تقديم
1 - عبقري
2 - رجل ممتاز
3 - صفاته
4 - مفتاح شخصيته
5 - إسلامه
6 - عمر والدولة الإسلامية
7 - عمر والحكومة العصرية
8 - عمر والنبي
9 - عمر والصحابة
10 - ثقافة عمر
11 - عمر في بيته
12 - صورة مجملة
تقديم
1 - عبقري
2 - رجل ممتاز
3 - صفاته
4 - مفتاح شخصيته
5 - إسلامه
6 - عمر والدولة الإسلامية
7 - عمر والحكومة العصرية
8 - عمر والنبي
9 - عمر والصحابة
10 - ثقافة عمر
11 - عمر في بيته
12 - صورة مجملة
عبقرية عمر
عبقرية عمر
تأليف
عباس محمود العقاد
تقديم
تم تأليف هذا الكتاب في أحوال عجيبة هي أحوال بأس وخطر، فلا غرابة بينهما وبين موضوع الكتاب الذي أدرته عليه؛ لأننا لا نتكلم عن عمر بن الخطاب إلا وجدنا أننا على مقربة من البأس ومن الخطر في آن.
فما شرعت في تحضيره، وبدأت في الصفحات الأولى منه؛ حتى رأيتني على سفر بغير أهبة إلى السودان، فوصلت إليه وليس من مراجع الكتاب إلا قليل، وكانت الصفحات الأولى التي كتبتها في القاهرة مما تركته مع المراجع الكثيرة فيها، فأعدت كتابتها في الخرطوم، ومضيت فيه هنالك حتى انتهيت من أكبر شطريه، واستغنيت بمراجع الخرطوم عن المراجع التي أعجلني السفر عن نقلها؛ لأن أدباء السودان وفضلاءه يدخرون جملة صالحة من هذه المراجع، ويجودون بها أسخياء مبادرين إلى الجود، فلا أذكر أنني طلبت كتابا في المساء إلا كان عندي في بكرة الصباح.
وإني لأتوفر على كتابته، وأحسبني منتهيا منه في السودان؛ إذ رأيتني مرة أخرى على سفر بغير أهبة إلى القاهرة، فعدت إليها بالطائرة ألتمس العلاج السريع؛ لأن يدي أوشكتا أن تعجزا عن تناول القلم بما عراهما من ثآليل «الخريف».
فعدت وما يشغلني عن إتمامه شاغل في السفر والمقام، ولم أحسب هذا البأس في الحالتين من موانعه وعراقيله؛ لأنني ألفت بعض كتبي الكبار في أحوال تشبه هذه الأحوال، فألفت كتابي عن «ابن الرومي» بين السجن ونذره ومقدماته، وألفت كتابي عن «سعد زغلول» وأنا غير مستريح من كفاحه، وكلاهما من آثر الكتب عندي، وأكبرها في الموضوع وفي عدد الصفحات.
إنما حسبت هذا البأس من مطابقاته وموافقاته، ومن وضع الشيء في موضعه على نحو من الأنحاء، ولم أعدده من حرج التأليف، كما عددته من مهيئات جوه، ولا سيما حين ألفيتني أدرس آثار الحركة المهدية، وأتقلب بين مشاهدها وميادينها، وأستخرج العبرة من القتال بين الراجلين والفيلة في مواقع فارس، ومن القتال بين الراجلين والسفن المسلحة في مواقع الخرطوم وأم درمان، فهذه عقيدة وتلك عقيدة، ولكن العقيدة التي ظفرت كان معها حليف من الغد المأمول، ولم تكن العقيدة التي فشلت على وفاق مع الغد ولا مع الأمل.
ولكن الحرج كل الحرج في التأليف، إنما كان في محاسبة عمر بن الخطاب، أوليس الحرج في الحساب أيضا من العمريات المأثورات؟!
فالناس قد تعودوا ممن يسمونهم بالكتاب المنصفين أن يحبذوا وينقدوا، وأن يقرنوا بين الثناء والملام، وأن يسترسلوا في الحسنات بقدر ليتقلبوا من كل حسنة إلى عيب يكافئها، ويشفعوا كل فضيلة بنقيصة تعادلها، فإن لم يفعلوا ذلك فهم إذن مظنة المغالاة والإعجاب المتحيز، وهم أقل إذن من الكتاب المنصفين الذين يمدحون ويقدحون، ولا يعجبون إلا وهم متحفزون لملام.
عرض لي هذا الخاطر، فذكرت قصة العاهل الذي تحاكم إلى قاضيه مع بعض السوقة في عقار، يختلفان على ملكه، فحكم القاضي للسوقة بغير العدل ليغنم سمعة العدل في محاسبة الملوك، وعزله العاهل؛ لأنه ظلم وهو يبتغي الرياء بظلمه، فكان أعدل عادل حين بدا كأنه يحرص على مال مغصوب ويجور على تابع جسور؛ لأنه أنصف وهو مستهدف لتهمة الظلم، وقاضيه قد ظلم وهو يتراءى بالإنصاف.
قلت لنفسي: إن كنت قد أفدت شيئا من مصاحبة عمر بن الخطاب في سيرته وأخباره، فلا يحرجنك أن تزكي عملا له كلما رأيته أهلا للتزكية، وإن زعم زاعم أنها المغالاة، وأنه فرط الإعجاب.
وهذه هي الأسوة العمرية في الحساب.
فالحق أنني ما عرضت لمسألة من مسائله التي لغط بها الناقدون إلا وجدته على حجة ناهضة فيها، ولو أخطأه الصواب.
وإن أعسر شيء أن تحاسب رجلا كان أشد أعدائه لا يبلغون من عسر محاسبته بعض ما كان يبلغه هو في محاسبة نفسه، وأحب الناس إليه.
ذلك رجل قل أن يجور عن القصد وهو عالم بجوره، وقل أن يتيح لأحد أن يكسب دعوى الإنصاف على حسابه، إلا أن يكسبها أيضا على حساب الحق والنقد الأمين.
فإذا عرفت منحاه من الخلق والرأي، وسلمت له مزاجه ووجهة تفكيره، فكن على يقين أنه لن يتجافى عن النهج السوي، ولن يتعلق بأمر يعدوه الصلاح ويشوبه السوء.
وذاك أحرج الحرج الذي عانيته في نقد هذا الرجل العظيم، وتلك حيطة معه إن لم يستفدها الكاتب، وهو مشغول بعمر ونهج عمر؛ فشغله عبث ذاهب في الهواء.
وعلم الله لو وجدت شططا في أعماله الكبار؛ لكان أحب شيء إلي أن أحصيه وأطنب فيه، وأنا ضامن بذلك أن أرضي الأثر وأرضي الحقيقة، ولكني أقولها بعد تمحيص لا مزيد عليه في مقدوري: إن هذا الرجل العظيم أصعب من عرفت من عظماء الرجال نقدا ومؤاخذة، ومن فريد مزاياه أن فرط التمحيص وفرط الإعجاب في الحكم له أو عليه يلتقيان.
وكتابي هذا ليس بسيرة لعمر ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء، ولكنه وصف له، ودراسة لأطواره، ودلالة على خصائص عظمته، واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلم الأخلاق وحقائق الحياة، فلا قيمة للحادث التاريخي جل أو دق إلا من حيث أفاد في هذه الدراسة، ولا يمنعني صغر الحادث أن أقدمه بالاهتمام والتنويه على أضخم الحوادث، إن كان أوفى تعريفا بعمر، وأصدق دلالة عليه.
وعمر يعد رجل المناسبة الحاضرة في العصر الذي نحن فيه؛ لأنه العصر الذي شاعت فيه عبادة القوة الطاغية، وزعم الهاتفون بدينها أن البأس والحق نقيضان؛ فإذا فهمنا عظيما واحدا كعمر بن الخطاب، فقد هدمنا دين القوة الطاغية من أساسه؛ لأننا سنفهم رجلا كان غاية في البأس، وغاية في العدل، وغاية في الرحمة ... وفي هذا الفهم ترياق من داء العصر، يشفى به من ليس بميئوس الشفاء.
وإنه لجهاد جديد لعمر بن الخطاب، يطيب لنا أن نوجزه في كتاب.
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
عبقري
... لم أر عبقريا يفري فريه.
1
كلمة قالها النبي - عليه السلام - في عمر - رضي الله عنه - وهي كلمة لا يقولها إلا عظيم عظماء، خلق لسياسة الأمم وقيادة الرجال.
فمن علامات العظمة التي تحيي موات الأمم أن تختص بقدرتين لا تعهدان في غيرها، أولاهما: أن تبتعث كوامن الحياة، ودوافع العمل في الأمة بأسرها، وفي رجالها الصالحين لخدمتها، والأخرى: أن تنفذ ببصيرتها إلى أعماق النفوس، فتعرف بالبديهة الصائبة والوحي الصادق فيم تكون عظمة العظيم، ولأي المواقف يصلح، وبأي الأعمال يضطلع، ومتى يحين أوانه، وتجب ندبته،
2
ومتى ينبغي التريث في أمره إلى حين.
كلتا القدرتين كان لهما الحظ الوافر في سيرة عمر بن الخطاب.
فأين - لولا الدعوة المحمدية التي بعثت كوامن العظمة في أمة العرب - كنا نسمع بابن الخطاب؟ وأي موضع له كان من مواضع هذا التاريخ العالمي الذي يزخر بكبار الأسماء؟
إنه الآن اسم يقترن بدولة الإسلام ودولة الفرس ودولة الروم، وكل دولة لها نصيب في التاريخ، فأين كنا نسمع باسم عمر لولا البعثة المحمدية؟!
لقد كان - ولا ريب - خليقا أن يستوي على مكان الزعامة بين بني عدي - آله الأقربين - أو بين قريش - قبيلته الكبرى - ثم ينتهي شأنه هناك، كما انتهى شأن زعماء آخرين، لم نسمع لهم بخبر؛ لأنهم عظموا أو لم يعظموا، يعطون البيئة كفاء ما تطلب من جهد ودراية، وهي تطلب منهم ما يذكرون به في بيئتهم، ولكنها لا تطلب منهم ما يذكرون به في أقطار العالم البعيد.
وقد كان عمر قوي النفس، بالغا في القوة النفسية، ولكنه على قوته البالغة لم يكن من أصحاب الطمع والاقتحام، ولم يكن ممن يندفعون إلى الغلبة والتوسع في الجاه والسلطان بغير دافع يحفزه إليه وهو كاره؛ لأنه كان مفطورا على العدل، وإعطاء الحقوق، والتزام الحرمات ما التزمها الناس من حوله، وكان من الجائز أن يهيجه خطر على قبيلته، أو على الحجاز ومحارمه المقدسة في الجاهلية؛ فينبري لدفعه، ويبلي في ذلك بلاء يتسامع به العرب في جيله وبعد جيله، ولكنه لا يعدو ذلك النطاق، ولا هو يبالي أن يمعن في بلائه حتى يعدوه.
بل كان من الجائز غير هذا وعلى نقيضه.
كان من الجائز أن تفسد تلك القوة بمعاقرة الخمر والانصراف إليها؛ فإنه كان في الجاهلية - كما قال - «صاحب خمر يشربها ويحبها» وهي موبقة،
3
لا تؤمن حتى على الأقوياء إذا أدمنوها، ولم يجدوا من زواجر الدين أو الحوادث ما يصرفهم عنها، ويكفهم عن الإفراط في معاطاتها.
فعمر بن الخطاب الذي عرفه تاريخ العالم وليد الدعوة المحمدية دون سواها، بها عرف، وبغيرها لم يكن ليعرف في غير الحجاز أو الجزيرة العربية.
أما القدرة الأخرى التي يمتاز بها العظيم الذي خلق لتوجيه العظماء، فقد أبان عنها النبي - عليه السلام - في كل علاقة بينه وبين عمر من اللحظة الأولى؛ أي من اللحظة التي سأل الله فيها أن يعز به الإسلام، إلى اللحظة التي ندب فيها أبا بكر للصلاة بالناس وهو - عليه السلام - في مرض الوفاة.
سبر غوره، واستكنه عظمته، وعرفه في أصلح مواقفه؛ فعرف الموقف الذي يتقدم فيه على غيره، والموقف الذي هو أولى بتقديم غيره عليه.
وليست هي مفاضلة بين رجلين ولا موازنة بين قدرتين، ولكنها مسألة التوفيق بين الرجل والموضع الذي ينبغي أن يوضع فيه، والمهمة التي ينبغي أن يندب لها، والوقت الذي يحين فيه أوانه.
وربما رأينا في زماننا هذا رئيسا يوصي لنصير من أنصاره بالوزارة، ويوصي لغيره بقيادة الجيش، فلا نقول إنه يفاضل بين النصيرين، أو إنه يرجح أحدهما على الآخر في ميزان الكفاءة، وإنما يختار كلا منهما لموضعه في الوقت الذي يحتاج إليه، ولا غضاضة على أحد منهما في هذا الاختيار.
فالنبي - عليه السلام - كان يعلم من هو أبو بكر ومن هو عمر، وقد عادل بينهما أجل معادلة حين قال: «إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال:
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال:
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، ومثلك يا عمر مثل نوح قال:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، ومثلك كمثل موسى قال:
ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .»
كان النبي - عليه السلام - يعلم - كما قال - أن عمر أشد المسلمين في الله، ويعلم أن في أبي بكر لينا وهوادة؛ فجمع للإسلام المزيتين حين اختار أبا بكر للصلاة، وضمن هذا الاختيار معنى من معاني الاستخلاف، أو كما جاء في بعض الروايات أنه نص على استخلاف أبي بكر بالقول الصريح.
فتعزيز الإسلام بعد نبيه كان في حاجة إلى كثير من الهوادة والمجاوزة، وكان كذلك في حاجة إلى كثير من الشدة والصرامة، ولن تذهب شدة عمر إذا احتاج إليها أبو بكر في محنة يشتد فيها اللين الوديع، إنما الخوف أن يذهب لين أبي بكر إذا اشتد عمر، ولا خوف من أن يلين عمر وأبو بكر شديد؛ فإن الموقف إذا استنفد حجج الرحمة حتى يلجأ فيه أبو بكر إلى البأس ويصر عليه، فأقرب شيء أن يعدل عمر عن لينه، وأن يثوب إلى المعهود من صرامته ولدده.
4
وكان النبي - عليه السلام - يعلم أن احتمال التبعة أو «المسئولية» خليق أن يبدل أطوار النفوس في بعض المواقف والأزمات، فيجنح اللين إلى الشدة، ويجنح الشديد إلى اللين؛ لأننا إذا قلنا إن رئيسا أصبح يشعر بالمسئولية، فمعنى ذلك أنه أصبح يراجع رأيه فلا يستسلم لأول عارض يمليه عليه طبعه، ولا يقنع باللين أول وهلة إذا كان من دأبه اللين، ولا بالشدة أول وهلة إذا كان من دأبه الشدة. ومن هنا ينشأ الاختلاف بين موقف الرجل وهو مسئول، وموقفه وهو غير مسئول.
وهذا الذي ظهر أعجب ظهور في موقفي الصاحبين من حرب الردة؛ فإن عمر الشديد قد آثر الهوادة، وأبا بكر الرقيق قد آثر القتال وأصر عليه. وكان عمر يقول: «إن رسول الله كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة، يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم»، ثم يقول للخليفة: «الزم بيتك ومسجدك، فإنه لا طاقة لك بقتال العرب.»
وكان أبو بكر يقول متسائلا: «أإن كثر أعداؤكم وقل عددكم ركب الشيطان منكم هذا المركب؟! والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق، ووعده الصدق:
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، والله - أيها الناس - لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، واستعنت عليهم بالله، وهو خير معين!»
هنالك بلغت التبصرة بوجوه الرأي المختلفات غاية مداها، وجاء عمر بقصارى ما عنده من حجج الرأي الآخر حتى وضحت المناهج، واستقر العزم، والتقى الصاحبان عليه، فكانت شدتهما في الحق شدتين.
وهب الأمر مع هذا قد اختلف في موقف الصاحبين، فمال أبو بكر إلى السلم والمسامحة، فأين كانت شدة عمر ذاهبة عنه في هذه الحال؟! أغلب الظن أنه هو الذي كان يتولى يومئذ أن يبسط وجه الشدة في معاملة المرتدين؛ لأنه يعلم أنه المسئول عن بسط هذا الوجه دون غيره، فلا تفوت الإسلام مزية من مزايا الصاحبين.
إن محمدا - عليه السلام - قد عرف من هم رجاله، وما هو الموقف الذي هم مقبلون عليه بعد وفاته، فعرف الموضع الذي يضع فيه كلا منهم، والعمل الذي يتولاه خير ولاية في ذلك الموضع، ولم يفته أن يحسب حساب التبعة، وما في احتمالها من ضمان للأخلاق الصالحة والعقول الراجحة، وأبو بكر وعمر من خيرة أصحاب هذه الأخلاق وهذه العقول.
ولا يحسبن حاسب أننا نفسر الأمور بما كشفته لنا الحوادث بعد وقوعها، ولم يكن مقصودا في النيات قبل ذلك، فإن الذي يحسب هذا الحسبان يخطئ تلك الخطأة الشائعة، التي لا تثبت على أقل نصيب من الروية والمراجعة، يخطئ في وهمه خطأة الذين يتخيلون أن هذه السياسات العالية من بدع الزمن الأخير، وليست هي من البدع في زمن كان؛ لأن العظمة لم تكن قط وقفا على العصر الحديث، ولا سيما العظمة التي ترجع إلى الفطرة القويمة، والبديهة النافذة، والنظر السديد.
فكل هذا التقدير الذي أجملنا شرحه، كان تقدير قصد وتدبير، وكان مفهوما على البداهة بين ولاة الأمر في تلك الآونة، ملحوظا بينهم في مناجاة النيات، قبل أن نلحظه نحن في عصرنا هذا من تفسير حوادث التاريخ.
وإلى ذلك أشار عمر في قول صريح، حين قال لمن هابوه وتحدثوا بخوف الناس منه: «بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟ ومن قال ذلك فقد صدق، فقد كنت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكنت عبده وخادمه، وكان من لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان كما قال الله:
بالمؤمنين رءوف رحيم ، فكنت بين يديه سيفا مسلولا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على ذلك، حتى توفاه الله وهو عني راض، والحمد لله على ذلك كثيرا وأنا به أسعد، ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر، فكان من لا ينكر دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه أخلط شدتي بلينه، فأكون سيفا مسلولا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله - عز وجل - وهو عني راض، والحمد لله على ذلك كثيرا وأنا به أسعد، ثم إني قد وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت،
5
ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد، فأنا ألين لهم من بعض لبعض.»
بل ظهرت آثار الشعور بالتبعة بعد موت النبي، والحال على أشده في يوم السقيفة، والمسلمون مختلفون على من يلي الأمر بعد محمد، حتى قيل فيما قيل: من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير!
ففي تلك المحنة التي تشخص فيها الأبصار، وتعظم التبعات، وتودي زلة الساعة فيها بالكثير الذي لا تستدركه الأعوام، كان عمر الحاد الشديد يخشى بوادر الحدة من أبي بكر، ويهيئ الكلام اللين ليعالج الأمر بالرفق والتؤدة، ويقول فيما رواه عن محنته ذلك اليوم: «وكنت أداري منه بعض الحد - أي الحدة - فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك! فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر.»
عمر الحاد الشديد يحاذر من بوادر أبي بكر، وأبو بكر الحليم الوديع يكف عمر عن الكلام، فيطيع!
هؤلاء رجال يعرفهم صاحبهم، وهذه مواقف يعرفها صاحبها، وهذه مسألة فصل فيها الزمن، ولم يبق لنا نحن الذين نعود إليها ونستخلص عبرتها، إلا أن نراقب ما فيها من آيات الإعجاز، وسوابق النظر البعيد.
ما وضع أبو بكر خيرا من موضعه، وهو يلي الإسلام والخطر من داخل أهله، والطب الذي يطبهم به هو طب التآلف والإحجام عن السطوة ما كان إلى الإحجام عنها سبيل.
وما وضع عمر خيرا من موضعه، وهو يلي الإسلام والخطر عليه من أعدائه المحدقين به، والطب الذي يطبهم به هو طب الصلابة والحزم الذي لا ينكل
6
عن صراع.
وكأنما توقع النبي - عليه السلام - أن أيام أبي بكر معدودات، ولكنها الأيام التي تحتاج إليه، وتكفي لإنجاز عمله، وتوقع أن يأتي عمل عمر في حينه المقدور، فلا يفوت الإسلام أن ينتفع بمقدرته في عهد أبي بكر ولا في عهده، نقول هذا على الترجيح، ومن حقنا أن نقوله على التوكيد؛ لأن حديث النبي فيه غنى عن التخمين والتأويل، قال عليه السلام: «رأيت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب،
7
فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا
8
أو ذنوبين نزعا ضعيفا، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربا،
9
فلم أر عبقريا يفري فريه، حتى روى الناس وضربوا بعطن.»
10
وفهم فقهاء الإسلام أن ضعف النزع هو قصر المدة، وانصراف العزم إلى حرب الردة، وأن فيض الري على يد عمر هو فيض العبقرية التي ينفسح لها الأجل، وتنفسح أمامها منادح العمل، ويؤتى لها من السبق ما لا يؤتى لغير العبقريين.
ولنا أن نفسر العبقرية بمعناها الذي يفهمه الأقدمون، أو بمعناها الذي نفهمه نحن المحدثين، فكلا المعنيين مستقيم في وصف عمر بن الخطاب ... أتراها على كلا المعنيين شيئا غير التفرد والسبق والابتكار؟ كلا، ما للعبقرية مدلول يخرج عن صفة من هذه الصفات. ومن يكتب تاريخ عمر فقد يجد في النهاية أنه يكتب تاريخا «لأول من صنع كذا، وأول من أوصى بكذا»، حتى ينتهي بسرد هذه «الأوليات» إلى عداد العشرات.
وتلك هي العبقرية التي لا يفري فريها أحد، كما قال صاحبه وأعرف الناس به، صلوات الله عليه.
الفصل الثاني
رجل ممتاز
يوصف عمر بالعبقرية إذا نظرنا إلى أعماله، ويوصف بها إذا نظرنا إلى تكوينه الذي جعله مستعدا لتلك الأعمال، مضطلعا بتلك القدرة، وإن لم يكن من اللازم اللازب أن تقترن القدرة بالعمل الذي تستطيعه، لما يتفق أحيانا من وقوف العوائق بينها وبين الإنجاز أو الاتجاه إلى ذلك العمل.
إلا أن عمر كان رجلا ممتازا بعمله، ممتازا بتكوينه، وكان وفاء شرط الامتياز والتفرد في عرف الأقدمين والمحدثين، من المؤمنين بدينه وغير المؤمنين.
إذا وصفته للأقدمين الذين يقيسون العبقرية بالفراسة والخبرة، عرفوا من صفته أن الذي يوصف لهم رجل ممتاز، أو رجل نسيج وحده.
1
وإذا وصفته للمحدثين الذين يقيسون العبقرية بالعلم، أو مشاهدات العلماء، عرفوا من تلك الصفة أنه رجل ممتاز، أو رجل موهوب.
كانت نظرة إليه - قبل السماع بعمل من أعماله - توقع في الروع
2
أنه من معدن في الرجال غير معدن السواد،
3
وأنه جدير بالهيبة والإعظام، خليق أن يحسب له كل حساب.
كان مهيبا رائع المحضر حتى في حضرة النبي الذي تتطامن عنده الجباه، وأولها جبهة عمر.
أذن النبي يوما لجارية سوداء أن تفي بنذرها «لتضربن بدفها فرحا أن رده الله سالما»، فأذن لها عليه السلام أن تضرب بالدف بين يديه.
ودخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، والصحابة مجتمعون.
فما هو إلا أن دخل عمر حتى وجمت الجارية، وأسرعت إلى دفها تخفيه، والنبي - عليه السلام - يقول: «إن الشيطان ليخاف منك يا عمر!»
وروت السيدة عائشة - رضي الله عنها - أنها طبخت له عليه السلام حريرة،
4
ودعت سودة أن تأكل منها فأبت، فعزمت عليها لتأكلن أو لتلطخن وجهها، فلم تأكل، فوضعت يدها في الحريرة ولطختها بها. وضحك النبي - عليه السلام - وهو يضع حريرة بيده لسودة ، ويقول لها: «لطخي أنت وجهها» ففعلت.
ومر عمر فناداه النبي: «يا عبد الله»، وقد ظن أنه سيدخل، فقال لهما: «قوما فاغسلا وجهيكما.»
قالت السيدة عائشة: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إياه.
ومن تلك الهيبة أنها كانت - رضي الله عنها - تتحفظ في زيارة قبره بعد موته، وحكت ذلك فقالت: «ما زلت أضع خماري، وأتفضل
5
في ثيابي، وأقول: إنما زوجي وأبي، حتى دفن عمر بن الخطاب، فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارا فتفضلت بعد.»
وإن من أدب الرسول - عليه السلام - أنه كان يرعى تلك الهيبة رضا عنها، واغتباطا بأثرها في نصرة الحق وهزيمة الباطل، وتأمين الخير والصدق، وإخافة أهل البغي والبهتان.
وقد كان الذين يعرفون عمر أهيب له من الذين يجهلونه! وتلك علامة على أن هيبته كانت قوة نفس، تملأ الأفئدة قبل أن تملأ الأنظار. فربما اجترأ عليه من لم يعرفه ومن لم يختبره؛ لتجافيه عن الخيلاء، وقلة اكتراثه للمظهر والثياب. أما الذين عرفوه واختبروه فقد كان يروعهم على المفاجأة روعة لا تذهبها الألفة وطول المعاشرة، ومن ذاك أنه كان يمشي ذات يوم، وخلفه عدة من أصحاب رسول الله، إذ بدا له فالتفت، فلم يبق منهم أحد إلا وحبل ركبتيه ساقط!
وتنحنح عمر والحجام يقص له شعره، فذهل الحجام عن نفسه، وكاد أن يغشى عليه، فأمر له بأربعين درهما.
فهي هيبة من قوة النفس قبل أن تكون من قوة الجسد، إلا أنه مع هذا كان في منظر الجسد رائعا يهول من يراه، ولا يذهب الخوف منه إلا الثقة بعدله وتقواه.
كان طويلا بائن الطول يرى ماشيا كأنه راكب، جسيما صلبا يصرع الأقوياء، ويروض الفرس بغير ركاب، ويتكلم فيسمع السامع منه وفاق ما رأى من نفاذ قول وفصل خطاب.
تشهد العيون كما تشهد القلوب أنه لمن معدن العظمة، أو معدن العبقرية والامتياز بين بني الإنسان، وللمحدثين علامات في العبقرية تتصل بالتكوين وتركيب الخلقة كما تتصل بمدلول الأخلاق والأعمال.
فالعالم الإيطالي «لومبروزو» ومدرسته التي تأتم برأيه يقررون بعد تكرار التجربة والمقارنة أن للعبقرية علامات لا تخطئها على صورة من الصور في أحد من أهلها، وهي علامات تتفق وتتناقض، ولكنها في جميع حالاتها وصورها نمط من اختلاف التركيب ومباينته للوتيرة العامة بين أصحاب التشابه والمساواة.
فيكون العبقري طويلا بائن الطول، أو قصيرا بين القصر، ويعمل بيده اليسرى أو يعمل بكلتا اليدين، ويلفت النظر بغزارة شعره، أو بنزارة الشعر على غير المعهود في سائر الناس، ويكثر بين العبقريين من كل طراز جيشان الشعور، وفرط الحس، وغرابة الاستجابة للطوارئ، فيكون فيهم من تفرط سورته،
6
كما يكون فيهم من يفرط هدوءه، ولهم على الجملة ولع بعالم الغيب وخفايا الأسرار على نحو يلحظ تارة في الزكانة
7
والفراسة، وتارة في النظر على البعد، وتارة في الحماسة الدينية، أو في الخشوع لله.
ومهما يكن من الشك في استقصاء هذه العلامات، والمطابقة بين تفصيلاتها وبين الواقع، فهي - بلا ريب - صادقة في حالات، مقاربة في حالات، غير أهل في كل حال للتصديق التام، ولا للبعد التام، ولا سيما عندما تتفق فيها الظواهر والبواطن، وتتلاقى فيها ملاحظات العلماء وشواهد العرف المأثور.
وفي عمر بن الخطاب من هذه العلامات كثير.
كان - كما تقدم طويلا - يمشي كأنه راكب، وكان أعسر يسرا؛
8
يعمل بكلتا يديه، وكان أصلع خفيف العارضين، وكان كما وصفه غلامه، وقد سأله بلال: كيف تجدون عمر؟ فقال: خير الناس، إلا أنه إذا غضب فهو أمر عظيم.
وكان سريع البكاء إذا جاشت نفسه بالخشوع بين يدي الله، وأثر البكاء في صفحتي وجهه، حتى كان يشاهد فيهما خطان أسودان.
ومن فرط حسه وتوفز شعوره أنه كان يميز بين بعض المذوقات والمشمومات التي لا يسهل التمييز بينها؛ سقاه غلامه ذات يوم لبنا فأنكره، فسأله: ويحك! من أين هذا اللبن؟ قال الغلام: إن الناقة انفلت عليها ولدها، فشرب لبنها، فحلبت لك ناقة من مال الله.
وقد عرفنا أهل البادية، وعرفنا أنهم جميعا أصحاب إبل وألبان، ولكننا لم نجد منهم إلا قليلا يدعون أنهم يفرقون بين لبن الناقة ولبن غيرها هذه التفرقة السريعة، ولا سيما في المناخ الواحد والمرعى المتقارب.
وكانت له فراسة عجيبة نادرة يعتمد عليها، ويرى أن «من لم ينفعه ظنه لم تنفعه عينه»، وتروى له في أمر هذه الفراسة روايات قد يصدق منها القليل، وتتسرب المبالغة إلى كثير، ولكنها على كلتا الحالتين تنبئنا بحقيقة لا شك فيها، وهي أنه اشتهر بالفراسة وحب التفرس، والاستنباط بالنظرة العارضة، فمن ذلك أنه كان جالسا، فمر به رجل جميل، فقال ما معناه: أحسبه كان كاهنهم في الجاهلية. فكان كذلك!
ومنه أنه أبصر أعرابيا نازلا من جبل، فقال: هذا رجل مصاب بولده، قد نظم فيه شعرا لو شاء لأسمعكم، ثم سأل الأعرابي: من أين أقبلت؟ فقال: من أعلى الجبل، فسأله: وما صنعت فيه؟ قال: أودعته وديعة لي. قال: وما وديعتك؟ قال: بني لي، هلك فدفنته. قال: فأسمعنا مرثيتك فيه. فقال: وما يدريك يا أمير المؤمنين؟ فوالله ما تفوهت بذلك، وإنما حدثت به نفسي. ثم أنشد أبياتا ختمها بقوله:
فالحمد لله لا شريك له
في حكمه كان ذا وفي قدره
قدر موتا على العباد فما
يقدر خلق يزيد في عمره
فبكى عمر حتى بل لحيته، ثم قال: صدقت يا أعرابي.
وكان عمير بن وهب الجمحي وصفوان بن أمية يذكران مصاب أهل بدر، فقال صفوان: والله ما إن في العيش بعدهم خير. فوافقه عمير، وهو يقول كالمعتذر من تخلفه عن الثأر: أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي؛ لركبت إلى محمد حتى أقتله.
فقال صفوان يحرضه: علي دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، ولا يسعني شيء ويعجز عنهم.
فوقع كلامه من نفس عمير، فأسر إليه بعزمه على الغدر بالنبي، وشحذ سيفه وسمه، ثم انطلق حتى قدم المدينة.
فما نظر إليه متوشحا بالسيف حتى أوجس منه، وهمس لمن معه: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرش بيننا وحزرنا
9
للقوم يوم بدر. ثم دخل على النبي فأخبره خبره، وعاد إلى عمير، فأخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه
10
بها، وقال لرجال من الأنصار: ادخلوا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث؛ فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله، فلما رآه وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: «أرسله يا عمر، ادن يا عمير.»
وجعل رسول الله يسأل عميرا وهو يراوغ، حتى ضاقت به منافذ الإنكار فباح بسره، وأعلن الإسلام والتوبة.
هذه الفراسة وشبيهاتها هي ضرب من استيحاء الغيب، واستنباط الأسرار بالنظر الثاقب. وما من عجب أن تكون هذه الخصلة قرينة من قرائن العبقرية في حاشية من حواشيها؛ إذ ما هي العبقرية في لبابها كائنا ما كان عمل المتصف بها؟ ما هي الحكمة العبقرية؟ ما هو الفن العبقري؟ ما هو دهاء السياسة في الدهاة العبقريين؟ من هو:
الألمعي الذي يظن بك الظن
كأن قد رأى وقد سمعا؟
كل أولئك يلتقي في هبة واحدة، هي كشف الخفايا، واستيضاح البواطن، واستخراج المعاني التي تدق عن الألباب، فاتصالها بالفراسة وشبيهاتها أمر لا عجب فيه، ولا انحراف به عن النحو الذي تنتحيه.
والذي يعنينا من الفراسة وشبيهاتها في صدد الكلام عن عمر - رضوان الله عليه - أن نحصي الخصال الأخرى التي هي كالفراسة في هذا الاعتبار، وهي التفاؤل والاعتداد بالرؤيا، والنظر أو الشعور على البعد أو «التلباثي» كما يسميه النفسانيون المعاصرون. ولكل أولئك شواهد شتى مما روي عن عمر في جاهليته وبعد إسلامه، إلى أن أدركته الوفاة.
