المسلمين.» ومثل بهم فأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة ورمى بهم من الجبال كفعلهم بأولئك الأبرياء الغافلين عن عدوانهم الذميم، وقاد رؤساءهم في جوامع الحديد إلى الخليفة ليصنع بهم ما يشاء.
وذلك درس لا شك أنه عنيف مخيف، ولكن لا شك أنه عادل في شرعة الحرب والسلم، وأنه لازم كل اللزوم في أحوال كتلك الأحوال.
وأيا كانت المثلات بالمرتدين، فهي على التحقيق لا تتجاوز المثلات التي تؤمر بها «حملات التأديب» في عصرنا هذا لمعاقبة أناس لم يقترفوا مثل ما اقترفه المرتدون، ولم يقرنوا فعالهم بجريرة الخروج على عقيدة أو شريعة، ولا بتهديد «الدولة» في كيانها وهي أحوج ما تكون إلى الأمان والضمان ...
ومع هذا وجد من كبار المسلمين من لام خالدا على الإمعان في تأديبه على النحو الذي نحاه، فقال عمر بن الخطاب للخليفة منكرا إحراق الناس: بعثت رجلا بعذاب الله؟ انزعه!
فلم يستمع إليه الخليفة؛ لأنه كان في حنقه على المرتدين لا يستعظم عليهم ضربا من ضروب العقاب.
ومهما يكن من مجاراة هذا العقاب لطبع خالد - فهذه البعثة بين بعثاته جميعا هي بعثة التنفيذ المحض الذي لا يشوبه نصيب من الاستقلال، اللهم إلا استقلال القائد الكفء بحسن القيام على ما وكل إليه ...
ومما لا غنى عنه قبل الانتقال إلى أعمال خالد المستقلة في بقية حياته أن نتحرى نصيبها من إطاعة الأمر، ونصيبها من الإقدام على العمل غير مأمور به ولا محمود عليه.
فيجوز لقائل في هذا الصدد أن يقول: إن الخليفة لم يرسم لخالد خطة القتال والمداورة في بعثة «بزاخة» وإنما أفضى خالد بهذه الخطة إلى الخليفة فأقرها ووافقه عليها.
ذلك جائز غير ضعيف الجواز، ولكننا على هذا نرجح أن الخليفة هو صاحب الخطة من ألفها إلى يائها، وأن نصيب خالد فيها هو نصيب الإقرار والموافقة، ويميل بنا إلى هذا الترجيح أن نصائح الخليفة في بدء البعثة قد شملت الصغائر والكبائر، وتناولت تفصيل الحركة كما تناولت تفصيل البيان الصحيح عن مواقف المرتدين في كل قبيلة وكل ميدان، وأن الخطة قامت على التورية والسبق بالهجوم، وكلاهما مما تعلمه الخليفة الأول بعد طول الصحبة من النبي عليه السلام، إذ كان مأثورا عنه أنه كان إذا قصد وجهة ورى بغيرها، وأنه كان لا ينتظر الهجوم بل يسبق الهاجمين إليه، وقد جرى الخليفة على ذلك في دفاعه عن المدينة قبل مسير البعوث وعقد الألوية للقواد.
كذلك تواترت بعض الأقوال بمسير خالد إلى بني تميم - بعد معركة البزاخة - قبل أن يأتيه أمر الخليفة بالهجوم. قيل: إن الأنصار أنكروا عليه المسير إلى بني تميم وقالوا له: «ما هذا بعهد الخليفة إلينا، إنما عهده إن نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا»، فقال لهم خالد: «إن يكن عهد إليكم هذا فقد عهد إلى أن أمضى، وأنا الأمير وإلي تنتهي الأخبار، ولو أنه لم يأتني كتاب ولا أمر، ثم رأيت فرصة إن أعلمته بها فاتتني لم أعلمه حتى أنتهزها.»
بل قيل أكثر من ذلك، إنه أغار على اليمامة قبل أن يأتيه الأمر من الخليفة بالإغارة عليها. وهي أهول حروب الردة بل لعلها أهول من معظم حروب الفرس والروم.
فزعم قوم أنه قال لصحبه بالبطاح: والله لا أنتهي حتى أناطح مسيلمة، فأبى الأنصار وقالوا: هذا رأي لم يأمرك به أبو بكر فارجع إلى المدينة؛ فأصر على رأيه وقال: لا والله، حتى أناطح مسيلمة، فرجعت الأنصار فسارت ليلة ثم قالوا: والله لئن نصر أصحابنا لقد ندمنا، ولئن هزموا لقد خذلناهم، فرجعوا إليه ومضى بهم إلى اليمامة ...
والذي لا نزاع فيه أن الخليفة لم يبعث أحدا غير خالد إلى بني تميم، ولو بعث غيره لصح أن يقال إنه سار إليهم غير مأمور، ولكنه قال عند مسير جيشه من ذي القصة: «إذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له.»
أما اليمامة، فقد بعث إليها الخليفة عكرمة بن أبي جهل ثم رأى حاجته إلى المدد فوجه في أثره شرحبيل بن حسنة، وأمرهما أن يتلاقيا ولا ينفردا بالهجمة على اليمامة، ثم بدا لعكرمة أن يستأثر بالنصر وحده، فهجم على مسيلمة قبل أن يوافيه المدد فنكب نكبة شديدة، وتلقى الخليفة نبأ هذه النكبة، فكتب إلى شرحبيل يأمره بالتوقف حتى يأتيه أمره، ولم يقل أحد: إن الخليفة وجه قائدا غير خالد لنجدة شرحبيل، ولا كان معقولا أن يكتفي بشرحبيل بعد هزيمة عكرمة وقد كان كلاهما عنده في حاجة إلى التعزيز والإمداد.
وقد تقدم أن الخليفة قد بصر خالدا بشأن اليمامة قبل خروجه إلى البزاخة ... وليس ثمة من داع إلى الشك في نسبة ذلك المقال إليه، ولا إلى الشك بعد هذا جميعه في تولية خالد قيادة الجيش الذي سار إلى اليمامة ...
ومن المتواتر جدا أن خالدا لقي الخليفة بعد مسيره إلى بني تميم وقبل مسيره إلى بني حنيفة؛ لأنه استدعى لسؤاله عن مقتل مالك بن نويرة وزواجه من امرأته ليلى، فهو قد توجه إلى اليمامة مأذونا مأمورا بعد وقعة البزاخة وبعد وقعة بني تميم وعدا هذا كله، يكاد يستحيل على العقل أن يقبل أن خالدا قد تولى حربا كحرب اليمامة، اشترك فيها أعظم الصحابة واستهدف المقاتلون فيها لأكبر الأهوال دون أن يندب لذلك بأمر صريح. •••
وغاية ما نفهمه الآن من ورود ذكر اليمامة عند عقد الألوية في ذي القصة أن الخليفة عرف خطرها؛ فأراد أن يجمع لها أكبر قوة من جيوشه المختلفة ... وأراد في الوقت نفسه أن يشغل بني حنيفة بأنفسهم، فوجه إليهم عكرمة أولا ثم وجه شرحبيل بعده ليتلاقيا معا، ويكون خالد قد فرغ في خلال ذلك من أمر بني أسد فيدرك سابقيه معززا لهم إن تعذر عليهم أن يقهروا بني حنيفة قبل قدومه، وهي خطة تلائم ما عرف عن خطط الصديق من جرأة وحيطة وسرعة، ولا يمنع هذا أن الخليفة أمر خالدا أن يرجع إليه بعد كل مرحلة من مراحل هذه البعثة لعله قد استجد شيء في غيابه.
وفحوى الأقوال الكثيرة التي تتفق بالبداهة على هذا النسق أن خالدا قد تولى التنفيذ في ترتيب أعماله وتولاه أيضا في أوائل خططه، ولكنه قد وكل إلى نفسه في الأمور التي يعلمها الشاهد ولا يعلمها الغائب ... ومنها موعد المسير وطريقة الهجوم واللقاء، فقام بما وكل إليه جميعا على أكمل الوجوه وأقمنها بموافقة الخليفة، إلا في موضعين لكل منهما ارتباط بمسألة زواج: أحدهما في البطاح، والآخر في اليمامة ... فقد تعرض فيهما لمؤاخذة الخليفة ومؤاخذة كبار الصحابة، ولم يرض فيهما عرف الجاهلية أو عرف الإسلام.
وظاهر من مقال الخليفة في ذي القصة أنه لم يكن على يقين من عداء بني تميم. أو من ضرورة القتال في أرضهم، وإنما كان يعلق الأمر على موقفهم عند وصول جيش المسلمين إليهم، وبخاصة بعد وفود زعماء منهم بإعلان الطاعة وإيتاء الزكاة.
وليس أدل من هذا على أن الصديق - رضي الله عنه - قد كان يعمل عمله في حروب الردة جميعا وهو على استطلاع وثيق وعلم واف بأحوال كل طائفة من المرتدين، وإن من دواعي انتصاره وفاء أخباره بحاجات القتال، ونقص أخبار المسلمين عند القبائل المرتدة بعيدها وقريبها على السواء.
فتقديره لموقف بني أسد منذ البداية كان أصح تقدير.
وكذلك كان تقديره لموقف بني حنيفة في اليمامة.
ومثل هذين في صحة الإلمام بالأحوال المختلفة شكه في ضرورة القتال بالبطاح، وتعليقه القتال مع مالك بن نويرة على شرط، وتخصيصه مالكا بالذكر دون الآخرين من زعماء بيوت بني تميم.
فالواقع في أمر بني تميم - كما نعلمه اليوم - أنهم لم ينطووا على خطر جسام، وإن اختلفت في نياتهم الظنون.
وتاريخهم قبل الإسلام بعشرات السنين؛ يؤكد هذه الحقيقة، ويوحي إلى الخليفة رأيه الذي ارتآه.
كانوا في أجهل أيام الجاهلية في طليعة العرب كثرة ومنعة وسعة بلاء ووفرة ماء ومرعى.
وكانوا يجترئون على المغامرات التي تفرق
2
منها القبائل الأخرى، فبطشوا مرة بقافلة عظيمة من قوافل الفرس التي تسير في رعاية الدولة الفارسية وحراسة أناس من بني حنيفة. وفارس دولة ضخمة يهابها العرب، وبنو حنيفة قوم من المنعة والعزة بمكان. فلما استشار كسرى بعض زعماء بني حنيفة في عقوبتهم قال له: «إن أرضهم لا تطيقها أساورتك وهم يمتنعون بها، ولكن احبس عنهم الميرة، فإذا فعلت بهم ذلك سنة أرسلت معي جندا من أساورتك، فأقيم لهم السوق، فإنهم يأتونها، فتصيبهم عند ذلك خيلك.»
وكذلك لم يتمكن منهم كسرى حتى منع عنهم حاجياتهم من أرض الحضارة في سنة مجدبة، واستعان عليهم بمن يستدرجهم إلى مكان ينالون فيه ...
ولكن بني تميم على هذا كانوا مثلا من الأمثلة النادرة على عجائب الحظوظ في هذه الدنيا. فقلما ظهر للمعتبرين أن الكثرة والسعة والمنعة والوفرة تنقلب أحيانا إلى نقمة تشبه القلة والضنك والخوف كما ظهر ذلك في شأن بني تميم.
فقد كانت كثرتهم وسعة بلادهم واكتفاء كل بلد منها بمراعيه وأمواهه سببا لتفرقهم وتصدع وحدتهم وتعذر الإجماع بينهم على رئيس واحد. فتشعبوا بطونا يدين كل بطن منها لرئيس، بل بيوتا في البطن الواحد يبلغ من تنافسهم أن يتحاربوا ويتوارثوا التراث،
3
ويصبح التوفيق بينهم أعسر من التوفيق بين أحدهم والغريب الطارئ عليهم من الأعداء والأصدقاء ...
وكان هذا شأنهم يوم ظهرت الدعوة المحمدية، فلما بلغتهم خاف كل منهم أن يرفضها فيكون منافسوه الواقفون له بالمرصاد حربا عليه، فأجاب رؤساؤهم الدعوة، وأقرهم النبي على رئاستهم، ومنهم الزبرقان بن بدر على الرباب، وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون، ووكيع بن مالك على بني حنظلة، ومالك بن نويرة على بني يربوع، وهم بيت من بيوت بني حنظلة الكبار.
وكل أولئك رجال من ذوي الرأي الراجح والقول النافذ والمناقب «الشخصية» ... ويمتاز من بينهم مالك بن نويرة بمزايا أخرى لم تتفق لواحد منهم، وهي اللباقة والظرف والفصاحة وحسن المحاضرة، مع الوسامة والصباحة وأناقة الزى والشارة، وهي في جملتها تلك الصفات التي ترشح صاحبها لمآسي البطولة في قصص الحياة، من واقع أو خيال.
كانت فيه خيلاء وجفلة، وكان متلافا لا يبقي على مال، وكان فارسا شاعرا محدثا ظريف المدخل على من يعرف ومن لا يعرف، ومن ذاك أنه كان يقصد الحي من أحياء الأعداء وله فيه أسرى يريد فكاكهم بالفدية المصطلح عليها، فلا يحدث أهل الحي هنيهة حتى يخلبهم بحديثه ويأسرهم بظرفه وحسن سمته؛ فيردوا إليه أسيرة بغير فدية، ويفترقوا وهم أصفياء.
وكان مالك هذا أول من قصدت إليه سجاح المتنبئة عند منحدرها من الجزيرة، فصرفها عنه بلباقته إلى ملاقاة البطون الأخرى من بني تميم، ولعله زين لها أن تجمعهم إليها عصبة واحدة، لعلمه باستعصاء ذلك عليها وعلى غيرها ... وأنها وشيكة أن تنتقم له منهم إن هي دعتهم إلى الالتفاف بها فلم يجيبوها.
ولم تزل الأنباء - قبل مقدم سجاع وبعد منصرفها - يتابع بعضها بعضا بانكسار المرتدين وغلبة المسلمين عليهم، إلا ما كان من هزيمة عكرمة في اليمامة وانتصار بني حنيفة عليه، وهو انتصار لا يسر بني تميم لشدة المنافسة بينهم وبين بني حنيفة.
فلما أخذ الخليقة في عقد الألوية وتسيير البعوث كان بنو تميم على حالهم المعهود من التفرق والمراقبة بعضهم لبعض على توجس وحذر، فسبق بعضهم إلى المدينة بحصته من الزكاة، وتأخر بعضهم حتى نزل خالد بأرضهم فدفعوها إليه، وتحير مالك بن نويرة، فلم يعزم على الحرب ولم يؤد الزكاة.
وأغلب الظن أنه بدد ما جمع من الصدقات في هباته وملاهيه، ثم ليم في ذلك فأجابه لائميه بأبيات قال فيها:
وقلت خذوا أموالكم غير خائف
ولا ناظر فيما يجيء من الغد
فإن قام بالأمر المخوف قائم
منعنا وقلنا الدين دين محمد
يعني أن محمدا هو صاحب الدين وصاحب الزكاة، وقد مضى محمد فليس لأحد بعده أن يتقاضاه.
وهو على الجملة موقف رجل مسرف «لا يبالي ما يجيء من الغد»، كما قال : وليس بموقف عناد وتحفز لقتال.
فلما نزل خالد بالبطاح لم يجد أمامه أحدا يلقاه بزكاة أو يلقاه بقتال ... فعسكر حيث نزل وأرسل السرايا في أثر هذا البطاح، فجاءته بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع، فحبسهم ثم أمر بقتلهم، وحدث بعد ذلك أنه تزوج بامرأة مالك ليلى أم تميم، وكانت من أشهر نساء العرب بالجمال، ولا سيما جمال العينين والساقين ... يقال إنه لم ير أجمل من عينيها ولا ساقيها.
وتضطرب الروايات هنا أبعد اضطراب وأصعبه أن تهتدي منه إلى مخرج متفق عليه.
فمن قائل: إن السرايا وجدت بني يربوع يصلون وسمعت الأذان، ومن قائل: لم نر صلاة ولم نسمع بأذان.
ومن قائل: إن الأسرى قتلوا؛ لأن الليلة كانت باردة ونادى مناد من قبل خالد أن «دافئوا أسراكم»، ففهم الحراس أنه يريد القتل؛ لأنهم من بني كنانة والمدفأة بلهجتهم كناية عنه.
ومن قائل: إن مالكا قتل بعد محادثة حامية جرت بينه وبين خالد ... ثم تضطرب الروايات في نقل حديثهما، فلا يدري له نص صحيح. فقيل: إن مالكا صرح بأنه لا يعطي الزكاة وإنما يقيم الصلاة، فقال خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معا لا تقبل واحدة دون الأخرى؟ فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك، فاتخذ خالد قوله دليلا على تبرئه من النبي وقال له: أو ما تراه لك صاحبا، ثم حمى الجدل بينهما حتى أمر بقتله، ونسجت الخرافة بعد ذلك نسيجها الذي لا يتماسك لوهيه، فزعموا أن خالدا أمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدرا فأكل منه، وأن شعر مالك جعلت النار تعمل فيه إلى أن نضج اللحم ولم يفرغ الشعر! وهي خرافة تروى؛ لتدلنا على شيء واحد: وهو وجود المحنقين الراغبين في التشهير بخالد وتبشيع أعماله وإيغار الصدور عليه.
وقيل: إن مالكا لمح في عيني خالد الإعجاب بامرأته فصاح به: هذه التي قتلتني، فقال له خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام.
ويذهب بعضهم إلى أكثر من هذا، فيزعمون أن هوى خالد لها سابق لحرب الردة ، وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي:
قضى خالد بغيا عليه بعرسه
وكان له فيها هوى قبل ذلك
وقيل: إن خالدا توعد مالكا بالقتل، فقال له مالك: أو بذلك أمرك صاحبك؟ قال خالد: وهذه بعد تلك؟ ثم تكلم أبو قتادة الأنصاري وعبد الله بن عمر في أمره فكره خالد كلامهما، وعاد مالك يقول له: يا خالد: ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا، فقال خالد: لا أقالني الله إن أقلتك، وتقدم إلى ضرار بن الأزور أن يضرب عنقه ... ويزيدون على ذلك، أن خالدا دعا أبا قتادة الأنصاري وعبد الله بن عمر إلى حضور عقد الزواج بليلى بعد مقتل زوجها فأبيا وأشارا عليه أن يكتب إلى أبي بكر، فلم يستمع إليهما.
وغضب أبو قتادة، فأقسم لا يجمعه بعد اليوم وخالدا لواء واحد، وقفل إلى المدينة غير مستأذن من قائده، فلقي الخليفة ولقي عمر بن الخطاب، فكانت غضبة عمر أشد وأعنف، وطلب إلى الخليفة أن يعزله وأن يقيده قائلا: إن سيفه فيه رهق، فلم يجبه الخليفة وقال له: يا عمر، تأول فأخطأ، ارفع لسانك عن خالد، فإني لا أشيم سيفا سله الله على الكافرين ...
ولكنه ودى
4
مالكا واستدعى خالدا إليه، فلما قدم إلى المدينة رأى عمر منه ما زاده غضبا وشدة في طلب القود
5
منه. رآه قد دخل المسجد وعليه قباء وقد غرز في عمامته أسهما، فنهض إليه فنزعها وحطمها وصاح به: «قتلت امرءا مسلما، ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك.»
فتركه خالد ولقي الخليفة فاعتذر إليه. فعنفه الخليفة وأمره أن يفارق ليلى ثم عفا عنه واستبقى خدمته، فعاد خالد إلى المسجد وفيه عمر ... فبادره حين رآه مناجزا: هلم إلي ابن أم شملة، فعرف عمر أن الخليفة قد عفا عنه، فلم يكلمه ودخل بيته.
وحسبنا من هذه الأقوال جميعا أن نقف منها على الثابت الذي لا نزاع فيه ... والثابت الذي لا نزاع فيه أن وجوب القتل لم يكن صريحا قاطعا في أمر مالك بن نويرة، وأن مالكا كان أحق بإرساله إلى الخليفة من زعماء فزازة وغيرهم الذين أرسلهم خالد بعد وقعة البزاخة، وأن خالدا تزوج امرأة مالك وتعلق بها وأخذها معه إلى اليمامة بعد لقاء الخليفة.
وأوجب ما يوجبه الحق علينا بعد ثبوت هذا كله أن نقول: إن وقعة البطاح صفحة في تاريخ خالد كان خيرا له وأجمل لو أنها حذفت ولم تكتب على قول من جميع تلك الأقوال؛ لأنها لم تضف إلى فخاره العسكري كثيرا ولا قليلا، وأهدفته لملام أحمد ما يحمد منه أن له عذرا فيه، يقبله أناس ولا يقبله آخرون. •••
يجب تقدير هذا عند تقرير خالد؛ لأنه الحق الذي لا يعلو على ميزانه ميزان في ترجيح الرجال والأعمال ...
ولأن الرجل الذي يخشى على قدره من تقرير أخطائه رجل لا يستحق أن يكتب له تاريخ؛ إذ معنى الخشية عليه من أخطائه أنه فقير في الحسنات والعظائم، وأنه من الفقر في هذا الجانب بحيث تعصف الأخطاء بعظائمه وحسناته، ولم يكن خالد بن الوليد كذلك، بل كانت له في ميزات العظمة والعبقرية كفة راجحة، ولم يكد يرحل عن البطاح حتى اتصلت له حلقات من كبار الأعمال توزع على عشرة رجال ويجد كل منهم في نصيبه كفايته من الفضل والرجحان.
خرج من البطاح إلى اليمامة.
خرج من وقعة لا خطر لها إلى وقعة لها الخطر الأكبر في حروب الردة وفي حروب الإسلام كافة خلال أيام الخلفاء الراشدين.
ويرجح هذا الخطر إلى قوة بني حنيفة أصحاب اليمامة، ودهاء رئيسهم مسيلمة بن تمامة، ومنعة بلادهم بالجبال والأودية ووفرة الماء والثمرات.
هابها أصحاب سجاح، وقالوا لها حين حدثتهم بغزوها: إن مسيلمة قد استفحل أمره وعظم ... فلم تهون عليهم خطبها حتى استنزلت لهم سجعات من وحيها المزعوم تقول فيها: «عليكم باليمامة. دفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، ولا تلحقكم بعدها ملامة.»
وكان مسيلمة هذا رجلا قصيرا أخنس الأنف أفطسه شديد الصفرة زري الهيئة، ولكنه على ما يؤخذ من أخباره كان على ذكاء مفرط وحيلة نافذة، وكان من أولئك الدهاة الذين يعوضون بالحيلة ما فاتهم من الهيبة والرواء، فاشتهر بالخلابة والقدرة على استهواء النفوس من الرجال والنساء، فمن خلابته أن النبي - عليه السلام - أرسل إليه رجلا من قراء القرآن؛ ليعلم أهل اليمامة أحكام الإسلام ويبصرهم بالفرائض والعبادات وهو نهار الرحال، فما لبث الخبيث أن استغواه حتى شهد له أنه يوحى إليه وأنه سمع النبي - عليه السلام - يقول إنه قد أشركه معه وشهد له بالنبوة ... وقد استغوى سجاح - وهي تدعي النبوة - حتى شهدت بنبوته وتزوجته وانصرفت من بلاده بنصيب من الهدايا يقنعها بالذهاب ولا يضمن لها التكرار، وكأنه كان على حظوة عند النساء وخبرة بأهوائهن وأساليب مرضاتهن، فقد كان نساؤه يحببنه ويجزعن عليه، وصاحت إحداهن ساعة أن قتله وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم: «وا أمير الوضاءة. قتله العبد الأسود ...»
وخليق بهذا أن يظن به السحر وتنتظر منه الخوارق بين الجهلاء؛ لأنهم يرون سلطانه ولا يعلمون مأتاه، فيخيل إليهم أنه سر من الغيب أو معونة من الجنة والشياطين، وهو على هذا كان يعين حيلته بما استطاع من صناعة الشعوذة والألاعيب التي كان يحذقها بعض الكهان في بلاد العرب والعجم، فكان قبل ادعائه النبوة يطوف بالأسواق ويتعلم «النيرنجيات» حيث سمع بأساتذتها المبرزين فيها، ولم يكن في طبيعته بمعزل عن طبائع السحرة وأدعياء الغيب ... فقد قيل في وصفه وهو يتكهن: «إنه إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه» ... والأغلب الأرجح أن به صرعا كأولئك الذين يشبهونه في الخلائق والدعاوي، ومنهم الذين يعالجون «الاستهواء» من المستهوين أو الوسطاء.
