تقديم
صفاته
مفتاح شخصيته
إسلامه
عصر الإمام
البيعة
سياسته
حكومته
النبي والإمام والصحابة
ثقافته
في بيته
صورة مجملة
تقديم
صفاته
مفتاح شخصيته
إسلامه
عصر الإمام
البيعة
سياسته
حكومته
النبي والإمام والصحابة
ثقافته
في بيته
صورة مجملة
عبقرية الإمام علي
عبقرية الإمام علي
تأليف
عباس محمود العقاد
تقديم
في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه ...
لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما اتجه إليه الخطاب البليغ من سير الأبطال والعظماء، وتثير فيه أقوى ما يثيره التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقع العبرة والتأمل.
في سيرة ابن أبي طالب ملتقى بالعاطفة المشبوبة، والإحساس المتطلع إلى الرحمة والإكبار ... لأنه الشهيد أبو الشهداء، يجري تاريخه وتاريخ أبنائه في سلسلة طويلة من مصارع الجهاد والهزيمة، ويتراءون للمتتبع من بعيد واحدا بعد واحد شيوخا جللهم وقار الشيب، ثم جللهم السيف الذي لا يرحم، أو فتيانا عوجلوا وهم في نضرة العمر يحال بينهم وبين متاع الحياة، بل يحال بينهم أحيانا وبين الزاد والماء، وهم على حياض المنية جياع ظماء ... وأوشك الألم لمصرعهم أن يصبغ ظواهر الكون بصبغتهم وصبغة دمائهم، حتى قال شاعر فيلسوف كأبي العلاء لا يظن به التشيع، بل ظنت بإسلامه الظنون:
وعلى الأفق من دماء الشهيد
ين علي ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجرا
ن، وفي أولياته شفقان
وهذه غاية من امتزاج العاطفة بتلك السيرة قلما تبلغها في سير الشهداء غاية، وكثيرا ما تتعطش إليها سرائر الأمم في قصص الفداء التي عمرت بها تواريخ الأديان ...
وفي سيرة ابن أبي طالب ملتقى بالخيال، حيث تحلق الشاعرية الإنسانية في الأجواء أو تغوص في الأغوار، فهو الشجاع الذي نزعت به الشاعرية الإنسانية منزع الحقيقة ومنزع التخيل، واشترك في تعظيمه شهود العيان وعشاق الأعاجيب ... ألم يحارب المردة في فلواتها؟ ... ألم يخلق له الرواة أندادا من المناجزين والمبارزين لم يخلقهم الله؟ ... ألم يستصغر عليه المحبون الغالبون في الحب أن يصرع من عرفنا من خصومه، فأنشئوا له من الخصوم المغلوبين من لم يعرفهم ولم يعرفوه؟ ... ألم يوشك من وصفوه ووصفوا وقعاته وفتكاته أن يلحقوه بأبطال الأساطير، وهو هو أصدق الأبطال في أصدق مجال.
وتلتقي سيرته - عليه رضوان الله - بالفكر كما تلتقي بالخيال والعاطفة؛ لأنه صاحب آراء في التصوف والشريعة والأخلاق سبقت جميع الآراء في الثقافة الإسلامية؛ ولأنه أحجى الخلفاء الراشدين أن يعد من أصحاب المذاهب الحكيمة بين حكماء العصور؛ ولأنه أوتي من الذكاء ما هو أشبه بذكاء الباحثين المنقبين منه بذكاء الساسة المتغلبين، فهو الذكاء الذي تحسه في الفكرة والخاطرة قبل أن تحسه في نتيجة العمل ومجرى الأمور ...
وللذوق الأدبي - أو الذوق الفني - ملتقى بسيرته كملتقى الفكر والخيال والعاطفة؛ لأنه - رضوان الله عليه - كان أديبا بليغا له نهج من الأدب والبلاغة يقتدي به المقتدون، وقسط من الذوق مطبوع يحمده المتذوقون، وإن تطاولت بينه وبينهم السنون، فهو الحكيم الأديب، والخطيب المبين، والمنشئ الذي يتصل إنشاؤه بالعربية ما اتصلت آيات الناثرين والناظمين ...
وللنفس الإنسانية نواحيها الكثيرة غير نواحي العطف والتخيل والتفكير، وتذوق الحسن الجميل من التعبير.
فمن نواحيها الكثيرة ناحية لم تنقطع قط في زمن من الأزمان، وهي ناحية الخلاف بين الطبائع والأذهان، أو ناحية الخصومة الناشبة أبدا على رأي من الآراء، أو حق من الحقوق، أو وطن من الأوطان.
فقد يفتر العقل والذوق بعض حين، وقد يفتر الخيال والعاطفة بعض حين، ولكن الذي لم يفتر قط ولا نخاله يفتر في حين من الأحايين خصام العقول، وجدل الألسنة واختلاف المختلفين، وتشيع المتشيعين.
وإن ها هنا للمجال الرغيب والملتقى القريب في سيرة هذا الإمام الأوحد، التي لا تشبهها سيرة في هذه الخاصة بين شتى الخواص، وهو - رضوان الله عليه - قد قال في ذلك أوجز مقال حين قال: «ليحبني أقوام حتى يدخلوا النار في حبي، ويبغضني أقوام حتى يدخلوا النار في بغضي» ... أو حين قال: «يهلك في رجلان: محب مفرط بما ليس في، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني.»
وصدق الإمام الكريم في غلو الطرفين من محبيه ومن مبغضيه، فقد بلغ من حب بعضهم إياه أن رفعوه إلى مرتبة الآلهة المعبودين، وبلغ من كراهة بعضهم إياه أن حكموا عليه بالمروق من الدين: هنا الروافض الغلاة يعبدونه وينهاهم عن عبادته فلا يطيعونه ... ويستتيبهم فيصرون على الكفر أي إصرار، ويأمر بإحراقهم فيقولون وهم يساقون إلى الحفيرة الموقدة: إنه الله وإنه هو الذي يعذب بالنار! ...
وهناك الخوارج الغلاة يعلنون كفره ويطلبون منه التوبة إلى الله عن عصيانه ... ويسبونه على المنابر كما سبه خصومه الأمويون، الذين خالفوهم في العقيدة ووافقوهم على السباب ...
ميدان من ميادين الملاحاة لم يتسع قط ميدان متسعه في تواريخ الأبطال المعرضين للحب والبغضاء: يقول أناس: إله، ويقول أناس: كافر مطرود من رحمة الله! ...
وناحية أخرى من نواحي النفس الكثيرة تلاقيها سيرة الإمام في أكثر من طريق: وتلك هي ناحية الشكوى والتمرد، أو ناحية الشوق إلى التجديد والإصلاح ...
فقد أصبح اسم علي علما يلتف به كل مغصوب، وصيحة ينادي بها كل طالب إنصاف، وقامت باسمه الدول بعد موته؛ لأنه لم تقم له دولة في حياته، وجعل الغاضبون على كل مجتمع باغ وكل حكومة جائرة، يلوذون بالدعوة العلوية كأنها الدعوة المرادفة لكلمة الإصلاح، أو كأنها المنفس الذي يستروح إليه كل مكظوم ... فمن نازع في رأي ففي اسم علي شفاء لنوازع نفسه، ومن ثار على ضيم ففي اسم علي حافز لثورته ومرضاة لغضبه، ومن واجه التاريخ العربي بالعقل أو بالذوق أو بالخيال أو بالعاطفة، فهناك ملتقى بينه وبين علي في وجه من وجوهه، وعلى حالة من حالاته، وتلك هي المزية التي انفرد بها تاريخ الإمام بين تواريخ الأئمة الخلفاء، فأصبحت بينه وبين قلوب الناس وشائج تخلقها الطبيعة الآدمية إن قصر في خلقها التاريخ والمؤرخون.
وكل ملتقى من هذه الملتقيات يدع الكاتب في حذر ما بعده حذر؛ لأن اشتباك العوامل النفسية يزيد صعوبة الباحث عن نفس من النفوس، ولا ينقصها أو يئول بها إلى البساطة والوضوح، وكلما قلت هذه العوامل، وانحصرت في ناحية من النواحي سهل الخلوص إلى مقطع الحق فيها. فالبطل الذي يلتقي بالفكر وحده أسهل من البطل الذي يلتقي بالفكر والعاطفة، وإن هذا لأسهل من الذي يلتقي بالفكر والعاطفة والخيال، وكل أولئك أسهل ممن يلتقي في ألف سنة متوالية بدخائل النفوس جميعا من طموح إلى المثل الأعلى، أو حرص على الملاحاة، أو شغف بالبلاغة أو رياضة على التقوى، مزيدا على الخيال والشعور والتفكير.
لهذا نعلم غير مترددين في علمنا أن واجبنا في «عبقرية الإمام» مرسوم الغاية والطريق، وهو واجب التبسيط والقصد إلى الخطة الوسطى، وفي علمنا بهذا بعض التيسير، وإن لم يكن فيه كل التيسير ... نرجع «بعبقرية الإمام» إلى الحقيقة الوسطى.
نرجع من عشرين طريقا إلى بداية واحدة؛ لأن الطريق الواحدة لا تؤدي إليها أقرب أداء، وحسبنا أننا عرفنا ضرورة الرجوع من كل هذه الطرق إلى تلك البداية المقصودة فعلى بركة الله ...
عباس محمود العقاد
صفاته
المشهور عن علي - كرم الله وجهه - أنه كان أول هاشمي من أبوين هاشميين ... فاجتمعت له خلاصة الصفات التي اشتهرت بها هذه الأسرة الكريمة، وتقاربت سماتها وملامحها في كثير من أعلامها المقدمين، وهي في جملتها: النبل والأيد والشجاعة والمروءة والذكاء، عدا المأثور في سماتها الجسدية التي تلاقت أو تقاربت في عدة من أولئك الأعلام.
فهو ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
وقيل: إن اسمه الذي اختارته له أمه: حيدرة باسم أبيها أسد، والحيدرة هو الأسد ... ثم غيره أبوه فسماه عليا وبه عرف واشتهر بعد ذلك ...
وكان علي أصغر أبناء أبويه، وأكبر منه جعفر وعقيل وطالب، وبين كل منهم وأخيه عشر سنين.
قيل: إن عقيلا كان أحب هؤلاء الإخوة إلى أبيه، فلما أصاب القحط قريشا وأهاب رسول الله - عليه السلام - بعميه حمزة والعباس أن يحملوا ثقل أبي طالب في تلك الأزمة جاءوه، وسألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم، فقال: دعوا لي عقيلا وخذوا من شئتم، فأخذ العباس طالبا، وأخذ حمزة جعفر، وأخذ النبي - عليه السلام - عليا كما هو مشهور، فعوضه إيثار النبي بالحب عن إيثار أبيه، ولكنه عرف هذا الإيثار في طفولته الأولى، فكان سابقة باقية الأثر في نفسه على ما يبدو من أطوار حياته التالية، وجاءت لهذه السابقة لواحقها الكثيرة على توقع واستعداد، فتعود أن يفوته الحق والتفضيل وهو يدرج في صباه.
وربما صح من أوصاف علي في طفولته أنه كان طفلا مبكر النماء سابقا لأنداده في الفهم والقدرة؛ لأنه أدرك في السادسة أو السابعة من عمره شيئا من الدعوة النبوية التي يدق فهمها، والتنبه لها على من كان في مثل هذه السن المبكرة، فكانت له مزايا التبكير في النماء كما كانت له أعباؤه ومتاعبه التي تلازم أكثر المبكرين، ولا سيما المولودين منهم في شيخوخة الآباء ...
ونشأ - رضي الله عنه - رجلا مكين البنيان في الشباب والكهولة، حافظا لتكوينه المكين حتى ناهز الستين ...
قال واصفوه وهو في تمام الرجولة: إنه كان - رضي الله عنه - ربعة أميل إلى القصر، آدم - أي: أسمر - شديد الأدمة، أصلع مبيض الرأس واللحية طويلها، ثقيل العينين في دعج وسعة، حسن الوجه، واضح البشاشة، أغيد كأنما عنقه إبريق فضة، عريض المنكبين لهما مشاش كمشاش
1
السبع الضاري لا يتبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجا، وكان أبجر - أي: كبير البطن - يميل إلى السمنة في غير إفراط، ضخم عضلة الساق دقيق مستدقها، ضخم عضلة الذراع دقيق مستدقها، شثن الكفين، يتكفأ في مشيته على نحو يقارب مشية النبي، ويقدم في الحرب فيقدم مهرولا لا يلوي على شيء.
وتدل أخباره - كما تدل صفاته - على قوة جسدية بالغة في المكانة والصلابة على العوارض والآفات، فربما رفع الفارس بيده فجلد به الأرض غير جاهد ولا حافل، ويمسك بذراع الرجل فكأنه أمسك بنفسه فلا يستطيع أن يتنفس، واشتهر عنه أنه لم يصارع أحدا إلا صرعه، ولم يبارز أحدا إلا قتله، وقد يزحزح الحجر الضخم لا يزحزحه إلا رجال، ويحمل الباب الكبير يعيي بقلبه الأشداء، ويصيح الصيحة فتنخلع لها قلوب الشجعان.
ومن مكانة تركيبه - رضي الله عنه - أنه كان لا يبالي الحر والبرد، ولا يحفل الطوارئ الجوية في صيف ولا شتاء، فكان يلبس ثياب الصيف في الشتاء وثياب الشتاء في الصيف، وسئل في ذلك فقال: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعث إلي وأنا أرمد العين يوم خيبر، فقلت: يا رسول الله، إني أرمد العين، فقال: اللهم أذهب عنه الحر والبرد، فما وجدت حرا ولا بردا منذ يومئذ ...» •••
ولا يفهم من هذا أنه - رضوان الله عليه - كان معدوم الحس بالحر والبرد بالغا ما بلغت بهما القساوة والإيذاء، فقد كان يرعد للبرد إذا اشتد ولم يتخذ له عدة من دثار يقيه، قال هارون بن عنترة عن أبيه: دخلت على علي بالخورنق - وهو فصل شتاء - وعليه خلق قطيفة وهو يرعد فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبا، وأنت تفعل هذا بنفسك؟ ... فقال: والله ما أرزؤكم شيئا، وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة.
فليس هو انعدام حس بالصيف والشتاء، إنما هي مناعة قوية خصت بها بنيته، لم يخص بها معظم الناس.
وكان إلى قوته البالغة، شجاعا لا ينهض له أحد في ميدان مناجزة، فكان لجرأته على الموت لا يهاب قرنا من الأقران بالغا ما بلغ من الصولة ورهبة الصيت، واجترأ وهو فتى ناشئ على عمرو بن ود فارس الجزيرة العربية، الذي كان يقوم بألف رجل عند أصحابه وعند أعدائه، وكانت وقعة الخندق فخرج عمرو مقنعا في الحديد ينادي جيش المسلمين: من يبارز ... فصاح علي: أنا له يا نبي الله ... قال النبي وبه إشفاق عليه: إنه عمرو، اجلس، ثم عاد عمرو ينادي: ألا رجل يبرز؟ ... وجعل يؤنبهم قائلا: أين جنتكم التي زعمتم أنكم داخلوها إن قتلتم؟ ... أفلا تبرزون إلي رجلا؟ ... فقام علي مرة بعد مرة وهو يقول: أنا له يا رسول الله، ورسول الله يقول له مرة بعد مرة: اجلس، إنه عمرو، وهو يجيبه: وإن كان عمرا ... حتى أذن له فمشى إليه فرحا بهذا الإذن الممنوع كأنه الإذن بالخلاص ... ثم نظر إليه عمرو فاستصغره وأنف أن يناجزه وأقبل يسأله: من أنت؟ ... قال ولم يزد: أنا علي، قال : ابن عبد مناف؟ ... قال: ابن أبي طالب، فأقبل عمرو عليه يقول: يا ابن أخي ... من أعمامك من هو أسن، وإني أكره أن أهريق دمك، فقال له علي: لكني والله لا أكره أن أهريق دمك، فغضب عمرو وأهوى إليه بسيف كان كما قال واصفوه كأنه شعلة نار، واستقبل علي الضربة بدرقته فقدها السيف وأصاب رأسه، ثم ضربه علي على حبل عائقه فسقط ونهض، وسقط ونهض، وثار الغبار، فما انجلى إلا عن عمرو صريعا وعلي يجأر بالتكبير.
وكأنما كانت شجاعته هذه القضاء الحتم الذي لا يؤسى على مصابه؛ لأنه أحجى المصائب، وأقلها معابة ألا يدفع، فكانت أخت عمرو بن ود تقول على سبيل التأسي بعد موته:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله
بكيته أبدا ما دمت في الأبد
لكن قاتله من لا نظير له
وكان يدعى أبوه بيضة البلد
فكانت شجاعته من الشجاعات النادرة التي يشرف بها من يصيب بها ومن يصاب ...
ويزيدها تشريفا أنها ازدانت بأجمل الصفات التي تزين شجاعة الشجعان الأقوياء ... فلا يعرف الناس حلية للشجاعة أجمل من تلك الصفات التي طبع عليها علي بغير كلفة ولا مجاهدة رأي، وهي التورع عن البغي، والمروءة مع الخصم قويا أو ضعيفا على السواء، وسلامة الصدر من الضغن على العدو بعد الفراغ من القتال.
فمن تورعه عن البغي، مع قوته البالغة وشجاعته النادرة، أنه لم يبدأ أحدا قط بقتال وله مندوحة عنه، وكان يقول لابنه الحسن: «لا تدعون إلى مبارزة، فإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي إليها باغ والباغي مصروع» ...
وعلم أن جنود الخوارج يفارقون عسكره ليحاربوه، وقيل له: إنهم خارجون عليك فبادرهم قبل أن يبادروك، فقال: «لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون ...!»
وكذلك فعل قبل وقعة الجمل، وقبل وقعة صفين، وقبل كل وقعة صغرت أو كبرت ووضح فيها عداء العدو أو غمض: يدعوهم إلى السلم وينهى رجاله عن المبادأة بالشر، فما رفع يده بالسيف قط إلا وقد بسطها قبل ذلك للسلام.
كان يعظ قوما فبهرت عظته بعض الخوارج الذين يكفرونه، فصاح معجبا إعجاب الكاره الذي لا يملك بغضه ولا إعجابه: قاتله الله كافرا ما أفقهه ... فوثب أتباعه ليقتلوه، فنهاهم عنه، وهو يقول: إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب.
وقد رأينا أنه كان يقول لعمرو بن ود: إني لا أكره أن أهريق دمك ... ولكنه على هذا لم يرغب في إهراق دمه إلا بعد يأس من إسلامه ومن تركه حرب المسلمين ... فعرض عليه أن يكف عن القتال فأنف، وقال: إذن تتحدث العرب بفراري، وناشده: يا عمرو، إنك كنت تعاهد قومك ألا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما، قال: أجل، قال: فإني أدعوك إلى الإسلام أو إلى النزال، قال: ولم يا ابن أخي؟ ... فوالله ما أحب أن أقتلك ... فلم يكن له بد بعد ذلك من إحدى اثنتين: أن يقتله أو يقتل على يديه.
وعلى ما كان بينه وبين معاوية وجنوده من اللدد في العداء لم يكن ينازلهم، ولا يأخذ من ثاراته وثارات أصحابه عندهم إلا بمقدار ما استحقوه في موقف الساعة: فاتفق في يوم صفين أن خرج من أصحاب معاوية رجل يسمى كريز بن الصباح الحميري، فصاح بين الصفين: من يبارز؟ ... فخرج إليه رجل من أصحاب علي فقتله ووقف عليه ونادى: من يبارز؟ فخرج إليه آخر فقتله وألقاه على الأول، ثم نادى: من يبارز؟ ... فخرج إليه الثالث فصنع به صنيعه بصاحبه، ثم نادى رابعة: من يبارز؟ ... فأحجم الناس ورجع من كان في الصف الأول إلى الصف الذي يليه، وخاف علي أن يشيع الرعب بين صفوفه، فخرج إلى ذلك الرجل المدل بشجاعته وبأسه فصرعه، ثم نادى نداءه حتى أتم ثلاثة صنع بهم صنيعه بأصحابه، ثم قال مسمعا الصفوف: يا أيها الناس، إن الله - عز وجل - يقول:
الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ، ولو لم تبدءونا ما بدأناكم ... ثم رجع إلى مكانه.
أما مروءته في هذا الباب فكانت أندر بين ذوي المروءة من شجاعته بين الشجعان، فأبى على جنده وهم ناقمون أن يقتلوا مدبرا أو يجهزوا على جريح أو يكشفوا سترا أو يأخذوا مالا، وصلى في وقعة الجمل على القتلى من أصحابه ومن أعدائه على السواء، وظفر بعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص، وهم ألد أعدائه المؤلبين عليه فعفا عنهم ولم يتعقبهم بسوء، وظفر بعمرو بن العاص وهو أخطر عليه من جيش ذي عدة، فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأته اتقاء لضربته ... وحال جند معاوية بينه وبين الماء في معركة صفين، وهم يقولون له: ولا قطرة حتى تموت عطشا ... فلما حمل عليهم وأجلاهم عنه سوغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده، وزار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل، فصاحت به صفية أم طلحة الطلحات: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي، فلم يرد عليها شيئا، ثم خرج فأعادت عليه ما استقبلته به فسكت ولم يرد عليها، قال رجل أغضبه مقالها: يا أمير المؤمنين، أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ ... فانتهره وهو يقول: ويحك؟ ... إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهم مشركات أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟ ... وإنه لفي طريقه إذ أخبره بعض أتباعه عن رجلين ينالان من عائشة، فأمر بجلدهما مائة جلدة، ثم ودع السيدة عائشة أكرم وداع وسار في ركابها أميالا، وأرسل معها من يخدمها ويحف بها، قيل: إنه أرسل معها عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم، وقلدهن السيوف ... فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به وتأففت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي ... فلما وصلت إلى المدينة ألقى النساء عمائمهن وقلن لها: إنما نحن نسوة.
وكانت هذه المروءة سنته مع خصومه، من استحق منهم الكرامة ومن لم يستحقها، ومن كان في حرمة عائشة - رضي الله عنها - ومن لم تكن له قط حرمة، وهي أندر مروءة عرفت من مقاتل في وغر القتال ...
وتعدلها في النبل والندرة سلامة صدره من الضغن على أعدى الناس له، وأضرهم به وأشهرهم بالضغن عليه، فنهى أهله وصحبه أن يمثلوا بقاتله وأن يقتلوا أحدا غيره، ورثى طلحة الذي خلع بيعته وجمع الجموع لحربه رثاء محزون يفيض كلامه بالألم والمودة، وأوصى أتباعه ألا يقاتلوا الخوارج الذين شقوا صفوفه، وأفسدوا عليه أمره وكانوا شرا عليه من معاوية وجنده؛ لأنه رآهم مخلصين وإن كانوا مخطئين وعلى خطئهم مصرين ... •••
وتقترن بالشجاعة - ولا سيما شجاعة الفرسان المقاتلين بأيديهم - صفة لازمة لها متممة لعملها قلما تنفصل عنها، وكأنها والشجاعة أشبه شيء بالنضح للماء، أو بالإشعاع للنور، فلا تكون شجاعة الفروسية إلا كانت معها تلك الصفة التي نشير إليها، وهي صفة «الثقة» أو «الاعتزاز» أو الادراع بالهيبة والتهويل على الخصوم، ولا سيما في مواقف النزال.
وقد يسميها بعض الناس زهوا وليست هي به ولا هي من معدنه وسمته، وإن شابهته في بعض الملامح والألوان.
فالزهو المذموم فضول لا لزوم له ولا خير فيه، وهو لون خادع قد يوجد مع الضعف كما يوجد مع القوة، وقد يبدو على الجبان كما يبدو على الشجاع ...
أما هذا الاعتزاز الذي نشير إليه، أو هذه الثقة التي تظهر لنا في صورة الاعتزاز، فهي جزء من شجاعة الفارس المقاتل لا يستغني عنه ولا يزال متصلا بعمله في مواجهة خصومه، وهو عرض للقوة يساعد الفارس في إرهاب عدوه وإضعاف عزيمة من يتصدى لحربه ... مثله هنا كمثل العروض التي تعمد إليها الجيوش لإعلان بأسها، وتخويف الأعداء من الاستخفاف بها والهجوم عليها، فهو كالشجاعة أداة ضرورية من أدوات القتال لا تنفصل عنها، وليس كل ما فيها ضربا من الخيلاء يرضي به الشجاع غروره، ويتيه به في عير حاجة إلى التيه.
ولهذا تحمس الناس للفخر العسكري من قديم الزمن وعهدوه وتحدثوا به وتناقلوه، فسمحوا للفارس - بل لعلهم أوجبوا عليه - أن يروغ من خصمه بالفخر المرعب إذ يتقدم لنزاله، وأن يلاقيه وهو ينشد الأشعار في ذكر وقعاته والتهويل بضرباته والإشادة بغزواته، وعلموا أنهم - وقد احتاجوا إلى شجاعته - محتاجون كذلك إلى فخره وحماسته، وإيقاع الرعب في جنان قرنه، فشاعت قصائد الفخر والحماسة كما شاعت قصائد الحب والمناجاة، وهي أحب القصائد إلى القلوب. •••
ومن تأصل هذه العادة في الطبائع أنها تشاهد في جميع الأحياء فطرة وارتجالا بغير اصطناع ولا تعمد، فلا نرى حيا من الأحياء الناطقة أو العجماء ينازل قرنا له إلا حاول ما استطاع أن يهوله بتكبير حجمه، واستطالة قدره واتمار نظره وتنفيش ريشه أو شعره، ويقف الإنسان مثل هذا الموقف فيطيل قامته، ويبرز صدره ويدق بيده عليه ويقول بلسان حاله ما يقال باللسان، فإذا هو الفخر والحماسة وإذا هو عنوان الثقة والإقدام ...
هذه الصفة لازمة لفرسان الميدان، ولا سيما فرسان العصور الأولى الذين يقفون للقتال وجها لوجه، وينظر أحدهم إلى قرنه وهو يهجم عليه.
وكانت هذه الصفة من صفات علي - رضي الله عنه - يفهمها من يريد أن يفهم ولا يضيق صدرا بفضله، وينكرها من ينفس عليه فيسميها الزهو أو يسميها الجفوة والخيلاء، قال له قيس بن سعد بعد عزله من ولاية مصر: إنك والله ما علمت لتنظر الخيلاء ... ومر الزبير بن العوام مع رسول الله في بني غنيم، فرأى رسول الله عليا على مقربة منه فضحك له وضحك علي يحييه، فقال الزبير: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، قال رسول الله: إنه ليس به زهو، ولتقاتلنه وأنت له ظالم ...
فليس هو بالزهو المكروه، ولكنها الشجاعة التي يمتلئ بها الشجاع والثقة التي تتراءى مكشوفة في صراحتها واستقامتها؛ لأن صاحبها لم يتكلف مداراتها ولم يحس أنه يحتاج إلى مداراتها؛ ولأنه لا يقصدها ولا يتعمد إبداءها ... •••
وقد كان مدار هذا الخلق في ابن أبي طالب على ثقة أصيلة فيه لم تفارقه منذ حبا ودرج، وقبل أن يبلغ مبلغ الرجال، فما منعته الطفولة الباكرة يوما أن يعلم أنه شيء في هذه الدنيا، وأنه قوة لها جوار يركن إليه المستجير، ولقد كان في العاشرة أو نحوها يوم أحاط القروم القرشيون بالنبي - عليه السلام - ينذرونه وينكرونه وهو يقلب عينه في وجوههم، ويسأل عن النصير ولا نصير ... لو كان بعلي أن يرتاع في مقام نجدة أو مقام عزيمة لارتاع يومئذ بين أولئك الشيوخ الذين رفعتهم الوجاهة، ورفعتهم آداب القبيلة البدوية إلى مقام الخشية والخشوع، ولكنه كان عليا في تلك السن الباكرة كما كان عليا وهو في الخمسين أو الستين ... فما تردد وهم صامتون مستهزئون أن يصيح صيحة الواثق الغضوب: أنا نصيرك ... فضحكوا منه ضحك الجهل والاستكبار، وعلم القدر وحده في تلك اللحظة أن تأييد ذلك الغلام أعظم وأقوم من حرب أولئك القروم ...
علي هذا هو الذي نام في فراش النبي ليلة الهجرة، وقد علم ما تأتمر به مكة كلها من قتل الراقد على ذلك الفراش.
وعلي هذا هو الذي تصدى لعمرو بن ود مرة بعد مرة، والنبي يجلسه ويحذره العاقبة التي حذرها فرسان العرب من غير تحذير، يقول النبي: اجلس، إنه عمرو، فيقول: وإن كان عمرا ... كأنه لا يعرف من يخاف ولا يعرف كيف يخاف، ولا يعرف إلا الشجاعة التي هو ممتلئ بها واثق فيها في غير كلفة ولا اكتراث.
وتمكنت هذه الثقة فيه لطول مراس الفروسية، التي هي كما أسلفنا جزء منها وأداة من أدواتها.
وزادها تمكينا حسد الحاسدين ولجاجة المنكرين، وكلاهما خليق أن يعتصم المرء منه بثقة لا تنخذل، وأنفة لا تلين، فمن شواهد هذه الثقة بنفسه أنه حملها من ميدان الشجاعة إلى ميدان العلم والرأي حين كان يقول: «اسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني في شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحط رحالها.»
ومن شواهدها أنه كان يقول والخارجون عليه يرجمونه بالمروق: «ما أعرف أحدا من هذه الأمة عبد الله بعد نبينا غيري، عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة تسع سنين.»
وزاده اتهام من حوله معتصما بالثقة بنفسه، فلما عتب عليه خصماه طلحة والزبير أنه ترك مشورتهما قال: «نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استن النبي
صلى الله عليه وسلم
فاقتديته، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما وإخواني المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما ...»
وأبدى هذه الخليقة منه أنه كان - رضي الله عنه - لا يتكلف ولا يحتال على أن يتألف، بل كان يقول: «شر الإخوان من تكلف له.» ويقول: «إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه.» فكان الذين ينتظرون منه الاصطناع والإرضاء يخطئون ما انتظروه، ولا سيما إذا هم انتظروه من أرزاق رعاياه وحقوقهم التي اؤتمن إليها، فيحسبون أنها الجفوة البينة وأنه الزهو المقصود وما هو بهذا ولا بتلك ... إنما هي شجاعة الفارس بلوازمها التي لا تنفصل منها، وإنما هو امتعاض المغموط المسيء ظنا بمن حوله يتراءى على سجيته في غير مداراة ولا رياء، فما كان يتكلف إظهار تلك الخلائق زهوا كما يسمونه أو جفوة كما يحسبونها، بل كان قصاراه ألا يتكلف الإخفاء، فإذا التفت قاصدا إلى ما في نفسه فهو لا يقصد العجب ولا يرضاه، بل ينهى عنه ويشتد في اجتنابه، ويوصي من أحب: «إياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها» ... «واعلم أن الإعجاب ضد الصواب، وآفة الألباب.»
نعم كان ملاك الأمر في أخلاق علي - عليه السلام - أنه كان لا يتكلف إظهار شيء، ولا يتكلف إخفاء شيء، ولا يقبل التكلف حتى من مادحيه، فربما أفرط الرجل في الثناء عليه وهو متهم عنده فلا يدعه حتى يعلن له طويته، ويقول له: «أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك.» •••
وكانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقته الكبرى من الشجاعة والبأس والامتلاء بالثقة والمنعة، وكانت تسلك معه مسلك الحقيقة والمجاز على السواء، كأنه يعني ما يصنع وهو لا يعنيه، وإنما يجيء منه على البديهة كما تجيء الأشياء من معادنها: كان مثلا يخرج إلى مبارزيه حاسر الرأس ومبارزوه مقنعون بالحديد، أفعجيب منه أن يخرج إليهم حاسر النفس وهم مقنعون بالحيلة والرياء؟ ... وكان يغفل الخضاب أحيانا ويرسل الشيب ناصعا، وهو لا يحرم خضابه في غير ذلك من الأحيان، أفعجيب منه - مع هذا - أن يقل اكتراثه لكل خضاب ساترا ما ستر، أو كاشفا ما كشف، من رأي وخليقة؟
بل كانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقة أخرى كالشجاعة في قوتها ورسوخها ... أو هي قريبة للشجاعة في نفس الفارس النبيل وقلما تفارقها، ونعني بها خليقة الصدق الصراح الذي يجترئ به الرجل على الضر والبلاء، كما يجترئ به على المنفعة والنعماء، فما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه، وبين صحبه أو بين أعدائه، ولعله كان أحوج إلى المصانعة بين النصراء مما كان بين الأعداء؛ لأنهم أرهقوه باللجاجة وأعنتوه بالخلاف، فما عدا معهم قول الصدق في شدة ولا رخاء، حتى قال فيه أقرب الناس إليه: إنه رجل يعرف من الحرب شجاعتها، ولكنه لا يعرف خدعتها، وكان أبدا عند قوله: «علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل على علمك، وأن تتقي الله في حديث غيرك» ... •••
وصدق في تقواه وإيمانه كما صدق في عمل يمينه ومقالة لسانه، فلم يعرف أحد من الخلفاء أزهد منه في لذة دنيا أو سيب دولة، وكان وهو أمير للمؤمنين يأكل الشعير وتطحنه امرأته بيديها، وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير، فيقول: «لا أحب أن يدخل بطني ما لا أعلم» ... قال عمر بن عبد العزيز وهو من أسرة أمية التي تبغض عليا، وتخلق له السيئات وتخفي ما توافر له من الحسنات: «أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.» وقال سفيان: «إن عليا لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة.» وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة إيثارا للخصاص التي يسكنها الفقراء، وربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام، وروى النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة قال: «دخلت على علي - عليه السلام - فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته وكسر يابسة، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأكل مثل هذا؟ فقال لي: يا أبا الجنوب، كان رسول الله يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا - وأشار إلى ثيابه - فإن لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به» ...
وعلى هذا الزهد الشديد كان علي - رضي الله عنه - أبعد الناس من كزازة طبع وضيق حظيرة وجفاء عشيرة، بل كانت فيه سماحة يتبسط فيها حتى يقال دعابة، وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال له: «لله أبوك لولا دعابة فيك.» وأنه قال لمن سألوه في الاستخلاف: «ما أظن إلا أن يلي أحد هذين الرجلين: علي أو عثمان، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة، وأحر به أن يحملهم على الطريق.» •••
وأغرق ابن العاص في وصف الدعابة فسماها «دعابة شديدة»، وطفق يرددها بين أهل الشام ليقدح بها في صلاح الإمام للخلافة، وإنما نقول: إن ابن العاص أغرق في هذا الوصف، وإن الدعابة المعيبة لم تكن قط من صفاته؛ لأن تاريخ علي وأقواله ونوادره مع صحبه وأعدائه محفوظة لدينا، لا نرى فيها دليلا على خلق الدعابة فضلا عن الدليل على الإفراط فيه ... فإن كان لهذا الوصف أثر أجاز لعمر بن الخطاب أن يذكره، فربما كان مرجع ذلك أن عليا خلا من الشغل الشاغل سنين عدة، فأعفاه الشغل الشاغل من صرامته، وأسلمه حينا إلى سماحته وأحاديث صحبه ومريديه، فحسبت هذه الدعة من الدعابة البريئة ثم بالغ فيها المبالغون، ولم يثبتوها بقصة واحدة أو شاردة واحدة تجيز لهم ما تقولوه.
وقد كانت للإمام صفات ومزايا فكرية تناصي المشهور المتفق عليه من صفاته النفسية ومزاياه الخلقية، فاتفق خصومه وأنصاره على بلاغته، واتفقوا على علمه وفطنته، وتفرقوا فيما عدا ذلك من رأيه في علاج الأمور ودهائه في سياسة الرجال.