جاءه رسول من ميدان نهاوند فسأله: ما اسمك؟ قال: قريب. وسأله مرة أخرى: ابن من؟ فقال: ابن ظفر. فتفاءل وقال: ظفر قريب إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.
وروى يحيى بن سعيد أن عمر سأل رجلا: ما اسمك؟ قال: جمرة. فسأله: ابن من؟ قال: ابن شهاب. فسأله: ممن؟ قال: من الحرقة. وعاد يسأله: ثم ممن؟ قال: من بني ضرام. وهكذا في أسئلة ثلاثة أو أربعة عن مسكنه وموقعه، والرجل يجيب بما فيه معنى النار ومرادفاتها، حتى استوفاه، فقال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا.
وقد يكون التأليف ظاهرا في هذه القصة، ولكنها مع تأليفها، لا تخلو من الدلالة على اشتهار عمر باستكناه الألفاظ في معرض التفاؤل أو الإنذار.
أما الرؤيا فآخر ما روي عنه من أخبارها أنه رأى قبيل مقتله كأن ديكا نقره نقرتين، فقال: يسوق الله إلي الشهادة ويقتلني أعجمي؛ فإن الديك في الرؤيا يفسر برجل من العجم.
على أن المكاشفة أو الرؤيا
Vision
كما يسميها النفسانيون المحدثون، إنما تظهر بأجلى وأعجب من هذا كثيرا في قصة سارية المشهورة، وهي مما يلحقه أولئك النفسانيون بهبة التلباثي
Telepathy
أو الشعور البعيد.
كان رضي الله عنه يخطب بالمدينة خطبة الجمعة، فالتفت من الخطبة، ونادى: يا سارية بن حصن، الجبل! الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم.
فلم يفهم السامعون مراده، وقضى صلاته، فسأله علي - رضي الله عنه: ما هذا الذي ناديت به؟ قال: أوسمعته؟ قال: نعم، أنا وكل من في المسجد.
فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا، وركبوا أكتافهم، وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا، فخرج مني هذا الكلام.
وجاء البشير بعد شهر، فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم، وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتا يشبه صوت عمر، يقول: يا سارية بن حصن، الجبل! الجبل! فعدلنا إليه، ففتح الله علينا.
ولا داعي للجزم بنفي هذه القصة استنادا إلى العقل أو إلى العلم أو إلى التجربة الشائعة، فإن العقل لا يمنعها، والعلماء النفسانيون في عصرنا لا يتفقون على نفيها، ونفي أمثالها، بل منهم من مارسوا «التلباثي» وسجلوا مشاهداته، وهم ملحدون لا يؤمنون بدين، إلا أن المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد، أن عمر كان مشهورا بين معاصريه بمكاشفة الأسرار الغيبية، إما بالفراسة، أو الظن الصادق، أو الرؤية، أو النظر البعيد، وهي الهبات التي يلحقها بالعبقرية علماء العصر الذين درسوا هذه المزية الإنسانية النادرة، وراقبوها، وأكثروا من المقارنات فيها، والتعقيبات عليها.
فهو رجل نادر بما تراه منه العين، نادر بما تشهد به الأعمال والأخلاق، نادر في مقاييس الأقدمين ومقاييس المحدثين.
أو هو رجل ممتاز، وعبقري موهوب في جميع الآراء.
الفصل الثالث
صفاته
نحن على هذا أمام رجل لا كالرجال، رجل عبقري، أو رجل ممتاز من خاصة الخليقة الذين لا يعدون في الزمن الواحد بأكثر من الآحاد.
أنقول: رجل قوي؟! نعم، هو رجل قوي لا مراء، وكل عظيم فهو قوي بمعنى من معاني القوة. نعلم هذا، فنعلم الشيء المهم عنه، ولكننا بعد هذا لا نعلم شيئا مهما عن صفاته وأخلاقه؛ لأن الناس من حيث القوة أقوياء وضعفاء، أو متوسطون ومنحرفون، إلى هنا تارة، وإلى هناك تارة أخرى. أما من حيث الصفات والأخلاق، فهم ألوف وألوف، وهم في قوتهم أو ضعفهم أنماط لا تحصى من المناقب والعيوب، وأحرى بنا أن نقول: إن القوة صفة تستفاد من جملة مناقب الإنسان وعيوبه، فهي حالة تدل عليها المناقب والعيوب، أو تدل عليها الصفات والأخلاق، وليست هي بالحالة التي تدلنا على مناقب الإنسان وعيوبه، وتهدينا بغير هاد إلى صفاته وأخلاقه.
فإذا قلت: إن عمر بن الخطاب رجل قوي، فما زدت على أن تقول: إنه رجل عبقري، أو إنه رجل عظيم.
وكل رجل من هذا القبيل، فمعرفته ليست بالأمر اليسير؛ لأنه نمط لا يتكرر، فيسهل فهمه بالقياس إلى أمثاله الكثيرين. وقد يكون الرجل العظيم نمطا وحيدا في التاريخ كله، لا نظير له في تفصيل أخلاقه وصفاته، وإن ساواه في القدر أنداد وقرناء.
وعمر بن الخطاب مثل فذ من أمثلة هذا الطراز الفريد، تفهم سره؛ فإذا هو على وفاق مع جهره، وتنفذ إلى باطنه، فإذا هو مصدق للظاهر من سيماه.
1
فهل حللنا العقدة بهذا التقريب بين الظاهر والباطن، وبين الجهر والسريرة؟ كلا، ولا تقدمنا بعيدا في طريق حلها؛ لأننا لا نعرف هذا التقارب إلا بعد معرفة السريرة التي نبحث عنها، فلا بد إذن من البحث، ولا بد من المعرفة، فإذا وصلنا إلى الغور البعيد عرفنا ساعتئذ أنه لا يناقض الظاهر المكشوف، ولكن لا بد من الوصول إلى الغور البعيد قبل ذاك .
لا تناقض في خلائق عمر بن الخطاب، ولكن ليس معنى ذلك أنه أيسر فهما من المتناقضين، بل لعله أعضل فهما منهم في كثير من الأحوال؛ فالعظمة على كل حال ليست بالمطلب اليسير لمن يبتغيه، وليست بالمطلب اليسير لمن ينفذ إلى صميمه ويحتويه.
إنما الأمر الميسور في التعريف بهذا الرجل العظيم؛ أن خلائقه الكبرى كانت بارزة جدا لا يسترها حجاب؛ فما من قارئ ألم بفذلكة صالحة من ترجمته إلا استطاع أن يعلم أن عمر بن الخطاب كان عادلا، وكان رحيما، وكان غيورا، وكان فطنا، وكان وثيق الإيمان، عظيم الاستعداد للنخوة الدينية.
فالعدل والرحمة والغيرة والفطنة والإيمان الوثيق صفات مكينة فيه لا تخفى على ناظر، ويبقى عليه بعد ذلك أن يعلم كيف تتجه هذه الصفات إلى وجهة واحدة، ولا تتشعب في اتجاهها طرائق قددا،
2
كما يتفق في صفات بعض العظماء، بل يبقى عليه بعد ذلك أن يعلم كيف يتمم بعض هذه الصفات بعضا، حتى كأنها صفة واحدة متصلة الأجزاء متلاحقة الألوان.
وأعجب من هذا في التوافق بين صفاته، أن الصفة الواحدة تستمد عناصرها من روافد شتى، ولا تستمدها من ينبوع واحد، ثم هي مع ذلك متفقة لا تتناقض، متساندة لا تتخاذل، كأنها لا تعرف التعدد والتكاثر في شيء.
خذ لذلك مثلا: عدله المشهور الذي اتسم به، كما لم يتسم قط بفضيلة من فضائله الكبرى، فكم رافدة
3
لهذا الخلق الجميل في نفس ذلك الرجل العظيم؟
روافد شتى: بعضها من وراثة أهله، وبعضها من تكوين شخصه، وبعضها من عبر أيامه، وبعضها من تعليم دينه، وكلها بعد ذلك تمضي في اتجاه قويم إلى غاية واحدة لا تنم على افتراق.
لم يكن عمر عادلا لسبب واحد، بل لجملة أسباب: كان عادلا؛ لأنه ورث القضاء من قبيلته وآبائه، فهو من أنبه بيوت بني عدي الذين تولوا السفارة والتحكيم في الجاهلية، وراضوا أنفسهم من أجل ذلك جيلا بعد جيل على الإنصاف وفصل الخطاب، وجده نفيل بن عبد العزى هو الذي قضى لعبد المطلب على حرب بن أمية حين تنافرا إليه، وتنافسا على الزعامة، فهو عادل من عادلين، وناشئ في مهد الحكم والموازنة بين الأقوياء.
وكان عادلا؛ لأنه قوي مستقيم بتكوين طبعه، وإن شئت فقل أيضا بتكوينه الموروث؛ إذ كان أبوه الخطاب وجده نفيل من أهل الشدة والبأس، وكانت أمه حنتمة بنت هشام بن المغيرة قائد قريش في كل نضال، فهو على خليقة الذي لا يحابي؛ لأنه لا يخاف، والذي يخجل من الميل إلى القوي؛ لأنه جبن، ومن الجور على الضعيف؛ لأنه عوج يزري بنخوته وشممه.
وكان عادلا؛ لأن آله من بني عدي قد ذاقوا طعم الظلم من أقربائهم بني عبد شمس، وكانوا أشداء في الحرب يسمونهم لعقة الدم،
4
ولكنهم غلبوا على أمرهم لقلة عددهم بالقياس إلى عدد أقربائهم، فاستقر فيهم بغض القوي المظلوم للظلم، وحبه للعدل الذي مارسوه ودربوا عليه، وساعدت عبر الأيام على تمكين خليقة العدل في خلاصة هذه الأسرة، أو خلاصة هذه القبيلة، ونعني به عمر بن الخطاب.
وكان عادلا بتعليم الدين الذي استمسك به، وهو من أهله بمقدار ما حاربه وهو عدوه؛ فكان أقوى العادلين، كما كان أقوى المتقين والمؤمنين.
وكذلك اجتمعت عناصر الوراثة الشعبية، والقوة الفردية، وعبر الحوادث، وعقيدة الدين في صفة العدل التي أوشكت أن تستولي فيه على جميع الصفات.
كان عادلا لأسباب، كأنه عادل لسبب واحد لقلة التناقض فيه. وربما كان تعدد الأسباب هو العاصم الذي حمى هذه الصفة أن تتناقض في آثارها؛ لأنه منحها القوة التي تشدها كما يشد الحبل المبرم، فلا تتفكك ولا تتوزع، فكان عمر في جميع أحكامه عادلا على وتيرة واحدة لا تفاوت بينها، فلو تفرقت بين يديه مائة قضية في أعوام متباعدات، لكنت على ثقة أن تتفق الأحكام كلما اتفقت القضايا، كأنه يطبعها بطابع واحد لا يتغير.
إلا أن الصفات إذا بلغت هذا المبلغ من القوة الرائعة، لم تكد تسلم من طروء التناقض عليها، وإن سلمت منه بطبيعتها؛ لأنها تدخل في صفات البطولة التي تثير الإعجاب والمبالغة، وكل بطولة فهي عرضة للمبالغات والإضافات، ومن ثم لا تسلم من تناقض الأقاويل.
وصفات عمر كلها صفات لها طابع البطولة، وفيها دواعي الإغراء بالإعجاب والمبالغة. وممن؟! من الأصدقاء المصدقين؛ لأنهم لا يتهمون بقصد السوء، وهم في الواقع أولى بالاحتراس من الخصوم المتهمين، فمن هنا يجيء التناقض لا من طبيعة الصفات التي تأباه.
فالعدل مثلا هو المساواة بين أبعد الناس وأقربهم في قضاء الحقوق، وإقامة الحدود.
وليس أقرب إلى الحاكم من ابنه.
فإذا سوى الحاكم بين ابنه وسائر الرعية، فذلك عدل مأثور يقتدي به الحاكمون.
ولقد سوى عمر بين أبنائه وسائر المسلمين، فبلغ بذلك مبلغ البطولة في هذه الصفة النادرة بين الحكام.
وذلك كاف في تعظيم قدره، لا حاجة بعده إلى مزيد.
إلا أنها صفة من صفات البطولة التي تروع وتعجب، وتملأ النفس بالرغبة في التحدث بها والإطناب في أحاديثها، فهي لا تكفي المبالغين حتى يجعلوا عمر مقيما للحد على ابنه، مشتدا في عقوبته اشتدادا لا يسوى فيه بينه وبين غيره. ثم لا يكتفي المبالغون بهذا حتى يموت الولد قبل استيفاء العقوبة، فيمضي عمر في جلده وهو ميت لا تقام عليه الحدود! ومن اعتدل من المبالغين لم يذكر الموت وإتمام العقوبة، وذكر لنا أن الولد مات بعد ذلك بشهر من مرض الضرب الذي ثقل عليه، وعجز عن احتماله.
نعني بما تقدم قصة عبد الرحمن بن عمر في مصر، وهي كما رواها عمرو بن العاص والي مصر يومئذ حيث يقول: «... دخلا - عبد الرحمن بن عمر وأبو سروعة - وهما منكسران، فقالا: أقم علينا حد الله، فإنا قد أصبنا البارحة شرابا فسكرنا. فزبرتهما
5
وطردتهما، فقال عبد الرحمن: إن لم تفعل أخبرت أبي إذا قدمت عليه. فحضرني رأي، وعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب علي عمر في ذلك وعزلني، وخالفه ما صنعت، فنحن على ما نحن عليه، إذ دخل عبد الله بن عمر، فقمت إليه فرحبت به، وأردت أن أجلسه في صدر مجلسي، فأبى علي وقال: أبي نهاني أن أدخل عليك إلا ألا أجد من ذلك بدا. إن أخي لا يحلق على رءوس الناس، فأما الضرب فاصنع ما بدا لك.»
قال عمرو بن العاص: وكانوا يحلقون مع الحد، فأخرجتهما إلى صحن الدار فضربتهما الحد، ودخل ابن عمر بأخيه إلى بيت من الدار، فحلق رأسه ورأس أبي سروعة، فوالله ما كتبت إلى عمر بشيء مما كان، حتى إذا تحينت كتابه إذا هو نظم فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى العاصي ابن العاص
عجبت لك يا بن العاص ولجرأتك علي وخلاف عهدي! فما أراني إلا عازلك فمسيء عزلك؛ تضرب عبد الرحمن في بيتك، وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت أن هذا يخالفني؟ إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين. وقد عرفت ألا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه، فإذا جاءك كتابي هذا، فابعث به في عباءة على قتب
6
حتى يعرف سوء ما صنع.
قال: «فبعثت به كما قال أبوه، وأقرأت ابن عمر كتاب أبيه، وكتبت إلى عمر كتابا أعتذر فيه، وأخبره أني ضربته في صحن داري على الذمي والمسلم، وبعثت بالكتاب مع عبد الله بن عمر.»
قال أسلم: «فقدم عبد الرحمن على أبيه فدخل عليه، وعليه عباءة ولا يستطيع المشي من مركبه. فقال: يا عبد الرحمن فعلت كذا؟ فكلمه عبد الرحمن بن عوف وقال: يا أمير المؤمنين، قد أقيم عليه الحد مرة. فلم يلتفت إلى هذا عمر وزبره، فجعل عبد الرحمن يصيح: أنا مريض وأنت قاتلي. فضربه وحبسه، ثم مرض فمات رحمه الله.»
فهذه قصة تتوافق أخبارها ومن رويت عنهم، فلا نستغربها في جميع تفصيلاتها إلا حين تطرأ عليها المبالغة التي تتسرب إلى كل خبر من أخبار البطولات المشهورة، وذلك أن يقسو عمر على ابنه تلك القسوة التي لا يوجبها الدين، ولا تقبلها الفطرة الإنسانية، فيقيم عليه الحد وهو ميت، أو يعرضه للموت من أجل حد أقيم.
هذا هو الغريب الذي استوقفنا فأنكرناه، ومضينا في تمحيصه، فطابق التمحيص ما قدرناه، أما سائر القصة فلا غرابة فيه من كل نواحيه، بل هو من القصص التي يستبعد فيها التلفيق والاختراع، إلا أن يكون الملفق من حذاق الرواة ومهرة الوضاع.
ولو كان المصدر واحدا معروفا بالحذق في القصص لحسبناها من وضعه وتلفيقه، ولكنها سمعت من غير مصدر موثوق به، فهي أقرب إلى الواقع فيما يشبهه، ويجري مجراه، فعبد الرحمن بن عمر يذهب إلى الوالي؛ لأنه شرب شيئا ظنه غير مسكر، فإذا هو قد سكر منه، ولا مناص من إقامة الحد عليه، وإلا رفع الأمر إلى أبيه، وهي شنشنة
7
عمرية لا لبس فيها، وهو ابن عمر لا مراء.
والوالي، ومن الوالي؟ عمرو بن العاص الذي لا خفاء بدهائه، ولا يبعد حسابه، فهو يتريث بادئ الأمر، ويحاول أن يصرف الفتى إذا طاب له الانصراف دون أن يقيم الحد عليه، وهي أيضا شنشنة لا غرابة فيها؛ فمن يدري؟! ألا يجوز أن يصبح هذا الفتى أخا للخليفة، أو مدبرا للسلطان معه في يوم غير بعيد؟!
والخليفة يدري بالأمر فيهوله، ويستكبر أن يخفيه عنه واليه، فلا يصل إليه نبؤه من قبله، وهو ما هو في تحرجه من تبعة يحملها غافلا عنها؛ لحرص الولاة على تحري هواه، وابتغاء رضاه، فيشفق أن يقع ابنه في معصية، ثم ينجو من الحد الذي شرعه الدين، وهو مسئول عن الولاة والحدود، ومسئول عن ذويه الأقربين قبل سائر المسلمين.
كل أولئك - كما قلنا - سائغ لا غرابة فيه.
أما الغريب من عمر حقا في معدلته وعلمه بالدين، وكراهته رياء الناس، فهو أن يتم على ابنه الحد وهو ميت، أو يشتد في إقامة الحد على ابنه حتى يتلف، أو يصاب بما يتلفه بعد أيام.
فلا موجب لذلك من حكم دين ولا اتقاء تبعة.
وهو مع هذا مخالف لما عرف عن عمر في إقامة الحدود، خاصة وفي مثل هذه العقوبة بعينها.
فقد جيء له يوما بشارب سكران، وأراد أن يشتد عليه فقال له: لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة، فبعث به إلى مطيع الأسود العبدي ليقيم عليه الحد في غده، ثم حضره وهو يضربه ضربا شديدا فصاح به: قتلت الرجل، كم ضربته؟ قال: ستين، قال: أقص
8
عنه بعشرين؛ أي ارفع عنه عشرين ضربة من أجل شدتك عليه فيما تقدم من الضربات.
وقد كان من دأبه أن يتريث في إقامة الحدود، حتى ليؤثر - كما قال - تعطيلها في الشبهات على أن يقيمها في الشبهات.
ومر بقوم يتبعون رجلا قد أخذ في ريبة فقال: «لا مرحبا بهذه الوجوه التي لا ترى إلا في الشر.»
وربما غضب على الوالي من كبار الولاة لغلوه في تقاضي الحدود على المعاصي، كما فعل في إنذاره الشديد لأبي موسى الأشعري حين جلد شاربا، وحلق شعره، وسود وجهه، ونادى في الناس ألا يجالسوه ولا يؤاكلوه، فأعطى الشاكي مائتي درهم، وكتب إلى أبي موسى: «لئن عدت لأسودن وجهك، ولأطوفن بك في الناس»، وأمره أن يدعو المسلمين إلى مجالسته ومؤاكلته، وأن يمهله ليتوب، ويقبل شهادته إن تاب.
وتفقد رجلا يعرفه فقيل له: إنه يتابع الشراب. فكتب إليه: «إني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو
غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير .»
9
فلم يزل الرجل يرددها ويبكي حتى صحت توبته وأحسن النزع،
10
وبلغت توبته عمر، فقال لمن حضروا مجلسه: «هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخا لكم زل زلة فسددوه ووفقوه، وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه.»
وقد تكرر منه إعفاء الزانيات من الحد لشبهة القهر والعجز عن المقاومة، وتكرر منه الإعفاء لمثل هذا العذر في غير ذلك من الحدود.
فلم يكن عمر بالسريع المتعطش إلى إقامة الحد، ولم يعرف عنه قط أنه أقام حدا وله مندوحة عنه.
وفي قصة ولده منادح شتى ترضيه على شدة تحرجه وتحريه، ثم لا حاجة بمثله إلى رياء العدل، فيجور على ابنه، ويسرف في القسوة عليه، ليقال إنه سوى بينه وبين غيره.
وأصح من ذلك أن نأخذ برواية عبد الله بن عمر، وهو أحق الناس بالمبالغة في عدل أبيه لو كانت المبالغة مما يجمل بمثله، فقد روى هذه القصة فقال ما خلاصته: «أن أخاه عبد الرحمن وأبا سروعة عتبة بن الحارث سكرا، فلما أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر، فقالا: طهرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه! ولم أشعر أنهما أتيا عمرو بن العاص، فقلت: والله لا يلحق اليوم على رءوس الأشهاد، ادخل أحلقك! وكانوا إذ ذاك يحلقون مع الحد، فدخل معي الدار فحلقت أخي بيدي، ثم جلدهما عمرو بن العاص، فسمع عمر بن الخطاب، فكتب إلى عمرو أن ابعث إلي بعبد الرحمن بن عمر على قتب، ففعل ذلك عمرو، فلما قدم عبد الرحمن على عمر جلده وعاقبه من أجل مكانه منه، ثم أرسله فلبث شهرا صحيحا ثم صحيحا، ثم أصابه قدره، فتحسب
11
عامة الناس أنه مات من الجلد، ولم يمت منه.»
هذه رواية عبد الله عن أبيه وأخيه، ولو كان الأمر مبالغة في عدل عمر، لكان الابن أحق الناس بهذه المبالغة، أو كان الأمر رحمة بعبد الرحمن، لكان الأخ أحق الناس بهذه الرحمة، ولكنه أمر صدق لا نقص فيه ولا زيادة.
فالذي يجوز لنا أن نقبله من هذه القصة هو الجانب الذي يستقيم مع خلائق عمر ولا يناقضها، وهو العدل الصحيح في محاسبة ولده على ذنبه ولا زيادة، ولا سيما الزيادة التي لا تستقيم مع عدله ورحمته على السواء، وكلا العدل والرحمة من صفاته الأصيلة فيه.
نعم، كانت الرحمة من صفاته التي وازنت فيه العدل أحسن موازنة، فما عهد فيه أنه أحب العدل لغضه من الأقوياء المعتدين، كما كان يحبه لنجدته الضعيف المعتدى عليه.
ولا يمنعن ذلك أنه كان خشن الملمس، صعب الشكيمة، جافيا في القول إذا استغضب واستثير، فليست الخشونة نقيضا للرحمة، وليست النعومة نقيضا للقسوة، وليس الذين لا يستثارون ولا يستغضبون بأرحم الناس؛ فقد يكون الرجل ناعما وهو منطو على العنف والبغضاء، ويكون الرجل خشنا وهو أعطف خلق الله على الضعفاء، بل كثيرا ما تكون الخشونة الظاهرة نقابا يستتر به الرجل القوي فرارا من مظنة الضعف الذي يساوره من قبل الرحمة، فلا تكون مداراة الرقة إلا علامة على وجودها، وحذرا من ظهورها.
ومن المألوف في الطبائع أن الرجل الذي يقسو وهو معتصم بالواجب قلما ينطبع على القسوة، ولا سيما إذا كان الواجب عنده شيئا عظيما يزيل كل عقبة، ويبطل كل حجة، ويقطع كل ذريعة، فهو إنما يعتصم بالواجب في هذه الحالة، كما يعتصم الإنسان بالحصن المنيع كلما خشي أن تقتحم عليه طريقه، ولولا خوف الرحمة أن تغلبه لما كانت به حاجة إلى ذلك الحصن المنيع، ولا سيما حين يكون حصنا بالغا في المنعة، كما كان الواجب عند عمر بن الخطاب.
أرأيت هذا الرجل الصارم الحازم قاسيا قط إلا باسم واجب أو في سبيل واجب؟ كلا، وما نذكر أننا سمعنا رواية واحدة من روايات شدته إلا لمحنا الواجب قائما إلى جانبها يزكيها ويسوغها. ومن كانت القسوة طبعا فيه، فما هو بحاجة إلى واجب يغريه بالقسوة، بل هو في حاجة إلى واجبات عدة تنهاه عنها وتغريه باجتنابها.
وليس قصاراه في هذا الخلق أنه غير قاس، أو أن الرحمة كانت تنفذ إلى قلبه كلما طرقته، واتخذت سبيلها إليه، فإذا نصيبه من الرحمة قد كان أوفى جدا من ذاك، وكانت هذه الفضيلة من فضائله الأصيلة فيه لا تكاد تفارقه في عامة حياته، حتى ليصح أن تضرب الأمثال برحمته كما كانت تضرب الأمثال بعدله، وأن يقرن معه لقب العادل بلقب الرحيم.
وفي صدد الكلام عن الخليفة الإسلامي الكبير، قد يهمنا خلق الرحمة فيه خاصة؛ لأن شأنها في التقريب بينه وبين الإسلام غير قليل.
فمن المحقق أن رقته للمسلمين وللدين الذي يدينون به، كانت مقرونة في أول الأمر برحمته لامرأتين ضعيفتين رآهما في حالة من الشكوى تلين القلب، وتكف الغرب،
12
وتمسح جفوة العناد والبغضاء.
قالت أم عبد الله بنت حنتمة: لما كنا نرحل مهاجرين إلى الحبشة أقبل عمر حتى وقف علي، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه الانطلاق يا أم عبد الله، قلت: نعم، والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجا. فقال: صحبكم الله، ورأيت منه رقة لم أرها قط.
وحديثه مع أخته فاطمة في سبب إسلامه مشهور متواتر في أوثق الروايات، فإنه ضربها حين علم بإسلامها فأدمى وجهها، فأدركتها الثورة الخطابية التي فيها منها بعض ما فيه، وقالت وهي غضبى: يا عدو الله! أتضربني على أن أوحد الله؟ قال غير متريث: نعم، فقالت: ما كنت فاعلا فافعل، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لقد أسلمنا على رغم أنفك.
ويذكر لنا رواة القصة التي اتفقت عليها روايات كثيرة، أنه ندم وخلى عن زوجها - بعد أن صرعه وقعد على صدره - ثم انتحى ناحية من المنزل، وطلب الصحيفة التي كتبت فيها آيات القرآن، وخرج من ثمة إلى حيث لقي النبي، فأعلن شهادة الإسلام على يديه.
وغير عسير علينا أن نرقب طوية عمر، ونرى كيف كانت تتمشى فيها الخوالج والخطرات، وهو يتحدث إلى المرأتين: بنت حنتمة، وبنت الخطاب.
فهذا بطل مناضل يشحذه النضال إذا لقي أنداده من الأبطال، وأقرانه من الرجال: الإساءة تتبعها الإساءة، والتحدي يعقبه التحدي، وكلما قوبل البطش بمثله تضرمت سورة الغضب، وثارت نحيزة القتال،
13
ومضى العداء شططا لا اعتدال فيه، ولا نكوص عنه، حتى ينكسر عدو من العدوين، فلا موضع هنا لرحمة، ولا سبيل لها إلى ظهور. وتتمادى الشرة
14
على ذلك شهورا وسنين، وكأن الرحمة لم تخلق في النفس، ولم يسمع لها في حنايا الصدور صوت.
أما المرأة الشاكية أو المرأة الدامية إذا واجهت ذلك البطل القوي، فما حاجته إلى قوته ونضاله؟ وما أحرى تلك القوة أن تهدأ في مكانها كأنها هي الخليقة الخفية التي لم تخلق، وليس لها صوت مسموع! وما أقربها إذن إلى أن تخجل من إيذائها، وتندم على قسوتها، وتثوب إلى التوبة والخشوع، وهما من لباب الدين!
إن العرب يشتقون الرحمة من الرحم أو القرابة، وهو اشتقاق عميق المغزى يهدينا إلى نشأة هذه الفضيلة الإنسانية العالية، ومودة عمر بن الخطاب لرحمه وذوي قرباه لا تنحصر دلائلها في رحمته لأخته الشاكية الثائرة؛ فإن المرأة قد ترحم لضعفها في موقف شكواها ويأسها، ولو كانت بعيدة الآصرة، منقطعة النسب. إنما يدل على مودته لذوي قرباه ذلك الحب الذي كان يضمره لأبيه بعد موته، مع شدته عليه وغلظته في زجره وتأديبه، فكان يطيل الحديث عنه، وينقل أخباره، ويقسم باسمه، وظل يقسم باسمه وهو كهل إلى أن نهي المسلمون عن القسم بأسماء من ماتوا على الجاهلية.
وندر بين الناس من أحب إخوته، كما كان عمر يحب أخاه زيدا في حياته وبعد مماته، فما شاء أحد أن يبكيه إلا ذكره له ففاضت شئونه،
15
وجعل بعد قتله يتأسى بمن أصيب مثل مصابه، ولا يرى أحدا فقد أخا له إلا التمس الأسوة عنده.
حكى أحمد بن عمران العبدي عن أبيه عن جده قال: «صليت مع عمر بن الخطاب الصبح، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل قصير أعور متنكبا قوسه، وبيده هراوة، فسأله: من هذا؟ فقيل: متمم بن نويرة. فاستنشده رثاءه لأخيه، فأنشده حتى بلغ إلى قوله:
وكنا كندماني جذيمة حقبة
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا
لطول افتراق لم نبت ليلة معا
فقال عمر: هذا والله التأبين، يرحم الله زيد بن الخطاب! إني لأحسب أني لو كنت أقدر على أن أقول الشعر لبكيته كما بكيت أخاك. ثم سأله: ما أشد ما لقيت على أخيك من الحزن؟ فقال: كانت عيني هذه قد ذهبت، فبكيت بالصحيحة، فأكثرت البكاء حتى أسعدتها العين الذاهبة وجرت بالدمع. فقال عمر: إن هذا لحزن شديد، ما يحزن هكذا أحد على هالك. قال متمم: لو قتل أخي يوم اليمامة كما قتل أخوك ما بكيت أبدا. فصبر عمر وتعزى عن أخيه وقال: ما عزاني أحد عنه بأحسن مما عزيتني.»
هذا هو عمر من وراء النقاب.
فما كان أحوجه - رضي الله عنه - إلى ذلك النقاب! وما أقل الغرابة في ذلك النقاب من الشدة والهيبة، حين ينفذ الناظر إلى ما وراءه، فيرى مكان الحاجة إليه!
وقد يرحم الرجل أهل الرحم والقرابة، ويجفو غيرهم من الناس، ولكن الرحمة الأصيلة في الطباع تسوي في المودة ولا تفرق، وتخلق هي سبب الرحمة، ولا تنتظر حتى تفرضها عليها القرابة بأسبابها، فكان عمر - كما روى «الحسن» - يذكر الصديق من أصدقائه بالليل فيقول: يا طولها من ليلة! فإذا صلى الغداة غدا إليه، فإذا لقيه التزمه أو اعتنقه.
وكان بكاء طفل يزعجه ويقطع عليه صلاته وينغص عليه ليله.
قدمت رفقة من التجار فنزلوا المصلى، فاقترح على عبد الرحمن بن عوف أن يذهبا ليحرساهم من السرق، ثم باتا يحرسان ويصليان، فسمع بكاء صبي، فتوجه نحوه وقال لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك. ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه، فرجع إلى أمه كرة أخرى، ثم سمع بكاءه آخر الليل فقال لأمه: ويحك! إني لأراك أم سوء ما لي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة؟ قالت: يا عبد الله قد أبرمتني منذ الليلة، إني أربعه عن الفطام.
16
فسألها: ولم؟ فقالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم! فسألها: وكم له؟ فلما علم أنها فطمته دون سن الفطام أمر مناديا فنادى: ألا تعجلوا صبيانكم عن الرضاع، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام.
وقصته مع الصبية الجياع مشهورة، ولكنها تعاد لأنها أحق قصة بأن تعاد.
قال أسلم: «خرجنا مع عمر - رضي الله عنه - إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بصرار
17
إذا نار تؤرث،
18
فقال: يا أسلم إني أرى ها هنا ركبانا قصر بهم الليل والبرد، انطلق بنا!
فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان وقدر منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون،
19
فقال عمر: السلام عليكم يا أهل الضوء. وكره أن يقول: يا أصحاب النار. فأجابته امرأة: وعليكم السلام، فقال: أأدنو؟ فقالت: ادن بخير أو دع. فدنا منها فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد. قال: وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع! قال: وأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر! فقال: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ فقالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا؟ فأقبل علي فقال: انطلق بنا.
فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلا
20
من دقيق وكبة
21
من شحم، وقال: احمله علي، قلت: أنا أحمله عنك. قال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟! لا أم لك!
فحملته عليه، وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئا فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحر لك.
22
وجعل ينفخ تحت القدر، وكانت لحيته عظيمة، فرأيت الدخان يخرج من خلالها حتى طبخ لهم، ثم أنزلها وأفرغ الحريرة في صحفة وهو يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم - أي أبرده - ولم يزل حتى شبعوا وهي تقول له: جزاك الله خيرا، كنت بهذا الأمر أولى من أمير المؤمنين.»