ولسلطانه على أبناء قبيلته أحبوه ووثقوا به وأطاعوه، فتأتى له أن يجمع منهم أربعين ألفا أو ستين، وهو عدد ربما ارتفعت به المبالغة أو الجهل بالتقدير، ولكنه لا يهبط إلى ما دون العشرين، قياسا على ما وصفت به معركة اليمامة من الهول وكثرة القتلى والجرحى بين الفريقين.
وقد كان مسيلمة يحسب الحساب لأمور كثيرة يوم تصدى لدعوى النبوة ومقاومة الإسلام ... فكان يقاتل ثمامة بن أثال، ويناوش بني تميم لما بينهم من الذحول والمنافسات، ويتوقى شر سجاح وقومها التغلبيين ودولة الأكاسرة من وراء التغلبيين، ويعلم أن أشياعه من بيوت بني تميم قد يخذلونه، وأن الذين دانوا بالإسلام بين قومه عيون عليه، وأن الخليفة لا يمهله ولا يجهل أخباره ... فتحيل على مهادنة خصومه، وفرغ جهده لحرب المسلمين وحدهم، وحشد كل ما وسعه من جند وسلاح، ثم تقدم بهم في عجلة إلى موقع يقال له عقرباء في طرف بلاده على مقربة من بلاد بني تميم.
ولم يكن خالد يجهل خطر الرجل الذي سيلقاه، ولم يكن يخفى عليه أن الحرب في العراء غير الحرب في بلاد تكتنفها الجبال، وتقام فيها الأبنية والأسوار، فتوجه إلى اليمامة في أهبة كافية بالقياس إلى أهبة المسلمين لأعدائهم في صدر الإسلام.
ولا يعلم على التحقيق عدد الجيش الذي كان معه في عقرباء، ولكنه على التقريب يجاوز ثمانية الآلاف ولا يقل عنها؛ لأن جيشه بالبزاخة نحو خمسة آلاف، يضاف إليهم جيش شرحبيل بن حسنة الذي سبقه ولبث في انتظاره، ولا يقل عن ألفين، ويضاف إليهم الردء الذي أرسله الصديق وراءهم بقيادة سليط بن عمرو؛ ليحمي ساقتهم، وغير هؤلاء من تطوع للحرب مع المسلمين من بني تميم وبني حنيفة، فهم في جملتهم يجاوزون ثمانية الآلاف ولا ينقصون عنها، إن نقصوا، إلا بقليل.
لكن مكان القوة من هذا الجيش الصغير إنما هو كثرة الصناديد من أبطال الصحابة المشهورين فيه. فقد كان جيش المسلمين لا يجاوز في عدته نصف جيش اليمامة، ولكنه كان في عدة وافية من أفذاذ الرجال الذين يقومون بالألوف ... فهم وأعداؤهم بهذه المثابة كفؤان متناظران.
وكانا كفؤين متناظرين في صدق النية واتقاء العار من الهزيمة ... هذا تأخذه غيرة الحرم وهذا تأخذه غيرة الدين، وقد قال ابن مسيلمة لقومه وهم يتقدمون إلى المسلمين: «هذا يوم الغيرة ... اليوم إن هزمتم تستنكح النساء سبيات وينكحن غير حظيات، فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم.»
فليست تعوز الخصمين حرارة الخصومة، ولا شواحذ الغيرة، ولا صلابة العزم، ولا توسم الأمل في النجاح.
ولم يزل خالد يتقدم إلى وجهته على تعبئة كاملة كعادته في معظم غزواته ... وكان يتلقى الأخبار عن مسيلمة وحركاته في كل مرحلة من مراحل الطريق، ولعله استعظم القوة التي حشدها مسيلمة في عقر داره فجنح إلى الأخذ بالأحوط وكتب إلى الخليفة في طلب المدد عسى أن يحتاج إليه بعد الجولة الأولى من جولات القتال، فأمده الخليفة بجرير بن عبد الله البجلي، ولكنه التحم بجيوش مسيلمة قبل أن يصل إليه، فلقيه منصرفا من اليمامة.
ولما دنا من أرض مسيلمة مرت مقدمة جيشه في الليل بكوكبة من الفرسان بين الأربعين والستين ... عليهم مجاعة بن مرارة من زعماء بني حنيفة وأصحاب الرأي والمنزلة فيهم، وكأنه كان خارجا لاستطلاع أمر المسلمين، ولكنه أنكر ذلك وزعم أنه ذهب «لأخذ ثأر له في بني تميم وبني عامر»، فلما سئلوا عن دينهم قالوا: منا نبي ومنكم نبي، فأمر خالد بضرب أعناقهم جميعا واستبقى مجاعة عسى أن ينتفع بمنزلته في قومه أو بعمله بالحرب والمكيدة، كما قال بعض الرواة.
ونزل خالد على كثيب في مواجهة مسيلمة، ثم التحم الفريقان «وقاتلت بنو حنيفة قتالا لم يعهد مثله» واندفعت في هجمتها حتى دخلت خيمة خالد من وراء العسكر وفيها امرأته أم تميم ومجاعة بن مرارة مقيد بالأغلال ... فهم بعض الحنفيين يقتلها لولا أن حماها منهم مجاعة وأوصاهم بها خيرا وهو يقول: نعمت الحرة هذه، وعليكم بالرجال.
شوهد في كثير من المعارك بين المسلمين وأعدائهم في الصدر الأول أن الكرة الأولى غالبا ما تكون للمشركين، ولا سيما حين تجتمع لهم مزية العدد والراحة حيث يختارون مكان القتال، وهي مشاهدة لا تستغرب ولا تخالف المعهود؛ لأن «الدفعة الحيوانية» أبدا لها الوثبة الأولى مع العدد الكثير وراحة الجسد، وإنما الثبات للعقيدة التي يلوذ بها الإنسان بعد المراجعة، وللضمير الذي يثوب إليه المرء بعد الامتحان، وليس من شأن العقيدة أن تكون - كالدفعة الحيوانية - وثبة عاجلة وهجمة سوارة فاشلة، وإنما شأنها أن تحاسب النفس وتستعيد قواها وتستخرج ذخيرتها من أعماقها، فهي لهذا تنفع صاحبها في المحنة وبعد تبين الشدة، وبخاصة حين يحتاج إليها بعد الجولة الأولى.
وهذا الذي حدث في عقرباء كما حدث في وقائع شتى.
فبعد الجولة الأولى التي فازت بها «الدفعة الحيوانية» برزت العقيدة إلى الطليعة وجاءت بمعجزاتها، وهي معجزات لا يتخيل العقل أن نفسا إنسانية تقدم عليها بغير اعتقاد.
انكشف الأعراب أولا في أول صدمة، وتزلزلت أقدام أناس من الأنصار والمهاجرين من طغيان الجموع الهازمة والمنهزمة على السواء.
فبادر خالد إلى تنظيم جيشه على وضع جديد، فميز المهاجرين وميز الأنصار وميز الأعراب كل بني أب على راية، وصاح بهم: أيها الناس تمايزوا حتى نعرف من أين نؤتى.
ثم عول على الموت كما وصاه أبو بكر، فوهبت له الحياة ووهب النصر ... حمل على القوم حتى تجاوز الصفوف وجعل يخاطب مسيلمة ويعرض عليه النصف والرجوع إلى الحق ومسيلمة يروغ منه، ثم نادى بشعار المسلمين: يا محمداه ... ودعا إلى المبارزة وهو يصول ذات اليمين وذات الشمال ولا من يثبت له في مجال، ولم يبال أن ينظر إلى ما وراءه؛ لأنه ترك كل شيء في تلك الساعة إلا أن يتقدم أمامه، ولم يزد على أن قال لجيرته أو من نسميهم اليوم أركان حربه: «لا أوتين من خلفي» ومضى إلى تقدم بغير رجوع، إلا رجوع ظافر مختار.
وظهرت في مقام الهول فضيلة الصناديد من كبار الصحابة، فحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه وهو يحمل لواء الأنصار بعد ما تحنط وتكفن، فلم يزل ثابتا حتى قتل في مكانه.
وصاح زيد بن الخطاب: أيها الناس عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قدما. ثم أقسم: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكمله بحجتي. فكانت آخر ما فاه به في ذلك اليوم.
وحمى البراء بن معرور وأخذته العرواء التي كانت تأخذه حين تتعالى الوغى ويحتدم القتال، فكان كأنما يبحث عن الموت ويهرب من الحياة ...
وتجاوبت الساحة بأصوات الأبطال يوصون بعضهم بعضا، وينظر بعضهم إلى بعض وهم ينقضون على أعدائهم ويتنادون بينهم: يا أصحاب سورة البقرة ... يا أنصار الله ... كما ناداهم النبي - عليه السلام - في يوم حنين. فاستحى كل منادى منظور المكان منهم في ذلك المشهد العظيم أن ينكص على عقبيه، ولم ير منهم إلا قتيل في موضعه أو زاحف إلى الأمام.
وما هي إلا سويعات حتى انكشف أصحاب مسيلمة منكسرين، وهرول مسيلمة نفسه إلى حديقة مسورة من ورائه ... وقد سميت في ذلك اليوم بحديقة الموت؛ لكثرة من قتل في طريقها وكثرة من قتل فيها، ولاحت من البراء نظرة إلى جانب الباب فإذا هم قد أوشكوا أن يغلقوه عليهم، فصاح بإخوانه: يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم من فوق سورها، فاحتملوه فوق الحجف،
6
ورفعوها بالرماح حتى بلغت أعلى السور فسقط منه على القوم بعد تردد، ولم يزل يعالج باب الحديقة حتى فتحه، وقد تواثب أفراد من المسلمين إلى جانبه فأعانوه.
وقتل في هذه الهجمة مسيلمة، كما قتل محكم بن الطفيل أكبر أعوانه ومشيريه، فاضطرب بنو حنيفة ووقعوا في الحيرة وهم في هزيمة لا يشار فيها برأي، ولا يصغى فيها إلى مشير، فشغلوا عن باب الحديقة وأعين المسلمون على اقتحامه من داخلها وخارجها. فحق لتلك الحديقة في ذلك اليوم أن تسمى حديقة الموت؛ لأنها اشتملت في يومها على ألوف من القتلى، وبلغ عدد القتلى جميعا في ذلك اليوم بين ساحة القتال وحديقة الموت عشرات الألوف، أقلهم في تقدير المقدرين عشرة آلاف من بني حنيفة وستمائة من المسلمين، وأكثرهم في تقدير المقدرين يرتفعون إلى سبعين ألفا أو ثمانين ألفا حنفيين وألفين مسلمين وهو رقم لا يدل على نبأ صحيح ولكنه يدل على هول صحيح سرى في الأنفاق من أنباء تلك المعركة التي ذهبت فيها نخبة من أجل الصحابة وأفقه الفقهاء ... ومن جراء مقتلهم في هذه المعركة أمر الخلفاء بجمع القرآن في المصحف بعد أن فني الكثيرون من حافظيه، وخيف أن يفنى آخرون.
ثم بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي، وعزم على غزو حصونها جميعا ولم يكن بقي فيها إلا النساء والصبيان والشيوخ والكبار، فاقترح عليه مجاعة أن يذهب إليهم؛ لينزلهم صلحا عن معاقلهم، ثم خدعه وأخلص لقومه؛ لأنه أمر النساء والكبار أن يلبسوا الحديد ويبرزوا من رءوس الحصون، فنظر خالد فإذا الشرفات ممتلئة من رءوس الناس، فآثر المصالحة لما رأى بالمسلمين من الجهد «وقد كلوا من كثرة الحروب» واشترط أن يسلموا وأن يكون له نصف السبي والغنائم، ثم نزل من النصف إلى الربع حين أوهمه مجاعة أن القوم قد رفضوا ما قبل منه.
فلما اطمأن المعتصمون إلى الحصون من بني حنيفة فتحوا أبوابها فلم ير فيها إلا امرأة أو صبي أو شيخ فان أو رجل هزيل لا يرجى لقتال.
وقد يتوقع من خالد أن يغضب على مجاعة ويبطش به بطشة خالدية بعد هذه الخدعة التي اجترأ عليه بها علانية وهو في قبضة يديه.
لكننا في الحق لا نعجب إذا هو لم يغضب؛ لأن عمل مجاعة لا مراء عمل نبيل يكبره في النفوس النبيلة، ويبعث له فيها الإعجاب الذي يكفكف من شرة كل غضب سريع. فهو عمل ينضح بالمروءة والغيرة على العشيرة، وكلتاهما فضيلة يعرفها خالد، ويعرف للمتصف بها قدره فلا يذله ولا يجزيه شر الجزاء.
وقصارى ما بلغ من غضبه أنه نظر إليه نظرة شزراء وصرخ به: ويحك ... خدعتني، فلم يجبن مجاعة ولم يعتذر، وإنما قال: هم قومي.
وما نحسب إلا أن الإعجاب بمجاعة قد حبب إلى خالد أن يصهر إليه ويوثق الصلة بينه وبينه ... زعيم شجاع جميل الرأي حسن التدبير غيور على قومه، عليم كما وصفوه بمكيدة الحرب والسلم، فهو خير صهر في تلك القبيلة التي يفخر «سيف الله» بدخولها على يديه في الإسلام، ويطيب له أن يعزز صلة الدين بصلة البيت والنسب، وقد طاب له المقام بتلك البقاع المخصبة التي يزينها له النصر كما يزينها له طيب الهواء، فاختار له واديا من أوديتها الجميلة يسمى الوبر ليقيم فيه حتى يؤمر بوجهة أخرى، وخطب إلى مجاعة فتاة له موصوفة بجمالها، وهي خطبة لا ترفض ولكنها قد تقبل وتؤجل؛ لأن مجاعة قد علم من «ليلى» مذ كان سجينا في خيمتها كيف تلقى الخليفة وأصحابه خبر زواجها بخالد في ساحة القتال. فأشفق هذا الرجل المحنك البصير بالعواقب من عاقبة تسوءه وتسوء ابنته وتسوء خالدا في جريرته، فاستمهله ولم يعجل بتلبية طلبه، وقال له: «مهلا ... إنك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك» ... ولكنه لم يلبث أن علم إصرار خالد حتى أجابه ورأى أن عاقبة القبول أسلم من عاقبة الإباء.
وكان خالد قد تلقى من الخليفة أمرا باستئصال كل من يحمل السلاح من بني حنيفة، فعادت الرسل إلى الخليفة بخبر الصلح وخبر الزواج، فحسب أن الأمرين مقترنان واشتد به السخط على عمل خالد بما وقع في نفسه من حسبان، فكتب إليه أعنف خطاب وجهه إلى قائد من قواده أو وال من ولاته، وسماه «ابن أم خالد ...» وقال له في خطابه: إنك لفارغ، ونعى عليه أنه «ينكح النساء وبفناء بيته دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجف بعد.»
وقد كتب خالد إلى الخليفة يعتذر في أنفة وعزة: «أما بعد، فلعمري ما تزوجت النساء حتى تم لي السرور وقرت بي الدار، وما تزوجت إلا إلى امرئ لو عمدت إليه من المدينة خاطبا لم أبل. دع أني استثرت خطبتي إليه من تحت قدمي، فإن كنت قد كرهت لي ذلك لدين أو دنيا أعتبتك، وأما حسن عزائي على قتلي المسلمين فوالله لو كان الحزن يبقي حيا أو يرد ميتا لأبقى حزني الحي ورد الميت، ولقد اقتحمت في طلب الشهادة حتى يئست من الحياة وأيقنت بالموت، وأما خدعة مجاعة إياي عن رأيي فإني لم أخطئ رأي يومي ولم يكن لي علم بالغيب، وقد صنع الله للمسلمين خيرا، وأورثهم الأرض وجعل لهم عاقبة المتقين.»
وقال في رسالة أخرى: «إني لم أصالحهم حتى قتل من كنت أقوى به، وحتى عجف الكراع ونهك الخف، ونهك المسلمون بالقتل والجراح.»
وقد ظن خالد أن الخليفة لم يكن ساخطا عليه ذلك السخط لولا إصغاؤه «للأعيسر» كما كان يسمى عمر بن الخطاب، ويخيل إلينا أن سخط الخليفة لم يكن ليبلغ به هذا المبلغ لولا أن زواجه ببنت مجاعة سبقه ذلك الزواج الذي خبطت فيه الظنون بعد مقتل مالك بن نويرة.
وعلى هذا، انقضى واجب خالد بن الوليد في حروب الردة كأحسن ما ينقضي هذا الواجب، وقام وحده بأوفر سهم في هذه الحروب؛ لأنه قمع أخطر الفتن في الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، فقمع فتنة بني أسد وحلفائهم، وخطرها أنها كانت أقرب الفتن إلى المدينة ومكة، وقمع فتنة بني حنيفة، وخطرها أنها كانت فتنة القبيلة القوى والعديد الأكثر بين العرب قاطبة ... وحقق كل ما ندبه له الخليفة، وكل ما اتفقا عليه، سواء من الخطط التي نظرا معا في تفصيلاتها، أو من الخطط التي عرف خالد غاياتها، وابتدع لها ما ارتآه من أساليبها في أماكنها وأوقاتها، ولم يخالف رغبة الخليفة إلا في موضعين لهما، كما أسلفنا، علاقة بمسألة زواج.
أما الأولى - وهي زواج ليلى امرأة مالك - فقد تقدم تلخيصها وجملة الرأي فيه - كما أسلفنا - أنه عمل يحوج خالدا إلى الاعتذار والتفسير، وأنه صفحة كان خيرا له لو طويت من تاريخه، فما فيها مزيد افتخار، وفيها على أهون القولين مقام اعتذار.
وأما الأخرى فلا يسع أحدا أن يسهو فيها عن عجلة خالد إلى الزواج على غير عادة القوم في ميادين القتال.
ولكن لا يسع أحدا كذلك أن يتعدى هذا إلى مظنة تمس نية الرجل أو تجعل صلحه لبني حنيفة متصلا برغبته في الزواج ببنت مجاعة زعيم الحنفيين في صلح اليمامة ... ذلك بعيد، جد بعيد ...
لأن بنت مجاعة كانت بين يديه، وكان في وسعه أن يقتل أباها؛ نقمة من خداعه إياه، ومرضاة للخليفة الذي أمره باستئصال من يحمل السلاح في القبيلة، فهو يقتله ولا معتبة عليه.
ولم يصالح خالد بني حنيفة وهم مجمعون على قبول صلحه، بل كان منهم زعيم له أنصار وأتباع - هو مسيلمة بن عمير - أبى أن يذعن لشروط مجاعة ومضى يهتف في قومه: «يا بني حنيفة، قاتلوا عن أحسابكم ولا تصالحوا على شيء فإن الحصن حصين والطعام كثير، وقد حضر الشتاء.»
فلما عارضه مجاعة وذهب برأي الأكثرين من قومه تمادى مسيلمة بن عمير في لجاج الخصومة، وانسل إلى فسطاط خالد يريد أن يفتك به ويشيع بموته الفتنة التي لا تؤمن عقابيلها في معسكره ومعسكر بني حنيفة، فتنبه خالد إليه وسأل: من هذا المقبل؟ ... فعرفوه به فقال: أخرجوه عني، فلما أخرجوه وجدوه يخفي السيف في ثيابه، فلعنوه وأوثقوه في الحصن وأخذوا عليه عهدا لا يقربن بعدها من فسطاط خالد حتى تنتهي بيعة قومه على الإسلام، ولكنه غدر بعهده وأفلت بالليل إلى عسكر خالد مصرا على قتله، فلما أدركوه دون بغيته أجال السيف على حلقه فقطع أوداجه وآثر الموت على التسليم.
ومع هذا، بقيت بلدة «القرية» ووادي العرض في اليمامة لم يشملهما الصلح الذي شمل العسكر في عقرباء. فلم تكن مطاولة القوم خيرا من المصالحة في حالة كتلك الحال، ولم يكن في طاقة المسلمين أن ينهضوا للمطاولة بعد أن قتل منهم من قتل وجرح من جرح ومضى على أكثرهم عدة شهور بين مشقة السفر ومشقة الهول والبلاء، ولم يكن إرجاء التسليم مأمون المغبة إذا استثيرت نخوة الحنفيين وفيهم من يعاند في الخصومة ذلك العناد، ولقد يكون المستسلمون منهم أسرع إلى النكسة يوم يشهدون بأعينهم سبي النساء «غير حظيات» وقتل القادرين على الحرب من فتية وكهول.
فدواعي خالد إلى الصلح أظهر وأرجح من أن يعتسف معها داع آخر غير معقول ولا مستساغ، وإن الداعي الذي لا يعقل ولا يستساغ هنا لهو التعليل بزواجه من فتاة اليمامة، وأيسر شيء لديه أن يسبيها بعد قتل ذويها، ثم يكون ذلك أدنى إلى رضا الخليفة وتحقيق ما أمر به، قبل أن يطلع على الموقف في اليمامة من جملة نواحيه.
وبعد، فليحسب زواج خالد كله في أي سجل يشاء أن يحسبه الحاسبون، ففي سجل المفاخر الإسلامية شيء يحسب له بعد حرب اليمامة لن يطول فيه خلاف ... فتلك أول حرب ظهر فيها للمسلمين مصداق قول النبي - عليه السلام - إنه سيف من سيوف الله، كان الخطر على الدين الجديد من العرب أنفسهم ومن أمم «الأعاجم» التي تحيط بالبلاد العربية .
وقد رأينا نصيب خالد من وقاية الإسلام في أرضه، وهو أوفى نصيب ... وسنرى نصيبه من مراس الخطر الآخر وما هو بأكبر الخطرين، ولكن نصيب خالد في مراسه كان أوفى النصيبين.
الفصل السابع
الفتوح
في سبع سنين قصار فتح العرب كل ما اقتحموه من بلاد الفرس والروم ...
فتقوضت في الشرق دولة الأكاسرة، وتداعت في الشمال والغرب دولة القياصرة، وزال سلطانها من الشام وفلسطين ومصر وإفريقية الشمالية، وشغلت بنفسها زمانا عن الفاتحين وما فتحوه.
عجيبة من أعظم عجائب التاريخ ...
لا يبرح المؤرخون حتى أيامنا هذه يأتون في تعليلها كل يوم بعلل جديدة، ويفيضون في شرح السوابق واللواحق على النحو الذي يفسر العجب بالمألوف، ويرد الدهشة الجامحة إلى قرار البحث والتدليل.
وهو جهد لا نعرض له في هذا الكتاب، ولا يلزمنا هنا أن نستقصيه ونحاول البت فيه.
إنما يعنينا منه شيء واحد هو تقدير عمل خالد، وتقدير الكفاية التي تضطلع بذلك العمل، وليس تقدير ذلك بعسير ولو بقي التاريخ متشعب اللسان في استقصاء علل الهزائم التي نزلت بالفرس والروم.
فالأسباب التي قضت على الفرس والروم بالهزيمة - كائنة ما كانت - ليست هي الأسباب التي قضت للعرب بقيام دولة وانتشار عقيدة؛ لأن استحقاق أناس للزوال لا ينشئ لغيرهم حق الظهور والبقاء.
كذلك لم يكن انتصار العرب على الفرس والروم لأنهم عرب وكفى، ولم تكن المسألة في لبابها كفاحا بين الأجناس والعناصر بما لها من المزايا وما فيها من العيوب.
فقد كان في أرض الدولتين عرب كثيرون يدينون لهما بالطاعة وينظرون إليهما نظرة الإكبار والمهابة، وكان القادرون منهم على القتال أوفر من مقاتلة المسلمين عددا وأمضى سلاحا وأقرب إلى ساحات العراق والشام من أولئك النازحين إليها من جنوب الجزيرة العربية.
وقد كان هناك عرب كثيرون انهزموا أمام المسلمين وهم كذلك أوفر في العدد والسلاح وأغنى بالخيل والإبل والأموال.
فهي نصرة عقيدة لا مراء ...
وينبغي أن يذكر المؤرخون هذه المسألة من جانبيها ولا يقصروا النظر فيها إلى جانب واحد ...
فاستحقاق النظم القائمة للضياع هو في وقت واحد سبب ضياعها، وهو حجةالعقيدة التي تخلفها وتنتصر عليها في ساحة النزاع.
إذ كان أدعى الدواعي لظهور عقيدة جديدة أن النظم القائمة قبلها لا تتماسك ولا تصلح لحماية ذمارها.