والحق الذي لا مراء فيه أنه كان على نصيب من الفطنة النافذة لا ينكره منصف، وأنه أشار على عمر وعثمان أحسن المشورة في مشكلات الحكم والقضاء، وأنه أشبه الخلفاء بالباحثين والمنقبين أصحاب الحكمة ومذاهب التفكير، وعنه أخذ الحكماء الذين شرعوا علم الكلام قبل أن يتطرق إليه علم فارس أو علم يونان ... وكان يفهم أخلاق الناس فهم العالم المراقب لخفايا الصدور، ويشرحها في عظاته وخطبه شرح الأديب اللبيب ...
إلى هنا متفق عليه لا يكثر فيه الخلاف، ثم يفترق الناس في رأيه رأيين وإن لم يكونوا من الشانئين المتحزبين، فيقول أناس: إنه كان على قسط وافر من الفهم والمشورة، ولكنه عند العمل لا يرى ما تقضي به الساعة الحازبة، ولا ينتفع بما يراه. ويقول أناس: بل هو الاضطرار والتحرج يقيدانه ولا يقيدان أعداءه وإنهم لدونه في الفطنة والسداد. وهو - رضي الله عنه - قد اعتذر لنفسه بمشابه من هذا العذر حين قال: «والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس» ... •••
أما مقطع الرأي بين الرأيين فنرجو أن نفصله في مواضعه من الفصول التالية مشفوعا بمناسباته، ولكننا نستطيع أن نجزم هنا بحقيقتين تجملان ما نبسطه في مواضعه من الكتاب، ولا نحسبهما تتسعان لجدل طويل، وهما أن أحدا لم يثبت قط أن العمل بالآراء الأخرى كان أجدى وأنجع في فض المشكلات من العمل برأي الإمام، وأن أحدا لم يثبت قط أن خصوم الإمام كانوا يصرفون الأمور خيرا من تصريفه، لو وضعوا في موضعه واصطلحت عليهم المتاعب التي اصطلحت عليه، وكلتا الحقيقتين حرية أن تضبط لسان الميزان قبل أن يميل، فيغلو به الميل هنا أو هناك.
هذه صفات تنتظم في نسق موصول: رجل شجاع لأنه قوي، وصادق لأنه شجاع؛ وزاهد مستقيم لأنه صادق، ومثار للخلاف لأن الصدق لا يدور بصاحبه مع الرضا والسخط والقبول والنفور، وأصدق الشهادات لهذا الرجل الصادق أن الناس قد أثبتوا له في حياته أجمل صفاته المثلى، فلم يختلفوا على شيء منها إلا الذي اصطدم بالمطامع، وتفرقت حوله الشبهات، وما من رجل تتعسف المطامع أسباب الطعن فيه ثم تنفذ منه إلى صميم.
مفتاح شخصيته
«آداب الفروسية» هي مفتاح هذه الشخصية النبيلة، الذي يفض منها كل مغلق ويفسر منها كل ما احتاج إلى تفسير.
وآداب الفروسية هي تلك الآداب التي نلخصها في كلمة واحدة وهي: النخوة ...
وقد كانت النخوة طبعا في علي فطر عليه، وأدبا من آداب الأسرة الهاشمية نشأ فيه، وعادة من عادات «الفروسية» العملية التي يتعودها كل فارس شجاع متغلب على الأقران، وإن لم يطبع عليها، وينشأ في حجرها؛ لأن للغلبة في الشجاع أنفة تأبى عليه أن يسف إلى ما يخجله ويشينه، ولا تزال به حتى تعلمه النخوة تعلما، وتمنعه أن يعمل في السر ما يزري به في العلانية.
وهكذا كان علي - رضي الله عنه - في جميع أحواله وأعماله: بلغت به نخوة الفروسية غايتها المثلى، ولا سيما في معاملة الضعفاء من الرجال والنساء، فلم ينس الشرف قط ليغتنم الفرصة، ولم يساوره الريب قط في الشرف، والحق أنهما قائمان دائمان كأنهما مودعان في طبائع الأشياء، فإذا صنع ما وجب عليه فلينس من شاءوا ما وجب عليهم، وإن أفادوا كثيرا وباء هو بالخسار.
أصاب المقتل من عدوه مرات فلم يهتبل الفرصة السانحة بين يديه؛ لأنه أراد أن يغلب عدوه غلبة الرجل الشجاع الشريف، ولم يرد أن يغلبه أو يقتص منه كيفما كان سبيل الغلب والقصاص ...
قال بعض من شهدوا معركة صفين: «لما قدمنا على معاوية وأهل الشام بصفين، وجدناهم قد نزلوا منزلا اختاروه مستويا بساطا واسعا، وأخذوا الشريعة - أي: مورد الماء - فهي في أيديهم ... وقد أجمعوا على أن يمنعونا الماء، ففزعنا إلى أمير المؤمنين فخبرناه بذلك فدعا صعصعة بن صوحان، فقال له: ائت معاوية، وقل له إنا سرنا مسيرنا هذا إليكم ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنك قدمت إلينا خيلك ورجلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك وبدأتنا، ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها إذ حلتم بين الناس وبين الماء، والناس غير منتهين أو يشربوا فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء، ويكفوا حتى ننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له وقدمتم له ...»
ثم قال راوي الخبر ما معناه: إن معاوية سأل أصحابه، فأشاروا عليه أن يحول بين علي وبين المورد غير حافل بدعوته إلى السلم، ولا بدعوته إلى المفاوضة في أمر الخلاف، فأنفذ معاوية مددا إلى حراس المورد يحمونه ويصدون من يقترب منه، ثم كان بين العسكرين تراشق بالنبل، فطعن بالرماح، فضرب بالسيوف حتى اقتحم أصحاب علي طريق الماء وملكوه.
وهنا الفرصة الكبرى لو شاء علي أن يهتبلها، وأن يغلب أعداءه بالظمأ كما أرادوا أن يغلبوه به قبيل ساعة ... وقد جاء أصحابه يقولون: والله لا نسقيهموه، فكأنما كان هو سفير معاوية وجنده إليهم يتشفع لهم، ويستلين قلوبهم من أجلهم، وصاح بهم: «خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم وخلوا عنهم، فإن الله - عز وجل - قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم.»
ولاحت له فرصة قبل هذه الفرصة في حرب أهل البصرة، فأبى أن يهتبلها وأغضب أعوانه إنصافا لأعدائه؛ لأنه نهاهم أن يسلبوا المال ويستبيحوا السبي وهو في رأيهم حلال. قالوا: أتراه يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم؟ ... فقال: «إنما القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا ونحن منه، ومن لج حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر.» وسن لهم سنة الفروسية أو سنة النخوة حين أوصاهم ألا يقتلوا مدبرا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يكشفوا سترا، ولا يمدوا يدا إلى مال.
ومن الفرص التي أبت عليه النخوة أن يهتبلها فرصة عمرو بن العاص، وهو ملقى على الأرض مكشوف السوأة لا يبالي أن يدفع عنه الموت بما حضره من وقاء، فصدف بوجهه عنه آنفا أن يصرع رجلا يخاف الموت هذه المخافة التي لا يرضاها من منازله في مجال صراع، ولو غير علي أتيح له أن يقضي على عمرو لعلم أنه قاض على جرثومة عداء ودهاء، فلم يبال أن يصيبه حيث ظفر به، ولا جناح عليه. •••
لقد كان رضاه من الآداب في الحرب والسلم رضا الفروسية العزيزة من جميع آدابها ومأثوراتها.
فكان يعرف العدو عدوا حيثما رفع السيف لقتاله ... ولكنه لا يعادي امرأة ولا رجلا موليا، ولا جريحا عاجزا عن نضال، ولا ميتا ذهبت حياته ولو ذهبت في سبيل حربه ... بل لعله يذكر له ماضيه يومئذ، فيقف على قبره ليبكيه ويرثيه ويصلي عليه.
وهذه الفروسية هي التي بغضت إليه أن ينال أعداءه بالسباب، وليس من دأب الفارس أن ينال أعداءه بغير الحسام.
فلما سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حروبهم بصفين، قال لهم: «إني أكره أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به.»
وربما شذ عن سنته هذه في بعض الأحايين، فإذا به لا يشذ عنها إلا كما يشذ الفرسان حين تغلبهم بوادر اللسان ... فندر بين رجال السيف من يسمع الكلمة المغضبة، فلا ينطق لسانه بكلمة عوراء يجاري بها غضبه الذي طبع على إبدائه ولم يطبع على كتمانه.
ومن قبيل هذا كلمات قالها علي في ابن العاص وفي معاوية، وفي الأشعث بن قيس وغير هؤلاء، ولكنه لم يجعلها ديدنا له كما سبوه على المنابر، وأشاعوا مذمته بين أهل الأمصار.
شغب عليه الأشعث بن قيس ومرد عليه الجند، وأفشى بين أنصاره الفتنة وقاطعه مرة وهو يخطب على منبر الكوفة، فأغضبه وهاج غيظه فبدره بقوله: «عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين: حائك ابن حائك، منافق ابن كافر، والله لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى، فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك، وإن امرأ ولى على قومه السيف، وساق إليهم الحتف لحري أن يمقته الأقرب ولا يأمنه الأبعد.» •••
وطفق ابن العاص ينعته بين أهل الشام بالهزل والدعابة، ويأمر بسبه على المنابر حتى وجب رده وإدحاض زعمه، فقال - رضي الله عنه - في بعض خطبه: عجبا لابن النابغة! ... يزعم لأهل الشام أن في دعابة وأني امرؤ تلعابة: أعانس وأمارس
1 ... لقد قال باطلا ونطق آثما، أما - وشر القول الكذب - إنه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويسأل فيبخل، ويخون العهد ويقطع الإل،
2
فإذا كان عند الحرب فأي زاجر وآمر هو ما لم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك أكبر مكيدته أن يمنح القوم سبته، أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة، إنه لم يبايع معاوية حتى شرط أن يؤتيه آتية، ويرضخ له على ترك الدين رضيخة.
3
وكذلك كان يجبه معاوية وغيره بنظائر هذه الكلمات حين يجترئون عليه بما يغض من حقه، ويقدح في دعوته، فلا يشذ عن ديدن الفرسان في روية فكره ولا في بوادر لسانه، ولكن الفلتات التي من هذا القبيل شيء، واتخاذ السباب صناعة دائمة وسلاحا مشهورا وسبيلا إلى القول الباطل شيء آخر ...
ولقد كانت للإمام - رضي الله عنه - شواغل أخرى غير الفروسية تجري في مجراها حينا، وتبدو غريبة عنها حينا آخر في عرف بعض الناقدين، ومنها التفقه والنزوع إلى «التصوف» واستنباط حقائق الأشياء. •••
فهذه في عرف بعض الناقدين ليست من مزاج الفروسية على ظاهر ما قدروه ... ولكن ما التصوف أو التجرد للحقيقة؟ ... أليس هو في معدنه جهادا في الحق أو جهادا في الله؟ ... أليست طبيعة الجهاد وطبيعة الفروسية من معدن واحد؟ ... ألم نعهد في كل ملة وكل زمان فئات من الناس يجاهدون؛ لأنهم متدينون متنطسون، أو يتدينون ويتنطسون؛ لأنهم مجاهدون؟ ...
فالإمام علي - رضي الله عنه - فارس لا يخرجه من الفروسية فقه الدين، بل هو أحرى أن يسلكه فيها، ولا يخرجه من الفروسية بعض المقال في خصومه، بل هي بوادر الفرسان بعينها، ولا تزال آداب الفروسية بشتى عوارضها هي المفتاح الذي يدار في كل باب من أبواب هذه النفس، فإذا هو منكشف للناظر عما يليه.
إسلامه
ولد علي في داخل الكعبة، وكرم الله وجهه عن السجود لأصنامها، فكأنما كان ميلاده ثمة إيذانا بعهد جديد للكعبة وللعبادة فيها.
وكاد علي أن يولد مسلما ...
بل لقد ولد مسلما على التحقيق إذا نحن نظرنا إلى ميلاد العقيدة والروح؛ لأنه فتح عينيه على الإسلام ولم يعرف قط عبادة الأصنام.
فهو تربى في البيت الذي خرجت منه الدعوة الإسلامية، وعرف العبادة من صلاة النبي وزوجه الطاهرة قبل أن يعرفها من صلاة أبيه وأمه، وجمعت بينه وبين صاحب الدعوة قرابة مضاعفة ومحبة أوثق من محبة القرابة، فكان ابن عم محمد - عليه السلام - وربيبه الذي نشأ في بيته ونعم بعطفه وبره، وقد رأينا الغرباء يحبون محمدا ويؤثرونه على آبائهم وذويهم ، فلا جرم يحبه هذا الحب من يجمعه به جد، ويجمعه به بيت، ويجمعه به جميل معروف: جميل أبي طالب يؤديه محمد وجميل محمد يحسه ابن أبي طالب ويأوي إليه.
واختلفوا في سنه حين إسلامه من السابعة إلى السادسة عشرة، ولعله أسلم في نحو العاشرة؛ لأنه كان يناهزها عند إعلان الدعوة المحمدية، وكان النبي - عليه السلام - يتعبد في بيته عبادة الإسلام قبل الدعوة بفترة غير قصيرة، وليس ما يمنع عليا أن يألف تلك العبادة في طفولته الباكرة، فإذا هو نفر منها، وأعرض عنها لغير سبب في تلك الطفولة الباكرة، فالعجيب أنه يعود إلى ألفتها والرضا بها بعد أن بلغ السن التي يعرف فيها معنى الغضب لعبادة الآباء والأجداد.
ولولا ألفة علي لابن عمه وكافله لما قربته القرابة وحدها من الدين الذي دعى إليه، فقد أصر كثير من أقرباء النبي على الشرك زمنا طويلا، منهم عقيل أخوه وأحب إخوته إلى أبيه، فحارب المسلمين في بدر ولم يسلم وقد وقع في أسر النبي وصحبه ... بل افتداه عمه العباس وخرج من الأسر وهو على دينه، ثم أسلم بعد صلح الحديبية مع طائفة من الغرباء والأقربين ... •••
على أن الألفة بين ابني العم الكريمين قد أوشكت أن تكون عائقا لإسلام علي في طفولته الباكرة ... لأن النبي - عليه السلام - أبى أن ينتزع الطفل من دين أبيه وأبوه لا يعلم، وأشفق أن يكون بره بعمه وبابن عمه سبيلا إلى التفرقة بين الأب وابنه وهو لا يدرك ما يفعل، ولم يشأ أن يعود الطفل الصغير أن يخفي سرا عن أبيه، كأنه يخدعه بإخفائه ولو في سبيل الهداية والخير، فظل هذا الحرج الكريم عائقا عسيرا أعسر ما فيه أنه عائق اختيار يهون معه الاضطرار، أو عائق حيرة تقل فيها حيلة الكريم ... حتى شاع أمر الدعوة المحمدية وعلم بها أبو طالب ونصر ابن أخيه، وأمر عليا بمتابعة ابن عمه ونصره، فأقبل الغلام البر بأبيه وبكافله إقبالا لا تلجلج فيه على الدين الجديد.
وملأ الدين الجديد قلبا لم ينازعه فيه منازع من عقيدة سابقة، ولم يخالطه شوب يكدر صفاءه، ويرجع به إلى عقابيله ... فبحق ما يقال: إن عليا كان المسلم الخالص على سجيته المثلى، وإن الدين الجديد لم يعرف قط أصدق إسلاما منه ولا أعمق نفاذا فيه.
كان المسلم حق المسلم في عبادته، وفي علمه وعمله، وفي قلبه وعقله؛ حتى ليصح أن يقال: إنه طبع على الإسلام فلم تزده المعرفة إلا ما يزيده التعليم على الطباع ...
كان عابدا يشتهي العبادة كأنها رياضة تريحه، وليست أمرا مكتوبا عليه ... وكان يرى في كهولته وكأنما جبهته ثفنة بعير من إدمان السجود، وكان علي محجة في الإسلام لا يحيد عنها لبغية ولا لخشية، فكلما زينوا له الهوادة أبى «أن يداهن في دينه ويعطي الدنية في أمره»، وآثر الخير كما يراه على الخير كما يراه الناس ...
وكان دينه له ولعدوه، بل له ولعدو دينه، فما كان الحق عنده لمن يرضاه دون من يقلاه، ولكنه كان الحق لكل من استحقه وإن بهته وآذاه ... •••
وجد درعه عند رجل نصراني فأقبل به إلى شريح - قاضيه - يخاصمه مخاصمة رجل من عامة رعاياه، وقال: إنها درعي ولم أبع ولم أهب، فسأل شريح النصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ ... قال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب! ... فالتفح شريح إلى علي يسأله: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟ ... فضحك علي وقال: أصاب شريح، ما لي بينة! ... فقضى بالدرع للنصراني فأخذها ومشى و«أمير المؤمنين» ينظر إليه ... إلا أن النصراني لم يخط خطوات حتى عاد يقول: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء ... أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه يقضي عليه! ... أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين ... اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق. فقال: أما إذ أسلمت فهي لك، وشهد الناس بعد ذلك هذا الرجل وهو من أصدق الجند بلاء في قتال الخوارج يوم النهروان.
وأحسن الإسلام علما وفقها كما أحسنه عبادة وعملا، فكانت فتاواه مرجعا للخلفاء والصحابة في عهود أبي بكر وعمر وعثمان، وندرت مسألة من مسائل الشريعة لم يكن له رأي فيها يؤخذ به، أو تنهض له الحجة بين أفضل الآراء ...
إلا أن المزية التي امتاز بها علي بين فقهاء الإسلام في عصره أنه جعل الدين موضوعا من موضوعات التفكير والتأمل، ولم يقصره على العبادة وإجراء الأحكام، فإذا عرف في عصره أناس فقهوا في الدين؛ ليصححوا عباداته، ويستنبطوا منه أقضيته وأحكامه، فقد امتاز علي بالفقه الذي يراد به الفكر المحض والدراسة الخالصة، وأمعن فيه ليغوص في أعماقه على الحقيقة العلمية، أو الحقيقة الفلسفية كما نسميها في هذه الأيام. •••
ويصح أن يقال: إن عليا - رضي الله عنه - أبو علم الكلام في الإسلام؛ لأن المتكلمين أقاموا مذاهبهم على أساسه كما قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، فواصل ابن عطاء كبيرهم تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذ علي - رضي الله عنه، وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن أبي الحسن علي بن أبي بشر الأشعري، وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي الجبائي أحد مشايخ المعتزلة الذين علمهم واصل بن عطاء ... أما الفقه فإمامه الأكبر أبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد، وجعفر بن محمد قرأ على أبيه، وهكذا ينتهي الأمر إلى علي - رضي الله عنه. وقد قرأ مالك بن أنس على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد الله بن عباس على علي - رضي الله عنه. وقيل لابن عباس: أين علمك من علم ابن عمك؟ ... فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط ... •••
قال ابن أبي الحديد: «ومن العلوم، علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون، وقد صرح بذلك الشبلي والجنيد وسري وأبو يزيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي وغيرهم، ويكفيك دلالة على ذلك: الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه - عليه السلام ...»
وقد جمع «نهج البلاغة» نماذج شتى من الكلمات التي تنسب إليه، ويصح أن تحسب أصلا «للعلم الإلهي»، أو لأسرار التصوف في صدر الإسلام قبل اشتغال المسلمين بفلسفة اليونان وحكمة الأمم الأجنبية. وربما وقع الشك في نسبة بعض الكلمات إلى علي - رضي الله عنه - لأنها تجمعت بعد عصره بزمن طويل، وامتزج بها ما لا بد أن يمازجها من علوم القرن الثالث وما بعده ... ولكن شيئا على هذا النهج لا بد أن يكون قد صدر منه حقا، حتى جاز أن يتصل النسب بينه وبين أئمة التوحيد وعلم الكلام على النحو الذي تواترت به الأقوال، وأجمله ابن أبي الحديد فيما تقدم ... •••
ولنا أن نقول: إنه كان - رضي الله عنه - يتتلمذ للقرآن الكريم، ويستوحيه نصا في عرفان إسلامه وتقرير إيمانه، فكانت نظرته إلى الخلق والخالق نظرة قرآنية يبتكر ما شاء ابتكار التلميذ في الحكاية عن الأستاذ، فكلامه عن الطاووس والخفاش والزرع والسحاب إنما هو الدرس القرآني الذي وعاه من أمر الكتاب بالنظر في المخلوقات، ووصف الكتاب لطوائف منها كالنمل والنحل والطير والأجنة في الأرحام. فهو تلميذ ربه - جل وعلا - في قوله عن الخفاش: «من لطائف صنعته وعجائب حكمته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش، التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي، وكيف غشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها ... فسبحان من جعل الليل لها نهارا ومعاشا، والنهار لها سكنا وقرارا، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنها شظايا الآذان، غير ذوات ريش ولا قصب ... تطير وولدها لاصق بها لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه، فسبحان البارئ لكل شيء على غير مثال خلاف غيره.»
ومثله قوله عن الطاووس: «ومن أعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه وذنب أطال سحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيه، وسما به مظلا على رأسه ... وقد ينحسر من ريشه ويعرى من لباسه فيسقط تترى وينبت تباعا، فينحت من قصبة نحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاصق ثانيا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه» ...
ونحن لا نستغرب ابتداء هذا النمط من النظر الفلسفي على نحو من الأنحاء في عصر الإمام علي - رضي الله عنه - لأنه كان عهدا نبتت فيه أصول الفرق الإسلامية جميعا من الخوارج والشيعة، والقائلين بالرجعة وتناسخ الأرواح، والمجتهدين في قراءة القرآن وتفسيره على شتى المذاهب ... فأقرب شيء إلى المعقول أن يكون إمام العصر كله قدوة في الاجتهاد والنظر، وعنوانا للنوازع التي تفرقت بين أهل زمانه، وتعبيرا صادقا لتفكيره ووعيه، وصاحب أقوال من قبيل هذه الأقوال التي قدمناها، وإن لم تكن هي إياها بالنص والتفصيل ...
ويستقيم مع هذا التقدير أن يكون الإمام على سجيته مؤثرا للاجتهاد ما استطاعه، معرضا عن التقليد ما استغنى عنه، فوافق الخلفاء من قبله في أمور وخالفهم في أمور، وأبى أن يأتم بعملهم فيما يراه وما لا يراه، وأوصى ابنه الحسن وقد بلغ الستين فقال: «... اعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا إلى أنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر ... فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات، وابتدئ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة أو أسلمتك إلى ضلالة، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هما واحدا، فانظر فيما فسرت لك ...»
وربما كانت هذه الوصية وحدها كافية للتعريف بإسلام علي كما ارتضاه لنفسه، وارتضاه للقادرين عليه من أتباعه ... فإنما هو إسلام المسلم «المطبوع » الذي يبتكر دينه؛ لأنه يعتمد فيه على وحي بصيرته وارتجال مزاجه، وإنما هو إسلام الحكيم المجتهد الذي يرجع في الحكمة والاجتهاد إلى رياضة النفس على سنة النساك، وتمحيص الفكر على سنة العلماء، وإنما هو إسلام الرجل الذي أتيح له أن يتتلمذ لربه، ويتربى في حجر نبيه، ويصبح إماما للمقتدين من بعده ...
عصر الإمام
كانت الظاهرة الكبرى في عصر «علي» ظاهرة اجتماعية خاصة به دون عصور الخلفاء من قبله، ولم تكن في حقيقتها ظاهرة سياسية أو حربية عسكرية، على شدة القتال فيها وغزارة الدماء التي أريقت في حروبها ...
فعصر أبي بكر كان هو العصر الذي نشأت فيه الدولة الإسلامية، وعصر عمر كان هو العصر الذي تم فيه إنشاؤها ...
وعصر عثمان كان هو العصر الذي تكون فيه المجتمع الإسلامي بعد نشأة الدولة الجديدة، فبرز فيه نظام جديد على أساس الثروة المجلوبة من الأقطار المفتوحة، وعلى أساس الولايات التي تولاها بعض الطبقات المرشحة للرئاسة من العلية وأشباهها ...
أما عصر علي فكان عصرا عجيبا بين ما تقدمه وجاء في أعقابه، أو هو لم يكن عجيبا؛ لأنه جرى على النحو الذي ينبغي أن يجري عليه، فلم يثبت كل الثبوت ولم يضطرب كل الاضطراب؛ لأنه كان بناء جديدا في سبيل التمام، ولم يكن بناء متداعيا فكله هدم واندثار، ولا بناء قائما مفروغا منه فكله رسوخ واستقرار.
إلا أن العجيب فيه حقا أنه انقسم بين ثبوته واضطرابه قسمين اثنين متقابلين: في أحدهما كل عوامل الرضا عن النظام الاجتماعي، والرغبة في بقائه وتدعيمه، وفي الآخر كل عوامل التذمر من النظام الاجتماعي، والتحفز لتقويضه وتحويله.
أحدهما، وهو قسم الرضا عن النظام الاجتماعي، كان قسم معاوية بن أبي سفيان في الشام وما جاورها.
والآخر، وهو قسم التذمر من النظام الاجتماعي، كان قسم علي بن أبي طالب في الجزيرة العربية بجملة أنحائها.
كانت الشام بمعنى من المعاني أرضا أموية في عهد الجاهلية، فلجأ إليها أمية جد الأمويين حين غلبه هاشم على الزعامة، وقصد إليها أبناؤه متجرين أو مهاجرين إلى ما بعد قيام الدعوة الإسلامية.
ثم قامت الدعوة الإسلامية، فكان من نصيب يزيد بن أبي سفيان أن يتولى الإمارة والقيادة على الشام من قبل الخليفة أبي بكر الصديق، وخلفه أخوه معاوية من قبل الخليفة عمر، فلم يزل مقيما على إمارتها بضع عشرة سنة إلى مبايعة علي بالخلافة بعد مقتل عثمان، فاتسع له من فسحة الوقت وفسحة الرخاء مجال ممهد لتأسيس السلطان الأموي الذي لا ينازعه منازع من حوله، ولم يزل منذ تولاها عاملا على البقاء فيها واصطناع الأعوان المؤيدين له في حكمها، فلم يتوان في استرضاء رجل ينفعه رضاه، ولم يقصر رعايته على الشرفاء دون السواد من الأتباع والأجناد، بل كان يرضي كل من وسعه إرضاؤه، وقد وسعت ثروة الشام كل صاحب حاجة مقيم عنده أو ساع إليه ...
واشتهرت عنه هذه الخصلة حتى قصده أقرب الناس إلى خصومه، وأولاهم باجتنابه والنقمة عليه ... ومنهم عقيل أخو علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن زمعة، وعمرو بن العاص، وأناس من هذه الطبقة بين الشرفاء وذوي الأخطار.
أراد عقيل من أخيه مالا يجريه عليه من بيت المال فأباه عليه؛ لأنه ليس له بحق، فتركه وأقبل على معاوية وهو يقول: «إن أخي خير لي في ديني، ومعاوية خير لي في دنياي.» وقس على ذلك ما يصنعه الغرباء عن علي والمقربون من معاوية بالنسب والرجاء.
قد همه إرضاء السواد والعامة، كما همه إرضاء الشرفاء وذوي الأخطار ... وبلغ من إحكامه للسياسة، وإتقانه لها، واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفين، فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته ... فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه وبره وأحسن إليه، وقال له: «أبلغ عليا أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل!»
ولقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رءوسهم عند القتال وحملوه بها.
1
فإن كان في هذه القصص بعض المبالغة، فهي مبالغة الفكاهة الموكلة بتكبير الملامح ليراها من غفل عنها، وليست مبالغة الخلق والافتراء.
وما هي إلا سنوات على هذه الوتيرة، حتى اجتمع له كل منتفع بالنظام الاجتماعي الجديد، راغب في تدعيمه ووقايته من نذر الخطر والزوال.
وعلى قدر هذا الدأب الشديد في اجتلاب أسباب التمكين والتدعيم كان له دأب مثله في اتقاء أسباب التمرد، والإخلال بالنظام، كما نسميه في هذه الأيام ...
فما سمعت قط صيحة فتنة إلا بادر إليها بما يسكنها، ويردها إلى طلب الاستقرار والدوام، فمن أجدى معه المال أسكته بإغداق المال عليه، ومن كان من أهل الجد والإخلاص في العبادة والزهادة، فهو محتال على إقصائه أو نفيه من الشام بحيلة يوافقه عليها شركاؤه في المصلحة ولا تعييه.
حنق بعض الزهاد على هذا الترف الذي استفاض بين العلية والشرفاء، فارتفعت عليهم صيحة أبي ذر الغفاري بالنكير، وطفق يطالب الأغنياء بالإنفاق في سبيل الله، حتى ولع الفقراء بصيحته وشكا الأغنياء ما يلقونه من نذيره أو بشيره: «وبشر الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.»
فأشفق معاوية من مغبة هذه الصيحة، وأرسل إلى أبي ذر ألف دينار يسكته بها إن كان ممن يسكتهم الغنى عن الأغنياء، فما طلع النهار حتى كانت الدنانير في أيدي المعوزين، الذين يلوذون بالداعية الأمين ويشكون إليه، ثم صلى معاوية الصبح وأرسل إلى الداعية رسوله الذي حمل إليه الدنانير يقول له: «أنقذ جسدي من عذاب معاوية، فإنه أرسلني إلى غيرك فأخطأت بك، فقال له: يا بني، قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار ... ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها» ... فعلم معاوية أن الرشوة هنا لا تغني عن القسوة، وكتب إلى الخليفة أن أبا ذر أعضل به فلا طاقة له بالصبر عليه، فأتاه الإذن بنفي أبي ذر من الشام إلى المدينة، ثم ضاقت به المدينة أيضا، فنفي منها إلى قرية من أرباضها حيث لا يسمع له دعاء. •••
وصنع بعبد الله بن سبأ - صاحب القول برجعة النبي إلى الدنيا ووصاية علي على الخلافة - مثل هذا الصنيع بعد أن داراه فأعياه، فلما يئس منه ومن ترغيبه أو ترهيبه ضيق عليه ثم أقصاه ...
والتفت إلى من سماهم أهل الفتنة من طلاب الإصلاح والتبديل، فكتب في أمورهم إلى الخليفة يقول: «إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم، وليسوا بالذين ينكون أحدا إلا مع غيرهم ...»
ثم أخرجهم من دمشق إلى غيرها مستريحا منهم بالنفي والإقصاء، كأنما دمشق وحدها من بلاد المسلمين هي التي ينبغي لها أن تستريح.
وهكذا تعاقبت السنون وكل سنة تزيد معاوية وفرة من أسباب الرضا والاستقرار، وقلة من أسباب القلق والطموح إلى التغيير، حتى تحيزت له الشام عند مبايعة علي وفيها أعظم ما يتأتى في مثل ذلك العهد من دواعي السكينة واستدامة الحال، وأقل ما يتأتى فيه من شواجر الفتنة والعصيان ...
أما علي فقد شاءت المصادفات أن تنعكس الآية في حصته من الدولة الإسلامية أيما انعكاس، فأوشكت أن تنعدم فيها دواعي الرضا والاستدامة، وأوشكت أن تتم فيها شواجر الفتنة، وما نسميه اليوم بالإخلال بالنظام ...
فكان التنافس عنده على أشده بين العاصمتين الحجازيتين وبين الكوفة، لا يرضى أهل المدينة بما يرضى أهل مكة، ولا يرضى أهل الكوفة بما يرضى به هؤلاء وهؤلاء، حتى ضاق به المقام في الحجاز، وأوى إلى الكوفة مأوى «المستجير من الرمضاء بالنار». •••
وكانت قبائل البادية تنفس على قريش غنائم الولاية ومناصب الدولة، وينظرون إليهم نظرتهم إلى القوي المستأثر بجاه الدين والدنيا وحق الخلافة والسطوة، وهي حالة كان أحجى بالولاة أن يخفوها ويتلطفوا في إصلاحها أو تبديلها ما استطاعوا لها من إصلاح وتبديل، ولكنهم على نقيض ذلك كانوا يباهون بها، ويجهرون بحديثها حتى قال سعيد بن العاص والي الكوفة: «إنما السواد بستان لقريش ...!»
وظهر هذا السخط من أثرة قريش في خطب المتكلمين بلسان أهل البادية، حين نشب النزاع بين طلحة والزبير وأنصارهما وبين علي وأنصاره، فقام في الجمع رجل من عبد القيس يقول: «يا معشر المهاجرين! ... أنتم أول من أجاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكان لكم بذلك فضل ...» إلى أن قال يشير إلى خلافة أبي بكر: «ولم تستأمرونا في شيء من ذلك، فجعل الله للمسلمين في إمارته بركة، ثم مات واستخلف عليكم رجلا فلم تشاورونا في ذلك، فرضينا وسلمنا، فلما توفي جعل أمركم إلى ستة نفر فاخترتم عثمان، وبايعتموه عن غير مشورة منا، ثم بايعتم عليا من غير مشورة منا، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ ...»
وهذا كلام رجل يدين بفضل المهاجرين ويقدمه في صدر مقاله، فكيف بكلام الرجال ممن ينسون هذا الفضل، أو تغلبهم المنافسة على الشهادة به في معرض الخصومة؟ ... ولعل النافثين بهذا الغيظ كانوا يثوبون إلى بعض الصبر، والتجاوز لو أنهم وجدوا من يشكون إليه، فيحسن الإصغاء والاعتراف لهم بالحق في دعواهم، ولكنهم كانوا يشكون فيثور بهم المخالفون ويلجئونهم إلى الصمت راغمين، فلما قال ذلك الرجل مقالته هموا بقتله لساعته لولا أن حمته عشيرته وصحبه، ثم وثبوا عليه في الغد فقتلوه وقتلوا معه قرابة سبعين. •••
وكان العبيد والموالي والأعراب المحرومون حانقين متبرمين لا يرضون عن حظهم من العيش، بعد أن علمهم الإسلام حقوق المساواة، وشرع لهم شريعة الإنصاف، ولقد يكون معظم المتآمرين على قتل عثمان من هؤلاء العبيد والموالي والأعراب المحرومين، فلما طولب علي بالاقتصاص منهم لمقتل عثمان قال: «كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ ... ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا فهلا ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟»
وقالت السيدة عائشة - رضي الله عنها: «أيها الناس! ... إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما بالأمس ... والله لأصبع عثمان خير طباق الأرض أمثالهم ...» •••
وكان مع علي جمهرة القراء والحفاظ وأصحاب النسك والفقه والشريعة، وهم خلق كثير يعدون بالألوف ويتفرقون في الحواضر والبوادي، ولا يزالون كأنبياء بني إسرائيل منذرين متوعدين ساخطين على ترف المترفين، منكرين لكل خلاف ولو يسير في إقامة أحكام الدين، لا يرضون عن الدنيا ولا عمن رضي بها من طلابها، ولا يستمعون إلى أمر إلا أن يكون في رأيهم وفاقا لحكم القرآن كما يفسرونه وحكم السنة كما يعتقدونها، وطالما وقفوا بين علي وبين القتال؛ لأنهم لا يستجيزونه أو عن الصلح والتحكيم؛ لأنهم يجلون القرآن عن قبوله ... فإذا كان أجناد معاوية يسمعون الحق والباطل؛ لأنهم لا يفرقون بينهما ولا يفرقون بين الجمل والناقة، فهؤلاء الأجناد العارفون لا يسمعون إلا ما أجازوه واستوجبوه؛ لأنهم خرجوا في الأرض للتفريق بين الحلال والحرام والمعروف والمنكر، فلا يجمعون على طاعة ولا يحاربون أو يسالمون في جماعة، وهم أقرب الناس في ذلك العهد إلى الجهر بالنذير والنداء بالتبديل والتغيير، والإصغاء إلى وحي الضمير قبل دعاء الأمير.