وأمثال هذه القصة في سيرة عمر كثير، لا يقال إنها هي ومثيلاتها من الشعور بالتبعة وليست من الرحمة؛ لأن العهد بالشعور بالتبعة أن يأتي من الرحمة، وليس العهد بالرحمة أن تأتي من الشعور بالتبعة!
كذلك لا يقال إنه قد كان يطيع أمرا سماويا تحركت له نفسه، أو لم تتحرك، فإن النفس التي تتحرك للأمر السماوي هي النفس التي فيها الخير، ولها رغبة فيه، وقلما تشفق من عقاب السماء، إلا أن تشعر بأمل الظلم، ومبلغ استحقاقه للعقاب.
على أن عمر كان يرحم في أمور يحول فيها النفور الديني دون الرحمة عند كثيرين.
فمن ذلك أنه رأى شيخا ضريرا يسأل على باب، فلما علم أنه يهودي قال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن! فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله، فأعطاه ما يكفيه ساعتها، وأرسل إلى خازن بيت المال يقول: انظر هذا وضرباءه،
23
فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم، إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب ... ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.
فهنا علمته الرحمة كيف يطيع الدين، ولن يطيع الدين هكذا إلا رحيم.
وقد فرض عمر لكل مولود لقيط مائة درهم من بيت المال كما فرض لكل مولود من زوجين، وهي رحمة قد يحجبها النفور من الزنا وثمراته في نفوس أناس ينفرون فلا يرحمون.
بل كان يرحم كل مخلوق حي حتى البهيم الذي لا يبين بشكاية، فروى المسيب بن دارم أنه رآه يضرب رجلا ويلاحقه بالزجر؛ لأنه يحمل جمله ما لا يطيق.
وكان يدخل يده في عقرة البعير الأدبر
24
ليداويه وهو يقول: إني لخائف أن أسأل عما بك. ومن كلامه في هذا المعنى: لو مات جدي بطف
25
الفرات لخشيت أن يحاسب به الله عمر، وإنه لشعور بالتبعة عظيم.
لكنه - كما أسلفنا - لن ينبت في قلب كل أمير عليه تبعة، إلا أن يكون به منبت للرحمة عظيم. •••
فنحن إذن بإزاء صفة كبيرة إلى جانب صفته الكبيرة؛ الرحمة إلى جانب العدل، وكلتاهما من البروز والوثاقة وعمق القرار بمثابة العنوان الذي يدل على صاحبه، أو بمثابة العنصر الأصيل الذي يلازمه ويلابسه، ولا يفارقه في جملة أعماله.
ومن خصائص عمر أنه كان على هذا الشأن في جميع صفاته المشهورة، خلافا للمعهود في الصفات الغالبة بين الناس من المحامد كانت أو العيوب؛ إذ قلما يوسم إنسان بأكثر من صفة غالبة بهذه المثابة من التأصل والبروز، فهو عادل أو رحيم أو غيور أو فطن أو وثيق الإيمان، ثم تطغى إحدى هذه الصفات على سائرها، فلا تعطيها إلى جانبها مكانة رسوخ واستقرار.
وعلى غير هذا العهد كان عمر في جميع صفاته الكبيرة التي ذكرناها، فكانت كل صفة منها في قوتها ورسوخها تكفي للغلبة على شخصية تتسم بها، ولا تذكر بغيرها، وإنه ليتصف بها فتأخذ من سماته ومعالمه ما يخصصها به، ولو كانت من الصفات القومية الشائعة في أبناء جلدته جميعا، فيخيل إليك أنها سمة مميزة له لم توجد في غيره.
فأحرار العرب كلهم غيور، ولكنك إذا قلت «العربي الغيور» فكأنما سميت عمر بن الخطاب؛ لأنه طبع هذه الصفة القومية بطابعه الذي لا يشبهه فيه غيره، فكان الغيور بين الغيورين.
قال أكبر أصدقائه وأكبر العارفين به محمد - عليه السلام: «إن الله غيور يحب الغيور، وإن عمر غيور.»
وتحدث إلى صحبه يوما وعمر فيهم فقال : «بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر. فذكرت غيرته، فوليت مدبرا. فبكى عمر وقال كالمعتذر: أعليك أغار يا رسول الله؟»
وكانت هذه الغيرة معروفة مخشية بين جميع من يعرفونه، ويسمعون بطباعه، والنساء من باب أولى يعرفنها ويعهدنها ويتقينها، كما لم يتقينها قط من غيره.
استأذن على النبي يوما وعنده نساء من قريش، يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب.
فدخل والنبي يضحك.
قال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله. كأنه يسأله عن سبب ضحكه. فقال عليه السلام: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي لما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب.
قال عمر: فأنت يا رسول الله كنت أحق أن يهبن، ثم التفت إليهن يقول: أي عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟
قلن - ولا يخذل المرأة لسانها في هذا المقام: نعم، أنت أغلظ وأفظ من رسول الله!
وحسبك من غيرته أنه هو الذي أشار على النبي
صلى الله عليه وسلم
بحجاب أمهات المسلمين، وكان يرى إحداهن في الظلام ذاهبة لبعض شأنها، فيقول لها: عرفتك يا فلانة!
ليريها أنها في حاجة إلى مزيد من التحجب. وقد ضجرت إحداهن منه لهذا فقالت له: وإنك علينا يا بن الخطاب والوحي ينزل في بيوتنا؟
على أن الغيرة في ابن الخطاب لم تكن غيرة مقصورة على المرأة وكفى، بل غيرته على المرأة لم تكن إلا شطرا من غيرته على كل حرم وحوزة، فمن هذه الغيرة العامة سياسته العربية التي كانت تصد الغرباء عن جزيرة العرب كأنها الحرم الموصد، ومنها غيرته على الزي العربي والشمائل العربية، ومنها غيرته على العقيدة وحدود الشريعة، وغيرته على كل حق يحميه غيور.
والأحاديث عنه في هذه الخصلة تتعدد في معارض شتى، كما تعددت أحاديث عدله ورحمته، وكل صفة بارزة فيه، فشأن هذه الصفات أن يظهرن أبدا حيث ظهر له قول أو عمل؛ لأنهن أصيلات مطبوعات يختلطن بكل ما عمل وقال.
إلا أنك تقرؤها جميعا فتخرج منها بأثر واحد لا اختلاف فيه.
ذلك أن عمر كان يغار على حق، ولا يغار من أحد، ولا ينفس على ذي نعمة.
فإذا قيل لك إن عمر قد غار، فلن يخطر لك أن تسأل: ممن كانت غيرته؟ وإنما يخطر لك أن تسأل في كل مرة: علام غار؟ ولأي شيء كان يغار؟
فهو يغار على حق، أو يغار على عرض، أو يغار على دين، أو يغار على صديق أو صاحب حرمة، ولا يغار من هذا أو ذاك لنعمة أصابها هذا أو ذاك.
إنما كان يغار على شيء يحميه، ويعلم من نفسه القدرة على حمايته، فهي غيرة من يريد الحماية لغيره، ولا يريد انتزاع الخير لنفسه أو غلبة إنسان على حظه.
رجل قوي، جياش الطبع، شديد الشكيمة، مؤمن بالحق وحرماته، قادر على تقويم من يحيد عنها ويجترئ عليها. فإن لم يكن هذا غيورا فمن يكون الغيور؟
وقل في ذكائه وفطنته وألمعية ذهنه ما تقول فيما اشتهر به من صفات العدل والرحمة والغيرة، وإن كانت هذه الصفة أحوج منهن إلى الشرح والتحليل.
فبعض المستشرقين الذين أثنوا عليه قد عرضوا لأمر تفكيره، فوصفوه بأنه محدود التفكير، أو أنه يأخذ الأمور بمقياس واحد.
ونحن لا نقول إن عمر - رضي الله عنه - خلق بذهن عالم بحاثة منقطع للكشف والتنقيب، ولا أنه خلق بذهن فيلسوف مطبوع على التجريد والذهاب بالفكر في مناحي الظنون والفروض، ولا أنه خلق بذهن منطيق يدور بين الأقيسة والاحتمالات مدار الترجيح والتخمين؛ فالواقع أنه لم يكن كذلك ولا يعيبه ألا يكونه، وأنه كان معنيا بالعمل قبل عنايته بالنظر أو الفرض والتقدير، ولكن الفرق بعيد بين هذا وبين الفكر المحدود، والنظر الذي يقيس الأمور بقياس واحد.
فعمر كانت له فطنة الرجل العليم بنقائض الأخلاق، وخبايا النفوس، ولم يحكم عليها قط كأنه ينظر إليها من جانب واحد، أو يطبعها في تفكيره بطابع واحد، بل علم الدنيا وعلم كيف يتقلب الإنسان، وراح في علمه هذا يراقب الناس مراقبة الجذور، ويقيم عليهم الأرصاد إقامة الرجل الذي لا يفوته أن ينتظر منهم ما ينتظر من خير وشر، وقوة وضعف، وصلاح وفساد.
وكفى من كلماته الدالة عليه أن نذكر أنه كان يحب أن يعرف الشر كما يعرف الخير؛ لأن «الذي لا يعرف الشر أحرى أنه يقع فيه»، وأنه كان يحب أن يعرف الأعذار كما يعرف الذنوب، حيث يقول: «أعقل الناس أعذرهم للناس»، وأنه هو القائل: «احترسوا من الناس بسوء الظن»، وهو القائل مع ذاك: «أظهروا لنا أحسن أخلاقكم، والله أعلم بالسرائر» ... يوفق في هذين القولين بين سهر الحاكم الذي لا ينبغي أن تخفى عليه خافية، وبين عدل القاضي الذي لا ينبغي أن يحكم بغير بينة ظاهرة.
بل لو كان عمر بن الخطاب محدود التفكير، ينظر إلى الأمور من جانب واحد، لما كثرت مشاورته للكبار والصغار والرجال والنساء، مشاورة من يعلم أن جوانب الآراء تتعدد، وأن للأمور وجوها لا تنحصر في الوجه الذي يراه، وكثيرا ما قال: «أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه.» وليس استطلاع الآراء ولا الخوف من الإعجاب بالرأي شيمة رجل محصور التفكير، ضيق المنافذ إلى الحقيقة.
وقد عاشره أناس من الدهاة فخبروه وحذروه، وقال المغيرة بن شعبة لعمرو بن العاص: «أأنت كنت تفعل أو توهم عمر شيئا فيلقنه عنك؟! والله ما رأيت عمر مستخليا بأحد إلا رحمته كائنا من كان ذلك الرجل. كان عمر والله أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع.»
إنما كان عمر كما وصف نفسه «ليس بالخب ولكن الخب
26
لا يخدعه»، وهذا هو الحد الفاصل أحسن الفصل بين الدهاء المحمود، والدهاء المذموم، أو بين الفهم الصحيح والخبث القبيح. فهناك فطنة تسيء الظن؛ لأنها تعرف الشرور التي في طبائع الناس، وفطنة تسيء الظن؛ لأنها تشعر شعور السوء، والفرق بينهما عظيم، كالفرق بين الخير والشر والمحمدة والمذمة. فالفطنة الأولى معرفة حسنة، والفطنة الثانية خلق رديء، وإنما كان عمر بالفطنة الأولى معصوما من أن يخدع غيره، أو ينخدع لغيره، وهذا هو الحد القوام الذي لا نقص فيه من جانبيه.
وكانت له في استيحاء الخفايا قدرة تقرب من مكاشفة الغيب، لولا أنها تستند إلى التقدير الصحيح، والظن المدعوم بالخبرة، وحكاية واحدة من هذا القبيل تغني عن حكايات، وهي حكايته مع المغيرة الذي استكثر على عمرو بن العاص أن يوحي إلى عمر بمراده ويتداهى عليه.
فقد هم عمر - رضي الله عنه - بأن يعزل المغيرة عن العراق، ويولي جبير بن مطعم مكانه، وأوصى جبيرا أن يكتم ذلك ويتجهز للسفر، فأحس المغيرة، وسأل جليسا له أن يدس امرأته، وهي مشهورة بلقط الأخبار حتى سميت «لقاطة الحصى»، لتستطلع النبأ من بيت جبير، وذهبت إلى بيته، فإذا امرأته تصلح أمره فسألتها: إلى أين يخرج زوجك؟ قالت: إلى العمرة! قالت لقاطة الحصى: بل كتمك، ولو كانت لك عنده منزلة لأطلعك على أمره! فجلست امرأة جبير متغضبة ودخل عليها وهي كذلك، فلم تزل حتى أخبرها وأخبرت لقاطة الحصى. وذهب المغيرة إلى عمر ففاتحه بما علم، وهو يقول له: بارك الله لأمير المؤمنين في رأيه وتوليته جبيرا! فلم يعجب عمر من وقوفه على السر، بل قال: كأني بك يا مغيرة قد فعلت كيت وكيت، كأنما سمع رأي ... وأنشدك الله هل كان كذلك؟ قال المغيرة: اللهم نعم. ثم صعد عمر إلى المنبر ونادى في الناس: أيها الناس، من يدلني على المخلط المزيل
27
النسيج وحده؟ فقام المغيرة فقال: ما يعرف ذلك في أمتك أحد غيرك؟ فأبقاه على ولايته ولم يزل واليه على العراق حتى مات.
وإنما كانت مجاراته للداهية من هذا القبيل إعجابا بحصافته لا انخداعا بمكره، وقد يتغابى ويعمل ما يريده المتداهي عليه؛ لأنه أدرك مرمى كلامه، وفهم ما فيه من صواب، كما صنع مع عمرو بن العاص في خطبة أم كلثوم بنت علي - رضي الله عنهما - وسيأتي الكلام عنها في فصل تال.
على أن القدرة الذهنية التي امتاز بها عمر في غنى عن الاستدلال عليها بما قال وما قيل فيه، وما دار بينه وبين بعض القوم من المساجلات والمحاورات، إنه عمل لم يعمله إلا القليل من أقدر الحكام في تاريخ بني الإنسان ، وكفى بذلك دليلا على قدرته الذهنية لا حاجة بعده إلى دليل. ساس شعوبا بينها من الاختلاف مثل ما بين العرب والفرس، وبين الفرس والقبط والسوريين، ونصب ولاة، وانتدب قوادا، وسير بعوثا، وأشرف على ميادين قتال، وأقام نظما في الحكومة، وراقب رعاة ورعية فيما يعلنون وما يبطنون، ونجح في كل ما عمل نجاحا منقطع النظير، غير مردود إلى المصادفة ولا إلى ارتجال المغامرين، وليس هذا كله مما يضطلع به رجل محدود الفكر، ضيق الأفق، قليل الخبرة بالجماعات والأفراد. فإذا استوفى هذا الحظ الوافي من القدرة الذهنية، فذلك حسبه منها وحسب كل من تصدى لمثل عمله، ونهض بمثل وقره،
28
ولا عليه بعد ذلك أنه لم يفكر على نمط الفلاسفة، وأقطاب العلم، وأساطين المنطق والرياضة، فإن الدنيا لم تخرج لنا عمر ليزيدنا أفلاطون آخر أو إقليدس ثانيا أو «فاراداي» سابقا في الزمن القديم، بل أخرجته للناس ليكون مؤسس عهد ومحول تاريخ. فإذا تأدى به عقله إلى تلك الغاية، فهو العقل الصائب، يفكر على النحو الذي خلق له ويبلغ القصد الذي رمى إليه. وعلينا نحن أن نعرف كيف كان تفكيره وأن نسلكه بين قرنائه وأنداده.
إنما طرأت شبهة العقل المحدود على المستشرقين الذين ظنوا به هذا الظن من ناحية واحدة، وهي ناحية العدل الذي لا يلتفت ذات اليمين وذات الشمال، والقضاء الذي يكيل الجزاء دقة بدقة، ولا يبالي بالنقائض والمفارقات.
ونظروا إلى جملة آرائه في المسائل الجلى فإذا هي من الآراء التي يغلب عليها القطع والجزم والانطلاق إلى غرض ماثل، لا تنحرف عنه قيد شعرة، كأنه قد جهل ما في الدنيا من نقائض وخفايا ومن عوج وتعريج، أو كأنه السهم الثاقب ينفذ فيما أمامه إلى هدفه المحدود، ولا يلتفت إلى شيء في نفاذه، أو يعوقه عائق دونه.
فخطر لهم أن فطنته إنما كانت فطنة فراسة فطرية، كالغريزة التي تهتدي على استقامة واحدة، ولكنها لا تنحرف ولا تتصرف ولا تخالف ما جبلت عليه، وأنها فطنة العقل المحدود والبصر الموكل بجانب واحد ينفذ فيه، ولا يحيط به أو يتشعب في نواحيه. والفكر المحدود هنا هو فكر أولئك المستشرقين، لا فكر عمر بن الخطاب.
فالرجل الذي يستقيم على وجه واحد، لا يحيد عنه، هو واحد من رجلين: فإما رجل يستقيم على هذا الوجه؛ لأنه لا يرى غيره، ولا يحيط بما حوله.
وإما رجل يستقيم على هذا الوجه؛ لأنه قادر على اختراق العقبات، عالم أنها تنثني إليه حيث كان دون أن ينثني إليها حيث كانت.
واستقامة عمر بن الخطاب على وجهه من هذا القبيل، وليست من ذلك القبيل؛ هي استقامة قدرة، وليست باستقامة عجز، وهي استقامة تصرف سريع، وليست باستقامة محجور مقيد، يأبى أن يدور؛ لأنه قد أعياه أن يدور.
هي استقامة حياة غلابة، وليست باستقامة أداة كالموازين تسوي بين التبر والتراب؛ لأنها لا تميز بين التبر والتراب.
فالرجل الذي يجتنب التصرف في العدل عجزا عن الفهم والتزاما للحرف المكتوب، ونزولا إلى مرتبة الموازين التي لا تعي ولا تغضب ولا تغار، إنما هو آلة فقيرة في مادة الحياة.
أما الذي يجتنب التصرف في العدل غيرة على الضعيف، وقدرة على القوي، وعلما بالتبعة، واضطلاعا بجرائرها، فذلك حي غني بالحياة، يعدل لفرط السليقة الإنسانية، والقدرة الحيوية، ولا يعدل لأنه آلة تشبه الميزان الذي لا حس فيه.
وشتان بين هذا وذاك، إنهما لنقيضان، وإن كانا في ظاهر الأمر شبيهين متقاربين.
والاعتماد على الأمثلة الخاصة، أولى بنا في هذا المعرض من الاعتماد على القواعد العامة والتقريرات النظرية.
فهذه أمثلة ثلاثة من أمثلة العدل الذي يبدو لأول وهلة، كأنه عدل الموازين الآلية حين تسوي بين الأوزان، وإن اختلفت القيم والأقدار، وتفصل في الأنصباء بغير نظر إلى فوارق الدنيا، ومقتضيات السياسة، وتبدل الأحوال، ونختارها من أجهر الأمثلة وأدناها إلى تأييد شبهات المستشرقين فيما زعموه من العقل المحدود؛ لنرى على قدر ضخامة هذه الأمثلة ضخامة الخطأ في استخراج ما تدل عليه.
كان عمرو بن العاص واليا لمصر وكان ابنه يجري الخيل في ميدان السباق، فنازعه بعض المصريين السبق، واختلفا بينهما لمن يكون الفرس السابق، وغضب ابن الوالي فضرب المصري وهو يقول: أنا ابن الأكرمين! فاستدعى عمر الوالي وابنه حين رفع إليه المصري أمره، ونادى بالمصري في جمع من الناس أن يضرب خصمه قائلا له: «اضرب ابن الأكرمين!»، ثم أمره أن يضرب الوالي؛ لأن ابنه لم يجرؤ على ضرب الناس إلا بسلطانه، وصاح بالوالي مغضبا: «بم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟» فما نجا من يده إلا برضا من صاحب الشكوى واعتذار مقبول.
وكان خالد بن الوليد أشهر قادة الإسلام في زمانه، فأحصى عليه عمر بعض المآخذ، ومنها إنفاقه من بيت المال في غير ما يرضاه، فأمر به أن يحاكم في مجلس عام، كما يحاكم أصغر الجند، وعزله بعد مقاسمته فيما يملك من نقد ومتاع.
وكان جبلة بن الأيهم أميرا نصرانيا، فأسلم وأسلمت معه طائفة من قومه، ثم وطئ أعرابي إزاره فلطمه جبلة على ملأ من حجاج بيت الله؛ فقضى عمر للأعرابي أن يلطم الأمير على ذلك الملأ؛ لأن الإسلام لا يفرق بين سوقة وأمير.
هذه أمثلة العدل الذي لا يتصرف، ولا يلتفت إلى الدنيا وما فيها من فوارق وتعريجات، تتأبى على القصاص المستقيم، وهي من أقوى الشبهات على النظر المحدود في تقدير الجزاء بالحرف المكتوب، دون التفات إلى الأحوال والمقتضيات.
فهل هي في الواقع كذلك؟ وهل كان على عمر أن «يتصرف» في هذه الأقضية بلباقة الساسة الدهاة في جميع الأزمان، إذ يحتالون على حرف الشريعة ويدورون حول حدود القانون؟
نعم، كان عليه ذلك لو عجز عن سنة المساواة، واحتاج إلى الحيلة، فإنما يعاب على الوالي عدل الموازين، ويحمد منه التصرف والدوران؛ لأن المساواة تعييه، أو لأن المساواة تعرضه لعاقبة شر، وأظلم من الإجحاف، فإذا نظر إلى عاقبة المساواة في المعاملة، فرآها شرا وأظلم من عاقبة التفرقة والتمييز؛ فقد وجب عليه إذن أن يدور حول الحقيقة، وألا يواجهها نصا بغير انحراف.
ولكن أين هذا من عمر، وأين عمر من هذا؟ إنه كان قويا قادرا على العواقب، وكان شديد الألم من ظلم الظالم شديد الخجل من خذلان المظلوم، وكان وثيق الإيمان بنصر الله في الحق وفي النجدة؛ فلماذا ينحرف؟ ولماذا يتصرف؟ ولماذا يدور؟
كان قويا بطبعه، قويا بإيمانه فلماذا يهاب قويا جار على ضعيف؟ ولماذا يروغ من صرامة القاضي إلى دهاء السياسي الذي يدور حول الحقوق والحدود؟
للمستشرقين المتحدثين بالتفكير المحدود أن يأخذوا عليه تشهيره بكبار الولاة، ويثبتوا به كل ما قالوه عن ذلك التفكير المحدود الذي ينسى الفوارق، ولا يحتال على المحظورات، ولكن بشرط واحد.
ذلك الشرط هو أن يتوقعوا - ولو من بعيد - أن يثور ابن العاص ونظراؤه على هذا القصاص، فيختل حكم الدولة، وينتشر الأمر على الخليفة، ويقع من المحظور أضعاف ما كان واقعا لو بطلت المساواة بين السوقة والولاة.
أما أن يكون ابن العاص ونظراؤه لا يثورون، ويعلمون من هو عمر وما هي عقباهم إذا ثاروا عليه.
وأما أن يكون عمر لا يخشى تلك الثورة، ولا يعيا بها إذا هي فاجأته، أو جاءته على غير انتظار.
وأما أن يكون الأمر في ضميره، وفي ضمائرهم يجري على البديهة التي لا خفاء بها ولا شك فيها؛ فكيف يقال إذن إن تفكير عمر في قصاص الولاة كبارا وصغارا تفكير محدود؟ وأين هو في هذه الحالة موضع التفكير المحدود؟
إنه في موضع واحد، وهو - كما أسلفنا - موضع الناقد الذي يصف عمر بغير وصفه؛ لأنه هو محدود الفكر في قياس الرجال بمقياس واحد، أو في اعتقاده أن الخطوب تبقى كما هي، ولا تتغير كلما تغيرت عليها أيدي الرجال.
لقد كان عمرو بن العاص خطرا على الخليفة الذي يغض منه لو كان غير عمر، ولكنه هو والذين كانوا أجرأ منه على الفتن وأسرع منه إلى الغضب، لم يكن لهم من خطر إذا كان عمر هو الذي أمر بالعزل، وهو الذي قضى بالقصاص.
فأجرأ منه - ولا ريب - كان خالد بن الوليد، وأشهر منه بين سيوف الإسلام لو عمد إلى السيف، ومع هذا نقم خالد عزله فخطب الناس ومضى يقول: «إن أمير المؤمنين استعملني على الشام حتى إذا كانت بثنية - أي حنطة - وعسلا عزلني، وآثر بها غيري.» فما أتمها حتى نهض له رجل من السامعين فقال له: صبرا أيها الأمير، فإنها الفتنة. فما تردد خالد أن قال: أما وابن الخطاب حي فلا.
نعم، لا فتنة وابن الخطاب حي، ولو كان الغاضب خالدا الغضوب، ومن هنا حق له أن يشكو ولا جناح عليه.
وأطرف من هذا في هيبة عمر بين ولاته وقواده أنه كتب إلى أبي عبيدة يأمره أن يقاسم خالدا ماله نصفين، فقاسمه جميع ماله حتى بقيت نعلاه، فقال أبو عبيدة: إن هذا لا يصلح إلا بهذا، فأبى خالد أن يخالف أمر عمر، وأعطاه إحداهما وأخذ الأخرى.
لقد نظرنا إلى عمر مستقيما، ولم ننظر إلى الخطوب، ولو نظرنا إليها لرأينا أنها انثنت لتنقاد له، وتتقي مصادمته وتستقيم على منهاجه، فعلمنا لم استقام دون أن يقدح ذلك في صدق نظره إلى الدنيا، وصدق فراسته في خلائق الناس.
وندع قضايا الولاة، وننظر في قضية الأمير الذي ارتد عن الإسلام هو وقومه؛ لأن عمر أجبره على قصاص المساواة بينه وبين رجل من السوقة. فماذا كان ينبغي أن يفعل عمر غير ما فعل من المساواة الصادقة بين الأمير الضارب وخصمه المضروب؟
لعل داهية من دهاة السياسة الذين يصفون أنفسهم بالنظر البعيد كان يؤثر إرضاء الأمير، واستبقاء أتباعه في الإسلام، والاحتيال على الشاكي بما يواسيه ويغنيه عن أن يسوي بين الخصمين، ويمكن لضعيف من ضرب أمير اعتدى عليه.
فهل معنى ذلك أن عمر كان يعوزه دهاء أولئك الساسة، وما عندهم من بعد نظر مزعوم؟
كلا، بل معناه أن أولئك الساسة يعوزهم السخط على الظلم، والغيرة على الحق، واليقين بالقدرة، والإيمان بمناعة الإسلام أن يصيبه غضب أمير صابئ بما يضيره، ولو كثر أتباعه والصابئون في ركابه.
معناه أنهم احتاجوا إلى التصرف، وعمر لم يحتج إليه.
وها هي ذي السنون قد مضت، وتلتها الأحقاب والقرون، فبدا لنا اليوم أن النظر البعيد والعدل الشديد في هذه القضية يلتقيان، وأن عمر كان أحسن المتصرفين فيها؛ لأنه اجتنب التصرف الذي يهواه الدهاة ؛ فقد أفاد الإسلام ما لم يفده بقاء جبلة وأتباعه على دينه، ووقاه ضررا أضخم وأوخم من نكوص أولئك الصابئين عنه. أفاده ثقة أهله بإقامة أحكامه، واطمئنان الضعفاء إلى كنفه، ورهبة الأقوياء من بأسه، وسمعته في الدنيا برعاية الحق، وإنجاز الوعد، وتصديق معنى الدين، ولا معنى له إن كان أضعف بأسا من أمير وجب العقاب عليه.
ويجوز أن الفاروق لم ينظر إلى عواقب القرون، كما ننظر إليها الآن، بعد أن برزت من حيز الفرض إلى حيز العيان. غير أن الأمر الذي لا يجوز في اعتقادنا أنه عدل في قضية جبلة ونظائرها عدل آلة أو عدل ميزان. إن الميزان لأقل من مخلوق له حياة، أما الفاروق في هذه القضية فقد كان أكبر من الحياة الفانية، كان بطلا يؤمن ويعمل بإيمانه، وهكذا يعلو الإنسان ببطولة الإيمان.
والعبرة التي نخرج بها من هذا أن النظرة الأولى في أخلاق عمر بن الخطاب حسنة، ولكن النظرة الثانية هي على الأغلب الأعم أحسن من الأولى!
فالناقدون الأوروبيون الذين فسروا عدله المستقيم القاطع بالنظر الضيق والفكر المحدود لم يفهموه ولم ينصفوه، ولو فهموه وأنصفوه لعلموا أن عدله المستقيم القاطع زيادة في القدرة، وليس بنقص في الفطنة، أو أنه زيادة في قوة الثقة، وقوة الإيمان، وليس بنقص في العلم والبداهة، ولم يكن عسيرا عليهم أن يفقهوا ذلك لو راجعوا أنفسهم وتريثوا في حكمهم؛ لأن قوة الثقة وقوة الإيمان لا تخفيان في خلق من أخلاقه، ولا عمل من أعماله، ولا تزالان ممزوجتين فيه بكل إقدام وبكل إحجام، فكان يقدم على أعظم الخطوب، ويحجم عن أهون الهينات تحرجا منها وتنزها عنها، إذا اقتضى ذلك وازع من قوة الإيمان.
فلم يكن يمضي قدما لأنه يغفل عما حوله من النواتئ والمنعرجات والسدود، بل كان يمضي بينها قدما لأنه لا يباليها، ويؤمن أصدق الإيمان أنها تنثني له إذا مضى فيها، فلا حاجة به أن ينثني إليها.
إنه ليعلم العوج، ولكنه يعلم أنه أقدر منه؛ لأنه يؤمن بحقه إيمان القوي الوثيق، فله من قوته ومن إيمانه قدرتان.
إنه ليرفع العبء إلى كاهله، وهو قائم لا يطأطئ للنهوض به، فليس الفارق بينه وبين غيره أنه يجهل العبء الذي يعرفونه، أو ينسى العواقب التي يذكرونها، أو يتحلل من المصاعب التي يتحرجون منها، كلا، إنما الفرق بينه وبينهم أنهم ينثنون للخطوب، وأن الخطوب هي التي تنثني إليه.
هذه القوة في إيمانه كانت هي المسيطر الأكبر على كل خلق من أخلاقه، وكل رأي من آرائه، بل كانت هي المسيطر الأكبر على ما هو أصعب مقادا من الأخلاق والآراء، وأشد عراما
29
من العقائد والشبهات، وهي دوافع الطبع وسورات الغريزة، وقلما خلا منها طبع قوي عزوف غيور.
فالأفكار والأخلاق جانبان من جوانب النفس الإنسانية، قابلان للضوابط والقيود، ولكن ما القول في الدوافع والسورات؟!
مثل الفكر كمثل السفينة الطافية على وجه النهر، لها شراع، ولها سكان، وعليهما معا رقيب من النواتية
30
والربان.
31
ومثل الخلق كمثل النهر المتدفع، تحبسه الشواطئ والقناطر، ويفيض في موعد، ويعرف له مجرى، ويحسب له مقدار.
ولكن، ما القول في السيل العرم؟
ما القول في السورة الجامحة التي ليست بفكر يسوس ويساس، ولا بخلق متميز بسماته وخصائصه ومراميه؟!
هنا تبدو لنا قوة الضوابط والقيود، وهنا أيضا كانت ضوابط الإيمان القوي في نفس عمر كأقوى ما تكون.
ولا أحسب أن قلبه الكبير جمحت به في الجاهلية أو الإسلام سورة أكبر من سورته يوم نعي النبي إلى المسلمين، فأنكر أن ينعى، وأبى أن يسمع صوتا بين المسلمين يزعم أن محمدا قد مات، وصاح والناس في رهبة منه كرهبتهم من شبح الموت المخيم يومئذ على الرءوس: «والله إني لأرجو أن تقطع أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه قد مات.»
ثم أقبل أبو بكر من مسكنه على فرسه، فنزل فتمشى وئيدا صامتا لا يكلم أحدا، وتيمم النبي وهو مغشى بالثوب، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله، وبكى.
ثم أحس صولة عمر وهو يكلم الناس، فخرج إليهم فقال: اجلس يا عمر. وأقبل على المسلمين يكلمهم بكلام السماء: «أما بعد، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات،
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .» فأهوى عمر إلى الأرض وأناب.
وكأنه والمسلمين معه ما علموا أن أنزلت هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر تلك الساعة.
يا لروعة الشلال الزاخر!
ويا لروعة السابح القاهر الذي لوى به ليا، كأنما قبض منه على عرف، وأخذ له بعنان!
أكبر ميدان من ميادين الدنيا لا يرينا صراعا عاتيا هو أولى بالروعة من نفس عمر وهي متراوحة بين شعوره الزاخر، وإيمانه الوثيق.
لحظة هائلة من أهول ما تحس النفوس، ثم انهزام كأسرع ما يكون الانهزام، وانتصار كأسرع ما يكون الانتصار، وغاشية تنجلي عن صاحب تلك النفس، وهو مالك لزمامه، ماض بشعوره إلى حيث يمضي به إيمانه، فهما قوتان غالبتان، وليستا بعد بالعسكرين المتغالبين.
لقد كانت تلك سورته الكبرى، ولكنها لم تكن أولى سوراته ولا آخرتها.
فقد عهدت هذه السورات في طبعه، حتى عرف من عهدوها كيف يسوسونها ويتقونها، وأوشكت أن تحسب في عداد الأنهار المحكومة، لا في عداد السيول الجارفة، انطلقت من عقالها.