فإذا قيل: إن العقيدة الجديدة قد انتصرت لتداعي النظم التي اصطدمت بها فليس هذا تعليلا وكفى، ولكنه كذلك شفاعة وحجة للظهور، ودليل على أنها حق صالح كأصلح الحقوق الكونية، وأنها علاج عالمي مطلوب جاء في الأوان.
لكن القول بانتصار العقيدة هنا لا يغني عن كل قول ...
أفكل مناضل متذرع بالعقيدة صالح في تلك الآونة للانتصار؟
ينبغي أن يكون الأمر كذلك لو كان تعليل النصر بالعقيدة مغنيا عن كل تعليل ...
ولكن الواقع أن الذين انتصروا بالعقيدة كانوا رجالا أولي خبرة وقدرة يؤمنون بها ويعرفون كيف يتغلبون بها على أعدائها.
وقد أفلح أناس وأخفق آخرون.
فانهزم عكرمة بن أبي جهل وشرحبيل بن حسنة حيث انتصر خالد في اليمامة ...
وخرج خالد وعياض بن غنم لفتح العراق من طرفيه في وقت واحد، فسار خالد من نصر إلى نصر، ومن توفيق إلى توفيق ... ولبث عياض يتردد ويقدم خطوة ثم يحجم أخرى حتى أدركه خالد بالمعونة في دومة الجندل ...
وسبق خالد بن سعيد خالد بن الوليد إلى الشام، فغرر به الروم حتى استدرجوه إلى مرج الصفر، فأوغل وراءهم ولم ينتظر حتى تدركه أمداد الخليفة التي أرسلها إليه تباعا بقيادة عكرمة بن أبي جهل والوليد بن عقبة وذي الكلاع الحميري، فأحدقت به جحافل الروم وأوشكت أن تلتف به من ورائه، ولولا يقظة الخليفة وتلاحق أمداده في أوقاتها لقضوا عليه ...
فلا انحلال الدولتين الفارسية والرومانية بمغن عن الاعتراف للعقيدة المنشئة بحقها في الغلب وحاجة العالم إليها في تلك الآونة ...
ولا العقيدة المنشئة بمغنية عن فضل رجالها وحماتها، وكفاية سواسها وقادتها ...
فهي عقيدة منشئة يذود عنها حماة قادرون، وكان خالد بن الوليد في طليعة هؤلاء الحماة. •••
سبقه اسمه إلى أطراف الدولتين، فحارب أعداءه بهيبته قبل أن يحاربهم بسيفه، وكانت هذه أول مزية لاختياره، وأول فضل يحسب له في ميزانه ويضاف إلى قيادته، ويعمل عمله في نفوس أعدائه كما يعمل عمله في نفوس أتباعه ...
قال صاحب دومة الجندل لقومه حين سمع بمسيره إليه: «أنا أعلم الناس بخالد، لا أحد أيمن طائرا منه، ولا أصمد في حرب، ولا يرى وجه خالد قوم أبدا - قلوا أو كثروا - إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القوم ...»
وكان الرجل من العرب يعيش في الشام ويهجر موطنه الأول ولكنه يسمع باسم خالد، ويتلقى أنباءه من وراء المهامه والدروب، فما هو إلا أن ينضوي إليه حتى يوقن بيمن طائره ويسرع إلى طاعة أمره، عليما بأنه لا يأمر الأمر إلا وهو قادر على إنجازه، كما قال الشاعر الفارسي عمرو بن العمرد:
إذا قال سيف الله كروا عليهم
كررت بقلب رابط الجأش صارم
ويتناقل الرواة قصة لقائد من قادة الروم لا تقل فيها دلالة الخيال عن دلالة الحقيقة، إن كانت القصة من توليد الخيال:
قيل إن قائدا من قادة الروم اسمه جورج برز له في أكبر وقائع الشام وسأله: أحق أن الله أنزل على نبيكم سيفا من السماء، فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟
قال خالد: لا.
قال: فبم سميت سيف الله؟
قال: تابعناه ... فقال: «أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين»، ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله، فأنا من أشد المسلمين على المشركين.
وكل هذا شبيه بأن يكون ...
فإن لم يكن نبأ خالد قد وصل إلى كل عدو من أعدائه، فالذي لا ريب فيه أن أتباعه كانوا على علم بنبئه، فكانوا على ثقة بسداد رأيه ومضاء عزمه، وكانوا يطمئنون إليه فيعلمون معه عمل المطمئن إلى نجاح سعيه، وهذا هو فضل القيادة الصالحة في نفوس الأتباع.
خرج خالد وزملاؤه للقاء الفرس والروم بعد وفاة النبي - عليه السلام - بسنة واحدة، وبعد حروب طالت في الجزيرة العربية عدة سنين ...
فلو كانت الفتن وموت الزعماء قاضية على كل أمة كيفما كان السبب وكانت البيئة لكان مصاب العرب كمصاب الفرس والروم في تلك الأعوام: فتن وفتن ... ونبي مات أو قيصر شاخ ... فهؤلاء وهؤلاء في العلة سواء ...
لكن حركة العرب حركة إنشاء ونماء ...
وحركة الروم والفرس حركة اختلال وتفويض ...
وجسم الفتى اليافع مضطرب لا يستقر على حال ...
وكذلك جسم الهرم الذاهب، ولكن شتان اضطراب واضطراب ... •••
كانت علل الفناء قد اصطلحت على بنية الدولة الفارسية يوم قصد خالد إلى تخومها من ناحية السواد.
وكانت علل مثلها - وإن كانت أخف منها - قد اصطلحت على بنية الدولة الرومانية الشرقية، يوم قصدها زملاؤه القواد من شتى نواحيها قبل الشام والبلقاء ... وهذه خلاصة وجيزة عن الحالة يومئذ في الدولتين؛ يقول شراح الحضارات إن الحضارة تبتدئ بمعنى روحي قليل المظهر، ثم تنتهي إلى مظهر ضخم يتراخى به الزمن حتى لا تبقى فيه بقية من المعاني الروحية ...
وهذه هي الحالة التي كانت عليها دولتا الفرس والروم عند اصطدامهما بالدعوة الإسلامية في نهضتها الأولى.
ففي بلاد الفرس، خفت صوت الدين ومضى على ظهور «زرادشت» مصلحهم الديني الكبير زهاء أربعة عشر قرنا، فرث الصالح من مذهبه وازداد الطالح سوءا على سوء.
وخلف في بيت الملك أمراء ضعفاء بعد آبائهم الأقوياء فشغلوا بالنزاع بينهم وأسقطوا هيبتهم في بلادهم وغير بلادهم ونهكوا قوة الدولة في فتن وبيلة وخيمة وترف أوبل وأوخم، وما برحوا في طغيانهم وتهافتهم حتى ولي الملك أردشير فرأب صدعه وأوشك أن يعيده إلى سابق مجده وتركه في القرن الثالث للميلاد وهو موحد بعض التوحيد بالقياس إلى ما كان عليه قبل ذلك من التفرق بين العشائر والرؤساء.
ثم نكس النكسة الأخيرة وشاع فيه الفساد علوا وسفلا قبيل ظهور الدعوة الإسلامية، وكان الملك المعاصر للنبي - عليه السلام - كسرى أبرويز، فثار به ابنه شيرويه فقتله ونكل بذوي قرباه، وأعقب طفلا صغيرا فلم يلبث أن قتل وتولى بعده قائد الجيش شهر يزار، فنفس عليه القواد والعظماء منزلته المغصوبة فقتلوه وولوا عليهم بوران بنت كسرى أبرويز، فلم تتم في الملك سنة وبضعة أشهر حتى ماتت وخلفها فتى من بني عمومتها الأبعدين، ثم قتل وخلفته بنت أخرى لكسرى أبرويز فقتلت، وقتل من بعدها، إلى أن تولى الأمر يزدجرد بن شهريار والدولة تترنح من فرط الإعياء.
ومنيت في أيامها الأخيرة بضربة قوية في حروبها الخارجية: وهي غلبة الروم عليها وانتزاع مصر والشام منها، ورد حدودها إلى دجلة والفرات بعد أن طغت على حدود آسيا الصغرى، وقبل هذا منيت بضربة دون هذه الضربة في القوة والضخامة، ولكنها أشد منها أثرا فيما نحن بصدده من أحوال الدعوة الإسلامية. وتلك هي ضربة الهزيمة ب «ذي قار» التي تقدم وصفها في أول هذا الكتاب ... فإن هذه الهزيمة أطمعت فيها العرب بعد مخافة وهيبة، ولا سيما العرب المقيمين بجوار ذي قار وأرباض السواد، ومنهم جند خالد وزملاؤه الذين تقدموا لمنازلة الفرس في العراق.
وساءت من جراء ذلك كله شئون الأمة في الديار الفارسية، فتهالك العلية على المظاهر وانغمسوا في الترف واستكثروا من النفائس والأموال، وشغلوا عن سواد الأمة؛ فشاع بينهم الفقر والضنك والتذمر وبغض الحكام، ولم يعلموا فيم هم مسوقون وعلى أي شيء يقاتلون ويتفانون، وهي حال تؤذن بالتصدع والانهيار لأول صدمة تهز الأركان والجدران.
ومن أعجب العجب أن يفطن رجل كالمغيرة بن شعبة لدلالة هذه الحال، وهي معدودة في عصرنا من دروس علوم الاجتماع والتاريخ التي لا يصل إليها الباحث إلا بعد مقارنة واطلاع واسع مستفيض، ولكنه العجب الذي يفسر لنا ما هو أعجب منه، وهو وفرة نصيب العرب يومئذ من أقطاب الرجال ذوي الحنكة والنظر البعيد، وأنهم قد ظفروا؛ لأنهم كانوا على أهبة في هذا الباب حرمتها كلتا الدولتين، على كثرة من بهما من الزعماء أصحاب المظاهر والشارات.
دخل المغيرة بن شعبة على رستم بطل الفرس المشهور في التواريخ والأساطير فجلس معه على سريره، فاستكبر أعوانه هذه الجرأة من ذلك البدوي «المغرور» واجتذبوه من مكانه على السرير في عنف شديد، فما اهتز المغيرة ولا استكان ولا زاد على أن قال: لقد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى أسفه منكم، إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضا، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى - أي نتساوى - فكان أحسن من الذي صنعتموه معي أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، إن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحد. وإني لم آتكم ولكن دعوتموني ... اليوم علمت أنكم مغلوبون، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول ...
كلمات من ذهب ...
لو كان فيمن سمعها من الفرس من يضارع المغيرة لقال في جوابه: «واليوم علمنا أنكم غالبون، وأن أحق الملك أن تقوم له قائمة لهو الملك الذي قوامه من هذه السيرة وهذه العقول» ...
على أن الأمم لا تقفر من الأحلام كل الإقفار في أظلم ظلمات الجهالة والإدبار، فقد وزن «يزدجرد» شأن العرب والفرس بالميزان الصحيح؛ حين قال لرستم: «إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفى على جبل يأوي إليه الطير بالليل، فتبيت في سفحه في أوكارها، فلما أصبحت تجلت الطير فأبصرته يرقبها، فإن شذ منها شيء اختطفه، فلو نهضت نهضة واحدة ردته، وأشد شيء يكون في ذلك أن تنجو كلها إلا واحدا، وإن اختلفت لم تنهض فرقة إلا هلكت، فهذا مثلهم ومثل الأعاجم.»
وصف صادق من جملة أطرافه ...
وعلامة من علامات الانحلال ألا ينفع الوصف الصادق ولا يهدي العارفين به إلى رأي متفق عليه، كما يعرف المرض ولا ينتفع بعرفانه في العلاج إذا شارف الجسم الفناء؛ ولهذا اتفق يزدجرد ورستم على الصفة ولم يتفقا على العمل النافع مع العرب، فافترقا مختلفين.
وكما بقيت في أهل فارس يومذاك مسكة من حلول بقيت لهم كذلك مسكة من مروءة الفرسان، أو على الأصح مسكة من المراسم والمأثورات الحربية، وهم أولع أمة بالمراسم والمأثورات كافة ...
وهذه المسكة شرف للقادر ولكنها بلاء على العاجز المتخاذل، كأنها الوثبة التي تعجل بالهلاك إن وثبها المريض الهزيل، وإنها في الأقوياء لمعوان على المجد والطموح.
فربما أقدموا على القتال وهم يحسبون أنهم مقدمون على مباراة في حلقة صراع، ينظرون عدوهم حتى يصل إليهم كما ينظر المصارع نده حتى يأخذ بعضديه في أمان.
ففي وقعة الجسر أقبل بهمن جاذويه ومعه راية الفرس الكبرى من جلود النمور طولها عشر أذرع وعرضها ثمان، وبين يديه جيش يربو على جيش المسلمين مرات، فأرسل إلى أبي عبيد قائد المسلمين يقول له: إما أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإما أن تخلوا بيننا وبينه، فتعجل أبو عبيد وعبر النهر على جسر نصبوه، والفرس ينتظرون.
مثل هذه المراسم جهل بحقيقة الحال، وحقيقته أنه صراع حياة وموت بين أمتين، وليس بحلبة سباق أو حلقة رهان بين لاعبين في ملهاة. •••
أما دولة الرومان الشرقية، فقد كانت في حال لا تفضل حال جارتها وعدوتها في محنة العقيدة ومحنة النزاع على الملك والولاية.
ضرب المثل بالجدل البيزنطي في التاريخ القديم والحديث من جراء الخلاف على المذاهب الدينية في الدولة الرومانية الشرقية، وكان معظم أبناء الولايات من النساطرة واليعاقبة يخالفون مذهب الدولة الرسمي ويمقتون رجاله ويرمونهم بالهرطقة
1
والوثنية، وكان القائلون منهم بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح أقرب إلى الإسلام منهم إلى المسيحية ...
وابتذل عرش الملك بالقتل والاغتصاب؛ فضعف الولاء له في نفوس العلية وقواد الجيوش، وقد استقر الأمر زمنا للقيصر هرقل الذي حضر عهد النبي - عليه السلام - ولكنه شقي بالفتن في أخريات عهده وركبته الوساوس في شيخوخته، ولا سيما بعد بنائه ببنت أخته، فاعتقد أنه مغضوب عليه مستحق لعقاب السماء.
ومن كان من الرعية ذا دين غير المسيحية فهو ساخط ناقم كاليهود والوثنيين؛ لأن رؤساء الكنيسة والدولة اتهموهم غير مرة بالتواطؤ على فتح البلاد مع المغيرين عليها من الفرس والبرابرة، فأثخنوا فيهم قتلا وتشريدا حتى قيل إنهم كانوا يفتكون في المذبحة الواحدة بعشرات الألوف من الرجال والنساء والأطفال.
وعاشت في ظل الدولة الرومانية قبائل غسان وجذاع وكلب وتنوخ وغيرها من قبائل العرب، فكانت تعينها وتستعين بها على منافساتها من قبائل المناذرة في الحيرة ... ولكن غلبة الفرس تارة وغلبة الروم تارة أخرى على تلك البقاع ضيع الثقة بالدولتين، وهيأ نفوس العرب لقبول دعوة جديدة ولا سيما الدعوة التي تأتيهم من أبناء جنسهم في الجزيرة العربية وبها اعتزازهم على العجم كافة من فرس وروم، واتفق في تلك الفترة انقطاع الهبات التي كان رؤساء العشائر يتلقونها من قياصرة الدولة وولاتها فبرموا بها وودوا لو انقلبوا عليها ساعة يأمنون كيدها ويوثقون الصلة بينهم وبين خصومها.
ويؤخذ من رسالة فجيتيوس
Végétius
في علم الحرب أن نظام الجيش الروماني في الغرب والشرق، كان قد تعاوره الخلل قبل ظهور الدعوة المحمدية بأكثر من قرنين، ففي هذه الرسالة يقول فجيتيوس الذي يعدونه إمام أساتذة الحرب بين الغربيين: إن «اللجيون» قد وهن واضمحل ويذكر من أسباب وهنه واضمحلاله أن مناصبه الكبرى أصبحت تمنح للمحاباة والصنيعة بعد أن كانت وقفا على الكفاية والخدمة الطويلة، وإن عامة جنوده يهربون منه ويؤثرون الخدمة في الفرق المتطوعة؛ لأنهم يستثقلون تمريناته وأسلحته ويستثقلون جزاءه ويضيقون ذراعا بوطأة نظامه.
وقد أتيحت للرعية في الشام والبلقاء فرصة حسنة للمقارنة بين حكم العرب وحكم الرومان، قبل الوقائع الفاصلة التي دارت فيها الدائرة على الجيوش الرومانية. فقد كان رجال الجيش الروماني يهبطون المدينة فينهبون بيوتها وغلاتها ويستبيحون أعراضها ويهتكون حرماتها ويسكرون ويعربدون فلا يأمنهم أحد مطموع في ماله أو غير مطموع منه في شيء على الإطلاق، وإنما هي العربدة والضراوة والاستخفاف، ثم جاءهم قوم لا يعتدون على عرض ولا يقربون الخمر ولا يعفون عمن يقربها منهم ولو كان من عليتهم، ويقيمون في المدينة ثم يرحلون عنها فيردون الجزية إلى أهلها؛ لأنهم إنما أخذوها لحمايتهم وحمايتها، فكانت المقابلة بين الحكمين مدعاة إلى التراخي في الدفاع عن الحكم القديم وتمني الغلبة للحكم الجديد، وقد تتجاوز ذلك إلى المساعدة الظاهرة كما حدث من بعض العرب المسيحيين والوثنيين على السواء. •••
بل ربما تجاوزت كل هذا إلى إزعاج ثقة القادة بأنفسهم عند المقابلة بينهم وبين قادة خصومهم ... فمما يروى في هذا المعنى وهو كثير أن أخا القيصر وقائده سأل رجلا من قضاعة عن شأن المسلمين بعد ما أقام بينهم أياما، فقال له: «هم رهبان بالليل فرسان بالنهار، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجموه إقامة للحد، فقال القائد: لئن كنت صادقا لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها.»
ولما بدأت المعارك بين العرب والدولتين كان العرب ربما أخطأوا فلم يضربوا ضربتهم في موضعها فيتسع لهم الوقت لإصلاح الخطأ والرجوع إلى الخليفة لطلب النجدة والمشورة؛ لأن أعداءهم مشغولون أبدا بنزاع أو فتنة أو ريبة. أما الروم والفرس فلم يكن لهم متسع لإصلاح خطأ يخطئونه وكثيرا ما كانوا يخطئون، فبدأت المعارك بين الفريقين وعند أحدهما كل مظاهر الأسباب التي تدعو إلى النصر، وعند الآخر كل حقائق الأسباب التي تدعو إليه.
وقد اتفقت كلمة الصحابة على حرب فارس والروم، وسيف الله بوادي الوبر في اليمامة لم يطل استقراره في غمده بعد وقعة عقرباء.
وهناك حلقات من الحوادث تسوغ لنا أن نعتبر حرب فارس الثانية امتدادا للوقعة الأولى بذي قار، أو استئنافا لتلك الوقعة بعد فترة لا تحسب طويلة في تواريخ النزاع بين الأمم، وهي نيف وعشرون سنة، فالقبائل التي ارتدت بالبحرين وقبائل تغلب التي انحدرت مع سجاح من الجزيرة كانت كلها من أتباع الدولة الفارسية على صورة من صور التبعية في ذلك الزمان، وكانت تعيش كلها في ظل تلك الدولة من أيام المناذرة إلى زوال ملكهم بعد وقعة ذي قار.
والبطلان اللذان تعودا ضرب الفرس والإغارة على دهاقينهم في تلك الأصقاع كانا من بني بكر الذين نهضوا بالعبء الأكبر في وقعة ذي قار، وما برح العداء بينهم وبين الفرس والقبائل التي تواليهم على أشد ما يكون: وهما المثنى بن حارثة الشيباني وسويد ابن قطبة العجلي، وكلاهما على ذكر من هزيمة الفرس وعلى خبرة بقتالهم في أطراف العراق، وقد صحب المثنى النهر في غاراته حتى بلغ القطيف وهجر ولم يقف له أحد في طريقه، فهذا مع عجز الفرس عن تأديب رعاياهم في اليمن لدخولهم في الإسلام قضيا على تردد الخليفة في أمر البعثة الفارسية، فصحت عزيمته وعزيمة أصحابه على تجريدها بعد الفراغ من حروب الردة بأسابيع معدودات. •••
وقد علمنا من دأب الخليفة الصديق أنه كان لا يبرم أمرا إلا أحكم تدبيره مرحلة مرحلة من طريقه إلى منتهاه ...
وهكذا كان شأنه في البعثة الفارسية: فإنه ندب لها قائدين هما خالد بن الوليد، وعياض بن غنم، وأمر خالدا أن يتجه إلى الأبلة ثغر الهند كما سماها، وأمر عياضا أن يتجه إلى المصيخ بشمال العراق، فأيهما بلغ الحيرة قبل الآخر كان هو قائد الجيشين معا ووجبت طاعته على زميله، وقال لهما: «إذا اجتمعتما بالحيرة وقد فضضتما مسالح فارس أمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليكن أحدكما ردءا للمسلمين ولصاحبه وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم.»
خطة محكمة يبلغ بها الخليفة مقاصد شتى في وقت واحد ... ففيها ذكاء المنافسة بين القائدين، وفيها تشتيت جهود الفرس في الدفاع عن بلادهم، وفيها تدبير النجاة سلفا لمن يحتاج إليها من الجيشين، وفيها تيسير أمر الماء والكلأ في الطريق للجيشين معا؛ لأن أمواه الطريق ومراعيه تضيق بالجيشين المجتمعين إذا سارا في طريق واحد.
وكان الصديق وإخوانه يعلمون أن المسألة في هذه الحرب مسألة يقين وعزيمة وليست مسألة كثرة وهيئة ...
فحرص لهذا على أن يجنب الجيوش الإسلامية مخاوف المرتدين ونكساتهم، وأوصى القائدين بألا يقبلا أحدا منهم، وألا يكرها أحدا من غير المرتدين على المسير في جيشهما ما لم يقبل على الحرب برضا منه ورغبة، ولما نظر خالد إلى من حوله يرفض كثيرهم ويبقى قليلهم كتب إلى الخليفة يستمده، فأمده بفارس واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي ... فعجب أصحابه وقالوا له: أتمده برجل واحد؟ قال: نعم؟ لا يهزم جيش فيهم مثل هذا؟
ولم تمض أيام حتى ظهر للمسلمين أنه مدد كاف وأي كفاية، فإن ثقة الناس بجيش يكون القعقاع فيه ويتولى قيادته خالد بن الوليد قد جاءت بالمتطوعين للقتال من كل صوب وحدب. فبلغ جيش خالد يوم شارف ميدان القتال قرابة عشرة آلاف عدا جيش المثنى بن حارثة وهو يبلغ ثمانية آلاف، ولم يتقدم المسلمون خطوة في ميدان القتال حتى كانت للقعقاع وقفة لعلها أنقذت الجيش كله وأنقذت البعثة كلها من بدايتها، ولم يكن أحد ليعلم ماذا تكون العاقبة لولا تلك الوقفة التي تعلق بها الكثير من مصير جيش الفرس ومصير جيش المسلمين.
ففي الوقعة الأولى، دعا القائد الفارسي - هرمز - خالدا للمبارزة قبل التحام الجيشين، وأضمر نية الغدر به حين يخرج منفردا بين الصفين، فوكل به شرذمة من فرسانه ينقضون عليه وهو مشغول بمبارزته فيراع الجيش العربي بمقتل قائده كما سبق إلى وهمه، ويطبق الجيش الفارسي بعدده الكبير على الجيش العربي بعدده القليل، فتكون الغلبة لأكبر الجيشين وأكمل العدتين.
وأوشكت هذه المكيدة أن تتم على النحو الذي دبره هرمز لولا أنه أخطأ الحساب في اغتراره بقوته وجهله بصولة خالد في مبارزته، فظن أن الجولة بينهما تطول قبل أن يخرج فرسانه للغدر بخالد، ولكنه صرع في جولة واحدة وفوجئ أصحابه بهذه السرعة، فاقتربوا من خالد على عجل وهو مشغول بالإجهاز على قائدهم، وإذا بالقعقاع أسرع إليهم من لمح البصر ومن ورائه جيش المسلمين بجملته يضرب في قطيع مذعور مأخوذ بالمفاجأة ومهابة هذه الصولة العاجلة، فكانت وقعة اليوم وقعة رجلين في جولة واحدة، تلتها الجولات اللاحقات التي ترسمت خطاها وسارت على هداها.