واجتمع مع علي في الحجاز والكوفة كل منافس على الخلافة متطلع إليها، ولو لم يجهر بطلبها مخافة من شركائه الذين يزاحمونه عليها، فمنهم من كان يقول لعلي: نبايعك على أنا شركاؤك، ومنهم من كان يتعلل بقلة المشاورة له والمبالاة بقوله، ومنهم من كان يحارب عثمان ثم أصبح يحارب عليا باسم عثمان، تمحلا لذرائع الخلاف وكراهة لاستقرار الأمور ... •••
وقد كان أبو بكر وعمر يمسكان كبار الصحابة بالحجاز، ويحذران منهم أن ينطلقوا في الأرض فيقبلوا على الدنيا ويشجر بينهم من النزاع ما يشجر بين طلابها، ثم ينصدع شمل الأمة بالتشيع لهم وعليهم والتفرق بين أنصارهم وأعدائهم، وأوصى أبو بكر خليفته من بعده قائلا: ... احذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الذين انتفخت أجوافهم، وطمحت أبصارهم وأحب كل امرئ منهم نفسه، وإن منهم لحيرة عند زلة واحد منهم فإياك أن تكونه ، واعلم أنهم لن يزالوا منك خائفين ما خفت الله ...
فلما صارت الخلافة إلى عثمان أهمل هذه السياسة الحكيمة، وشق عليه أن يطيل حبسهم بالحجاز والهيمنة عليهم بجواره، فانطلقوا حيث ذهبت بهم المذاهب، وكان منهم ما حذره أبو بكر حيث قال لعبد الرحمن بن عوف: «ورأيتم الدنيا قد أقبلت ... حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتى يألم أحدكم بالاضجاع على الصوف الأذربي
2
كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان.» •••
روى المسعودي أنه: «في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال، فكان لعثمان يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار وخلف إبلا وخيلا كثيرة، وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلف ألف فرس وألف أمة، وكانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك، وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس، وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفا، وخلف زيد بن ثابت من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفئوس غير ما خلف من الأموال والضياع، وبنى الزبير داره بالبصرة وبنى أيضا بمصر والكوفة والإسكندرية ... وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيد داره بالمدينة، وبناها بالجص والآجر والساج، وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ورفع سمكها، وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات، وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصصة الظاهر والباطن، وخلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار وعقارا وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم». •••
هؤلاء أيضا أصبحوا في حصة علي من الدولة الإسلامية عنصرا من أقوى عناصر القلق والتبرم، والنفور من دوام الأمر للحكومة الجديدة، خلافا لأمثالهم في معسكر معاوية.
فالذي يغلب على أصحاب الثروات في كل مجتمع أنهم أنصار الحالة القائمة، وأعداء الثورة والاضطراب السياسي أو الاجتماعي على التخصيص، ولكن هؤلاء الأغنياء خالفوا المعهود في مجتمع علي، فأصبحوا قادة السخط والشكوى وأعوان الثورة والتغيير ولو في سرائر القلوب، كلما حيل بينهم وبين الظهور في الثورة بفعل محسوس؛ لأنهم عرفوا عليا من قبل ومن بعد فعلموا أنه لن يقرهم على ما هم فيه، ولن يلبث أن يحاسبهم على ما جمعوه من المال أو يأخذ عليهم طريق المزيد.
عرفوا مذهبه في حساب الولاية ومذهبه في حساب الخلافة، فلما كان واليا لليمن أبى علي على بعض الصحابة أن يركبوا إبل الصدقة، وقال لهم: إنما لكم منها سهم كما للمسلمين، ثم لام العامل الذي أذن لهم أن يركبوها في غيبته وهو منصرف إلى الحج، وشاعت هذه القصة؛ لأن أناسا شكوه إلى رسول الله - عليه السلام - فأنكر شكواهم منه، وقال: «لقد علمت أنه جيش في سبيل الله.» •••
ولما قام عثمان بالخلافة طال عتب علي عليه؛ لأنه أباح للعمال والولاة ما ليس بمباح في رأيه، ولقي بالعتاب كل صحابي من إخوانه جمع مالا واستهوته فتنة البذخ والثراء.
وليس مذهبه واليا ولا مذهبه خليفة بمريح أولئك الأغنياء، الذين ذاقوا حلاوة الغنى وكرهوا أن يحرموه أو يحاسبوا عليه.
ولم يكن في وسع علي أن يغض عنهم نظره ولو شاء ذلك، وهو لا يشاؤه ولا يحله لنفسه وقد أنكره على غيره؛ لأنه إذا غض نظره لم يستطع أن يغض الأنظار المفتوحة التي ثارت بعثمان، وبايعت عليا بعده ليصنع غير ما صنعه عثمان وغير ما أثارهم عليه.
فلا دعاة الدنيا راضون مطيعون، ولا دعاة الدين راضون مطيعون، ولا الفقراء والجهلاء راضون مطيعون، وما منهم إلا من هو قلق متوفز لا يسكن به سكن ولا يدوم به قرار.
وكل أولئك كانوا في حصة علي من الدولة الإسلامية، ولم يكن لمعاوية في حصته شاجرة فتنة من هذه الشواجر، بل كان له في موضع كل واحدة منها دعامة تمكين وتأييد.
وإن هذه الشواجر على كثرتها وقوتها لفي غنى عن علة أخرى من علل الفساد والشقاق تضاف إليها.
ولكنها مع هذا لم تستوعب تلك العلل التي اصطلحت على حصة علي من الدولة الإسلامية ... فقد أضيفت إليها علة أخرى، بل أضيفت إليها أكثر العلل التي تبتلى بها دولة أو حكومة، وهي اعتمادها في مواردها على غيرها ...
فكانت موارد الشام في الشام نفسها من خراج أو أنفال أو تجارة، أما موارد الحجاز فقد كانت بعيدة منه وإن دخلت في طاعته، وجنحت إلى القائم بالأمر فيه، وكانت مصر والسواد من حصة علي، ولكنه لم ينتفع بمصر كثيرا لتعاقب الولاة فيها، ولم يستفد بالسواد كثيرا لتعاقب الفتن والغارات عليها ... وحسبك من هذا داعية قلق وباعث مخافة ومبطل أمان وطمأنينة ... •••
وينبغي أن نذكر أن الحيلة في هذا التقسيم قليلة، وأن الحوادث هي التي اختارت لكل حصة من الحصتين زعيما، وأشبه الناس بها وأقربهم إلى ولاية أمرها و«كما تكونوا يول عليكم» ... ولا محل في هذه القاعدة لحيلة أو اختيار ...
فلم يكن أحد أشبه بقيادة المنافع المستبقاة من معاوية، ولم يكن أحد أشبه من علي بقيادة الشكوى التي تطمح بأصحابها إلى التغيير ...
إن شكا أناس غلبة قريش، فعلي كان يشكو منها ويظن الظنون بحقدها عليه ونكرانها لحقه، ويقول في كتاب من كتبه إلى أخيه: «... ودع عنك قريشا وتركاضهم في الضلال، وتحولهم في الشقاق، فإن قريشا قد أجمعت على حرب أخيك إجماعها على حرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قبل اليوم ...»
وإن جاءت صيحة الإصلاح والتغيير عن طريق الدين على مذهب الحفاظ والقراء والنساك، فعلي كان إمام أهل العلم والقراءة، وأحق من يتكلم بتفقيه أو تفسير.
وإن جاءت من ضيم الفقراء فعلي فقير، أو من تهافت الولاة على المال فعلي يبغض هذا التهافت كما يبغضه أضعف الفقراء، عن زهد فيه لا عن قلة الوسائل إليه ...
فما شكا شاك قط إلا وعلي شريك له في شكواه، وكيف ينجو رجل كهذا من قيادة الدولة التي قامت على التبرم بالحال والطموح إلى التغيير؟ ... وأية حيلة له إلى جانب حيلة الحوادث وتوفيق المقادير؟ ... •••
كان علي نموذج أصحابه الأعلى، وكان معاوية نموذج أصحابه الأعلى، وكانا لأجل ذلك في موضع رشحتهما له الحوادث قسرا قبل أن يرشحا له بإرادة مريد.
وما نحن بقادرين على وزن الرجلين، ولا على المقابلة بينهما في الرأي والعمل ما لم نستحضر هذه الحقيقة أبدا، وما لم نذكر أبدا أن أحدهما كان يعمل والحوادث حرب عليه، وأن الآخر كان يعمل والحوادث عدة في يديه! ...
البيعة
بويع لعلي بالخلافة بعد حادثة من أفجع الحوادث الدامية في تاريخ الإسلام، وهي مقتل الخليفة عثمان بن عفان في شيخوخته الواهنة، بعد أن حصروه بين جدران داره، وكاد يقتله الظمأ لو أمهله القتلة بضعة أيام ...
وأفجع ما كان في هذه الحادثة، أنها بلاء لا يدفع، وقضاء لا حيلة لأحد في اتقائه؛ لأن المسئولين عنه كثيرون متفرقون في كل جانب يناصره أو يعاديه ... فإذا امتنع الأعداء لم يمتنع الأصدقاء، وإذا بطل الشر الذي فيه اختيار لم يبطل الشر الذي لا اختيار فيه، وربما كان حسن النية وسوء النية هنا صنوين متساويين، فمن الأعمال المؤسفة التي عجلت بالفاجعة أعمال كثيرة بدرت من عثمان نفسه، أو لعله أقدم عليها بعد قصد ومراجعة، وليست هي في تعجيلها ولا في سوء مغبتها بأهون من أعمال الأعداء ...
مضت السنون الأولى من خلافة عثمان على خير ما كان يرجى لها أن تمضي في عهد خليفة ...
ثم تغيرت الأحوال فجأة من جانب الراعي ومن جانب الرعية، لأسباب لم تكن طارئة ساعة ظهورها، وإن ظهرت عواقبها طارئات.
وتتعدد الأسباب التي أوجبت ذلك التغيير بعد السنوات الأولى، ولكنها قد تنحصر في سببين اثنين جامعين لغيرهما من الأسباب العديدة، وهما إمعان الخليفة في الشيخوخة، واستمراء الأعوان لما نعموا به من لين الخليفة ولين الرغد والمتاع.
ولقد كتبت الأسفار المطولات في إحصاء المآخذ على عثمان - رضي الله عنه - وكتبت الأسفار المطولات في تبرئة الخليفة من تلك المآخذ، أو الاعتذار له بأحسن الأعذار وتفسيرها على أحسن الوجوه؛ لأن المسألة خرجت من عداد المسائل التاريخية، وانتقلت إلى ميدان النزاع بين الأحزاب والمذاهب وأقاويل الجدل والحجاج ... فجعلها الشيعيون وأهل السنة ذريعة إلى تأييد مذهب، وإنكار مذهب في الخلافة والخلفاء، وراح الأولون يبالغون في الاتهام كما يبالغ الآخرون في الدفاع، ولا طائل هنا من شرح هذا وذاك، ولا هو مما يقتضيه كلامنا الآن ... وإنما المرجع فيه إلى تاريخ عثمان ...
إلا أننا نجتزئ هنا بالإشارة إلى التذمر الذي أثار الفتنة، والإلمام بأسبابه عند أصحابه ... فمما لا شك فيه أنهم تذمروا لأسباب تثيرهم، وإن طال الشك والجدل حول نصيبهم من الخطأ والصواب.
أهم هذه الأسباب، أنه خالف بعض السنن التي اتبعها النبي - عليه السلام - في الأذان والصلاة، وأنه أدنى أناسا من أقاربه كان رسول الله - عليه السلام - قد أقصاهم عن المدينة ... فاستدعاهم إليه بعد استخلافه، وأغدق عليهم المنح والأموال، وأنه أطلق العنان لأبناء أسرته في الولاية والعمالة، ومنهم من اتهموه بإقامة الصلاة وهو سكران، وأنه منح سفيان بن حرب مائتي ألف درهم، ومنح الحارث بن الحكم زوج ابنته عائشة مائة ألف درهم من بيت المال، وأنه توسع في بناء القصور، وحرم بعض الصحابة، وضرب بعضهم على مشهد من الملأ ضرب إهانة وإيجاع ...
ولم تنقض سنوات على هذه الحال حتى كثر المترفون من جانب، والمتربون من جانب آخر، وشاع بين الجانبين ما يشيع دائما في أمثال هذه الأحوال من الملاحاة والبغضاء والتزيد بالتهم واللجاجة، وإضافة الأوهام إلى الحقائق في خلق ذرائع الخلاف والشحناء.
ويدل على خطر مسألة الثروة في هذه الفتنة، أن الناس تألبوا على الخليفة مرة ... فأرسل في طلب علي ليصرفهم عنه، فلما قدم إليه استأذنه في إعطائهم بعض الرفد العاجل من بيت المال، فأذن له ... فانصرفوا عن زعماء الفتنة، وهدءوا إلى حين ...
ثم توافد المتذمرون من الولايات إلى المدينة مجندين وغير مجندين، وتولى زعامة المتذمرين في بعض الأحيان جماعة من أجلاء الصحابة، كتبوا صحيفة وقعوها وأشهدوا فيها المسلمين على مآخذ الخليفة ... فلما حملها عمار بن ياسر إليه، غضب وزيره مروان بن الحكم، وقال له: «إن هذا العبد الأسود قد جرأ عليك الناس ... وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه.» فضربوه حتى غشي عليه.
وفي مرات أخرى، كان الخليفة يصغي إلى هذه الشكايات ويندم على ما اجترحه أعوانه بعلمه أو بغير علمه، ثم يعلن التوبة إلى رعاياه، ويؤكد لهم الوعد بإقصاء أولئك الأعوان، وإخلافهم في أعمالهم بمن يرضي المسلمين، ويرضي الله.
ثم يغلبه أولئك الأعوان على مشيئته، فيبقيهم حيث كانوا ويملي لهم فيما تعودوه من الترف والنكاية، وعلى رأسهم مروان بن الحكم ... أبغض أولئك الأعوان إلى المسلمين، حتى من أهل الخليفة المقربين.
وكان بعض الوفود يشكون ولاتهم، فإذا عادوا إلى بلادهم تلقاهم أولئك الولاة بالأذى، وقتلوا بعضهم ضربا على ملأ من الشاكين الذين ينتظرون الإنصاف ... فيعود المضروبون إلى الشكوى، وينصرهم أجلاء الصحابة عن الخليفة، ويسألونه أن يولي عليهم غير واليهم المسيء إليهم، فإذا توجه الوالي الجديد إلى مكانه، إذا في الطريق رسول يحمل خطابا للوالي المعزول، يأمره فيه بقتل من يفد إليه من حاملي الشكوى وحاملي كتاب الولاية، ويقره في مكانه!
حدث هذا مع وفد مصر، واختلفت الأقاويل في تأويله من متهم للخليفة، ومتهم لمنافسيه على الخلافة، ومتهم لوفد الشكوى الذي عثر بالخطاب، ومتهم لمروان بن الحكم - عنصر السوء في هذه المأساة كلها - وهو أولى الأقاويل بالترجيح والتصديق، إذا كان أيسر شيء على مروان لو كان بريئا من هذه المكيدة أن يكشف حقيقتها بسؤال الغلام حامل الخطاب، وفي كشف هذه الحقيقة إبراء له، وتعزيز لسلطان الخليفة، وفضيحة لأعدائه، وإدحاض لحجة الفتنة ودعوة الإثارة والتحريض ... ولكنه أهمل السؤال، وقنع من تبرئة نفسه بقذف التهمة على متهميه ... •••
وظل الخليفة والثوار يشتبكون ويتحاجزون ... لا هم في حرب، ولا هم في سلام ...
وكلما تحاجزوا بعد اشتباك منذر بالشر، زاد الخليفة ضعفا، وزاد الثوار ضراوة، وزاد التوجس بينهم استفحالا، واتسع مع التوجس مجال السعاية والإرجاف بين الفريقين حتى بلغ الكتاب أجله ...
وتوسط علي بين الخليفة والثوار، فاستمهلهم الخليفة ثلاثة أيام يرد فيها المظالم، ويعزل العمال المكروهين.
فانتظر الثوار هذه الأيام الثلاثة تلبية لنصيحة علي ... ومنهم من يسيء الظن، ويرى أن الخليفة إنما يستمهلهم في انتظار المدد الذي طلبه من الأمصار ...
وانقضت الأيام الثلاثة على غير جدوى ...
وتفاقمت الفتنة، وأحاط الثائرون ببيت عثمان ... لا يقنعون في هذه الكرة إلا أن يعتزل، أو يسلمهم مروان بن الحكم، أو يعزلوه عنوة.
وجاء في رواية «شداد بن أوس» أن عليا - رضي الله عنه - خرج من منزله يومئذ معتما بعمامة رسول الله متقلدا سيفه، أمامه الحسن وعبد الله بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار، حتى حملوا على الناس وفرقوهم، ثم دخلوا على الخليفة فسلم عليه علي ... وقال بعد تمهيد وجيز: «... لا أرى القوم إلا قاتليك، فمرنا لنقاتل.» فقال الخليفة: «أنشد الله رجلا رأى لله حقا، وأقر أن لي عليه حقا، أن يهريق في سببي ملء محجمة من دم أو يهريق دمه في.» فأعاد علي القول، فأعاد عليه هذا الجواب ... ثم خرج من عنده إلى المسجد، وحضرت الصلاة فنادوه: «يا أبا الحسن ... تقدم فصل بالناس.» فقال: «لا أصلي بكم والإمام محصور، ولكني أصلي وحدي.» ثم صلى وحده وانصرف إلى منزله، وترك ابنيه مع أبناء زمرة من الصحابة في حراسة دار الخليفة؛ ليعلم الثوار أنهم معتدون على كل ذي خطر في الإسلام إن وصلوا إلى الخليفة باعتداء ... عساهم إن علموا ذلك أن يتهيبوا المركب، فلا ينزعوا بالشر غاية منزعه.
إلا أن الثوار علموا أنهم مأخوذون بالانتظار مغلوبون بالمطاولة، فتسوروا الدار وولغوا في دم طهور لو هان على صاحبه أن تسفك الدماء في سبيله لعز عليهم أن يسفكوه. •••
وللإفاضة في مقتل عثمان وعبرة هذا المقتل، مكان غير هذا المكان، وكتاب غير هذا الكتاب ...
فإنما نحن في صدد الموقف الذي وقفه علي من هذه الجريمة، وما ينم عليه هذا الموقف من خلقه ورأيه وسريرته وجهره ... وإنما يعنينا هنا أن نسأل: أكان عليه وزر في هذه الجريمة؟ ... أكان في مقدوره عمل صالح يعمله لإنقاذ عثمان من هذا المصير؟ ...
ونحن لا نسأل هذا السؤال لنرجع في جوابه إلى جدل المجادلين، وأقاصيص المادحين والقادحين ... فقد سال في الخلاف على هذا السؤال دم غزير ومداد كثير، وليس علينا نحن أن نزيد قطرة أو قطرات على هذا البحر المسجور الذي لا ري فيه.
ليس علينا هذا؛ لأننا نستطيع أن نعبره إلى حقيقة ماثلة لمن يشاء أن يراها، وفيها الغنى - ولو بعض الغنى - عن الإسهاب في السؤال والجواب ...
فالحقيقة التي لا يطول فيها الريب، أن عليا - رضي الله عنه - لم يكن أقدر على اجتناب هذا المصير من معاوية أو من عثمان نفسه، لو شاء عثمان أن يستمع إلى بعض الناصحين إليه.
فقد كان معاوية واليا عزيزا، له جند يرسله إلى الخليفة فيحميه في الشدة اللازبة وإن أباه، وكان لمعاوية قبول عند عثمان لم يكن لعلي ولا لأحد من خلصائه، وكان هو أقمن أن يميل بعثمان إلى الرضا بالحراسة أو الرضا بالرحلة إلى مكة أو الشام، لو أراد.
وكان في وسع عثمان أن يرحل إلى مكة، وهي آمن له من المدينة، أو يرحل إلى الشام، وقد كانت مفتوحة له قبل أن تغلقها الفتنة ويمرد الثوار في العصيان ...
أما علي فقد كان موقفه أصعب موقف يتخيله العقل في تلك الأزمة المحفوفة بالمصاعب من كل جانب ...
كان عليه أن يكبح الفرس عن الجماح، وكان عليه أن يرفع العقبات والحواجز من طريق الفرس ... كلما حيل بينها وبين الانطلاق.
كان ناقدا لسياسة عثمان وبطانته التي حجبته عن قلوب رعاياه ... ناصحا للخليفة بإقصاء تلك البطانة، وتبديل السياسة التي تزينها له، وتغريه باتباعها وصم الآذان عن الناصحين له بالإقلاع عنها.
وكان مع هذا أول من يطالب بالغوث، كلما هجم الثوار على تلك البطانة، وهموا بإقصائها عنوة من جوار الخليفة.
كان الثوار يحسبونه أول مسئول عن السعي في الإصلاح، وكان الخليفة يحسبه أول مسئول عن تهدئة الحال وكف أيدي الثوار.
ولم يكن في العالم الإسلامي كله رجل آخر يعاني مثل هذه المعضلة، التي تلقاه من جانبيه كلما حاول الخلاص منها، ولا خلاص!
وضاعف هذا الحرج الشديد الذي كان يلقاه في كل خطوة من خطواته، أنه لم يكن بموضع الحظوة والقبول عند الخليفة حيثما وجب الإصغاء إلى الرأي والعمل بالمشورة، وإنما كان مروان بن الحكم موضع الحظوة الأولى بين المقربين إليه ... لا ينجو من إحدى جناياته التي كان يجنيها على الحكومة والرعية حتى يعود إلى الخليفة، فيوقع في روعه أن عليا وإخوانه من جلة الصحابة هم الساعون بين الناس بالكيد له، وتأليب الثائرين عليه، وأنه لا أمان له إلا أن يوقع بهم ويعرض عنهم ... ويلتمس الأمان عند عشيرته وأقربائه، ومن هم أحق الناس بسلطانه وأصدقهم رغبة في دوامه ...
ففي المؤتمر الذي جمعه الخليفة للتشاور في إصلاح الأمر وقمع الفتنة، لم يكن علي مدعوا ولا منظورا إليه بعين الثقة والمودة ... بل كان المدعوون إلى المؤتمر من أعدائه والكارهين لنصحه ... وهم معاوية وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن عامر وسعيد بن العاص، وهم في جملتهم أولئك الولاة الذين شكاهم علي وجمهرة الصحابة، وبرمت بهم صدور المهاجرين والأنصار.
قال لهم عثمان: «إن لكل امرئ وزراء ونصحاء، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما قد رأيتم، وطلبوا إلي أن أعزل عمالي، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون ... فاجتهدوا رأيكم وأشيروا علي» ...
قال معاوية: «أرى لك يا أمير المؤمنين أن ترد عمالك على الكفاية لما قبلهم، وأنا ضامن لك ما قبلي.»
رأي رجل يريد أن يحتفظ بولايته، ولا يريد أن يغضب أحدا من أصحاب الولايات في غير مصره ...
وقال عبد الله بن عامر: «رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك ... فلا تكون همة أحدهم إلا نفسه ...»
رأي رجل يريد أن يشغل الناس عن الشكوى ولا يريد أن يزيلها، ثم هو لا يبالي أن يخلق جهادا تسفك فيه الدماء في غير جهاد مطلوب.
وقال عبد الله بن سعد: «أرى يا أمير المؤمنين أن الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.»
رأي رجل يشتري الرضا بالرشوة، ويستبقي ما في يديه منها.
وقال عمرو بن العاص، وهو بين السخط على ولاية فاتها والطمع في ولاية يرجوها: «أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون، فاعتزم أن تعدل ... فإن أبيت، فاعتزم أن تعتزل ... فإن أبيت، فاعتزم عزما وامض قدما.»
رأي رجل عينه على الخليفة وعينه على الثوار؛ ولهذا بقي حتى تفرق المجتمعون ... ثم قال للخليفة حيث لا يسمعه أحد غيره: «والله يا أمير المؤمنين لأنت أعز علي من ذلك ... ولكني قد علمت أن سيبلغ الناس قول كل رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي ... فأقود إليك خيرا وأدفع عنك شرا ...» •••
وكان هؤلاء هم الوزراء والنصحاء وأهل الثقة عند عثمان، ومن ورائهم مروان بن الحكم يلازمه، ويكفل لهم أن يحجب النصحاء عنه، وفي مقدمتهم علي وإخوانه ... ثم تفرق المؤتمرون وقد رد عثمان كل عامل إلى عمله، وأمره بالتضييق على من قبله ...
فكانت حيلة علي في تلك المعضلة العصيبة جد قليلة، وكان الحول الذي في يديه أقل من الحيلة.
إلا أنه مع هذا قد صنع غاية ما يصنعه رجل معلق بالنقيضين، معصوب بالتبعتين، مسئول عن الخليفة أمام الثوار ومسئول عن الثوار أمام الخليفة ...
جاءه الثوار مرة من مصر خاصة، يتخطون الخليفة إليه ويعرضون الخلافة عليه ... فلقيهم أسوأ لقاء، وأنذرهم لئن عادوا إليها ليكونن جزاؤهم عنده وعند الخليفة القائم، جزاء العصاة المفسدين في الأرض.
وجاءوه مرة أخرى وحجتهم ناهضة، ودليل التهمة التي يتهمون بها بطانة عثمان في أيديهم ... جاءوه بالخطاب الذي وجدوه في طريق مصر مع غلام عثمان، يأمر عامله بقتلهم بعد أن وعدهم خيرا، وأجابهم إلى تولية العامل الذي يرضيهم، فلم تخدعه حجتهم الناهضة، ولم يشأ أن يملي لهم في ثورتهم واحتجاجهم من جراء ذلك الخطاب المشكوك فيه، وجعلهم متهمين مسئولين بعد أن كانوا متهمين سائلين، فقال لهم: «وما الذي جمعكم في طريق واحد، وقد خرجتم من المدينة متفرقين كل منكم إلى وجهة؟ ...» •••
وكانت حيرة علي بين التقريب والإبعاد، أشد من حيرته بين الخليفة والثوار ... فكان يؤمر تارة بمبارحة المدينة ليكف الناس عن الهتاف باسمه، ويستدعى إليها تارة ليردع الناس عن مهاجمة الخليفة، فلما تكرر ذلك، قال لابن عباس الذي حمل إليه رسالة عثمان بالخروج إلى ماله في ينبع: «يا ابن عباس ... ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملا ناضحا بالغرب - أي: الدلو - أقبل وأدبر ... بعث إلي أن أخرج، ثم بعث إلي أن أقدم، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج ... والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما» ...
ثم بلغ السيل الزبى، كما قال عثمان - رضي الله عنه - فكتب إلى علي يذكر له ذلك ويقول: «إن أمر الناس ارتفع في شأني فوق قدره ... وزعموا أنهم لا يرجعون دون دمي، وطمع في من لا يدفع عن نفسه:
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل
وإلا فأدركني ولما أمزق»
فعاد علي، وجهد في إنقاذ الخليفة جهده، ولكنه كان يعالج داء استعصى دواؤه وابتلي به أطباؤه ... فكلهم يريد تغييرا يأتي من قبل الغيب أو يأتي من قبل الآخرين، ولا يغير شيئا من عمله أو مستطاعه، ولعل الخليفة لو شرع في التغيير المرجو يومئذ لما أجدى عليه عظيم جدوى، لفوات أوانه وانطلاق الفتنة من أعنتها، وامتناع التوفيق والصفاء بعد ما وقر في النفوس ولغطت به الأفواه ...
وعد الخليفة وعده الأخير ... ليصلحن الأحوال ويبدلن العمال ...
وأحاطت به بطانته كدأبها في أثر كل وعد من هذه الوعود، تنهاه أن ينجزه وتخيفه من طمع الناس فيه، إن هو أنجز ما وعدهم حين توعدوه.
وكانت المرأة أصدق نظرا من الرجال في هذه الغاشية التي تضل فيها العقول ... فأشارت عليه امرأته السيدة نائلة باسترضاء علي، والإعراض عن هذه البطانة، ولم يكن أيسر على بطانته من إقناعه بضعف هذا الرأي بعد سماعه من امرأة ضعيفة، فكان مروان يقول له: «والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها» ...
وكان هو يأذن له أن يخرج ليكلم الناس، فلا يكلمهم إلا بالزجر والإصرار ... كما قال لهم يوما: «ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم جئتم لنهب، شاهت الوجوه ... جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا ... ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله ما نحن مغلوبون على ما في أيدينا.»
إذن بطلت الروية، ولم يبق إلا لحظة طيش لا يدرى كيف تبدأ، ولا يؤتى لأحد إذا هي بدأت أن يقف دون منتهاها . •••
هجم الثوار على باب الخليفة، فمنعهم الحسين بن علي وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وطائفة من أبناء الصحابة ...
واجتلدوا فمنعهم عثمان، وقال لهم: «أنتم في حل من نصرتي.» وفتح الباب ليمنع الجلاد حوله ... ثم قال رجل من أسلم يناشد عثمان أن يعتزل، فرماه كثير بن الصلت الكندي بسهم فقتله، فجن جنون الثوار يطلبون القاتل من عثمان، وعثمان يأبى أن يسلمه، ويقول لهم: «لم أكن لأقتل رجلا نصرني وأنتم تريدون قتلي ...» وعز على الثوار أن يدخلوا من الباب الذي كان قد أغلق بعد فتحه، فاقتحموا الدار من الدور التي حولها ... وأقدموا على فعلتهم النكراء بعد إحجام كثير.
لو لم تقع الواقعة في هذه اللحظة الطائشة، لوقعت في لحظة غيرها لا يدرى كيف تبدأ هي الأخرى ... فإنما هي بادرة واحدة من رجل واحد تسوق وراءها كل مجتمع حول الدار من المهاجرين أو المدافعين، ولا أكثر من البوادر بين ثوار لا يجمعهم رأي، ومدافعين لا يضبطهم عنان ...
ونقل الخبر إلى المسجد، وفيه علي جالس في نحو عشرة من المصلين، فراعه منظر القادم وسأله: «ويحك ما وراءك؟» قال: «والله قد فرغ من الرجل.» فصاح به: «تبا لكم آخر الدهر ...» وأسرع إلى دار الخليفة المقتول ... فلطم الحسن، وضرب الحسين، وشتم محمدا بن طلحة وعبد الله بن الزبير وجعل يسأل ولديه: «كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟» فأجابه طلحة: «لا تضرب يا أبا الحسن ولا تشتم ولا تلعن، لو دفع مروان ما قتل.» •••
قال سيف بن عمر عن جماعة من شيوخه: «بقيت المدينة خمسة أيام بعد مقتل عثمان، وأميرها الغافقي بن حرب، يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر، والمصريون يلحون على علي وهو يهرب إلى الحيطان،
1
ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم، فقالوا فيما بينهم: لا نولي أحدا من هؤلاء الثلاثة، فمضوا إلى سعد بن أبي وقاص فقالوا: إنك من أهل الشورى، فلم يقبل منهم، ثم راحوا إلى ابن عمر فأبى عليهم، فحاروا في أمرهم ، ثم قالوا: إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بقتل عثمان من غير إمرة اختلف الناس في أمرهم ولم نسلم ... فرجعوا إلى علي فألحوا عليه، وأخذ الأشتر بيده فبايعه وبايعه الناس ... وكلهم يقول: لا يصلح لها إلا علي، فلما كان يوم الجمعة وصعد على المنبر، بايعه من لم يبايعه بالأمس وكان أول من بايعه طلحة بيده الشلاء، فقال قائل: «إنا لله وإنا إليه راجعون.» ثم الزبير، ثم قال الزبير: «إنما بايعت عليا واللج على عنقي والسلام ...»
وهذا الخبر على وجازته، قد حصر لنا أسماء جميع المرشحين للخلافة بالمدينة عند مقتل عثمان ... وربما كان أشدهم طلبا لها طلحة والزبير اللذان أعلنا الحرب على علي بعد ذلك ... فقد كانا يمهدان لها في حياة عثمان، ويحسبان أن قريشا قد أجمعت أمرها ألا يتولاها هاشمي، وأن عليا وشيك أن يذاد عنها بعد عثمان كما ذيد عنها من قبله، وكانت السيدة عائشة تؤثر أن تئول الخلافة إلى واحد من هذين ... أو إلى عبد الله بن الزبير؛ لأن طلحة من قبيلة تيم والزبير زوج أختها أسماء، وفي تأييد السيدة عائشة لواحد منهما مدعاة أمل كبير في النجاح ...
على أن الرأي هنا لم يكن رأي قريش، ولا رأي بني هاشم ... فلو أن عثمان مات حتف أنفه، ولم يذهب ضحية هذه الثورة لجاز أن تجتمع قريش فتعقد البيعة لخليفة غير علي بن أبي طالب، وجاز أن يختلف بنو هاشم ... فلا يجتمع لهم رأي على رجل من رجالهم الثلاثة المرشحين للخلافة، وهم: عقيل، وعلي، وابن عباس. •••
ولكنها الثورة الاجتماعية التي تنشد رجلها دون غيره ولا محيد لها عنه ... فإن ترددت أياما، فذاك هو التردد العارض الذي يرد على الخاطر لا محالة، قبل التوافق على رأي جازم ... ثم لا معدل للثورة عن الرجل الذي تتجه إليه وحده على الرغم منها ...
فطلحة والزبير، كانا يشبهان عثمان في كثير مما أخذه عليه المتحرجون في الدين، وتمرد له الفقراء المحرومون ... كانا يخوضان في المال، ولا يفهمان الزهد والعلم على سنة الناقمين المتزمتين، فإذا طلب الثائرون خليفة على شرطهم ووفاق رجائهم ... فما هم بواجديه في غير علي بن أبي طالب، وقد قال بحق: «إن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر.» ولو شاء لقال عن الخاصة الذين لا يطمعون في الخلافة مقالته عن العامة في انقيادهم إليه بغير رهبة ولا رغبة ... فقد كان أولئك الخاصة جميعا على رأي العامة في حكومة عثمان وبطانته، وإن أخفى بعضهم لومه ... ولم يذهب بعضهم في اللوم مذهب الثوار في النزق وسفك الدماء ...
ونعتقد كما أسلفنا أن هذه الحقيقة هي أولى الحقائق بالتوكيد والاستحضار، كلما عرض أمر من أمور الخلاف والتردد في خلافة علي رضي الله عنه ... فإذا هي فهمت على وجهها، فكل ما عداها مفهوم البواطن والظواهر منسوق الموارد والمصادر ... وإذا هي لم تفهم على الوجه الأمثل أو تركت جانبا، وبحث الباحثون عن العلل والعواقب في غيرها، فالعهد كله غامض مجهول، والموازين كلها مختلة منقوصة سواء في تقدير الرجال أو تقدير الأعمال، وجاز حينئذ أن يرمى علي بالخطأ ... ولا خطأ عنده يصححه غيره في موضعه، وإنما هو حكم الموقف الذي لا محيد عنه، وجاز كذلك أن ينحل خصومه فضل الصواب ولا صواب عندهم؛ لأنهم مضطرون إلى ورود هذا المورد ... فكروا فيه أو طرقوه اعتسافا بغير تفكير ... •••
فلم تكن المسألة خلافا بين علي ومعاوية على شيء واحد، ينحسم فيه النزاع بانتصار هذا أو ذاك.
ولكنها كانت خلافا بين نظامين متقابلين وعالمين متنافسين: أحدهما يتمرد ولا يستقر، والآخر يقبل الحكومة كما استجدت، ويميل فيها إلى البقاء والاستقرار ...
أو هي كانت صراعا بين الخلافة الدينية كما تمثلت في علي بن أبي طالب، والدولة الدنيوية كما تمثلت في معاوية بن أبي سفيان.
وليس موضع الحسم فيها أن ينتصر علي ... فيحكم في مكان معاوية، أو ينتصر معاوية فيحكم في مكان علي، بل موضع الحسم فيها مبادئ الحكم كيف تكون إذا تغلب واحد منهما على خصمه؟ أتكون مبادئ الخلافة الدينية أو مبادئ الدولة الدنيوية؟ ... أتكون مبادئ الورع والزهادة أو مبادئ الحياة على أساس الثروة الجديدة ، كما توزعت بين الأمصار، وتفرقت بين السراة والأجناد والأعوان؟
فلو أن عليا ملك الشام ومصر والعراق والحجاز، وجرى في سياستها على سنة أصحابه من الحفاظ والقراء، ومنكري البذخ والإسراف لبقيت المشكلة حيث كانت، ولم تغن هزيمة معاوية إلا ريثما يتجرد للدولة منازع آخر يحاول الغلبة من حيث فشل ...