ذهب إليه بلال مستأذنا، فقال له الخادم إنه نائم، فسأله: كيف تجدون عمر؟ قال: خير الناس إلا أنه إذا غضب فهو أمر عظيم. قال بلال: لو كنت عنده إذا غضب قرأت عليه القرآن حتى يذهب غضبه.
فهو الإيمان ضابط كل شيء في تلك النفس، حتى السورات التي ليس لها ضابط في النفوس.
أو قل إنها هي النفس القوية في دفعاتها، وفي ضوابطها على السواء.
ورب نفس من ضعف الدفعة بحيث يقمعها أهون ضابط يسيطر عليها، فأما الدفعة التي لا يقف في طريقها إلا ضابط أقوى منها؛ فتلك هي الطبيعة الحيوية المضاعفة، وليست هي الضعف الذي يتراجع لأهون مراجعة.
نذكر هذا وينبغي أن نذكره ولا ننساه؛ لأن الفرق بين الإيمان الذي يكبح الهزيل المنزوف الحياة، وبين الإيمان الذي يكبح القوي الجياش فرق عظيم.
ولم يكن عمر معرضا عن زخارف الحياة لهزال كان في دواعي الحياة فيه، وإنما كان معرضا عنها لأنه كان قادرا على الإعراض غير ممتحن به في إرادة ولا عزيمة.
وكان معرضا عنها لأنه صاحب حيوية غير الحيوية الجسدية الموكلة بالسرور والمتاع.
فمن الواجب إذا ذكرنا الحيوية وضعفها وقوتها، أن نذكر أبدا أنها حيويات متعددة وليست بحيوية واحدة.
حيوية الروح، وحيوية الخلق، وحيوية الذوق، وحيوية العقل، وحيوية الجسد، وغير ذلك كثير مما يتداخل بين هذه الحيويات.
فليس من الضروري إذا رأيت رجلا قليل الاشتهاء لمتعة الأجساد أن تحكم عليه بضعف الحيوية، فربما كانت له حيوية أخرى تملأ ألوفا من النفوس، لا تجد متاعها في أكلة أو شهوة، وتجد المتاع في إحقاق الحق، وزجر الطغيان، وإقامة العدل والشريعة بين الناس.
وهكذا كانت حيوية عمر فيما يريده، وفيما يزهد فيه.
لم تكن قلة الرغبة في زخارف الدنيا هي مقياس حيويته العظمى، وإنما كان مقياس تلك الحيوية عظم الرغبة في الإصلاح والتقويم، وفي إجراء ما ينبغي أن يجري، غير مبال ما يكلفه ذلك من جهد تتضاءل دونه جهود الألوف من الموكلين بمتاع الأجساد. •••
تلك صورة مجملة للصفات الخلقية الكبيرة التي كانت غالبة على نفس عمر بن الخطاب، وهي العدل والرحمة والغيرة والفطنة والإيمان.
وأول ما يلاحظ عليها تعدد الصفات الغالبة في نفس واحدة، وصفة واحدة منها قد تغلب على النفس - وليست بصغيرة - فتنعتها بنعتها وتستأثر بتمييزها والدلالة عليها.
ثم يلاحظ عليها أن الصفة منها تتصل بعمر بن الخطاب، فتأخذ منه وتصطبغ بصبغته، حتى كأنها لم تعهد في غيره على شيوعها وكثرة الموسومين بسماتها.
إلا أن هذا وذاك ليس بأعجب الملاحظات، ولا أندرها في هذا السياق، وإنما العجب العاجب حقا هذا التركيب الذي ندر مثيله جدا بين خصائص النفوس، كائنا ما كان نصيب صاحبها من العظمة والامتياز.
وأحرى بنا أن نقول «هذه التركيبة»، ولا نقول «هذا التركيب»؛ لأن صفاته الكبيرة تتركب كما تتركب أجزاء الدواء الذي ينفع لغرض واحد مفهوم، والذي ينقص جزء منه، فينقص نفعه كله، ويدخله التناقض والاختلاط.
إذا نظرت إلى تلك الصفات أجزاء متفرقات، فهي سهلة بسيطة، ليس فيها شيء عويص، أو مكتنف بغموض.
ولكنك تنظر إليها مركبة متناسقة، فيبدو لك منها جانب الدهشة والإعجاز، أو جانب الندرة التي يعز تكرارها في طبائع النفوس؛ لأنها تتركب لاستيفاء الغرض منها جميعا، واستيفاء الغرض في كل منها على حدة، وهذا هو النادر جد الندرة في تركيب الأخلاق.
ما العدل مثلا بغير الرحمة التي تمزجه بالإحسان؟! وما العدل والرحمة معا بغير الحماسة الروحية، والغيرة اليقظى التي تجعل كراهة المرء للظلم كأنها كراهة الضرر الذي يصيبه في نفسه وآله، وتجعل حبه للعدل كأنه حب هواه، وقبلة مناه؟! وما العدل والرحمة والغيرة جميعا بغير فطنة تضع الأمور في مواضعها، وتعصم المرء أن ينخدع لمن لا يستحق، ويغفل عمن يستحق وهو حسن القصد غير متهم الضمير؟! وما العدل والرحمة والغيرة والفطنة بغير الإيمان الذي هو الرقيب الأعلى فوق كل رقيب، والوازع الأخير بعد كل وازع، والمرجع الذي لا مرجع بعده لطالب الإنصاف؟!
كل صفة تتمة لجميع الصفات.
وكل الصفات روافد لغرض واحد، يتم به نصر الحق وخذلان الباطل.
وكل خليقة فهي جزء لا ينفصل من هذه «التركيبة» التي اتفقت أحسن اتفاق، وأنفع اتفاق، وكأنما اتفقت لتصبح كل خليقة منها على أتم قدرتها في بلوغ كمالها، وتحقيق غايتها.
فلا نقص في العدل كالنقص في كل عدل يعمى عن الطبيعة البشرية، ويذهل عن ضعف الإنسان.
ولا نقص في الغيرة كالنقص في كل غيرة ظالمة قاسية كأنها ضراوة وحش، وليست بحماسة روح.
ولا نقص في أولئك كله كالنقص في جميع الصفات بغير الفطنة التي تخرج بها من ظلام إلى نور، وبغير الإيمان الذي يقف منها موقف الحارس الساهر والرقيب الأمين.
صفات متراكبة كأنها صفة واحدة، يأخذ بعضها من بعض، فلا تتعدد في مرآها، ولا تزال في صورة البساطة بعيدة عن التركيب، فيخطئ النظر القصير في التفرقة بين هذه الظاهرة النفسية الرائعة، وبين ظاهرة الشيء البسيط المحدود، وإنه لخطأ شائع ينساق إليه كثيرون مما يستسهلون بساطة عمر، وهي أولى بالروعة من تركيب يختلط من كل مزيج، ثم يزيد في الألوان، ولا يزيد في الإتمام والتوحيد والإتقان.
ولو أن مخترعا من أهل القصص حاول أن يخترع سيرة عمر بن الخطاب؛ لأعياه أن يخترع ذلك الشتيت المتفرق من الأخبار والأحاديث والنوادر، ليقرأه القارئ بعد ذلك فيقبل منه ما يقبل، ويسقط منه ما يسقط، ثم يبقى منه ما يدل أصدق الدلالة على كل صفة من تلك الصفات.
فلا اختراع في جملة أخبار عمر، وإن جاز الشك في بعضها، أو جاز إسقاط الكثير منها، ومن شاء فليشك في هذا الخبر أو ذاك ما بدا له الشك، وليسقط منها ما بدا له الإسقاط، فسيبقى بعد ذلك جميعه خبر يدل على عدله ولا سبيل إلى نقضه، وخبر يدل على رحمته ولا سبيل إلى نقضه، وخبر يدل على غيرته ولا سبيل إلى نقضه، ويبقى ذلك التركيب العجيب الذي هو موضع الإعجاز وموضع الدهشة وموضع التساؤل في مصادر الأخبار.
هذه هي المعضلة التي عنيناها حين قلنا في صدر هذا الفصل إن سهولة عمر وخلو طبائعه من التعقيد والغموض، هي سهولة أصعب من الصعوبة؛ لأنها تنتهي بك إلى صعوبة التركيبة التي هي أندر من التعقيد والغموض، وتريك عناصر شتى قد تتناقض في غير هذا التركيب، ولكنها هنا لا تتناقض في شيء ذي بال؛ لأن التناقض أن يذهب كل عنصر في وجهة معارضة لسائر الوجهات، فأما أن تكون كلها ذاهبة في وجهة واحدة، فذلك عنصر واحد متعدد الأجزاء والألوان.
ولهذا كانت دراسة عمر غنيمة لكل علم يتصل بالحياة الإنسانية، كعلم الأخلاق، وعلم الاجتماع، وعلم السياسة، ولم تقتصر مزايا هذه الدراسة على علم النفس وكفى.
لأن كل نفس صغرت أو كبرت فهي إنسان يضيف العلم به إلى علم النفس بعض الإضافة.
ولكن ليست كل النفوس بالنفس التي تصحح أوهام الواهمين في فضائل الأخلاق وفضائل الاجتماع، وفي القدوة المثلى التي يقتدي بها طلاب الرفعة والسيادة.
ونحن في عصر شاعت فيه فلسفات مسهبة، تنكر الرحمة والعدل على الأقوياء الغيورين ، وتحسبهما حيلة من حيل الطبع في خلائق الضعفاء لاستدامة البقاء، كأن رحمة الضعيف تنفعه إذا رحم، وكأن عدل الضعيف ينفعه إذا عدل، أو كأن القوي يخلق نفسه لنفسه، ولا يخلق قويا لتفيد قوته فائدتها في خدمة المحتاجين إليها.
فعمر ذو البأس والعدل، وعمر ذو الرحمة والغيرة، أصدق تفنيدا لذلك الوهم الأخرق البليد؛ إذ كانت رحمته وعدله لا يناقضان البأس والغيرة فيه، بل كان بأسه معوانا لرحمته، وكانت غيرته معوانا لعدله، وكان هو قويا لينتفع الناس بقوته، ولم يكن قويا ليطغى بقوته على الضعفاء.
ولم يكن لزاما أن يقسو ذو البأس ولا يرحم.
ألا يقسو الضعيف؟! فلم العجب إذن من رحمة القوي؟! كل ما هنالك أن رحمة الضعفاء غير رحمة الأقوياء. فأما العقل الذي يرى الرحمة غريبة في الأقوياء، ويرى القسوة غريبة في الضعفاء، فهو يرى غير الواقع من هؤلاء وهؤلاء؛ إذ الواقع في الدنيا أن القسوة لا تدل على القوة، وأن الرحمة لا تدل على الضعف، وأن ليس في الدنيا أقسى من الأطفال وهم أضعف من فيها من الضعفاء.
وبغير إمعان طويل في دقائق النفس الإنسانية، استطاعت امرأة محزونة أن تفرق بين الخصلتين، وتجمع بينهما معا في عمر بن الخطاب، ونعني بها عاتكة بنت زيد حين قالت في رثائه:
رءوف على الأدنى غليظ على العدى
أخي ثقة في النائبات منيب
وهي تفرقة سهلة، ولكنها صادقة جامعة، فغير عجيب أن يكون إنسان كذلك، وإنما هو أوفق شيء لطبائع الأشياء.
الفصل الرابع
مفتاح شخصيته
مفتاح الشخصية هو الأداة الصغيرة التي تفتح لنا أبوابها، وتنفذ بنا وراء أسوارها وجدرانها، وهو كمفتاح البيت في كثير من المشابه والأغراض، فيكون البيت كالحصن المغلق، ما لم تكن معك هذه الأداة الصغيرة التي قد تحملها في أصغر جيب، فإذا عالجته بها فلا حصن ولا إغلاق!
وليس مفتاح البيت وصفا له، ولا تمثيلا لشكله واتساعه، وكذلك مفتاح الشخصية ليس بوصف لها، ولا بتمثيل لخصائصها ومزاياها، ولكنه أداة تنفذ بك إلى دخائلها ولا تزيد.
ولكل شخصية إنسانية مفتاح يسهل الوصول إليه أو يصعب على حسب اختلاف الشخصيات، وهنا أيضا مقاربة في الشكل والغرض من مفاتيح البيوت؛ فرب بيت شامخ عليه باب مكين يعالجه مفتاح صغير، ورب بيت ضئيل عليه باب مزعزع يحار فيه كل مفتاح.
فليست السهولة والصعوبة هنا معلقتين بالكبر والصغر، ولا بالحسن والدمامة، ولا بالفضيلة والنقيصة، فرب شخصية عظيمة سهلة المفتاح، ورب شخصية هزيلة ومفتاحها خفي أو عسير.
وقد يحيرنا الرجل الذي قيل في وصفه مثل ما قيل في ابن عباد:
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت
يداه بالجواد حتى شابه الديما
1
فإنها خطرات من وساوسه
يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
فإننا لا نستطيع أن ننفذ منه إلى مواضع اللوم أو مواضع الثناء، ولا ندري حقا أعمله من الكرم أم من البخل، ومن الرفعة أم من الخسة، ومن الشجاعة المحمودة أم من الجبن المذموم! وغاية ما ننتهي إليه أن نفض المشكلة بكلمة واحدة هي الوسواس، وهي حيلة تلجئنا إليها قلة الحيلة؛ لأن تفسير الأعمال بالوسواس يفيدنا في تقدير صاحبها وتقدير أعماله وأخلاقه، ولكنه تفسير له معنى واحد في النهاية، وهو: ترك التفسير.
قد تحيرنا هذه الشخصية المنقوصة، ولا تحيرنا الشخصية الكاملة التي تروعنا بفضائلها ومزاياها، ثم لا نستغرب منها فضيلة أو مزية بالقياس إلى انتظام عملها، واتصال أثرها، كالشمس الطالعة تروعنا بإشراقها في أوقاتها وبروجها، ثم لا تحيرنا لمحة عين، كما تحيرنا الذبالة الضئيلة، تومض لحظة وتختفي من بعيد.
وفي اعتقادنا أن شخصية عمر من أقرب الشخصيات العظيمة مفتاحا، لمن يبحث عنه، فليس فيها باب معضل الفتح، وإن اشتملت على أبواب ضخام.
وقد ذكرنا في الفصل السابق أن إيمان عمر هو الضابط الذي يسيطر على أخلاقه وأفكاره، كما يسيطر على دوافعه وسوراته، ولكن الذي نريده بمفتاح الشخصية شيء آخر غير معرفة الضابط الذي يسيطر عليها؛ نريد به السمة
2
التي تميزه بين العظماء، حتى في الإيمان وسيطرته على الأخلاق والأفكار والدوافع والسورات، فإن الإيمان ليقوى في نفوس كثيرات، ثم تختلف آياته وشواهده باختلاف تلك النفوس، وهنا نبحث عن «مفتاح الشخصية»؛ لنعرف به الفارق بين الإيمان في طبيعة عمر، وبين الإيمان في طبائع غيره من الأقوياء.
والذي نراه أن «طبيعة الجندي» في صفتها المثلى، هي أصدق مفتاح «للشخصية العمرية» في جملة ما يؤثر أو يروى عن هذا الرجل العظيم.
فأهم الخصائص التي تتجمع «لطبيعة الجندي» في صفتها المثلى: الشجاعة، والحزم والصراحة، والخشونة، والغيرة على الشرف، والنجدة والنخوة، والنظام، والطاعة، وتقدير الواجب والإيمان بالحق، وحب الإنجاز في حدود التبعات أو المسئوليات.
هذه الخصائص قد تجمعت بعد ألوف السنين من تجارب الأمم في تعبئة الجيوش، حتى عرف الناس أخيرا أنها لازمة للجندي في أمثل حالاته، فما من خاصة منها يستغني عنها الجندي الكامل الذي تحلى بأجمل صفاته وألزمها لتحقيق وجوده.
فانظر إلى هذه الخصائص جميعها، هل تجدك محتاجا إلى التنقيب طويلا عن واحدة منها في نفس عمر؟ هل تجدك محتاجا إلى تعمل أو استقصاء لجمع أشتاتها، والاهتداء إلى شواهدها ومواقعها؟
كل هذه الخصائص عمرية لا شك فيها؛ فهو الشجاع، الحازم، الصريح، الخشن، المطيع، الغيور على الشرف، السريع النجدة، المحب للنظام، المؤمن بالواجب والحق، الموكل بالإنجاز، العارف بالتبعات والمسئوليات.
هذه الخصائص واضحة كلها في عمر، وعمر وحده واضح بين أمثاله في جميع هذه الخصائص، حتى ليخيل إلينا لو أن أحدا مولعا بتأليف الألغاز سأل عن عظيم في الإسلام والعروبة، متصف بجميع هذه الخصائص على أصدق وأبرز حالاتها، لكان الجواب الواحد عن سؤاله اسم عمر بن الخطاب.
وقد يكون العجب من توافر هذه الخصائص في تفريعاتها الثانوية، وأشكالها العارضة، أبلغ وأدل على العمق والتأصل من توافر الخصائص الجليلة، التي هي بمثابة الأصول الجامعة في طبائع الجنود.
فالنظام مثلا ليس بالخلق الأصيل في الجندي الباسل، فقد ينساق إليه بطبعه، وقد يحتاج إلى تعوده وإدمانه، حتى يكسبه بطول المرانة.
لكن النظام كان خلقا أصيلا في طبيعة عمر، حتى فيما يتفرع عليه، ويدخل منه في عداد الأشكال والنوافل.
3
أرأيته وهو يصلي بالناس فلا يكبر حتى يسوي الصفوف، ويوكل رجلا بذلك؟! أرأيته وهو يرى الناس يجتمعون بالمسجد في شهر رمضان أوزاعا متفرقين حول كل قارئ، فيأمرهم أن يجتمعوا إلى قارئ واحد؟! أرأيته وهو يحمل الدرة لينبه المخالفين في الطريق، ويذكرهم هيبة القانون؟! أرأيته وهو يركب في السوق؛ فيكسر ما برز من الدكاكين، ويخفق التجار بالدرة إذا تكوفوا على الطعام
4
وقطعوا طريق السابلة؟! أرأيته وهو لا يزال يأمر بالمثاعب
5
والكنف
6
أن تقطع عن طريق المسلمين؟! أرأيته وهو ينهى الولاة عن الاتكاء في مجالس الحكم، ويكتب إلى عمرو بن العاص: «وقع إلي أنك تتكئ في مجلسك، فإذا جلست فكن كسائر الناس، ولا تتكئ؟!»
بل أرأيته وهو يرعى المراتب، فينزل درجة من سلالم المنبر بعد أبي بكر؛ لأن الخليفة الأول أحق منه بالتقديم؟!
ذلك هو السمت العسكري بالفطرة التي فطر عليها، وليس هو السمت العسكري بالأسوة والتعليم.
وبالفطرة التي فطر عليها كان يحب ما يحسن بالجندي في بدنه وطعامه، ويكره ما ليس بالمستحسن فيه، فكان يقول: «إياكم والسمنة فإنها عقلة»،
7
وكان يقول: «إياكم والبطنة، فإنها مكسلة عن الصلاة، ومفسدة للجسم، ومؤدية إلى السقم، وعليكم بالقصد في قوتكم، فهو أبعد من السرف، وأصح للبدن، وأقوى على العبادة.» وكان يأمر بالجد، ويحذر من المهازل؛ لأن «من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن كثر سقطه
8
قل ورعه»، وكان يمشي «شديد الوطء على الأرض، جهوري الصوت» كما يمشي الجنود، وكما يتكلمون، وكان يأمر بتعلم الرماية والسباحة، والفروسية والمصارعة، وكل رياضة يتدرب عليها الجندي، وتتهذب بها الأبدان والأخلاق.
وإذا ارتقينا من هذا إلى النظام الأشمل، والتقسيم الأعم الأكمل، فهناك عمر بن الخطاب الذي دون الدواوين، وأحصى كل نفس في الدولة الإسلامية، كأدق إحصاء وعاه الموكلون بالتجنيد في العالم الحديث، فما من رجل أو امرأة أو طفل إلا عرف اسمه، وعرف مكانه، وعرفت حصته من بيت مال المسلمين. وما من مجاهد إلا عرفت له رتبته من السبق والتقديم على حسب المراتب التي يمتاز بها الجنود؛ فالحاضرون في «الحديبية» يأتون بعدهم في التقديم، والذين اشتركوا في حرب الردة يأتون بعد هؤلاء وهؤلاء، والذين حاربوا في معارك الروم والفرس ومعهم أبناء الغزاة في بدر يلحقون بمراتب هؤلاء المتقدمين، وقس على ذلك ما يليه من سائر المراتب في حقوق التقديم والتقسيم.
ثم هناك عمر بن الخطاب الذي عشر الجنود؛ أي جعلهم عشرات عشرات، ثم قسمهم إلى كتائب وبنود.
وهناك عمر بن الخطاب الذي لم يدبر قط تدبيرا كبيرا أو صغيرا في شئون الدولة إلا بنظام لا يختل، أو على أساس لا يحيد.
وقد كانت له طريقة الجند في التصريف السريع، الذي ينفذ إلى الغرض من أقرب طريق، فلما تشاور المسلمون ماذا يصنعون بسهيل بن عمرو - خطيب المشركين يومئذ وأقدر الخائضين منهم في الإسلام - قال عمر بن الخطاب: «يا رسول الله، انزع ثنيتيه
9
السفليين، فلا يقوم عليك خطيبا أبدا.» وكان سهيل أعلم - أي مشقوق الشفة السفلى - فإذا نزعت ثنيتاه، فقد عجز عن الخطابة من غير ما حاجة إلى عهد أو تحذير، أو شغل شاغل بإسكاته والرد عليه. •••
والقضاء لم يكن من لوازم «الطبيعة الجندية» وإن تولاه القادة والجند في أيام الفتن، والأيام التي تقام فيها الدول الناشئة، والنظم الجديدة.
ولكن كم من قضية لعمر بن الخطاب تذكرنا بالقضاء العسكري الذي يمنع الضرر من أقرب الطرق، ويحمي الأكثرين بالحد من حقوق الأقلين.
هتفت امرأة باسم نصر بن حجاج، وتمنت أن تشرب الخمر وتلقاه، فأرسل إليه، فإذا هو أحسن الناس شعرا وأصبحهم وجها، فأمره أن يجم
10
شعره، فظهر جبينه ووجنتاه فازداد حسنا، ثم أمره أن يعتم، فزادته العمامة زينة وغواية، فقال: لا يسكن معنا رجل تهتف به العواتق
11
في خدورها. وزوده بمال وأرسله إلى البصرة ليعمل في تجارة تشغله عن النساء، وتشغل النساء عنه.
وفي القضية جور على نصر بن حجاج لا جدال فيه، ولكن في سبيل مصلحة أكبر وأبقى، أو في سبيل مصلحة يرعاها «الحكم العسكري» في أزمنة كزمان عمر، ويقضي فيها بما هو أعجب من إقصاء نصر بن حجاج، يرعاها أحيانا بمنع الإقامة بمكان، ومنع المرور من طريق، وتحريم تجارة لا حرام فيها، ومراقبة إنسان يخشى أن يقود إلى جريمة ، وتقييد السهر بعد موعد من الليل.
ولسنا نقول إن هذا الحكم في قضية نصر بن حجاج، كان حكما لزاما لا محيص عنه، ولا مأخذ عليه، ولكنا نقول إنه حكم فيه تلك الصبغة العمرية التي سميناها «مفتاح شخصيته»، وهي المقصودة بما نكتبه الآن.
وقد كان له في قضائه ذلك الحزم الذي يقطع اللجاجة
12
وينهض بالحجة على كل ذي خلاف كلما اشتجر
13
الخلاف، كتب إليه أبو عبيدة من دمشق أن عمرو بن معد يكرب، وأبا جندل وضرارا وجماعة من علية القوم والوجوه، شربوا الخمر وسئلوا فأجابوا: «إننا خيرنا فاخترنا. قال:
فهل أنتم منتهون
ولم يعزم»،
14
وكأن أبا عبيدة تحرج من عقاب هؤلاء العلية، فرفع أمرهم إلى الخليفة يستفتيه، فلم يلبث البريد أن بلغ المدينة حتى عاد إليه يأمره أن يدعوهم على رءوس الأشهاد، ويسألهم سؤالا لا يزيد عليه ولا ينقص منه: أحلال الخمر أم حرام؟ فإن قالوا: حرام. فليجلدهم، وإن قالوا: حلال. فليضرب أعناقهم، فقالوا: بل حرام، فجلدوا وتابوا. •••
وربما تجمع للرجل كل ما في «طبيعة الجندي» من الخصائص، وبقيت محبوسة فيه لا يدري بها الناس إلا أن يأتي بعمل ينم عليها، فيدين نفسه بطبيعته تلك، ولا يدين غيره، ويكون مطبوعا على أن يطيع، ولا يكون مطبوعا على أن يطاع، وإذا جاءته طاعة المطيعين له، فإنما تجيئه من سلطان النظام، وحكم الشرع، وغلبة العادات؛ لأن الشجاعة مثلا لا تلازم الهيبة في كل حال، فقد يكون الشجاع مهيبا، ويكون غير مهيب أحيانا ممن تقتحمهم الأنظار، ويجترئ عليهم المستخفون.
أما عمر بن الخطاب فقد كانت له «طبيعة الجندي» ظاهرة وباطنة، تبادر القلوب كما تبادر الأنظار، وتلازمه كأنها عضو من أعضائه، فما يجترئ عليه مجترئ إلا أن يطمعه هو، ويسهو عن نفسه لحظة ليغريه بالاجتراء.
وهي في موقف الأمر مخيف من لا يخاف، ويجفل منها من يحتمي بجاه أو كبرياء. شكا إليه رجل من بني مخزوم أبا سفيان لظلمه إياه في حد كان بينهما، فدعا بأبي سفيان والمخزومي وذهبوا إلى المكان الذي تنازعاه، ونظر عمر فعرف صدق الشكوى ونادى بأبي سفيان: خذ يا أبا سفيان هذا الحجر من هنا فضعه هنا، فأبى وتردد، فعلاه بالدرة وهو يقول: خذه فضعه ها هنا، فإنك ما علمت قديم الظلم. فأخذ أبو سفيان الحجر، ووضعه حيث قال، ولو غير عمر أمره هذا الأمر لاستكبر أن يطيع، أو شنها عليه شعواء لا تؤمن جريرتها.
كان
15
يوما في مجلس عمر وزياد بن سمية
16
يتكلم، وهو يومئذ شاب، فأحسن - كعادته - في مجال الخطابة والمشورة، فأعجب به عمر، وهتف به: لله هذا الغلام! لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه.
وكان علي بن أبي طالب إلى جانب أبي سفيان، فمال إليه هذا، وهمس في أذنه كلاما، فحواه أنه يعرف من أبو ذلك الغلام من قريش. قال علي: فمن؟ قال: أنا. قال: فما يمنعك من استلحاقه؟ فهمس له: أخاف هذا الجالس أن يخرق علي إهابي.
17
وخليق بمثل هذا الرجل ألا يكون له شعار غير شعار الجند حيث كانوا: الأمر هو الأمر، والطاعة هي الطاعة.
وخليق بالناس أن يفهموا ذلك عنه بغير بيان، لا سيما إذا فهموا قبل ذلك أنه متى وجبت الطاعة، كان هو أول من يطيع. ذلك هو الجندي المطبوع.
جندي من جنود الله في معترك الحق والإيمان. وإذا استوفينا المثل إلى أقصاه، فالقانون المطاع هو القرآن، والقائد الأعلى هو النبي الذي يوحى إليه، وليس أحد بعد ذلك أكبر من أن يطيع. يأمر الله فالطاعة واجب لا هوادة فيه، ويأمر القائد الأعلى فقد يراجعه من دونه، ويرتفعان معا إلى القانون؛ لأن الطاعة لا تمنع المراجعة والمشاورة، ولكنها تمنع التمرد على القائد الأعلى، وإنكار سلطانه حينما استقر على قرار، فإن رجع القائد عن أمره فحسن، والمراجعة إذن خير لا ضرر فيه، وإذا مضى في أمره فلا خلاف إذن فيما يجب، فالذي يجب إذن واحد، وهو أن يطاع. كذلك راجع عمر النبي في مسائل شتى، فأخذ النبي برأيه في بعض هذه المسائل وخالفه في بعضها، فلم تكن طاعته فيما خولف فيه أقل ولا أضعف مما وفق عليه.
وكذلك راجع الخليفة أبا بكر في كبريات المسائل وصغارها، فكان أبو بكر يثوب إلى رأيه
18
كثيرا، ويصر على ما بدا له إذا رأى الحسنى في الإصرار، فيطيع عمر أمره بعد ذلك، كأنه لم يكن خلاف.
وإذا امتنعت المراجعة فليس الرجل عند ذلك بواهن عن احتمال التبعة، وتصريف الرأي، والاضطلاع بأعباء الموقف كيف كان.
اشتد المرض بالنبي - عليه السلام - فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. قال عمر: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا.
عندنا كتاب الله حسبنا.
عندنا القانون الأعلى.
أما القائد الأعلى فهو في مرضه بحال لا تستحب معها المراجعة، وهو مع ذلك لم يصر على أمره، ولم يعاود طلب الورق للكتابة، وإنما قال حين كثر اللغط بين الصحابة: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع. ثم عاش عليه السلام أياما ولم يذكر الكتاب.
فالرجل يطيع إذا استقام الأمر، واستقرت التبعة.
وكان يراجع إذا اتسع مجال المراجعة.
فإن لم يكن هذا ولا ذاك، فهو ضليع بالتبعة التي توجبها عليه نفسه، وقمين أن يذهب إليها ولا ينكل عنها.
وتلك سنة جرى عليها عمر عن علم وقصد، ولم يجر عليها عن بداهة وإلهام وكفى، وأشار إليها في كلامه غير مرة، فقال في خطبة من خطبه ما فحواه: ... كنت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكنت عبده وخادمه وجلوازه،
19
وكان كما قال الله تعالى:
بالمؤمنين رءوف رحيم . وكنت بين يديه كالسيف المسلول، إلا أن يغمدني أو ينهاني عن أمر فأكف عنه، وإلا أقدمت على الناس لما كان أمره.
فهو جلواز النبي، وسيفه المسلول، كما وصف نفسه.
وهو على أقوم مثال للجندي الفاضل العليم بموقع الطاعة، وموقع المراجعة، وموقع المشاورة، وهو مع التبعة حيث لا مهرب منها، وتلك هي الجندية في صورتها المثلى.
وما نحسبه كان يراجع ويشاور إلا لغرض واحد، وهو الوصول إلى الأمر الذي يحمل التبعة فيه.
فإذا أعفى نفسه من التبعة بمراجعة رؤسائه، وأعفى نفسه من التبعة بمشاورة مرءوسيه، فقد عرف كيف ينبغي أن يطيع، وعرف كيف ينبغي أن يطاع، وعرف ما يتوق كل جندي أن يعرفه، حين يؤمر وحين يأمر، وهو توضيح ما يطلب منه، وما يطلب من غيره، وتقرير مكان التبعات حين تقسم التبعات.
ولقد كانت له مخالفات، ليست من قبيل المراجعة ولا المشاورة التي تعمل فيها الروية عملها، أو تختلف مذاهب الآراء فيها.
كانت هذه أيضا من مخالفات «الجندي» التي يندفع إليها كلما غلبته الحماسة، وثارت به الحمية.
فلما كان يوم أحد، جاء أبو سفيان ينادي على مسمع من المسلمين: أفيكم محمد؟ فقال رسول الله: لا تجيبوه!
فعاد ينادي مرتين: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه!
فسأل ثلاثا: أفيكم ابن أبي قحافة؟
20
فسكتوا ...
ثم سأل: أفيكم ابن الخطاب؟ وكررها ثلاثا، فلما لم يسمع جوابا، قال لقومه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم.
21
كثير على عمر أن يحتوي صبره في هذا الموقف أكثر مما احتواه، فما قالها أبو سفيان حتى صاح من مكانه: «كفرت يا عدو الله، ها هو ذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر وأنا أحياء! ولك منا يوم سوء.»
هذه مخالفة لا مراجعة فيها ولا مشاورة.
لكنها من مخالفات الجند، ولهم ولا شك مخالفات، كما لهم طاعات. •••
نعم كانت لهم مخالفاتهم وطاعاتهم، وكانت لهم كذلك فكاهاتهم وأهواؤهم التي هي أخص من سائر الفكاهات والأهواء.
فكانت تعجبه الفكاهة التي توحي إليه معنى مضحكا فيه صراحة وخشونة، ومنها الفكاهة التي نسميها اليوم «بالنكات العملية».
فرغ رسول الله يوما من بيعة الرجال، وأخذ في بيعة النساء، فاجتمع إليه نساء من قريش فيهن هند بنت عتبة متنقبة
22
متنكرة، لما كان من صنيعها بحمزة
23 - رضي الله عنه - فهي تخاف أن يأخذها رسول الله بصنيعها، فلما دنون منه ليبايعنه قال عليه السلام: تبايعنني على ألا تشركن بالله شيئا.
قالت هند: والله إنك لتأخذ أمرا ما تأخذه على الرجال، وسنؤتيكه.
قال: ولا تسرقن.
قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة
24
والهنة، وما أدري أكان ذلك حلالا لي أم لا.
قال أبو سفيان - وكان شاهدا: أما ما أصبت فيما مضى، فأنت منه في حل.
فقال رسول الله: وإنك لهند بنت عتبة!
قالت: أنا هند بنت عتبة، فاعف عما سلف، عفا الله عنك.
