4
وكان النبي - عليه السلام - يعلم أن احتمال التبعة أو «المسئولية» خليق أن يبدل أطوار النفوس في بعض المواقف والأزمات، فيجنح اللين إلى الشدة، ويجنح الشديد إلى اللين؛ لأننا إذا قلنا إن رئيسا أصبح يشعر بالمسئولية، فمعنى ذلك أنه أصبح يراجع رأيه فلا يستسلم لأول عارض يمليه عليه طبعه، ولا يقنع باللين أول وهلة إذا كان من دأبه اللين، ولا بالشدة أول وهلة إذا كان من دأبه الشدة. ومن هنا ينشأ الاختلاف بين موقف الرجل وهو مسئول، وموقفه وهو غير مسئول.
وهذا الذي ظهر أعجب ظهور في موقفي الصاحبين من حرب الردة؛ فإن عمر الشديد قد آثر الهوادة، وأبا بكر الرقيق قد آثر القتال وأصر عليه. وكان عمر يقول: «إن رسول الله كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة، يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم»، ثم يقول للخليفة: «الزم بيتك ومسجدك، فإنه لا طاقة لك بقتال العرب.»
وكان أبو بكر يقول متسائلا: «أإن كثر أعداؤكم وقل عددكم ركب الشيطان منكم هذا المركب؟! والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق، ووعده الصدق:
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، والله - أيها الناس - لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، واستعنت عليهم بالله، وهو خير معين!»
هنالك بلغت التبصرة بوجوه الرأي المختلفات غاية مداها، وجاء عمر بقصارى ما عنده من حجج الرأي الآخر حتى وضحت المناهج، واستقر العزم، والتقى الصاحبان عليه، فكانت شدتهما في الحق شدتين.
وهب الأمر مع هذا قد اختلف في موقف الصاحبين، فمال أبو بكر إلى السلم والمسامحة، فأين كانت شدة عمر ذاهبة عنه في هذه الحال؟! أغلب الظن أنه هو الذي كان يتولى يومئذ أن يبسط وجه الشدة في معاملة المرتدين؛ لأنه يعلم أنه المسئول عن بسط هذا الوجه دون غيره، فلا تفوت الإسلام مزية من مزايا الصاحبين.
إن محمدا - عليه السلام - قد عرف من هم رجاله، وما هو الموقف الذي هم مقبلون عليه بعد وفاته، فعرف الموضع الذي يضع فيه كلا منهم، والعمل الذي يتولاه خير ولاية في ذلك الموضع، ولم يفته أن يحسب حساب التبعة، وما في احتمالها من ضمان للأخلاق الصالحة والعقول الراجحة، وأبو بكر وعمر من خيرة أصحاب هذه الأخلاق وهذه العقول.
ولا يحسبن حاسب أننا نفسر الأمور بما كشفته لنا الحوادث بعد وقوعها، ولم يكن مقصودا في النيات قبل ذلك، فإن الذي يحسب هذا الحسبان يخطئ تلك الخطأة الشائعة، التي لا تثبت على أقل نصيب من الروية والمراجعة، يخطئ في وهمه خطأة الذين يتخيلون أن هذه السياسات العالية من بدع الزمن الأخير، وليست هي من البدع في زمن كان؛ لأن العظمة لم تكن قط وقفا على العصر الحديث، ولا سيما العظمة التي ترجع إلى الفطرة القويمة، والبديهة النافذة، والنظر السديد.
فكل هذا التقدير الذي أجملنا شرحه، كان تقدير قصد وتدبير، وكان مفهوما على البداهة بين ولاة الأمر في تلك الآونة، ملحوظا بينهم في مناجاة النيات، قبل أن نلحظه نحن في عصرنا هذا من تفسير حوادث التاريخ.
Page inconnue