ولو أن معاوية ملك المدينة إلى جانب ملكه، وجرى في سياستها على سنة الحفاظ والقراء لما أرضاهم، ولا انقاد له أحد من أشياعه ...
فالحسم حق الحسم هنا، إنما هو تغليب مبادئ الملك أو مبادئ الخلافة، ولا حيلة لعلي ولا لمعاوية في علاج الأمر على غير هذا الوجه، لو جهد له جهد الطاقة ... •••
وقد كان الموقف بين الخلافة والملك ملتبسا متشابكا في عهد عثمان: كان نصف ملك ونصف خلافة، أو كان نصف زعامة دينية ونصف إمارة دنيوية ...
فوجب أولا أن يتضح الموقف بينهما، وأن يزول الالتباس عن فلق صريح ...
ووجب وقد زال الالتباس، وتقابل الضدان اللذان لا يتفقان، أن يبلغ الخلاف مداه ... ولن يزال قائما حتى تكتب الغلبة لمبدأ من المبدأين وحكم من الحكمين، وليس لعلي أو معاوية على التخصيص.
هذه هي العلة الكبرى التي تنطوي فيها جميع العلل الظاهرة ...
وخليق بكل علة أخرى أن تكون تعلة موضوعة يستر صاحبها غير ما يبطن، أو ينخدع في زعمه وهو غافل عن معناه ...
خذ لذلك مثلا علة طلحة وأصحابه الذين ثاروا على علي ليطلبوه بدم عثمان، وهم لم يدفعوا عنه في حياته بعض ما دفع علي عنه، وقد كان عثمان كثيرا ما يقول: «ويلي من طلحة ... أعطيته كذا وكذا ذهبا وهو يروم دمي ... اللهم لا تمتعه به ولقه عواقب بغيه» ...
وساء ظن الناس بنقمة طلحة على عثمان حتى حدث بعضهم أنه رآه يوم مقتله يرمي الدار، ويقود بعض الثائرين إلى الدور المجاورة؛ ليهبطوا منها إلى دار عثمان، وهو حديث يفتقر إلى السند الوثيق، ولكنه ينم على ظن الناس بصداقة طلحة للخليفة المقتول.
وخذ لذلك مثلا حجة معاوية حين علل ثورته باتهام علي في دم عثمان ، وعلل اتهامه لعلي بتقصيره في القود من الثائرين ... وهم ألوف يحملون السلاح، وهو لم يسكن بعد إلى سلطان يعينه على القود من هؤلاء الألوف المسلحين، فماذا صنع معاوية بقاتلي عثمان حين صار الملك إليه، ووجب عليه أن ينفذ العقاب الذي من أجله ثار واستباح القتال؟ إنه اتبع عليا فيما صنع، وأبى أن يذكر الثأر المقيم المقعد، وقد ذكروه به وألحفوا في تذكيره، ولقد كان أول ما سمعه يوم زار المدينة، ودخل بيت عثمان صيحة عائشة بنته وهي تبكي: «وا أبتاه.» فلم تزده هذه الصيحة المثيرة إلا إصرارا على الإغضاء والإعفاء، وقال لها يعزيها: «يا ابنة أخي ... إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، ومع كل إنسان سيفه وهو يرى مكان أنصاره ... فإن نكثنا بهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا ولأن تكوني بنت عم أمير المؤمنين خيرا من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين ...» •••
ولو كانت الثورة كلها من أجل عثمان لما انتهت بهذا التسليم الهين ... ولكان عذر علي في بداية المحنة أعظم حجة، وأحق بالقبول ...
أو خذ لذلك مثلا علة عمرو بن العاص، وقد كان أول الناصحين لعثمان بالاعتزال، بل كان عثمان يخطب ليسترضي الناس، وعمرو يصيح به من صفوف المسجد: «اتق الله يا عثمان، فإنك قد ركبت أمورا وركبناها معك ... فتب إلى الله نتب ...» ثم ترك عثمان في المدينة بين المؤتمرين به ومضى إلى فلسطين، وسمع وهو يقول: «والله إني كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان.»
فكل علة للثورة على خلافة علي، فهي تعلل موضوع ينخدع به قائله أو يخدع به غيره ... إلا تلك العلة التي طوت فيها جميع العلل ظاهرها وخافيها، وصريحها ومكذوبها، وهي الخلاف بين مبادئ الخلافة الدينية ومبادئ الدولة الدنيوية، وضرورة الفصل بين هاتين الخطتين ... وإن كان في ظاهره فصلا بين رجلين ...
فلما بويع بالخلافة، كانت هذه البيعة إيذانا بانقسام الحلقة بين الندين للصراع الأخير، أو كانت إيذانا باصطفاف المتسابقين إلى غاية لا بد من بلوغها ... ولن تخطر على البال غاية لهذا السباق المحتوم غير انتهاء الخلافة، أو انتهاء الملك على النحو الذي تهيأت له عناصر النظام الاجتماعي الجديد.
فأما انتهاء الملك في بدايته، فقد كان بعيدا - بل كان عسيرا جدا في تلك الآونة - كما يعسر انطفاء النار وهي تهب بالاشتعال ...
وأما انتهاء الخلافة فهو الذي كان، وهو الذي كان منظورا أن يكون، ولن يكون غيره بمنظور ... فمن الفضول لوم علي على شيء من الأشياء التي أفضت إلى هذه الخاتمة، وهي محتومة ليس عنها محيد ...
إذ لم يكن طبيعيا أن يصمد الناس على سنة النبوة أكثر من جيل واحد، تثوب بعده الطبائع إلى فطرتها من نشأة الخليقة الأولى، وقد يتفق كثيرا أن يغمرها جلال النبوة أو جلال الخلافة، وهي في إبان النضال والحمية الدينية، فتنسى المطامع وتسهو عن الحزازات، وتستعذب الألم والفداء إلى مدى الطاقة الإنسانية، ولكنها تبلغ مدى الطاقة الإنسانية بعد حين، وتفتر عن النهوض من قمة إلى قمة، فتركن آخر الأمر إلى الأرض السواء، حيث لا حافز ولا مستنهض إلا مجاراة الطبيعة في مجاريها التي لا تشق عليها، وإن المصلحين ليرضون غاية الرضا إذا هي حفظت من إصلاحهم عند ذلك وازعا يهديها بعد ضلالة عمياء، ويردعها بعد جماح مريد، ويكفكف من غلوائها ما كان من قبل منطلقا بغير عنان ...
وقد نظر النبي - عليه السلام - بعين الغيب إلى هذا المصير فقال: «الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون بعد ذلك الملك» ... وأنبأ بانقسام الفرق وتشعب الأهواء، وكأنما كان ينظر إلى ذلك بعينيه - صلوات الله عليه - واتبع علي من اليوم الأول في خلافته أحسن السياسات التي كان له أن يتبعها، فلا نعرف سياسة أخرى أشار بها ناقدوه أو مؤرخوه ثم أقاموا الدليل على أنها خير من سياسته في صدق الرأي وأمان العاقبة، أو أنها كانت كفيلة باجتناب المآزق التي ساقته الحوادث إليها.
فمن اللحظة الأولى، أخذ في تجنيد قوى الخلافة الدينية التي لا قوة له بغيرها ...
فعزل الولاة الذين استباحوا الغنائم المحظورة، وتمرغوا بالدنيا، وطمعوا وأطمعوا رعاياهم في بيت مال المسلمين، وأثاروا على عثمان سخط السواد وسخط الفقهاء المتحرجين والحفاظ الغيورين على فضائل الدين ... •••
ورد القطائع التي وزعتها بطانة عثمان بين المقربين وذوي الرحم، فصرفتها عن وجوهها التي جعلت لها من إصلاح المرافق، وإغاثة المفتقرين إليها على شرعة الإنصاف والمساواة.
ورجع إلى خطبة أبي بكر وعمر في تجنيب الصحابة الطامحين إلى الإمارة فتنة الولايات، مخافة عليهم من غوايتها وإبعادا لهم من دسائس الشيع والعصبيات ... فلما طالبه طلحة والزبير بولاية العراق واليمن، قال لهما: «بل تبقيان معي لآنس بكما.» وسأل ابن عباس: «ما ترى؟» فأشار بتولية الزبير البصرة وتولية طلحة الكوفة، قال علي: «ويحك ... إن العراقين بهما الرجال والأموال ... ومتى تملكا رقاب الناس يستميلان السفيه بالطمع، ويضربان الضعيف بالبلاء، ويقويان على القوي بالسلطان، ولو كنت مستعملا أحدا لضره أو نفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما ظهر من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي.»
نعم، إن هذه السياسة أغضبت منافسيه وطالبي المنفعة الدنيوية على يديه ... ولكن السياسة الأخرى كانت تغضب أنصاره، ولا تضمن رضا المنافسين ودوامهم على الرضا والوفاق بينهم في تأييده، وكانت تخالف عقيدته التي يدين بها نفسه وأقرب الناس إليه، وتخالف وعده وعقيدة الناس فيه ... ولن يكون مالكا غالبا بسياسة الملك على كل حال، فإن لم يكن خليفة فما هو بشيء، وإن كان خليفة وملكا فهي خطة عثمان التي لم تستقم قط على وجه من وجهيها ومصيرها معروف، وإن كان خليفة ولا اختيار له في ذلك، فكل ما صنع فهو الحكمة كأحسن ما تراض له الحكمة، وهو السداد كأقرب ما يتاح له السداد. •••
وعلم أن قريشا لا ينصرونه، فنقل العاصمة من المدينة إلى الكوفة ... لأن قريشا كانوا هاشميين وهم لا يتفقون على بيعته، وقد تركه أقربهم إليه ورحل إلى معاوية طمعا في رفده، أو كانوا أمويين وهم حزب معاوية وأهل عشيرته وبيته، أو من تيم وهم حزب طلحة، أو من عدي وهم يؤثرون عبد الله بن عمر بن الخطاب، أو من قبائل أخرى، وهم كما قال: «قد هربوا إلى الأثرة» ... فإذا أقام بينهم فهو مقيم بين أناس لا ينقطع لهم طلب ولا يضمن لهم ولاء ...
ولم تمض أيام معدودة على مبايعة الخليفة الجديد، حتى انتظمت صفوف الحجاز كله له أو عليه ... فكان معه جميع الشاكين لأسباب دينية أو دنيوية، وكان عليه جميع الولاة الذين انتفعوا في عهد عثمان، وجميع الطامعين في الانتفاع بالولاية والأموال العامة ... وحالت الخلافة الجديدة بينهم وبين ما طمعوا فيه ...
وعلى رأس هؤلاء طلحة والزبير ...
فحشدوا جموعهم إلى البصرة، وصحبتهم السيدة عائشة؛ لأنها كانت ترغب في خلافة طلحة ... لقيها ابن عباس على مقربة من المدينة وهو أمير على الحج من قبل عثمان، ولما يزل قائما بالخلافة، فقالت له: «يا ابن عباس ... أنشدك الله فإنك قد أعطيت لسانا أزعيلا - أي: ماضيا - أن تخذل عن هذا الرجل - تعني عثمان - وأن تشكك فيه الناس فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت ورفعت لهم المنار، وتحلبوا من البلدان لأمر قد جم، وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح ... فإن يل يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر - رضي الله عنه.» فأجابها ابن عباس: «يا أمه! لو حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا.» أي: علي، فقالت: «أيها عنك ... إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك.»
فلما بويع علي في المدينة، لم تكن من أنصاره ولا مع الباقين على الحيدة بينه وبين خصومه ... ولعلها لم تنس بعد نصيحته للنبي - عليه السلام - في مسألة الإفك التي قيل: إنه أشار فيها بتطليقها، فخرجت إلى البصرة مع المطالبين بثأر عثمان، وكانت هنالك وقعة الجمل التي سميت بهذا الاسم لاحتدام القتال فيها حول جملها وهودجها ... فانتصر علي، وقتل الزبير، ومات طلحة بجرح أصابه في المعركة، وحسم القتال بالصلح بين الفريقين في الحجاز والعراق ...
على أن هذا النصر العاجل، لم يخل من آفة تكدره وتنذر بالمخاوف التي يوشك أن يلقاها علي في حربه لخصومه الباقين بعد موت طلحة والزبير ... وأقواهم معاوية بن أبي سفيان صاحب الشام ...
فقد كشفت وقعة الجمل عن مصاعب القيادة في جيش من المتمردين والمتذمرين ... فإنهم يستحمسون في عقيدتهم، وهي فضيلة من فضائل الجيوش المقاتلة، ولكنهم من جراء هذه الحماسة نفسها عرضة للعناد، والتمادي في اللدد وإعجال قائدهم على إنعام الروية، وانتظار الفرص المؤاتية ...
فقد كان علي يميل - كدأبه - إلى مفاتحة الخارجين عليه في المهادنة أو المصالحة، وكان معه جماعة السبئية - أتباع عبد الله بن سبأ - وهم أخلص الناس له وأغيرهم عليه، ولكنهم لفرط غيرتهم ولددهم في عداوتهم لم يقنعوا بما دون القضاء على خصومه، ولم يقبلوا التوسط في الصلح دون الغلبة التي لا هوادة فيها ... فدهموا القوم وأوقدوا جذوة الحرب، قبل أن يفرغ علي من حديث المهادنة، والتقريب بينه وبين أصدقائه الذين خرجوا عليه ...
وكانت هذه أولى العثرات الكبار التي أعثرته بها حماسة المتمردين والمتذمرين في جيشه، ولم تزل تتعاقب وتتفاقم عليه حتى مني بالعثرة التي لا تقال ...
وكان ذلك في وقعة صفين ...
فإنه نظر بعد غلبته في العراق، فلم يجد أمامه خصما يقف في طريق الخلافة إلا جيش معاوية بالشام، فعمد معه إلى خطته التي جرى عليها مع خصومه كافة، حيث كانوا وكانت منزلتهم من الجاه والقوة، ونعني بها خطة المسالمة والبدء بالإقناع ... فطالت المراسلة منه إلى معاوية، ومن معاوية إليه، وفي مثل واحد منها، ما يغني عن كثير ...
كتب إلى معاوية بعد وقعة الجمل، وقد سبقته كتب كثيرة من المدينة ...
سلام عليك ... أما بعد، فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام؛ لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضى، وإن خرج عن أمرهم ردوه إلى ما خرج عنه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا، وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتهما، وكان نقضهما كردهما، فجاهدتهما بعدما أعذرت إليهما، حتى جاء الحق وظهر أمر الله، وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب الأمور إلي قبولك العافية، وقد أكثرت في قتلة عثمان، فإن رجعت عن رأيك وخلافك ودخلت فيما دخل فيه المسلمون ... ثم حاكمت القوم إلى حملتك وإياهم على كتاب الله، وأما تلك التي تريدها - يعني الخلافة - فهي خدعة الصبي عن اللبن، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان، واعلم أنك من الطلقاء
2
الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا يدخلون في الشورى وقد بعثت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة ... فبايعه، ولا قوة إلا بالله.
فرد عليه معاوية بما يلي:
سلام عليك ... أما بعد، فلعمري لو بايعك الذين ذكرت وأنت بريء من دم عثمان، لكنت كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنك أغريت بدم عثمان وخذلت الأنصار، فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان ... فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، وإنما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحق فيهم، فلما فارقوه كان الحكام على الناس أهل الشام، ولعمري ما حجتك على أهل الشام كحجتك على طلحة والزبير، إن كانا بايعاك فلم أبايعك أنا، فأما فضلك في الإسلام وقرابتك من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فلست أدفعه ...
ومن رد معاوية هذا، تبدو النية الواضحة في فتح أبواب الخلاف واحدا بعد واحد ... كلما أغلق باب منها بقي من ورائه باب مفتوح، ولا ينتهي الخلاف بإغلاقه.
فتسليم قتلة عثمان لا يكفي؛ لأن عليا نفسه متهم بالإغراء والتخذيل، وبراءة علي من هذه التهمة لا تكفي؛ لأن المرجع بعد ذلك إلى الشورى، والنظر في البيعة من جديد ...
وشورى الحجازيين والعراقيين لا تكفي؛ لأن الحق قد خرج منهم إلى أهل الشام، وهم الحكام على الناس ... لأنهم يحكمون لمعاوية ولا يحكمون لغيره ...
ومن ثم، بطلت الحجج والرسائل كما تبطل كل حجة وكل رسالة عندما يقال باللسان غير ما يجول في الصدور.
وزحف علي من الكوفة إلى صفين، ووجد جيش معاوية على الماء ... فنحاه عنه بعد أن أبى عليه معاوية أن ينحيه بغير قتال ...
وبدأت العثرات من ثم في كل خطوة يخطوها للسلام أو لقتال، فلا يتحفز فريق من أنصاره للحرب حتى يثنيه فريق آخر يحرمها ولا يقول بوجوبها، وتحاجز القوم نيفا وثمانين فزعة ... وتصاولوا في وقعات شتى غامرت بها طائفة من هنا وطائفة من هنا، وقلما اشتبك فيها الجيشان في وقعة جامعة حتى كانت وقعة الهرير، وحاقت الهزيمة بجيش معاوية وقيل: إنه هم بالفرار ... وإذا بالمصاحف ترفع على الحراب من قبل جيش الشام، وإذا بالعثرة الكبرى التي لا خطوة بعدها في طريق فلاح ... فإن عليا نظر حوله، فإذا بجيشه يوشك أن يقتتل فيما بينه نزاعا على القتال أو إلقاء السلاح، وإن معاوية لفي غنى عن كفاح قوم لا يتفقون على كفاحه ... فله منهم سيوف مشرعة لنصرته، شاءوا أو لم يشاءوا، وسيكفونه مئونة الحرب حتى يتفقوا بينهم على حربه، وهيهات! •••
ولو كانت آفة الطاعة في جيش علي مقصورة على اجتهاد القراء والحفاظ، وتعجل الغلاة والمتمردين ... لكان في ذلك وحده ما يكفي لإفساد التدبير، واضطراب القيادة وتعذر القتال على أصوله ... إذ لا يستغني القائد في ميدان الحرب، ولا في ميدان السياسة عن الكتمان والمفاجأة، وتحويل الخطط على حسب الطوارئ والمناسبات ... فإذا كان في كل عمل من أعماله عرضة لاجتهاد أصحاب الفتاوى، وكان أصحاب الفتاوى يفترقون عشرين وجهة في كل حركة من حركات الجيش، فليست له خطة تكتم ولا خطة تنفذ، وليس عجيبا بعد ذلك أن ينهزم في ميدان القتال شر هزيمة يبتلى بها مقاتل ... بل العجيب أن يتماسك فترة من الزمن - وإن قصرت - أمام جيش يفوقه في العدد، ويرجع في أمره إلى قيادة موحدة ونية مجتمعة ومشيئة مطاعة ...
ولكن الآفة مع هذا، لم تكن كلها في اجتهاد الحفاظ وتعجل الغلاة ... بل كان في الجيش أناس يخونون عهده ويشغبون عليه، ويبدو من أعمالهم أنهم مسخرون لعدوه كارهون لانتصاره ... فإن لم يكونوا كذلك، فالأمر الذي لا شك فيه أنهم كانوا يعملون وهم عامدون - وغير عامدين - شر ما يعمله الخائن الخبيث الذي يتحين الفرص للعناد والشقاق، وإفشاء الخلل والخذلان في أحرج الأوقات.
وأدهى من ذلك، أنه لم يكن قادرا على زجرهم والتنكيل بهم ... لأن الجيش الذي يوجد فيه من يحرم حرب العدو، لن يعدم أناسا يحرمون حرب النصير المقيم على ظاهر الطاعة، وليس لك بينة قاطعة عليه.
ومثل من ذلك أيضا يغني عن أمثال كثيرة، وهو مثل الأشعث بن قيس أكبر سادات كندة، وأخلقهم أن ينصر حزبا على حزب، لو خلصت نيته وبرئت شيمته من التقلب والغدر بأصحابه ...
طمح هذا الرجل إلى الملك بعد موت النبي - عليه السلام - فدعا قومه أن يتوجوه ... وحارب المسلمين مع المرتدين حتى حوصر في حصنه أياما، ويئس من الغلبة فاستسلم ... على أن يصون دمه وبقية دم عشرة من أخصائه، ثم فتح الحصن فقتل كل من فيه، ونجا بالعشرة الذين اختارهم إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقبل توبته وزوجه أخته أم فروة، فلما نشبت الفتنة بين علي ومعاوية، كان هو من حزب علي يتطلع للفرصة السانحة.
ثم زحف علي - رضي الله عنه - إلى صفين، فكان الأشعث أول المندفعين إلى القتال حين سد أهل الشام طريق الماء، وجاء عليا يقول: «يا أمير المؤمنين! أيمنعنا القوم الماء وأنت فينا ومعنا سيوفنا؟ ... ولني الزحف إليه ... فوالله لا أرجع أو أموت.»
ولكنه عاد إلى المسالمة، بعد أن وضح النصر في ليلة الهرير، فخطب في قومه من كندة قائلا: ... قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب ... فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط ... ألا فليبلغ الشاهد الغائب أنا إن توافقنا غدا إنه لفنيت العرب وضيعت الحرمات ... أما والله ما أقول هذه المقالة خوفا من الحرب، ولكني رجل مسن أخاف على النساء والذراري غدا إذا فنينا ...
ثم ذهب إلى علي - رضي الله عنه - بعد رفع المصاحف، فقال له: «ما أرى الناس إلا قد رضوا وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ... فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد، فنظرت ما يسأل» ...
ولقي معاوية فسأله: «يا معاوية ... لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟»
قال: «لنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله - عز وجل - في كتابه ... تبعثون منكم رجلا ترضون به، ونبعث منا رجلا، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ... ثم نتبع ما اتفقنا عليه.»
فقال الأشعث: «هذا الحق!»
وعاد إلى علي ينادي بالتحكيم، ويختار له هو وأنصاره رجلا ينوب عن علي، وعلي لا يرضاه ... •••
وكان أنصار التحكيم قد تكاثروا واجترءوا على أمير المؤمنين، فلم يبالوا أن يجبهوه بالقول السيئ منذرين متوعدين: «يا علي! أجب إلى كتاب الله - عز وجل - إذا دعيت، وإلا ندفعك برمتك إلى القوم أو نفعل كما فعلنا بابن عفان، إنه عرض علينا أن نعمل بما في كتاب الله - عز وجل - فقبلناه ... والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك.»
وألحوا عليه أن يرد قائده الأشتر النخعي من ساحة الحرب، وإلا اعتزلوه أو قتلوه ...
فقبل التحكيم وهو كاره ...
واختار أهل الشام عمرو بن العاص، فقال الأشعث: «فإنا رضينا بأبي موسى الأشعري.»
قال علي: «إنه ليس لي بثقة ... قد فارقني وخذل الناس عني، ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس نوليه ذلك.»
قالوا: «لا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى واحد منكم بأدنى من الآخر ...»
قال: «فإني أجعل الأشتر.»
قال الأشعث - وهو ينفس على الأشتر مكانته وبلاءه من قبل: «وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ ... أو قال: وهل نحن إلا في حكم الأشتر ...!»
فلما رأى إصرارهم وقلة أنصاره على رأيه بينهم قال: «فقد أبيتم إلا أبا موسى!»
قالوا: «نعم!»
قال: «فاصنعوا ما بدا لكم!» •••
فهذا رجل من الزعماء المطاعين في جيش علي، لم يدع من وسعه شيئا لتغليب حزب معاوية على حزبه، واستكثر عليه أن يكون الحكم الذي يختاره نصيرا له مؤمنا بحقه وصحة رأيه، ولا طائل في البحث عن هذا الخذلان الصريح، أكان هو الطمع في الملك بعد فشل علي أم النقمة على الأشتر النخعي في مكانته وبلائه، أم التواطؤ بينه وبين معاوية على منفعة مؤجلة ومكافأة موعودة ... فإنما النية الخبيثة ظاهرة وإن استترت العلة، وأيا كانت العلة الخفية فقد صنع الرجل غاية ما استطاع لتغليب حزب معاوية وخذلان الحزب الذي هو فيه.
قال علي يصف قسمته من الأنصار، وقسمته من النوازل والعثرات: «لو أحبني جبل لتهافت.»
وقال يصف أنصاره: «أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء ... ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل دفاع ذي الدين المطول ... أي دار بعد داركم تمنعون؟ ... ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ ... المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل،
3
أصبحت والله لا أصدق قولكم ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد العدو بكم، ما بالكم؟ ... ما دواؤكم؟ ... ما طبكم؟ ... القوم رجال أمثالكم، أقولا بغير علم؟ ... وغفلة من غير ورع؟ ... وطمعا في غير حق؟ ...» •••
وهي صيحة لا تصف إلا بعض ما يعانيه من حيرة، لا مخرج له منها في سياسة أصحابه، فإنه لم يفرغ من التحكيم الذي أذعن له وهو كاره، حتى فوجئ بطاقة أخرى من أنصاره يرمونه بالكفر؛ لأنه قبل ذلك التحكيم، وزعموه قبولا للتحكيم في كلام الله وفي دماء المسلمين، وهو عندهم كفر بواح، أولئك هم الخوارج الذين حاربوه بالسلاح، وكانوا يحرمون عليه حرب معاوية قبل ذاك!
ثم اجتمع الحكمان بدومة الجندل التي وقع عليها الاختيار؛ لتكون وسطا بين العراق والشام، ولم يكن قرار الحكمين خافيا على من عرفوا أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص، فإن أبا موسى لم يكتم قط أن السلامة في اجتناب الفريقين والقعود عن القتال، فليس أيسر من إقناعه بخلع صاحبه وخلع معاوية على السواء، ثم يرجع الرأي إلى عمرو بن العاص في إقرار هذا الخلع، أو الاحتيال فيه بالحيلة التي ترضيه.
إلا أن الدهاة من العرب، كانوا يتوقعون من عمرو بن العاص أن يحتال لنفسه حتى يفرغ وسعه قبل أن يحتال لصاحبه الذي أنابه عنه.
ومن هؤلاء الدهاة المغيرة بن شعبة الذي اعتزل الفريقين من مطلع الفتنة إلى يوم التحكيم، فلما اجتمع الحكمان علم أنها الجولة الأخيرة في الصراع ... فخرج من عزلته ودنا ليستطلع الأمور، على سنة الدهاة من أمثاله، إذ يتنسمون الريح قبل هبوبها، ولا يقلقون أنفسهم بمهبها قبل أوانها ... فلقي أبا موسى وعمرو بن العاص، ثم ذهب إلى معاوية وهو مشغول البال بطول الاجتماع بين الحكمين، واضطراب الظنون فيما وراء هذا الإبطاء المريب ... فقال له وهو يرى اشتغال باله: «قد أتيتك بخبر الرجلين ...»
قال معاوية: وما خبرهما؟ ...
قال المغيرة: «إني خلوت بأبي موسى لأبلو ما عنده فقلت: ما تقول فيمن اعتزل عن هذا وجلس في بيته كراهية للدماء؟ ... فقال: أولئك خيار الناس، خفت ظهورهم من دماء إخوانهم وبطونهم من أموالهم. فخرجت من عنده وأتيت عمرو بن العاص، فقلت: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن اعتزل هذه الحروب؟ ... فقال: أولئك شرار الناس لم يعرفوا حقا ولم ينكروا باطلا» ...
ثم عقب المغيرة قائلا: «أنا أحسب أبا موسى خالعا صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد، وأحسب هواه في عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأما عمرو بن العاص فهو صاحبك الذي عرفته، وأحسبه سيطلبها لنفسه أو لابنه عبد الله، ولا أراه يظن أنك أحق بهذا الأمر منه ...»
وقد أحسن المغيرة حزره نقل الحرف بالحرف في تقدير نية الرجلين، فإنهما ما اجتمعا هنيهة حتى أقبل أبو موسى على عمرو يقول له: «يا عمرو! ... هل لك فيما فيه صلاح الأمة ورضا الله؟»
قال: «وما هو؟ ...»
قال: «نولي عبد الله بن عمر، فإنه لم يدخل في نفسه شيء من هذه الحروب ...»
فراغ عمرو قليلا يحاول أن يلقي في روع صاحبه أنه يريد معاوية، ثم عاد يسأله: «فما يمنعك من ابني عبد الله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته؟»
فأوشك أبو موسى أن يجيبه لولا أنه قال: «إن ابنك رجل صدق، ولكنك غمسته في هذه الحروب غمسا.»
وتكرر بينهما هذا القول وأشباهه في كل لقاء، وطفقا يبدئان منه ويعيدان إليه بعد كل جدال، حتى وقر في خلد الأشعري أن خلع الزعيمين أمر لا مناص منه، ولا اتفاق بينهما على غيره، فتواعدا إلى يوم يعلنان فيه هذا القرار ...
وتقدم أبو موسى فقال بعد تمهيد: «... أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليا ومعاوية، ونستقبل الأمة بهذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت عليا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا.»
وتلاه عمرو فقال بعد تمهيد: «... إن هذا قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان بن عفان - رضي الله عنه - والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه.»
فغضب أبو موسى، وصاح به: «ما لك لا وفقك الله غدرت وفجرت، إنما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ...»
فابتسم عمرو، وهو يقول: «إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا ...»
كلب وحمار فيما حكما به على نفسيهما غاضبين، وهما يقضيان على العالم بأسره ليرضى بما قضياه ...
وانتهت المأساة بهذه المهزلة، أو انتهت المهزلة بهذه المأساة.
وبان أن اجتماع الحكمين لم يفض إلى اتفاق بين الحكمين، فعاد الخلاف إلى ما كان عليه ...
إلا أنه استشرى واحتدم بعد قصة الحكمين بما زاد عليه من فتنة الخوارج المنكرين للتحكيم.
فقد أجمعوا وأبرموا فيما بينهم «... إن هذين الحكمين قد حكما بغير ما أنزل الله، وقد كفر إخواننا حين رضوا بهما، وحكموا الرجال في دينهم ونحن على الشخوص من بين أظهرهم، وقد أصبحنا والحمد لله ونحن على الحق من بين هذا الخلق.»
وخرجوا وعلي يأبى قتالهم حتى ييأس من توبتهم، ولقيهم بالجيش، فآثر أن يلقاهم مناقشا قبل أن يلقاهم مقاتلا، واقترح عليهم أن يخرجوا إليه رجلا منهم يرضونه، يسأله ويجيبه ويتوب إن لزمته الحجة ويتوبوا إن لزمتهم، فأخرجوا إليه إمامهم عبد الله بن الكواء.
قال علي: «ما الذي نقمتم علي بعد رضاكم بولايتي وجهادكم معي وطاعتكم لي، فهلا برئتم مني يوم الجمل؟ ...»
قال ابن الكواء: «لم يكن هناك تحكيم.»
قال علي: «يا ابن الكواء ويحك ... أنا أهدى أم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟»
قال ابن الكواء: «بل رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»
قال علي: «فما سمعت قول الله - عز وجل:
فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم
أكان الله يشك أنهم هم الكاذبون ...
قال: «إن ذلك احتجاج عليهم، وأنت شككت في نفسك حين رضيت بالحكمين، فنحن أحرى أن نشك فيك.»
قال: وإن الله تعالى يقول:
فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ...
قال ابن الكواء: «ذلك أيضا احتجاج منه عليهم.» ثم قال بعد كلام طويل من قبيل كلامه هذا: «إنك صادق في جميع قولك غير أنك كفرت حين حكمت الحكمين.»
قال علي: «ويحك يا ابن الكواء ... إني إنما حكمت أبا موسى وحكم معاوية عمرا» ...
قال ابن الكواء: «فإن أبا موسى كان كافرا.»
قال علي: «متى كفر؟ ... أحين بعثته أم حين حكم؟»
قال ابن الكواء: «بل حين حكم.»
قال علي: «أفلا ترى أني بعثته مسلما فكفر في قولك بعد أن بعثته ... أرأيت لو أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعث رجلا من المسلمين إلى ناس من الكافرين ليدعوهم إلى الله،
4
فدعاهم إلى غيره، هل كان على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من ذلك شيء؟»
قال: «لا.»
قال: «ويحك ... فما كان علي أن ضل أبو موسى؟ أفيحل لكم بضلالة أبي موسى أن تضعوا سيوفكم على عواتقكم فتعترضوا بها الناس؟»
فعلم الخوارج أن صاحبهم ليس بند لعلي في مجال نقاش، فكفوه عن الكلام كأنهم آمنوا بصدق علي في حجته وقصده، لولا أنهم قوم قهرتهم لجاجة العناد كما تقهر أمثالهم من المتهوسين، الذين يجدون في المضي مع العناد لذة يستمرئونها من الحق والمعرفة ... فمردوا على الشقاق، وأصروا على تكفير علي وأصحابه، وأن يعاملوهم في الحرب والسلم معاملة الكفار ... •••
واستبقى علي بعد هذا كله بقية للسلم والمراجعة ... فرفع في الساحة راية ضم إليها ألفي رجل ونادى: «من التجأ إلى هذه الراية فهو آمن.»
ثم قال لأصحابه: «لا تبدءوهم بالقتال حتى يبدءوكم.» فصاح الخوارج صيحتهم: «لا حكم إلا لله وإن كره المشركون.» وهجموا هجمة رجل واحد ... وتلقاهم علي وأصحابه لقاء من نفد صبره ووغر صدره، فما هي إلا ساعة حتى قتل معظم الخوارج، وبقي منهم نحو أربعمائة أصيبوا بجراح وعجزوا عن القتال، فأمر بهم علي فحملوا إلى عشائرهم لينظروا من فيه رمق فيدركوه بعلاج.
وأراد المسير إلى الشام ليلقى بها جيش معاوية ...
فتصدى له الأشعث بن قيس مرة أخرى، كما تصدى له في كل فرصة سانحة للغلبة، وقال له على مسمع من الناس: «يا أمير المؤمنين ... نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونصلت أسنة رماحنا، فارجع بنا إلى مقرنا لنستعد بأحسن عدتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة من هلك منا، فإنه أوفى لنا على عدونا.» •••
وتسلل الجند من معسكرهم، ولاذ من لاذ بالمدن القريبة منهم، وأيقن علي أن القوم مارقون من يده، ولا طاعة له عليهم إذا دعاهم بعدها لقتال ...
أما معاوية فقد علا نجمه بين قومه، وأعانه طلاب المنافع عامدين، وأعانه الخوارج غير عامدين، فحاربوا عليا ولم يحاربوه، وطلبوا التوبة من علي ولم يطلبوها منه، واستمر هو في إنفاذ البعوث والسرايا إلى كل موضع آنس منه غرة وظن بزعمائه موجدة أو سآمة، فلم تنقض سنتان حتى كانت معه مصر والمدينة ومكة، وبقي علي في أرباض الكوفة يائسا منعزلا عن الناس، يتمنى الموت كما قال في بعض خطبه، ويوجس شرا من أقرب المقربين إليه، وانتهى بقبول المهادنة بينه وبين معاوية على أن تكون له العراق ولمعاوية الشام، ويكفا السيف عن هذه الأمة، فلا نزاع ولا قتال ... •••
وبقيت في كنانة الأقدار مصادفة من هذه المصادفات التي يخيل إليك وأنت تتعقبها، أنها تجمعت منذ الأبد ليبوء علي بنقائض الموقف كله، ويظفر خصومه بتوفيقات الموقف كله ... فشاءت هذه المصادفة الأخيرة أن يتفق ثلاثة على قتل ثلاثة، فيذهب هو وحده ضحية هذه المكيدة العاجلة، ويفلت زميلاه فيها: معاوية، وعمرو بن العاص.
اجتمع عبد الرحمن بن ملجم والبرك بن عبد الله وعمرو بن بكر التميمي، وهم من غلاة الخوارج الموتورين، فتذاكروا القتلى من رفاقهم وتذاكروا القتلى من المسلمين عامة، وألقوا وزر هذه الدماء كلها على ثلاثة من الكفار - أو أئمة الضلالة في رأيهم - وهم: علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص.
فقال ابن ملجم: «أنا أكفيكم علي بن أبي طالب.»