سار خالد إلى العراق في أوائل السنة الثانية عشرة للهجرة النبوية، وأتم في سنة واحدة مما أعيى الرومان أن يتموه في أجيال.
وقد تكتب في شرح وقعاته بالعراق مجلدات طوال يستغرق بحثها ومعارضة رواياتها مئات الصفحات، ولكننا لا نتوسع في ذلك الشرح هنا؛ لأن أعمال خالد تعنينا في هذا الكتاب لمقصد واحد، وهو الرجوع بها إلى مصدرها من نفسه وعقله ومقومات شخصه.
وفي هذا حسبنا أن نقول على الإجمال قبل الإشارة إلى وقعاته إنه لقي الفرس وأولياءهم في خمسة عشرة وقعة لم يهزم ولم يخطئ ولم يخفق في واحدة منها، وأن قوادا من المسلمين أخطأوا في حروب الردة وحروب الفرس والروم كما حدث من عكرمة وشرحبيل وأبي عبيد وخالد بن سعيد، ولكن خالدا لم يخطئ قط عن خدعة أو عجلة أو قلة أهبة، وكان يسير بجيشه أبدا على تعبئة كاملة؛ ليقاتل عدوه حيث لقيه مفاجئا أو غير مفاجئ، وكان أبدا كما وصفه عمر بن العاص: «في أناة القطاة ووثبة الأسد» فلا يهمل الحيطة ولا يجعل التعويل كله على الشجاعة دون الحزم والحيلة، ولا يعز عليه أن يتحامى لقاء عدوه في بعض الساحات لينتقل به إلى المكان الذي هو أصلح لحركاته وأعون له عليه، ومن علمه فنون القتال أنه كان يحارب بثمانية عشر ألفا وكأنه كان يحارب بخمسة أضعاف هؤلاء. فإذا أرسل أربعة آلاف أو ثلاثة آلاف إلى مكان يغنون فيه، فذاك أجدى من تسيير الجيش كله أو تسيير عدد منه يربو على الحاجة الضرورية ... فإن طرأ في خلال مسيره ما ليس في الحسبان، فمعوله في هذه الحالة على سرعة خاطفة كسرعة الباشق وهو ينقض على فريسته، فلا تشعر الفرقة التي أشخصها إلى مكانها بالحاجة إليه حتى يكون معها كأنها لم تفارقه ولم يفارقها.
فهي شجاعة ويقظة وخبرة وسرعة ومعرفة بما هو لازم في وقت لزومه، ولم تخذله خصلة من هذه الخصال قط في ساحات فارس ولا في ساحات الشام مع اختلاف الميادين واختلاف الأحوال واختلاف الأعداء.
وقد كانت تعبئة خالد في المسير تشبه التعبئة التي جرى عليها العرف في أيامه، وهي قسمة الجيش إلى ميمنة وميسرة وقلب وطليعة تسبقه وردء يلحق به؛ ليحمي ظهره أو يلبث في موضع من المواضع كمينا ينزل إلى الساحة على غير انتظار؛ لتقوى به سواعد أصحابه وتنخذل به عزائم أعدائه ... ولكنه كان عند القتال يفتن باتخاذ طريقة الهجوم أو الدفاع كما توحي بها ضرورة الساعة، فيقاتل بالصفوف كما يقاتل بالكراديس، ويواجه خصمه أو يدور عليه، ويتراجع أمامه أو يمعن في الهجوم على كبة جمعه، ويحصره أو يخلي له سبيل الهرب، حسبما تدور به المعركة في أثنائها أو توحي به طوالعها قبل ابتدائها.
فلما عقدت له القيادة على البعثة الفارسية أرسل جيشه على فرق ثلاث من طرائق مختلفة، فقدم المثنى على رأس فرقة، ثم ألحق به عدي بن حاتم صاحبه في حرب بني أسد، ثم لحق بهم على رأس جيشه وواعدهم موضعا إلى الجنوب الغربي من البصرة الآن، ولعله توخى تسهيل السقي والمرعى بهذا التقسيم، ثم اختبار الطريق بقيادة الرجل الذي كانت له سابقة الدراية بهذه الدروب.
وكتب إلى هرمز قائد الفرس يخيره بين الإسلام والجزية أو الحرب ويقول له في ختام كتابه الوجيز: «جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» ثم عدل إلى كاظمة بعد أن كان موعده الأول «الحفير»؛ لأنها كانت على ما يظهر أوفق لتعبئة جيشه.
وهناك التقى بجيوش الفرس - وعلى رأسهم هرمز - فوقعت بينهم الوقعة التي سبقت الإشارة إليها وتعرف باسم ذات السلاسل؛ لأن الفرس كانوا يوثقون أنفسهم فيها بالسلاسل جماعات جماعات ليثبتوا في القتال ولا يتأتى لهم الفرار إن أرادوه ولئن صح هذا لقد كانت مخاوف الشك فيه أظهر من صدق العزيمة والطمأنينة إلى النية القوية.
ولما تبدد جيش هرمز تعقبه المثنى بن حارثة وعبر الفرات؛ ليأخذه متفرقا قبل أن تتجمع فلوله حيث تأمن احتثاث الملاحقة وراءها، ولكن الفرس علموا بعد مقتل هرمز وتفرق جيشه أنهم مهددون في «المدائن» عاصمة ملكهم فحشدوا لملاقاة المسلمين جيشا عظيما بقيادة قارن بن قريانس يعاونه أميران من بيت أردشير. فأدرك فلول هرمز في «المذار» وضمهم إليه، وكان المثنى قد علم بخروج هذا الجيش العظيم واجتماع الفلول المتفرقة إليه فكتب إلى خالد يستأمره ويستمده، فكان خالد هو الجواب ...
ووصل خالد إلى المذار وهو كامل التعبئة، فتصدى قارن لمبارزته على عادتهم قبل بداية القتال، فنهض إليه خالد ومعقل بن الأعشى يستبقان وأراد معقل أن يحمي خالدا من مثل مكيدة هرمز فيتلقى الضربة دونه أو يسبقه إلى قتل قارن، وبرز عدي بن حاتم وعاصم بن عمر لمنازلة الأميرين، فظفروا بهم جميعا ثم اشتبك الفريقان في ملحمة حاربوا فيها، كما قال المؤرخون حرب حنق وضغينة، وبلغ بغضهم بعدد القتلى من الفرس ثلاثين ألفا، ولولا النهر ولياذ الفرس بالسفن لكانت المقتلة أعظم من ذلك ولم يكد يفلت من الموت أحد. •••
ورانت الحيرة بعد وقعة المذار على عقول القادة من الفرس، فخيل إليهم أن في هؤلاء العرب سرا لا يدركونه، وأحبوا أن يحاربوا آفتهم بآفة من جنسها، فاستعانوا بأوليائهم من أبناء القبائل العربية فيما بين النهرين، واشترك هؤلاء في كثير من الوقائع التي دارت بين الفرس والمسلمين بعد وقعة المذار، وضايقوا المسلمين غير قليل في الوقعتين التاليتين بالولجة وأليس.
وكان خالد كعادته في الحيطة والمبادرة، فاستبقى طائفة من جيشه في البلاد التي فتحها حماية لظهره واستعدادا لمن يجترئ عليها بعد مسيره، وتقدم إلى الولجة على تعبئة كاملة بمن معه جميعا، ثم فصل طائفتين من الجيش في أثناء الطريق؛ ليكمنا على مقربة من الولجة ويلتفا في ساعة الحرج بالجيش الفارسي من ورائه. فطالت المدافعة والمراوغة بين الفريقين قبل أن يظهر الكمينان، وتردد النصر بين الفرس والمسلمين تارة هنا وتارة هناك حتى ظن الفرس أنهم من النصر قاب قوسين أو أدنى، ثم ظهر أحد الكمينين وظهر الكمين الآخر قبل أن يفيق الفرس من دهشة الكمين الأول، فتولاهم إعياء اليأس بعد إعياء المصابرة والمجاهدة، وولوا مدبرين وهم يتخففون من السلاح والعتاد في مهربهم ... فكثر منهم القتلى والأسرى كما كثر نصيب المسلمين من الغنائم والأسلاب.
وجاءت بعد وقعة الولجة وقعة «أليس» وهي أعجب الوقائع في حرب العراق بما اتفق فيها من صنوف الحيلة وصروف المقادير ومعارض النقمة وعواقب الرجاء مع الغالب وعواقب اليأس والقنوط مع المغلوب، ولعلها هي الوقعة الحاسمة في النزاع بين المجوسية والإسلام.
راع الشاهنشاه تلاحق الهزائم على جيوشه، وغاظ العرب الموالين له أن يؤخذوا في حماهم، وأنفوا أن يهانوا ولا يراهم الناس كفاء لتلك القبائل الواغلة عليهم، فتلاقوا في الرقعة الوسطى بين ديارهم جميعا وهي «أليس» وانتظروا هناك جحافل من الفرس وعدوهم أن تربى في العدد والعدة على كل جيش نزلوا به إلى الميدان في المعارك الماضية.
وهنا تتراءى في الموقف أصبع المقادير ...
فإن «بهمن جاذويه» قائد الفرس الذي أمره الشاهنشاه بالمسير إلى «أليس» أناب عنه قائدا آخر يدعى جابان، وشخص هو إلى المدائن ليلقى مولاه ويقلب معه الأمر على وجوهه في مسائل شتى لا تغني فيها المراسلة غناء الحديث والمشاهدة، وليأتي من المدائن بمدد آخر يضاف إلى جيشه الأول وإلى جموع القبائل العربية عند الفرات، وقال لجابان وهو يودعه «كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك، إلا أن يعجلوك.»
وبلغ المدائن فإذا مولاه مريض يجود بنفسه، وليس نظام الوراثة على عرش فارس في ذلك الحين من الوضوح والاستقرار بحيث يطمأن إليه إذا مات الملك والجيش بعيد والمتربصون كثير والشيع في البلاد أكثر من المتربصين ...
فبقي «بهمن» في المدائن، ووصل جابان إلى «أليس» قبل أن يصل إليها خالد فألقى أثقاله وأمر بتهيئة الطعام، ووصل خالد وهم مقبلون على طعامهم لا ينتظرون وصوله، فلبثوا على طعامهم؛ لأنهم أمروا من جهة ألا يعجلوا إلى القتال حتى يوافيهم قائدهم الكبير، ولأنهم من جهة أخرى لم يحسبوا أن خالدا ليس بالذي يلقي أثقاله وهو على تعبئة كاملة مستعد للنزال في كل لحظة؛ ولأنهم على ما يظهر كانوا يواجهون القتال أبدا كأنهم يواجهون ساحات الصوالج والأكر
2
أو ساحات المباراة في «الألعاب الرياضية»: إنما تبدأ فيها المباراة باتفاق الطرفين ...
ولكن خالدا ضرب ضربته الأولى في الجموع العربية، فقتل قائدها وأثخن القتل في صفوفها، وثار الفرس إلى السلاح مكرهين؛ لئلا يمهلوا خالدا حتى يفرغ من الجموع العربية ويتحول إليهم بين لحظة وأخرى.
فثبتت الجموع العربية حين أسعفتها النجدة، وثبت الفرس وطال بهم الثبات لعلمهم أنه صبر ساعات ثم يدركهم قائدهم الكبير، وابتلي المسلمون من هؤلاء وهؤلاء ببلاء لم يعهدوه من القوم قبل ذلك اليوم، فاشتد الأمر بخالد وثاب إلى الله يستلهم العزم للمسلمين وينذر له الضحايا إن منحة أكتاف أعدائه، «فلا يستبقي منهم أحدا يقدر عليه حتى يجري نهرهم بدمائهم» ... وفي هذا النذر بقية من البدوية المخزومية لا تخفى على اللبيب.
وطال صبر الفرس فنفد ...
وتساقط رءوس العرب الموالين لهم فجزعوا ...
ولاحت لخالد لوائح النصر الذي سأله الله، فلم ينس نذره ونادى في المسلمين: «الأسر ... الأسر ... لا تقتلوا إلا من امتنع»؛ لأنه نذر ليجرين النهر بالدماء، فليجر إذن بالدماء.
وأمر بضرب أعناق القوم في النهر وقد حبس ماءه، فلم يجر بالدماء! لأن الدماء تترقرق ولا تسيل ولو قتل أهل الأرض، كما قال له أصحابه ... فأطلق الماء فسال بالدم أحمر قانيا ثلاثة أيام. •••
وحمادى ما يقال في الاعتذار لخالد من هذه النقمة المفردة في تاريخه صدر الإسلام أنها كانت شرعة الحرب في تلك الأيام، وأنه كان يدين بها أناسا صنعوا بالملل الأخرى مثل ما صنع بهم في هذه المعركة، وعاملوا أسرى الحرب ومن لم يحاربوهم قط مثل هذه المعاملة في حروبهم مع العرب والدولة الرومانية، وأن خالدا حسب أن هذه الذبائح قربان إلى الله ... ودماء المشركين أشبه القرابين بميادين الحروب، وهو حسبان يوائم صرامة طبعه ويحيك في صدر رجل الحرب وسليل رجال الحرب منذ أمد بعيد، وأكبر الظن عندنا أنه لو كان قائد الجيش رجلا ممن طالت صحبتهم للنبي - عليه السلام -كأبي عبيدة أو سعد بن أبي وقاص أو عمر بن الخطاب لتوسل إلى الله بغير هذه الوسيلة حين أزم الموقف وجد الجد في معركة «أليس» ... فقد صفح عمر بن الخطاب عن أسرى السواد وظفر المسلمون بألوف الأسرى في معارك العراق والشام ومصر، فسرحوهم وعاملوهم بحكم الأسرى في القرآن الكريم، وقد اختلف فقهاء المسلمين في جواز قتل الأسرى من غير مشركي العرب، فلم يجزه من أجازه منهم إلا لحسم مادة الفساد، إن خيف ألا تحسم بغير هذه الذريعة، وقد كانت مادة الفساد في أعقاب الدولة الساسانية خليقة - ولا نكران - بضربة من أمثال هذه الضربات ... فقد أعيت فيها الحيلة من دعوة وإقناع ومصابرة، وكانت النكبة بدوام هذه الدولة أشد على الفرس أنفسهم من نكبة القتلى في تلك المعركة الشعواء، وهي في غرابة صروفها أدنى أن تحسب من معارك الأقدار، وتلك هي المعارك التي يراد فيها الغالب والمغلوب على الأمر، ولا يريدان فيه.
وقديما علمنا من طوارق الحرب والسلم أن الشر المحض والخير المحض في هذه الدنيا عزيزان أو مستحيلان، فهذه النقمة الخالدية جاءت على غير المألوف في حروب صدر الإسلام، ولكنها عجلت بختام عهد موبوء كان لا بد له من ختام، فخلعت القلوب وصكت الركب وزلزلت سلطان الطغاة في بلاد الفرس بل في بلاد الروم، وكان من جرائها أن الأمصار التي كانت تفزع من حصار خالد لها كانت تلقي بأنفسها في أحضان غيره من قادة المسلمين، كما أسرع أهل دمشق إلى ابن الجراح يلتمسون مصالحته؛ مخافة الفتح عنوة على يد ابن الوليد. •••
كانت هذه الوقائع تتوالى يوما بعد يوم وتتوالى معها البرد
3
إلى المدينة بأخبار النصر وغنائم القتال، فلا يفزع الناس من حديث بريد حتى يتبعه ما وراءه بنصر جديد ... وسبقت ضربات خالد كل آمال الآملين في سرعة الظفر بدولة الأكاسرة، فقال أبو بكر وهو يبلغ الناس أنباء الظفر ليزفوا بشراها إلى الجزيرة العربية: «يا معشر قريش ... عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله
4 ... أعقمت النساء أن يلدن مثل خالد؟»
ثم سلمت الحيرة - بلد النعمان وموئل نابغة بني ذبيان - فكان لتسليمها صدى بين أبناء العروبة لا يعدله صدى الفتح في بلد من البلدان؛ لأنها كانت في عالم الشعر والبلاغة حديثا على كل لسان.
إلا أن الخليفة الذي عرفناه رجلا حصيف الجرأة، جريء الحصافة، لم ينس اليقين مع الحيطة ولم ينس الحيطة مع اليقين ... وأدركه الحذر في هذه المرحلة من مراحل الحرب الفارسية، فجنح إلى الأناة والتريث وأخذ بعنان خالد فلم يأذن له أن ينطلق وراء الحيرة حتى يوافيه زميله عياض بن غنم ويأمن كلاهما من ورائهما غدرات الطريق، وحجة الخليفة في ذلك أظهر من أن تخفى. فمن تجاوز الحيرة أحاط به الفرس من اليمين والروم في الشام من اليسار، ثم إن السواد نفسه إقليم حديث العهد بالإسلام لم ترسخ فيه قدمه ولا يؤمن تركه والتطوح بعده إلى حمى الدولة الفارسية في عواصمها من وراء النهرين، وقد نمى إليه ولا شك أن فلول العرب المهزومين هجروا حوض العراق وأوغلوا في الصحراء إلى دومة الجندل يتجمعون ويتربصون، وفي الشام أراجيف عن تعبئة القيصر لجيوشه لا تغمض عنها العيون قبل أن تستقر الطرق وتتمهد مواطئ الفتوح، فإن لم يخرج عياض بن غنم من معاقل دومة الجندل بين العراق والشام مالكا زمامها وزمام ما حولها، فكل خطر هناك محتمل، وكل عجلة قد تجر إلى وبال.
ولكن الفرس الكريم الذي يحبس في الحلبة يعاني من أمان الحبس ثقلة لا يعانيها من تعجل العواقب ومكافحة الأخطار. فحز في طبع خالد جذب العنان وأقام في انتظار زميله قرابة عام وهو يسميه سنة نساء، ولو كثب لرجل غيره أن يظفر في هذه السنة المستريحة بمثل ما ظفر به لارتضاه لنفسه سجل عمر كامل، لأنه خاض ثماني وقائع فيما يليه من البلاد لم يحسبها وقائع تحصى، وله في كل وقعة منها نصر يعتز به قائد فخور.
وقد عرضت لخالد في هذه السنة وما قبلها عوارض شتى تدخل في الحساب أو تأتي من هنا وثم على غير حسبان. فتصرف فيها جميعا تصرف الرجل الذي خلق للتقلب في أجواء الحرب كما خلق السمك للتقلب في الماء، فلا تفجؤه حالة من حالاتها بما يربكه أو يعيبه.
البدوي لا عهد له بسفينة غير سفينة الصحراء - وهي الجمل - ولكن خالدا غنم السفن الفارسية بعد وقعة «أليس» فأركب جيشه فيها ليكفيه ويكفي مطاياه مشقة السير، فلم تنقله السفن إلا قليلا حتى جف الماء ولصقت بالقاع؛ لأن الفرس تسامعوا بمسيره في النهر فأوصدوا قناطر الحيرة وحبسوا الماء عن مجراه، ولو بدوي غير هذا البدوي فوجئ بهذه الحيلة الحضرية وهذه اللعبة الهندسية لوقع في «حيص بيص» وترك السفن في قاعها ورجع إلى مطاياه ... ولكنه أبى إلا أن يبلغ بالسفن إلى حيث شاء، فانبعث في نفر من أصحابه كالبزاة إلى القناطر وأطلقوا ماءها ولبثوا هناك في حراستها وفي انتظار السفن التي ارتفعت براكبيها كأنهم يشهدون غريبة من غرائب السحرة تعبث بالسفينة بين بر يابس ونهر غزير ...
وحفروا له في الأنبار خندقا، ثم احتموا وراء الخندق بحصن ينظرون إليه من أعلاه، كأنهم يهزأون به ويستعجزونه أن يعبر الخندق وأن يفلح في علاج الحصن إذا وصل إليه، فلم يلبث أمام الخندق كثيرا ولا قليلا بل أمر لتوه بنحر الإبل العجاف وألقى بها في الخندق فسدته ودعا جيشه إلى العبور عليها، فأصبح من في الحصن سجناء في يديه، وتوسلوا إليه أن يرسلهم في سبيلهم مجردين من السلاح والمتاع، وهم يحمدون الله على النجاة من يوم كيوم «أليس»، فأجابهم إلى ما طلبوه.
وعلم أن عقة بن عقة يحشد له في عين التمر حشودا من تغلب وإياد وأصحاب المتنبئة سجاح، ويوهم الفرس أنه ند للعرب؛ لأنه أخبر بهم من غيرهم، فوثب على معقله بالصحراء وهو كدأبه على تعبئة كاملة، وبصر ب «عقة» حين دنا من الموقع فقال لصحبه: اكفونا ما معه فإني حامل عليه بنفسي ... ثم احتضنه وحمله أسيرا وهو لا يتوقع أن يؤخذ من أساليب القتال العربي بهذا الأسلوب العجيب في كل قتال. وقد كان خالد يعمد إليه كلما بدا له أن يوجز في الحركة ويضرب قلب أعدائه بضرب عميدهم المطاع فيهم، فيصيب ما أراد.
وأعطى الدعوة حقها كما أعطى القتال حقه في كل معركة بما تقتضيه وتوحيه إليه ...
فكان إذا لقي العرب سألهم مذكيا فيهم نخوة العروبة: «ويحكم! أأنتم عرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أو عجم، فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟»
وكان يعين الحمية الدينية في جيوشه بما يغري النفوس من نعيم الدنيا ومتاع الحياة، فأباح الأسلاب من سلبها بالغا ما بلغ قدرها، وربما قسم للمقاتل الواحد في بعض الوقائع ألف دينار، فلا يستكثرها عليه ولا ينتزع منه غنيمة وقعت في يديه. وقال لهم يوما بعد وقعة المذار: «ألا ترون إلى الطعام كرفع التراب؟ والله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه.»
وأحكم الصلح كما أحكم الحرب، فكان عهده مع أهل الحيرة نموذجا للعهود من قبيلة، وكان يصالح المستسلمين صلح من يعني كل حرف يخطه بيمينه، فلا يزيد ولا ينقص ... قال في عهد أهل الحيرة «هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد ... نقباء أهل الحيرة ورضي بذلك أهل الحيرة وأمروهم به، عاهدهم على مائة وتسعين ألف درهم تقبل في كل سنة جزاء على أيديهم في الدنيا، رهبانهم وقسسهم إلا من كان منهم على غير ذي يد حبيسا عن الدنيا تاركا لها ... وعلى المنعة، وإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم، وإن غدروا بفعل أو قول فالذمة منهم بريئة ... وكانت كتابة هذا العهد في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة هجرية»، وعلى قدر سطوته الجائحة بمحاربيه ومعانديه كانت رعايته ورفقه بأولئك المظاليم الخالدين من زراع تلك البلاد ... فللمرة الأولى في التاريخ من قبل بابل ونينوى، رأى فلاحو السواد حاكما يحفظ لهم غلاتهم وينصفهم من دهاقينهم - أو مستغليهم - ويستمع شكاية ضعيفهم من قويهم ويشرع بينهم شرعة المساواة والأمان، وبلغ من رفق الحكم الجديد برعاياه - مسلمين وغير مسلمين - أنه تكفل بالعبد إذا تحرر، وبالغني إذا افتقر، وبالعائل إذا انقطع عائلوه، وهذا مثل مما تكفل به الحكم الجديد في كتاب خالد ... قال: «إني دعوتهم إلى الله وإلى رسوله فأبوا أن يجيبوا، فعرضت عليهم الجزية أو الحرب، فقالوا لا حاجة لنا بحربك، ولكن صالحنا على ما صالحت عليه غيرنا من أهل الكتاب في إعطاء الجزية وإني نظرت في عدتهم، فوجدت عدتهم سبعة آلاف رجل، ثم ميزتهم فوجدت من كانت به زمانة ألف رجل، فأخرجتهم من العدة، فصار من وقعت عليه الجزية ستة آلاف فصالحوني على ستين ألفا وشرطت عليهم أن عليهم عهد الله وميثاقه الذي أخذ على أهل التوراة والإنجيل: ألا يخالفوا ولا يعينوا كافرا على مسلم من العرب ولا من العجم، ولا يدلوهم على عورات المسلمين، عليهم بذلك عهد الله وميثاقه، أشد ما أخذه على نبي من عهد أو ميثاق أو ذمة، وإن خالفوا فلا ذمة لهم ولا أمان، وإن هم حفظوا ذلك ورعوه وأدوه إلى المسلمين فلهم ما للمعاهد وعلينا المنع لهم، فإن فتح الله علينا فهم على ذمتهم، لهم بذلك عهد الله وميثاقه أشد ما أخذ على نبي من عهد أو ميثاق، وعليهم مثل ذلك ألا يخالفوا، وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين وعياله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النفقة على عيالهم. وأيما عبد من عبيدهم أسلم أقيم في أسواق المسلمين فبيع بأغلى ما يقدر عليهم في غير وكس ولا تعجيل ودفع ثمنه إلى صاحبه، ولهم كل ما لبسوا من الزي إلا زي الحرب، من غير أن يتشبهوا بالمسلمين في لباسهم، وأيما رجل منهم وجد عليه شيء من زي الحرب سئل عن لبسه ذلك، فإن جاء منه بمخرج وإلا عوقب بقدر ما عليه من زي الحرب، وشرطت عليهم جباية ما صالحتهم عليه حتى يؤدوه إلى بيت مال المسلمين، عما لهم منهم، فإن طلبوا عونا من المسلمين أعينوا به، ومؤونة القواد من بيت مال المسلمين.»