فمضى رسول الله في أخذ البيعة وعاد يقول: ولا تزنين.
قالت: يا رسول الله، هل تزني الحرة؟
قال: ولا تقتلن أولادكن.
قالت: قد ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا، فأنت وهم أعلم. فضحك عمر بن الخطاب حتى استغرب،
25
وكان قليل الإغراب في الضحك، فإن استغرب ضاحكا بين حين وحين؛ فإنما يضحكه مثل هذه الفكاهة.
وعلى هذا النحو فكاهته مع خادمه أسلم وابنه عاصم: دخل عليهما، وهما يغنيان غناء يشبه الحداء، فوقف يستمع ويستعيد، وشجعهما إصغاؤه واستعادته، فسألاه: أينا أحسن صنعة؟ قال: مثلكما كمثل حماري العبادي. سئل: أيهما شر؟ فقال هذا ثم هذا.
ومن فكاهته القوية تلك المزحة المرعبة التي أطار بها لب الحطيئة ليكف عن هجاء الناس، فدعا بكرسي وجلس عليه، ودعا بالحطيئة فأجلسه بين يديه، ودعا بأشفى - أي مثقب وشفرة - يوهمه أن سيقطع لسانه، فضج الحطيئة وتشفع الحاضرون فيه، ولم يطلقه حتى أخذ عليه عهدا لا يهجون أحدا بعدها، واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، فما هجا أحدا بعدها وعمر بقيد الحياة.
تلك أمثلة من فكاهته الخشنة التي تعهد في طبيعة الجند، وهي فكاهة لا يطمع منه في غيرها.
وشاءت الجاهلية أن تورطه في بعض أهوائها، فكان هواه منها معاقرة الخمر، يحبها ويكثر منها. وقد نرى أنه هو قريب من مزاج الجند غير نادر فيهم؛ إذ الخمر توافق ما فيهم من سورة طبع، وتشغلهم عن الخطر، أو تعينهم عليه، وتصاحبها في كثير من الأحيان ضجة يألفونها.
وقد أحب ضجة الدفوف، وهي في سياق هذا الهوى، وظل يحبها بعد إسلامه وخلافته، وإن كرهها في غير الأعراس. فسمع ضوضاء في دار فسأل: ما هذا؟ قيل له: عرس! فقال: هلا حركوا غرابيلهم؛ أي الدفوف!
على أنه كان يحب الغناء جملة ويطيل الإصغاء إليه ما لم يشغله عن مهم من أمر دينه أو سياسته، فسمع صوت حاد وهم منطلقون إلى مكة في جوف الليل، فما زال يوضع راحلته
26
حتى دخل بين القوم يسمع إلى مطلع الفجر، ثم قال للقوم: إيه! قد طلع الفجر، اذكروا الله. •••
فطبيعة الجندي في الفاروق تامة متكاملة بأصولها وفروعها، ويندر أن تتم طبيعة شاملة في رجل واحد، إلا أن يكون كعمر في أصالة الطبع وصراحته وخلوصه واتساقه، فلا يخذل منه جزء جزءا، ولا تقبل منه وجهة حيث تدبر أخرى، وحينئذ لا عجب أن تنم له طبيعة واحدة بالغة ما بلغت من تعدد العناصر والألوان والشيات، كما أنه لا عجب أن يشبه الولد أباه؛ لأنه أصيل صريح النسب، بالغا ما بلغ التعدد في مشابه الأخلاق والجوارح والأعمال.
ولهذه الطبيعة أثرها في أمور لا تمت إليها على ظاهرها، كأثرها في تحريم رق العربي، وفي إخلاء الجزيرة من غير العرب، فهي شنشنة الغيور على الحوزة، الموكل بحماية الذمار.
27
ولها أثرها في سياسته مع الأمم حيث يأمر الجند بتصديق كلمة الشرف، والبر بالوعد، ولو كان إشارة باليد، أو نبأة من صوت، فقد أوجب على قادته وجنوده إذا نزلوا بلاد الأعاجم فبدرت منهم إشارة أو نبأة يحسبونها عهدا أن ينجزوا هذا العهد، ولا ينكصوا فيه، ولو أتيح لهم أن يتعللوا بجهل اللغة، وغرابة العادات والمصطلحات.
وإنك على الجملة لا تعرض عملا من أعمال الفاروق العامة والخاصة على هذه الطبيعة، إلا وجدت له قرارا فيها، ووجدت عليه صبغة منها.
فهي لا ريب أقرب مفتاح لهذه الشخصية العظيمة، وبها تتميز خصائصه التي لا يشترك فيها أناس مطبوعون على غيرها، وإن كانوا عظماء أقوياء.
وقد أسلفنا الإشارة إلى الإيمان القوي وقلنا إنه ضابط لأخلاقه وسوراته، وليس بمفتاح يكشفها، ويفتح مغالقها؛ لأن الإيمان القوي نفسه يحتاج في فهمه وتمييزه إلى المفتاح الذي يفرق بين ضروب الإيمان عند الأقوياء، وليست القوة كلها - كما لا يخفى - معدنا واحدا في البواعث والمظاهر والآثار.
وهكذا كان إيمان عمر في سلوك دنياه وسلوك دينه، كان إيمان الطبيعة الجندية في حالتها المثلى.
ففي سلوك دنياه كان يعيش أبدا عيشة المجاهد في الميدان؛ فآثر الشظف، وقنع منها بأقل ما يكفيه ولا غنى عنه.
وفي سلوك دينه كان موقفه بين يدي الله أبدا كموقف الجندي الذي يعلم أنه لا يلقى مولاه إلا ليؤدي الحساب على الكثير والقليل، فإن تجئه المسامحة جاءت عفوا، لا ينسيه تحضير الحساب.
وكان معتمدا على الغيب موصولا بالقدر، يركن إليه كأنه يراه بعينيه. ومن دأب كل طبيعة تستحضر الموت أن تنظر إلى الغيب، وتستطلع طلعه
28
وتنتظر منه الحماية والهداية.
فاشتهر عن كثير من كبار القادة أنهم يؤمنون لهم بنجم سعد يلحظهم، أو بغاية أجل لا يعجلون عنها، أو بإلهام يهديهم إلى النجاة، ويرون أماراته وعلاماته في الرؤى والهواتف، وكلمات الفأل والبشارة.
وكان عمر يتفاءل بالأسماء، وينظر في الرؤى والمنامات، ويروى عنه في روايات متواترة أنه أنبئ بموته في منام، وأنه رأى كأن ديكا ينقره نقرتين، وفسروا له الديك برجل من العجم يطعنه طعنتين.
وروى محارب بن دثار عنه أنه سأل رجلا: من أنت؟ فقال: قاضي دمشق. قال: كيف تقضي؟ قال: أقضي بكتاب الله. فسأله: وإذا جاءك ما ليس في كتاب الله؟ فأجابه: أقضي إذن بسنة رسول الله. فسأله ثانية: وإذا جاءك ما ليس في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد برأيي وأؤامر جلسائي. فاستحسن قوله وأوصاه إذا جلس للحكم أن يدعو الله قائلا: «إني أسألك أن أفتي بعلم، وأن أقضي بحلم، وأسألك العدل في الغضب والرضا.»
ثم رجع القاضي بعد فترة فسأله عمر: ما أرجعك؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان، مع كل واحد منهما جنود من الكواكب. فسأله: مع أيهما كنت؟
فقال: مع القمر!
فتأمل قليلا ثم ذكر قوله تعالى:
وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار . ثم قال: لا تلي لي عملا.
29
هذه رواية من روايات كثيرة عن المنامات ونظره فيها، لا ندري مبلغها من الصحة في تفصيلاتها، ولكنها كلها تدل على الغرض الذي قصدنا إليه، وهو استهداء الغيب من طريق الرؤى والعلامات، إلى جانب الإيمان القوي لا يسهو عن عالم الغيب طرفة عين.
ومن الحق أن نضيف هنا أن الإيمان القوي ليس بمستغرب في الطبيعة الجندية، بل ربما كانت طبيعة الجهاد أقرب شيء إلى طبيعة الإيمان.
وأن نضيف هنا استدراكا آخر، لعله أدعى إلى البحث من القول في الجهاد والإيمان، وذلك أن العدل لا يناقض طبيعة الجند عامة، وأن طبيعة الجند لا تستلزم العدوان في كل محارب، ولا سيما المحارب نضحا
30
عن دين ووفقا لشريعة.
فالعدل يفتقر إلى شجاعة وشرف، وهما خصلتان مطلوبتان في الجندي المطبوع، فأما الشجاعة في الرجل العادل فتحميه أن يحابي الأقوياء وهو جبن، وأما الشرف فيحميه أن يجور على الضعيف وهو خسة، ولا تناقض بين هذه الخصال.
إنما المحارب المعتدي هو الذي «يحارب لحسابه» كما يقولون، أو يحارب لنفسه مرضاة لطمعه، وذهابا مع نزواته، ومن هذا الطراز الإسكندر وتيمور ونابليون.
أما المحارب الذي تقيده إرادة غير إرادته، ويحكمه قانون غير هواه، فالحرب من مثله واجب يلام على تركه، وليست بجريمة يلام على اقترافها.
وقد يرى هؤلاء أن أشرف الجهاد جهاد النفس والهوى، قبل جهاد الخصوم والأقران، كما رأى عمر بن الخطاب.
ومصداق ذلك ظاهر في كل قائد تدعوه إلى الحرب إرادة إله، أو إرادة أمة، أو إرادة ضمير له قانون. فطبيعة الجندي في هؤلاء لا تناقض العدل، إلا كما تناقضه طبيعة الفيلسوف، أو طبيعة الفن، أو طبيعة التصرف في شئون المعاش، ولا تناقض بينه وبين واحدة منها، أو هي جميعا في هذه الخصلة سواء.
هؤلاء لا يحاربون إلا مكرهين، وإذا حاربوا لم يحاربوا لبغي ولا لتنكيل، ولو كان في ميدان القتال، وسنتهم هي سنة عمر حين حذر المجاهدين أن يعتدوا؛ لأن الله لا يحب المعتدين، ثم قال: «لا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور،
31
ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا، ونزهوا الجهاد عن عرض الدنيا، وأبشروا بالإرباح
32
في البيع الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم.»
وذلك هو الجندي في حالته المثلى.
وذلك هو المفتاح الصادق الذي لا نعلم مفتاحا أصدق منه لخلائق هذا الجندي العادل الكريم.
الفصل الخامس
إسلامه
يجوز أن نبحث عن سبب واحد للعمل الذي يعمله الرجل اليوم وينساه غدا، أو يكرره كل يوم ولا يلتفت إلى عقباه، أو يلتفت إلى عقباه ولا يتوقع لها أثرا يغير في مجرى حياته؛ فسبب واحد لعمل من هذه الأعمال كاف، ولا حاجة بعده إلى استقصاء.
لكن العمل الذي تتحول به حياة الإنسان تحولا حاسما لن يرجع إلى سبب واحد، ولن نستغني في تفسيره عن عدة أسباب، بعضها حديث وبعضها قديم، ومنها الظاهر الطيع والخفي المستعصي، وقد يجهل صاحبها بعض هذه الأسباب، وينسى المهم منها، ويتعلق بالهين القريب.
فالرجل الذي يغير موطنه أو معيشته أو زيه لا يفعل ذلك عفو الساعة، ولا تلبية لاقتراح يوحى إليه في مجلس فراغ، وقد يتوهم هو أنه سمع الاقتراح فلباه، وأنه لم يكن ليلبيه لولا ما سمع في تلك اللحظة العارضة، فهجر أهله، وترك موطنه، وغير صناعته من أجل كلمة، وإنك سائله ساعتئذ: «إنك قد هجرت أهلك، وتركت موطنك، وغيرت معيشتك لأنك لبيت اقتراحا، فهل تعلم لم لبيت الاقتراح؟» فإذا سألته ذلك السؤال رددته إلى نفسه، فعلم أن الأسباب الصحيحة وراء ذلك، وأنه لم يتحول لأنه سمع الاقتراح المزعوم، بل سمع الاقتراح ولباه لأنه كان قبل ذلك مستعدا للتحول، ماضيا في طريقه. ولو سمعه مائة معه لم يكونوا مستعدين مثله، لما عملوا به، ولا التفتوا إليه.
وأين تغيير المعيشة والموطن والزي من تغيير العقيدة الدينية؟ إننا إذا استصغرنا السبب الواحد في تفسير تلك التغييرات، فهو لا مراء أصغر من ذلك جدا في تفسير التحول الحاسم إلى دين جديد.
لأن الإنسان إذا غير معيشته فإنما يغير صناعة، وإذا غير موطنه فإنما يغير بلدا، وإذا غير زيه، فإنما يغير سمتا
1
يقوم على كساء، ولكنه إذا غير عقيدته الدينية فقد غير كونه، واستبدل به كونا آخر، وقد غير ماضيه وماضي أهله، وغير حاضره وحاضر أهله، وغير مصيره في الدنيا ومصيره بعد الموت، وغير آراءه ومقاييسه فيما يأخذ، وفيما يدع من أمور الحياة، وعلاقات الناس، ومنها مآلف وأواصر ومحاب ومكاره متوشجات الأصول إلى ما وراء الآباء والأجداد.
فسبب واحد لا يغير هذا كله دفعة واحدة.
ولا بد لتمام هذا التغيير من أسباب سابقة مهيئة، وأسباب موقوتة هي أظهر تلك الأسباب، وقد تكون أضعفها وأقلها تفسيرا لذلك الحدث العظيم في العالم، وهل يتغير الإنسان هكذا إلا وقد أحاط بالعالم - في نظره - حدث عظيم؟
ونحن قد أشرنا - فيما تقدم - إلى ندم عمر لشكاية المرأتين اللتين عارضهما في الإسلام، وإلى ما كان لندمه من كسر حدته، واستلال ضغنه، وترويض عناده، والتقريب بينه وبين الخشوع الديني، والهداية الإسلامية، فهل نقف عند هذا الندم وكفى؟ وهل انتهينا به إلى حيث يستقر الوقوف؟
ومما لا شك فيه أن عمر كان مقتربا من الإسلام يوم رثى لأم عبد الله بنت حنتمة، وتركها تنطلق إلى الهجرة وهو يدعو لها بالسلامة، وكانت هي على صواب حين طمعت في إسلامه ورجالها يائسون منه، فقد سألها عامر بن ربيعة مستغربا مستبعدا: كأنك قد طمعت في إسلام عمر؟ قالت: نعم. قال: إنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب!
ولكن الرجل أخطأ، وصدقت المرأة، إذ ليس أسرع من المرأة أن تلمح جانب الرقة وجانب الغضب من قلب الرجل في خطفة عين، أليست حياتها كلها من قديم الزمن منوطة بذلك الغضب، كيف تتلطف في تحويله؟ وبتلك الرقة كيف تتلطف في ابتعاثها من مكمنها، وهل تحجبها عنها القوة وهي ما نفذت إلى نفس الرجل قط إلا من وراء القوة؟
فعمر كان مقتربا من الإسلام يوم رثى للمرأة المهاجرة، ودعا لها بصحبة الله، وكان على تمام الإسلام يوم رأى الدم على وجه أخته، ورأى زوجها منطرحا لا يقوى على دفاع.
ولكنه - كما قلنا - سبب من أسباب، أو أنه هو السبب العارض الذي يومئ
2
إلى السبب العميق: سبب عارض هو الأسف لشكاية الضعيف، وسبب عميق هو الرحمة التي تجمل بذي نخوة كريم. وليس الإنسان كله ندما ورحمة، وإن طال ندمه وطالت رحمته، فليس كل ما احتوى رحمته بمحتويه إلى زمن طويل.
وقد تعددت الروايات في إسلام عمر، واختلف بعض هذه الروايات في اللفظ، واتفق في المغزى، وجعل أناس ينظرون فيها كأنما الصحيح منها لا يكون إلا رواية واحدة وسائرها باطل لا يشتمل على حقيقة، فلم لا تكون صحاحا كلها؟ ولم لا تكون أسبابا متعددات في أوقات مختلفات؟ فمن المستطاع المعقول أن نسقط منها قليلا من الحشو هنا، ثم نخلص منها إلى جملة أسباب لا تعارض بينها في الجواهر، وقد يعزز بعضها بعضا في نسق السيرة وفي لباب النتيجة.
روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: «كنت للإسلام مباعدا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش، فخرجت أريد جلسائي أولئك، فلم أجد منهم أحدا، فقلت: لو أنني جئت فلانا الخمار! وخرجت فجئت فلم أجده، قلت: لو أنني جئت الكعبة، فطفت بها سبعا أو سبعين! فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة فإذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، واتخذ مكانه بين الركنين: الركن الأسود والركن اليماني. فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حين أسمع ما يقول! وقام بنفسي أنني لو دنوت أسمع منه لأروعنه،
3
فجئت من قبل الحجر،
4
فدخلت تحت ثيابها ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعت القرآن رق له قلبي؛ فبكيت ودخلني الإسلام.»
وروى ابن إسحاق في سبب إسلامه كما نقلنا عنه في كتابنا «عبقرية محمد»: أن عمر خرج يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ورهطا من أصحابه، قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين بين رجال ونساء، ومع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين رضي الله عنهم، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ
5
الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله. فقال نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك
6
وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما.
قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب في مخدع لهم، أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما. فلما دخل قال: ما هذه الهينمة
7
التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئا! قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه. وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته: نعم، قد أسلمنا، وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، فارعوى، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد ... وقرأ سورة طه، فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب، خرج إليه فقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر! فقال له عند ذلك عمر: دلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم. فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه. فأخذ عمر سيفه، فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، فضرب عليهم الباب، وقام رجل من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فنظر من خلل
8
الباب، فرآه متوشحا بالسيف، فرجع إلى رسول الله وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف. فقال حمزة بن عبد المطلب: نأذن له، فإن كان يريد خيرا بذلناه له، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه. فقال رسول الله: ائذن له. ونهض إليه حتى لقيه بالحجرة فأخذ بحجزته
9
أو بمجمع ردائه، ثم جبذه جبذة
10
شديدة، وقال: ما جاء بك يا بن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة!
11
فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأؤمن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله.
هاتان الروايتان هما أجمع الروايات للأسباب «المباشرة» التي قربت بين عمر والإسلام، وتتفرع منهما روايات منوعة يزيد بعضها تارة أن عمر قد أوفد لقتل النبي من قبل قريش، ويزيد بعضها تارة أخرى آيات من القرآن الكريم قرأها عمر في بيت أخته غير الآيات التي تقدمت الإشارة إليها في سورة طه، وأشبهها بالتصديق أنه لما اطلع على الصحيفة قرأ فيها اسم «الرحمن الرحيم» فذعر وألقاها، ثم رجع إلى نفسه فتناولها، وجعل كلما مر باسم من أسماء الله ذعر، فلما بلغ
وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين
قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وهذه على اختلافها روايات متقاربة يبدو لنا أنها قصة واحدة شطرت شطرين وزيدت عليها الحواشي والأطراف، فاختلفت في ألفاظها ومواعيدها، واتفقت في جوهرها ومدلولها؛ لأنها تمس نفس عمر من الناحية التي هي أشبه أن تهديه إلى طريق جديد.
وهي - كما أسلفنا - تجمع لنا الأسباب «المباشرة» التي اقترنت بإسلام عمر، ولا تغنينا عن الأسباب الأخرى التي هي أساس هذه الأسباب ومرجعها، ولأجلها كان خليقا أن تأخذه بلاغة القرآن، وأن تميل به الرحمة إلى الإيمان.
فقد كان مهيأ للإسلام لا محالة، وكانت مجافاته للإسلام خليقة أن تنتهي بعد قليل، وألا تطول إلا ريثما تعن المناسبة للشهادة باللسان بعد التهيؤ بالفطرة والضمير.
فلم يكن بين عمر والإسلام في بداية الأمر إلا باب واحد للعداء.
وكل ما عدا ذلك من الأبواب فقد كان مفتوحا بينه وبين هذا الدين الجديد، ما هو إلا أن يراه بالعين حتى يندفع فيه.
كان باب العداء بينه وبين الإسلام أنه رجل قوي غيور عزيز في قومه، فإذا رجل يخرج عليهم فيفرق - كما قال - أمر قريش، ويسفه أحلامها، ويعيب دينها ويسب آلهتها، فلا جرم يثور ويغضب وينقم، ولا عجب أن يذود عن ذماره، ويرحض
12
المعابة عن شرف آبائه، ويرى أنه غير عاد ولا باغ، وأن البغي والعدوان إنما يجيئان من قبل ذلك الرجل الخارج على قومه، حتى يتبين له بالحق الذي يصدع له أن الذي هو فيه هو البغي والعدوان.
ذلك باب العداء الوحيد الذي كان بين عمر والإسلام، وهو باب لا يطول مدخله في نفس طبعت على العدل والإنصاف.
فما من سبب يصل بين الجاهلي الشريف وهذا الدين الجديد إلا كان موصولا بنفس عمر أوثق صلة، وما علمنا من سبب للإسلام إلا كانت له عقدة في نفس عمر وثيقة القرار.
فربما أسلم أناس لأنهم أخذوا ببلاغة القرآن، وأسلم أناس كرهوا المنكر الذي كان يشيع في الجاهلية، أو لأنهم ورثوا النزعة الدينية والخلائق المستقيمة، أو لأنهم جبلوا على روحانية تصل بينهم وبين عالم الغيب وحظيرة الأسرار، أو لأنهم قد عرضت لهم عارضة موقوتة، حركت ما فيهم من كوامن تلك الأسباب.
وكل أولئك كان عمر على استعداد له عظيم.
وكل أولئك لم يكن عمر فيه بالوسط المكرر، بل كان فيه العلم المترفع المضيء بين الأعلام.
كان عمر بليغا حسن النقد للبلاغة، هواه منها الصدق والطبع وجمال التفصيل، فكان يطرب لقول زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو نفار أو جلاء
13
ويقول كلما أنشده معجبا: ما أحسن ما قسم! وسماه شاعر الشعراء؛ لأنه لا يعاظل
14
بين القوافي ولا يتبع حوشي الكلام.
وربما قضى الليلة ينشد شعره حتى يبرق الفجر، فيقول لجليسه: «الآن اقرأ يا عبد الله.»
وجاءه يوما بعض آل هرم بن سنان ممدوح زهير، فقال عمر: أما وإن زهيرا كان يقول فيكم فيحسن. فقيل له: كذلك كنا نعطيه فنجزل . فعاد عمر يقول: ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم.
وجاءه وفد من غطفان فسألهم من الذي يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب
قالوا: نابغة بني ذبيان. فسألهم: ومن الذي يقول:
أتيتك عاريا خلقا ثيابي
على وجل تظن بي الظنون
15
فألفيت الأمانة لم تخنها
كذلك كان نوح لا يخون
قالوا: هو النابغة. فقال: هو أشعر شعرائكم.
وطالما أعجب بقول عبدة بن الطبيب:
والمرء ساع لأمر ليس يدركه
والعيش شح وإشفاق وتأميل
وينشده فيقول: على هذا بنيت الدنيا.
وندر بين أئمة الدين من غاص في أدب قومه غوصه، ووعى من أشعارهم وطرفهم مثل ما وعاه. قال الأصمعي: «ما قطع عمر أمرا إلا تمثل فيه ببيت من الشعر.» ونحن نرجع إلى الشعر الذي تمثل به فنراه في أحسن موقع وأصدق شاهد، ونلمح من قليل أخباره في خلوته أن الأدب كان جانبا من جوانبه التي ترق فيها حاشيته، ويأنس فيها إلى قلبه، ويرجع فيها إلى فطرته. جاء عبد الرحمن بن عوف إلى بابه، فوجده مستلقيا على مزحفة له، وإحدى رجليه على الأخرى وهو ينشد بصوت عال:
وكيف ثوائي
16
بالمدينة بعدما
قضى وطرا منها جميل بن معمر؟!
فلما دخل عبد الرحمن وجلس قال له: يا أبا محمد، إنا إذا خلونا قلنا كما يقول الناس.
ولم يقصر إعجابه بالشعراء على الذين وافقوا المواعظ والسنن الدينية، بل نظر في فنهم وفاضل بينهم في بلاغتهم، ففضل امرأ القيس لأنه «سابقهم، خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معان عور أصح بصر.»
17
ونوادره مع الشعراء والرواة كثيرة، تدل على شغفه بالبلاغة الصادقة، وحفظه لأجمل ما يحفظ بين أهل عصره، كما تدل على ذلك خطبه ورسائله وشواهده وأمثاله.
وقد يصح أنه نظم الشعر أو لا يصح، فقد نسبت إليه أبيات وأنكر هو أنه شاعر؛ حيث يقول: لو نظمت الشعر لقلته في رثاء أخي. ولكن الصحيح أنه كان يحب الشعر البليغ، ويرويه، ويوصي بروايته، وأنه نشأ في قوم يحبون مثل ما أحب، ويعجبون بمثل ما أعجبه، ومنهم أبوه الذي نظم الشعر في أكثر من مناسبة، وروى عنه أنه قال لما توعده أبو عمرو بن أمية:
أيوعدني أبو عمرو ودوني
رجال لا ينهنهها الوعيد
18
ربيع المعدمين وكل جار
إذا نزلت بهم سنة كئود
19
هم الرأس المقدم من قريش
وعند بيوتهم تلقى الوفود
فكيف أخاف أو أخشى عدوا
ونصرهم إذا أدعو عتيد
فلست بعادل عنهم سواهم
طوال الدهر ما اختلف الجديد
20
إلى آخر ما نسب إليه.
فأقرب شيء إلى الواقع - وإلى المتوقع - أن يؤخذ ببلاغة القرآن رجل نشأ هذه النشأة، وأحب الكلام البليغ هذا الحب، وأن يخشع لآياته، ويعجب لتفصيله، فيفتح من قلبه مسالك الإصغاء.
وكان عمر مستقيم الطبع مفطورا على الإنصاف، فلم يكن رجل مثله ليستريح إلى فساد الجاهلية، أو يخفى عليه فسادها، إذا نبه إليه وهدي إلى ما هو خير منه.
وكانت النزعة الدينية وراثة في أسرته على ما يظهر من مبادرة أخته فاطمة وابن عمه سعيد بن زيد إلى الإسلام، وكان له قبل الإسلام رجل من عمومته يقدح في الوثنية، ويبحث عن الحق في النصرانية واليهودية، ويبتلي أهله بالخلاف، ويبتلونه بالإيذاء والحبس والإرهاق، ونعني به زيد بن عمرو بن نفيل.
وعمر نفسه، ألم يقل لنا إنه يئس ليلة من السمر ومن الخمر، فذهب يطوف بالبيت، كأن طواف البيت شهوة من شهوات قلبه، تنوب عنه مناب المحبوب من الشهوات؟ ألم يكن في الجاهلية ينذر أن يعتكف ليلة من كل أسبوع؟ بل لعل صلابة الخطاب أبيه لم تكن في صميمها شيئا مناقضا لعنصر الدين والإيمان، فإذا هؤلاء الصلاب الشداد في المحافظة على العرف هم أولئك المؤمنون المتزمتون
21
الذين لا يطيقون المساس بعقائدهم إذا آمنوا بدين.
وزاد عمر على الوراثة الدينية أنه كان صاحب فراسة وزكانة،
22
وكان يستطلع الرؤى والمنامات، ويتصل بالغيب، ويبصر على البعد كما سلف في حديث سارية حين ناداه: يا سارية الجبل! يا سارية الجبل! وبينهما مسيرة أيام.
وكانت العوارض تمر به فتعطفه إلى الإسلام تارة من طريق الرحمة، وتارة من طريق العدل والنخوة، فيخشع ويندم ، ويراجع عناده وكبرياءه؛ إذ ليس أبغض إلى الرجل الأبي المنصف من أن يحارب أناسا لا يحاربونه، ويلج في إيذاء قوم لا يقدرون على أذاه.
فإذا تفتحت هذه الأبواب جميعا بين عمر والإسلام، فباب واحد موصد لن يحجبه طويلا عن هذا الدين، ولن يحجب هذا الدين طويلا عنه.
وقد تفتحت في يوم من الأيام.
تفتحت كلها فدخلها دخول العاصفة من جميع الأبواب، وأسلم الجاهلي الشريف، كما كان ينبغي أن يسلم، وكما كان يقينا سيسلم في مناسبة من المناسبات.
فإذا العالم الإنساني قد تفتحت فيه صفحة جديدة: صفحة يقرأ فيها القارئ قبل كل شيء ماذا يصنع الإسلام بالنفوس، ويعلم منها قبل كل علم أن هذا الدين كان قدرة بانية منشئة من لدن المقادير التي تسيطر على هذا الوجود، كان قدرة تلابس الضعيف فيقوى، وتلابس القوي فتنمي قوته، وتجري به في وجهته، وكان يدا خالقة حاذقة تأخذ الحجارة المبعثرة في التيه، فإذا هي صرح له أساس وأركان، وفيه مأوى للضمائر والأذهان. جاهلي كسبه الإسلام فكسبه العالم الإنساني كله إلى آخر الزمان ... ونفس ضائعة ردت إلى صاحبها فعرف منها ما كان ينكر، واطلع منها على ما كان يجهل، ونفع بها أمته، وأمما لا تحصى، وصنع بها الإسلام أعظم وأفخم ما تصنعه قدرة بناء وإنشاء، حيثما كانت قدرة بناء وإنشاء.
ونظرت الأمم فرأت كيف تعلو النفس الإنسانية حتى يحار فيها الإنسان وهو ريشة في مهب النوازع والأشجان.
23
رأت كيف يصبح العدل والحق طبيعة حياة، وكيف يصبح مخلوق من اللحم والدم، وكأنه لا يأكل طعامه ولا يروي ظمأه إلا ليعدل ويعرف الحق، وكأنه لا يصحو ولا ينام إلا ليعدل ويعرف الحق، وكأنه لا يتنفس الهواء إلا ليمتنع الظلم عن الناس وتدول دولة الباطل بين الناس، وكأنما العدل والحق دين عليه يطالبه به ألف غريم، وهو وحده أقوى في المطالبة بهما من ألف غريم.
لقد كان هذا الرجل المجيد يبغض أن يظلم غيره أشد من بغضه أن يظلمه غيره، وهذه منزلة في الأنفة لا تطاولها المنازل؛ لأنها منزلة الأبطال الذين يسمون على أنفسهم، ولهم أنفس أسمى من عامة الأبطال.
وإننا لنعلم كم حز في قلبه الكريم أن يضرب بريئا على دين الحق كلما رجعنا إلى أيامه الأولى بعد الإسلام، وهي أيام لا تنسى في تاريخ البطولة والأبطال.
فما شغله أمر بعد إعلان الدين إلا أن يخرج ليضربه أناس كما كان يضرب أناسا في سبيل ذلك الدين.
ثار إلى الناس يضربونه ويضربهم، فقال خاله يسأل: ما هذه الجماعة؟ قيل له: إن ابن الخطاب قد صبأ، فقام على الحجر فنادى: ألا إنني قد أجرت
24
ابن أختي. فانكشف الناس عنه. فكان لا يزال يرى مسلما يضرب ولا يضربه أحد، وثقل عليه ألا يصيبه ما يصيب المسلمين، فذهب إلى خاله، وقد اجتمع الناس في الحجر وناداه: اسمع! جوارك مردود عليك.
25
قال خاله وهو به وبما يستهدف له أدرى: لا تفعل يا بن أختي. فأصر على رد جواره، وطاب له بعد ذلك أنه اقتص من نفسه للأبرياء الذين ضربهم وهو يجهل دينهم، فلا تمضي تلك الضربات بغير قصاص، وإن كفر عنها بالتوبة وإعزاز الدين الذي آذاهم من أجله.
وأبى من اللحظة الأولى إلا أن يواجه الخطر الأكبر في سبيل دينه، وإلا أن يقبض على الثور من قرنيه، كما يقول الغربيون في أمثالهم، وأن يتحدى قريشا بحقه مذ آمن بأنهم على باطل، فسأل أناسا: أي أهل مكة أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحي، فذهب إليه فصرح له بإسلامه، ولم يكذب الرجل الظن به، فما هو إلا أن سمعها حتى خرج وعمر وراءه إلى أندية قريش حول الكعبة، يصرخ بأعلى صوته على باب المسجد: يا معشر قريش، ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ. وعمر يقول من خلفه: كذب! ولكني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ثم تنشب المعركة بين هذا الرجل المفرد وبينهم، فيثب على أدناهم منه وأجرئهم عليه عتبة بن ربيعة فيصرعه، ويبرك عليه يضربه، ويدخل أصبعيه في عينيه لأنهما عمياوان عن الحق لا يبصران النور، ويتكاثرون عليه فلا يدنو منهم أحد «إلا أخذ شريف من دنا منه» حتى أحجموا عنه، وركدت الشمس، وفتر من طول الصراع، فجلس وهم قائمون على رأسه يثلبونه،
26
وهو يقول لهم: «افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا أو تركناها لكم.» افعلوا ما بدا لكم! وهذا ما أراد؛ فما يستريح وجدانه الحي أن يضرب مسلما لإسلامه، ولم يضرب كافرا لكفره، وما يشعر أنه وفى لله دينه وقد ضرب ولم يضرب، وآذى أناسا ولم يؤذه أحد، وما تهدأ حاسة العدل فيه، وقد كانت كأنها من حواس بدنه، إلا أن يحس القصاص في نفسه، كما أحس المضروبون بالأمس عدوانه في أنفسهم.