وقال البرك: «أنا أكفيكم معاوية بن أبي سفيان.»
وقال عمرو بن بكر: «أنا أكفيكم عمرو بن العاص.»
وإن ضغينة الثأر لحافز أي حافز ...
وإن تهوس العقيدة لمثير أي مثير ...
وكان للمتآمرين الثلاثة قسط واف من هذين الحافزين، يغني عن مزيد من التحريض على القتل والانتقام ...
ولكن المصادفة العجيبة هي التي شاءت أن تشحذ عزيمة ابن ملجم بحافز ثالث، لعله يمضي حين ينبو هذان الحافزان الماضيان، وهو حافز من الغرام الظامئ لا يرويه إلا دم ذلك الشهيد الكريم.
فإن المرء قد ينيم ثائرة الحقد، وقد يماري نفسه فيما تفرضه العقيدة، ولكنه إذا كان عاشقا مخبولا يستنجزه الوعد معشوق مسلط عليه، فهو مأسور زمامه في يدي غيره، وليس في يديه. •••
وكان ابن ملجم يحب فتاة من تيم الرباب، قتل أبوها وأخوها وبعض أقربائها في معركة الخوارج، وكانت توصف بالجمال الفائق والشكيمة القوية، وتدين بمذهب قومها فوق ما في جوانحها من لوعة الحزن على ذويها، فلما خطبها ابن ملجم لم ترض به زوجا إلا أن يشفي لوعتها.
قال: «وما يشفيك؟» قالت: «ثلاثة آلاف درهم وعبد وقينة، وقتل علي بن أبي طالب.»
قال: «أما قتل علي فلا أراك ذكرته لي وأنت تريدينني.»
قالت: «بل ألتمس غرته ... فإذا أصبت شفيت نفسك ونفسي ويهنأك العيش معي، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وزينتها وزينة أهلها.»
وخرج الثلاثة متواعدين إلى ليلة واحدة، يقتل كل منهم صاحبه في ذلك الموعد ...
فأما عمرو بن العاص، فقد اشتكى بطنه تلك الليلة فلم يخرج من بيته، وأمر خارجة بن حذافة صاحب شرطته أن يصلي بالناس، فضربه عمرو بن بكر وهو يحسبه عمرا فقتله، فقال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة، وأمر بقتله ...
وأما معاوية فضربه البرك بن عبد الله، وقد خرج الغداة للصلاة، فوقعت الضربة على إليته ... وقيل: إن الطعنة مسمومة لا يشفيها إلا الكي بالنار أو شراب يمنع النسل، فجزع معاوية من النار، ورضي انقطاع النسل، وهو يقول: «في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني، وأمر بالرجل فقتل لحينه.»
وأما علي، فضربه ابن ملجم في جبينه بسيف مسموم، وهو خارج للصلاة، فمات بعد أيام وهو يحذر أولياء دمه من المثلة، ويقول لهم: «يا بني عبد المطلب ... لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون: قتل أمير المؤمنين، قتل أمير المؤمنين ... ألا لا يقتلن أحد إلا قاتلي ...» «انظر يا حسن! إن أنا مت من ضربته هذه فاضربه ضربة بضربة ولا تمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: إياكم والمثلة ولو أنها بالكلب العقور.» •••
وهذه خاتمة فاجعة، ننظر في كل فرض من فروضها، فلا نخليها من المصادفة السيئة التي لا تلقى تبعتها على أحد بعينه.
فمهما يقل القائلون: إن عليا إنما أصيب لأنه كان لا يتقي أحدا، ولا يخرج إلى المسجد بحرس، فالواقع أن المصادفة السيئة قائمة هناك تفرق في عثرات الحظ بينه وبين زميليه اللذين سيقا معه إلى مكيدة واحدة ... فخرجا منها بحظين غير حظه، فإن ابن العاص لم ينج من القتل لأنه خرج إلى المسجد محروسا؛ ولكنه نجا لأنه لزم بيته في تلك الليلة، ومات صاحب شرطته الذي خرج في مكانه؛ ولم ينج معاوية لأنه خرج محروسا؛ ولكنه نجا لأنه أصيب وكانت إصابته غير قاتلة.
فهي المصادفة السيئة مهما تلتمس لها علة من علل التاريخ، ترجع بنا في آخر الأمر إلى علل المصادفات التي لا تقبل التعليل.
وشيء آخر تصوره لنا هذه الخاتمة الفاجعة، كما تصوره لنا البيعة كلها من قبل ابتدائها على ما بعد انتهائها ...
وذلك هو النسيج الإنساني النابض الذي يتخلل حياة علي في لحمتها وسداها، وفي تفصيل أجزائها وجملة فحواها، فما من حادثة من حوادث هذه الحياة النبيلة إلا وهي معرض حافل للعواطف الإنسانية برمتها، تلتقي فيه عوامل النخوة والشجاعة والوفاء والإيمان والسماحة، وتشتبك فيه مطامع الناس وأشواقهم وظواهرهم وخفاياهم ... ذلك الاشتباك الذي يخلقه الشعراء خلقا في القصص والملاحم، فلا يحكمونه بعض إحكام الواقع الملموس في سيرة الإمام. وقد أسلفنا في صدر هذا الكتاب أنها سيرة تلامس النفس الإنسانية في شتى نواحيها: تلامسها من ناحية العقيدة كما تلامسها من ناحية العاطفة، ومن ناحية الفكر كناحية الخيال، ومن ناحية التمرد كناحية الولاء، فإذا اتبعت السيرة بالخاتمة، فأي خيط من خيوط تلك الشبكة الإنسانية التي تنسجها القرائح لاقتناص الشعور وتقريب الخيال تفقده في هذه الخاتمة الفاجعة؟ أي باعث من بواعث القصص الدامية بأحاسيسها ولواعجها لا يرتعد هنا ارتعادا في كل فصل من فصولها، ومشهد من مشاهدها؟ يأس الكريم المغلوب وجرأة المحتال الغالب، وغرام المتهوس المجنون، وأريحية القتيل الموصي بمن اعتدى عليه، وحقد المرأة وخداع الجمال، وزيغ العقيدة، واستواء الإيمان، وفنون لا تحصى تجتمع من الشعور الموار واللهفة الدائمة في خاتمة حياة تسع ألف حياة. •••
وهذه مزية علي بين خلفاء الإسلام قاطبة ... ينفرد بها؛ لأنه انفرد بمثال من النفوس ومثال من العوارض الفردية والاجتماعية تؤلفه المصادفات في الأجيال الطوال، ولا تحسن أن تؤلفه بمشيئتها في كل جيل ...
تلك حياة حي ... وذلك مصرع شهيد ...
سياسته
تسري في صفحات التاريخ أحكام مرتجلة يتلقفها فم من فم، ويتوارثها جيل عن جيل، ويتخذها السامعون قضية مسلمة، مفروغا من بحثها والاستدلال عليها، وهي في الواقع لم تعرض قط على البحث والاستدلال، ولم تجاوز أن تكون شبهة وافقت ظواهر الأحوال، ثم صقلتها الألسنة فعز عليها بعد صقلها أن تردها إلى الهجر والإهمال ...
كل أولئك من لغو الشعوب ... وللشعوب بداهة تقصر دونها بداهة الغواصين من الأفراد، ولكنها إذا لغت فشوطها في اللغو أوسع من شوط الفرد بأمد بعيد ...
من تلك الأحكام المرتجلة قولهم: إن علي بن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بخدع الحرب والسياسة!
وقد شاع هذا الرأي في عصر علي بين أصحابه، كما شاع بين أعدائه، وعزز القول به أنه خالف الدهاة من العرب فيما أشاروا به عليه، وأنه لم ينجح بعد هذه المخالفة في معظم مساعيه، فكان من الطبيعي أن يقال: إنه مني بالفشل؛ لأنه عمل بغير ما أشار به أصحابه الدهاة، وأنه هو لم يكن من أصحاب الخدع الناجحة في الحرب أو السياسة ...
وقد يكون كذلك أو لا يكون، فسنرى بعد البحث في آرائه وآراء المشيرين عليه أي هذين القولين أدنى إلى الصواب ...
ولكن هل خطر لأحد من ناقديه - في عصره أو بعد عصره - أن يسأل نفسه: أكان في وسع علي أن يصنع غير ما صنع؟ ...
وهل خطر لأحد منهم أن يسأل بعد ذلك: هبه استطاع أن يصنع غير ما صنع فما هي العاقبة؟ ... وهل من المحقق أنه كان يفضي بصنيعه إلى عاقبة أسلم من العاقبة التي صار إليها؟ ...
لم نعرف أحدا من ناقديه، خطر له أن يسأل عن هذا أو ذاك ... مع أن السؤال عن هذا وذاك هو السبيل الوحيد إلى تحقيق الصواب والخطأ في رأيه ورأي مخالفيه، سواء كانوا من الدهاة أو غير الدهاة ...
والذي يبدو لنا نحن من تقدير العواقب على وجوهها المختلفة أن العمل بغير الرأي، الذي سيق إليه لم يكن مضمون النجاح ولا كان مأمون الخطر، بل ربما كان الأمل في نجاحه أضعف والخطر من اتباعه أعظم لو أنه وضع في موضع العمل والإنجاز، وخرج من حيز النصح والمشورة.
وهذه هي المسائل التي خالفه فيها الدهاة، أو خالفه فيها نقدة التاريخ الذين نظروا إليها من الشاطئ، ولم ينظروا إليها نظرة الربان في غمرة العواصف والأمواج ... •••
فالمآخذ التي من هذا القبيل، يمكن أن تنحصر في المسائل التالية، وهي: (1)
عزل معاوية. (2)
معاملة طلحة والزبير. (3)
عزل قيس بن سعد من ولاية مصر. (4)
تسليم قتلة عثمان. (5)
قبول التحكيم. (6)
قبول الخلافة.
وهي كلها على الأقل قابلة للخلاف والاحتجاج من كلا الطرفين ... فإن لم يكن خلاف وكان جزم قاطع ... فهو على ما نعتقد أقرب إلى رأي علي، وأبعد من آراء مخالفيه وناقديه ...
قيل في مسألة معاوية: إن عليا - رضي الله عنه - خالف فيها رأي المغيرة وابن عباس وزياد بن حنظلة التميمي، وهم جميعا من المشهورين بالحنكة وحسن التدبير ...
جاءه المغيرة بن شعبة بعد مبايعته، فقال له: «إن لك حق الطاعة والنصيحة، وإن الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وإن الضياع اليوم تضيع به ما في غد، أقرر معاوية على عمله، وأقرر العمال على أعمالهم، حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعة الجنود استبدلت أو تركت.»
فأبى وقال: «لا أداهن في ديني، ولا أعطي الدنية في أمري.»
قال المغيرة: «فإن كنت أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية، فإن في معاوية جرأة، وهو في أهل الشام يستمع له ولك حجة في إثباته ... إذ كان عمر قد ولاه الشام» ...
فقال علي: «لا والله ... لا أستعمل معاوية يومين.» •••
ثم خرج المغيرة ودخل عليه ابن عباس فقال له، لما علم برأي المغيرة: «إنه نصحك» ...
قال علي: «ولم نصحني؟»
قال: «لأنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالوا بمن ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا: أخذ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا، ويؤلبون عليك فينتقض عليك أهل الشام وأهل العراق ...»
ثم مضت الأيام، وشاع بين أهل المدينة أن معاوية منتقض على الإمام ... فبعثوا بزياد بن حنظلة التميمي يعلم ما عنده من أمر هذا الانتقاض، وكان زياد من جلسائه.
فقال له الإمام: «تيسر.»
قال زياد: «لأي شيء؟»
قال: «تغزو الشام.»
فقال زياد: «الأناة والرفق أمثل، واستشهد بقول الشاعر:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم»
فتمثل علي:
متى تجمع القلب الذكي وصارما
وأنفا حميا تجتنبك المظالم
فخرج زياد إلى الناس وهم يسألونه: «ما وراءك؟» فأجابهم: «هو السيف يا قوم!» •••
تلك آراء المشيرين من ذوي الحنكة، وذلك ما عمل به الإمام وارتضاه ... فأيهما على خطأ وأيهما على صواب؟ ...
سبيل العلم بذلك أن نعلم أولا: هل كان الإمام مستطيعا أن يقر معاوية في عمله بالشام؟ ...
وأن نعلم بعد هذا: هل كان إقراره أدنى إلى السلامة والوفاق لو أنه استطيع؟ ...
وعندنا أن الإمام لم يكن مستطيعا أن يقر معاوية في عمله لسببين: أولهما أنه أشار على عثمان بعزله أكثر من مرة، وكان إقراره وإقرار أمثاله من الولاة المستغلين أهم المآخذ على حكومة عثمان في رأي علي، وذوي الصلاح والاستقامة بين الصحابة، وكثيرا ما اعتذر عثمان من إقرار معاوية بأنه من ولاة عمر بن الخطاب ... فكان علي لا يقبل هذا العذر ولا يزال يقول له: «إنه كان أخوف لعمر بن الخطاب من غلامه «يرفأ» ... ولكنه بعد موت عمر لا يخاف.»
فإذا أقره وقد ولي الخلافة، فكيف يقع هذا الإقرار عند أشياعه؟ ألا يقولون: إنه طالب حكم لا يعنيه إذا وصل إلى بغيته ما كان يقول وما سيقوله الناس؟
وإذا هو أعرض عن رأيه الأول، فهل في وسعه أن يعرض عن آراء الثائرين الذين بايعوه بالخلافة لتغيير الحال، والخروج من حكم عثمان إلى حكم جديد؟ ...
إن هؤلاء الثائرين أشفقوا من نية الصلح مع طلحة والزبير في وقعة الجمل، فبدءوا بالهجوم قبل أن يؤمروا به ... بل هجموا على أهل البصرة وهم مأمورون بالهدنة والأناة، فكيف تراهم يهدءون ويطيعون إذا علموا أن الولايات باقية على حالها، وأن الاستغلال الذي شكوا منه وسخطوا عليه لا تبديل فيه؟ ...
وندع هذا ونزعم أن إقرار معاوية بحيلة من الحيل مستطاع ... فهل هو على هذا الزعم أسلم وأدنى إلى الوفاق؟
كلا ... على الأرجح، بل على الرجحان الذي هو في حكم التحقيق ... لأن معاوية لم يعمل في الشام عمل وال يظل واليا طول حياته، ويقنع بهذا النصيب ثم لا يتطاول إلى ما وراءه، ولكنه عمل فيها عمل صاحب الدولة التي يؤسسها، ويدعمها له ولأبنائه من بعده ... فجمع الأقطاب من حوله، واشترى الأنصار بكل ثمن في يديه، وأحاط نفسه بالقوة والثروة، واستعد للبقاء الطويل، واغتنام الفرصة في حينها ... فأي فرصة هو واجدها خير من مقتل عثمان والمطالبة بثأره؟
وإنما كان مقتل عثمان فرصة لا يضيعها، وإلا ضاع منه الملك وتعرض يوما من الأيام لضياع الولاية، وما كان مثل معاوية بالذي يفوته الخطر من عزله بعد استقرار الأمور، ولو على احتمال بعيد ... فماذا تراه صانعا إذا هو عزل بعد عام من مبايعته لعلي وتبرئته إياه من دم عثمان؟
إنما كان مقتل عثمان فرصة لغرض لا يقبل الإرجاء ...
وإذا كان هذا موقف علي ومعاوية عند مقتل عثمان، فماذا كان علي مستفيدا من إقراره في عمله وتعريض نفسه لغضب أنصاره ...
لقد كان معاوية أحرى أن يستفيد بهذا من علي؛ لأنه كان يغنم به حسن الشهادة له وتزكية عمله في الولاية، وكان يغنم به أن يفسد الأمر على علي بين أنصاره، فتعلو حجته من حيث تسقط حجة الإمام ...
وأصدق ما يقال بعد عرض الموقف على هذا الوجه من ناحيتيه: أن صواب الإمام في مسألة معاوية كان أرجح من صواب مخالفيه ... فإن لم نؤمن بهذا على التقدير والترجيح، فأقل ما يقال: إن الصواب عنده وعندهم سواء ...
والتقدير في مسألة طلحة والزبير أيسر من التقدير في مسألة معاوية وولاية عثمان على الأمصار: لأن الرأي الذي عمل به الإمام معروف، والآراء التي تخالفه لا تعدو واحدا من ثلاثة: كلها أغمض عاقبة، وأقل سلامة، وأضعف ضمانا من رأيه الذي ارتضاه ...
فالرأي الأول أن يوليهما العراق واليمن أو البصرة والكوفة، وكان عبد الله بن عباس على هذا الرأي، فأنكره الإمام؛ لأن «العراقين بهما الرجال والأموال، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلان السفيه بالطمع ويضربان الضعيف بالبلاء، ويقويان على القوي بالسلطان ...» ثم ينقلبان عليه أقوى مما كانا بغير ولاية، وقد استفادا من إقامة الإمام لهما في الولاية تزكية يلزمانه بها الحجة، ويثيران بها أنصاره عليه. •••
والرأي الثاني أن يوقع بينهما ليفترقا ولا يتفقا على عمل، وهو لا ينجح في الوقيعة بينهما إلا بإعطاء أحدهما وحرمان الآخر ... فمن أعطاه لا يضمن انقلابه مع الغرة السانحة، ومن حرمه لا يأمن أن يهرب إلى الأثرة كما هرب غيره، فيذهب إلى الشام ليساوم معاوية، أو يبقى في المدينة على ضغينة مستورة ...
على أنهما لم يكونا قط متفقين حتى في مسيرهما من مكة إلى البصرة، فوقع الخلاف في عسكرهما على من يصلي بالناس، ولولا سعي السيدة عائشة بالتوفيق بين المختلفين لافترقا من الطريق خصمين متنافسين ...
ولم تطل المحنة بهما متفقين أو مختلفين، فانهزما بعد أيام قليلة، وخرج الإمام من حربهما أقوى وأمنع مما كان قبل هذه الفتنة، ولو بقيا على السلم المدخول لما انتفع بهما بعض انتفاعه بهذه الهزيمة العاجلة، والرأي الثالث أن يعتقلهما أسيرين، ولا يبيح لهما الخروج من المدينة إلى مكة حين سألاه الإذن بالمسير إليها، ثم خرجا منها إلى البصرة ليشنا الغارة عليه ...
والواقع أن الإمام قد استراب بما نوياه حين سألاه الإذن بالسفر إلى مكة ... فقال لهما: «ما العمرة تريدان، وإنما تريدان الغدرة!»
ولكنه لم يحبسهما؛ لأن حبسهما لن يغنيه عن حبس غيرهما من المشكوك فيهم، وقد تركه عبد الله بن عمر ولم يستأذنه في السفر، وتسلل إلى الشام أناس من مكة ومن المدينة، ولا عائق لهم أن يتسللوا حيث شاءوا، ولو أنه حبسهم جميعا لما تسنى له ذلك بغير سلطان قاهر، وهو في ابتداء حكمه لما يظفر بشيء من ذلك السلطان، وأغلب الظن أن سواد الناس كانوا يعطفون عليهم، وينقمون حبسهم قبل أن تثبت له البينة بوزرهم، وما أكثر المتحرجين في عسكر الإمام من حبس الأبرياء بغير برهان؟ ... لقد كان هؤلاء خلقاء أن ينصروهم عليه، وقد كانوا ينصرونه عليهم، وخير له مع طلحة والزبير وأمثالهما أن يعلنوا عصيانهم، فيغلبهم من أن يكتموه فيغلبوه ويشككوا بعض أنصاره في عدله وحسن مجاملته لهم. •••
وعلى هذا كله، حاسنوه ولم يصارحوه بعداء ... لم يكن الجيش الذي خرج من مكة إلى البصرة بيائس من الخروج إليها، إذا لم يصحبه طلحة والزبير، فقد كان «العثمانية» في مكة حزبا موفور العدد والمال ... فهي مسألة تلتبس فيها الطرائق، ولا يسعنا أن نجزم بطريقة منها أسلم ولا أضمن عاقبة من الطريقة التي سلكها الإمام، وخرج منها غالبا على الحجاز والعراق، وما كان وشيكا أن يغلب عليهما لو بقي معه طلحة والزبير على فرض من جميع الفروض التي قدمناها.
أما عزل قيس بن سعد من ولاية مصر، فهي غلطة من غلطات الإمام يقل الخلاف فيها ...
لأن قيس بن سعد كان أقدر أصحابه على ولاية مصر وحمايتها، وكان كفؤا لمعاوية وعمرو بن العاص في الدهاء والمداورة؛ فعزله الإمام لأنه شك فيه ... وشك فيه لأن معاوية أشاع مدحه بين أهل الشام، وزعم أنه من حزبه والمؤتمرين في السر بأمره.
وكان أصحاب علي يحرضونه على عزله، وهو يستمهلهم ويراجع رأيه فيه حتى اجتمعت الشبهات لديه ... فعزله وهو غير واثق من التهمة، ولكنه كذلك غير واثق من البراءة.
وشبهاته مع ذلك لم تكن بالقليلة ولا بالضعيفة، فإن قيس بن سعد لم يدخل مصر إلا بعد أن مر بجماعة من حزب معاوية، فأجازوه ولم يحاربوه وهو في سبعة نفر لا يحمونه من بطشهم، فحسبوه حين أجازوه من العثمانية الهاربين إلى مصر من دولة علي في الحجاز ...
ولما بايع المصريون عليا على يديه، بقي العثمانيون لا يبايعون ولا يثورون، وقالوا له: «أمهلنا حتى يتبين لنا الأمر.» فأمهلهم وتركهم وادعين حيث طاب لهم المقام بجوار الإسكندرية. •••
ثم أغراه معاوية بمناصرته والخروج على الإمام، فكتب إليه كلاما لا إلى الرفض ولا إلى القبول، ويصح لمن سمع بهذا الكلام أن يحسبه مراوغا لمعاوية، أو يحسبه مترقبا لساعة الفصل بين الخصمين ... إذ كان ختام كتابه إليه: «... أما متابعتك فانظر فيها، وليس هذا مما يسرع إليه وأنا كاف عنك فلا يأتيك شيء من قبلي تكرهه، حتى نرى وترى.»
ثم اشتد في وعيده حين أنذره معاوية فقال: «أما قولك أني مالئ عليك مصر خيلا ورجلا، فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهم إليك إنك لذو جد والسلام.»
وأراد الإمام أن يستيقن من الخصومة بين قيس ومعاوية، فأمر قيسا أن يحارب المتخلفين عن البيعة ... فلم يفعل وكتب إليه: «... متى قاتلنا ساعدوا عليك عدوك، وهم الآن معتزلون والرأي تركهم.»
فتعاظم شك الإمام وأصحابه، وكثر المشيرون عليه بعزل قيس واستقدامه إلى المدينة ... فعزله واستقدمه، وتبين بعد ذلك أنه أشار بالرأي الصواب، وأن ترك المتخلفين عن البيعة في عزلتهم خير من التعجيل بحربهم؛ لأنهم هزموا محمد بن أبي بكر والي مصر الجديد، وجرءوا عليه من كان يصانعه ويواليه ...
غلطة لا ريب فيها ...
وإن كان جائزا مع هذا ألا يهزموا قيسا، لو كان حاربهم، كما هزموا خلفه الذي لا يعدله في الحزم والخبرة.
ولكننا نبالغ على كل حال، إذا علقنا بها الجرائر التي أصابت الإمام من بعدها، وزعمنا أنه تقاعد عن إصلاحها في حينها، كما تصلح الغلطات التي يساق إليها الساسة ... فإنما هي غلطة من تلكم الغلطات التي تضير والحوادث مولية ... وقلما تضير أو تعز على الإصلاح والحوادث مؤاتية، وقد عرف الإمام خطأه فقال لصحبه: «إن مصر لا يصلح لها إلا أحد رجلين هذا الذي عزلناه والأشتر.» وأنفذ الأشتر إلى مصر ليعيدها إلى طاعته فمات في الطريق. •••
والأقوال في موت الأشتر هذه الميتة الباغتة كثيرة، منها أنه مات غيلة وأن معاوية أغرى به من دس له السم في عسل ... شربه وهو على حدود مصر فقضى نحبه، وروي أن معاوية قال حين بلغه موته: «إن لله جنودا من العسل.»
فإن صحت الرواية، واعتقد من اعتقد أنها من دلائل السياسة القوية عند معاوية ... فمما لا شك فيه أن موت الأشتر لم يكن من دلائل السياسة الضعيفة عند الإمام، وأنه لا لوم على سياسته في اغتياله، إن كان فيه سبب ثناء على سياسة الغيلة عند من يحمدونها.
ومن عجائب هذه القصة أن معاوية ندم على تقريب قيس من جوار علي، وقال: «لو أمددته بمائة ألف كانوا أهون علي من قيس.» لأنه قد ينفعه وهو قريب منه بالمشورة عليه في عامة أموره، ولا ينحصر نفعه له في سياسة مصر وحدها ...
ولكن الذي حذره معاوية لم يكن، والذي حذره علي كان ...
وإذا ولت الحوادث، فقد ينفع الخطأ وقد يضير الصواب ...
ثم تأتي مسألة القصاص من قتلة عثمان التي كانت أطول المسائل جدلا بين الإمام وخصومه، فإذا هي أقصرها جدلا من براءة المقصد من الهوى وخلوص الرغبة في الحقيقة ...
فقد طالبوه بالقود ولم يبايعوه، مع أن القود لا يكون إلا من ولي الأمر المعترف له بإقامة الحدود.
وطالبوه به ولم يعرفوا من القتلة، ومن هو الذي يؤخذ بدم عثمان من القبائل أو الأفراد ...
وأعنتوه بهذا الطلب؛ لأنهم علموا أنه لا يستطاع قبل أن تثوب السكينة إلى عاصمة الدولة، وأعفوا أنفسهم منه - وهم ولاة الدم كما يقولون - يوم قبضوا على عنان الحكم وثابت السكينة إلى جميع الأمصار. •••
وقد تحدث الإمام مرة في أمر القود من قتلة عثمان، فإذا بجيش يبلغ عشرة آلاف يشرعون الرماح، ويجهرون بأنهم «كلهم قتلة عثمان»، فمن شاء القود فليأخذه منهم أجمعين.
وكان الإمام يقول لمن طلبوا منه إقامة الحدود: «إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم، ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم، وهم بينكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟ ...»
ومن قوله لهم: «... إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة، وإن الناس من هذا الأمر الذي تطلبون على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى تهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدءوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا.»
ولو أن المطالبين بدم عثمان التمسوا أقرب الطرق إلى الثأر له، والقصاص من العادين عليه، لقد كان هذا أقرب إلى ما أرادوا، يؤيدون ولي الأمر حتى يقوى على إقامة الحدود، ثم يحاسبونه بحكم الشريعة حساب إنصاف.
إلا أنهم طلبوا ما لا يجاب، وما لم يكن من حقهم أن يطلبوه، وليس بينهم أعف ولا أتقى من السيدة عائشة - رضي الله عنها. وقد روي عنها أنها قالت لما أخبرت ببيعة علي وهي خارجة من مكة: «ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لعلي.» تشير إلى السماء والأرض ... ثم عادت إلى مكة وهي تقول: «قتل والله عثمان مظلوما، والله لأطلبن بدمه» ...
فقيل لها: «ولم؟ ... والله إن أول من أثار الناس عليه لأنت ... ولقد كنت تقولين: اقتلوا «نعثلا» فقد كفر.»
فقالت: «إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي اليوم خير من قولي الأول.»
وناهيك بالسيدة عائشة في فضلها ومكانتها وتقواها، فقل ما شئت في المطالبين غيرها بهذا المطلب الذي لا يجاب.
والرضا، أو الإرضاء، مستحيل حين يكون الطلب من هذا القبيل. •••
أما الذين لاموه لقبوله التحكيم، فيخيل إلينا من عجلتهم إلى اللوم أنهم كانوا أول من يلومه، ويفرط في لومه لو أنه رفض التحكيم وأصر على رفضه؛ لأنه لم يقبل التحكيم وله مندوحة عنه ...
ولكنه قبله بعد إحجام جنوده عن الحرب، ووشك القتال في عسكرهم خلافا بين من يقبلونه ويرتضونه.
وقبله بعد أن حجز الحفاظ والقراء نيفا وثمانين فزعة للقتال لشكهم في وجوبه، وذهاب بعضهم إلى تحريمه.
وبعد أن توعدوه بقتلة كقتلة عثمان، وأحاطوا به يلحون عليه في استدعاء الأشتر النخعي، الذي كان يلاحق أعداءه مستحصدا في ساحة الحرب على أمل في النصر القريب ...
والمؤرخون الذين صوبوا رأيه في التحكيم وخطئوه في قبول أبي موسى الأشعري، على علمه بضعفه وتردده، ينسون أن أبا موسى كان مفروضا عليه، كما فرض عليه التحكيم في لحظة واحدة ... وينسون ما هو أهم من ذلك، وهو أن العاقبة متشابهة سواء ناب عنه أبو موسى الأشعري، أو ناب عنه الأشتر أو عبد الله بن عباس ... فإن عمرو بن العاص لم يكن ليخلع معاوية ويقر عليا في الخلافة، وقصارى ما هنالك أن الحكمين سيفترقان على تأييد كل منهما لصاحبه ورجعة الأمور إلى مثل ما رجعت إليه، وإن توهم بعضهم أن الأشتر أو ابن عباس كان قديرا على تحويل ابن العاص عن رأيه، والجنوح به إلى حزب الإمام، بعد مساومته التي ساومها في حزب معاوية ... فليس ذلك على التحقيق بمقنع معاوية أن يستكين ويستسلم، وحوله المؤيدون والمترقبون للمطامع واللبانات يعز عليهم إخفاقهم كما يعز عليه إخفاقه. •••
وما أسهل المخرج الشرعي الذي يلوذ به معاوية، فيقبله منه أصحابه ويتابعونه على نقض حكم الحكمين المتفقين! ... لقد كان النبي - عليه السلام - يقول عن عمار بن ياسر: أنه «تقتله الفئة الباغية» فلما قتله جند معاوية، وخيفت الفتنة بينهم أن تلزمهم سبة البغي بشهادة الحديث الشريف - قال قائل منهم: إنما قتله من جاء به إلى الحرب ... فشاع بينهم هذا التفسير العجيب، وقبلوه جميعا غير مستثنى منهم رجل واحد ... أفلا يقبلون تفسيرا مثله إذا تحول ابن العاص، وأفتى الحكمان بخلع معاوية ومبايعة الإمام؟
فليس في أيدي المؤرخين الناقدين إذن حل أصوب من الحل الذي أذعن له الإمام على كره منه، سواء أذعن له وهو عالم بخطئه أو أذعن له وهو يسوي بينه وبين غيره في عقباه.
ويبقى اعتزال الخلافة من البداية، وهو خطة ترد على الخاطر حيال هذه المعضلات التي واجهها الإمام، ولم يكن عسيرا عليه أن يتوقعها بعد مقتل عثمان، وشيوع الفتنة والشقاق بين الأمصار كلها ... وشيوعهما قبل ذلك بين جنده الذي يعول عليه.
ولكنها خطة سلبية لا يمتحن بها رأي ولا عمل، ولا ترتبط بها تجربة ولا فشل ... وكل ما هنالك من أسباب ترجيحها أنها أسلم للإمام وآمن لسربه وأهدأ لباله، وهو أمر مشكوك فيه ... على ما في طلب السلامة بين هذه الزعازع من أثرة، قلما يرتضيها الشجاع الباسل أو الحكيم العامل ...
فمن السخف أن يخطر على البال أن رجلا كعلي بن أبي طالب، يترك وادعا في سربه بين هذه الزعازع التي تحيط بالدولة الإسلامية في عصره ...
إن تركه الثوار وأعفوه من الحكم، لم يتركه أصحاب السلطان ولم يعفوه من الدسيسة والإيذاء؛ لاعتقادهم أنه باب من أبواب الخطر الدائم، وأنه ما عاش فهو علم منصوب يفيء إليه كل ساخط وكل مصلح وكل مخالف على الدين أو على الدنيا. وقد قيل: إن ابنه الحسن مات مسموما في عهد معاوية خوفا من لياذ الناس به ورجعتهم إليه. وقيل مثل ذلك عن عبد الله بن خالد بن الوليد ... وما أعظم البون في المكانة والحساب بينهما وبين الإمام عند أصحاب المخاوف وأصحاب الآمال. •••
ولعلنا نقارب هذه الحقيقة من ناحية أخرى، إذا رجعنا إلى أقوال أبطال الميدان نفسه في علل النصر والهزيمة، وفيما يقال عن مزية كل منهم على خصمه أو مزية خصمه عليه.
فعلي يسمع ما يقال عن شجاعته ورجحان معاوية عليه في الدهاء، فيقول: «... والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ...»
أو يقول: «ولكنه لا رأي لمن لا يطاع.»
ويعلل ما أصابه في بيعته بما أجمله لأتباعه حين قال لهم: «... لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدا ... إني أريدكم لله، وأنتم تريدونني لأنفسكم.»
ومعاوية يذكر الخصال التي أعين بها على علي، فيقول: «إنه كان رجلا لا يكتم سرا وكنت كتوما لسري، وكان يسعى حتى يفاجئه الأمر مفاجأة وكنت أبادر إلى ذلك، وكان في أخبث جند وأشدهم خلافا، وكنت أحب إلى قريش منه، فنلت ما شئت ...»
وعمرو بن العاص يقول عن عدة النجاح في طلب الخلافة: «إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل له ضرسان، يأكل بأحدهما ويطعم بالآخر.»
وهذه هي أسباب النصر والهزيمة على حقيقتها، إلا أنها تظل ناقصة ما لم نقرنها بحقيقة أخرى، وهي أن هزيمة معاوية كانت مرجحة - بل مؤكدة - لو أنه وضع في موضع علي، وابتلي بالأسباب التي ابتلي بها.
فالبلاء كله إنما كان في خبث الأجناد وشدة خلافهم؛ ولهذا كان سر علي يعرف وسر معاوية يكتم ... لأن معاوية يطاع ونيته في صدره، وعليا لا يطاع إلا إذا سئل عن نيته وما يحل منها أو يحرم في رأي أتباعه، وكذلك كانت تفاجئه الحوادث؛ لأنه كان يروي فيها ما يروي، ولا ينفذ من رويته إلا الذي ينساق إليه هو وأتباعه آخر المطاف بحكم الضرورة الحازبة، وقد بطل الجدل وبطل من قبله التدبير ... •••
ولو أن معاوية كتب عليه أن يحارب جندا مطيعا بجند عصاه، لما طمع في حظ أوفق من حظ علي في ذلك الصراع المتفاوت بين الخصمين ... ولو استعان بكل ما أعين به من رشوة الأنصار وكيد الخصوم، بل لعله كان يخفق حيث أفلح قرنه على قدر ما بينهما من فارق في الشجاعة والسابقة الدينية، وكذلك قال الإمام: «إن لبني أمية مرودا يجرون فيه، ولو قد اختلفوا فيما بينهم ثم كادتهم الضباع لغلبتهم.»
على أننا نود أن نقف عند الحد المأمون في تعليل النصر والهزيمة، ولا نعدوه إلى ما وراءه ... فليس من قصدنا أن نصف عليا بقوة الدهاء وسعة الحيلة، ولكننا قصدنا أن نبرئه من عجز الرأي وضعف التدبير؛ لأن أسباب الهزيمة موفورة بغير هذا السبب الذي لا دليل عليه ...
فقوام الفصل بين الطرفين، أنه لا دليل لدينا من الحوادث على عجز رأي ولا قوة دهاء ... ولو كانت قوة الدهاء صفة غالبة فيه لظهرت على صورة من الصور، وإن قامت الحوادث عائقا بينها وبين النجاح ... فإن الدهاء لا يخفيه أن تكون المعضلة التي يعالجها محتومة الفشل مقرونة بالخذلان ...