وقد عزلت هذه الرعاية من جانب وتلك السطوة من جانب آخر عزلا فاصلا بين الرعاة والرعية في السواد وفي الديار الفارسية، فنظرت الدهماء إلى الحرب كأنها حرب على الرعاة وحدهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فلا هي تعنيهم ولا هم يخشون من عواقبها العاجلة أو الآجلة، بل هم بهذه العواقب ينعمون وإليها يتشوقون. •••
وكانت وقعة الفراض آخر أعمال خالد الكبار في العراق وأوفاها دلالة على عجز الدولتين معا، دولة الفرس ودولة الرومان الشرقية، عدا ما فيها من الحوادث التي هي أصلح ما تكون للتفرقة بين مغبة العمل الواحد تأتيه الأمة في عهد إقبالها وتأتيه الأمة في عهد إدبارها، فهو ضربة موت من ناحية وهو من الناحية الأخرى كالضربة التي تشحذ عزيمة المضروب وترد التوازن إليه.
الفراض في أعلى العراق بين مسالح الفرس والروم يوشك هؤلاء وهؤلاء فيها أن يتناظروا متقابلين، وقد هبط عليها خالد في وثبة من وثباته، فتألب عليه هنالك عرب البادية وجيش الروم، وكان وشيكا أن يتألب معهم جيش من الفرس لولا ما شغلوا به من أمر العرش ووراثته والمتنازعين عليه، وقال الروم لخالد كما قال الفرس بعد ذلك لأبي عبيد: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، فلم يصنع خالد صنيع أبي عبيد بل قال لهم: اعبروا أنتم إن شئتم، وتركهم حتى يعبروا ليحصرهم بينه وبين النهر فلا يهرب منهم هارب، وأرسل الفرسان والرامحين ليعزلوهم قطيعا قطيعا ويضيقوا عليهم مسالكهم، ثم يحصدوهم حصدا وهم أشبه بالمحكوم عليهم في ساعة التنفيذ منهم بالمقاتلين ...
على أنه لم يثب على الفراض وثبته تلك حتى كان قد «طهر» جوف الصحراء من جموع الأعراب التي تكونت إلى دومة الجندل وعوقت عندها زميله «عياضا» قرابة عام، فلما ترامت أنباء فتوحه إلى عياض كتب إليه يستشيره ويستنجده، فكان هو على عادته أول جواب بعد رجع الخطاب، وكتب إليه يقول:
لبث قليلا تأتك الحلائب
يحملن آسادا عليها القاشب
5
كتائب تتبعها كتائب
وكانت تفصله من دومة الجندل مسيرة أسبوعين فقطعها هو في أقل من عشرة أيام، ووجد حصن الدومة مكتظا بمن فيه وحوله زرافات ضاق بها الحصن فعسكرت بالعراء، فجعل القوم جميعا بينه وبين عياض، وتولى عياض حرب من قبله فهزمهم لما جاش في نفسه من نخوة المنافسة وما جاش في نفوسهم من الوجل والحيرة. وتدافع المنهزمون إلى الحصن يريدون بابه فسبقهم خالد إليه وانتزعه وحال بين النازلين في الحصن ومن حوله، ثم استبى كل من أصابه من رجال ونساء ... ومن هؤلاء السبايا ابنة الجودي بن ربيعة، استباها خالد لنفسه وقيل إنه اشتراها، ثم بنى بها وأقام معها في دومة الجندل أيام مقامه فيها.
وكان أهل الدومة قد عاهدوا المسلمين غير مرة ونكثوا بعهودهم فأمعن القتل فيهم وجعلهم نكالا لغيرهم، ثم قفل إلى العراق وهو مطمئن إلى غزوة الفراض بأعلى الفرات، فغزاها وفرغ منها كما تقدم، وبقيت له في العراق عزمة خالدية أخرى ولكنها من نوع غير هذا النوع، فلم يلبث أن قضاها.
بقي على موسم الحج أسبوعان وهو أول حج حان بعد تلك الغزوات المتلاحقات التي أمده الله فيها بنصره وعونه.
أيفوته قضاء الشكر في هذا الموسم وأداء الفريضة في موعدها؟ ولم؟ ألخوف من الأعداء؟ ألعائق من بعد الشقة ووعورة الطريق؟ ألعذر من الأعذار التي يعتصم بها القاعدون عن الحج برخصة من الفقهاء؟ كل أولئك عوائق لا يستهان بها ولكنها خلقت ليذللها لا لينكص عنها ... ففي خطفة الريح العاصفة خرج من أعلى العراق إلى أقصى الحجاز وأدى الفريضة وعاد إلى معسكره دون أن يعلم أحد من الأعداء ولا من المسلمين إلا أقرب خاصته المقربين، بل دون أن يعلم الخليفة نفسه وقد كان على الحج في ذلك العالم.
ويروق بعض المؤرخين أن يحسب هذه العزمة الخالدية من مغامراته التي تنم على فرط الثقة بنفسه، ولا تنم على شيء غير ذلك، ولكنها في الواقع دلت على ثقته بغيره كما دلت على ثقته بنفسه ... فقد علم أن معه بالجيش من فيه غنى وكفاية إذا جد في غيبته طارق داهم، أو خطب حازم ... وكفى بالمثنى رائده المقدام، وبالقعقاع صاحبه القديم وموضع ثقته الحميم. •••
علم الخليفة بمغامرته هذه فجاءه منه ملام وإعجاب وتكليف، ووصاة؛ أمره بحرب الدولة الرومانية بعد هذا الفوز الذي أصابه في حروب الدولة الفارسية، وأن يسارع إلى مرضاة الله وقتال أعداء الله، ويكون كمن يجاهد في الله حق جهاده.
وقال له: «سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا وإياك أن تعود إلى مثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجيك، ولن ينزع الشجا من الناس نزعك. فليهنك أبا سليمان النية والحظوة. فأتمم يتمم الله لك. ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن وهو ولي الجزاء.»
وكتب إلى أبي عبيدة في الشام يخبره بمقدم خالد إليه، ويقول له في كلام صريح: «سلام الله عليك. أما بعد ... فقد وليت خالدا قتال العدو في الشام، فلا تخالفه واسمع له وأطع، فإني لم أبعثه عليك ألا تكون عندي خيرا منه، ولكنني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك ... أراد الله بنا وبك خيرا والسلام.»
فأرسل خالد إلى أبي عبيدة رسولا يبلغه قبل مقدمه بكتاب يقول فيه: «أتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني بالسير إلى الشام، وبالقيام على جندها والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك قط ولا أردته إذ وليته، فأنت على حالك الذي كنت عليه لا نعصيك ولا نخالفك، ولا نقطع دونك أمرا ... فأنت سيد المسلمين لا ننكر فضلك ولا نستغني عن رأيك.» •••
وأول خاطر سبق إلى ظن خالد حين حوله الخليفة من حرب فارس إلى حرب الروم أنه عمل من أعمال «الأعيسر» كما يسميه ويعني به عمر بن الخطاب، وأنه نفس عليه أن ينفرد بفتح فارس فأرسله إلى ميدان له فيه شركاء من أعلام الصحابة ذوي الخطر والسابقة الملحوظة بين المسلمين.
وهو ظن بعيد يخطر على بال خالد؛ لأنه يتوقع شيئا من صوب عمر ولكنه لا يخطر على بال غيره؛ إذ لا ينفس عمر على خالد أن ينفرد بغلبة الفرس، ثم يرسله ليغلب الروم بعد أن تأخر الفتح على أيدي كبار القواد من أجلاء الصحابة، فهذا مزيد من الفخر يتطاول إليه المتطاول، وليس بنقص منه يتعمده لخالد من يأباه عليه. وإنما اختار الخليفة خالدا؛ لأن العراق كانت في هدأة من جانب الفرس بعد هزائمهم الكثيرة، وكان في جيش المسلمين وقواده بالعراق كفاية للمثابرة على الفتح بعد أن تم التدويخ والتمهيد؛ ولأن خالدا كان أقرب مدد إلى الشام ولم يكن بالحجاز بقية من قوة فاضلة تضاف إلى قواتهم في حرب الرومان ... فاختاره الخليفة وهو يقول: «لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد.»
وليس من عادة خالد أن يضيع وقتا - قل أو كثر - إذا نيط به أمر من الأمور، فلما ندب للجهاد بالشام نظر فإذا بينه وبين الشام يومئذ من خمسمائة إلى ستمائة ميل على حسب الطرق التي يسلكها، وهي أربع يختار منها أصلحها لإنجاز العمل الذي وكل إليه.
من هذه الطرق الأربع ما هو سهل موفور الماء والكلأ ولكنه من أجل هذا موفور الحراس والسكان، فهم يعوقونه بالمقاومة عن الإسراع بالمطلوب دون أن تكون للغلبة عليهم فائدة تذكر في القتال الحاسم بين المسلمين والرومان ...
ومنها ما هو قليل الحراس والسكان وفيه الماء والكلأ، ولكنه بعيد يطول السير فيه ...
ومنها ما هو وعر قليل الماء والكلأ، مخيف غير مطروق، أو كما قال الدليل الذي سأله خالد: «إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال، والله إن الراكب المفرد ليخافها على نفسه، وما يسلكها إلا مغرور. إنها لخمس ليال جياد لا يصاب فيها ماء مع مضلتها ...»
وأيسر شيء على القارئ الذي عرف خالدا أن يعلم أي هذه الطرق يسلكه خالد، فما هو بسالك حيث سلك إلا الطريق الذي هو أحوج إلى قدرة القائد وأدل على العزمة والمضاء وأبعدها جميعا أن يتوقع العدو هجوما منه، فأجمع عزمه على طريق من الطرق الأربع هو أصعبها وأقصرها، وهو الذي خوفه الأدلاء منه، وقال لدليله الأكبر رافع بن عميرة الطائي - ولا أحد يغني غناءه في السير بتلك المفازة المهلكة وإن كان يومئذ من حسر النظر كالمكفوف الضرير: «ويحك إنه والله إن لي بد من ذلك ... إن القوة تأتي على قدر النية، وإن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله.»
ويروي الرواة أن الدليل قال لهم بعد ذلك: أكثروا من الماء، من استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على ماء فليفعل، فإنه المهالك إلا ما دفع الله.
ثم قال لخالد: ابغني عشرين جزورا عظاما سمانا مسان، فأتاه بهن فظمأهن حتى إذا أجهدن عطشا أوردهن فشربن، حتى إذا تملأن عمد إليهن فقطع مشافرهن ثم كعمهن لئلا يجتررن ...
وأشار على خالد أن يقتط أربعا من هذه الجزور كلما نزل منزلا ليسقي الخيل، وأن يشرب الجند مما حملوا من الماء. ففعلوا ما أشار به حتى كان آخر يوم في المفازة ... فقال له خالد: ويحك يا رافع ما عندك؟ فأرسل رافع جماعة ينظرون شجيرة من عوسج في موضع كان يعهدها فيه ويعهد فيه الماء على مقربة منها فلم يجدوها؛ فصاح الرجل بالويل واسترجع قائلا: «هلكتم والله إذن وهلكت لا أبا لكم، انظروا انظروا» فلما نظروا وأمعنوا النظر رأوا جذرا قد بقي منها وقطع سائرها، فكبروا فرحا وشكرا وحفروا في أصلها فنبع لهم الماء، فشربوا ونجوا من هذا الخطر الأليم الذي دونه كل خطر من لقاء الأعداء.
وفي ذلك يقول أبو أحيحة القرشي:
لله عينا رافع أنى اهتدى
في مهمه مشتبه إلى سوى
والعين منه قد تغشاها الردى
معصوبة كأنها ملأى ثرى
فهو يرى بقلبه ما لا يرى
من الصوى تترى له بعد الصوى
فوز من قراقر إلى سوى
والسير زعزاع فما فيه ونى
خمس إذا ما سارها الجيش بكى
في اليوم يومين رواحا وسرى
ما سارها من قبله إنس يرى
هذا لعمري رافع هو الهدى
وسواء صحت رواية الجزور المظمأة أو كان فيها شيء من توسع الخيال، فالطريق الذي سلكه خالد معروف، والقدرة عليه هي موضع العبرة والتأمل في هذا المقام ... أما نحن فالذي نراه أن خالدا لم يكن لينتظر حتى تظمأ الإبل وهي لا تجهد من الظمأ إلا في أيام، وأن الإبل لا تخزن الماء في جوفها وإن لم تجتره دون أن ينصرف منها، وأن عشرين جزورا تمتلئ كروشها بالماء لا تسقي الخيل في الجيش كله وعدته عشرة آلاف، فلا بد من تدبير آخر مع هذا التدبير تجتمع فيه السرعة إلى التخفف إلى الإقدام ...
والأمر الذي لا شك فيه بعد هذا كله أن خالدا سار بجيشه - وعدته عشرة آلاف - من عين الثمر إلى قراقر، ثم من قراقر إلى سوى وبينهما تلك المفازة المهلكة، ثم إلى تدمر فالغوطة فبصرى، فقطع هذه المسافة في ثمانية عشر يوما؛ لأنه كما قال الشاعر كان يطوي مسافة اليومين في يوم واحد ... «في اليوم يومين رواحا وسرى ...»
خرج من الحيرة في أوائل صفر من سنة ثلاث عشرة للهجرة، وطوى تلك المسافة في تلك الأيام بعد أن قمع كل مقاومة لقيها من المسالح والحصون وراء المفازة الخاوية من كل ديار. •••
واتفق خروجه من الحيرة، وجيوش المسلمين في الشام تشرع في خطة جديدة للتراجع إلى جنوب وملاقاة الجيوش الرومانية الجرارة في جمع واحد ينهض لها ويحول دون الإحداق بكل جيش منها على انفراد .
وكان الخليفة قد سيرها - بعيد منتصف السنة الثانية عشر للهجرة - مع أربعة من كبار القواد في طرق مختلفة إلى وجهات متعددة.
فسير يزيد بن أبي سفيان على رأس ستة آلاف أو سبعة آلاف إلى دمشق، وسير شرحبيل بن حسنة على مثل هذا العدد إلى الأردن، وسير عمرو بن العاص على رأس جيش يزيد على ذلك قليلا إلى فلسطين، وسير أبا عبيدة بن الجراح على رأس خمسة آلاف أو ستة آلاف إلى الجابية، وأمدهم بعكرمة بن أبي جهل في جيش صغير؛ ليحمي ظهور من يحتاج منهم إلى الحماية ويسرع بالنجدة إلى من يطلب منهم المعونة ...
ولا نعلم على التحقيق حكمة التفرقة بين هذه الجيوش في طرائقها ووجهاتها، ولكنها على ما يظهر مسألة الماء والكلأ من جهة، ثم رغبة الخليفة في تشتيت جموع الروم وتوزيع أغراضها، ولا يخلو الأمر من الحيطة لمنع الالتفاف بالجيش الواحد إذا أوغل في البلاد كما حدث قبيل ذلك لجيش خالد بن سعيد، فإن الجيوش الأربعة يكون كل منها مددا لصاحبه ومانعا للالتفاف به أو منقذا له من الالتفاف إذا وقع فجأة، وهذا مع علم الخليفة يومئذ بتفوق الحاميات الرومانية في مواقع البلاد الداخلية، إذ كان الرومان على ما يظهر قد اطمأنوا من جانب الفرس بعد انتصارهم عليهم، واطمأنوا إلى جانب العرب بعد رجوع حملاتهم الثلاث على النحو المعروف، وهي حملات مؤتة وتبوك وجيش أسامة، وزادهم اطمئنانا أنهم غلبوا الحملة الرابعة وهي حملة خالد بن سعيد، وأنهم عرفوا اشتغال العرب بحرب الفرس، فوقع في روعهم أن العرب أضعف من أن يشغلوا أنفسهم بحرب دولتين عظيمتين في وقت واحد. فمن هنا خلت ربوع الشام من جيش كبير للرومان، وعلم الخليفة ذلك فاعتقد أن تفرقة الجيوش في زحفها إلى الشام أقرب إلى توزيع العمل والإسراع فيه، فإن تغير الموقف وعمد الرومان إلى حشد الحشود الكبيرة، فقد أوصى القادة بالتشاور والتعاون في مقابلة هذه الطوارئ، كما أوصاهم بالرجوع إليه.
وقد نجحت هذه الجيوش في وجهاتها وتقدم بعضها إلى دمشق وبعضها إلى حمص وأوغل بعضها إلى فلسطين.
ثم نمى إليهم أن القيصر يستعد لهم بجيش كبير في أنطاكية وجيش آخر في جوار بيت المقدس، وبلغت عدة الجيش الأول على تقدير بعض المؤرخين مائتين وأربعين ألفا، وعدة الجيش الثاني سبعين ألفا أو نحو ذلك، ولو نزلنا بعدة الجيشين إلى النصف حسبانا للمبالغة وجهل الحقيقة لما كان نصف هذا العدد بالشيء القليل؛ لأنه يربى على ثلاثة أضعاف الجيش العربي كله بعد قدوم جيش خالد إليه، ولم يرتفع به أحد إلى ما فوق الخمسين ألفا على أعظم تقدير ...
فتشاور القواد فيما يصنعون، فاستقر رأيهم على التراجع إلى الجنوب؛ ليتجمعوا قبل أن يتلاقى الجيشان الرومانيان ويشتبكا بهم وهم متباعدون متفرقون، كل منهم في بضعة آلاف.
ولعلهم يصبحون في تراجعهم أقرب إلى الأمن إذا حاربوا وظهورهم إلى الصحراء، وقد علموا بالأمثلة الكثيرة أن الجيوش الرومانية تحجم عند حدودها ولا تجسر على خوضها في أعقاب جيش كبير أو صغير.
والمؤرخون مختلفون فيمن هو صاحب المشورة الأولى بالتراجع إلى الجنوب ... فمنهم من يقول إنه أبو سفيان بن حرب ومنهم من يقول إنه عمرو بن العاص.
وهذا القول الأخير أدنى إلى الواقع؛ لأن عمرا كان يتراجع في الجنوب قبل أن تصل الجيوش الأخرى إليه، وكان من الموافق لخططه أن توافيه الأمداد في ميدانه بفلسطين.
وأيا كان صاحب الرأي الأول في هذا، فقد تم التراجع بإقرار الخليفة وكان شعوره بحرج المسلمين في أماكنهم هو الباعث له أن يستدعي خالدا من العراق إلى الشام، فكتب لقواده بالشام يقول: «اجتمعوا فتكونوا عسكرا واحدا والقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين، فإنكم أعوان الله، والله ناصر من نصره وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم من قلة، وإنما يؤتى عشرة الآلاف والزيادة على عشرة الآلاف - إذا أتوا - من تلقاء الذنوب، فاحترسوا من الذنوب واجتمعوا باليرموك متساندين، وليصل كل رجل منكم بأصحابه.»
ومن المعتذر جدا تمحيص التواريخ في ترتيب الوقائع بعد وصول خالد إلى الشام، ولكن الأرجح فيما نرى أن المعركة الأولى بدأت مع الجيش الأصغر في «أجنادين » بالجنوب؛ لأن البدء بأصغر القوتين وإخلاء الجنوب قبل الانتقال إلى الشمال أولى وأوفق من ترك هذا الجيش الأصغر وراء ظهور المسلمين ومواجهتهم الجيش الأكبر بين عدوين، ولأن معركة «أجنادين» لم يشترك فيها معظم القواد المسلمين، مما يرجح أنها وقعت قبل اجتماع هؤلاء القواد في صعيد واحد، ولو أنها وقعت بعد المعركة الكبرى في اليرموك لما كان مفهوما أن يترك أولئك القواد جيشا كجيش الرومان في فلسطين دون أن يتعقبوه جميعا، مع فراغهم من أسر الجيش الكبير في اليرموك.
وعلى أية حال، هزم الروم في «أجنادين» وكانت الوقعة الحاسمة بينهم وبين المسلمين في اليرموك، على اختلاف كثير في التواريخ، واتفاق في تصوير خطة القتال.
ويحسن بنا قبل أن نستطرد إلى الكلام على المعركة أن نجمل حالة الجيشين المتقاتلين عند اللقاء ...
فالجيش الروماني كان أوفر عددا وأكمل عدة بغير خلاف، ولكنه خليط من عناصر عدة منها الروم والأرمن والعرب وأجناس أخرى، وقد يظن لأول وهلة أنه امتاز بالنظام والخطط الفنية على أعدائه، ولكنه في الحقيقة كان أبعد الجيشين عن النظام الصحيح إذا أردنا بالنظام وحدة الحركة والتوجيه؛ لأن المتطوعين فيه من أبناء القبائل كانوا يحاربون على ديدنهم والجنود النظاميين يحاربون على ديدن آخر، وتعوقهم العدد الكثيرة والشكك السابغة التي حسبت من مزاياهم، فهي إلى النقص هنا أقرب منها إلى المزية.
وقد أثيرت فيهم حمية الدين ولكنهم ثاروا لها متشككين متفرقين، وجعلتهم حماستهم الدينية يترقبون من الله عقابا ينزله بهم على خطاياهم وخطايا قيصرهم ورؤسائهم المتهمين عندهم بالزيغ ومطاوعة الشيطان ... فحمية الدين تثيرهم من ناحية وتضيرهم من ناحية، وليست هي من قوة اليقين المكين ...
أما جيش العرب، فقد كان من أمة واحدة تدين بعقيدة واحدة وترجع إلى قيادة واحدة، وفي صدورهم من حمية القتال كل ما يحفز القلب الإنساني إلى الثبات والاستبسال؛ غيرة على الدين وغيرة على العرض وناهيك بالغيرتين، ويقين من نعيم الآخرة ونعيم الدنيا إذا كتب له الفلاح، وكفى بإغراء النعيمين.
كان في جيش المسلمين أصون كرائم البيوتات القرشية؛ بنت أبي بكر وأم معاوية وزوج عكرمة بن أبي جهل وعقائل أناس من الجند والقادة، وقد أمرهن أبو عبيدة قبل المعركة «أن يأخذن بأيديهن أعمدة البيوت والخيام ويجعلن الحجارة بين أيديهن، فإن كان الأمر للمسلمين أقمن على ما هن عليه، وإن رأين أحدا من المسلمين منهزما ضربن وجهه بأعمدتهن وأرجعنه بحجارتهن، ورفعن إليه أولادهن وقلن له: قاتل عن أهلك وعن الإسلام ...» ولم يقنع خالد بهذا، بل قال لهن: يا نساء المسلمين أيما رجل أقبل عليكن منهزما فاقتلنه.
ومن أجل هذا، لا نعجب أن يكون هرقل قد وزن القوى وفكر حقا في عرض الصلح على المسلمين وقال لبطانته وذوي شوراه «لأن تعطوهم نصف ما أخرجته الشام وتأخذوا نصفه وتقربوا من جبال الروم خير لكم من أن يغلبوكم على الشام كلها ويشاركوكم في جبال الروم»، ولكنهم استضعفوه وكبر عليهم أن يجيبوه.
أما المسلمون، فالصلح الذي فكروا فيه قبل القتال هو الصلح على شرطهم المعلوم؛ الإسلام أو الجزية، فإن لم يقبل شرط من الشرطين فالحكم للسيف.