وراح يسأل النبي: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا أو حيينا؟ فقال عليه السلام: بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق إن متم وإن حييتم. قال: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن!
فما لبث النبي أن خرج في صفين، أحدهما فيه عمر والآخر فيه حمزة، ولهما كديد كأنه كديد
27
الطحين، فدخلوا المسجد وقريش تنظر وتعلوها كآبة، فلا يجرؤ سليط
28
منها ولا حكيم أن يقترب من صفين فيهما هذان، وسماه النبي يومئذ الفاروق.
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه: «ما علمت أن أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهما، واختصر عنزته
29
ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف في البيت سبعا متمكنا، ثم أتى المقام فصلى، ثم وقف على الحلق
30
واحدة واحدة يقول لهم: شاهت الوجوه!
31
لا يرغم الله إلا هذه المعاطس!
32
من أراد أن يثكل أمه، أو يوتم ولده، أو يرمل زوجته؛
33
فليلقني وراء هذا الوادي.»
لقد كان له في تحديه هذا لقريش عدتان: شجاعته وعدله، فما كانت شجاعته في هذا التحدي بأظهر من عدله، ولا كان عدله فيه بأظهر من شجاعته؛ إذ الشجاع الحق مطبوع على الأنفة من الظلم؛ لأنه شديد الإحساس بذله، ومن كان شديد الإحساس بذل الظلم، فهو شديد الإحساس بعزة العدل من طريق واحد، وقلما أغضب العادل الشجاع شيء كاستطالة الظالم وظنه أن المظلوم لا يستطيل عليه، فذلك هو التحدي الذي يثير الشجاعة، ويثير النقمة على الظلم، أو يثير حب العدل في وقت واحد، وإن الموت لأهون من الصبر على هذا التحدي المرذول، وهذا الصلف القبيح. وما الشجاعة إن لم تكن هي الجرأة على الموت كلما وجب الاجتراء عليه؟ وأي امرئ أولى بالجرأة من الشجاع الذي يعلم أن الحق بين يديه؟ ألسنا على الحق إن حيينا وإن متنا؟ فعلى الحق إذن فلنمت، ولا نعيش على الباطن، فالباطل كريه والجبن كريه، وذانك ملتقى العدل والشجاعة في قلب العادل الشجاع.
ونهج عمر طريقه في الإسلام كما نهج طريقه إلى الإسلام، كلاهما طريق صراحة وقوة لا يطيق اللف والتنطع، ولا يحفل بغير الجد الذي لا عبث فيه، فلا وهن ولا رياء، ولا حذلقة ولا ادعاء، وما شئت بعد ذلك من إسلام صريح قويم فهو إسلام عمر بن الخطاب.
قال في بعض عظاته: «لا تنظروا إلى صيام أحد، ولا إلى صلاته، ولكن انظروا من إذا حدث صدق، وإذا ائتمن أدى، وإذا أشفى - أي هم بالمعصية - ورع.»
وقال في هذا المعنى: «لا يعجبنكم من الرجل طنطنته، ولكن، من أدى الأمانة إلى من ائتمنه، وسلم الناس من يده ولسانه.»
وقال في عمل الدنيا والآخرة: «ليس خيركم من عمل للآخرة وترك الدنيا، أو عمل للدنيا وترك الآخرة، ولكن خيركم من أخذ من هذه ومن هذه، وإنما الحرج في الرغبة فيما تجاوز قدر الحاجة، وزاد على حد الكفاية.»
ولم يكن أبغض إليه ممن يتوانى ليقال إنه متوكل على الله، أو يتراءى بالضعف ليقال إنه ناسك، أو يفرط
34
في العبادة ليقال إنه زاهد في الدنيا.
فكان يقول: «إن المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض ويتوكل على الله.» و«لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق، ويقول اللهم ارزقني. وقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وأن الله تعالى يرزق الناس بعضهم من بعض.»
وكان يضرب من يتماوت ويستكين ليظهر التخشع في الدين، فنظر إلى رجل مظهر للنسك متماوت، فخفقه بالدرة وقال: «لا تمت علينا ديننا أماتك الله.» وأشاروا له إلى رجل يصوم الدهر، فضربه وهو يقول له: «كل يا دهر! كل يا دهر!» ينهاه عن الصوم الذي يعوقه عن معاشه، ولا يوجبه عليه الدين.
وكان كلما رأى شابا منكسا رأسه صاح به: «ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر للناس نفاقا إلى نفاق.»
وإنما كان يعجبه «الشباب الناسك نظيف الثوب طيب الرائحة»، ويرى المسلمين بخير ما علموا أبناءهم الرمي والعوم والفروسية، «فأنتم بخير - كما قال - ما نزوتم
35
على ظهور الخيل.»
دين الرجل القوي الشجاع الذي ينتصر بدينه في ميدان الحياة، وليس بدين الواهن المهزوم الذي تركته الدنيا، فأوهم نفسه أنه هو تاركها ليقبل على الآخرة.
وكانت شجاعته في دينه أندر الشجاعات في النفوس الآدمية؛ لأنها الشجاعة التي يواجه بها تهمة الجبن، وهو أرذل من الموت عند الرجل الشجاع. فإن كثيرا من الناس ليعدلون عن الصواب الذي يظهرهم بمظهر الخوف ليقال إنهم شجعان، وإنهم في عدولهم عنه لمن الجبناء المستعبدين للثناء، ولم يكن عمر يعدل عن صواب فهمه، ولو قيل في شجاعته ما قيل، وتلك أشجع الشجاعات.
فشا طاعون عمواس وعمر في طريقه إلى الشام، فلقيه أبو عبيدة وأصحابه عند تبوك، وأخبروه خبر الطاعون، فاستشار المهاجرين والأنصار، فاختلفوا بين ناصح بالمضي وناصح بالقفول: ناصح بالمضي في طريقه يقول إنه خرج لأمر، ولا يرى له أن يرجع عنه، وناصح بالقفول يقول إنه اصطحب «بقية الناس وأصحاب رسول الله، ولا يرى أن يقدمهم على وباء.» ثم دعا مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فلم يختلف عليه رجلان، وأشاروا جميعا بالرجوع. فقال أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟ قال عمر: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان
36
إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟! وما رام
37
مكانه حتى جاءه عبد الرحمن بن عوف، فحسم الخلاف برأي النبي في الخروج من أرض الطاعون والقدوم إليها؛ حيث قال عليه السلام: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها.»
فكان إيمانه بصيرا لا يهجم به على عمياء، ولا يستسلم فيه استسلام العجزة، وهو قادر على الحيطة والأخذ بالأسباب، وكانت نصيحته العامة للمسلمين في أمر الطاعون كرأيه الخاص في أمر نفسه وصحبه، فأمرهم بالاستنقاذ ما وجدوا له سبيلا، وكتب إلى أبي عبيدة: «إنك قد أنزلت الناس أرضا غمقة - أي وخيمة - فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة.»
38
وهو أحوط ما يحتاط به أمير عالم في هذه الأيام. •••
كذلك لم يكن يؤمن بشيء ينفع أو يضر غير ما عرفت أسباب نفعه وضرره، فكان ينظر إلى الحجر الأسود فيقول كلما استلمه:
39 «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقبلك ما قبلتك.»
وسمع أن الناس يأتون الشجرة التي بايع رسول الله تحتها بيعة الرضوان، فيصلون عندها ويتبركون بها، فأوعدهم
40
وأمر بها أن تقطع، مخافة أن تسري إلى الإسلام من هذه المناسك وأشباهها لوثة
41
من الوثنية والتوكل على الجماد. •••
وربما التبس الأمر من نوادر عمر في التقشف واجتناب المتع والمناعم، فحسبت فرائض يوجبها، ويجري فيها على طريقة أولئك النساك المتخشعين الذين كان ينهاهم أن يميتوا الدين، ويهزأ بهم كلما تنطعوا وأوجبوا ما لا يجب على المؤمنين.
فلا يلتبسن الأمر هذا الملتبس، فهو واضح بين التفرقة من سيرته ومن الأحاديث التي صحبت تلك النوادر، ففسرتها ودلت على الغرض منها. فعمر كان مسلما، وكان خليفة للمسلمين، وفرق بين محاسبة المسلم نفسه وهو مسئول عنها دون غيرها، وبين محاسبة الخليفة نفسه حتى يقع الشك في عمله، وينزه يده وأيدي أهله عما ليس لهم بحق من سلطان الحكم أو المال، ثم يفي لذكرى صاحبه الذي خلفه على المسلمين، فلا يعيش في مكانه خيرا من عيشته، ولا يمنح نفسه وذويه ما لم يمنحه النبي لآله وذويه.
وعمر الذي كان يقنع بالخشن الغليظ من المأكل والملبس، ويأبى أن يذوق في المجاعة مطعما، لا يسع جميع المسلمين، إنما هو الخليفة الذي يحاسب نفسه قبل أن تحاسبه الرعية، وقد وجد منهم من لامه لأنه طرح كساءه وفيه فضل ملبس. فاتقاء هذا الحساب وما وراءه من حساب الله، هو الذي توخاه خليفة النبي في معيشته ومعيشة أهله، مما يشبه تقشف النساك.
وعلى هذا كله كان أعلم الناس أن الطيبات حلال، وأن النهي عن الحلال تنطع في الدين يأباه الإسلام.
كتب إليه أبو عبيدة أنه لا يريد الإقامة بأنطاكية لطيب هوائها ووفرة خيراتها مخافة أن يخلد الجند إلى الراحة، فلا ينتفع بهم بعدها في قتال، فأنكر عليه ذلك وأجابه: «إن الله - عز وجل - لم يحرم الطيبات على المتقين الذين يعملون الصالحات، فقال تعالى في كتابه العزيز:
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم .
وكان يجب عليك أن تريح المسلمين من تعبهم، وتدعهم يرغدون في مطعمهم، ويريحون الأبدان النصبة
42
في قتال من كفر بالله.»
وحدث حذيفة بن اليمان أنه أقبل على الناس وبين أيديهم القصاع، فدعاه عمر إلى الطعام وعنده خبز غليظ وزيت! فقال حذيفة: أمنعتني أن آكل الخبر واللحم ودعوتني على هذا؟ قال: إنما دعوتك على طعامي، فأما ذاك فطعام المسلمين.
فللمسلمين حل ما شاءوا من الطعام، أما الرجل الذي ينفق من بيت المال فله ما يكفيه. والحرج كل الحرج عليه - وهو في عدل عمر وحزمه وجلده - أن يأخذ منه ما لا حاجة به إليه، وإنه ليزداد حرجا على ما فيه من قناعة أن يكون من أصحاب رسول الله، ويعلم كيف كان رسول الله يأكل في بيته، وماذا كان يجد من الملبس له ولأهله، ثم يصيب من هذا أو ذاك خيرا مما أصاب الرسول.
وللولاة عنده مثل ما للمسلمين عامة من حق المتعة السائغة، والنعمة التي ترضاها الرجولة، لا يأخذهم بمحاكاته ؛ لأنهم يتولون الأمر كما تولاه، بل ربما لامهم على التقتير كما كان يلومهم على الإسراف.
أنكر على عامله في اليمن حللا مشهرة، ودهونا معطرة، فعاد إليه العام الذي يليه أشعث مغبرا عليه أطلاس،
43
فقال: لا، ولا كل هذا، إن عاملنا ليس بالشعث
44
ولا العافي،
45
كلوا واشربوا وادهنوا، إنكم ستعلمون الذي أكره من أمركم.
ومن تمام العلم بإسلام عمر، أن نعلم فضل إسلامه مع من لم يكن من أهل الإسلام، فإن الحق الذي يتبعه الرجل مع أهل دينه وحدهم لحق محدود يدخل في باب السياسة القومية أكثر من دخوله في باب الفضيلة الإنسانية، وإنما يصبح حقا جديرا باسم الحق حين يتبعه الرجل مع أهل دينه ومع الخارجين عليه.
وعمر كان - ولا ريب - أشد المسلمين في إسلامه.
فلو كان الإسلام ظالما بطبيعته لمن لم يدخلوا فيه، لكان عمر أشد المسلمين ظلما لهم وقسوة عليهم، لكنه كان في الواقع أشد المسلمين رعاية لعهدهم مذ كان أشد المسلمين غيرة على دينه وعملا بأدبه.
فكان شأنه مع من حاربوه شأن المحارب الشريف، ولن ينتظر محارب من محارب إلى آخر الزمان معاملة أقوم ولا أصدق من معاملة عمر لمحاربيه.
وكان شأنه مع من صالحوه وعاهدوه أن يفي بعهدهم، ويخلص في الوفاء به إخلاص من يطالب نفسه به قبل أن يطالبوه، ومن يراقب نفسه فيه قبل أن يراقبوه.
كتب للنصارى في بيت المقدس أمانا على أنفسهم وأولادهم ونسائهم وأموالهم وجميع كنائسهم؛ لا تهدم ولا تسكن. وحان وقت الصلاة وهو جالس في صحن كنيسة القيامة، فخرج وصلى خارج الكنيسة على الدرجة التي على بابها بمفرده، وقال للبطرك: لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون من بعدي، وقالوا: هنا صلى عمر! ثم كتب كتابا يوصي به المسلمين ألا يصلي أحد منهم على الدرجة إلا واحدا واحدا غير مجتمعين للصلاة فيها ولا مؤذنين عليها.
وكذلك كان يفعل في كل موضع صلى فيه من الكنائس التي عاهد النصارى على تركها وتحريم هدمها وسكناها.
أما عهده لهم فقد كان مثالا من السماحة والمروءة ، لا يطمع فيه طامع من أهل حضارة من حضارات التاريخ كائنة ما كانت.
فكتب لهم العهد الذي قال فيه: «... هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها: إنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقض منها، ولا من خيرها، ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وأن يخرجوا منها الروم واللصوت،
46
فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم
47
حتى يبلغوا مأمنهم.»
وليس لذي عهد من ظافر أن يطمع في أمان أكرم من هذا الأمان.
وإنه قد كان يعطيهم عليه وعلى قومه هذه العهود، ثم لا يقنع بها حتى يشفعها بالوصاة للولاة أن يمنعوا المسلمين من ظلم أهل الذمة، وأن يوفي لهم بعهدهم، وينضح
48
عنهم، ولا يكلفوا فوق طاقتهم. كتب بذلك إلى أبي عبيدة، كما كتب إلى غيره من الولاة، وأوصى به في وصيته قبل أن يموت.
وما شكا إليه مظلوم - من أهل الذمة - واليا كبر أو صغر إلا أنصفه منه. بعث زياد بن حدير الأسدي على عشور
49
العراق والشام، فمر عليه تغلبي نصراني معه فرس قوموها بعشرين ألفا، فخيره أن ينزل عن الفرس ويأخذ تسعة عشر ألفا، أو يمسكها ويعطي الألف ضريبة، فأعطاه التغلبي ألفا وأمسك فرسه. ثم مر عليه راجعا في سنته فطالبه بضريبة أخرى، فأبى وشكاه إلى عمر وقص عليه قصته، فما زاد على أن قال له: كفيت! ثم رجع التغلبي إلى زياد وقد وطن نفسه على أنه يعطيه ألفا أخرى، فوجد عمر قد كتب إليه: من مر عليك فأخذت منه صدقة فلا تأخذ منه شيئا إلى مثل ذلك اليوم من قابل.
50
وسمع أن بني تغلب لا يزالون ينازعون واليهم الوليد بن عقبة وينازعهم، وأنهم أوغروا صدره، فقال فيهم يتوعدهم:
إذا ما عصبت الرأس مني بمشوذ
51
فغيك مني تغلب ابنة وائل
فخشي أن يضيق بهم صبره فيسطو عليهم، فعزله وأمر غيره.
ولعل حاكما من الحكام لا يرام منه أن يبلغ في البر بمخالفيه في الدين مبلغا أكرم وأرفق من إجراء الصدقة على فقرائهم، ولا سيما الحاكم الذي يدعو إلى دين جديد.
وقد تقدم أن عمر أجرى الصدقة على شيخ يهودي مكفوف البصر، وقال: ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم.
وقد جعل ذلك سنة فيمن يبلغه أمرهم من الذميين والمعوزين، فمر في أرض دمشق بقوم مجذمين
52
من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجري عليهم القوت.
وإذا أحصيت له في سيرته الطويلة أوامر وخطا تحرم الذميين بعض الحريات، أو بعض الحقوق، فكن على يقين أنه قد صدر في ذلك جميعه عن حكمة توجبها سياسة الدولة، ويقرها العقل والعرف، كما يقرها الدين والكتاب، ولم يصدر فيه قط عن حيف مقصود، أو عن رغبة في حرمان الذميين حرية يستحقونها، أو حقا هم أحرار فيه.
ولعل الذي يحصى له من هذه الأوامر والخطط، لا يعدو النهي عن استخدام بعض الذميين، ومنعم أن يتشبهوا في الأزياء والمظاهر بالمسلمين، وإجلاء بعضهم عن الجزيرة العربية في إبان الفتوح، والحذر من الكيد والتجسس والانتقاض.
فأما نهيه عن استخدام بعض الذميين فارجع إلى ما قاله في ذلك تعلم أنه منع استخدامهم لمصلحة العدل، وكراهة الظلم والمحاباة، فقال: «إني نهيتكم عن استعمال أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا.»
53
وطلب يوما من أبي موسى رجلا ينظر في حساب الحكومة، فأتاه بنصراني، فقال: إني سألتك رجلا أشركه في أمانتي فأتيت بمن يخالف دينه ديني. وقلما نهى عن استعمال اليهود والنصارى إلا ذكر بعدها: إنهم أهل رشا، ولا تحل في دين الله الرشا.
وكان له عبد من أهل الكتاب يقال له أسبق، فعرض عليه أن يسلم حتى يستعين به على بعض أمور المسلمين فأبى، فأعتقه وأطلقه وقال له: اذهب حيث شئت! فلم يكن نهيه عن استخدام أهل الكتاب في مهام الدولة إلا إيثارا للعدل وكراهة للرشوة والزيغ في الحكومة، وما نظن أحدا ينكر أن استخدام الغرباء عن الدولة خليق أن يحاط بمثل هذا الحذر، وأن يجتنب فيه مثل هذه الآفة؛ إذ يكثر بين المرتزقة الذين يخدمون دولة من الدول، وهم غرباء عنها، كارهون لمجدها وسلطانها، أن ينظروا إلى منفعتهم قبل أن ينظروا إلى منفعتها، وأن يساوموا على نفوذهم قبل أن يستحضروا الغيرة على سمعتها، والرغبة في خيرها وخير أهلها، ولا سيما في زمن كانت الدولة تميز بالعقائد قبل أن تميز بالأوطان.
وما من أمة في عهدنا هذا تبيح الوظائف العامة إلا بقيود وفروق متفق عليها: أولها تحريمها على الأجانب، ما لم تكن في استخدامهم منفعة عامة.
وهذه هي سياسة عمر في مسألة الوظائف القومية، بغير إعنات للدولة ولا إعنات للرعية، وكفى باتقاء الإعنات أن العبد المملوك يخير في الوظيفة والإسلام فيأبى، فلا يصيبه من ذلك ضيم، ويطلق له زمامه يفعل ما يشاء.
أما نهيه عن تشبه الذميين بالمسلمين، وكراهته أن يبدلوا أزياءهم التي ولدوا عليها، فلا يلام عليه حتى نعلم لم كان أناس من الذميين يودون التشبه بالمسلمين في الزي والشارة! أكانوا يتشبهون بهم حبا لدينهم، فهم إذن مسلمون لا يمنعهم مانع أن يجهروا بالإسلام، أم يتشبهون بهم كيدا لهم ورغبة في التسلل بينهم والإفلات من عهودهم والتزاماتهم، وما توجبه الدولة عليهم في تلك العهود والالتزامات؟
إن كانوا يفعلونه لهذا، فلا لوم على عمر أن يأباه، وبخاصة في الزمن الذي كان المسلمون فيه جميعا في حكم الجنود، وما من دولة ترضى أن تبيح أزياء جنودها لمن يشاء.
وأما إخراج بعض الذميين من الجزيرة، فما خرج منهم أحد إلا وقد غدر بذمته، وكرر الغدر مرة بعد مرة، كما صنع أهل خيبر.
ومنهم من أجلي عن الجزيرة لأنه طلب الجلاء فضلا عن نقضه العهد، كما فعل أهل نجران.
فقد صالحهم النبي على أن يبقوا في مساكنهم، ولا يأكلوا الربا، ولا يتعاملوا به، وجاء أبو بكر فجدد الصلح على ذلك، ثم استخلف عمر، فرجعوا إلى الربا وأفرطوا فيه، وكانوا قد بلغوا أربعين ألفا فتحاسدوا بينهم، وأتوا عمر يسألونه إجلاءهم، فاستحب هذا الجلاء.
على أنه لم يكن يأبى على التجار المأمونين أن يدخلوا الجزيرة، ويؤدوا العشور. فلما كتب إليه المشركون من أهل منبج أن «دعنا ندخل أرضك تجارا وتعشرنا»،
54
شاور أصحاب النبي فأشاروا عليه بقبولهم، فدعاهم إليه.
ولا يفوتنا في هذا الصدد أمران مقترنان بخطة الإجلاء التي لجأ إليها عمر، وأيقن بصوابها وضرورتها؛ فأول الأمرين: أن الجزيرة حرم الإسلام الذي كان يحيط به أعداؤه، ويتربصون به الدوائر، ويثيرون الفتنة على أطرافه، كما صنع الفرس بالعراق، والروم بالشام، ولا أمان على حرم يسكنه أناس فيهم من يغدر بأهله، بل فيهم من هؤلاء كثيرون.
وثاني الأمرين: أن عمر قد سوى بين الإسلام والنصرانية في هذه الخطة، فحفظ حرم النصرانية ببيت المقدس للمسيحيين، لا يسكنه معهم من لا يقبلونه، كما حفظ حرم الإسلام بالجزيرة العربية للمسلمين، لا يسكنه معهم من يحذرون غدره.
وقد أجمل العوض حين ألجأته ضرورة الدولة إلى اتخاذ هذه الخطة، فاشترى بيوت أهل نجران وعقاراتهم، وأقطعهم النجرانية عند الكوفة، وكتب لهم وصاة قال فيها: «... هذا ما كتب به عمر أمير المؤمنين لأهل نجران: من سار منهم آمن بأمان الله لا يضره أحد من المسلمين، ومن مروا به من أمراء الشام وأمراء العراق، فليوسعهم من حرث الأرض، فما اعتملوا
55
من ذلك فهو لهم صدقة لوجه الله، ومن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من ظلمهم، فإنهم أقوام لهم الذمة وجزيتهم عنهم متروكة أربعة وعشرين شهرا بعد أن يقدموا، ولا يكلفوا - إلا من صنعهم - البر، غير مظلومين ولا معتدى عليهم.»
ولم يفارق عمر الدنيا حتى أوصى الخليفة الذي يختار بعده بالذميين كافة «أن يوفي بعهدهم، ولا يكلفوا فوق طاقتهم، وأن يقاتل من ورائهم.»
56
ودون هذا بالمراحل الشاسعة يقف عدل الدول القدامى والمحدثات، في كل ما اتخذت من حيطة حربية، أو حماية قومية، أو معاهدة بينها وبين أمة أجنبية، وإن عذرها لدون عذر عمر في خططه، وإن أسبابها لدون أسبابه في الإقناع. •••
كان مسلما شديدا في إسلامه، فلم تكن شدته في إسلامه خطرا على الناس، بل كانت ضمانا لهم ألا يخافه مسلم ولا ذمي ولا مشرك في غير حدود الكتاب والسنة.
وكان جاهليا فأسلم، فأصبح إسلامه طورا من أطوار التاريخ. ولو لم يكن الإسلام قدرة بانية منشئة في التاريخ الإنساني، لما كان إسلام رجل طورا من أطواره الكبار. •••
وكان هذا الرجل يحب ويكره، كما يحب الناس ويكرهون، ولكن لا ينفعك عنده أن يحبك، ولا يضيرك عنده أن يكرهك إذا وجب الحق ووضح القضاء، قال يوما لأبي مريم السلولي قاتل أخيه: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح! فقال له أبو مريم: أتمنعني لذلك حقا؟ قال: لا. قال: لا ضير! إنما يأسى على الحب النساء.
وحسبك من إسلام يحمي الرجل من خليفة يبغضه وهو قادر عليه، فذلك المسلم الشديد في دينه، والذي يشتد فيأمنه العدو والصديق.
الفصل السادس
عمر والدولة الإسلامية
تأسست الدولة الإسلامية في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - لأنه وطد العقيدة، وسير البعوث، فشرع السنة الصالحة في توطيد العقيدة بين العرب بما صنعه في حرب الردة، وشرع السنة الصالحة في تأمين الدولة من أعدائها بتسيير البعوث، وفتح الفتوح، فكان له السبق على خلفاء الإسلام في هذين العملين الجليلين.
إلا أننا نسمي عمر مؤسسا للدولة الإسلامية بمعنى آخر غير معنى السبق في أعمال الخلافة؛ لأننا - أولا - لا نجد مكانا في التاريخ أليق به من مكان المؤسسين للدول العظام.
ولأننا من جهة أخرى لا نربط بين التأسيس وولاية الخلافة في إقامة دولة كالدولة الإسلامية؛ إذ الشأن الأول فيها للعقيدة التي تقوم عليها، وليس للتوسع في الغزوات والفتوح، وعمر كان على نحو من الأنحاء مؤسسا لدولة الإسلام قبل ولايته الخلافة بسنين، بل كان مؤسسا لها منذ أسلم ، فجهر بدعوة الإسلام وأذانه، وأعزها بهيبته وعنفوانه.
وكان مؤسسا لها يوم بسط يده إلى أبي بكر فبايعه بالخلافة، وحسم الفتنة التي أوشكت أن تعصف بأركانها، وكان مؤسسا لها يوم أشار على أبي بكر بجمع القرآن الكريم، وهو في الدولة الإسلامية دستور الدساتير، ودعامة الدعائم، ولم يزل يراجع أبا بكر في ذلك حتى استدعى زيد بن ثابت كاتب الوحي، فأمره أن يتتبع آي القرآن ليجمعها من الرقاع والأكتاف والعسب
1
وصدور الرجال، فكان ذلك أول الشروع في جمع الكتاب.
هذا إلى أن أبا بكر - رضي الله عنه - أسس ولم يتسع له الأجل حتى يفرغ من عمله، وجاء عمر بعده فأتم عمله وأقام الأساس، ثم أقام عليه البناء، وكانت قدرته على التأسيس هي آية الآيات فيه وفي ذلك العصر من البداوة البادية؛ لأنه التفت إلى مواضعه الخليقة بالاهتمام والتقديم، كأنه راجع تاريخ عشرين دولة مستفيضة الملك، راسخة العمران، وهي قدرة تروعنا وتدهشنا لو شهدناها من ملك تربى على الملك، وسلفه
2
على عرشه سمط
3
من الملوك. وأولى أن تروعنا وتدهشنا من رجل البادية الذي يقدم على أمر جديد لم تعنه فيه السوابق، ولم يهتد فيه إلا بما اختار هو أن يهتدي إليه.
فبعد جمع القرآن لا نعرف عملا يقترن به، ويلازمه، ويعد من أسس الدولة العربية كالعمل على تصحيح اللغة وحفظها من الخلط والفساد، وكلاهما عمل لا يفطن إليه إلا من طبع على سليقة التأسيس، وأخذ بها من أصولها، وكلاهما فطن إليه هذا المؤسس الكبير، على أهون ما يكون من البساطة والسهولة، فأشار بوضع علم النحو، كما أشار بجمع آي القرآن، وكان أثره في تدعيم الدولة الأدبية كأثرة في تدعيم دولة الغزوات والفتوح.
وندر في الدولة الإسلامية نظام لم تكن له أولية فيه، فافتتح تاريخا، واستهل حضارة، وأنشأ حكومة، ورتب لها الدواوين، ونظم فيها أصول القضاء والإدارة، واتخذ لها بيت مال، ووصل بين أجزائها بالبريد، وحمى ثغورها بالمرابطين، وصنع كل شيء في الوقت الذي ينبغي أن يصنع فيه، وعلى الوجه الذي يحسن به الابتداء ، فأوجز ما يقال فيه أنه وضع دستورا لكل شيء، وتركه قائما على أساس لمن شاء أن يبني عليه.
وملاك
4
النظم الحكومية كلها نظام الشورى الذي أقامه عمر على أحسن ما يقام عليه في زمانه، فجمع عنده نخبة الصحابة للمشاورة والاستفتاء، وضن بهم على العمالة في أطراف الدولة، تنزيها لأقدارهم، وانتفاعا برأيهم، واعتزازا بتأييدهم له، ومعاونتهم إياه فيما يتولاه من ثواب أو عقاب.
وجعل موسم الحج موسما عاما للمراجعة والمحاسبة، واستطلاع الآراء في أقطار الدولة من أقصاها إلى أقصاها، يفد فيه الولاة والعمال لعرض حسابهم وأخبار ولايتهم، ويفد فيه أصحاب المظالم والشكايات لبسط ما يشكيهم، ويفد فيه الرقباء الذين كان يبثهم في أنحاء البلاد لمراقبة الولاة والعمال؛ فهي «جمعية عمومية» كأوفى ما تكون الجمعيات العمومية في عصر من العصور.
وكان عمر يستشير جميع هؤلاء ويشير عليهم، ويستمع لهم ويسمعهم، ويتوخى في جميع ذلك تمحيص الرأي، وإبراء الذمة، والخلوص إلى التبعة السليمة من العقابيل.
وإن أضعف الناس رأيا لمن يستضعف فضل الأمير في عمل تولاه لأنه عمله بمشاورة غيره.
فإن باب المشاورة مفتوح لكل إنسان، وليس كل إنسان مع ذلك بالذي يريد أن يستشير، أو الذي يعرف كيف يستشير إذا أراد، أو بالذي يحسن الموازنة بين الآراء إن عرف من يستشيرهم، ومن يقبل مشورتهم في حالة، ويرفضها في حالة أخرى.
إن المشاورة لفن عسير.
وإن الذي ينتفع بمشورة غيره لأقدر ممن يشير عليه.
وقد كان عمر عبقري هذا الفن الذي لا يجارى، وكان من بدعه الملهمة في هذا الفن العسير أنه لم يلتمس الرأي عند أهل الحنكة والخبرة وكفى، بل كان يلتمسه كذلك عند أهل الحدة والنشاط ممن يناقضون أولئك في الشعور والتفكير، فكان كما روى يوسف بن الماجشون: «إذا أعياه الأمر المعضل دعا الأحداث فاستشارهم لحدة عقولهم.» وإنه لإلهام في فن الاستشارة، لا يلهمه إلا صاحب رأي أصيل، فمن الرأي الأصيل أن يخبر
5
الإنسان كيف يستعير آراء المشيرين.
انظر إليه كيف يستشير في اختيار أمير تعلم أن الاستشارة - كما قلنا - فن ، وأنه فن عسير.
قال لأصحابه: دلوني على رجل أستعمله.
فسألوه: ما شرطك فيه؟
قال: «إذا كان في القوم وليس أميرهم، كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم.»
إن الذي يسأل هكذا لهو أقدر من الذي يجيبه بالصواب؛ لأنه قطع له ثلثي الطريق السديد إلى الجواب.
وكان ربما استشار العدو الذي لا يأمنه، كما فعل في سماع رأي الهرمزان في أمر الحرب الفارسية؛ لأنه بصير يطلب نورا، فإن رأى النور استوى لديه أن يحمل له المصباح عدو أو صديق.
ومن اليسير، إذا تعقبنا
6
مشاورات عمر، أن نعلم أنه هو واضع دستور الشورى في الدولة الإسلامية، وأن الشورى التي وضع دستورها هي شورى الرأي الأصيل، يستعين بكل أصيل من الآراء.
وقد وضع لقواده دستور الحرب، أو دستور الزحف من الجزيرة العربية إلى تخوم
7
أعدائها، كأحسن ما يضعه رئيس دولة لقواده وأجناده.
فأرسل المدد إلى العراق وعليه أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وعلمه كيف يستشير مجلس الحرب الذي معه، وكيف يقدم في موقع الإقدام، ويتريث في موضع التريث، وأجمل له ذلك في قوله: «اسمع من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعا بل اتئد، فإنها الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث
8
الذي يعرف الفرصة، ولا يمنعني أن أؤمر سليطا «ابن قيس» إلا سرعته إلى الحرب، والسرعة إلى الحرب - إلا عن بيان - ضياع.» وزاده تبصرة بالحيطة فقال له: «إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية،
9
تقدم على قوم تجرءوا على الشر فعلموه، وتناسوا الخير فجهلوه، فانظر كيف تكون، وأحرز
10
لسانك ولا تفشين سرك، فإن صاحب السر - ما يضبطه - متحصن لا يؤتى من وجه يكره، وإذا لم يضبطه كان بمضيعة.»
فهي المشاورة، ثم أناة في الاجتهاد، إلا أن تجب السرعة ببيان وثقة، فليكن الإسراع. وهذه وصية عمر بن الخطاب الذي يظن به الاندفاع، وينسى من يظن به هذا الظن أنه قوي الاندفاع وقوي الضابط في وقت واحد، وعندما يقترن الاندفاع بضابط فهو مزية وليس بعيب .