ومما لا شك فيه، أن عليا أشار بالرأي في مواقف كثيرة فأصاب المشورة، وأنه وصف أناسا فدل على خبرة بالرجال وما يغلب عليهم من الطباع والخصال، وأنه أخذ بالحزم في توقع الحوادث واستطلاع الأمور، ولكنه لزم الكفاية في ذلك، ولم يتجاوزها إلى الأمد الذي يسلكه بين الدهاة الموسومين بفرط الدهاء ... •••
فمن مشوراته الصائبة، أنه نهى عمر - رضي الله عنه - أن يخرج لحرب الروم والفرس بنفسه، فقال له: «إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كائنة دون أقصى بلادهم ... ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلا مجربا ... فإن أظهره الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءا للناس ومثابة للمسلمين.»
ومن وصفه للرجال وأساليب تناولهم، قوله لابن عباس وقد أرسله إلى طلحة والزبير: «لا تلقين طلحة، فإنك إن تلقه تلفه كالثور عاقصا - أي: لاويا - قرنه يركب الصعب ويقول: هو الذلول، ولكن الق الزبير فإنه ألين عريكة فقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق ... فما عدا مما بدا؟»
ومن حزمه أنه كان يبث عيونه وجواسيسه في الشرق والغرب ليطلعوه على أخبار أعوانه وأعدائه، وأنه كان إذا وجبت الحرب بادر بالخروج، ولم يأته التردد والإبطاء بعد ذلك إلا من خلاف جنده.
ومن معرفته للجماهير أنه وصفهم أوجز وصف حين قال: إنهم أتباع كل ناعق، وإنهم «هم الذين إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا نفعوا» ... لأنهم إذا تفرقوا رجع أصحاب المهن إلى مهنهم فانتفع بهم الناس ...
فهذا قسط من الرأي الصائب، كاف لمهمة الحكم لو تصدى به الإمام للخلافة ... والعصر عصر خلافة، وليس بعصر دولة دنيوية مضطربة في دور تأسيسها وتلفيق أجزائها.
بل هو قسط كاف لمهمة الحكم في الدولة الدنيوية، لو تولاها بعد استقرارها والفراغ من مكائد تأسيسها ... كما جاء عمر بن عبد العزيز في صلاحه وتقواه بعد الملوك الأولين من بني أمية ...
ولكنه قسط من الرأي لا يسلك صاحبه بين أساطين الدهاة، الذين يكيدون بالرأي وبالعمل النافذ على السواء ... •••
ونعود بعد هذا، فنقول: إنه لم يخسر كثيرا بما فاته من الدهاء ... ولم يكن ليربح كثيرا لو استوفى منه أوفى نصيب؛ لأنه لا بد من ملك أو خلافة ...
ولن يكون ملكا بأدوات خليفة، ولا خليفة بأدوات ملك، ولن تبلغ به الحيلة أن يحارب رجلا يريد العصر والعصر يريده؛ لأنه عصر ملك تهيأت له الدواعي الاجتماعية، وتهيأ له الرجل بخلائقه ونياته ومعاونة أمثاله ...
ولم يكن معاوية زاهدا في الخلافة على عهد أبي بكر أو عمر أو عثمان، ولكن الخلافة كانت زاهدة فيه.
فلما جاء عصر الملك، طلب الملك والملك يطلبه ...
وقديما قال أبوه للعباس عم النبي، وقد رأى جيش المسلمين في فتح مكة: «لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما.»
فهو الملك، أو هو جاه الدنيا، الذي تطلع إليه من نشأته الأولى في بيته ... وانتظر ثم انتظر حتى لاقاه على قدر، فوضع في موضعه وقام به الموضع كما قام به، ونجحا معا التوافق والرفاء ...
وحين وجب أن يقع الفصل بين الملك والخلافة، وجب أن يكون علي على رأس فريق الخلافة.
وحين وجب أن يقع الفصل بين أصحاب المنافع الراغبين في دوام المنفعة، وبين أصحاب المبادئ والظلامات الراغبين في التبديل والإصلاح، وجب أن يكون علي على رأس هذا الفريق دون ذلك الفريق.
وحين وجب هذا وذاك وجوبا لا حيلة فيه للمتحول، ولا اختيار فيه للمختار، وجب أن تصير خلافة علي إلى ما صارت إليه، كائنا ما كان خطره من الدهاء والخدعة، وكائنا ما كان طريقه الذي ارتضاه هو أو أشار به المشيرون عليه. •••
وقد يحسن بالمؤرخ بعد الموازنة بين عدة الخلافة وعدة الملك في صراع علي ومعاوية، أن يذكر عدة أخرى لم تظهر في هذا الصراع، وقد ظهرت في مآزق شتى من أحرج مآزق التاريخ، واعتمد عليها أبطاله الكبار كثيرا في تأسيس الدول وقمع الثورات، فاختصروا الطريق وأراحوا أنفسهم من عناء طويل، ونريد بها عدة البطش العاجل والمباغتة الحاسمة، كلما تأشبت العقد وتعسرت الحيلة، ووجب الخلاص السريع ...
فقد علمنا مثلا أن الأشعث بن قيس كان يعترض الإمام في كل خطوة من خطوات النصر، ويثقل عليه باللجاجة والعنت في مواقف مكربة تضيق بها الصدور ...
ولم يكن الأشعث بن قيس بالوحيد في هذا الباب، بل كان له شركاء من الخوارج وغير الخوارج، يظهرون بالعنت في غير موضعه، ويذهبون به وراء حده، وربما بلغوا من الضرر في معسكر الإمام فوق مبلغ الأشعث بن قيس، على عظم الفارق بين سلطانهم وسلطانه.
ألا يخطر على البال هنا، أن ضربة من الضربات القاضية كانت تنجع في هذا العنت المكرب، حيث لا تنجع العقوبة الشرعية أو الأحابيل السياسية؟ ...
ماذا لو أن الإمام جرد سيفه بين أولئك المشاغبين، وأطاح برأس الأشعث بن قيس قبل أن يفيق أحد إلى نفسه، ثم ولى على الفور من يقوم مقامه في رئاسة قوم، ويكفل لهم الطاعة بينهم لأمره؟ ... أكان بعيدا أن تفعل الرهبة فعلها، فيسكن المشاغب، ويهاب المتطاول، ويجتمع المتفرق، ويقل الخلاف بعد ذلك على الإمام وعلى الرؤساء عامة؟
لم يكن ذلك ببعيد ...
لكنه كذلك لم يكن بالمحقق، ولا بالمأمون ...
فهي مجازفة ذات حدين، تصيب بأحدهما وقد تصيب بهما معا ... وقد يكون الحد الذي تصيب به هو الحد الذي من قبل الضارب دون الحد الذي من قبل المضروب ...
وكل ما تفيدنا إياه هذه الملاحظة العابرة على التحقيق، أن الإمام - رضي الله عنه - لم يكن من أصحاب هذه الملكة، التي اتصف بها بعض أبطال القلاقل في أيام الفصل بين عهدين متدابرين، فكانت له ضربة الشجاع، ولم تكن له ضربة المغامر أو المقامر ...
ولم يضرب بالسيف قط، كأنه يقذف بالقداح إما إلى الكسب وإما إلى الخسارة ... وإنما كان يضرب به ضرب الجندي الذي يلتمس الغلب بقوته وقوة إيمانه، ولا يلتمسه من جولات السهام وفلتات الغيب ...
على أننا - وقد سجلنا هذه الملاحظة - نفرض أنه - رضي الله عنه - كان من أصحاب تلك الملكة، التي عرف بها بعض المغامرين في أوقات الفصل بين العهود ...
ونفرض أنه عمد إليها، فنفعته في عسكره وطوعت له الجند وأراحته من شغب الخارجين عليه، والمتشعبين بالآراء والفتاوى من يمينه وشماله، فماذا عسى أن يغير هذا كله من طبيعة الموقف الذي أجملناه؟ وكيف يكون المخرج بين سياسة الملك، كما يطلبها العصر، وسياسة الخلافة كما تطلبها البقية الباقية من آداب الفترة النبوية؟
أيسوس الإمام دولته ملكا دنيويا أم يسوسها خليفة نبوة؟
أيفرق الأموال على رءوس القوم وقادة الجند وطلاب الترف، أم يلزمهم عيشة النسك والشظف والجهاد؟
وكتب لعلي بعد ذلك أن يتلقى الدولة الإسلامية بين هذين العسكرين، فلا في مقدوره أن يجمعهما إلى عسكر واحد، ولا في مقدوره أن يختار منهما عسكر الملك، ولا أن يختار عسكر الخلافة الدينية، فتظل على يديه خلافة دينية بعد أوانها ...
وما لم يكن في مقدوره لم يكن في مقدور غيره، وإنه لإنصاف قليل أن نعرف له هذه المعاذير الصادقة، وهو الذي باء وحده بتلك النقائض والأعباء ... •••
وقد نقدت سياسة علي لفوات الخلافة منه قبل البيعة، كما نقدت سياسته لفوات الخلافة منه بعد البيعة، وأحصى عليه بعض المؤرخين أنه تأخر نيفا وعشرين سنة ... فلم يخلف النبي، ولم يخلف أبا بكر، ولم يخلف عمر ... كأنه كان مستطيعا أن يخلف أحدا منهم بعمل من جهده وسعي من تدبيره، فأعياه السعي والتدبير ...
ومقطع الفصل في هذا أن نرجع إلى العوائق التي حالت بينه وبين الخلافة قبل وصولها إليه؛ لنعلم منها العائق الذي كان في أيدي الحوادث والعائق الذي كان في يديه، أو كانت له قدرة معقولة عليه.
فمما لا شك فيه أن الإمام أنكر إجحافا أصابه في تخطيه بالبيعة إلى غيره بعد وفاة ابن عمه - صلوات الله عليه، وأنه كان يرى أن قرابته من النبي مزية ترشحه للخلافة بعده؛ لأنها فرع من النبوة على اعتقاده، وهم شجرة النبوة ومحط الرسالة، كما قال ...
ومما لا شك فيه، أن شعوره هذا طبيعي في النفس الإنسانية كيفما كان حظها من الزهد والقناعة؛ لأن تخطيه - مع هذه المزية التي ترشحه للبيعة - يشبه أن يكون قدحا في مزاياه الأخرى، من علم وشجاعة وسابقة جهاد وعفة عن المطامع، أو يشبه أن يكون كراهة له وممالأة على الغض من قدره، ولم يزل من غرائز النفوس أن يسوءها القدح فيها، والحط من مزاياها ومواجهتها بالنفرة والكراهة ...
وإذا حرمهم وتألبوا عليه مع خصمه، أفهو الغالب إذن بمطالب العصر ومقتضياته ودواعيه أم هم الغالبون؟
وإذا أعطاهم ليبذخوا بذخ الملك الدنيوي وهو وحده بينهم الناسك المجتهد على سنة النبوة، أفيستقيم له هذا الدور العجيب، وهو في جوهره متناقض لا يستقيم؟ ...
فالسياسة التي اتبعها الإمام هي السياسة التي كانت مقيضة له مفتوحة بين يديه، وهي السياسة التي لم يكن له محيد عنها، ولم يكن له أمل في النجاح إن حاد عنها إلى غيرها ... سواء عليه اتفق جنده بضربة من الضربات القاضية، أم لم يتفقوا على دأبهم الذي رأيناه؛ وسواء لان لطلاب الدولة الدنيوية أم صمد على سنة النبوة والخلافة النبوية. •••
ومهما يكن من حكم الناقدين في سياسة الإمام، فمن الجور الشديد أن يطالب بدفع شيء لا سبيل إلى دفعه، وأن يحاسب على مصير الخلافة، وهي منتهية لا محالة إلى ما انتهت إليه ...
ومن الجور الشديد أن يلقى عليه اللوم لأنه باء بشهادة الخلافة، ولا بد لها من شهيد ...
وقد تجمعت له أعباء النقائض والمفارقات التي نشأت من قبله، ولم يكد يسلم منها خليفة من الخلفاء بعد النبي صلوات الله عليه ...
أحس بها الصديق، فمات وهو ينحي على الصحابة، ويحذرهم بوادر الترف الذي استناموا إليه ...
وأحس بها الفاروق وأثقلت كاهله، وهو الكاهل الضليع بأفدح الأعباء ... فضاق ذرعا بالحياة، وطفق يقول في سنة وفاته: «اللهم كبرت سني وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط ... اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك.»
وأحس بها عثمان، فما فارق الدنيا حتى ترك الخلافة والملك عسكرين متناجزين، لا يرجع أحدهما إلا بالغلبة على نده وضده ...
إلا أن الخلافة الإسلامية، مسألة عالمية لا توزن بميزان واحد، ولا يؤتم فيها برأي واحد ولا بحق واحد، وقد يضحى في سبيلها بالعظيم والعظماء، إذا تعارضت الحقوق وتشعبت الآراء ...
ويشاء القدر أن تكون المزية الأولى في ميزان علي هي العائق الأول في سائر الموازين، ومنها ميزان النبي صلوات الله عليه ...
فقد كان - عليه السلام - يأبى أن يثير العصبيات في قريش، وفي القبائل العربية عامة؛ لعلمه بخطر هذه العصبية على الدعوة الجديدة، وكراهته أن يصور الإسلام للعرب كأنه سيادة هاشمية تتوارثها عصبة هاشم دون العصب من سائر العرب والمسلمين. وقد رضي في سبيل هذا المقصد الحكيم، أن يجعل بيت أبي سفيان صنوا للكعبة في أمان اللاجئين إليه، وأصهر إلى أبي سفيان وندب ابنه معاوية للكتابة له بين النخبة المختارة من كاتبيه، وربما حسن لديه أن تئول الخلافة إلى علي بعده إذا شاء المسلمون ذلك، ولكن على أن تكون خلافته اختيارا مرضيا كاختيار غيره من أنصاره وأصحابه، ويستوي منهم القريب والبعيد. •••
ولم تكن الحكمة النبوية هي وحدها التي تأبى إثارة العصبيات، وتصوير الإسلام للعرب وللناس عامة في صورة السيادة الهاشمية، بل كانت الدعوة كلها في صميم أصولها تأبى هذا الذي أبته الحكمة النبوية، وتجتنبه غاية ما في وسعها اجتنابه ... لأن الدعوة الإسلامية دعوة عالمية، تشمل الأمم كافة من عرب إلى عجم، ومن مشرق إلى مغرب، وتقوم في أساسها على المساواة بين الناس ورد المفاضلة بينهم إلى الأعمال والأخلاق دون الأحساب والأعراق، فليس من المعقول أن تسود العالم كله أسرة هاشمية، ولا من المعقول أن يبنى الأساس على المساواة، وأن يقام الحكم على هذا التفضيل ...
وإن أحق الناس أن يفطن إلى هذه الحكمة لهم أولئك الغلاة، الذين زعموا أن وراثة الخلافة في بني هاشم حكم من أحكام الله، وضرورة من ضرورات الدين ...
فلو أنها كانت حكما من أحكام الله، لكان أعجب شيء أن يموت النبي - عليه السلام - وليس له عقب من الذكور، وأن يختم القرآن وليس فيه نص صريح على خلافة أحد من آل البيت ...
ولو أنها كانت ضرورة من ضرورات الدين، أو ضرورات القضاء، لنفذت في الدنيا كما ينفذ القضاء المبرم، وحبطت كل خلافة تنازعها كما تحبط كل بدعة تناقض السنن الكونية.
فلا النصوص الصريحة، ولا دلالة الحوادث على الإرادة الإلهية، مما يؤيد أقوال الغلاة عن ترجيح الخلافة بالقرابة، أو حصر الخلافة في الأسرة الهاشمية ...
وهذا هو العائق الأول الذي حال بين علي وبين الخلافة ولا قدرة له عليه، وقد لحظه العرب ولحظته قريش خاصة، وذكره الفاروق حين قال: «إن قريشا اختارت لنفسها فأبت أن تجمع لبني هاشم بين النبوة والخلافة» ... •••
ويرى بعض المؤرخين، أن قريشا كانت تحقد على الإمام، وتنحيه عن الخلافة لعلة أخرى تقترن بهذه العصبية التي أوقعت التنافس بين بيوتها وبين بني هاشم، فقد بطش الإمام بنفر من جلة البيوت القرشية في حروب المسلمين والمشركين، وقتل من أعلام بني أمية وحدهم عتبة بن ربيعة جد معاوية، والوليد بن عتبة خاله وحنظلة أخاه، وجميعهم من قتلاه في يوم بدر ... عدا من قتلهم في الوقائع والغزوات الأخرى، فحفظ أقاربهم له هذه الترات بعد دخولهم في الإسلام، وزادهم حقدا أنهم لا يملكون الثأر منه لقتلاهم من الكفار، وكانت حاله بعد تلك المدة كما قال ابن أبي الحديد: «... كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه، من إظهار ما في النفوس وهيجان ما في القلوب، حتى الأخلاف من قريش والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في أسلافهم وآبائهم، فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله.»
وقد علم الإمام هذا من قريش، عندما يئس من مودتها وابتلي بالصريح والدخيل من كيدها، فقال: «... ما لي ولقريش؟ ... أما والله لقد قتلتهم كافرين ولأقتلنهم مفتونين ... والله لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته ... فقل لقريش، فلتضج ضجيجها.» •••
ولو أن قريشا وادعته في سرها وجهرها، ووقفت بينه وبين منافسيه على الخلافة لا تصده عنها ولا تدفعهم إليها، لقد كانت تلك عقبة أي عقبة ...
فأما وهي تحاربه بعصبيتها وتحاربه بذحولها، فتلك هي العقبة التي لا يذللها إلا بحزب أقوى من حزب قريش بعد وفاة النبي - صلوات الله عليه، ولم يكن حزب قط أقوى يومئذ من قريش في أرجاء الدولة الإسلامية بأسرها ...
ولقد سبق الإمام إلى الخلافة ثلاثة من شيوخ الصحابة هم: أبو بكر وعمر وعثمان ...
فإذا نظرنا إلى عائق العصبية الذي قدمناه، فلا نرى شيئا أقرب إلى طبائع الأمور من سبق هؤلاء الثلاثة بأعيانهم إلى ولاية الخلافة بعد النبي - عليه السلام؛ لأنهم أقرب الناس أن يختارهم المسلمون بعد خروج العصبية الهاشمية من مجال الترجيح والترشيح ...
فليس أقرب إلى طبائع الأمور في بلاد عربية إسلامية من اتجاه الأنظار إلى مشيخة الإسلام في السن والوجاهة والسابقة الدينية، لاختيار الخليفة من بينها على السنة التي لم تتغير قط في تواريخ العرب الأقدمين، ولم يغيرها الإسلام بحكم العادة ولا بحكم الدين.
ولم يكن الإمام عند وفاة النبي من مشيخة الصحابة، التي تئول إليها الرئاسة بداهة بين ذوي الأسنان، ممن مارسوا الشورى والزعامة في حياته - عليه السلام ... لأنه كان يومئذ فتى يجاوز الثلاثين بقليل، وكان أبو بكر وعمر وعثمان قد لبثوا في جوار النبي بضع عشرة سنة قبل ظهور علي في الحياة العامة، وهم يشيرون على النبي، ويخدمون الدين ويجمعون الأنصار ويدان لهم بالتوقير والولاء ...
والعائق الذي قام بين علي وبين الخلافة هو في طريق هؤلاء الثلاثة السابقين تمهيد وتقريب ...
ونعني به عائق العصبية الهاشمية ...
لأن قريشا لا تنفس على بني تيم، ولا بني عدي، ولا بني أمية، في رئاسة عثمان خاصة ... كما تنفس على بني هاشم، إذ تجتمع لهم النبوة والخلافة ... •••
والإمام نفسه لم يفته أن يدرك هذا بثاقب نظره، حين قال وقد تجاوزته الخلافة للمرة الثالثة بعد موت الفاروق: «إن الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: «إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا ... وما كانت في غيرها من قريش تداولتموها بينكم.» وإذا اجتمع هذا العائق إلى عائق السن والتوقير للمشيخة المقدمة، فهما مبعدان للإمام عن الخلافة بمقدار ما يقربان سواه ...»
نعم إن فارق السن قد تقارب بعد موت الفاروق، وبلغ الإمام الخامسة والأربعين، وسبقت له في المشورة سوابق مأثورات ... فأصبح الفارق بينه وبين من يكبرونه مزية تعين على العمل والجهد، وتنفي مظنة الضعف والتواكل، ولكن الذي كسبه بهذه المزية خسره بازدياد المطامع الدنيوية ويأس الرؤساء من الوفر والنعمة على يديه، واعتقاد الطامعين أنهم أقرب إلى بعض الأمل في لين عثمان، وتقدم سنه منهم إلى أمل من الآمال في شدة الإمام وعسر حسابه ...
وبقيت الجفوة بينه وبين قريش على حالها، لم يكفكف منها تقادم العهد كما قال ابن أبي الحديد ...
وعلى هذه الجفوة في القبيلة كلها، دخلت في الأمر دخلة البواعث الشخصية التي لا يسلم منها عمل من أعمال بني الإنسان في زمن من الأزمان ... فقد اجتمع رهط الشورى الذين ندبهم الفاروق لاختيار الخليفة من بعده، فتقدم بينهم عبد الرحمن بن عوف، فخلع نفسه من الأمر كله ليتاح له أن يستشير الناس باسمهم، ويعلن البيعة على عهدتهم، وقيل: إنه أنس مع الزبير وسعد بن أبي وقاص ميلا موقوتا إلى علي وانحرافا موقوتا عن عثمان، فسارع إلى المنبر وبايع عثمان وجاراه الحاضرون مخافة الفتنة والشقاق ...
وكان عبد الرحمن بن عوف صهرا لعثمان؛ لأنه زوج أخته لأمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. •••
ويقضي الحق أن يقال في هذا المقام: إن بيعة عثمان قد تمت باتفاق بين المسلمين لم ينقضه خلاف معدود، فليست كلمة عبد الرحمن بن عوف هي التي خذلت عليا وقدمت عثمان عليه، إذ لو كانت هناك مغالبة شديدة بين حزبين متكافئين لما استقامت البيعة لعثمان بكلمة من عبد الرحمن بن عوف ... وهو واحد من خمسة أو ستة إذا أشركنا معهم عبد الله بن عمر بن الخطاب ...
ثم بويع الإمام بعد مقتل عثمان، فهل تحولت قريش عن جفوتها، أو نظرت إلى السياسة الهاشمية نظرة غير نظرتها؟ كلا ...
بل جاءت البيعة في المدينة، يوم خفت فيها صوت قريش، وهبطت سمعة حكامها، ويوم أصبحت البيعة ثورة على قريش، تنكر عليها الأثرة بالملك والأثرة بالغنائم والأمصار ... ويوم انقسم المجتمع الإسلامي قسميه، اللذين التبسا وتداخلا حينا حتى فصلتهما الحوادث فصلها الحاسم في خلافة عثمان: قسم يريد الرجعة إلى الخلافة والآداب النبوية، وقسم يريد المضي في الملك والدولة الدنيوية ...
فأي القسمين، كان قسم علي كائنا ما كان سعيه واجتهاده؟ ... وأية سياسة كانت تعينه على مشكلة الخلافة منذ بدايتها بعد وفاة النبي إلى ختامها الفاجع بعد مقتل عثمان؟
كل سياسة له لم تكن لتحيد به عن الخاتمة المحتومة أقل محيد.
وكل ما كان من تدبير الحوادث أو من تدبيره، فهو على هذا الملتقى الذي يتلاحق عنده الإسراع والإبطاء ...
وعلى هذا ينبغي أن نرجع إلى علة غير سياسة علي لتعليل العوائق، التي قامت دون مبايعته بالخلافة قبل الصديق والفاروق وعثمان ...
فهو غير مسئول عن نظرة العصبية التي نظرت بها قريش إلى السيادة الهاشمية.
وهو غير مسئول عن سنه التي تأخرت به عن مشيخة الصحابة من ذوي السابقة في الجهاد والزعامة، والأصالة بين ذوي الأسنان والأخطار ...
وهو غير مسئول عن الصفة العالمية، التي جعلت تأسيس الإسلام على أسرة واحدة في العالم كله أمرا ملحوظا بالتوجس والإحجام منذ اللحظة الأولى ...
نعم قد يسأل الإمام عن علاقته بالناس وقدرته على تألفهم بالآمال والمجاملات؛ ليأنسوا إليه ويرفعوا حجاب الجفوة بينهم وبينه، ويؤثروه على غيره بالخلافة؛ أملا في بره واطمئنانا إلى حفاوته ووده.
وقد يرد على بعض الخواطر ، أن سياسة الدولة الدنيوية أو سياسة الإرضاء بالمنافع والوعود، كانت أجدى عليه من آداب الخلافة الدينية وأخلق بتمكينه أولا وآخرا بين قريش وقبائل العرب عامة ...
فهذا في رأيهم مأخذ يرجع إلى شخصه وأعماله، ويسأل عنه كما يسأل الإنسان عن عمله وتصريف إرادته وفكره، ولا يجوز أن نرجع به إلى حكم الحوادث القاهرة، وسلطان المصادفات التي لا قبل له بتبديلها.
ولكن الواقع أن هذه السياسة - سياسة المنافع الدنيوية - لم تكن لتجديه شيئا بعد وفاة النبي، ولا بعد مقتل عثمان ...
فبعد النبي - عليه السلام - لم تكن ذخائر الفتوح قد استفاضت في الأيدي، وأنشأت في المجتمع الإسلامي طبقة مسموعة الصوت تحرص عليها وتستزيدها ...
فالذي يناضل في سبيل الحكم بسلاح هذه المنافع، إنما كان يناضل بسلاح غير موجود ... بل كان يناضل سلاحا ماضيا ينهزم أمامه لا محالة، وهو سلاح الحماسة الدينية التي غلبت في ضرباتها الأولى كل سلاح.
أما بعد مقتل عثمان، فأبعد الأمور عن التخيل أن يغلب علي معاوية في سوق المنافع الدنيوية؛ لأن معاوية قد أهب لها أهبته قبل عشرين سنة، وجمع لها أنصاره وكنز لها كنوزه في بلاد وادعة بين جند مطيع.
ولو توافرت لعلي مادة هذه السياسة، لما توافر له أعوانها والمساعدون عليها ... فليس أقل نفعا في هذا المضمار من أعوانه الذين ثاروا على سياسة المنافع، وباءوا من أجلها بدم خليفة، واجتمعوا على التمرد قاصدين أو غير قاصدين ... فلا يديرون أنفسهم إلى نهج كنهج معاوية ولو أرادوه.
وأغلب الظن أن عليا كان يخسر بهذه السياسة أولئك الذين أحبوه، ولا يربح بها أولئك الذين أبغضوه ...
فقد حببته آداب الخلافة إلى كل طبقة تكره استغلال الحكم، ولا مطمع لها فيه ... فكل بلاد خلت من عصبة المرشحين للحكم، فقد كانت من حزبه وشيعته بغير استثناء، فكان من حزبه شعب اليمن ومصر وفارس والعراق، ونشأت في اليمن - وقد عهد حكمه قديما - تلك الطائفة السبئية، التي غلت في حبه حتى ارتفعت به إلى مرتبة التقديس، وانتثرت في مصر وفارس بذور تلك الشيعة الفاطمية والإمامية، التي ظلت كامنة في تربتها حتى أخرجت شطأها بعد أجيال؛ وشذت الشام لأنها كانت في يد معاوية، وشذت أطراف من العراق أول الأمر؛ لأنها كانت في يد طلحة والزبير، ولم يشذ عن هذه القاعدة بلد من البلدان الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها ... فلولا أن سواد الناس لا يعملون بغير عصبة من القادة، وأن العصب من القادة كانوا كلما وجدوا في بقعة من البقاع وجد معهم النفع والاستغلال، لقد كانت محبة أولئك السواد أنفع له من عصب معاوية أجمعين ...
فأغلب الظن - كما أسلفنا - أن عليا كان يخسر هؤلاء باتباعه سياسة الدولة الدنيوية، ولا يكسب العصب التي ناصبته العداء، وأيقنت أنه حائل بينها وبين ما طمحت إليه من الصولة والثراء ...
وهذا على تقدير المقدرين أن عليا يؤاخذ لاجتنابه هذه السياسة، وأنه لو اتبعها لكانت أجدى عليه ...
وليست هي أجدى عليه لو اتبعها، ولا هو على اجتنابها بملوم ...
وتفضي بنا هذه التقديرات جميعا إلى نتيجة واضحة نلخصها في كلمات وجيزة، ونعتقد أنها أعدل الأقوال في وصف تلك السياسة، التي كثرت فيها مطارح النقد والدفاع ...
فسياسة علي لم تورطه في غلطات كان يسهل عليه اجتنابها باتباع سياسة أخرى ...
وهي كذلك لم تبلغه مآرب مستعصية، كان يعز عليه بلوغها في موضعه الذي وضع فيه، وعلى مجراه الذي جرى عليه ...
فليست هي علة فشل منتزع، ولا علة نجاح منتزع، أو هي لا تستدعي الفشل من حيث لم يخلق، ولا تستدعي النجاح من حيث لم يسلس له قياد ...
ورأينا في سياسته فهما وعلما، ولكننا لم نر فيها الحيلة العملية التي هي إلى الغريزة أقرب منها إلى الذكاء ...
فكان نعم الخليفة، لو صادف أوان الخلافة ...
وكان نعم الملك لو جاء بعد توطيد الملك، واستغنائه عن المساومة والإسفاف ...
ولكنه لم يأت في أوان خلافة، ولا في أوان ملك موطد، فحمل أعباء النقيضين، وأخفق حيث ينبغي أن يخفق أو حيث يعييه أن ينجح ... وتلك آية الشهيد ...
حكومته
كانت الدولة الإسلامية الناشئة على شفا الخطر في إبان الفتنة الداخلية بين علي ومعاوية ... ولكنها وقيت منه؛ لأن عوامل الأمان الذي يحيط بها كانت أقوى من عوامل الخطر الذي يهددها ... وتتلخص عوامل الأمان في وقاءين اثنين:
أحدهما:
أن الإسلام كان دعوة طبيعية تلقاها العالم وهو مستعد لها مستريح إليها، فرسخت دعائمه وامتنعت حدوده بعد أعوام قليلة من ظهوره، وسكن إليه الناس مؤمنين بدوام ظله وشمول عدله، سواء منهم من دخل فيه ومن أوى إلى حكمه وهو باق على اعتقاده ...
وثانيهما:
أن أعداء الإسلام كانوا في شاغل عنه بما أصابهم من الوهن، وأحدق بهم من المخاوف، وربما صح في الفتنة الإسلامية يومئذ ما يصح في كثير من الطوارق التاريخية الكبرى، وهي أنها لن تكون شرا محضا في جميع عواقبها، ولا تخلو من الخير على غير قصد من ذويها ... فإن هذه الفتنة قد أغرت أعداء الإسلام بالانتظار، وأوقعت في روعهم أنهم غنيون عن التحفز والوثوب الذي يشق عليهم جهده، وهم في تلك الحالة من الجهد والإعياء ... فقنعت دولة الروم بهجمات ضعيفة تلقاها معاوية بالجلد والأناة، وألهى القوم عنه ببعض الإتاوات والنوافل ... فتراجعوا متربصين إلى أن يقضي الخلاف بين المسلمين قضاءه، وهم وادعون مكفيون شر القتال ... فكان هذا الانتظار الخادع جانبا من جوانب الخير في الفتنة الإسلامية، التي فاضت يومئذ بالشرور.
وعلى هذا انقضت أيام علي، وليس للحكومة الإسلامية سياسة خارجية تحسب من سياسة الفتوح، أو سياسة الدفاع، أو سياسة المفاوضة والاستطلاع ...
وكل ما يدور الكلام عليه عن حكومة علي، فهو من قبيل سياسة الحكم بينه وبين رعاياه، أو هو السياسة الداخلية كما نسميها في العصر الحديث ... •••
ومن اليسير أن نعرف سياسة الإمام بينه وبين رعاياه، بغير حاجة إلى الإطالة في التعريف وسرد الأمثال ...
لأنها سياسة الرجل الذي شاء القدر أن يجعله فدية للخلافة الدينية في نضالها الأخير مع الدولة الدنيوية.
فنحن نتخذ ما شئنا من طريقين متقابلين، فإذا طريق علي هي طريق الخلافة المنزهة، حين تقابل الدولة الدنيوية مقابلة الخصم للخصم أو النقيض للنقيض، أو هي أقرب الطريقين إلى المساواة وأدناهما إلى رعاية الضعفاء ...
فالناس في الحقوق سواء ...
لا محاباة لقوي ولا إجحاف بضعيف، وقد عمد إلى القطائع التي وزعت قبله على المقربين والرؤساء، فانتزعها من القابضين عليها وردها إلى مال المسلمين لتوزيعها بين من يستحقونها على سنة المساواة، وقال: «والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة ... ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.»
وفرض الرفق بالرعية على كل وال، فلا إرهاق ولا استغلال، ولو كانت الحكومة هي صاحبة الحق في المال.
فمن وصاياه المكررة لولاته: «أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنهم خزان الرعية ... ولا تحسموا أحدا عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها، ولا عبدا، ولا تضربن أحدا سوطا لمكان درهم.»
ومن وصاياه في تحصيل الخراج والصدقات: «... امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج بالتحية لهم، ثم تقول: عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم حق فتؤدوه إلى وليه؟ ... فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه ... وإن أنعم لك منعم، فانطلق معه من غير أن تخيفه وتتوعده أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه، فإن أكثرها له ... فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به ... ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعها، ولا تسوءن صاحبها فيها، وأصدع المال صدعين، ثم خيره فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء حق الله في ماله ... فاقبض حق الله منه، فإن استقالك فأقله ...»
وكان دستوره في تحصيل الضرائب المفروضة على الناس، أن النظر في عمارة الأرض أبلغ من النظر في استجلاب الضريبة، فكان يكتب إلى واليه: «تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله ... فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم ... لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن جلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها إسراف الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر ...»
أما دستوره في الولاة والعمال، فخلاصته ما كتب به إلى الأشتر النخعي يقول له: «انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختبارا ولا تولهم محاباة وأثرة ... فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام، فإنهم أكثر أخلاقا وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إسرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا ... ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك، ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والعيون عليهم ... فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية.»
وعلى هذه العناية باستطلاع أحوال الولاة والعمال، كان ينهى أشد النهي عن كشف معائب الناس، أو كما كان يقول في وصية ولاته: «وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس ... فإن في الناس عيوبا، الوالي أحق من سترها ... فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك.»
وكان ينهى عن بطانة السوء مع حثه على اتخاذ العيون والجواسيس، فقال في وصيته لمحمد بن أبي بكر: «لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور ... فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله ... إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف، ممن له مثل آرائهم ونفاذهم ... وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم» ...
ولم ينكر قط شيئا من سياسة التولية، ثم صنع مثله في عهده، على كثرة الإغراء حوله باصطناع التقية والمداراة والهوادة قليلا مع الأقرباء وذوي الأخطار ...
ومن زعم غير ذلك، من ناقديه في عصره أو بعد عصره، فإنما هو آخذ في المقارنة بالأشكال والحروف دون البواطن والغايات ...
إذ كان مما قيل مثلا: إن عليا أقام عبد الله بن عباس على البصرة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، ومحمد بن أبي بكر ابن زوجته على مصر ... وهم أقرباؤه وخاصة أهله، فهو إذن يصنع ما أنكره على حكومة عثمان من إيثار الأقرباء بالولايات، وإقصاء الآخرين عنها ...
ولكنها كما قلنا مقارنة بالأشكال والحروف دون البواطن والغايات؛ لأن المقارنة الصحيحة بين العملين تسفر عن فارق بعيد كالفارق بين النقيض والنقيض ...
فبنو هاشم لم يكن لهم متسع لعمل أو ولاية في غير حكومة الإمام، ولم يكن للإمام معتمد على غيرهم بعد أن حاربته قريش، وشاعت الفرقة والشغب بين أعوانه من أبناء الأمصار ...
وهم مع هذا لم يؤثروا بالولايات كلها، ولم يؤثروا بالذي خصهم منها ليستغلوه ويجمعوا الثراء من غنائمه وأرزاقه ... بل كانوا يحاسبون على ما في أيديهم أعسر حساب، وكانوا لتضييقه عليهم في المراقبة يتركون ولاياتهم ويستقيلون منها، كما فعل ابن عباس حين هجر البصرة إلى مكة ...