وقد أفادهم عرض هذه الشروط قوة على قوة وزادهم في نفوس أعدائهم مهابة على مهابة، فلما ذهب وفدهم يعرض هذه الشروط قبل القتال على القائد تيودور - أخي القيصر - حسب هذا أنه يهولهم بالذبح والثراء ويكسر نفوسهم بما يريهم من حلل الأبهة والنعيم. فأقام لهم سرادقا من فاخر الحرير يستقبلهم فيه، فوقفوا عند بابه ولم يدخلوه قائلين: «إن ديننا يمنعنا أن نفترش الحرير والديباج.»
فهالوه بزهدهم أكثر مما هالهم بترفه ... وأعسر شيء على جنوده بعد ذلك أن يؤمنوا حق الإيمان أنهم - وهم الغارقون في المناعم والملذات - يقاتلون في سبيل الله قوما، هذا مبلغ زهدهم في المناعم واللذات، وهذا مبلغ استعلائهم على الدنيا وما تبسطه لهم من غواية.
ولم يخف على أحد من قادة الرومان والعرب خطر المعركة الكبيرة التي هم مقبلون عليها؛ هي معركة فاصلة في مصير الشام ما في ذلك ريب. وقد تكون المعركة الفاصلة أيضا في مصير الدولة الرومانية ومصير الأمة العربية، فإن هزيمة الدولة الرومانية فيها تنزع من يدها الأماكن المقدسة ويعقبها ضياع مصر وثورة المتربصين بالقيصر وأهل بيته في بلاده الآسيوية والأوربية، وإن هزيمة الجيش العربي معناها هزيمة الجيش الأكبر، الذي لا يتسع الوقت ولا تتسع الطاقة لتجريد جيش غيره على أثر الهزيمة، وقد تغري القيصر الروماني بإرسال قبائل الشام في أعقاب المسلمين إلى الحجاز والجزيرة العربية ولا يبعد أن تثير أبناء الجزيرة العربية أنفسهم على خليفة الإسلام ممن لا تزال لهم ترات تغلي في حنايا الصدور.
فاستعد الفريقان غاية ما في الوسع من استعداد.
وارتضى كلاهما موقع اليرموك للوقعة الفاصلة بينهما؛ لأنه يوافق طلبة القيصر من مكان «واسع العطن، واسع المطرد، ضيق المهرب» ولا يكرهه المسلمون؛ لأنهم رأوا أن منزل الروم فيه منزل محصور بين النهر والبحيرة والوادي وجيش المسلمين. أو كما قال عمرو بن العاص حين رآهم: «أيها الناس: أبشروا ... حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير ...» تحاجز الجيشان أشهرا لا يشتبكان إلى جمادى الآخرة أو رجب على قول بعض الرواة.
وكلاهما ينظر كيف يبدأ الآخر هجومه ليرتب له لقاءه، وكلاهما قد عبأ طاقته من سلاح الأيدي ولم يزل يعبئ طاقته من سلاح النفوس؛ سلاح العقيدة والفداء.
واستعان الرومان بالقسيسين يلهبون الحمية ويضرمون الحفيظة، ويهونون على أتباعهم بذل الأرواح في سبيل الملة والدولة والمجد القديم.
وأقبل المسلمون على القرآن يرتلونه وعلى العظات يذمرون بها القلوب، وجعلوا وراءهم حرسا من الأعراض هو أقوى الحراس بعد الإيمان ... ثم كثرت الحركة أياما في جيش الروم، فعلم القادة المسلمون أنهم مقتربون من الهجوم، ولم يشأ خالد أن تبتدئ المعركة بقيادة متفرقة لا تتحد في نظام واحد، فصرف همه الأول إلى تنظيم الفرق جميعا في تعبئة واحدة يقودها رجل واحد، ووجد من زملائه قلوبا مصغية فأجابوه إلى ما دعاهم إليه.
قال لهم قبل ابتداء القتال: «هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأرضوا الله بعملكم، فإن هذا اليوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة وأنتم متساندون،
6
فإن ذلك لا يجمل ولا ينبغي ... وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي.»
ثم قال وقد سألوه رأيه: «إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من إمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله ... إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله ... هلموا ... فإن هؤلاء قد تهيأوا وهذا يوم له ما بعده. إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم والآخر غدا والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم، ودعوني أليكم اليوم.»
فأسندوا إليه قيادتهم يومها، وكان توحيده القيادة أول خطوة في طريق النصر الحاسم بمعركة اليرموك ... ثم أسرع إلى تعبئة قواده وجنوده على الوضع الذي رآه ملائما للتعبئة الرومانية، وهو الوضع الملائم للحرب «في العمق» - كما يقول العسكريون في هذه الأيام.
فأقام عمرو بن العاص على الجناح الأيمن، ويزيد بن أبي سفيان على الجناح الأيسر، وأبا عبيدة بن الجراح على القلب، واتخذ مكانه في كبة الجمع ولجأ إلى طريقته التي اختارها لحرب بني حنيفة وهي طريقة الكراديس؛ لأنها أصلح الطرق للنفاذ في الصفوف، وأدعاها إلى التنافس بين المقاتلين وتمييزهم بالتبعة أو بالثناء.
وكانت كل فرقة من الميمنة أو القلب أو الميسرة تتألف من كراديس عدة، على كل منها قائد معروف، ومنهم صاحبه القديم القعقاع، وزميله في حرب اليمامة عكرمة بن أبي جهل، وزميله في دومة الجندل عياض بن غنم، وابنه عبد الرحمن وهو يومئذ دون العشرين ... وجملة الكراديس جميعا ثمانية وثلاثون معظمها في القلب، وعدته ثمانية عشر كردوسا، رئيسهم أبو عبيدة وفيهم عكرمة والقعقاع ...
وكان موضع الميمنة بحيث يستطيع الالتفاف بالجيش الروماني إذا أمعن في الهجوم والإطباق عليه مع القلب إذا ارتد إلى الوراء.
وفرغ من التعبئة فعمد إلى «القوة الأدبية» يوليها حقها من عنايته الكبرى، وأخرج المقداد يقرأ على الجيش سورة الأنفال، ودعا كل رئيس أن يعظ جنده ويبصرهم بمرماه في حركاته، وجماع هذه العظات خطبة عمرو بن العاص حيث قال: «غضوا الأبصار. واجثوا على الركب واشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم، حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا في وجوههم وثبة الأسد، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه ويمقت الكذب ويجزي بالإحسان إحسانا، لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا، فلا تهولنكم جموعهم ولا عددهم، فإنكم لو صدقتموهم الحملة تطايروا تطاير الجحول.»
7
وخطب مثله معاذ بن جبل وأبو سفيان، وبرز القعقاع وعكرمة قائدا المجنبة في القلب يرتجزان، واختير يوم القتال في يوم ريح سموم سافياء
8
في حمارة القيظ فكانت طاقة المسلمين به أكبر من طاقة الروم.
ثم اشتبك الجيشان على نحو لا يعلم تفصيله على التحقيق، ولكنه بدأ كما تعودنا في حروب المسلمين بهجمة شعواء من جانب العدو يتزعزع لها العدد الصغير أمام العدد الفداء.
فلما انكشف المسلمون بعد الهجمة الأولى ثابوا إلى عزماتهم بنخوة الإيمان ونخوة العرض والأنفة، فضرب النساء في وجوه الخيل قائلات: «إلى أين يا حماة الإسلام وطلاب الشهادة!» وصاح عكرمة كأنه يؤنب نفسه: «قاتلت رسول الله في كل موطن وأفر اليوم؟! من يبايع على الموت؟» فبايعه أربعمائة من الفرسان المغاوير لا يقوم في وجههم قائم، وصدموا الروم حتى صدوهم غير حافلين بما أصابهم، وقد قتل في طليعتهم عكرمة وابنه ومعظم أولئك الفرسان، ولم ينج منهم قط إلا جريح مثخن بالجراح، وأفلحت الكرة الثانية، وتقهقر الروم. •••
وقد اهتم خالد بالعزل بين خيل العدو ومشاته، فتضايقت الخيل وعجزت عن الجولان وولت هاربة فأخلوا لها الطريق، ورجع المشاة إلى الخنادق فلحقهم بها المسلمون، ثم أحاطوا بهم من ورائهم فشاع فيهم الذعر وسقطوا وهم مولون مهرولون في هوة الواقوصة أو وادي الرقاد وقيل: إن موتاهم بالواقوصة كانوا أكثر من قتلاهم في حومة الوغى؛ لأنهم قدروا بثمانين ألفا سقطوا في الوادي فرادى وجماعات؛ إذ كان بعضهم يقرنون أنفسهم في السلاسل كل عشرة في سلسلة واحدة تثبيتا لأقدامهم وتيئيسا من الفرار، فإذا بالوجل يفل حديد السلاسل كما فل عزائم القلوب وبلغ اليأس مبلغه من أشراف القوم فقعدوا في أماكنهم ينتظرون الموت، فكأنهم قد فروا قاعدين!
وحق لهرقل وقد حبطت محاولاته جميعا بعد اليرموك أن يودع الشام إلى عاصمة ملكه المتصدع وداعا - كما قال - ليس بعده لقاء.
الفصل الثامن
العزل
يستحق الرجل أن يسمى بطلا من أبطال التاريخ إذا كان له «دور تاريخي» يقضيه ويتسم بملامحه ودواعيه ...
وآية انقضاء ذلك الدور أن يبلغ البطل من الأعمال المقدورة له قمتها العليا التي لا قمة وراءها، وأنه يعدو هذا الدور فإذا هو مفتئت على الآخرين ممن لهم حق مثل حقه في أدوار التاريخ، أو يعدوه إلى أعمال يغني فيها الآخرون مثل غنائه، وتدخل في باب من السعي والدراية غير بابه.
وقد بلغ خالد في معركة اليرموك قمته العليا التي لا مرتقى بعدها لراق: قمع فتنة الردة، وضرب دولة الأكاسرة ضربته الدامغة، ووحد قيادة المسلمين في حرب الرومان فصدهم إلى ما وراء حدودهم، وخلت ميادين الشام بعدها من أعمال يصح أن تسمى بالأعمال الخالدية. فهي بين حصار أو مراوغة أو تسليم، وإنما يراد خالد لتحطيم قوى الأعداء التي تعز على التحطيم.
وإن يكن من عمل «خالدي» في ميادين الشام بعد معركة اليرموك فهو عمله في مرج الروم، ثم عمله في قنسرين.
1
ففي مرج الروم، كان هو وأبو عبيدة ينازلهما قائدان رومانيان هما جونس وتوذر كما سماه خالد، فتسلل توذر تحت الليل ليفاجئ الجيش العربي عند دمشق بقيادة يزيد بن أبي سفيان ويأخذ جيوش المسلمين على غرة متفرقين. فاتفق خالد وأبو عبيدة على تعقبه ومفاجأته من خلفه قبل أن يفاجئ يزيد بن أبي سفيان فأوقعاه في الفخ الذي نصبه، ولم يرجع خالد إلى أبي عبيدة إلا وتوذر مقتول وجيشه مبدد كما قال:
نحن قتلنا توذرا وشوذرا
وقبله ما قد قتلنا حيدرا
نحن أزرنا الغيضة الأكيدرا
وفي قنسرين حصر خالد الرومان المحتمين بحصونها فطاولوا وأبرموه. فقال لهم محنقا: «لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا» وأبى أن يصالحهم بعد ذلك إلا على تخريب المدينة ودك حصونها، فختمت بذلك ضرباته الخالديات ...
ولكنه كان قبل مرج الروم وقنسرين قد وفى «دوره التاريخي» أكمل وفاء، فلو فاته هذان العملان لما نقص من مجده شيء ولا تغير مجرى الحوادث في أعقاب هزيمة الرومان. •••
أما سائر الميادين فقد تولاها قواد آخرون ففتحت بقية فارس، وفتحت مصر وشطر من إفريقية الشمالية، وكتبت بذلك «أدوار تاريخية» أخرى للمثنى بن حارثة وسعد بن أبي وقاص والنعمان بن مقرن وعمرو بن العاص، ورجال غيرهم يساوونهم أو يقلون عنهم في المقدرة ولا يقلون عنهم في المقصد والنية، وكل زيادة في عمل خالد لا تضيف إليه مجدا فوق مجده، وتنقص ولا ريب من عمل هؤلاء، وتحرم الإسلام أيديا كثيرة تعمل له وتدفع عنه، وليس هو بمستغن عن تلك الأيدي الكثيرة بيد واحدة، بالغا ما بلغ بها الرجحان والاستعلاء.
قلنا في أول هذا الفصل إن انقضاء «الدور التاريخي» لبطل من الأبطال له آيات تدل عليه، ومنها أن يعدو دوره إلى أعمال يغني فيها الآخرون مثل غنائه وتدخل في باب من السعي والدراية غير بابه، ونزيد على هذا أن غناء الآخرين في هذا خيرا من غنائه لهو أولى أن يدل على انقضاء دوره وانتقاله إلى من هو أحق به وأخلق.
وفي ميدان الشام - بعد معركة اليرموك - كان أبو عبيدة بن الجراح أحق بالموقف الجديد من خالد بن الوليد؛ لأنه موقف التسليم والمسالمة واستلال الحقود وضمد الجراح وتقريب القلوب، وفي جميع أولئك يتسع المجال لهوادة أبي عبيدة ويضيق بضربات خالد ... فأبو عبيدة يسرع إلى المسالمة إذا فتحت له أبوابها، ولا يبطئ عن الحرب إذا وجبت عليه أسبابها، فإن كانت بالمسالمة جدوى فذاك، وإن كان يوم الضربات الخالديات فهي لديه يرمى بها في مراميها، وإنما يكون العمل الأول هنا لمن يسالمهم ويتقبل التسليم، ويكون العمل التابع له لمن يرفع سوط النقمة على الذين يلجون في العداء كأهل قنسرين، فلا يسلمون إلا بتخريب الديار ودك الحصون.
ولا جرم كان أبناء الأمصار يتسامعون بحلم أبي عبيدة فيقبلون على التسليم إليه ويؤثرون خطابهم له على خطابهم لغيره، وكان خالد يرضى بهذا حينا ويسخط منه حينا، كما سخط عند تسليم دمشق ووساطة أبي عبيدة في العفو عن أهلها. فإنه كان يحسبهم مغلوبين عنوة فيعاقبون بالسبي والقصاص ولا يبسط لهم مهاد العذر والموادعة، ولولا أنه لا يغدر بعهد عاهدهم به أبو عبيدة لما كان لهم من شرط عنده غير شرط على أهل قنسرين.
فصواب التاريخ وصواب ابن الخطاب قد تلاقيا ههنا بإسناد الأمر إلى أبي عبيدة بن الجراح في أوانه المقدور، وإن كان تلاقيا لم يجر على قصد مرسوم. •••
تولى الفاروق الخلافة بعد الصديق عليهما الرضوان ...
ورأي الفاروق في أبي عبيدة بن الجراح معروف. فقد كان لا يعدل به أحدا من الصحابة الأولين، وقد هم بترشيحه للخلافة بعد وفاة النبي - عليه السلام - وقال وهو يجود بنفسه: إنه لو كان حيا لعهد إليه ولم يلجأ إلى مجلس الشورى الذي وكل إليه أمر انتخاب الخليفة بعده.
وتحدث عمرو بن العاص مرة إلى الفاروق في رئاسة الجيوش الموجهة إلى الشام، فأجابه في مقال صريح: «... أنه ليس على أبي عبيدة أمير، ولأبو عبيدة عندنا أفضل منزلة منك وأقدم سابقة، والنبي - عليه السلام - قال فيه: أبو عبيدة أمين هذه الأمة.»
وكما عرف رأي الفاروق في أبي عبيدة عرف كذلك رأيه في سابقة الإسلام والغزو على الإجمال، فإنه خالف الصديق في التسوية بين أنصباء المسلمين كافة يوم أخذ الصديق في توزيع الأرزاق والأنفال، وجعل للرجل نصيبا يختلف باختلاف سابقته في الإسلام والجهاد؛ لأنه «لا يجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه، ولا يسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين وبين من أسلم عام الفتح خوف السيف.»
فإقامة أبي عبيدة على ولاية الشام وقيادة جيوشها حادث لا غرابة فيه من الفاروق ولا ينتظر منه غيره، وبخاصة حين تكون إمارة خالد بن الوليد بغير تأمير من الخليفة الأول، إنما هي اتفاق على تقسيم القيادة بين الأمراء يوما بعد يوم. •••
وبهذه المثابة تكون ولاية أبي عبيدة سنة عمرية معروفة ولا يبلغ منها أن تكون «قضية» بين الفاروق وخالد على الصورة التي هول بها بعض المؤرخين واتخذوا منها محورا للجدال والتنقيب عن الأسباب والأقوال.
وإذا نحن تجاوزنا النظر إلى الموضوع من جانب هذه السنة العمرية، فولاية أبي عبيدة كانت في اعتقادنا أصلح الولايات للشام في تلك المرحلة التي انتهت إليها الحرب بين المسلمين والروم.
فما نظن أحدا تفوته حاجة الشام في مثل تلك المرحلة التي انتهت فيها بطشة الحرب الكبرى، وبدأت فيها ممهدات السلم والحكم والمصالحة، وهذه مهمة وال يحسن الحرب ويحسن التوجيه إليها في مناسباتها، وليست مهمة قائد عسكري يجري الأمر على سنة السطوة العسكرية، ويكون عملة الأكبر تحطيم قوى الأعداء في ضربة طاحنة، ثم يلاحقهم متى شاء بالمطاردة والتضييق والإحراج، كما كان دأب خالد في بطشاته التي لا تبقي بعدها بقية لغير الإجهاز.
وإذ تكون هذه هي المهمة المطلوبة بعد معركة اليرموك، فلا خلاف في أي الرجلين أولى بالولاية عند ذلك؛ أبو عبيدة بن الجراح أو خالد بن الوليد، سواء أكان الخليفة على رأي الفاروق أم كان على غير هذا الرأي في أمين الأمة وفي سوابق الإسلام والجهاد. •••
ونمى إلى الفاروق بعد ذلك أن خالدا وعياضا أغارا على بلاد الروم ورجعا منها بغنائم وأسلاب، وأن الأشعث بن قيس قصد خالدا ومدحه فأجازه بعشرة آلاف درهم، وأجاز آخرين من «ذوي البأس وذوي الشرف وذوي اللسان».
فعظم هذا البذل على الفاروق وكتب إلى أبي عبيدة أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمهم من أين أجاز الأشعث، هل من مال الله أم من ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنه من إصابة أصابها فقد أقر بالخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف، وأمر أبا عبيدة أن يعزله على كل حال وأن يضم إليه عمله - وكان يومئذ يولى أمور قنسرين - وأن يقاسمه ماله نصفين ...
فصدع أبو عبيدة بالأمر، وجمع الناس وجلس على المنبر، ودعا بخالد فسأله: يا خالد ... أمن مالك أجزت عشرة آلاف أم من إصابة؟ فلم يجب وأبو عبيدة يعيد السؤال مرة بعد مرة، فوثب إليه بلال مؤذن النبي - عليه السلام - وقال له: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ثم تناول عمامته ونفضها وعقله بها وخالد لا يمنعه، وسأله: ما تقول؟ أمن مالك أم من إصابة؟ فقال: لا، بل من مالي، فأطلقه وعممه بيده وهو يقول: نسمع ونطيع لولاتنا ونفخم ونخدم موالينا.
ثم قوسم ماله حتى بقيت نعلاه، فقال أبو عبيدة: إن هذا لا يصلح إلا بهذا فقال خالد: أجل، ما أنا بالذي أعصي أمير المؤمنين، فاصنع ما بدا لك.
ولما علم خالد بعزله، ذهب إلى قنسرين فخطب أهل عمله وودعهم ثم ذهب إلى حمص فخطب أهلها وودعهم وقال في بعض خطبه: «إن أمير المؤمنين استعملني على الشام حتى إذا كانت بثنية وعسلا عزلني وآثر بها غيري» فنهض له رجل من السامعين فقال: صبرا أيها الأمير، فإنها الفتنة. فما تردد خالد أن قال: أما وابن الخطاب حي فلا.
ثم قصد إلى المدينة فلقي الفاروق فقال له: «لقد شكوتك إلى المسلمين. وبالله إنك في أمري غير مجمل يا عمر ...» فسأله الفاروق: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان. ما زاد على الستين ألفا فلك «فزادت عشرون ألفا فضمها إلى بيت المال، ثم قال له: يا خالد، والله إنك علي لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعاتبني بعد على شيء» وأرسل إلى الأمصار يأمر الولاة أن يعلنوا فيها باسمه: «إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا عن خيانة، ولكن الناس فتنوا به فخشيت أن يوكلوا إليه ويبتلوا، وألا يكونوا بعرض فتنة.» •••
تلك قصة خالد والفاروق ...
وهي قصة تؤلم وتؤسف، إلا أن الألم والأسف فيها من فعل الضرورة التي لا محيد عنها، وليسا من فعل خالد ولا فعل الفاروق ...
ومن الحق للرجلين العظيمين أن نفهم هذه القصة على حقيقتها المبرأة من الخلط والجهالة؛ لأن فهمها على حقيقتها موصول بتقدير الحالة كلها وموصول بتقدير الخليفة العادل وتقدير القائد الكبير.
وأبعد شيء عن هذه الحقيقة أن يكون عزل خالد لضغينة في نفس عمر أو لتلك المنافسة التي تستحكم بين الأشباه والنظراء، أو لغير سبب من تلك الأسباب التي كان عمر يحاسب بها جميع القادة والولاة ...
وأسخف من هذه الظنون أن يسبق إلى الوهم - كما سبق إلى وهم بعض المؤرخين - أن عمر قد عزل خالدا لبغضاء قديمة مرجعها إلى الصراع بينهما في أيام الصبا، وأن خالدا صرع عمر وكسر ساقه فلم يزل بقية حياته واجدا عليه ...
وأجهل الناس بخلائق عمر من يجمح به الوهم إلى ظن من هذه الظنون فليس بين رجال التاريخ جميعا من هو أصعب تخطئة من عمر بن الخطاب؛ لأنه ليس بينهم جميعا من هو أشد حسابا لنفسه ومراجعة لنياته منه، وأغلب الظن عندنا أنه لو أحس في نفسه نية ذحل أو ثأر قديم لكان أثر هذا الإحساس أن يؤجل عزل خالد ولا يعجل به مخافة من خدعة نفسه وتضليل هواه.
فالحق أن حساب عمر لخالد لم يخالف قط حسابه لجميع ولاته ... فكذلك صنع بعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص، وكذلك صنع بكل وال أحصى ماله فظهرت فيه الزيادة، وقد عزل زياد بن أبيه ثم قال إنه عزله «لأنه كره أن يحمل على الناس فضل عقله» وكان يحسب أنه قادر على أن يسوق العرب بعصاه لو أنه من قريش، ولقد تبين بعد أنه من قريش. •••
وكانت سياسة عمر مع الولاة جميعا أن يراجعوه في الأموال، وبذلك أشار على أبي بكر فوافاه الحساب من كل وال إلا خالدا أبى وأغلظ له في الجواب حيث قال: «إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك وعملك.»
فلما بويع عمر كتب إلى خالد أن يراجعه في حساب المال وألا يعطي شاة ولا بعيرا إلا بأمره، فأحاله إلى ما جرى به العمل قبله، فلم يطقها عمر وقال: «ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه.»
هذا إلى الخلاف بين سنن عمر في سياسة الناس وتصريف الشئون وسنن خالد التي طبع عليها. فعمر كان يحب الأناة قبل القتل والقتال ومن ثم كان إنكاره لمقتل بني جذيمة ومقتل مالك بن نويرة، وعفوه عن أسرى السواد خلافا لما صنع بهم خالد في معركة «أليس» أو «نهر الدم» كما سميت بعد ذلك. وقد حرم عمر «قيس بن سليط» أن يقود جيشا هو كفء لقيادته قائلا له: «لولا أنك رجل عجل في الحرب لوليتك هذا الجيش، والحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث.»