وكتب إلى سعد بن أبي وقاص بعد اختياره لحرب فارس، وفي كتابه له قبس من هذا المعنى: «إذا انتهيت إلى القادسية، وهو منزل رغيب خصيب، دونه
11
قناطر وأنهار ممتنعة، فتكون مسالحك
12
على أنقابها
13
ويكون الناس بين الحجر والمدر،
14
على حافات الحجر، وحافات المدر، والجراع
15
بينها، ثم الزم مكانك فلا تبرحه، فإنك إذا أحسوك أنغصتهم، ورموك بجمعهم الذي يأتي على خيلهم ورجلهم، وحدهم وجدهم،
16
فإن أنتم صبرتم لعدوكم، واحتبستم لقتاله، وقويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم، ثم لا يجتمع لكم مثلهم أبدا، إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم، وإن تكن الأخرى
17
كان الحجر في أدباركم، فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم، ثم كنتم عليهم أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن وبها أجهل، حتى يأتي الله بالفتح.»
ثم كتب إليه يستوصفه المنازل التي نزل بها ويسأله: «أين بلغك جمعهم؟ ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم؟ فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم. فصف لنا منازل المسلمين والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأني أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجلية.»
وكتب إلى أبي عبيد وقد ترك حصار حلب يستضعف رأيه في ترك حصارها: «... سرني ما علمت من الفتح، وعلمت من قتل من الشهداء، وأما ما ذكرت من انصرافك عن قلعة حلب إلى النواحي التي قربت من أنطاكية فهذا بئس الرأي! أتترك رجلا ملكت دياره ومدينته، ثم ترحل عنه، وتسمع أهل النواحي والبلاد بأنك ما قدرت عليه؟ فما هذا برأي، يعلو ذكره بما صنع، ويطمع من لم يطمع، فترجع إليك الجيوش وتكاتب ملوكها، فإياك أن تبرح حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. وقد أنفذت إليك كتابي هذا ومعه أهل مشارف
18
اليمن ممن وهب نفسه لله ورسوله، ورغب في الجهاد في سبيل الله، وهم عرب وموال،
19
رجال وفرسان، والمدد يأتيك متواليا إن شاء الله تعالى.»
فكان دستوره في الحرب أن يضع الأسس العامة، ويعهد في تنفيذها إلى ذي خبرة وأمانة، ولا يتخلى عن تبعته العظمى في مصائر الحرب كل التخلي، اعتمادا على القائد وحده؛ إذ ليس القائد بالمسئول الوحيد عن المصير.
فإذا رأى القائد رأيا وخالفه هو في رأيه أعانه بالمدد والمشورة على الأخذ بالرأي الذي دعاه إليه، وأبطل معاذيره بتوضيح الأمر وإعانته عليه.
ولقد كان إلى جانب هذا السهر على الميادين عامة، لا يغل يد القائد فيما يحسن أن تنطلق فيه، فإذا تجاوز الأمر سياسة الحرب العامة من فتح الميادين وفك الحصار وانتظار الهجوم، فمن حق القائد عنده أن يختار لنفسه، ولا ينتظر الرجوع إليه، وأن يجري في إدارة المعركة على الوجه الذي تمليه ضرورة الساعة، ولهذا استشاره أبو عبيدة في دخول الدروب خلف العدو، فكتب إليه: «أنت الشاهد وأنا الغائب، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وأنت بحضرة عدوك، وعيونك يأتونك بالأخبار، فإن رأيت الدخول إلى الدروب صوابا، فابعث إليهم السرايا، وادخل معهم بلادهم، وضيق عليهم مسالكهم، وإن طلبوا إليك الصلح فصالحهم ...»
فهو يضع القواعد العامة للحملة كلها منذ بداءتها.
وهو يختار القائد الضليع بتسيير تلك الحملة.
وهو بعد هذا لا يعفي نفسه من التبعة، ولا يعفي القائد من واجب الرجوع إليه في المواقف الحاسمة، ولا يغل يده فيما هو أدرى به وأقدر على الاختيار فيه، ولا ينسى أن يعينه إذا خالفه في الرأي ليتفق الرأيان المختلفان، فإذا رجع القائد إلى الحصار الذي أزمع أن يتركه، رجع إليه وهو مؤمن بصواب ما يعمل ليستمد من الإيمان بالصواب قوة لن يشعر بها وهو يؤدي عملا يخالف الصواب في تقديره.
وهذه السياسة هي السياسة التي جرى عليها عمر في جميع بعوثه وغزواته وسراياه، وهي السياسة التي لا يستطيع حاكم أن يجري على غيرها في حرب قديمة أو حديثة، وقد جرى عليها فجعلته كاسب النصر، كما يكسبه القائد في الميدان، وجعلت بطل الفرس رستم المشهور في التواريخ والأساطير يقول إن عمر هو هازمه في الميدان، و«أنه هو عمر الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل! أكل عمر كبدي، أحرق الله كبده ...»
وربما أخطأ القائد الذي يختاره، فمسته التبعة من هذا الجانب؛ لأنه هو المسئول عن اختياره، غير أنها لا تمسه من جانب إلا أعفي منها من جانب آخر، أو جوانب عدة، كما حدث في وقعة الجسر التي قتل فيها قائده أبو عبيد المتقدم ذكره، ثم انهزم فيها جيش المسلمين، فهو مسئول عن اختيار هذا القائد، كما يسأل كل رئيس دولة في مثل ذلك، ولكن أعذاره على التحقيق أكبر من أخطائه في كل مسألة من هذا القبيل، وفي هذه المسألة بعينها كان اختياره لأبي عبيد إنصافا له حجته الراجحة فيه؛ لأنه كان أول من أجاب الدعوة إلى القتال، فلم ير من الإنصاف أن يؤخر المتقدم، ويقدم عليه المتخلفين، وقد سوغ الرجل اختياره إياه بانتصاراته الأولى التي رفعت شأنه بين القواد، فلما أخطأ جاءه الخطأ من مخالفة عمر في وصاياه، ومنها وجوب التريث والحذر من عبور الأنهار والجسور، ولم يكن على عمر لوم في تنحيه عن التنبيه والتحذير. •••
وقبل أن يضع دستورا للولاة وضع دستورا لنفسه قوامه أن الحكم محنة
20
للحاكم ومحنة للمحكومين، و«أنه لا يصلح إلا بشدة لا جبرية
21
فيها، ولين لا وهن
22
فيه»، وأن الخليفة مسئول عن ولاته واحدا واحدا في كل كبيرة وصغيرة، ولا يعفيه من اللوم أنه أحسن الاختيار.
قال يوما لمن حوله: «أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما علي؟ قالوا: نعم. قال: لا، حتى أنظر في عمله؛ أعمل بما أمرته أم لا!»
وعهوده على نفسه هي خير العهود التي تؤخذ على ولاة الأمر، وأبينها للحدود القائمة بين الراعي والرعية، وخير ما فيها أنه كان يحث الناس على الاستغناء عن التحاكم إلى الحكام، خلافا لأصحاب الأمر الذين يودون لو فرضوا لأنفسهم حكما في كل شيء، فكان يقول لهم: «أعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضا على أن تحاكموا إلي ...»
وجمع صلاح الأمر
23
في ثلاث: «أداء الأمانة، والأخذ بالقوة، والحكم بما أنزل الله.» وصلاح المال في ثلاث: «أن يؤخذ من حق، ويعطى في حق، ويمنع من باطل.»
وعاهد الناس فقال: «لكم علي ألا أجتني شيئا من خراجكم، ولا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم علي إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله وأسد ثغوركم،
24
ولكم علي ألا ألقيكم في المهالك، ولا أجمركم - أي أحبسكم - في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم.»
ومن أوائل عهوده في بيان الحق الذي يرشح الحاكم لولاية الحكم: «أيها الناس! إني قد وليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدكم استضلاعا بما ينوب من مهم أموركم، ما وليت ذلك منكم.»
فأحق الناس بالحكم أقدرهم على البر والحزم والنهوض بالأعباء، وليس له في غير ذلك حق يرشحه للحكومة.
ومن أوائل خطبه بعد توليه الخلافة: «إن الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم، وأبقاني فيكم بعد صاحبي، فلا والله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو
25
فيه عن أهل الصدق والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم.»
فهو يعاهدهم أن يلي الأمر بنفسه في كل ما حضره، وألا يعهد فيه إلى غيره إلا إذا غاب عنه، ثم لا يكون وكلاؤه فيه إلا من أهل الصدق والأمانة، ثم هو لا يدعهم وشأنهم بعد ذلك، بل يراقبهم ويتتبع أعمالهم فيحسن إلى من أحسن، وينكل بمن أساء.
وقد كان يقول، ويعني ما يقول، ويعمل بما يقول.
وصارح القوم فيما لا يحصى من الخطب والأحاديث أن له عليهم حق الطاعة فيما أمر الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن لهم عليه حق النصيحة ولو آذوه فيها. ومن ذلك الرواية المشهورة التي سأل الناس فيها أن يدلوه على عوجه، فقال له أحدهم: «والله لو علمنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا.» فحمد الله أن جعل في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بسيفه.
ولم يكن يبيح من مال المسلمين أجرا لعمله، إلا ما يقيم أوده
26
وأود أهله عند الحاجة إليه، فإن رزقه الله ما يغنيه عن بيت المال، كف يده عنه: «... ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، تقرم
27
البهيمة الأعرابية: القضم لا الخضم.» أي كما تأكل ماشية البادية قضما بأطراف أسنانها لا مضغا وطحنا بأضراسها.
ولما سئل عما يحل للخليفة من مال الله، قال: «إنه لا يحل لعمر من مال الله إلا حلتان: حلة للشتاء وحلة للصيف، وما أحج به وأعتمر
28
وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد رجل من المسلمين.»
وقد كان أسخى من ذاك في تقديره لأرزاق الولاة والعمال، فقدر لعمار بن ياسر حين ولاه الكوفة ستمائة درهم في الشهر له ولمساعديه، يزاد عليها عطاؤه الذي يوزع عليه كما توزع الأعطية على أمثاله، ونصف شاة ونصف جريب
29
من الدقيق.
وقدر لعبد الله بن مسعود مائة درهم وربع شاة لتعليمه الناس في الكوفة، وقيامه على بيت المال فيها، ولعثمان بن حنيف مائة وخمسين درهما وربع شاة في اليوم، مع عطائه السنوي وهو خمسة آلاف درهم، وهكذا على حسب الولايات والنفقات.
وكان يحظر على الولاة مظاهر الخيلاء والأبهة التي تبعد ما بينهم وبين الرعية، ولكنه ينظر في أعذارهم فيقبلها أو يغضي عنها، ما توقف صلاح الولاية على ذلك.
قدم إلى الشام راكبا على حمار، فتلقاه عامله معاوية بن أبي سفيان في موكب عظيم، فلما رآه معاوية نزل وسلم عليه بالخلافة، فمضى في سبيله ولم يرد عليه سلامه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل يا أمير المؤمنين، فلو كلمته! فالتفت إذ ذاك إلى معاوية وسأله: إنك لصاحب الموكب الذي أرى؟
قال: نعم!
قال: مع شدة احتجابك ووقوف ذوي الحاجات ببابك؟
قال: نعم.
قال: ولم؟ ويحك!
قال: لأننا ببلاد كثر فيها جواسيس العدو، فإن لم نتخذ العدة والعدد استخف بنا، وهجم علينا، وأما الحجاب فإننا نخاف من البذلة
30
جرأة الرعية، وأنا بعد عاملك، فإن استنقصتني نقصت، وإن استزدتني زدت، وإن استوقفتني وقفت!
فقال عمر: ما سألتك عن شيء إلا خرجت منه. إن كنت صادقا فإنه رأي لبيب، وإن كنت كاذبا فإنها خدعة أريب،
31
لا آمرك ولا أنهاك.
أما دستور الولاة عنده فأساسه أن الولاية تمييز بالواجب والكفاءة، وليست تمييزا بالوجاهة والاستعلاء، فكان يقول للوالي: «افتح لهم بابك وباشر أمورهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم، غير أن الله جعلك أثقلهم حملا.»
وشغله كل الشغل أن تخضع الرعية لواليها، رغبة في حكمه، واطمئنانا إلى عدله، فكان يقول للوالي: «اعتبر منزلتك عند الله بمنزلتك من الناس.» ويقول للرعية: «إني لم أبعث إليكم الولاة ليضربوا أبشاركم،
32
ويأخذوا أموالكم، ولكن ليعلموكم ويخدموكم.»
وتستوي عنده رغبة الرعية من المسلمين، ورغبة الرعية من غيرهم. فلما رأى أقواما ذميين ينقضون العهد، ويثورون على الدولة، طلب من صلحاء البصرة وفدا فيهم الأحنف بن قيس، وهو مصدق عنده، فسأله: «إنك عندي مصدق، وقد رأيتك رجلا، فأخبرني: ألمظلمة
33
نفر أهل الذمة أم لغير ذلك؟»
فقال الأحنف: «لا، بل لغير مظلمة، والناس على ما تحب.»
فهدأ باله وقال: «فنعم إذن!
34
انصرفوا إلى رحالكم.»
وربما ذهب في إرضاء الرعية مذهبا لم يحلم به الغلاة من المطالبين بحقوق الشعوب في هذه العصور.
فكان من قواده وولاته سعد بن أبي وقاص، قائده المظفر في حروب فارس، وقريب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والرجل الذي جعله عمر واحدا من ستة يستشارون بعده في أمر الخلافة، فثارت به طائفة من أتباعه وشكته إلى عمر وجيوش الفرس تتجمع للغزو والثأر، فلم يشغله ذلك عن تحري الأمر من مصادره، وإيفاد من يبحث عن حقيقة الشكوى بين أهلها فبعث بوكيله على العمال محمد بن مسلمة يسأل عن سعد وسيرته في الرعية، وكلما سأل عنه جماعة أثنوا عليه، إلا من شكوه، فقد أحجم فريق منهم لم يمدحوه ولم يذموه، وقال فريق منهم: «إنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يغزو في السرية.»
فعاد محمد بن مسلمة إلى المدينة وسعد معه، وأعاد عمر سؤاله فلم تثبت له من أمره ريبة، إلا أنه اتقى الفتنة والخطوب منذرة، فعزله وقال لشاكيه: «إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم لهذا الأمر، وقد استعد لكم من استعد، وايم الله لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم وإن نزل بكم.» وقال لسعد يومئذ مبرئا له من تهمة خصومه: «هكذا الظن بك يا أبا إسحاق، ولولا الاحتياط لكان سبيلهم بينا.» ثم أبى أن يفارق الدنيا وفي ذمته شهادة لسعد يعلنها لملأ المسلمين، فلما حضرته الوفاة وسألوه أن يستخلف، أبى أن يخلف أحدا من أهله، وسمى عليا وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعدا «لأنهم نفر توفي رسول الله وهو عنهم راض، فأيهم استخلف فهو الخليفة»، ثم قال: فإن أصابت سعدا فذاك، وإلا فأيهم استخلف فليستعن به، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة.
وهذا مثل من أمثلة الوفاء بجميع الحقوق، والرعاية لجميع الذمم من حاكمين ومحكومين، ولا يبعد أن يقع الغبن على بعض الولاة الكفاة من فرط العناية بشكايات الرعية، إلا أن عمر في حزمه وعدله لم يكن يفوته مفرق الصواب بين الأمرين، فغبن وال أو قائد أهون من غبن أمة أو جيش، ومن أقواله في ذلك: «هان شيء أصلح به قوما أن أبدلهم أميرا مكان أمير.»
بل ربما جرى منه حكم العزل على الولاة الكفاة لغير سبب من أسباب الشكاية أو القصاص، وإنما هو سبب من الأسباب التي ترجع إلى سلامة الدولة، أو ما نسميه في العصور الحديثة بالسياسة العليا. وهذه أسباب لا يصح أن يغفل عنها ولاة الأمر في أيام تأسيس الدول وتجربة النظم الحديثة، وأولها عصمة الدولة من فتنة المقتدرين المحبوبين.
فربما كان الوالي المقتدر المحبوب أخطر على الدولة الناشئة في تأسيسها من الوالي العاجز البغيض، إذا لم يتعهده نظر ثاقب وحساب عسير.
فقد تزين له نفسه، أو تزين له رعيته أن يستقل بالأمر وينتحل لذلك ما شاء من المعاذير، فإن فاته الاستقلال ورئيسه قوي مهيب، لم يفته بعد زوال ذلك الرئيس، ولو جاء بعده من يضارعه في القوة والمهابة؛ لأن الفترة بين زوال عهد واستقرار عهد آخر تؤذن بمثل هذا التقلقل، وتفتح الثغرات لمن يريد أن يلج
35
منها بعد طول تربص واستعداد.
ولم يكن عمر بن الخطاب يعرف تاريخ الإسكندر المقدوني وتواريخ العتاة من قياصرة الرومان، ولا كان الغيب قد انكشف له فرأى ما تلاه من الأمثلة في دول المغول والعثمانيين، ودول المسلمين من الشرقيين والغربيين، ولكنه لو استقصى أخبارهم جميعا وعرف فتنة الولاة بعد زوالهم لما ندم لحظة على عزل الذين عزلهم وهو يقول لهم: إنما عزلتكم لكيلا أحمل على الناس فضل عقولكم، أو لكيلا تفتتنوا بالناس كما افتتن الناس بكم. ولكان له سبب آخر وجيه، بالغ في الوجاهة، يدعوه إلى تغليب رغبات الرعية على مكانة الولاة، وهو عصمة الدولة من أولئك الولاة أن يطول بهم العهد، وتتم لهم القدرة، ويحوطهم الحب والولاء، فلا يبقى بينهم وبين الانتقاض
36
إلا الفرصة السانحة، وهي أقرب شيء سنوحا في إبان التأسيس والانتقال.
وما لم يكن عزل العمال لسبب من أسباب السياسة العليا التي من هذا القبيل، فلا جزاء إلا بقسطاس دقيق محيط، ولا سيما في الشئون المالية؛ لأنه يعتمد في محاسبتهم على وسائل متفرقة يستدرك بعضها نقص بعض، فلا تكاد تخفى عليه خافية مما يريد الوقوف عليه.
فمن هذه الوسائل أنه كان يحصي أموالهم قبل الولاية ليحاسبهم بها على ما زادوه بعد الولاية مما يدخل في عداد الزيادة المعقولة، ومن تعلل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه؛ لأنه كان يقول لهم: إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارا.
ومنها أنه كان يرصد لهم الرقباء والعيون من حولهم ليبلغوه ما ظهر وما خفي من أمرهم، حتى كان الوالي من كبار الولاة وصغارهم يخشى من أقرب الناس إليه أن يرفع نبأه إلى الخليفة.
ومنها أنه كان يندب لهم وكيلا خاصا يجمع شكايات الشاكين منهم، ويتولى التحقيق والمراجعة فيها، ليستوفي البحث فيما ينقله الرقباء والعيون.
ومنها أنه كان يأمر الولاة والعمال أن يدخلوا بلادهم نهارا إذا قفلوا
37
إليها من ولاياتهم ليظهر معهم ما حملوه في عودتهم، ويتصل نبؤه بالحراس والأرصاد الذين يقيمهم على ملاقي الطريق.
ومنها أنه كان يستقدمهم في كل موسم من مواسم الحج ليحاسبهم ويسمع ما يقولون وما يقال فيهم، وعليهم شهود ممن يشاء أن يحضر الموسم من أهل البلاد، ونوى في أواخر أيامه أن يستكمل الرقابة بالسير في البلاد «فيقيم شهرين شهرين في الشام ومصر والبحرين والكوفة والبصرة وغيرها»، فإنه ليعلم «أن للناس حوائج تقطع عنه، أما هم فلا يصلون إليه، وأما عمالهم فلا يرفعونها إليه.»
وكان لا يكتفي بوسائله تلك إذا استراب، فيعمد إلى الحيلة للكشف عن الخبايا التي تريبه، ومن ذلك أنه سمع بعودة أبي سفيان من عند ولده معاوية والي الشام، فوقع في نفسه أن ولده قد زوده في عودته بمال، وجاءه أبو سفيان مسلما، فقال له: أجزنا
38
يا أبا سفيان! قال: ما أصبنا شيئا فنجيزك! فمد يده إلى خاتم في يده فأخذه منه وبعثه إلى هند زوجه، وأمر الرسول أن يقول لها باسم زوجها: انظري الخرجين اللذين جئت بهما فابعثيهما، فما لبث أن عاد بخرجين فيهما عشرة آلاف درهم، فطرحهما عمر في بيت المال.
وكانت سنته إذا ثبتت على الوالي شبهة التصرف في بيت مال المسلمين أن يصادر المال الذي ظفر به، أو يقاسم الوالي فيما أربى
39
على كسبه المعقول، فيترك له النصف ويضم النصف إلى بيت المال، وهذا عدا ما يجزيه به من عزل أو عقاب.
أما حساب الشكايات من المظالم، فكانت سنته فيه التحقيق، ثم الجزاء على شرعة المساواة بين أكبر الولاة وأصغر الرعية، بغير تفرقة بين السيئة وجزائها، فمن ضرب ضرب، ومن غصب رد ما غصب، ومن اعتدى قوبل بمثل اعتدائه، وعليه زيادة التأديب.
وقد يأخذ الوالي أحيانا بوزر
40
ولده أو ذوي قرابته إذا وقع في نفسه أنهم يستطيلون على الناس بسلطان الولاية، ولا ينهاهم الوالي المسئول عنها.
جاء مصري فشكا إليه واليها عمرو بن العاص، وزعم أن الوالي أجرى الخيل، فأقبلت فرس المصري فحسبها محمد بن عمرو فرسه وصاح: فرسي ورب الكعبة! ثم اقتربت وعرفها صاحبها، فغضب محمد بن عمرو ووثب على الرجل يضربه بالسوط، ويقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين. وبلغ ذلك أباه فخشي أن يشكوه المصري فحبسه زمنا، وما زال محبوسا حتى أفلت وقدم إلى الخليفة لإبلاغه شكواه.
قال أنس بن مالك راوي القصة: فوالله ما زاد عمر على أن قال له: اجلس ... ومضت فترة إذا به في خلالها قد استقدم عمرا وابنه من مصر، فقدما ومثلا
41
في مجلس القصاص فنادى عمر: أين المصري؟ دونك
42
الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين.
فضربه حتى أثخنه
43
ونحن نشتهي أن يضربه، فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين! ثم قال: أجلها
44
على صلعة عمرو! فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه. قال عمرو فزعا: يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت. وقال المصري معتذرا: يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني. فقال عمر: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه. والتفت إلى عمرو مغضبا يقول له تلك القولة الخالدة التي ما قالها حاكم قبله: «أيا عمرو! متى تعبدتم
45
الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟» •••
ومن هذا العدل في شئون الولاية نستطيع أن نفهم دستوره في شئون القضاء، فلن يكون هذا الدستور إلا دستور العدل المحكم في الجزاء والفصل بين الحقوق، إلا أننا نعتقد أن وصاياه في القضاء أحكم وأصلح لجميع الأزمنة من جميع وصاياه فلا تعقيب بعدها لمعقب في زمانه، أو في زمان يليه، مهما تختلف الأقوام والأوقات.
أنشأ وظائف القضاء، وتخير لها العدول
46
الأكفاء. ولم تكن به من حاجة هنا إلى سن الشريعة التي يحكمون بها، فإنها ماثلة في الكتاب والسنة، ولكنه كان في حاجة إلى تعليم القضاة كيف يتصرفون حين يلتبس عليهم الأمر، فأحسن التعليم. •••
كان يكتب لأحدهم: «إذا جاءك شيء في كتاب الله فاقض به، ولا يلفتنك عنه الرجال، فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله، فانظر سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فاقض بها، فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله، ولم يكن فيه سنة من رسول الله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله، ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت: إن شئت أن تجتهد وتقدم فتقدم، وإن شئت أن تأخر فتأخر،
47
ولا أرى التأخير إلا خيرا لك.»
وضرب لهم أصلح الأمثلة باجتهاده واستفتائه، فلم يقطع يد السارق في عام المجاعة رعاية للزمن، ولم يقطع يد الغلام الذي سرق من سيده رعاية لسنه، أو للعلاقة بين السارق والمسروق منه، واشتركت امرأة وصاحبها في قتل رجل فتحرج من قتل اثنين بواحد، حتى أفتاه علي -رضي الله عنه - بأنهما مستحقان للقتل، كما يستحق اللصوص المتعددون أن يقام عليهم الحد إذا سرقوا لحما من بعير واحد، فأخذ بفتواه. •••
ومن وصاياه للقاضي: «آس بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك،
48
ولا ييأس ضعيف من عدلك، والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع عنه، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي
49
في الباطل. الفهم الفهم عندما يتلجلج
50
في صدرك ما لم يبلغك في كتاب الله ولا سنة النبي
صلى الله عليه وسلم ، واعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد
51
إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى، واجعل للمدعي حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا وجهت عليه القضاء، فإن ذلك أنفى للشك، وأجلى للعمى، وأبلغ في العذر ... المسلمون عدول
52
بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا
53
في ولاء أو قرابة، فإن الله قد تولى منكم السرائر ، ودرأ
54
عنكم بالشبهات، ثم إياك والقلق والضجر والتأذي بالناس، والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر، ويحسن بها الذخر، فإنه من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى، ولو على نفسه، يكفيه الله ما بينه وبين الناس.»
ومن وصاياه لمن يلون الحكم: «الزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتأخذ فيه بأفضل حظك: إذا تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة، وأدن الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه، وتعهد الغريب، فإنك إن لم تتعهده ترك حقه ورجع إلى أهله، وإنما ضيع حقه من لم يرفق به، وآس بين الناس في لحظك وطرفك، وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فصل القضاء.» •••
تلك نماذج متفرقة من وصاياه للقضاة، وولاة الأحكام، وهي فيما نراه أحكم وصاياه، وأقربها أن يتبعها سواه.
ولذلك سبب لا يعسر تعليله؛ فقد كان عمر في الجاهلية حكما من قبيلة محكمين، أو سفيرا يسعى بين الناس بالصلح من قبيلة سفراء، فهو في هذه الصناعة عريق.
إلا أن المرء قد يجلس للحكم بين الناس كما جلس عمر ولا يحسن الوصية فيه كما أحسنها، وإنما بلاغ حسن الوصية أن تجمع الخصلتين اللتين اجتمعتا في وصاياه لقضاته.
فما من أحد يستطيع أن يوصي قاضيا بخير مما أوصى، وما من عقدة قضائية تأتي من قبل القضاة أو من قبل المتقاضين إلا وهي ملحوظة في كلامه، وهاتان هما الخصلتان الباديتان في دستور القضاء كما أملاه. •••
ولا بد أن يلفت النظر في سياسته للولاية، وسياسته للقضاء، أنه كان يأخذ الواجب حيث وجب، وإن اختلف الواجبان.
ففي الولاية كان يتحرى البواطن ويمعن في تحريها، ولا يكتفي من الناس بالظواهر. وفي القضاء وما شابه القضاء كان يكتفي بالظواهر حتى تنقضها البينة
55
القاطعة، وكان يعلن هذه الخطة على المنبر، فيقول: «أظهروا لنا أحسن أخلاقكم، والله أعلم بالسرائر، فإن من أظهر لنا قبيحا وزعم أن سريرته حسنة لم نصدقه، ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسنا.» أو يقول: «إنما كنا نعرفكم إذ الوحي ينزل، وإذ النبي
صلى الله عليه وسلم
بين أظهرنا، فقد رفع الوحي، وذهب النبي
صلى الله عليه وسلم ، فإنما أعرفكم بما أقول لكم، ألا فمن أظهر لنا خيرا أثنينا عليه، ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه.»
بل كان له في الأخلاق الاجتماعية مذهب ثالث يشبه مذهبه في القضاء، فكان يكره أن يكشف المرء من أخيه ما يستره عنه، وينهى أن تظن بكلمة شرا وأنت تجد لها في الخير محملا.
وهذه في الظاهر نقائض، وفي الحقيقة واجبات متعددة، كل منها في موضع لازم.
فالعلم بخبايا الحكومة واجب على كل ولي مسئول، لا تنصلح الأحوال بغيره، وفي الغفلة عنه مضرة محققة لجميع الناس.
والأخذ بالبينة دون الظاهر في شئون القضاء واجب لا محيص عنه لضمان السلامة ومنع الجور، وهو في أحد طرفيه لا يخلو من الحذر الشديد من الطبيعة البشرية؛ إذ فيه خشية من غواية الهوى أن تنطلق بالقضاة في الحكم بغير برهان.
وفي الأخلاق الاجتماعية لا يؤمن التقاطع بين الأصدقاء إذا جرت العلاقة بينهم على التجسس والخدعة، ولا رعاية للمودة ما لم تكن رعاية للحرمات، ومنها الأسرار.
والتفرقة بين الواجبات المختلفة هي دليل البصيرة في عرفان كل واجب منها، وأنها تصدر عن رأي أصيل، ولا تصدر عن تسخير العرف وإملاء التقليد والمحاكاة. •••
وأنشئت في عهد عمر دواوين أخرى غير ديوان القضاء ودواوين الإحصاء والخراج والمحاسبة التي لم تكن من المؤسسات القائمة قبل عهده، فأنشأ البريد، وبيت المال، ومرابط الثغور، ومصنع السكة لضرب النقود، ودار الحبس للعقاب، ووكل معظم الدواوين إلى أبناء البلاد يزاولونها بلغاتهم؛ لأنها ليست من أسرار الدولة، وليس من الميسور أن ينصرف إليها فتيان العرب عما هو أولى بهم؛ وهو فرائض الدفاع والجهاد.
فلو وجد منهم من يفي
56
لتلك الأعمال؛ لكانت خسارة الدولة في قيامهم بها أعظم من ربحها، ولكنهم غير موجودين، ولا عملهم فيها باللازم اللازب للمصلحة الكبرى، وقد يكون عمل الفارسي في مصلحة فارس، والسوري في مصلحة سورية، والمصري في مصلحة مصر أحرى
57
أن يعصمهم إن كان بهم عاصم، وإلا فلا تثريب.
58
ووضع عمر نظاما لتحصيل الجزية، وتصرف في وضعها على حسب الأمم والبلاد، فأعفى التغلبيين بالشام من الجزية، وفرض عليهم بديلا عنها ضعف صدقة المسلم؛ لأنهم أنفوا أن يؤدوها، وأزمعوا اللحاق بأرض الروم.
وكان له نظام اقتصادي يوافق مصلحة الدولة في عهده، فكان يحض على التجارة، ويوصي القرشيين ألا يغلبهم أحد عليها؛ لأنها ثلث الملك. ولكنه أبقى الأرض لأبنائها في البلاد المفتوحة، ونهى المسلمين أن يملكوها على أن يكون لكل منهم عطاؤه من بيت المال، كعطاء الجند في الجيش القائم. وإذا أسلم أحد الذميين أخذت منه أرضه، ووزعت بين أهل بلده، وفرض له العطاء، وكان غرضه من ذلك أن تبقى لأهل البلاد موارد ثرواتهم، وأن يعتصم
59
الجند الإسلامي من فتن النزاع على الأرض والعقار، ومن فتن الدعة
60
والاشتغال بالثراء والحطام، وربما أغضى
61
عن كثير في سبيل الإعانة على تعمير البلاد بأهلها، فصفح عن أهل السواد «العراق» ليأمنوا البقاء فيه، مع أنهم حنثوا بالعهد، وعاونوا الفرس على المسلمين في أثناء القتال.
ويلوح من كلامه في أخريات أيامه أنه كان على نية النظر في تصحيح النظام الاقتصادي، وعلاج مشكلة الفقر والغنى على نحو غير الذي وجدها عليه، فقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت
62
لأخذت فضول
63
أموال الأغنياء فقسمتها على الفقراء.»
ولم يرد في كلامه تفصيل لهذه النية، ولكن الذي نعلمه من آرائه في هذا الصدد كاف لاستخلاص ما كان ينويه، فعمر على حبه للمساواة بين الناس كان يفرق أبدا
64
بين المساواة في الآداب النفسية والمساواة في السنن الاجتماعية، فكتب إلى أبي موسى الأشعري: «بلغني أنك تأذن للناس جما غفيرا،
65
فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين، فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة.» ولكنه لما رأى الخدم وقوفا لا يأكلون مع ساداتهم في مكة غضب، وقال لساداتهم مؤنبا: ما لقوم يستأثرون على خدامهم؟ ثم دعا بالخدم فأكلوا مع السادة في جفان واحدة.
فالمساواة في أدب النفس لم تكن عند عمر مما ينفي التفاضل بالدرجات، ولم يكن يرضيه كذلك أن يعتمد الفقراء على الصدقات والعطايا، ويعرضوا عن العمل واتخاذ المهنة، فكان يقول لهم في خطبة: «يا معشر الفقراء، ارفعوا رءوسكم فقد وضح الطريق، فاستبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالا على المسلمين.»
66
وكان يوصي الفقراء والأغنياء معا «أن يتعلموا المهنة، فإنه يوشك أن يحتاج أحدهم إلى مهنة وإن كان من الأغنياء.»
فيسوغ لنا أن نفهم من هذا جميعه معنى ما انتواه من أخذ فضول الغني، وتقسيمه بين ذوي الحاجة، وهو تحصيل بعض الضرائب من الثروات الفاضلة، وتقسيمها في وجوه البر والإصلاح.