وقد بلغ من حسابه للولاة أنه كان يحاسبهم على حضور الولائم التي لا يجمل بهم حضورها ... فكتب إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة: «أما بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة ... فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان ... وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ... فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.»
واستكثر على شريح قاضيه أن يبني دارا بثمانين دينارا، وهو يرزق خمسمائة درهم ... وحاسب على أقل من هذا من هو أقل من شريح أمانة في القضاء، وحرجا في الدين ...
فلو أن الإمام اختص أقرباءه بالولايات التي يحاسبون عليها هذا الحساب ، لما كان في اختصاصه إياهم مستبيح حق، ولا مستبيح مال ... فكيف وهو لا يختصهم إلا بالقليل منها، ولا يختصهم وله مندوحة عنهم، أو يختصهم وهم دون غيرهم في القدرة والأمانة؟
فالمقارنة هنا مقارنة أشكال وحروف، وكل ما توحي إلى الناقد بها أنه يذكر الأقرباء هنا والأقرباء هناك ...
وقد انقسمت طريق الخلافة، وطريق الدولة الدنيوية في كل أمر من الأمور على عهد الإمام، ولم تنقسم في مسألة الولاة أو مسألة الاستغلال وكفى.
وأكبر ما يذكر من انقسام الطريقين في عهده قيام الفكرة العالمية إلى جانب العصبية بالقبيلة أو بالوحدة الوطنية ...
فالدولة الدنيوية تشد أزرها بالعصبية الجنسية، والخلافة الدينية تشد أزرها بالإخاء بين الشعوب، وبطلان الفوارق بين الأجناس ...
وقد كانت القبيلة من أنصار الإمام، تقاتل القبيلة من أنصار معاوية في سبيل الرأي والعقيدة ...
وكان أنصار الإمام أبدا من الفرس والمغاربة والمصريين أكثر من أنصاره بين قريش خاصة، وبين بني هاشم على الأخص، وبين قبائل العرب على التعميم ...
وهذا الامتزاج بين الفكرة العالمية وبين إمامة علي أو خلافته، هو أقطع الأدلة على الوحدة بين أوانه وأوان الخلافة ... فإذا ذهب هذا وجب أن يذهب ذاك، أيا كانت السياسة المتوخاة، وبالغا ما بلغ نصيبها من السداد والصواب ...
ولنا أن نعمم هذا الحكم الإنساني في كل شأن من شئون الحكومة، قضى به علي في عهده أو عهود الخلفاء من قبله ...
فالروح الإنساني هو قوام الحكومة الإمامية، كما ينبغي أن يكون، وهو قوامها كما كانت على يديه جهد الطاقة الآدمية ... وهي طاقة لها ما لها من حدود.
جيء إلى عمر بن الخطاب بامرأة زانية يشتبه في حملها، فاستفتى الإمام ... فأفتى بوجوب الإبقاء عليها حتى تضع جنينها، وقال له: «إن كان لك سلطان عليها، فلا سلطان لك على ما في بطنها.»
وانتزع امرأة من أيدي الموكلين بإقامة الحد عليها ... وسأله عمر فقال: «أما سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المبتلى حتى يعقل؟» قال: «بلى .» قال: «فهذه مبتلاة بني فلان ... فلعله أتاها وهو بها.» قال عمر: «لا أدري.» قال: «وأنا لا أدري.» فترك رجمها للشك في عقلها ...
وأتي عمر بامرأة أجهدها العطش، فمرت على راع فاستسقته فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ... ففعلت، فشاور الناس في رجمها، فقال علي: «هذه مضطرة إلى ذلك ... فخل سبيلها.»
وهذه أمثلة قليلة من أمثلة كثيرة في القصاص وتفسير الشريعة ...
إلا أنه قد حاد عن هذه السنة في أمر واحد خالفه فيه بعض فقهاء عصره، ومنهم ابن عمه عبد الله بن عباس.
وذلك هو إحراقه الروافض الذين عبدوه ووصفوه بصفات الآلهة، وأبوا أن يتوبوا عن ضلالتهم مرة بعد مرة، وقيل: إنهم أصروا على عنادهم وهم يحرقون ... فاتخذوا من تعذيبه لهم بالنار دليلا على أنه هو الإله المعبود ... إذ لا يعذب بالنار إلا الله.
فهؤلاء المفسدون المفتونون، قد استحقوا عقوبة الموت بقضاء الشريعة وقضاء الدولة، التي لا يقوم لها نظام على هذه الضلالة ... ولكن الإحراق بالنار صرامة لا توجبها ضرورة العقاب، وليس في اجتنابها خطر على الشريعة، ولا على النظام ...
إنما شفيع الإمام في هذه الصرامة أنه كان هو المستهدف لتلك الضلالة، وهو مظنة الريبة في الهوادة فيها ... فهو ينزه عدله عن كل ظن، حيث تظن بالهوادة جميع الظنون، وقد أحرق الذين ألهوه ... ونهى عن قتال الخوارج الذين حكموا بكفره، إلا أن يفسدوا في الأرض أو يبدءوا بالعدوان على بريء، وفي هذا الإنصاف بين مؤلهيه ومكفريه شفاعة من تلك الصرامة في العقاب.
وكان الإمام يذكر أبدا في حكومته أن الحقوق العامة لها شأن لا ينسى مع حقوق الأفراد ...
ومن ذلك ما نقله الطبري عن بعض الأسانيد، حيث قال: «رأيت عليا - عليه السلام - خارجا من همدان، فرأى فتيين يقتتلان ففرق بينهما ... ثم مضى فسمع صوتا: يا غوثا بالله فخرج يحضر نحوه حتى سمعت خفق نعله، وهو يقول: «أتاك الغوث.» فإذا رجل يلازم رجلا، فقال: «يا أمير المؤمنين ... بعت هذا ثوبا بتسعة دراهم وشرطت عليه ألا يعطيني مغموزا ولا مقطوعا، فأتيته بهذه الدراهم ليبدلها لي فأبى فلزمته فلطمني.» فقال: «أبدله.» ثم قال: «بينتك على اللطمة.» فأتاه بالبينة ... قال: «دونك فاقتص.» قال: «إني قد عفوت يا أمير المؤمنين.» قال: «إنما أردت أن أحتاط في حقك» ... ثم ضرب الرجل تسع درات، وقال: «هذا حق السلطان».»
وكان يكرر هذا الحكم في كل ما شابهه من أمثال هذا العدوان، وهو أشبه المذاهب بمذهب الحكومات العصرية في القصاص.
ويقال الكثير عن مناهج الإمام في الحكومة وسياسة الرعية، مما يغني فيه هذا الإجمال عن التوسع في التفصيل ...
ولكن الذي لا ينسى في سياق الكلام عن الإمامة والدعوة العالمية، أنه - رضي الله عنه - كان أول من خرج بالعاصمة من المدينة إلى أرض غير أرض الحجاز، وهو الحجازي سليل الحجازيين ...
وقد اختار الكوفة، فكانت أوفق عاصمة للإمامة العالمية في تلك المرحلة من مراحل الدولة الإسلامية ...
لأنها كانت ملتقى الشعوب من جميع الأجناس، وكانت مثابة التجارة بين الهند وفارس واليمن والعراق والشام، وكانت العاصمة الثقافية التي ترعرعت فيها مدارس الكتابة واللغة والقراءات والأنساب والأفانين الشعرية والروايات ... فهي أليق العواصم في ذلك العصر بحكومة إمام، وما زالت الإمامة لاحقة بعلي ومحيطة به حيث تحول وحيث أقام ...
النبي والإمام والصحابة
أحاديث النبي - عليه السلام - في فضل علي ومحبته متواترة في كتب الحديث المشهورة ... منها ما انفرد به، وهو حديث الخيمة الذي رواه الصديق - رضي الله عنه - حيث قال: «رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خيم خيمة، وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: معشر المسلمين ... أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لما حاربهم، ولي لمن والاهم، لا يحبهم إلا سعيد الجد طيب المولد، ولا يبغضهم إلا شقي الجد رديء الولادة.»
ومنها ما اشترك فيه وغيره، وهو الذي روته السيدة عائشة حيث سئلت: «أي الناس أحب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ ... قالت: فاطمة! ... فقيل: من الرجال؟ ... قالت: زوجها ... إن كان ما علمت صواما قواما.»
وقد روي حديث في هذا المعنى، حيث سئل رسول الله عن أحب الناس إليه، فقال: «من النساء عائشة، ومن الرجال أبوها.»
ولا تناقض بين الحديثين، إذ كانت السيدة عائشة هي التي تروي الحديث الأول، وتخرج من كلامها كما يخرج المتكلم من عموم كلامه، أو كانت تروي عن أقرباء النبي من لحمه ودمه، فتقول ما تعلم عن غيرها.
وهذان نموذجان من الأحاديث النبوية في فضل علي ومحبته ومنزلته عند الله ونبيه، وهي تعد بالعشرات.
وأصحاب المذاهب يختلفون في تأويل هذه الأحاديث، وفي أسانيدها، ويوجهونها حيث اتجهوا من التشيع للإمام أو التشيع عليه ... وهو شرح طويل لا يهمنا منه هنا أن ننصر فيه فريقا على فريق، أو نرجح مذهبا على مذهب ... إذ ليس فهم الإمام موقوفا على تغليب أي الفريقين وتعزيز أي المذهبين، وفهم الإمام على حقيقته النفسية والتاريخية هو كل ما نعنيه ...
فمهما يختلف الرواة في تأويل الأحاديث، فالذي يسعك أن تجزم به من وراء اختلافهم، أن عليا كان من أحب الناس إلى النبي، إن لم يكن أحبهم إليه على الإطلاق ...
لقد كان النبي - عليه السلام - يغمر بالحب كل من أحاط به من الغرباء والأقربين ... فأي عجب أن يخص بالحب من بينهم إنسانا، كان ابن عمه الذي كفله وحماه، وكان ربيبه الذي أوشك أن يتبناه، وكان زوج ابنته العزيزة عنده، وكان بديله في الفراش ليلة الهجرة التي هم المشركون فيها بقتل من يبيت في فراشه، وكان نصيره الذي أبلى أحسن البلاء في جميع غزواته، وتلميذه الذي علم من فقه الدين ما لم يعلمه ناشئ في سنه؟ ...
حب النبي لهذا الإنسان حقيقة لا حاجة بها إلى تأويل الرواة ولا إلى تفسير النصوص؛ لأنها حقيقة طبيعية، أو حقيقة بديهية قائمة من وراء كل خلاف ...
ومما لا خلاف فيه كذلك، أنه - عليه السلام - كان لا يكتفي بحبه إياه ... بل كان يسره ويرضيه أن يحببه إلى الناس، وكان يسوءه ويغضبه أن يسمع من يكرهه ويجفوه ...
بعث رسول الله عليا في سرية ليقبض الخمس، فاصطفى منه سبية، واتفق أربعة من شهود السرية أن يبلغوا ذلك إلى رسول الله، وكان المسلمون إذا قدموا من سفر بدءوا بالرسول، فسلموا عليه وأبلغوه ما عندهم، ثم انصرفوا إلى رحالهم ... فقام أحد الأربعة وحدث الرسول بما رأى فأعرض عنه، وظن أصحابه أنه لم يسمعه ... فتناوبوا الحديث واحدا بعد واحد في معنى كلامه، فلما فرغ الرابع من حديثه أقبل عليه رسول الله وقد تغير وجهه فقال: «ما تريدون من علي؟ ... ما تريدون من علي؟ ... ما تريدون من علي؟ علي مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي.» وقال لأحدهم في روايات أخرى: «أتبغض عليا؟» قال: «نعم!» قال: «لا تبغضه، فإن له في الخمس أكثر من ذلك، أي: أكثر من السبية التي اصطفاها ... لا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حبا.» •••
وبعث رسول الله عليا إلى اليمن، فسأله جماعة من أتباعه أن يركبهم إبل الصدقة ليريحوا إبلهم، فأبى ... فشكوه إلى رسول الله بعد رجعتهم، وتولى شكايته سعد بن مالك بن الشهيد، فقال: «يا رسول الله ... لقينا من علي من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق ...» ومضى يعدد ما لقيه، حتى إذا كان في وسط كلامه ضرب رسول الله على فخذه، وهتف به: «يا سعد بن مالك بن الشهيد، بعض قولك لأخيك علي؟ فوالله لقد علمت أنه جيش في سبيل الله.»
وشكا بعض الناس مثل هذه الشكوى، فقام رسول الله فيهم خطيبا يقول لهم: «أيها الناس ... لا تشكوا عليا، فوالله إنه لجيش في ذات الله.»
ويلوح لنا أن النبي - عليه السلام - كان يحب عليا ويحببه إلى الناس؛ ليمهد له سبيل الخلافة في وقت من الأوقات، ولكن على أن يختاره الناس طواعية وحبا ... لا أن يكون اختياره من حقوق العصبية الهاشمية، فإنه - عليه السلام - قد اتقى هذه العصبية جهد اتقائه، ولم يحذر خطرا على الدين أشد من حذره أن يحسبها الناس سبيلا إلى الملك والدولة في بني هاشم، وقد حرم نفسه الشريفة حظوظ الدنيا وأقصى معظم بني هاشم عن الولاية والعمالة؛ لينفي هذه الظنة ... ويدع الحكم للناس يختارون من يرضونه له بالرأي والمشيئة.
فالتزم في التمهيد لعلي وسائل ملموحة لا تتعدى التدريب والكفالة إلى التقديم والوكالة، أرسله في سرية إلى فدك لغزو قبيلة بني سعد اليهودية، وأرسله إلى اليمن للدعوة إلى الإسلام، وأرسله إلى منى ليقرأ على الناس سورة براءة، ويبين لهم حكم الدين في حج المشركين وزيارة بيت الله، وأقامه على المدينة حين خرج المسلمون إلى غزوة تبوك ... ولم يفته مع هذا كله أن يلمح الجفوة بينه وبين الناس، وأن يكله إلى السن تعمل عملها مع الأيام، ويكلهم في شأنه إلى ما ارتضوه، عسى أن تسنح الفرصة لمزيد من الألفة بينهم وبينه.
هذه فيما نعتقد أصح علاقة يتخيلها العقل، وتنبئ عنها الحوادث بين النبي وابن عمه العظيم ... •••
وربما كانت أصح العلاقات المعقولة؛ لأنها هي وحدها العلاقة الممكنة المأمولة، وكل ما عداها فهو بعيد من الإمكان بعده من الأمان.
فهو يحبه ويمهد له وينظر إلى غده، ويسره أن يحبه الناس كما أحبه، وأن يحين الحين الذي يكلون فيه أمورهم إليه ...
وكل ما عدا ذلك، فليس بالممكن وليس بالمعقول ...
ليس بالممكن أن يكره له التقديم والكرامة ...
وليس بالممكن أن يحبهما له، وينسى في سبيل هذا الحب حكمته الصالحة للدين والخلافة ...
وإذا كان قد رأى الحكمة في استخلافه، فليس بالممكن أن يرى ذلك، ثم لا يجهر به في مرض الوفاة أو بعد حجة الوداع ...
وإذا كان قد جهر به، فليس بالممكن أن يتألب أصحابه على كتمان وصيته وعصيان أمره، إنهم لا يريدون ذلك مخلصين، وإنهم إن أرادوه لا يستطيعونه بين جماعة المسلمين، وإنهم إن استطاعوه لا يخفى شأنه ببرهان مبين، ولو بعد حين ...
فكل أولئك ليس بالممكن، وليس بالمعقول ...
وإنما الممكن والمعقول هو الذي كان، وهو الحب والإيثار، والتمهيد لأوانه، حتى يقبله المسلمون ويتهيأ له الزمان.
أما العلاقة بين علي وسائر الصحابة من الخلفاء وغير الخلفاء، فهي علاقة الزمالة المرعية، والتنافس الذي يثوب إلى الصبر والتجمل والتقية ...
فليس فيما لدينا من الأخبار والملامح ما يدل على ألفة حميمة بينه وبين أحد من الصحابة المشهورين، وليس فيها كذلك ما يدل على عداوة وبغضاء ... بل ليس في أخباره جميعا ما يدل على طبيعة تحقد على الناس، وإن دلت أحيانا على طبيعة يحقد الناس عليها ويفرطون.
فمن المعلوم أن عليا كان يرى أنه أحق بالخلافة من سابقيه، وأنه لم يزل مدفوعا عن حقه هذا منذ انتقل النبي - عليه السلام - إلى الرفيق الأعلى، واحتج المهاجرون على الأنصار في أمر الخلافة بالقرابة منه - صلوات الله عليه. قال: «ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله
صلى الله عليه وسلم
فلجوا
1
عليهم ... فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم، وإن بغيره فالأنصار على دعواهم.»
كذلك كان رأيه في الخلافة يوم بويع بها الصديق، ثم بويع بها الفاروق، ثم بويع بها عثمان ...
وجاءت قضية الإرث بعد قضية الخلافة في أوائل عهد الصديق، فباعدت الفرجة بين القلوب، وأطالت العزلة بين الأصحاب ... وخلاصة هذه القضية، أن فاطمة والعباس - رضي الله عنهما - طلبا ميراثهما في أرض فدك وسهم خيبر، فذكر لهما الصديق حديث النبي عن إرث الأنبياء، ونصه في روايته: «نحن - معاشر الأنبياء - لا نورث ... ما تركناه فهو صدقة ... إنما يأكل آل محمد من هذا المال.»
فغضبت فاطمة، ولم تكلمه حتى ماتت ... ودفنها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر ... وقيل: إن عليا تخلف عن البيعة ستة أشهر إلى ما بعد وفاتها، ثم أرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد ... وتلقاه وعنده بنو هاشم، فقال: «إنه لم يمنعنا من أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك، ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا فاستبددتم به علينا.»
ومع هذا اليقين الراسخ عنده في حقه وحق غيره، نرجع إلى سيرته وأحاديثه ... فنرى ولا ريب أنها أقل ما تشعر به النفس الإنسانية في هذه الحالة من النفرة والنقمة، ولا نجد في خطبه ومساجلاته التي ذكر فيها الخلفاء السابقين كلمة تستغرب من مثله، أو يتجاوز بها حد الحجة التي تنهض بحقه ... بل الغريب أنه لزم هذا الحد ولم يجاوزه إلى جمحة غضب تفلت معها بوادر اللسان، ولو جاوزه لكان عاذروه أصدق من لائميه ...! •••
وقد أعان أسلافه الثلاثة برأيه وعمله، وجاملهم مجاملة الكريم بمسلكه ومقاله، ولم يبدر منه قط ما ينم على كراهية وضغن مكتوم ... ولكنه كان يأنف أن ينكر هذه الكراهية إذا رمي بها كما يأنف العزيز الكريم، وفي ذلك يقول من خطاب إلى معاوية: «ذكرت إبطائي عن الخلفاء وحسدي إياهم والبغي عليهم، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون، وأما الكراهية لهم فوالله ما أعتذر للناس من ذلك.»
وأولى أن يقال: إن دلائل وفائه في حياتهم، وبعد ذهابهم، كان أظهر من دلائل جفائه، فإنه احتضن ابن أبي بكر محمدا وكفله بالرعاية ورشحه للولاية، حتى حسب عليه وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله، وقد سمى ثلاثة من أبنائه بأسماء الخلفاء الذين سبقوه، وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان ...
ويخطئ جدا من يتخذ فتواه في مقتل الهرمزان دليلا على كراهيته لعمر أو نقمة منه في أبنائه ... فقد أسرع عبيد الله بن عمر إلى الهرمزان، فقتله انتقاما لأبيه، ولم ينتظر حكم ولي الأمر فيه ولا أن تقوم البينة القاطعة عليه، فلما استفتي في هذه القضية أفتى بالقصاص منه، ولم يغير رأيه حين تغير رأي عثمان، فأعفاه من جريرة عمله ... لأنه هو الرأي الذي استمده من حكم الشريعة كما اعتقده وتحراه، وبهذا الرأي دان قاتله عبد الرحمن بن ملجم، فأوصى وكرر الوصاية ألا يقتلوا أحدا غيره لمظنة المشاركة بينه وبين رفقائه في التآمر عليه.
وإنك لن تجد إنسانا أعرف بالعهد، ولا أصون له ممن يتذاكره في حومة الحرب، ويرى أن التذكير به ينزع السلاح من الأيدي، ويعود بالخصمين المتناجزين إلى الصفاء والإخاء ...
فما حارب علي عدوا له سابقة مودة به إلا أن يذكره بتلك السابقة، ويستنجد بالصداقة الأولى فيه على العداوة الحاضرة.
ومن ذلك موقفه مع الزبير وطلحة في وقعة الجمل، وهما ملحان في حربه وإنكار بيعته ...
فخرج حاسرا لا يحتمي بدرع ولا سلاح، ونادى: يا زبير، اخرج إلي ... فخرج إليه شاكا في السلاح، وسمعت السيدة عائشة فصاحت: وا حرباه! ... إذ كان خصم علي مقضيا عليه بالموت كائنا ما كان حظه من الشجاعة والخبرة بالنضال.
فلما تقابل علي والزبير اعتنقا، وعاد علي يسأله: «ويحك يا زبير ما الذي أخرجك؟ ...»
قال: «دم عثمان.»
قال: «قتل الله أولانا بدم عثمان.»
وجعل يذكره عهوده وعهود رسول الله، ومنها مقالة النبي: «والله ستقاتله وأنت له ظالم.»
فاستغفر الزبير وقال: «لو ذكرتها ما خرجت.» •••
ولما وقف علي على جثة طلحة بكى أحر بكاء، وجعل يمسح التراب عن وجهه وهو يقول: «عزيز علي أن أراك أبا محمد مجندلا تحت نجوم السماء.» وتمنى لو قبضه الله قبل هذا اليوم بعشرين سنة ...
والمودة عند فارس كعلي عهد محفوظ وموثق مذكور، إن فاتها أن تكون حنان قلب أو ألفة شعور.
ويخيل إلينا أنه لم يرزق قط صداقة الألفاء الذين يرعاهم ويرعونه؛ لأنه يحبهم ويحبونه، ولكنه عامل الناس وعاملوه على سنة العهود وديدن الفروسية، فلم تزل بينه وبينهم إيماءة إلى سلاح مغمد أو سلاح مشهور.
ومثل علي لا يرزق صداقة الألفاء؛ لأنه من أصحاب المزايا التي تغري بالمنافسة أو بالحسد ولا تحميها المنافع ولا المسايرة والمداراة.
فهو شجاع، عالم، بليغ، ذكي، موصول النسب بأعرق الأرومات ... فإن لم يحسد هذا، فمن يحسد؟ ...
وإن حسد، فما الذي يفل من غرب حاسديه؟ ... وما الذي يفيء بهم إلى القصد في عدائه والتأليب عليه؟ ... •••
إنهم يستبعدون يومه في الإمارة والسلطان، وإذا استقربوا يومه في الإمارة والسلطان، فلا مطمع لهم في النفع على يديه وهو قوام بالقسط على الأموال والحقوق، فنصيبه إذن منهم نصيب المحسود الذي لا رجاء له في هوادة من حاسديه، وليس أحقد من الناس على صاحب عظمة لم يطمعوا في نفعه ولم يزالوا على طمع في النفع من خصومه، وبليته بهم أكبر وأدهى حتى لا يصطنع الدهان ولا يعمد معهم إلى الختل والروغان ... على أنه لو داهنهم وراوغهم لما اغتفروا له ذنب العظمة التي لا تحميها حماية من طمع أو نكاية، أو كما قال الحكيم الغربي: «إن نسي أنه أسد لم ينسوا أنهم كلاب.»
وهكذا فرضت على الرجل العظيم ضريبة العظمة الغريبة في ديارها وبين آلها وأنصارها ...
فالعلاقة بينه وبين كرام الصحابة، كانت علاقة الزمالة التي ينوب فيها الواجب مناب الألفة ...
والعلاقة بينه وبين الخصوم، كانت علاقة حسد غير مكفوف، وبغض غير مكتوم ...
والعلاقة بينه وبين سواد العامة، كانت علاقة غرباء يجهلونه ولا ينفذون إلى لبابه، وإن قاربه أناس معجبين، وباعده أناس نافرين ...
وتلك أيضا آية الشهيد ...
ثقافته
ألسنة الخلق أقلام الحق ...
كلمة سائغة ليس أصدق منها إن صدقت، وهي صدق في كثير من الأحيان ...
ونحن نعلم صدقها الأصيل حين نسمع الكلمة من هذه الكلمات، التي ينقلها لسان عن لسان ويتلقاها جيل عن جيل، فيخيل إلينا أنها خاطر عابر يسمع ويستملح ويشفع له القدم ... فنقبله كرامة له كما نقبل الثمين والغث أحيانا من وقار المشيب، ولكنه بعد كل هذا لا يثبت على النقد ولا يصبر على مراجعة العلم والقياس، ثم نعرضه اتفاقا على العلم والقياس ... فإذا به قد احتمل من النقد العسير ما ليست تحتمله آراء العلماء وقضايا الحكماء، وإذا بالخطأ في هذه القولة الشائعة، أو في هذا اللقب المرتجل أقل من كل خطأ يحصى على كل مخلوق ...
من هذه الألقاب الشائعة، لقب الإمام الذي اختص به علي بين جميع الخلفاء الراشدين، والذي يطلق إذا أطلق فلا ينصرف إلى أحد غيره، بين جميع الأئمة الذين وسموا بهذه السمة من سابقيه ولاحقيه ...
ولم وليس هو بفرد في الإمامة بجملة معانيها؟ ...
ألم يكن الصديق إماما كعلي؟ ... ألم يكن الفاروق إماما كعلي؟ ... ألم يكن عثمان إماما كعلي؟ ... ألم يكونوا خلفاء راشدين إذا قصدت الخلافة الراشدة بعد النبوة؟ ...
بلى كانوا أئمة مثله، وسبقوه في الإمامة ...
ولكن الإمامة يومئذ كانت وحدها في ميدان الحكم بغير منازع ولا شريك، ولم يكتب لأحد منهم أن يحمل علم الإمامة؛ ليناضل به علم الدولة الدنيوية، ولا أن يتحيز بعسكر يقابله عسكر، وصفة تناوئها صفة، ولا أن يصبح رمزا للخلافة يقترن بها ولا يقترن بشيء غيرها ... فكلهم إمام حيث لا اشتباه ولا التباس، ولكن الإمام بغير تعقيب ولا تذييل هو الإمام كلما وقع الاشتباه والالتباس ...
وذاك هو علي بن أبي طالب، كما لقبه الناس وجرى لقبه على الألسنة ... فعرفه به الطفل وهو يسمع أماديحه المنغومة في الطرقات، بغير حاجة إلى تسمية أو تعريف ... •••
وخاصة أخرى من خواص الإمامة، ينفرد بها علي ولا يجاريه فيها إمام غيره، وهي اتصاله بكل مذهب من مذاهب الفرق الإسلامية منذ وجدت في صدر الإسلام، فهو منشئ هذه الفرق أو قطبها الذي تدور عليه، وندرت فرقة في الإسلام لم يكن علي معلما لها منذ نشأتها، أو لم يكن موضوعا لها ومحورا لمباحثها، تقول فيه وترد على قائلين.
وقد اتصلت الحلقات بينه وبين علماء الكلام والتوحيد، كما اتصلت الحلقات بينه وبين علماء الفقه والشريعة، وعلماء الأدب والبلاغة ... فهو أستاذ هؤلاء جميعا بالسند الموصول ...
أما الفرق التي جعلته موضوعا لها ومحورا لمباحثها، فحسبك أن تذكر الخوارج والروافض والشيعة والناصبين وأهل السنة، فتكون قد ذكرت جميع الفرق الإسلامية بلا استثناء أو باستثناء جد يسير.
وهنا تشتبك الفروع وتتأشب الأفانين، فترى الفرقة الواحدة مزيجا من التصوف والسياسة، كالباطنة على اختلافها ... وقد تترامى بها الفروع حتى تصل إلى القائلين بمذهب الباب أو مذهب البهاء، وهم طرف مقطوع أو موصول، من بعض تلك الأصول ...
فالإمام أحق لقب به، وهو أحق الأئمة بلقب الإمام! ...
ولقد كانت له آية من آيات الشهداء في كثير من صفاته، وكثير من معارض حياته، وطوارئ أوقاته ...
وكانت له في الإمامة آية أخرى من هذه الآيات ...
فآية الشهداء أنهم يبخسون حقهم في الحياة، ثم يعطون فوق حقوقهم بعد الممات ...
أو هم يعرضون لنا عجائب الدنيا في إقبالها وإدبارها، كما قال الإمام - رضي الله عنه: «إنها إذا أدبرت عن إنسان سلبته محاسن نفسه، وإذا أقبلت عليه أعارته محاسن غيره.»
وكذلك اتفق للإمام في صفة الإمامة، كما اتفق له في معظم الصفات ...
فقل أن سمعنا بعلم من العلوم الإسلامية أو العلوم القديمة لم ينسب إليه، وقل أن تحدث الناس بفضل لم ينحلوه إياه، وقل أن توجه الثناء بالعلم إلى أحد من الأوائل إلا كانت له مساهمة فيه ...
نحلوه ديوانا من الشعر فيه عشرات من القصائد، وليس بينها إلا عشرات من الأبيات تصح نسبتها إليه ...
ونحلوه علما سموه علم «الجفر» وزعموا أنه علم النجوم والأزياج، الذي يكشف عن حوادث الغيب إلى آخر الزمان.
ونحلوه مقامات تخلو من أشيع الحروف في الكلمات وهي حرف الألف، ولا يعقل أن تظهر أشباه هذه المقامات قبل عصر الصناعة في أيام العباسيين وما تلاها ...
ونحلوه من مصطلحات علم الكلام أقوالا لم تعرف، ولا يعقل أن تعرف قبل ترجمة المفردات الإغريقية بما لها من غرائب النحت والاشتقاق.
وبعض ما نحلوه يزيده قدرا ويرفعه شأنا، ألا تصح نسبته إليه ...!
وبعض ما بقي له غير مشكوك فيه ولا مختلف عليه ... كاف لتعظيم قدره وإثبات إمامته في عصره، وبعد عصره.
وعندنا أنه - رضي الله عنه - كان ينظم الشعر ويحسن النظر فيه، وكان نقده للشعراء نقد عليم بصير، يعرف اختلاف مذاهب القول، واختلاف وجوه المقابلة والتفضيل على حسب المذاهب، ومن بصره بوجوه المقابلة بينهم أنه سئل: «من أشعر الناس؟» قال: «إن القوم لم يجروا في حلقة تعرف الغاية عند قصبتها ... فإن كان ولا بد فالملك الضليل.»
وهذا فيما نعتقد أول تقسيم لمقاييس الشعر على حسب «المدارس» والأغراض الشعرية بين العرب، فلا تكون المقابلة إلا بين أشباه وأمثال، ولا يكون التعميم بالتفضيل إلا على التغليب.
لكنه - رضي الله عنه - لم يرزق ملكة الإجادة في شعره، والنبي - عليه السلام - يرى ذلك حيث سألوه أن يأذن لعلي في هجاء المشركين، فقال: «ليس بذاك» ... وأحالهم إلى حسان بن ثابت، وندب له من يبصره بمثالب القوم ...
وكل شعره الذي رجحت نسبته إليه من قبيل هذه الأبيات، التي وصف فيها قبيلة همدان في وقعة صفين:
ولما رأيت الخيل ترجم بالقنا
فوارسها حمر النحور دوام
وأعرض نقع في السماء كأنه
عجاجة دجن ملبس بقتام
ونادى ابن هند في الكلاع وحمير
وكندة في لخم وحي جذام
تيممت همدان الذين هم هم
إذا ناب دهر جنتي وسهامي
فجاوبني من خيل همدان عصبة
فوارس من همدان غير لئام
فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها
وكانوا لدى الهيجا كشرب مدام
فلو كنت رضوانا على باب جنة
لقلت لهمدان: ادخلوا بسلام
أو من قبيل هذه الأبيات:
محمد النبي أخي وصهري
وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يمسي ويضحي
يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي
منوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها
فأيكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طرا
صغيرا ما بلغت أوان حلمي
وصليت الصلاة وكنت فردا
فمن ذا يدعي يوما كيومي
وقد نظم شعرا ولا ريب، كما يدل سؤالهم النبي - عليه السلام - أن يأذن له في هجاء من هجاهم، ولم ينسب إليه شعر ... صح أو لم يصح، أجود مما قدمناه، وليس فيه ما يسلكه بين المجودين من الشعراء، أو يلحق بطبقته بين الكتاب والخطباء ... •••
أما كتاب الجفر أو علم الجفر، فالقول الفصل فيه أقرب من القول الفصل في جميع ما نحلوه وأضافوا إليه ... فمثل علي في تقواه وفضله، لا يشتغل بعلم مزعوم هو السحر القديم بعينه، وليس هو مما يليق بورعه ولا ذكائه، وقد نهى وشدد النهي عن تعلم النجوم واستطلاع الغيب بأمثال هذه العلوم، ومن المحقق الذي لا خلجة فيه من الشك عندنا أن النبوءات التي جاءت في نهج البلاغة عن الحجاج بن يوسف، وفتنة الزنج وغارات التتار وما إليها، هي من مدخول الكلام عليه ...
ومما أضافه النساخ إلى الكتاب بعد وقوع تلك الحوادث بزمن قصير أو طويل ... ولا نجزم مثل هذا الجزم في أمر المقامات التي خلت من بعض الحروف؛ لأن العقل لا يمنعها قطعا كما يمنع استطلاع الغيب المفصل من أزياج النجوم، ولكننا نستبعد جدا أن تكون هذه المقامات من كلام الإمام لاختلاف الأسلوب واختلاف الزمن، وحاجة النسبة هنا إلى سند أقوى من السند الميسر لنا بكثير.
وكذلك نستبعد أنه قال لكاتبه ليظهر علمه بغريب اللغة: «ألصق روانفك بالجبوب وخذ المزبر بشناترك، واجعل حندورتيك إلى قيهلي حتى لا أنفي نفية إلا أودعتها بحماطة جلجلانك.»
أي: «ألصق مقعدك بالأرض وخذ القلم بما بين أصابعك، واجعل عينيك إلى وجهي حتى لا ألفظ بلفظة إلا وعيتها في سواد قلبك.»
فإن الولع بإظهار العلم بالغريب بدعة لم تعرف في صدر الإسلام، ولم يلتفت الناس إلى ادعائها إلا بعد استعجام العرب وندرة العارفين بفصيح العربية وغيرها على السواء.
ومثل هذا، ما نسبوه إليه حيث زعموا أنه قال: «ما تربعلبنت قط.» أي: ما شربت اللبن يوم الأربعاء، و«ما تسبتسمكت قط.» أي: ما أكلت السمك يوم السبت «وما تسرولقمت قط.» أي: ما لبست السراويل قائما ... إلى أشباه هذه المخترعات التي تستغرب لفظا ومعنى واعتقادا من رجل كالإمام في صدر الإسلام. •••
إلا أننا نسقطها جميعا، فلا نسقط بها فضلا ترجح به موازين الإمام في حساب الثقافة ... بل نحسبها فضلا - إن شئنا - ونسقطها، فيبقى له بعدها السهم الراجح في تلك الموازين ...
تبقى له الهداية الأولى في التوحيد الإسلامي، والقضاء الإسلامي، والفقه الإسلامي، وعلم النحو العربي، وفن الكتابة العربية ... مما يجوز لنا أن نسميه أساسا صالحا لموسوعة المعارف الإسلامية في جميع العصور، أو يجوز لنا أن نسميه موسوعة المعارف الإسلامية كلها في الصدر الأول من الإسلام.
وتبقى له مع هذا فرائد الحكمة التي تسجل له في ثقافة الأمة الإسلامية، على تباين العصور ...
