Le génie de l'Imam Ali
عبقرية الإمام علي
Genres
وصدق في تقواه وإيمانه كما صدق في عمل يمينه ومقالة لسانه، فلم يعرف أحد من الخلفاء أزهد منه في لذة دنيا أو سيب دولة، وكان وهو أمير للمؤمنين يأكل الشعير وتطحنه امرأته بيديها، وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير، فيقول: «لا أحب أن يدخل بطني ما لا أعلم» ... قال عمر بن عبد العزيز وهو من أسرة أمية التي تبغض عليا، وتخلق له السيئات وتخفي ما توافر له من الحسنات: «أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.» وقال سفيان: «إن عليا لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة.» وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة إيثارا للخصاص التي يسكنها الفقراء، وربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام، وروى النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة قال: «دخلت على علي - عليه السلام - فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته وكسر يابسة، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأكل مثل هذا؟ فقال لي: يا أبا الجنوب، كان رسول الله يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا - وأشار إلى ثيابه - فإن لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به» ...
وعلى هذا الزهد الشديد كان علي - رضي الله عنه - أبعد الناس من كزازة طبع وضيق حظيرة وجفاء عشيرة، بل كانت فيه سماحة يتبسط فيها حتى يقال دعابة، وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال له: «لله أبوك لولا دعابة فيك.» وأنه قال لمن سألوه في الاستخلاف: «ما أظن إلا أن يلي أحد هذين الرجلين: علي أو عثمان، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة، وأحر به أن يحملهم على الطريق.» •••
وأغرق ابن العاص في وصف الدعابة فسماها «دعابة شديدة»، وطفق يرددها بين أهل الشام ليقدح بها في صلاح الإمام للخلافة، وإنما نقول: إن ابن العاص أغرق في هذا الوصف، وإن الدعابة المعيبة لم تكن قط من صفاته؛ لأن تاريخ علي وأقواله ونوادره مع صحبه وأعدائه محفوظة لدينا، لا نرى فيها دليلا على خلق الدعابة فضلا عن الدليل على الإفراط فيه ... فإن كان لهذا الوصف أثر أجاز لعمر بن الخطاب أن يذكره، فربما كان مرجع ذلك أن عليا خلا من الشغل الشاغل سنين عدة، فأعفاه الشغل الشاغل من صرامته، وأسلمه حينا إلى سماحته وأحاديث صحبه ومريديه، فحسبت هذه الدعة من الدعابة البريئة ثم بالغ فيها المبالغون، ولم يثبتوها بقصة واحدة أو شاردة واحدة تجيز لهم ما تقولوه.
وقد كانت للإمام صفات ومزايا فكرية تناصي المشهور المتفق عليه من صفاته النفسية ومزاياه الخلقية، فاتفق خصومه وأنصاره على بلاغته، واتفقوا على علمه وفطنته، وتفرقوا فيما عدا ذلك من رأيه في علاج الأمور ودهائه في سياسة الرجال.
والحق الذي لا مراء فيه أنه كان على نصيب من الفطنة النافذة لا ينكره منصف، وأنه أشار على عمر وعثمان أحسن المشورة في مشكلات الحكم والقضاء، وأنه أشبه الخلفاء بالباحثين والمنقبين أصحاب الحكمة ومذاهب التفكير، وعنه أخذ الحكماء الذين شرعوا علم الكلام قبل أن يتطرق إليه علم فارس أو علم يونان ... وكان يفهم أخلاق الناس فهم العالم المراقب لخفايا الصدور، ويشرحها في عظاته وخطبه شرح الأديب اللبيب ...
إلى هنا متفق عليه لا يكثر فيه الخلاف، ثم يفترق الناس في رأيه رأيين وإن لم يكونوا من الشانئين المتحزبين، فيقول أناس: إنه كان على قسط وافر من الفهم والمشورة، ولكنه عند العمل لا يرى ما تقضي به الساعة الحازبة، ولا ينتفع بما يراه. ويقول أناس: بل هو الاضطرار والتحرج يقيدانه ولا يقيدان أعداءه وإنهم لدونه في الفطنة والسداد. وهو - رضي الله عنه - قد اعتذر لنفسه بمشابه من هذا العذر حين قال: «والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس» ... •••
أما مقطع الرأي بين الرأيين فنرجو أن نفصله في مواضعه من الفصول التالية مشفوعا بمناسباته، ولكننا نستطيع أن نجزم هنا بحقيقتين تجملان ما نبسطه في مواضعه من الكتاب، ولا نحسبهما تتسعان لجدل طويل، وهما أن أحدا لم يثبت قط أن العمل بالآراء الأخرى كان أجدى وأنجع في فض المشكلات من العمل برأي الإمام، وأن أحدا لم يثبت قط أن خصوم الإمام كانوا يصرفون الأمور خيرا من تصريفه، لو وضعوا في موضعه واصطلحت عليهم المتاعب التي اصطلحت عليه، وكلتا الحقيقتين حرية أن تضبط لسان الميزان قبل أن يميل، فيغلو به الميل هنا أو هناك.
هذه صفات تنتظم في نسق موصول: رجل شجاع لأنه قوي، وصادق لأنه شجاع؛ وزاهد مستقيم لأنه صادق، ومثار للخلاف لأن الصدق لا يدور بصاحبه مع الرضا والسخط والقبول والنفور، وأصدق الشهادات لهذا الرجل الصادق أن الناس قد أثبتوا له في حياته أجمل صفاته المثلى، فلم يختلفوا على شيء منها إلا الذي اصطدم بالمطامع، وتفرقت حوله الشبهات، وما من رجل تتعسف المطامع أسباب الطعن فيه ثم تنفذ منه إلى صميم.
مفتاح شخصيته
«آداب الفروسية» هي مفتاح هذه الشخصية النبيلة، الذي يفض منها كل مغلق ويفسر منها كل ما احتاج إلى تفسير.
Page inconnue