وإذا كان عمر قد أوجس من عقل زياد بن أبيه وهو مجهول النسب، فالفتنة باسم خالد أعظم وأخطر، إنه لعظيم النزعة إلى الاستقلال، وإنه لمن بني مخزوم وهم أقوى قبائل قريش منفردين، وله صهر في سائر القبائل والبطون ولأبنائه أخوال في بني تميم وبني حنيفة، ولشهرته سحر في نفوس الناس يفعل الأعاجيب، وللزهو مكان من طباع خالد يحسب حسابه ولا ينساه الخليفة المسئول عن عواقب الأمور في دولة الإسلام فقبل أن يقهر خالد دولة الأكاسرة ودولة القياصرة رجع إلى المدينة يوما فإذا هو يغرز في عمامته السهام ويدخل المسجد بدرع قتال ... فبعد غلبته على الأكاسرة والقياصرة وشيوع ذكره في الأمصار، ماذا يجرى لو وهن الحكم يوما بعد «ابن الخطاب»؟
أما و«ابن الخطاب» حي فلا. كما قال خالد. ولكن ابن الخطاب لا يدوم، والعواقب لا تنكشف، وعزل خالد نقص يعوضه قادة آخرون من حقهم أن يعملوا كما عمل، ومن أثرهم أن يثوب الناس إلى العقيدة وحدها فلا يحسبوا أن النصر رهين برجل واحد لا يرتهن بغيره. •••
أما الاحتمال الآخر - إن حدث - فالخطر فيه عظيم والموازنة بينه وبين كل عاقبة يعقبها عزل خالد لا مجال فيها لتردد طويل.
وهذا كله فضلا عن مرد العزل إلى القسطاس الذي يرد إليه حساب جميع القواد والولاة، ولم يفت ذلك خالدا بعد هدوء الغضب والمثوبة إلى الرأي، فقال في مرض وفاته لأبي الدرداء: «قد كنت وجدت عليه في نفسي في أمور لما تدبرتها في مرضي هذا وحضرني من الله حاضر عرفت أن عمر كان يريد الله بكل ما فعل، كنت وجدت عليه في نفسي حين بعث إلي من يقاسمني مالي حتى أخذ فرد نعل وأخذت فرد نعل، فرأيته فعل ذلك بغيري من أهل السابقة ومن شهد بدرا، وكان يغلظ علي وكانت غلظته على غيري نحوا من غلظته علي، وكنت أدل عليه بقرابة فرأيته لا يبالي قريبا ولا لوم لائم في غير الله. فذلك الذي أذهب ما كنت أجد عليه، وكان يكثر علي عنده وما كان ذلك إلا على النظر - كنت في حرب ومكابدة وكنت شاهدا وكان غائبا فكنت أعطي على ذلك، فخالفه ذلك من أمري.»
ولقد توفى رحمة الله وهو يجعل وصيته وتركته وإنفاذ عهده إلى عمر بن الخطاب ...
ونحن اليوم ننظر إلى القصة بعين التاريخ فنرى - كما أسلفنا - أن الفاروق إنما ختم دورا ختمه القدر وانقضت به الحوادث. فلم يكن بعد القمة التي ارتفع إليها خالد في ضربته لدولة الرومان مرتقى لراق ولعل مجده الباذخ قد كانت تعوزه قمة من نوع غير تلك القمم التي تسنم فيها صعدا من غلبته على طليحة ومسيلمة إلى غلبته على القياصرة والأكاسرة: تلك هي قمة التجمل والإخلاد إلى الواجب الأليم يوم عزله. فهي والله لمما يحسب له إلى جانب قممه البواذخ، قمم العظيم الظافر الجسور ... وأين - لولا عزله - كنا نبصر بينها قمة العظيم الصابر المطيع؟
الفصل التاسع
عبقريته الحربية
كسبت المعارك الحاسمة لأسباب لا تحصى، وكسبت معارك شتى للسبب ونقيضه، وربما تعرض النقاد العسكريون للمعركة الواحدة فإذا بهم يردون النصر فيها إلى أسباب تتناقض وتتباعد كأنهم يتكلمون عن النصر والهزيمة.
كسب بعض المعارك؛ لأن الأقواس كانت أكثر من السيوف، وكسب بعضها؛ لأن السيوف كانت أكثر من الأقواس.
وكسبت معارك حاسمة؛ لأن الرماح المنتصرين كانت أطول من رماح المهزومين بشبرين أو بضعة أشبار، وكسبت معارك غيرها؛ لأن الرماح كانت تتلاحق في طولها على حسب الصفوف.
وفي بعض المعارك كان الفرسان في الوسط، فقيل: إن هذا كان من دواعي النصر العاجل، وفي معارك أخرى قيل: إن دواعي النصر إنما ترجع إلى قيام الفرسان على الجانبين ...
وكثيرا ما يقال: إن اشتراك الفرسان والمشاة في العمل كفيل بالغلبة في بعض الميادين، ثم يدور الكلام على ميدان آخر فيقال: إن تربص الفرسان بمعزل عن القتال إلى ساعة الفصل هو الكفيل بالغلبة المؤزرة حتى نهاية القتال، وربما قيل: إن ظهور الفرسان في ميدان يضيق عن حركات المناورة جنى على الفرسان وعلى المشاة فدب الفشل في صفوف هؤلاء وهؤلاء ...
ولقد يحاول بعض الخبراء أن يجمعوا أسباب النصر إلى قاعدة موجزة فيقولون كلاما يحسن الاطلاع عليه، ولكنه كلام يقرؤه القائدان معا فيبوء أحدهما بالنصر ويبوء الآخر بالهزيمة.
مثل هذه القواعد الموجزة كمثل القاعدة التي توجز لك البلاغة الشعرية في كلمات ثلاث وهي: الوزن، واللفظ، والمعنى ... ولا خطأ في هذا الإيجاز، ولكنه مع هذا لا يعلم الشاعر الصواب.
وقصارى ما يقال بعد تقرير الأسباب وتدوين القواعد أنها لا تمنع الفروق بين معركة ومعركة وميدان وميدان، وأن القائد الموفق هو الذي يلمح هذه الفروق فيعمد إلى العمل اللازم في الوقت اللازم بالقدر اللازم، فلا ينقص أو يزيد، ولا يتقدم أو يتأخر، ولا يوحد العمل مع وفرة الفروق ...
وإذا كان كل شيء في المعركة يتوقف أحيانا على كذا أو كذا من الخطوات في السبق إلى حومة القتال، وكذا أو كذا من الأشبار في طول الرماح، وكذا أو كذا من التفاوت في سرعة القذيفة هنا أو هناك، أو كذا وكذا من الحركات إلى اليمين أو إلى الشمال وإلى الأمام أو إلى الوراء، فتفصيل أسباب النصر في المعارك القديمة على التخصيص ضرب من المستحيل؛ لأن إثبات الفوارق بين المعسكرين في الأسلحة والمواعيد والعدد والحركة غير ميسور، وأقصى ما نطمع فيه أن نقنع بالإجمال دون التفصيل.
وإجمال القول في توفيق خالد بن الوليد أنه لم تعوزه قط صفة من صفات القائد الكبير المفطور على النضال، وهي الشجاعة والنشاط والجلد واليقظة وحضور البديهة وسرعة الملاحظة وقوة التأثير.
كان يضع الخطة في موضعها ساعة الحاجة إليها ... فكان يحارب بالصفوف كما كان يحارب بالكراديس، وكان يحارب بالكمين والكمينين كما يحارب أحيانا بغير كمين، وكان يستخدم التورية والمباغتة والسرعة على أنماط تختلف باختلاف الدواعي والأحوال.
وقد علم أن تمزيق الجيوش أجدى في الحرب من الحصار والاحتلال وعلم أن الخبر قوة وسلاح، فكان يستطلع أخبار العدو ولا يتيح له أن يستطلع خبرا من أخباره يفيده أو يحميه من بأسه ...
وأجدى من هذا جميعه أنه كان لا يغفل عن القوة الأدبية يعززها ما استطاع في جيشه ويضعضعها ما استطاع في جيش عدوه.
فكان هو نفسه مادة لهذه القوة الأدبية تجيش بها نفوس أنصاره فيثقون بالفوز ويأمنون خطر الهزيمة، وتشيع في نفوس أعدائه فيسري إليهم الذعر وتفارقهم الثقة والطمأنينة. •••
وإلى هذا، كان يعتمد على قوة الإيمان وهمة الأمل، فيتعهد جيشه بالعظات قبل القتال وفي أثناء القتال، ولا يفوته وهو مشغول بالضرب والطعن والتوجيه والمراقبة أن يطوف بين الصفوف للتذمير والتشجيع فيعمل ويقول القول الذي هو ضرب من العمل، فإذا قال: «إن الصبر عز وإن الفشل عجز وإن الصبر مع النصر» فليست هي أصداء تمر بالهواء، ولكنها في العز والصبر ماثلان للعيان يسريان بالقدوة منه إلى كل مسمع وجنان ...
وإلى هذا وذاك، كان يثير المنافسة الكريمة في صدور جنده وأعوانه، فيدعوهم إلى التمايز والتناظر لينفث فيهم مع عزيمة الإيمان عزيمة أخرى من حب الفخار وخوف المسبة والعار.
ويتخذ من الغيرة على العرض مددا لهذه العزائم التي تواجه الموت على حد قوله كما تواجه الحياة، فإذا بالرجل الفرد يبلي في قتاله ما ليس يبليه عشرات. •••
ولم يخف عليه قط مقتل العدو من قوته الأدبية حيثما عمد إلى هذا المقتل في منازلات للمستبدين والطغاة. فإنهم في جيوش الأمم التي طال عهدها بالظلم يرتفعون إلى مقام الأرباب من حيث يتحدر رعاياهم إلى مقام القطيع السائم. فإذا أصيب القائد في الجولة الأولى، فكثرة الجند بعد ذلك معوان على الهزيمة وليست بالوقاية منها؛ لأنها كثرة من الخوف والذعر وليست كثرة من الثقة والثبات.
ولقد كان هو يخلق فنون الحرب التي يجمعها «الخبراء» في عصورنا هذه بمراجعة الحروب وتحصيل الدروس واستخراج القواعد من الخطط والمعلومات.
قرأنا في كتاب «فن الحرب اليوم»
1
لمؤلفيه من قواد البحر والبر والهواء: «عند بحث هذه المسألة ينبغي أن نحضر في أذهاننا أنه مع استثناء قليل لم يكن ثمة إلا نوعان من السلاح سيطرا على حومة القتال، وهما السلاح المقذوف والسلاح الضارب أو القارع، أي النبل أو السهم أو الرصاصة من جانب، والهراوة والسيف والرمح من الجانب الآخر ... ومجمل ما يقال بعد هذا أن الصف هو أنسب الأوضاع لتطور قوة السلاح المقذوف وأن الكردوس أنسب الأوضاع لتطور قوة السلاح الضارب؛ لأن الرماة بالقذائف يحتاجون إلى مدى مكشوف. وإنما يتأتى الضرب في العمق كرات متلاحقات من المقاتلين جماعات جماعات.»
إن خالد بن الوليد لم يقرأ ولم يفته شيء بفواته عنه؛ لأنه قد علم كنهه ولبابه من بديهته الحربية، فقاتل بالصفوف حيث تغني الصفوف وبالكراديس حيث لا تغني إلا الكراديس.
وفي هذا الكتاب أيضا يقول المؤلفون: «يتضح مما تقدم أنه في حملات السلاح الضارب هناك أمران ضروريان، وهما: الاستطلاع، وكتمان الحركات، والغرض من الاستطلاع وزن قوة العدو ومن كتمان الحركات أن تحول بينه وبين وزن قوتك وتوقع الهجمة من أي موضع تكون ...»
ثم يتكلمون عن الاستطلاع كما يجري في عصرنا الحديث فيقولون: «وعلى هذا يجري الاستطلاع من الهواء قبل الحركات الأولى وفي خلالها، وتتقدم الكراديس في أثناء ذلك على نظام المعركة، أي على النظام الذي تتألف به حين تدعى إلى الهجوم.»
وهذه هي ربيئة خالد للاستطلاع، ومسيره «على التعبئة الكاملة» التي يهجم بها ساعة اللقاء بالنظام الذي كان يسير عليه، ثم يدخل في التحام قريب ولا يطيل في موقف التقاذف بالنبال والسهام.
وتقرأ في كتاب «الأسلحة وفنون التعبئة»
2
لمؤلفه ونترنجهام الذي كان محررا لمجلة الجيش والبحرية بالولايات المتحدة: «إن سرعة الحركات وقوة الإصابة وتدبير الوقاية هي الآن - كما كانت في كل زمان - بعض مفاتيح النصر التي لا شك فيها، فإذا كسبت المعارك أحيانا بالمفاجأة أو التركيز في الموضع الحاسم وفي الوقت اللازم أو المناورة البارعة، فهذه المزايا إنما تستمد مباشرة من التفوق في سرعة الحركة أو في قوة الإصابة أو في تدبير الوقاية.»
وخالد بن الوليد لم يقسم فن التعبئة هذا التقسيم حين علم أنه يضمن سرعة الحركة باقتحام الصحراء المخيفة، ويضمن المفاجأة بهذا الاقتحام، ولا يزال واثقا بالوقاية حيثما حارب وظهره إلى الصحراء أو حيثما تقدم وراء جيش مهزوم لا يتماسك له قوام. •••
ووضع الخبير الحربي المشهور ليدل هارت
3
كتابا مستقلا عن فن سوق الجيوش على طريق التورية لخصه في قوله: «إن التحرك في الوجهة المتوقعة يحفظ توازن العدو ويزيد بتثبيت هذا التوازن قدرته على المقاومة، وفي الحرب. كما في المصارعة - إنما يتأتى لك أن تغلب الخصم دون أن تزحزح قدمه وتخل توازنه باستنفاد قوتك أنت استنفادا لا يناسب الجهد الذي يلقاه خصمك، ولن يتاح النصر بهذه الوسيلة إلا بفضل الرجحان الكبير في قوتك على نحو من الأنحاء، وقد يضعف الحسم في النتيجة مع ذاك ... وعلى نقيض هذا، ينبئنا التاريخ العسكري في جميع العصور لا في عصر واحد، وفي جميع الحروب الحاسمة على التقريب، أن الإخلال بتوازن العدو نفسيا وماديا هو المقدمة التي لا محيص عنها للقضاء عليه» ...
وهذا الإخلال بالتوازن هو الغاية التي كان يتوخاها ابن الوليد، إما بالهجوم من جهتين أو ثلاث جهات، وإما بالمفاجأة التي لا تتوقع بحال من الأحوال، وإما بالكمين الذي يدخل اليأس على العدو في ساعة بالتطويق من حيث لا ينتظر التطويق.
وكل أولئك مفهوم جد الفهم أن يزلزل الأقدام ويخل التوازن، وكل ما يزلزل أقدام الإنسان في الحرب أو السلم فهو كذلك مفهوم جد الفهم من أقدم الزمان، ولكن القدرة حق القدرة هي معرفة الوقت، ومعرفة الوسيلة، ومعرفة التنفيذ متى عرف الوقت وعرفت الوسيلة، وبهذا دون غيره تتجلى «معرفة» القواد الملهمين ...
وقال خبير حربي آخر هو آرثر برني
4
في كتابه «فن الحرب» معقبا على حرب الفرس واليونان: «كانت قوة الفرس، جنودا، قائمة على الخيالة والرماة، وكانت طريقتهم في القتال أن يمطروا العدو سهاما، ثم يجترفوه بجملة من الفرسان في الوقت اللازم، وأفلحت هذه الطريقة مع أصحاب الأقواس من الميديين ، وأصحاب الرماح الراكبة من الليديين، وأصحاب المشاة الثقيلة من البابليين والمصريين، لكنها خابت مع اليونان، وكانت التبعة في خيبتها على ضعف فرق المشاة الفارسية، فإذا ما استطاع الجند الإغريق أن يقتربوا - وكل شيء يتوقف على هذا - تناولوا المشاة الفرس على عجل بسيوفهم القصيرة ودروعهم الصغيرة ...»
ولو عمم هذا الخبير القول لوجب أن يقول: إن الذي خيب طريقة الفرس مع اليونان هو الذي خيبها مع العرب من أيام ذي قار إلى أيام خالد بن الوليد، فالهجوم من قريب بالسيوف القصيرة والدروع الصغيرة هو الجنة
5
التي احتمى بها العرب من الرماة ومن الفرسان، بل ومن الفيلة في بعض الأحيان، وقد قيل في الأمثال الشعبية التي هي أصدق من قواعد الخبراء «الذي تغلب به العب به» وقد كان خالد يعلم أن الالتحام هو أنفع ضروب القتال للجندي الذي ينافح عن عقيدة ويضرب بالسلاح الخفيف، فلم يلق الفرس ولا الروم إلا في التحام.
وقد صح هنا رأي ونترنجهام مؤلف كتاب «الأسلحة وفنون التعبئة» الذي سبقت الإشارة إليه حين قال: «إن بعض الجماعات الإنسانية بطيئة التغير، ومن هذه الجماعات الممالك الآسيوية التي يحكمها ملك أو عاهل مرفوع النسب إلى السماء، فإنها تنتظم على سنن فحواها أن التغيير لا ينبغي وأن العادات المأثورة كلها حسنة قويمة، إن كل ما يعمل الآن خليق أن يعمل كما قد عمل منذ أزمان، وربما لاذت بعض الأمم التي هي أقرب إلى التقدم بفترة من فترات الراحة تستبقي فيها التقاليد والمأثورات على سنة المحافظة على القديم، فإذا برزت جماعات من هذا القبيل للقتال برزت وفي رءوس قوادها وجنودها فكرة عتيقة عن الحرب وحقيقتها، ولم يغيروا خططهم وآراءهم للانتفاع بسلاح جديد أو معرفة جديدة، ورسخت عندهم أصول رجعية للحرب أو لم تكن لهم فيها أصول على الإطلاق، ولكنهم يمضون بحكم العادة وفاقا للترتيب الذي وضع منذ عهد بعيد وإن هذه الجماعات لتخرج جيوشا ليس أسهل من تحطيمها بجيوش الأمم التي يسهل عليها اتخاذ الأساليب الجديدة ومواجهة الغير والطوارئ ...»
ولو شاء صاحب هذا الرأي لشمل الدولة الرومانية فيما حكم به على الدول الآسيوية؛ لأنها كانت تقاتل بخطط وضعها الأقدمون لها منذ قرون، وهي على هذا عاجزة عن تنفيذ القديم عجزها عن ابتكار الجديد.
وجملة القول أن خالدا كان يحارب بالقريحة الملهمة أناسا رثت عقائدهم كما رثت ملكاتهم العسكرية، فكانوا يرتبون كتائبهم وأسلحتهم في الميدان على نحو مرسوم كأنهم قائمون في مراتبهم بديوان التشريفات، وكان خالد يلبي الضرورة عفو الساعة في ترتيب كل كتيبة وكل سلاح، فإذا بدا له أن الخيالة لا تجدي في الحركة جدوى المشاة ترتبت حركات الجيش معه كما تترتب الحركات في أعضاء الجسم الشاعر بتلبية الأعصاب والجوارح لمراكز التنبيه في الدماغ، فيترجل وقد ترجل معه كل من تنفعه الحركة على قدميه في كره وفره وهجومه ودفاعه.
وإذا بدا له أن الحرب بالجماعات أنفع من الحرب بالصفوف المختلطة، فما هي إلا كلمة قالها حتى تتلاقى تلك الجماعات كل منها إلى قائدها المختار: «تمايزوا أيها الناس» فإذا هم بعد لحظات متمايزون ...
وكانت مادة القتال التي يعمل بها من جند أو سلاح تغنيه وتلبيه، فكان جنده يصبرون على الشدة ولا يروعهم فقد مفقود؛ لأنهم مؤمنون عالمون أن الموجود هو رب القائد والمقود، وكانوا يصبرون على الهزيمة؛ لأنهم عرب معودون في غزواتهم أن يكروا بعد فر، وأن يجتمعوا بعد تفرق، فهم يحسبون النكوص ضربا من التحفز للوثوب، أما خصومه فكانوا يتساقطون تباعا كما تتساقط حجارة اللعب المرصوصة إذا سقط منها الحجر الأول ... فلا تماسك بعد ابتداء السقوط ...
ومن ثم كان نمطا فريدا بين قواد التاريخ؛ لأنه يمزج الفن بالبديهة، كما يمزج فن البداوة بفن الحضارة ... وكان يقتبس ويجدد بالرأي والفطنة كما يقتبس ويجدد بغريزة موروثة من قبيلة «القبة والأعنة» يصح أن تسمى غريزة الميدان. وقد تصعب المقارنة بينه وبين قواد العصور الحديثة لاختلاف الأسلحة والمسافات، وإن كنا نعتقد أن القائد العبقري تسعفه عبقريته على اختلاف العصر والسلاح.
ولكن المقارنة بينه وبين قواد الطراز الأول من الزمن القديم تقدمه إلى المرتبة الأولى بين أكبر القواد ، ومنهم الإسكندر وبلزاريوس اللذان حاربا عدوا كعدوه في ميدان كميدانه. فالإسكندر في وقعة «أرهل» هزم جيشا فارسيا تقدر عدته بمائة ألف من الفرسان والمشاة، وبلزاريوس في وقائع أرمينية هزم جيشا فارسيا تقدر عدته بأربعين ألفا أو قرابة الأربعين ... والمقارنة بين خالد بن الوليد وهذين القائدين ترجح كفته على كفتيهما معا في هذا الميدان؛ لأن الإسكندر كان يقود خمسة وأربعين ألفا ويلزاريوس كان يقود نيفا وعشرين ألفا، وكلا الجيشين مسلح بأمضى الأسلحة في ذلك الزمان ...
وقد كان خالد يحارب بثمانية عشر ألفا جيوشا أعظم من الجيوش التي تصدى لها القائدان الكبيران، ولم يكن له مثل سلاح المقدونيين أو سلاح الرومانيين، ولم يكن نصرهما كنصره ولا العاقبة بعدهما كالعاقبة بعده، وزاد على ذلك أن انتصر مثل هذا النصر على كل عدو من العرب أو العجم، ومنهم الرومان في أكبر الميادين، ميدان اليرموك.
فكان خالد في التاريخ العسكري هو مكان الطليعة بين أكبر القواد الذين اشتهروا بالفن، أو اشتهروا بالعبقرية، أو اشتهروا بالمناقب الشخصية. وفيه من ملامح القيادة في العظائم والصغائر ما يدل على طبيعة القيادة الملهمة، وأنه كان كما يقال قائدا من فرع رأسه إلى قدميه.
فقد خالد قلنسوته يوم اليرموك، فقال: اطلبوها، فبحثوا ونظروا فلم يجدوها، فما زال يأمرهم أن يطلبوها ويلحوا في طلبها حتى وجدوها، فإذا هي خلقة لا تساوي شيئا. فسئل عن ذلك فقال: «اعتمر النبي
صلى الله عليه وسلم
فحلق رأسه فابتدر الناس شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة، فلم أشهد قتالا وهي معي إلا تبين لي النصر.»
رحمه الله! لم تفته من سمات القيادة حتى التعويذة المشهورة بين رجال الحروب ... فما زال معلوما عن كبار الجند أنهم يأنسون إلى تعويذة يعتزون بها ويستبشرون بصحبتها وهم يخوضون غمرات الموت. وما في ذلك من عجب، فليس أحوج إلى صلة بعالم الغيب من رجل يلقى الموت صباح مساء.
وقال خالد في أخريات عمره: «ما ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب، أو أبشر فيها بغلام أحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، أصبح بهم العدو، فعليكم بالجهاد.»
هذا حبيب الحرب الذي يهواها وتهواه، فله منها الصفوة التي لا تصطفي بها أحدا من الطلاب والقرناء على بغضاء.
الفصل العاشر
مفتاح شخصيته
تقدمت الإشارة إلى قصة الشبه القريب بين خالد بن الوليد وعمر بن الخطاب في ملامح الوجه وطول القامة، وأنهما كانا من التقارب بحيث يشتبه الأمر على قصير النظر وهو يتكلم إليهما، فيخاطب عمر بن الخطاب وهو يظن أنه يخاطب خالد بن الوليد.
ويلوح لمن يقرأ سيرة الرجلين أن الشبه بينهما يتعدى الملامح والقامة إلى معالم الشخصية وطبائع القوة النفسية، فكلاهما يجوز أن يقال فيه إنه «جندي» بالفطرة وإن «مفتاح شخصيه» هو السليقة الجندية، فإذا أحضرنا في أخلادنا كلمة «الجندي» أو الجندي المطبوع لم نجد في ابن الخطاب ولا في ابن الوليد صفة لا تحتويها هذه الكلمة في معنى من معانيها ...