ففي كتاب نهج البلاغة، فيض من آيات التوحيد والحكمة الإلهية تتسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد، وأصول التأليه وحكمة التوحيد، وربما تشكك الباحث في نسبة بعضها إلى الإمام لغلبة الصيغة الفلسفية عليها، وامتزاجها بالآراء والمصطلحات التي اقتبست بعد ذلك من ترجمة الكتب الإغريقية والأعجمية، ولا سيما الكلام على الأضداد والطبائع والعدم والحدود والصفات والموصوفات، ولكن الذي يقرؤه الباحث ولا يشك في نسبته إلى الإمام، أو في جواز نسبته إليه، قسط واف لتحقيق رأي القائلين بسبق الإمام في مضمار علم الكلام، واعتراف المعترفين له بالأستاذية الرشيدة لكل من لحق به من أصحاب الآراء والمقولات. وهو على جملته خير ما يعرف به المؤمن ربه وينزه به الخالق في كماله، ومن أمثلته قوله: «الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا، فيكون أولا قبل أن يكون آخرا، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا، كل مسمى بالوحدة غيره قليل، وكل عزيز غيره ذليل، وكل قوي غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك، وكل عالم غيره متعلم، وكل قادر غيره يقدر ويعجز، وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات ويصمه كبيرها، ويذهب عنه ما بعد عنها، وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، وكل ظاهر غيره باطن، وكل باطن غيره ظاهر، لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان ولا تخوف من عواقب زمان، ولا استعانة على من شاور، ولا شريك مكاثر، ولا ضد منافر، ولكن خلائق مربوبون وعباد داخرون - أي: ضارعون - لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن، لم يؤده خلق ما ابتدأ ولا تدبير ما ذرأ، ولا وقف به عجز عما خلق، ولا ولجت عليه شبهة فيما مضى وقدر، بل قضاء متقن، وعلم محكم وأمر مبرم ...»
أما القضاء والفقه، فالمشهور عنه أنه كان أقضى أهل زمانه، وأعلمهم بالفقه والشريعة ... أو لم يكن بينهم من هو أقضى منه وأفقه وأقدر على إخراج الأحكام من القرآن والحديث والعرف المأثور. وكان عمر بن الخطاب يقول كلما استعظم مسألة من مسائل القضاء العويصة: قضية ولا أبا الحسن لها؛ لأنه كان في هذه المسائل يتجاوز التفسير إلى التشريع، كلما وجب الاجتهاد بالرأي الصائب والقياس الصحيح ...
وفي أخباره، ما يدل على علمه بأدوات الفقه كعلمه بنصوصه وأحكامه ... ومن هذه الأدوات علم الحساب، الذي كانت معرفته به أكثر من معرفة فقيه يتصرف في معضلات المواريث؛ لأنه كان سريع الفطنة إلى حيله التي كانت تعد في ذلك الزمن ألغازا تكد في حلها العقول، فيقال: إن امرأة جاءت إليه وشكت إليه أن أخاها مات عن ستمائة دينار، ولم يقسم لها من ميراثه غير دينار واحد ... فقال لها: لعله ترك زوجة وابنتين وأما واثني عشر أخا وأنت؟ ... فكان كما قال.
وسئل يوما في أثناء الخطبة عن ميت ترك زوجة وأبوين وابنتين، فأجاب من فوره: صار ثمنها تسعا، وسميت هذه الفريضة بالفريضة المنبرية؛ لأنه أفتى بها وهو على منبر الكوفة ...
وفي هذه الإجابات، دليل على الذكاء وسرعة البديهة ... فضلا عن الدلالة الظاهرة على العلم بالمواريث والحساب ...
وإذا قيل في قضائه: إنه لم يكن أقضى منه بين أهل زمانه، صح أن يقال في علم النحو: إنه لم يكن أحد أوفر سهما في إنشاء هذا العلم من سهمه. وقد تواتر أن أبا الأسود الدؤلي شكا إليه شيوع اللحن على ألسنة العرب، فقال له: اكتب ما أملي عليك، ثم أملاه أصولا منها: أن كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل ... وأن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر ... وإنما تتفاوت العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر ... يعني اسم الإشارة على قول بعض النحاة، ثم قال لأبي الأسود: انح هذا النحو يا أبا الأسود ... فعرف العلم باسم النحو من يومها.
وهذه رواية تخالفها روايات شتى تستند إلى المقابلة بين اللغات الأخرى في اشتقاق أصولها النحوية، ولا سيما السريانية واليونانية ... ولكن الروايات العربية لا تنتهي بنا إلى مصدر أرجح من هذا المصدر، وغيرها من الروايات الأجنبية والفروض العلمية لا يمنع عقلا أن يكون الإمام أول من استنبط الأصول الأولى لعلم النحو العربي من مذاكرة العلماء بهذه الأصول بين أبناء الأمم، التي تغشى الكوفة وحواضر العراق والشام، وهم هنالك غير قليل، ولا سيما السريان الذين سبقوا إلى تدوين نحوهم، وفيه مشابهة كبيرة لنحو اللغة العربية.
وليس الإمام علي أول من كتب الرسائل، وألقى العظات، وأطال الخطب على المنابر في الأمة الإسلامية ...
ولكنه ولا ريب أول من عالج هذه الفنون معالجة أديب، وأول من أضفى عليها صبغة الإنشاء الذي يقتدى به في الأساليب ... لأن الذين سبقوه كانوا يصوغون كلامهم صياغة مبلغين لا صياغة منشئين، ويقصدون إلى أداء ما أرادوه ولا يقصدون إلى فن الأداء وصناعة التعبير، ولكن الإمام عليا تعلم الكتابة صغيرا، ودرس الكلام البليغ من روايات الألسن، وتدوين الأوراق، وانتظر بالبلاغة حتى خرجت من طور البداهة الأولى إلى طور التفنن والتجويد ... فاستقام له أسلوب مطبوع مصنوع، هو فيما نرى أول أساليب الإنشاء الفني في اللغة العربية، وأول أسلوب ظهرت فيه آثار دراسة القرآن، والاستفادة من قدوته وسياقه، وتأتى له بسليقته الأدبية أن يأخذ من فحولة البداوة، ومن تهذيب الحضارة، ومن أنماط التفكير الجديد الذي أبدعته المعرفة الدينية والثقافة الإسلامية ... فديوانه الذي سمي «نهج البلاغة» أحق ديوان بهذه التسمية بين كتب العربية، واشتماله على جزء مشكوك فيه لا يمنع اشتماله على جزء صحيح النسبة إليه صحيح الدلالة على أسلوبه، وربما كانت دلالة الأخلاق والمزاج فيه أقوى، وأقرب إلى الإقناع من دلالة الأسانيد التاريخية؛ لأن طابع «الشخصية العلوية» فيه ظاهر من وراء السطور ومن ثنايا الحروف، يوحي إليك حيثما وعيته أنك تسمع الإمام ولا تسمع أحدا غير الإمام، ويعز عليك أن تلمح فيه غرابة بين صاحب التاريخ وصاحب الكلام ...
على أننا نبالغ ما نبالغ في تمحيص المنحول وغير المنحول من أقوال الإمام، ومن فنون ثقافته العامة، ثم تبقى لنا بقية تسمح لنا - بل توجب علينا - أن نسأل: كيف يتسنى العلم بهذا لأي كان من الناس في مثل ذلك الزمان؟ ...
والسؤال لا بد منه، ولا نظن قارئا من قراء تاريخ الإمام لم يخطر هذا السؤال بباله ولم يرد على لسانه.
ولكن لا بد معه من تصحيح الباعث عليه؛ لتصحيح الجواب عنه بعد ذلك ...
فالباعث عليه أننا نبالغ في تجريد البداوة العربية من الصلات المعقولة بالثقافة العالمية، سواء كانت من ثقافة العلم والدرس أو ثقافة التواتر والتلقين ...
لكن البداوة العربية لم تكن في الواقع معزولة عن ثقافة الأمم المحيطة بها تلك العزلة التي تخطر لنا للوهلة الأولى، فقد كانت على اتصال بعقائد الهند وفارس والروم، وكانت للمعارف الإنسانية أشعتها التي تتخلل الجزيرة العربية من قديم العصور .
وحسبنا من أمثلة ذلك مثال واحد في معسكر الإمام نفسه يغني عن الأمثلة من قبيله ...
وذلك هو مثال عبد الله بن سبأ المشهور بابن السوداء، وهو يهودي ابن زنجية مولود في بلاد اليمن، ومذهبه الذي اشتهر به هو مذهب الرجعة، الذي يجمع فيه بين قول اليهود بظهور المنقذ من أبناء داود، وقول أهل الهند بظهور الإله الذي يتقمص جسم إنسان، وقول النصارى بظهور المسيح، وقول أهل فارس بتقديس الأوصياء من أقرباء الملوك والأمراء ...
فهذه عقيدة لا تظهر من رجل يمني من أهل الجزيرة، إذا تخيلنا أن الجزيرة في حضارتها أو بداوتها بمعزل عن ثقافات الهند والفرس والروم وبني إسرائيل، وأن الأمة العربية تخلو من أناس سمعوا بالعقائد والفلسفات من طريق القدوة الدينية، أو طريق المحاكاة الاجتماعية، أو طريق الدراسة والسماع ...
وقد كانت عاصمة الإمام في الكوفة ... وكانت مثابة الغادين والرائحين من أبناء الحضارات المعروفة في العالم بأسره، ومن المسلمين الذين عاشوا بها أو بجوارها أناس كانوا ينظرون في كتب الفرس، ويعجبون بحكمتها كما جاء في سيرة عمر بن الخطاب، ومنهم من كان ينظر في النجوم على طريقة الفرس والروم، وحذر بعض هؤلاء الإمام أن يسير إلى حرب الخوارج في طالع كوكب من الكواكب المنحوسة، فقال له: «أتزعم أنك تهدى إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء؟ ... فمن صدق بهذا فقد كذب القرآن، واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه» ... •••
ثم أقبل على الناس بالنصح والموعظة، قائلا: «إياكم وتعلم النجوم، إلا ما يهتدى به في بر أو بحر ... فإنها تدعو إلى الكهانة، والمنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار!»
وقد لبث علي بن أبي طالب زهاء ثلاثين سنة منقطعا، أو يكاد ينقطع عن جهاد الحكم والسياسة، متفرغا أو يكاد يتفرغ لفنون البحث والدراسة ... يتأمل كل ما سمع، ويراجع كل ما قرأ، ويعرف كل ما يعرف، ممن يلقاه، ويستطلع أنباءه وآراءه وقضاياه ... فمهما يكن قسط الثقافة العالمية قليلا في بلاد الإسلام على تلك الأيام ... ففيه ولا ريب الكفاية للعقل اليقظان، والبصيرة الواعية أن تفهم ما قد فهمه الإمام، وأن يثبت ما أثبته نهج البلاغة من الخواطر والأحكام ...
على أن هذه الفنون من الثقافة - أو جلتها - إنما تعظم بالقياس إلى عصرها، والجهود التي بذلت في بدايتها.
فحصة الإمام من علم النحو - مثلا - عظيمة؛ لأن الابتداء بها أصعب من تحصيل المجلدات الضخام، التي دونها النحاة بعد تقدم العلم، وتكاثر الناظرين فيه ... •••
وهكذا يقال في الحساب والمسائل العلمية التي من قبيله، فلا يجوز لنا أن نقيسها بمقياس العصر الحاضر ... وهي في ابتدائها أصعب جدا منها في أطوارها، التي لحقت بها بعد نمائها واستفاضة البحث فيها ...
أما فن الثقافة الذي يقاس بمقياس كل زمن، فإذا هو عظيم في جميع هذه المقاييس، قليل الفوارق بين البدايات منه والنهايات، فذلك هو فن الكلم الجامعة أو فرائد الحكمة التي قلنا آنفا: إنها تسجل له في ثقافة الأمم عامة كما تسجل له في ثقافة الأمة الإسلامية، على تباين العصور.
فالكلم الجوامع التي رويت للإمام طراز لا يفوقه طراز في حكمة السلوك على أسلوب الأمثال السائرة.
وقد قال النبي - عليه السلام: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.»
فهذا الحديث الشريف أصدق ما يكون على الإمام علي في حكمته، التي تقارن بحكم أولئك الأنبياء.
فهي من طراز الحكم المأثورة عن أشهر أولئك الأنبياء بالمثل السائر، وهو سليمان بن داود. •••
ويزيد عليها أنها أبدع في التعبير، وأوفر نصيبا من ذوق الجمال، كقوله مثلا: «نفس المرء خطاه إلى أجله» ... أو قوله: «من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة» ... أو قوله: «المرء مخبوء تحت لسانه.» أو قوله: «الحلم عشيرة» ... أو قوله: «من لان عوده كثفت أغصانه.» أو قوله: «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع.» إلى أشباه هذه التعبيرات الحسان، التي تحار فيها أي مزاياها أفضل وأقوم: صدق المعنى، أو بلاغة الأداء، أو جودة الصناعة ...
وبعض أقواله ينضح بدلائل «الشخصية» التي تلازم صاحب الفن الأصيل، فتلبس معانيه لباسا من خوالج نفسه وأحداث زمانه، كما قال: «صواب الرأي بالدول، يقبل بإقبالها ويذهب بذهابها.» أو كما قال: «ما أكثر العبر وأقل الاعتبار» ... أو كما قال: «شاركوا الذي أقبل عليه الرزق، فإنه أخلق للغنى وأجدر بإقبال الحظ عليه» ... أو كما قال: «إذا هبت أمرا فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم مما نخاف منه» ... أو كما قال: «لا يقيم أمر الله - سبحانه - إلا من لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع.»
وله عدا هذه الحكم التي تلونت بألوان نفسه أو ألوان زمانه، حكم كثيرة تصدر من كل قائل يقدر عليها، وتنفذ إلى كل سامع يفطن لها كقوله: «كل معدود منقض وكل متوقع آت.» أو قوله: «إذا كثرت القدرة قلت الشهوة.» أو قوله: «أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه» ... أو قوله: «من نصب نفسه للناس إماما، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره ... وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم.» أو قوله: «الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يوئسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله» ... أو قوله: «قيمة كل امرئ ما يحسنه.» أو قوله: «العاقل هو الذي يضع الشيء مواضعه.» أو قوله: «الصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبر على ما تحب.» أو قوله: «من ملك استأثر.» أو قوله: «الناس أعداء ما جهلوا» ... أو قوله: «القرابة إلى المودة أحوج من المودة إلى القرابة» ... •••
وله في المواقف المرتجلة كلمات هي أشبه الكلمات بأسلوب الحكمة السائرة ... فلما خرج وحده لبعض المهام، التي تردد فيها أنصاره، قالوا له يشيرون إلى أعدائه: «يا أمير المؤمنين نحن نكفيكهم.» فقال: «ما تكفونني أنفسكم فكيف تكفونني غيركم؟ ... إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، وإنني اليوم لأشكو حيف رعيتي، كأنني المقود وهم القادة، أو الموزوع وهم الوزعة.»
ورثى محمد بن أبي بكر حين بلغه مقتله على أيدي أصحاب معاوية فقال: «إن حزننا عليه قدر سرورهم به، إلا أنهم نقصوا بغيضا ونقصنا حبيبا» ...
فكل نمط من أنماط كلامه، شاهد له بالملكة الموهوبة في قدرة الوعي وقدرة التعبير ... فهو ولا شك من أبناء آدم الذين علموا الأسماء وأوتوا الحكمة، وفصل الخطاب.
وقد أخطأ «موير»
Muir
المؤرخ الإنجليزي حين قال: إن عليا حكيم كسليمان، وهو مثله حكمته لغيره ... يعني أنه ينصح الناس ولا ينتفع بالنصيحة، فإن «موير» أحجى أن يفرق بين عمل الإنسان بنصحه وبين انتفاعه بنصحه، ولا شك أن عليا كان من العاملين بما يقولون، ومن المنتصحين بما ينصح به الناس، أما أنه ينتفع بحكمته، فالطبيب لا يقدح في علمه أنه قد أعياه علاج نفسه بطبه ... فقد يكون الإخفاق من استعصاء الداء لا من صحة الدواء. •••
ولا يفوتنا أن بعض هذه النصائح، قد نسب إلى قالة من الأوائل غير الإمام - رضي الله عنه - وهذا يستطرد بنا مرة أخرى إلى الصحيح والمنحول من كلام الإمام، الذي جمعه الشريف الرضي في «نهج البلاغة»، وفرغ من جمعه بعد مقتله بزهاء أربعة قرون، وهو بحث يخرج بنا من موضوع هذا الكتاب إلى دراسة أدبية ليست من أغراضنا الخاصة في التعريف بعبقرية الإمام ... فحسبنا أن أسلوب الإمام معروف في بعض ما ثبت له من رسائله وخطبه، وأن طابع هذا الأسلوب شائع في الكتاب لا تقدح فيه كلمة ظاهرة التلفيق هنا، أو كلمة ظاهرة الإقحام هناك، أو كلمات يقع فيها الالتباس لاختلاف الصناعة أو اختلاف التفكير، فنحن لا نخطئ أن نرى في هذه الخطب والرسائل والأمثال وحدة تتصل حينا، وتنقطع حينا، كالوحدة التي نراها بغير انقطاع في كتب الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد ... وهذه الوحدة وحدها مغنية لنا في تبيان ثقافة الإمام، أو تذوق أسلوبه الذي لا تخطئ فيه مرة جزالة البادية، وصقل الحاضرة، وحسن البداهة، وامتزاج الصناعة بالطبع الذي لا تكلف فيه ...
ولا يتم القول في ثقافة الإمام علي - رضي الله عنه - ما لم تتممه بالقول في نصيبه من الثقافة العسكرية أو فن الحرب، الذي هو مضماره الأول ومناط شهرته التي تبرز فيها صفة الشجاعة قبل كل صفة، وكفاءة المناضل قبل كل كفاءة ...
فجملة ما يقال في هذا الصدد، أن فن الإمام العسكري هو فن البطل المغوار الذي يناضل الأفراد، وينفع الجيش الذي هو فيه بقدوة الشجاعة، وإذكاء الحماسة، وتعزيز الثقة بين صفوفه، وأنه يعرف كيف يكون الهجوم حيث يجب الهجوم، وكيف يحتال على عدوه بما يخلع قلبه، ويفت في عضده ... ومن حيله المشهورة في توهين عزم عدوه، أنه أمر بعقر الجمل في الوقعة المعروفة باسمه؛ لأنه كان علم القوم الذين كانوا يلتفون به ويثبتون بثبوته ...
وهذا كله فن البطل المغوار الذي يفرق العسكريون بينه وبين خطط القيادة وفنون التعبئة وتحريك الجيوش ... •••
ولم يرد لنا من أنباء الإمام في هذا الباب ما نحكم به على قيادته العسكرية بهذا الاعتبار ...
نعم ... إنه كان يقسم جيشه إلى ميمنة وميسرة، وقلب وطليعة ومؤخرة، وأشباه ذلك من التقسيمات التي جرى عليها في وقعة صفين على التخصيص.
وكانت له وصاياه المحفوظة في تسيير الجيوش، وتأديب الجند ومعاملتهم لسكان البلاد، ومنها قوله: «إذا نزلتم بعدو أو نزل بكم، فليكن معسكركم من قبل الإشراف وسفاح الجبال، أو أثناء الأنهار، كيما يكون لكم ردءا ودونكم ردا، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين، واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب؛ لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن، واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، وإياكم والتفرق فإذا نزلتم فانزلوا جميعا، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعا، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة - أي: محيطة بكم - ولا تذوقوا النوم إلا غرارا أو مضمضة» ...
ومنها قوله: «ولا تسر أول الليل، فإن الله جعله سكنا وقدره مقاما لا ظعنا.» ومنها قوله للولاة: «إني سيرت جنودا هي مارة بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كف الأذى وصرف الشذى، وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمتكم من معرة الجيش إلا من جوعة المضطر لا يجد عنها مذهبا إلى شبعه، فنكلوا من تناول منهم شيئا ظلما عن ظلمهم، وكفوا أيدي سفهائكم عن مضارتهم والتعرض لهم ...»
وهذه وما هو من قبيلها، مناهج موروثة أو أدب هو أقرب إلى نظام الإدارة منه إلى خطط التعبئة، وقيادة الميدان ...
وعلى كونه قد اتبع هذه التقسيمات والمناهج في وقعة صفين، لم تكن الوقعة كلها إلا مناوشات هجوم ودفاع بين طوائف متفرقة في أوقات متباعدة ... كأنها ضرب آخر من ضروب فن الحرب على طريقة الفارس المناضل، والبطل المفرد في موقف المبارزة أو في غمار الصفوف. •••
وخلاصة ذلك كله، أن ثقافة الإمام هي ثقافة العلم المفرد، والقمة العالية بين الجماهير في كل مقام ...
وأنها هي ثقافة الفارس المجاهد في سبيل الله، يداول بين القلم والسيف، ويتشابه في الجهاد بأسه وتقواه ... لأنه بالبأس زاهد في الدنيا مقبل على الله، وبالتقوى زاهد في الدنيا مقبل على الله ...
فهو فارس يتلاقى في الشجاعة دينه ودنياه، وهو عالم يتلاقى في الدين والدنيا بحثه ونجواه ...
في بيته
خلاصة رأي الإمام في المرأة أنها «شر كلها ... وشر ما فيها أنه لا بد منها».
كان يرى لها فضائل خاصة تليق بها غير الفضائل التي تليق بالرجال وتحمد منه ... «فخيار خصال النساء شرار خصال الرجال ... الزهو، والجبن، والبخل ... فإذا كانت المرأة مزهوة لم تمكن من نفسها، وإذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال بعلها، وإذا كانت جبانة فرقت من كل شيء يعرض لها» ...
والإمام صائر إلى رأيه هذا في المرأة من كلتا طريقيه، وهما طريق الحكيم الذي ينظر إليها على سنة الحكمة القديمة، وطريق العابد الذي ينظر إليها على سنة العبادة في جميع العصور ... ولكنه لا رأي الحكيم، ولا حس العابد قد حجبه قط عن فطرته الغالبة عليه، وهي فطرة الفارس المطبوع على آداب الفروسية، ومنها التلطف بالمرأة والصفح عن عدوانها ... فما انتقم قط من امرأة لأنها أساءت إليه، ولا غفل قط عن الوصية بها في موطن يستدعي هذه الوصية، ومن أمثلة وصاياه في هذا المعنى خطبته بين جنوده قبل لقاء العدو بصفين، حيث يقول:
لا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم، فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول، إن كنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر - أي: الحجر - أو الهراوة فيعير بها وعقبه من بعده ...
وقد كانت ميوله نحو المرأة قوية، كما يظهر من غير حادث واحد ... ومن ذاك صبية السبي التي استولى عليها وبنى بها لساعتها، وجعلها قسمة من الخمس قبل تقسيمه ... فرأى بعض أصحابه في ذلك ما شكوه إلى النبي - عليه السلام - من أجله، وربما كان هذا سبب تحذيره منها في الغزوات خيفة على الجيش من شواغلها، فكان يقول لسراياه وجيوشه إذا شيعها: «اعزبوا عن النساء ما استطعتم.» ويوصي في أمثال هذه المواطن باجتنابها ...
إلا أنه كان يرى على ما يظهر أن امرأة تغني عن سائر النساء، فلم يعرف له هوى لامرأة خاصة من نسائه غير الهوى الذي اختص به السيدة فاطمة - رضي الله عنها - كرامة لمنزلتها عنده ومنزلتها عند أبيها، وهو غير الهوى الذي تبعثه المرأة بمغريات جنسها.
كان جالسا في أصحابه، فمرت بهم امرأة جميلة، فرماها القوم بأبصارهم ... فقال - رضي الله عنه: «إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هياجها ... فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه قليلا مس أهله، فإنما هي امرأة كامرأة.»
وعلى الجملة، يمكن أن يقال: إن آراء الإمام في المرأة هي خلاصة الحكمة القديمة كلها في شأن النساء ...
فهن شر لا بد منه باتفاق آراء الأقدمين، سواء منهم حكماء الهند واليونان أو الحكماء الذين نظروا إلى المرأة بعين الدين من أبناء بني إسرائيل وآباء الكنيسة المسيحية وأئمة الإسلام.
لأنهم كانوا جميعا يمزجونها بالشهوات التي تثيرها عامدة أو غير عامدة، ويلقون عليها تبعة الشرور التي تنجم عنها بمكيدتها أو على الرغم منها، ولم تتغير هذه النظرة بعض التغير إلا في الأزمنة الحديثة، التي نظرت في استقلال التبعات على أساس «الحرية الشخصية» ... فحاسبت المرأة بما تجنيه، وأوشكت أن تبالغ في تبرئتها من جناياتها.
فمن السهو عن الحقيقة، أن تتخذ آراء الأقدمين في المرأة دليلا على نصيبهم من الغبطة أو السكينة في حياتهم البيتية ... لأننا خلقاء أن نحسبهم جميعا من الأشقياء المعذبين في بيوتهم، وهو ما تأباه البداهة وتأباه أنباء التاريخ عن كثير من الأزواج والزوجات النابهات.
وليس من اللازم في حياة الإمام خاصة، أن يستمد آراءه في المرأة من حياته البيتية ... فقد كانت تجاربه في الحياة العامة مددا لا ينفد لهذه الآراء التي شاعت بين الأقدمين، حتى أوشكت ألا تحتاج إلى تجربة مكررة، وشاءت المقادير أن تنقضي حياة الإمام علي وللمرأة يد في القضاء عليها، فكانت حياته الغالية مهرا لقطام التي قال فيها ابن أبي مياس المرادي:
ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة
كمهر قطام من فصيح وأعجم
ثلاثة آلاف وعبد وقينة
وضرب علي بالحسام المسمم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا
ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
والذي يجزم به مؤرخ الإمام أن حياته البيتية خلت من شكاة لم يألفها الأزواج في زمانه، وأنها كانت على أحسن ما وصفت به الحياة الزوجية بين أمثاله ...
عاش مع فاطمة - رضي الله عنها - لا يقرن بها زوجة أخرى ... حتى ماتت بعد موت النبي - عليه السلام - بستة أشهر ... وهي رعاية لها ورعاية لمقام أبيها لا شك فيها، فقد كان النبي - عليه السلام - كما جاء في الأثر يغار لبناته غيرة شديدة، وروي عنه أنه قال وهو على المنبر مرة: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يريد علي بن أبي طالب أن يطلق ابنتي، وينكح ابنتهم ... فإنها بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها.»
وربما كان من وفائه لها غضبه لغضبها، فأحجم عن مبايعة أبي بكر إلى ما بعد وفاتها على بعض الروايات، وهجره كما هجرته مدة حياتها، وقد ولدت له أشهر أبنائه وبناته: الحسن والحسين، ومحسن وأم كلثوم، وزينب، وماتت ولم تبلغ الثلاثين.
وتزوج بعدها تسع نساء رزق منهن أبناء وبنات يختلف في عدهم المؤرخون، ويؤخذ من إحصائهم في «الرياض النضرة» للمحب الطبري أنه - رضي الله عنه - وافر الحظ من الذرية، بقي منهم بعده كثيرون.
وكان على ما يفهم من خلائقه - ومن سيرته وأخباره - أبا سمحا يستريح الأبناء إلى عطفه، ويجترئون على مساجلته الرأي في أخطر ما ينوبه من الأحداث الجسام.
لما توجه طلحة والزبير نحو العراق، ومعهما السيدة عائشة - رضي الله عنها - جاءه ابنه الحسن بعد صلاة الصبح فقال له: «قد أمرتك فعصيتني، فتقتل غدا بمعصية لا ناصر لك فيها.» فسأله: «وما الذي أمرتني فعصيتك؟» قال: «أمرتك يوم أحيط بعثمان - رضي الله عنه - أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل ألا تبايع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة أهل كل مصر ... فإنهم لن يقطعوا أمرا دونك فأبيت ... ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحا ... فإن كان الفساد كان على يدي غيرك، فعصيتني في هذا كله ...!»
فلم يأنف أن يساجله الرأي ليقنعه، وجعل يقول له: «أي بني! ... أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، وأما قولك حين خرج طلحة والزبير: فإن ذلك كان وهنا على أهل الإسلام ... وأما قولك: اجلس في بيتك فكيف لي بما قد لزمني؟ ... ومن تريدني؟ ... أتريد أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها، ويقال: دباب دباب ... ليست هنا حتى يحل عرقوباها ثم تخرج ... وإذا لم أنظر فيما لزمني من الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه؟ ... فكف عنك أي بني.»
وهذه معاملة «أخوة» تستغرب في الأجيال الماضية، التي كانت للأبوة فيها على البنين سيادة تقرب من سيادة المولى على الرقيق، ولا ينقضها أنه لطم الحسن يوما لأنه ظن به تقصيرا في الدفاع عن عثمان ... فتلك سورة الغضب في موقف من أندر المواقف التي لا يقاس عليها في سائر الأحوال ...
وكان - رضي الله عنه - يزهيه أن يحيط به أبناؤه في محافل الروع، ومشاهد الزخرف ... فيخرج إليها وهم حافون به عن يمينه وشماله، ومنهم من يحمل اللواء بين يديه، وذلك زهو الشجاع الفخور بأشباله الشجعان ...
واشتهر بالعطف على صغارهم، كما اشتهر بمودة كبارهم ... فكان أحب شيء إليه أن يداعبهم أو يرى من يداعبونهم، وكانت له طفلة ذكية ولدتها له زوجة من بني كلب يخرج بها إلى المسجد، ويسره أن يسألها أصحابه: من أخوالك؟ ... فتجيب: «وه ... وه» محاكاة لعواء الكلاب ...
وكان يقول: «إن للوالد على الولد حقا، وإن للولد على الوالد حقا ... فحق الوالد على الولد أن يطيعه في كل شيء إلا في معصية الله - سبحانه، وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن أدبه ويعلمه القرآن» ...
ومن إحسان التسمية، أنه هم بتسمية ابنه حربا؛ لأنه يرشحه للجهاد وهو أشرف صناعاته، لولا أن رسول الله سماه الحسن، وهو أحسن ... فجرى على هذا الاختيار في تسمية أخويه الحسين والمحسن، وأتم حق أبنائه في إحسان أسمائهم، فاختار لهم أسماء النبي وأسلافه من الخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان.
أما معيشته في بيته بين زوجاته وأبنائه، فمعيشة الزهد والكفاف ... وأوجز ما يقال فيها: إنه كان يتفق له أن يطحن لنفسه، وأن يأكل الخبز اليابس الذي يكسره على ركبته، وأن يلبس الرداء الذي يرعد فيه، وإن أحدا من رعاياه لم يمت عن نصيب أقل من النصيب الذي مات عنه وهو خليفة المسلمين ... وكان الخليفة يوم كانت الخلافة تناقض ملك الدنيا ... فكان بيته نقيض القصر الذي تعرض الدنيا المملوكة بين أركانه وزواياه ...
صورة مجملة
من كلمات الإمام التي لم يقلها أحد غيره كلمته في خطاب الدنيا، حيث يقول: «يا دنيا غري غيري ... غري غيري!»
وإنها لأكثر من كلمة، وأكثر من دعاء ...
إنها لسان قدر، وعنوان حياة ...
فقد خلق الإمام، وفي كل خليقة من خلائقه الكبار اجتراء على الدنيا، على ضرب من ضروب الاجتراء.
خلق شجاعا بالغا في الشجاعة، وزاهدا بين الزهد، ودارسا محبا للحقيقة الدينية يتحراها حيث اهتدى إليها ...
والشجاع جريء على الدنيا؛ لأنه لا يبالي الحياة ...
والزاهد جريء على الدنيا؛ لأنه لا يبالي النعيم ...
وطالب الحقيقة جريء على الدنيا؛ لأنها طريق عنده إلى غاية من ورائها ...
فأي مصير لهذا الرجل غير الشهادة في زمن لم يعرف بطارئ من الطوارئ، كما عرف بالإقبال على الدنيا؟ ...
صام الناس قبله عن الدنيا، ثم أقبلوا على الدنيا العريضة بحذافيرها ...
هدأت حماسة الدعوة النبوية، وثابت الطبائع إلى مألوفها الذي أشربت عليه، وتدفقت الأموال من الأمصار المفتوحة على نحو لم تعهده الجزيرة العربية قط في تاريخها القديم ...
وأقبل الناس على الدنيا، بل هرولوا إلى الدنيا ...
وإذا بخليفة جريء عليها زاهد فيها، يقف لهم في طريقها ويصدهم عنها ...
يصد ماذا؟
يصد الطوفان، وهو مندفع من وراء السدود ...
يصد الطبيعة الإنسانية، وهي منطلقة من عقال التقوى ...
يصد ما لا سبيل إلى صده بحال ...
فهو مستشهد لا محالة ولو مات على سريره ... فإن الإنسان قد يعيش عيشة الشهداء، ولا يلزم بعد ذلك أن يموت ميتة الشهداء ...
وقد لزمته آية الشهادة في كل قسمة كتبت له، وكل حركة سعى إليها أو سعت إليه ...
فمن آيات الشهادة أن يساق إلى الخلافة، ولا حيلة له في اجتنابها ...
ومن آيات الشهادة أن يساق إليها في ساعة الفصل بينها وبين الملك، وتقوم الحوائل كلها بينه وبينها قبل الأوان ...
ومن آيات الشهادة أن يساق إليها، ولا حيلة له في تحقيق أغراضها، ولا في الخروج من مآزقها ...
ومن آيات الشهادة أن يبتلى بأنصاره أشد من بليته بأعدائه، ولا حيلة في تبديل أولئك الأنصار ...
ومن آيات الشهادة ألا تغره الدنيا، وقد غرت حوله كل إنسان ... فهو شهيد، شهيد، شهيد ...
خرج إلى الدنيا والشهادة مكتوبة على جبينه، وخرج منها والشهادة مكتوبة على ذلك الجبين بضربة حسام ...
وصورته المجملة لا تشق على مصور ولا على متفرس؛ لأنها صورة المجاهد في سبيل الله بيده وقلبه وعقله، أو صورة الشهيد ...
وكل امتحان لقدرته أو لعمل من أعماله، ينبغي أن ينعزل عن محنة القدر التي لا يغلبها غالب ...
وقد كان له رأي عالم، وفطنة حكيم، ومشورة مدبر ... ولكننا إذا قلنا: إنه أخفق في العمل؛ لأنه لم يغلب القدر، فذلك تكليف بما لا يطاق.
وإنما نقول: إنه أخفق في العمل ونمسك، ولعله لو تولى الخلافة قبلها أو تولى الملك بعدها لما ظهر منه ذلك الإخفاق ... •••
وحق لا شك فيه أنه أخفق حيث يشرفه إخفاقه، وحيث يخفق الآخرون لو نصبتهم الأقدار في مثل مكانه ...
ومات وقد حل مشكلة الخلافة بلسانه، وهو إلى اليوم موضع الخلاف عليها وعليه بين أصحاب المذاهب، وأصحاب الأقوال في التاريخ.
فقد كان يود لو أن رسول الله استخلفه من بعده، ولكنه لم يطلب إليه ذلك ... ولا رأى من الحكمة أن يطلبه إليه، قال له ابن عباس ورسول الله في مرض الوفاة: «اذهب إلى رسول الله، فسله فيمن يكون هذا الأمر ... فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا؟» ... قال: «والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدا والله لا أسألها رسول الله أبدا» ...
وآمن الإمام بحكمة الرسول إيمان محبة وتصديق، ولكنه لم يفارق الدنيا حتى كان قد آمن بها إيمان تعليم وتطبيق، فلما سألوه: «أنبايع الحسن؟» قال: «لا آمركم ولا أنهاكم.» فأنصف الذين سبقوه ولم يفرضوا على الناس استخلافه؛ لأنهم رأوا في موقفه منها مثل ما رأوا في موقف الحسن ابنه، على حكم سواء ... •••
أي ختام أشبه بهذا الشهيد المنصف من هذا الختام ...
لقد ولد كما علمنا في الكعبة، وضرب كما علمنا في المسجد ... فأية بداية ونهاية أشبه بالحياة، التي بينهما من تلك البداية وتلك النهاية؟! ...
Page inconnue