وبين الرجلين فارق لا خفاء به في الخلق والتفكير.
لكنه فارق لا يخرج بهما من نطاق هذه الطبيعة، فكلاهما جندي مطبوع على الخلائق الجندية، ولكن ابن الخطاب تغلب عليه، من مزاج الجندي، ناحيته الروحية أو ناحية الضمير، وابن الوليد تغلب عليه، من هذا المزاج نفسه، ناحية الحيوية أو ناحية البنيان والتركيب ...
وأصح من هذا أن نقول: إن عمر كان جنديا في أخلاقه الوازعة الحاكمة، وإن خالدا كان جنديا في أخلاقه الدافعة الهاجمة. وفي الجنود، كما لا يخفى، هذه الأخلاق وهذه الأخلاق.
ولا ريب أن هذا الفارق بين الفاروق وسيف الله إنما هو قبل كل شيء فارق بين نفسين، أو بين رجلين، أو بين «شخصيتين».
لكن هذا لا يمنع أن يكون في الوقت نفسه فارقا بين «قبيلتين»وبين أسرتين وبين نشأتين ... فإن الفوارق بين بني عدي قبيلة عمر وبين بني مخزوم قبيلة خالد لخليقة أن تتجه بالمزاج المتقارب وجهتين متباينتين ...
فبنو عدي - آل عمر - كانوا في الجاهلية أهل تحكيم ومعرفة بالفصل في الخصومات وقد ذاقوا، كما قلنا في «عبقرية عمر»، «طعم الظلم من أقربائهم بني عبد شمس، وكانوا أشداء في الحرب يسمونهم لعقة الدم، ولكنهم غلبوا على أمرهم لقلة عددهم بالقياس إلى عدد أقربائهم ... فاستقر فيهم بغض القوي المظلوم للظلم وحبه للعدل الذي مارسوه ودربوا عليه ...»
أما بنو مخزوم - آل خالد - فكانوا على خلاف ذلك أهل حرب وسطوة وأصحاب ثراء ورخاء، وكانوا في الجاهلية موكلين بالخيل والسلاح، معتزين بالعتاد التليد، والعدة والعديد.
وكان ثراؤهم يملي لهم في أسباب الترف والنعيم كما تملي لهم فيه مزية أخرى من المزايا التي تكلفها للقبيلة عزة السلطان وطول العهد بالحضارة والرئاسة ... وتلك المزية هي جمال النساء.
فقد كان يقال: إن «المخزوميات» رياحين العرب.
وكان في رجالهم ذلك الغزل الذي أخرج منهم شاعره الأول عمر بن أبي ربيعة، بل أخرج منهم غزلين ظرفاء حتى في النساء والأتقياء ...
جاء في كتاب الأغاني عن أبي السائب المخزومي: «أنه كان رجلا صالحا زاهدا متقللا يصوم الدهر، وكان أرق خلق الله وأشدهم غزلا، فوجه ابنه يوما يأتيه بما يفطر عليه، فأبطأ الغلام إلى العتمة، فلما جاء قال له: يا عدو نفسه، ما أخرك إلى هذا الوقت؟ قال: جزت بباب بني فلان فسمعت منه غناء فوقفت حتى أخذته. فقال: هات يا بني، فوالله لئن كنت أحسنت لأحبونك ولئن كنت أسأت لأضربنك، فاندفع يغني بشعر كثير:
ولما علوا شغبا
1
تبينت أنه
تقطع من أهل الحجاز علائقي
فلا زلن حسرى ظلعا قد حملنها
إلى بلد ناء قليل الأصادق
فلم يزل يغنيه إلى نصف الليل، فقالت له زوجته: قد انتصف الليل وما أفطرنا. قال لها: أنت طالق إن كان فطورنا غيره. فلم يزل يغنيه إلى السحر. فلما كان السحر قالت زوجته: هذا السحر وما أفطرنا، فقال: أنت طالق إن كان سحورنا غيره، فلما أصبح قال لابنه: خذ جبتي هذه وأعطني خلقك ليكون الحباء فضل ما بينهما. فقال له: يا أبت أنت شيخ وأنا شاب. وأنا قوي على البرد منك. قال: يا بني ... ما ترك صوتك هذا للبرد علي سبيلا ما حييت.»
واطرح كل ما في هذه القصة من المبالغة والإغراق تبق منها بقية كافية لبيان مكان الغزل من نساك بني مخزوم، فضلا عن الشعراء والظرفاء.
وندع القبيلة إلى الأسرة فيتراءى لنا في النظرة الأولى ذلك الاختلاف الذي لا بد منه بين معيشة الخطاب ومعيشة الوليد، أو بين معيشة الرجل الكادح لنفسه الخشن في ملمسه، وبين معيشة الرجل المترف الفخور بالمال والبنين والجاه المكين.
لكنه مع هذا فرق في المعيشة لا يتغلغل إلى بواطن الطباع، إنما الفرق المتغلغل إلى بواطن الطباع، بل إلى أعمق أعماقها، وهو فرق البنية العصبية بين أبناء الخطاب وأبناء الوليد.
فمن أوصاف أبناء الوليد عامة ينكشف لنا «قلق عصبي» في هذه الأسرة قد تطرف جد التطرف في أفراد منها، واعتدل بعض الاعتدال في آخرين ...
فعمارة بن الوليد هو الذي بلغ منه الاضطراب أن يراود امرأة في محضر زوجها، وأن يجترئ على حرم النجاشي بالمغازلة، ثم يجترئ بالتحدث عن هذه المغازلة حديث الفخر والمباهاة، ثم ينطلق مع الأوابد في الآجام بفعل السواحر كما قيل، وهو قول لا يخفى مدلوله في لغة العصر الحديث ...
وذكر عن خالد كما ذكر عن أخيه الوليد أنه كان يتفزغ في نومه. فذاك أثر من آثار «أعصاب الأسرة» كلها على ما هو واضح من جملة المشاهدات في أبنائها، وإن كان يجمح بهم في حين ويكبح في حين ...
وقد كان خالد يغضب فينقع لونه كما جاء في كتب الفتوح من حديث المغاضبة بينه وبين أبي عبيدة بعد تسليم دمشق ومصالحة أهلها، وقد كانت علة المغاضبة أن أبا عبيدة يحسب التسليم صلحا، وخالدا يحسبه غلبا يحق فيه على المغلوب جزاء السبي والاغتنام والقصاص ...
وكانت في خالد حدة يملكها أو تملكه آونة بعد آونة، وفي القليل الذي بلغنا إشارة إلى الكثير الذي لم يبلغنا. فقد غاضب أبا عبيدة وغاضب عبد الرحمن بن عوف وغاضب عمار بن ياسر. وقال له عمار وقد سمع منه ما ساءه: «لقد هممت ألا أكلمك أبدا» فأصلح بينهما النبي - عليه السلام - وهو يقول لخالد: «يا خالد ... مالك ولعمار ... رجل من أهل الجنة قد شهد بدرا.» ثم يقول لعمار: «إن خالدا يا عمار سيف من سيوف الله على الكفار.»
فهذا الفارق بين الأسرتين، وذلك الفارق بين القبيلتين، مفسران صالحان لاختلاف لوني «الجندية» في شخصية الرجلين العظيمين. عمر إلى الجندية الموزوعة وخالد إلى الجندية المدفوعة، وعمر إلى الشظف المختار وخالد إلى المتاع المباح.
ولا يرد إلينا العجب بعد هذا أن يكون شعور خالد بالمرأة هو شعوره ذاك الذي أهدفه للملاحظة والمؤاخذة مرات، وجعل من مؤاخذيه أرغب الناس في عذره والثناء عليه، ونعني به الخليفة الصديق.
وقد كان هذا الشعور لازمه ما يلازم أبناء الثراء من حب الرفاهية وبهجة الحياة، فلم يفرغ من الحرب قط إلا انقلب منها إلى واد ظليل في صحبة زوج محببة إليه، فقضى في وادي الوبر باليمامة أيام الدعة بين زوجيه بنت مجاعة وبنت المنهال، وقضى في دومة الجندل أيام الهدأة بين الوقائع في صحبة ابنه الجودي الحسناء، واستطاب المقام بحمص بعد العزل وآثره على المقام بالحجاز، وأغضب الفاروق؛ لأنه «كان يدخل الحمام فيتدلك بعد النورة بثخين معجون بخمر» فلما لامه الفاروق في ذلك قال: إنا قتلناها فعادت غسولا غير خمر، ثم قال يخاطب عمر:
سهل أبا حفص فإن لديننا
شرائع لا يشقى بهن المسهل
وهل يشبهن طعم الغسول وذوقه
حميا الخمور، والخمور تسلل
وفي كل أولئك هو سليل حق لبني مخزوم ولبيت الوليد، وترجمان صدق لتلك البنية العصبية المتفززة التي تجنح به إلى المتعة في أيام الدعة كما تجنح به إلى البطش في مقام الجلاد والعناد، وتفسر لنا الجندي الذي تميل به القوة الحيوية تارة إلى لقاء الحسان وتارة إلى لقاء الأقران.
وهو نفسه قد أبان عن طويته كلها غير عامد حين قال: «ما ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب أو أبشر فيها بغلام أحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم العدو، فعليكم بالجهاد ...»
فالحرب عنده اشتهاء، والعروس عنده غاية المتاع ...
والحرب في رأيه حسناء تشتهى أبدا ولا تشيب كصاحبة الزبيدي التي تكون مبدئها «فتية تسعى بزينتها لكل جهول» ثم تصبح:
شمطاء جزت شعرها وتنكرت
مكروهة للشم والتقبيل
وأيا كانت متعته بالمرأة الحسناء أو بالمقام الوثير، فهي متعة القوي اليقظان وليست بمتعة الضعيف المستنيم.
هي متعة المسافر الذي يستريح إلى الواحة؛ لينفض عنه الجهد ويتزود منها لجهد جديد، وليست متعة المتهافت الذي يتوق إلى مهاد الراحة لينغمس فيها ويستكين إليها ولا يفيق من سكرتها.
بل هو يحب المتعة؛ لأنه يحب الجهاد، فإذا طالت عافها وبرم بها واحتواها، وأنف أن يقنع بها ويستمرئها ... فلم يطق سنة واحدة بالحيرة بين حروب فارس وحروب الروم، وسماها «سنة نساء»؛ لأنها كانت راحة من العناء، مع أنها كانت راحة المتربص المتوفز، وكانت راحة يتخللها وثبات وضربات من هنا وهناك ...
وهكذا كان يأخذ من المتعة بأيسر المقادير، ليأخذ من الشدة والبأس بأوفر المقادير ...
لأن طبيعته القوية هيأته للشدة وبأس قبل كل شيء، وما بقي من الطبيعة للرياضة فقد أتمته الرياضة بعزيمة الجبابرة التي لا تلين. باستمراء ما لا مراءة فيه من طعام وشراب، ويأكل الضب وشرب السم ومطاولة الركوب أياما بعد أيام ...
لا جرم يكون أكبر الأسى لتلك النفس في ساعة الموت أنها تموت على الفراش أو على حد قوله كما يموت البعير: «لقد طلبت القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي ... ولقيت الزحوف وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء ...»
وأقرب شيء أن يلاحظ في سيرة خالد - من نشأته إلى وفاته - أن هذا الولع كله بالحرب لم يكن ولعا بالشر والسوء، ولا ولعا بالضغينة والبغضاء. فكانت عداوته كلها عداوات جندي مقاتل، ولم تكن عداوات مضطغن آثم ... ولم يعرف قط عنه أنه حمل الضغينة لأحد من الناس، ولو أنه اضطغن على أحد لكان أحق الناس أن يضطغن عليه عمر بن الخطاب؛ لأنه عزله وشطر ماله وأبقاه في العزلة سنوات، ولكنه لم يعمل عملا واحدا ولم يقل كلمة واحدة تدل على ضغن عليه. وقد سامحه والتمس له المعذرة وعلم أنه قد أراد وجه الله بما حاسبه عليه، وكان أشد ما قاله فيه: «الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت وكان أحب إلي من عمر، والحمد لله الذي ولى عمر وكان أبغض إلي من أبي بكر ثم ألزمني حبه»، وربما ذكره وهو غاضب فسماه «الأعيسر بن أم شملة» فكانت هذه الكلمة أدل على التحبب منها على الكراهة، ولاحت كأنها كلمة المغلوب في لعبة لا في غرض عظيم يقعد ويقيم ...
وقد يمكن كثيرا أن تتسع هوة البعد بين الولع بالحرب والولع بالشر والضغينة، وإنها لأولى أن تتسع بينهما حيث تكون الحرب ميدان التضحية والفداء في سبيل الغيرة القومية أو في سبيل الإيمان والضمير، وحيث يكون الرجل قد تربى على مراسها وطبع في نفسه على مزاج يألف القتال ولا ينفر منه. وليس في المجتمعات الإنسانية التي تصبح الحرب فيها ضرورة من ضرورات الحياة والشرف باعث إلى النفرة من القتال، ولن تزال القدرة على الحرب شرفا وشجاعة إلى آخر الزمان، ما دام في بني الإنسان من يحمل السلاح للعدوان والبغي والتلصص والمراء، فيتقيه بنو الإنسان بمن يحمل السلاح للحق والعقيدة والإنصاف.
وعلى كثرة من قتل خالد في حروبه لم يكن يقتل أحدا قط وهو يشك في صواب قتله وإن أخطأ وجه الصواب، فالقتلى الذين طاحت بهم سيوف الجلادين بأمره في «نهر الدم» كانوا يستحقون عنده القتل قربانا إلى الله وجزاء لهم على عناد الشرك والإصرار.
أما إذا شك في صوابه فهو يستكثر المساءة إلى رجل واحد فضلا عن الجحافل والقبائل، ويسبق إلى الرفق رجلا كأبي عبيدة عرف طوال حياته بالرفق والرحمة والأناة. فيقول له وقد تناول رجلا بشيء: «إني لم أرد أن أغضبك، ولكني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة أشد الناس عذابا للناس في الدنيا».»
فهو مطبوع على عداء الجندي المقاتل وليس بالمطبوع على عداء الدسيسة والشر في صغائر العيش وسفاسف الأمور.
كذلك لا يفهم من ولعه بالحرب على هذه الصفة أنه كان مبتلى بذلك الولع الأهوج الذي يبتلى به من لا يعقلون هجوما إلا كهجوم الريح أو فرارا إلا كفرار الحيوان.
فقد كان يقدم عن علم بمواضع الإقدام؛ ولذلك لم ينهزم قط وهو مسئول عن الهزيمة ... وإنما هزم في حنين مرة واحدة وهو مسئول عن اليوم كله كما قدمناه.
أما إذا وجب التراجع، فالشجاعة كل الشجاعة عنده أن يؤمن بهذه الحقيقة وأن يدبر أمر التراجع بعد ذلك على النحو الذي يصون الكرامة ويصون الدماء، ويكون المخدوع المغلوب فيه هو الذي أمكن التراجع من بين يديه، وقد كان في وسعه أن يبطش بالمتراجعين جميعا قبل أن يفلتوا من أوهاقه المطبقة عليهم.
هذه هي الجندية البصيرة بمزاياها في الكفة الراجحة والكفة المرجوحة أو هذه هي الجندية الغالبة أبدا وهي في إقدام أو في إحجام.
ولقد كادت هذه الطبيعة الجندية أن تحيط بكل ما رزق من طبيعة حية. فمن أقواله: إن الجهاد شغلني عن تعلم القرآن، أو قراءة كثير من القرآن ...
وعذره في ذلك حين قال ذلك المقام أنه لم يقض في ملازمة النبي غير أوقات جد قصار؛ لأنه شغل السنوات الثلاث التي قضاها مع النبي بعد إسلامه وهو بين السرايا والغزوات.
وقد كان يخطب ويكتب ويقول الأبيات من الشعر والرجز على مثال ما قدمناه، ولكنها الخطب والكتب التي يستطيعها العربي الفصيح الناشئ في كنف الفصحاء، ثم هي كلها ملحقة بوظيفة الجندية فيه فإذا قال كلمة أو كتب سطرا فكان يكتب بحسام لا بيراع.
كتب إلى مرازبة فارس فقال: «الحمد لله الذي فض ملككم وأذل عزمكم، فإذا أتاكم كتابي هذا فابعثوا إلي الرهن واعتقدوا منا الذمة وأجيبوا إلى الجزية، وإلا والله الذي لا إله إلا هو لأسيرن إليكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا ...»
وخطب في المسلمين وقد تهيبوا طروق المفازة من العراق إلى الشام فقال: «لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أن المعونة تأتي على قدر النية، والأجر على قدر الحسنة، وأن المسلم لا ينبغي له أن يكترث لشيء فيه مع معونة الله له.»
ويسمع الكلمة فيردها بالجواب المسكت كأنه يتلقى ضربة سيف بضربة سيف، كما قال حين سمع صائحا في المعسكر يصيح: «ما أكثر الروم وأقل المسلمين.»
فلم يكن أسرع منه إلى أن يقول: «بل ما أقل الروم وأكثر المسلمين: إن الجيوش إنما تكثر بالنصر وتقل بالخذلان.»
فكل كلمة منه فإنما هي ضربة سيف في صورة حروف ونبرات.
ومن الملاحظات الجديرة باستقراء علم النفس أنه على التشابه بينه وبين عمر كان في عمر جانب فكاهة وإن كانت خشنة غليظة، ولم يكن فيه هو مثل هذا الجانب في عمله أو كلامه.
وقد كان الأدنى إلى الظن - عند النظرة الأولى - أن تنمو الفكاهة مع الرجل الذي نشأ في مهد اليسار ولا تنمو مع الرجل الذي نشأ على العسر أو اليسر القليل.
لكنها النظرة الأولى ولا تتعداها ...
لأن الإعسار في الواقع أعون على الفكاهة من اليسار. ومن هنا كان ولع الناس بالفكاهة في أيام الحروب وأزمات الشدة ومظالم الاستبداد، كأنها ضرب من التعويض والمقابلة ولا غرابة في ذلك حيث ننظر إلى منشأ الفكاهة في جملتها، فهي على أكثرها وليدة المفارقة بين الحالات وليست وليدة الموافقة الموائمة، وما أكثر المفارقات في حياة المعسرين.
ولعلنا نبلغ مقطع القول في هذه الملاحظة حين نقول: إن الموسر أقدر على التسلية والمعسر أقدر على الفكاهة. وبين التسلية والفكاهة فرق غير مجهول. رحم الله خالدا ... إنه كان جنديا وكفى!
لكنه قد عوض في جانبه الواحد عن جوانب عدة في الآخرين؛ لأنه قد رزق الجندية في طرازها الأول، ورزق منها وحده ما يكفي عشرة من جنود التاريخ المبرزين.
الفصل الحادي عشر
نهاية من صنع القدر
قضى خالد بقية أيامه بعد عزله في مدينة حمص - زهاء سنوات أربع - لم يفارقها قليلا إلا ليعود إليها.
وعاش هناك بين أهله وولده وهم كثيرون.
وكأنما كانت للموت ضريبة مقضية على هذا القائد الكبير يطالبه بها في حربه وسلمه حيث كان. فمات من أولاده نحو أربعين في سنة الطاعون.
ولم ترو لنا كلمة قالها خالد في موت هؤلاء الأبناء الكثيرين، وهو الرجل الذي كان التبشير بغلام عنده فرحا من أكبر أفراح الحياة. فكأنما ألف وجه الموت لطول ما واجهه من قريب. فهو لا يلقاه أبدا لقاء غريب مريب ... •••
وتعقب الموت أبناءه الذين بقوا بعد الطاعون وأشهرهم المهاجر من حزب علي وعبد الرحمن من حزب معاوية ... فمات المهاجر في صفين ومات عبد الرحمن مسموما على ما قيل؛ لأنه رشح للخلافة قبل أن يرشح يزيد بن معاوية لولاية العهد فسقاه معاوية السم على يد الطبيب بن أثال ...
وما هي إلا فترة حتى انقرضت ذرية هذا القائد الكبير - صاحب الموت والقدر - فورث دورهم بالمدينة أحد أبناء أخيه.
وانتهت حياة خالد - رضي الله عنه - نهايتها العجيبة، بين سنة إحدى وعشرين واثنتين وعشرين.
والنهاية العجيبة لحياة مثله أن يموت على فراشه - كما قال - بعد أن شهد نيفا وخمسين زحفا في نجد والحجاز والعراق والشام، ولم يبق في جسمه مصح من كثرة الجراح.
وليس هذا كل ما في موته من «غير المألوف» أو غير المنظور، فإنه مات ولم يجاوز الخامسة والخمسين على أرجح تقدير. وليست هي بالسن التي تنتهي بها الحياة بغير مرض شديد، فإن كان قد ألم به مرض عارض غير مميت في جملة أطواره فلعله قد أتم ما بدأه الحزن على الأبناء، والفتور من الراحة، وذلك الاضطراب الذي كان يفزعه في نومه وينتقع منه لونه إذا غضب أو ثار.
ولم يوجد في بيته عند موته غير فرسه وغلامه وسلاح وقفه للجهاد في سبيل الله. فلما بلغ ذلك عمر قال: رحم الله أبا سليمان كان على غير ما ظنناه به ... ونكس مرارا وهو يسترجع كلما رفع رأسه، ثم قال: كان والله سدادا لنحور العدو ميمون النقيبة. •••
وقد كان حزن عمر عليه حزن قريب وحزن مسلم وحزن خليفة. قال لأمه: عزمت عليك ألا تبيتي حتى تسودي يديك من الخضاب.
واجتمع بنات عمه يبكين فقيل لعمر: «أرسل إليهن فانههن. فقال دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة. على مثل أبي سليمان تبكي البواكي.»
ولما سئل عمر أن يعهد بعد موته قال: لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح ثم وليته ثم قدمت على ربي فقال لي: لم استخلفته على أمة محمد؟ لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول: لكل أمة أمين وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، ولو أدركت خالدا ثم وليته ثم قدمت على ربي فقال لي: من استخلفت على أمة محمد؟ لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول لخالد: سيف من سيوف الله سله الله على المشركين ...
ولعمري، إن «سيف الله» قد استحق هذه التزكية وهو في الغمد كما استحقها وهو مشهور.
فليست سنوات العزلة بأخف السنوات وزنا في سيرة خالد بن الوليد.
إن الحوادث قد وعظته بها فاتعظ في صبر وأناة. فلم يغلبه لسانه ولم يغلبه هواه، ولم يتحرك لكيد ولا لشغب ولا لمذمة ولا لوقيعة، ولو شاء بعض ذلك لكان له مطمع فيه، وهو الرجل الذي طبقت شهرته آفاق المسلمين وغير المسلمين.
نعم، إنه لا فتنة وابن الخطاب حي كما قال، وإن الفتنة إنما تخشى «إذا كان الناس بذي بلي» أو في معرض الفرقة والنزاع وعصيان الأئمة أو انقطاع الإمام.
ولكن إدراك هذا وحده مفخرة من المفاخر، وليس كل إدراك كهذا الإدراك بالذي يغلب الهوى ويقمع النزوات.
فلا جرم يرشح الفاروق خالدا للخلافة كما رشح لها أبا عبيدة، ولا جرم يعرف سيف الله في الغمد كما عرفه وهو في يمين البطل الجسور. فإن يكن خالد مخشي المزاحمة على الخلافة في ظن من الظنون فليس هو بمخشي عليها وقد وصلت إليه معهودا إليه خالصة من الزحام، وقد استحقها بعد أكبر مستحقيها وريض لها سنوات تجرد فيها من سورة الشباب وبعد ما بينه وبين نشأة الجاهلية، وقرب ما بينه وبين الله. •••
لقد مات - نصير الموت - مطمئنا إلى نهاية حياته، لا يكره منها إلا أنها انتهت به على فراشه.
ولكننا - أبناء آدم - نكره كثيرا ما يكون من حقنا أن نتمناه. وما كان لخالد أمنية قد بقيت له في ميدان الكفاح يتمناها. لقد عرفه الناس حق عرفانه وهو الكريم الشجاع، ولم يبق له إلا أن يعرفوه في ميدان العزلة وهو الشجاع الصبور ...
وقد عرفوه على هذه الصفة في ميدان حمص - ميدان السلم والتسليم - خير عرفان وأجدره بماضيه العظيم وتاريخه الخالد المقيم.
Page inconnue