على أن عمر يصح أن يسمى مؤسسا لديوان الوقف الخيري على الوجه الذي نعهده الآن، فقد أنشأ بيت الدقيق لإغاثة الجياع الذين لا يجدون الطعام، وأصاب قبل خلافته أرضا بخيبر فاستشار النبي - عليه السلام - فيها، فاستحسن له أن يحبس أصلها، ويتصدق بريعها، فجعلها عمر صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، وينفق منها على الفقراء والغزاة وغيرهم، ولا جناح
67
على من وليها؛ يأكل بالمعروف، ويطعم صديقا فقيرا منها. •••
وعرضت لعمر مسائل التعمير على حسب الحاجة إليها في وقته، فلم تجده مسألة منها دون ما تحتاج إليه من إصابة الرأي وحسن الروية، فكانت نصائحه في تخطيط المدن واختيار مواقعها من أنفع النصائح، وكانت دواعيه إلى بنائها من أشرف الدواعي وأليقها بالأمير.
شاهد في الجند هزالا وتغير ألوان فسأل قائدهم سعدا: ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم؟ فأجابه: إنها وخومة
68
المدائن ودجلة. فكتب إليه: «إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سليمان وحذيفة فليرتادا
69
منزلا بريا بحريا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر.» وأمر أن تبلغ مناهج
70
المدينة أربعين ذراعا وما يليها ثلاثين ذراعا وما بين ذلك عشرين، وألا تنقص الأزقة عن سبع أذرع ليس دونها شيء، وألا يرتفع بناء الدور، فبنيت الكوفة على هذا التخطيط.
وعلم أن الجند يشكون الشتاء، ويعوزهم الملجأ الذي يسكنون إليه بعد الغزو في حدود فارس، فكتب إلى عتبة بن غزوان أن «ارتد لهم منزلا قريبا من المراعي والماء»، ووصف له ما يلتزم من مواقعه وخططه، فبنيت البصرة عند ملتقى النهرين.
وهو الذي أشار على عمرو بن العاص أن يحفر خليجا بين النيل وبحر القلزم
71
لاتصال المرافق بين مصر وعاصمة الدولة، وضرب له الموعد حولا يفرغ فيه من حفره وإعداده لمسير السفن فيه، فساقه من جانب الفسطاط إلى القلزم، ولم يأت الحول حتى جرت فيه السفن، وسمي خليج أمير المؤمنين، ولم يزل مفتوحا حتى ضيعه الولاة وغفل عنه الخلفاء.
فسياسته التعميرية وافية بالغرض منها لعصره، وقد يلاحظ عليها أبناء العصر الحاضر شيئا لا يوافقهم، كالحد من ارتفاع الدور، والزهد في تشييد القصور، أما هو فالوجه الذي توخاه في سياسة التعمير أن يحمي الدولة في نشأتها من الترف والبذخ، وأن يحول بين الجند وبين الاستنامة
72
إلى متاع القصور المشيدة، والصروح الممردة، وما فيها من بواعث الوهن والفتور. ومن فلاسفة العصر الحاضر من يحسب ضخامة البناء دليلا على ابتداء الضعف وعفاء
73
العقيدة، ويقول «شبنجلر» أحد هؤلاء الفلاسفة: «إن الأمم في نهوضها تعبر طريقين مختلفين: طريق العقيدة وقوة النفس، وتلازمه بساطة الظواهر وعظمة الضمائر، وطريق الفخامة المادية والوفرة العددية، وفيه تنحل الضمائر، وتخلفها العظمة التي تقاس بالباع والذراع، وتقدر بالقنطار والدينار، وكانت قبل ذلك تقاس بما لا يحس من العزائم والأخلاق.»
وعمر على كلتا الحالتين لم يتعد طبائع الأشياء، ولم يأخذ في زمانه بغير الصالح من الآراء. •••
وقصارى القول أن هذا رجل لم تواجهه في ولاياته الواسعة صعوبة أكبر منه وأحوج إلى قدرة أعلى من قدرته، أو هيبة ودراية أجل مما كان له من هيبة ودراية، فإذا عرضت الصعوبة الطارئة فهناك الحزم اللازم لمواجهتها، والحيلة الصالحة لتدبيرها، كأنما كان لها على استعداد، وكأنما عاش حياته كلها يتمرس
74
بهذه الأمور.
وكان اضطلاعه
75
بتفريج الأزمات والكوارث كاضطلاعه بتدبير الحاجات إلى التعمير والتنظيم، ففي السنة الثامنة عشرة للهجرة فاجأه قحط الرمادة المشهور، وهو القحط الذي لا يقال في وصفه أوجز من قولهم يومئذ إن الوحش كانت تأوي فيه إلى الإنس، وإن الرجل المتضور من الجوع كان يذبح الشاة فيعافها لقبحها.
فنهض لهذه الكارثة نهوضه لكل خطب، واستجلب القوت من كل مكان فيه مزيد من قوت، وجعل يحمله على ظهره مع الحاملين إلى حيث يعثر بالجياع والمهزولين العاجزين عن حمل أقواتهم، وآلى
76
على نفسه لا يأكلن طعاما أنقى من الطعام الذي يصيبه الفقير المحروم من رعاياه، فمضت عليه شهور لا يذوق غير الخبز والزيت، ونظر في كل شيء حتى في تعليم كل بيت كيف ينتفع بالرزق الذي يرسله إليهم مع عماله ... فقال للزبير بن العوام: «اخرج في أول هذه العير فاستقبل بها نجدا، فاحمل إلي أهل كل بيت قدرت أن تحملهم إلي، ومن لم تستطع حمله فمر لكل أهل بيت ببعير بما عليه، ومرهم فليلبسوا كساءين، ولينحروا البعير فليحملوا شحمه، وليقددوا لحمه، وليحتزوا
77
جلده، ثم ليأخذوا كبة من قديد، وكبة من شحم، وحفنة من دقيق فليطبخوا ويأكلوا حتى يأتيهم الله برزق.» •••
وهذه السهولة في مواجهة كل حالة بما يوائمها هي التي تبرز لنا «مؤسس الدولة الملهم» في هذا الرجل العظيم.
فكل عمل من هذه الأعمال سهل على القرطاس، صعب عند تصورنا إياه، وإحاطتنا بما يستدعيه من تدبير وإنجاز وخلق وهيبة، فكم بين المدينة وتلك الأطراف في زمن أسرع وسائله بعير سريع! وكم عمل عمر لملاحقة كل جيش يسير، وكل بلد يفتح، وكل أمة تحكم، وكل عارض يطرأ على غير رقبة
78
ولا سابقة خبرة.
تجنيد الجيوش لشتى الميادين، وليس بسهل، واختيار القواد على حسب ما يندبون له، وليس بسهل، والأمر بكل حركة على حسب كل ميدان، وليس بسهل، والسؤال عن قادة الأعداء ومداوراتهم
79
ليستقصي خبرهم، ويعرف ما يقابلهم به من الكيد العدة، وليس بسهل، وإنشاء المدن والعمائر في مواضعها، وإقامة الدواوين عند الحاجة إليها، وإرضاء الأمم والجيوش بالإصغاء إلى شكاياتهم ولو جاءت في غير أوانها، والنهوض للكوارث والأزمات بما ينبغي لها، والمشاورة لمن تسمع منه المشورة بغير ما شكاة، وخدمة الناس في دينهم وخلقهم كخدمته إياهم في دنياهم ودولتهم، وتجدد هذه المتاعب يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وعاما بعد عام، وهي شاقة لا سهولة فيها على غير صاحبها القدير عليها ولو زاولها عرضا إلى أيام.
وجليل بعض هذا غاية الجلال لو أن صاحبه قنع منه بالإشراف والمراجعة، ولم يعمل بيده فيه كأنه خادم البيت المرهق، وأجير الديوان الصغير، لكنه - كما تعلم - كان يكدح بيده، ويحمل على ظهره ويتعقب
80
بعينه، ولا يدع أحدا من خدام الدولة الواسعة إلا وهو شريك له في مثل ما يتولاه.
وأكبر ما يستحق الإكبار في هذا الرجل الكبير أنه كان قادرا على تأسيس الدول وعلى فتح الأمصار، ولكنه راض
81
القدرتين، فلم يقدم على فتح الأمصار إلا بمقدار.
فليس الفتح شهوة عنده، ولا المجد الحربي لبانة
82
من لباناته، وهو على علمه بأن الله وعد المؤمنين أن يورثهم الأرض، لم يكن يرى في ذلك داعيا إلى العجلة بالفتح، كما كان يرى فيه دواعي للتبصر والأناة، حتى لا يسفك دم في غير موجب، ولا تعتسف خطة بغير روية.
فكان همه الأكبر تأمين الجزيرة العربية من أطرافها، وحماية الإسلام في عقر داره. ولولا أن الدول العظمى التي كانت تحدق بجزيرة العرب تحفزت
83
للبطش بها، وقمع دعوتها في مهدها؛ لكانت للدولة الإسلامية سياسة أخرى في مصاولة أولئك الأعداء.
فدولة الروم كانت ترسل البعوث إلى تخوم
84
الجزيرة، وتهيج القبائل لحرب المسلمين من عهد النبي - عليه السلام - وكان المسلمون يعيشون في فزع دائم من خطر هذه الدولة وأتباعها. يدل عليه كلام عمر وهو يتحدث عن أزواج النبي حيث يقول: «... وكنا تحدثنا أن غسان
85
تنتعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء، فضرب بابي ضربا شديدا وقال: أثم هو؟ ففزعت فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم. قلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول، طلق النبي
صلى الله عليه وسلم
نساءه!»
ومن هذا الحديث يتبين لنا مبلغ الفزع من تهديد الروم للجزيرة العربية بالليل والنهار. أما فارس فقد بلغ بطغيانها أن عاهلها غضب من دعوته إلى الإسلام، فأوفد إلى الحجاز رسولا مع نفر من الجند ليأتيه بالنبي العربي حيا أو ميتا! ولولا أنه مات قبل إنجاز وعيده، واشتعلت نيران الفتن في بلاده؛ لوطئت الجيوش الفارسية أرض الجزيرة قبل أن ينهض العرب للدفاع، وما هو إلا أن حفظ العرب حدودهم من قبل العراق الفارسي حتى سكنوا إلى ذلك، وود عمر بن الخطاب «لو أن بيننا وبين فارس جبلا من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم»، ولم تتغير خطته هذه إلا حين استوى «يزدجرد» على عرش فارس، وتأهب للغارة على المسلمين، وإخراجهم من حيث نزلوا، فتجدد القتال.
وقد طال تردد عمر في فتح مصر، ولم ينبعث إلى غزوها حبا ولهجا
86
بالفتوح، ولولا أن علم أن أريطون قائد الروم في بيت المقدس قد فر منها إلى مصر ليحشد فيها الجنود ويتأهب للكر على الشام، لطال تردده في الزحف عليها. ومع هذا أوشك أن يسترجع عمرو بن العاص بعد إشخاصه إليها، ونهاه عن الإيغال في المغرب بعد فتحها؛ لأن السطوة - وهو مقتدر عليها - لم تكن تزدهيه
87
ولا تغويه، ولأن الضن بالأرواح أغلب في طبعه من الشغف بالفتوح، و«أن رجلا من المسلمين أحب إلي من مائة ألف دينار!»
فلا يخطئ القائل الذي يقول إن الأناة في السطوة أكبر ما يستحق الإكبار من هذا الخلق الرفيع، وإن دلالته الإنسانية أكبر دلالة يشتمل عليها هذا السجل الحافل بالمآثر؛ لأنه يرينا القوة كيف تكون نعمة إنسانية عالية ولا تكون لزاما نقمة من نقم الأثرة والأنانية، ويرينا الرجل كيف يقوى؛ فلا يخافه الضعيف، بل يخافه من يخيف الضعفاء.
وبحق يتزود بهذه القوة مؤسس دولة تقوم على دين؛ لأن الدولة قد تقيمها القوة الطاغية، أما الدين فلا يهدمه شيء، كما تهدمه قوة الطغيان.
إن البأس الذي رزقته نفس عمر لحظ عظيم، ولكنه لو كان في يدي غيرها لقد يكون نصيبها منه أوفى من نصيبها وهو في يدها، فلم يشحذه عمر قط لغرض يخصه دون غيره، ولم يضرب به قط بمعزل عن الإيمان حتى في أيام الجاهلية. فلو لم يقع في روع
88
عمر أن محمدا أهان قريشا وانتقص دينها لما تصدى له بأذى، ولولا حرمة الإيمان الجاهلي عنده لما ثار على إيمان محمد وصحبه.
وغاية ما هنالك أنه فرق بين إيمان وإيمان، ففي الجاهلية كان إيمانه مضللا فعقم ولم يأت بطائل، وفي الإسلام كان إيمانه رشيدا، فأتى بأطيب الثمرات. •••
قبل أن يقال إن عمر كان أكبر فاتح في صدر الإسلام، ينبغي أن يقال إنه كان يومئذ أكبر مؤسس لدولة الإسلام، وإنه أسسها على الإيمان، ولم يؤسسها على الصولجان،
89
فكان مؤسسا لها قبل أن يلي الخلافة، وينفرد بالكلمة العليا، وكان من يوم إسلامه آخذا في تشييد هذا البناء الذي تركه، وهو بين دول العالم أرسخ بناء.
إن تاريخ عمر وتاريخ الدولة الإسلامية لا يفترقان، فإذا بدأت بهذا فقد بدأت بفصل من تاريخ ذاك، ولن يطول بك الاستطراد، حتى تثوب إليه كرة أخرى.
الفصل السابع
عمر والحكومة العصرية
من الحقائق التي لا يحسن أن تغيب عنا ونحن نقدر الأبطال من ولاة العصور الغابرة، أنهم أبناء عصورهم وليسوا أبناء عصورنا، وأننا مطالبون بأن نفهمهم في زمانهم، وليسوا هم مطالبين بأن يشبهونا في زماننا، وأن الرجل الذي يصنع في عصره خير ما يصنع فيه هو القدوة التي يقتدي بها أبناء كل جيل، ولا حاجة به إلى الاقتداء بنا! ولا أن يشق حجاب الغيب لينظر إلينا ويعمل ما يوافقنا ويرضينا.
ويحسن بنا أن نذكر مع هذا أشكال الحكومات بمرتبة دون مرتبة المبادئ التي تقوم عليها، وأن المبادئ التي تقوم عليها بمرتبة دون مرتبة الروح الإنساني الذي ينبغي أن يعمها ويتخللها؛ لأن المبدأ يعيبه أن يخلو من الروح الإنساني، ولا يعيب الروح الإنساني أن يخالف المبدأ في بعض الأحايين؛ فالملكية والجمهورية شكلان من أشكال الحكومة، قد يقومان على مبدأ واحد هو مبدأ الحكومة الشعبية أو الديمقراطية، ولكن العدل والحرية هما الروح الإنساني المقدم على المبدأ وعلى الشكل معا؛ لأن فقد المبدأ والشكل لا يضيرنا إذا وجدنا العدل والحرية. أما فقدان العدل والحرية فهو الذي يضير ولو توافرت المبادئ والأشكال.
فإذا عرفنا العدل بروحه ولبابه فلا ضير عليه أن تنكره مبادئ الثورة الفرنسية أو مبادئ الوثيقة الكبرى في البلاد الإنجليزية، أو مبادئ الدستور الأمريكي في أيام آباء الدستور هناك، أو مبدأ من المبادئ التي لا تني تتجدد وتتغير كائنا ما كان.
ويحسن بنا أن نسأل أنفسنا كلما أعجبنا بعظيم من عظماء العصور الحديثة: ماذا كان هذا العظيم صانعا لو نشأ في القرن الأول للهجرة مثلا أو القرن الأول الميلادي؟ أكان يصنع فيه ما هو «عصري» في زماننا، أو يصنع فيه ما هو عصري في ذلك الزمان؟ فمما لا مراء فيه أنه يخالف عمله في زماننا، ولا يخالف عمله في زمانه الذي نشأ فيه، ولا ملامة عليه فيما خالف وفيما وافق، بل اللوم علينا نحن إذ ننتظر ما لا ينتظر، ونقيس على غير قياس.
وإلى جانب هذا كله ينبغي أن نذكر ولا ننسى أن عصرنا ليس بخير العصور، وأننا لو ملكنا تبديله في كثير من الأمور لبدلناه، وأننا لا نتفق على استحسان الحسن ولا استقباح القبيح فيه، وأن الفارق الأكبر بينه وبين العصور الأخرى إنما هو فرق الألفة والاستغراب، فعصرنا مألوف لنا، وسائر العصور مستغربة في أنظارنا، وكثيرا ما يكون الاستغراب عريضا سخيفا متعلقا بالمظاهر والأزياء دون الجواهر وحقائق الأشياء.
أذكر من الصور التي رأيتها في الصحف الأوروبية ولا أنساها صورة جامعة لبعض المشهورين والمشهورات في أزياء عصرنا وأزياء العصور السابقة على اختلافها، عرضتها الصحيفة وأحسبها كتبت تحتها: هل تعرف هؤلاء لو مروا بك في الطريق؟
فإذا تأملت الصورة رأيت فيها يوليوس قيصر في القبعة الطويلة وكسوة السهرة السوداء، ورأيت كليوباترة في زي الباريسية العصرية، ثم رأيت أميرا من أمراء هذا الزمن وحكيما من حكمائه على نمط التماثيل التي حفظت لقياصرة الرومان وحكماء اليونان، فإذا بك تستغرب ما تألف وتألف ما تستغرب، وكأنك على استعداد أن تحادث يوليوس قيصر حديثك للرجل الذي يفهمك وتفهمه من الكلمة الأولى، وعلى حذر أن تقارب الرجل الذي مثلته لك الصورة في زي الأقدمين المخالفين لك في العقيدة والشارة والذوق ونمط التفكير والنظر إلى الأشياء.
هذه صورة نشرت يومئذ للتسلية والفكاهة، ولكنها خليقة أن تعلمنا الكثير، وأن تصحح لنا مقاييس المقابلة والتقدير بين كل عصر سابق وعصر أخير.
ونحن إذ ننظر إلى أعمال عمر بن الخطاب نقيسها إلى نظام الحكم في زماننا، واجدون فيها كثيرا من المستغربات التي تحول بيننا وبين تقديرها الصحيح للوهلة الأولى، ولكننا لا نلبث أن نرفع القشرة، وننفذ إلى اللباب حتى تزول الغرابة ونرى في مكانها الحق الخالد الذي تتغير العصور ولا يتغير، بل نرى في مكانها أحيانا ما يصلح كل الصلاحية للتفسير حتى بمبادئ هذا العصر الأخير.
خذ مثلا أنه - وهو أقدر المالكين في عصره - كان يقنع بالكفاف ويلبس الكساء الغليظ ويهنأ إبل الصدقة - أي يداويها بالقطران - ويراه رسل الملوك وهو نائم على الأرض نومة الفقير المدقع، وتعرض له المخاضة
1
وهو داخل إلى الشام فينزل عن بعيره ويخلع خفيه ويخوض الماء ومعه بعيره، ويسافر مع خادمه فيساوي بينهما في المأكل والمركب والكساء.
حاكم من حكام العصر الحديث لا يصنع هذا ولا يطالب بأن يصنعه، وهو وأبناء العصر الحديث على حق فيما ارتسموه لأنفسهم من السمت
2
والشارة؛ لأن حاكم الأمة يحتاج إلى المهابة بين قومه وغيرهم من الأقوام، وهذا حسن مشكور.
ولكن هذه وجهتنا نحن في هذا، فما هي وجهة عمر فيه؟
وهذه حجتنا نحن فيما ارتسمنا، فما هي حجة عمر فيما ارتسم؟
إننا إذا عقدنا المقارنة بين الوجهتين والحجتين ألفيناه في غنى عن وجهتنا وحجتنا، وأنه كان يصل إلى الغاية التي نرومها نحن من طريق أقوم وأنفذ من الطريق الذي توخيناه، فكان يعيش عيشة الفقراء وأمته وأمم أعدائه أهيب له مما تهاب التيجان في القصور.
وكان عمل الرجل تثبيت سلطان وتثبيت عقيدة هي أساس الحكم قبل كل أساس، فكانت عيشته الفقيرة أعون له على تثبيت العقيدة، ثم لا غضاضة فيها على السلطان.
وكان يدين نفسه بهذه العيشة ولا يأبى على غيره أن يخالفها، ويقنع باليسير ويعطي الحق الكثير لمن يستحقه على تفاوت في المآثر والأعمال، فلما ندب أبا عبيدة لتوزيع الطعام في عام المجاعة أعطاه ألف دينار وألح عليه في قبولها، ولما قسم الولايات جعل كل وال كفاء
3
عمله من أجر وطعام مكفولا له مع عطائه الذي يعطاه كسائر المسلمين.
وهو الذي خالف أبا بكر في التسوية بين الأعطية لعلمه بتفاوت الحقوق، فقال له: أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين وبين من أسلم عام الفتح خوف السيف؟ أتجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه؟ ولقد ظل كلاهما على رأيه حتى قام عمر بالخلافة، فأخذ بمذهب التفضيل وتوفية العطاء حسب الحقوق. أما المهابة فمن افتقر من الولاة إلى المظهر فيها لم يمنعه عمر، ولم يوجب عليه أن يقتدي به في خصاصته
4
وشظفه، فله من ذاك ما تقضي به مصلحة الدولة حيث كان.
وبهذا يكون الحاكم عمر بن الخطاب قد أدى «الواجب الحكومي» على الوجه الأقوم، فلا سبيل لأحد إلى أن يؤاخذه فيه بقياس حديث أو بقياس قديم.
فإذا بقي أن نستدل بتشديده في المعيشة على تفكيره أو خلقه، فما هي الدلالة التي تدل عليها؟ هل يدل هذا التشديد في محاسبة النفس على شيء يعاب؟ هل هو أدنى إلى النقص أو أدنى إلى الرجحان؟
إن أناسا يشددون على أنفسهم عن كزازة
5
في الطبع وضيق في الحظيرة
6
وعجز عن ملابسة الدنيا، وهذه نقائص تعاب في مقياس الفكر والأخلاق.
ولكن هل كانت خليقة عمر بن الخطاب خليقة المرعب المتوجس العاجز الذي يرجع الشظف عنده إلى العجز عن ملابسة الدنيا؟
أعجل الناس بالاتهام لا يتهم عمر بهذا ولا بما يشبهه ويدانيه.
وإنما تدل جملة أخلاقه على أن الخلق الذي ألزمه حياة الشظف إنما هو خلق قوي يروض صاحبه على ما يريد، وليس بخلق ضعيف يجفل من التصرف والتكليف إجفال العجز والرهبة والوسواس.
وفي «طبيعة الجندي» التي قدمنا الكلام فيها التفسير لنظرته في حساب نفسه، وفي الموقف الذي اختار أن يقفه بين يدي الله، فهو يعلم أن الله شديد الحساب، وأن الله رحيم ، ولكن الجندي القوي إذا وقف بين يدي مولاه جعل تعويله على الوفاء بالأمر وقضاء الواجب في أدق تفاصيله، ولم يجعل معوله الوحيد على طلب الرحمة والصفح عن الخطيئة. فإن جاءه الصفح من مولاه، فليس هذا بمعفيه أمام نفسه من استقصاء الحساب ولو جار عليها؛ فأكرم لطبيعته الحادة القوية أن يجور على نفسه من أن يترخص في إعطائها ثم يتعرض للصفح والغفران.
وكان وفاؤه لحق الصداقة كوفائه لحق الله سببا من أسباب هذا الشظف الذي عاش عليه بعد النبي وخليفته الأول، فقد أبى له وفاؤه أن يعيش خيرا مما عاشا، وأن يستبيح - وقد صار الأمر إليه - حظا لم يستبيحاه، وكثيرا ما توسل إليه خاصته أن يشفق على نفسه، وأقنعوه بما علموا أنه أدنى إلى إقناعه، وهو أن يتوسع في العيش ليكون ذلك أقوى له على الحق، فكان يقول لهم: «قد علمت نصحكم ولكني تركت صاحبي على جادة،
7
فإن تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل.»
8
وكلما نصح له ذووه ومنهم بنته حفصة أن يستكثر من الطعام الطيب والنعمة السائغة سألها: كم كان نصيب النبي من هذا أو من ذاك، وأنت تعرفين نصيبه؟
فيكون السؤال هو الجواب.
ثم كانت رغبته في إقامة الحجة على ولاته وعماله سببا آخر من أسباب شظفه وقناعته بالقليل؛ فقد يستحي أحدهم أن يخون ليغنى وخليفته قانع لا يطمع في أكثر من الكفاف.
وما كان عمر بالذي يجهل ما عرفه الناس من مروءة «الأبهة والوجاهة» وهو الذي يعلم ما جهلوه، ولكنه كان غنيا عنها إيثارا لغيرها مما هو أرفع منها وأدل على المروءة في حقيقتها، فكان يقول: «المروءة مروءتان: مروءة ظاهرة ومروءة باطنة، فالمروءة الظاهرة الرياش، والمروءة الباطنة العفاف.»
فهو في جملة أحواله يفرض الشظف على نفسه؛ لأن قوته الخلقية تستطيع أن تريد فتفعل، وتستسهل الجد الذي يصعب على غيرها، ففيها رجحان يكبره العقل والخلق، وليس فيها نقص يعاب بمقياس التفكير أو مقياس الأخلاق.
إنما كان الرجل يحاسب غيره فيعطيه حقه في غير بخس ولا حرج، ويحاسب نفسه فيؤثر الشدة ليقطع الشك ويدرأ الشبهة
9
ويقتدي بصاحبيه، ويترك القدوة المثلى لمن يليه، فلا سبيل عليه لباحث في نظم الحكم ولا لباحث في معاني الأخلاق. على أن عصورنا الحديثة تستغرب الشظف من عمر وهي تهلل لملوكها وتكبر لهم حين يستنون لأنفسهم سنته في بعض أوقات الضيق والمحنة، وهي الأوقات التي يتنبه فيها شعور الرعية للفارق بينها وبين راعيها في المعيشة والتكليف. وأكثر ما يكون ذلك في أوقات المجاعات والحروب وشح المئونة على الإجمال.
ففي الحروب الأخيرة تجاوبت الصحف بالثناء على الملوك الذين راضوا أنفسهم وراضوا أسرهم وحاشيتهم معهم على جراية الحرب التي توجبها ضرورات التموين، وعدوا من مفاخر الملوك أنهم لا يأكلون إلا ما تأكله شعوبهم، وأنهم لا يرون لهم عزة في الترف الذي يعز على رعيتهم،
10
فاقتدوا بعمر فيما أوجبه على نفسه عام القحط
11
وعلمتهم الشدة كيف ينفذون إلى الواجب الإنساني من وراء زخارف الحضارة الحديثة.
وشيء آخر يستغربه العصريون في نظام حكومة عمر، وإن كانوا ليتمنون مثله لو استطاعوه، ونعني به طريقته في محاسبة الولاة والعمال سواء لتحقيق العدل أو لتحقيق الأمانة.
فكان يجزي الوالي جزاء المثل عن كل مظلمة وقعت على أحد رعاياه، ويأخذ الوالي بسيئات أبنائه وذويه إن أساءوا وهم مستطيلون
12
بما للولاية من حول وجاه.
وكان يحصي أموال الولاة ثم يستصفي ما زاد عليها كلما فشت
13
لهم فاشية من النعمة لا يخبرونه بمصدرها.
وفي هذا وذاك ضمان للعدل والأمانة يستغربه العصريون؛ لأنهم لا يألفونه في طرائق الحكومات العصرية.
ولكن أتراهم يستغربونه لأنه غير حسن أو لأنه غير مستطاع؟ بل لأنه غير مستطاع ولا ريب، أو لأن الحكومات العصرية لا تملك أن تتحراه وتنصف في تنفيذه.
14
أما أنه حسن فلا شك في حسنه ولا في أنه أحسن من نظائره بين النظم العصرية؛ لأن حكومات العصر الحديث قد تحمي الوالي وإن ظلم واعتدى، فلا تسمح بمقاضاته إلا بإذن منها! وقد تحميه مرة أخرى بالإحالة إلى الثقة بالوزارة ومنع المناقشة في عمله؛ لأنها هي المختصة بمناقشته فيه، وتعتذر في الحالتين بعذر المحافظة على نظام الدولة أن يهدده ما يهدد مراكز الحكام، ولم يكن عمر يخشى هذا الخطر لأنه أقوى منه، فله هو الحق وعلى النظم العصرية الملام.
أما الطريقة العصرية في ضمان أمانة الحكام فهي أن تحرم عليهم الدساتير مباشرة الأعمال في الشركات وما إليها، ثم هي لا تأخذ منهم درهما ولو دخلوا الخدمة صفر اليدين وخرجوا منها بالضياع والقصور والأموال. فمن استغرب الطرائق العمرية في هذا الباب فليستغربها ما شاء، وهو يعلم أن الغرابة ليست بعيب، وأن المألوف هو المعيب إن قصر عن الغرض المطلوب.
وما عدا هذا من اختلاف بين العهدين فقلما يعدو اختلاف الأسماء وتغيير العناوين، وقل أن ينفذ إلى ما وراء القشور، وهذه بعض الشواهد التي تقرب أسباب النظر إلى حقيقة هذا الاختلاف.
مر عمر في سوق المدينة فرأى إياس بن سلمة معترضا في طريق ضيق، فخفقه بالدرة، وقال له: «أمط عن الطريق يا بن سلمة!»
15
ثم دار الحول
16
ولقيه في السوق فسأله: أردت الحج هذا العام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فأخذ بيده حتى دخل البيت وأعطاه ستمائة درهم وقال له: يا بن سلمة، استعن بهذه، واعلم أنها الخفقة التي خفقتك بها عام أول! قال إياس: يا أمير المؤمنين، ما ذكرتها حتى ذكرتنيها. فأجابه عمر: أنا والله ما نسيتها.
فالنظم العصرية تحار في وضع هذه الحادثة في باب من أبوابها المرتبة حسب الوظائف والأوامر والمراجعات.
ولكن ماذا يصنع جندي المرور في عصرنا إذا شاء أن يميط عن الطريق ويفض الزحام؟ وماذا تصنع المحاكم في تعويض من أصابه الضرب بغير ضرورة؟
إن جندي المرور ليضرب بالدرة وبما هو أقسى منها، وإن المحاكم لتعوض المضروب بشيء من مال الدولة عن خطأ الجند والموظفين، وعمر قد عوض الرجل من ماله، كما يؤخذ من قول ابن سلمة أنه ذهب به إلى بيته، فإن لم يكن هذا المبلغ من مال عمر وكان من خزانة الدولة فقد غرم عمر كل دين عليه قبل موته، ولم يفارق الدنيا إلا على ضمان وثيق أن يعاد كل درهم من دينه إلى ذويه، وقد يكون الخطأ يومئذ في الحساب لا في تصرف عمر بن الخطاب.
ورأى عمر امرأة في زي استغربه فسأل عنها، فقيل له إنها الأمة فلانة! فضربها بالدرة ضربات وهو يقول لها: يا لكعاء، أتشبهين بالحرائر؟
17
وهنا مجال واسع للحذلقة العصرية في الكلام على «الحرية الشخصية»، وعلى حق من يشاء أن يلبس ما يشاء ويسير حيث يشاء.
ولكن ماذا تصنع الحضارة العصرية بالنساء المريبات اللاتي يتنكرن بأزياء الحرائر، ويأوين إلى البيوت في أحيائهن يخرجن معهن إلى الطريق؟ وبماذا يختلف شأن النساء المريبات من شأن الإماء في زمن كن فيه متهمات الأعراض؟
ورأى عمر رجلا يتبختر ويمشي مشية قبيحة لا تليق بالرجال، فأمره أن يتركها، فأبى وزعم أنه لا يطيق تركها فجلده، وعاد بعد جلده إلى التبختر فجلده مرة أخرى، ثم مضت أيام وجاءه الرجل وقد ترك تلك المشية القبيحة ودعا له: جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين، إن كان إلا شيطانا
18
أذهبه الله بك.
الحرية الشخصية مرة أخرى!
غير أن عمر في عقوبته هذه إنما كان يعاقب على أمر نهى عنه القرآن وليس له أن يبيحه بحال، فهو قانون يعرفه من أوقع العقاب ومن وقع عليه ومن شهدوه وأقروه، وكلهم يأبى أن يمشي في الأرض مرحا ويعدها من قبائح الآداب.
ولكننا في العصر الحديث نقسم النواهي والأوامر إلى قسم يحاسب عليه القانون، وقسم يحاسب عليه العرف المأثور، وعقاب العرف حق الأمة وليس بحق الحكومة والقضاء.
وحجة العصر الحديث أن العقاب القانوني هنا غير منصوص عليه وليس النص عليه بمستطاع، وربما فتح الباب للأغراض والأهواء واستبداد الحاكمين إذا استطيع.
وعندنا أن حجة العصر الحديث في هذا ناهضة لا شك في صدقها، ولكنها إن نهضت فإنما تنهض على العصر الحديث ولا تنهض على عمر ولا على من وثقوا بعدله وأسلموه زمام العرف والقضاء على السواء، فماذا لو استطاع العرف في عصرنا أن يحاسب الناس بالحبس والجلد والغرامة على رذائل الذوق وقبائح الآداب دون أن يخطئ، أو يجور؟ أيأبى الإصلاح وهو آمن عقباه؟ إن أباه فليس صوابه في إبائه بأكبر من صواب عمر في تقريره، وليس على عمر ولا على رعيته جناح أن يطمئنوا إلى عدل يعيبنا أن نطمئن إلى مثله.
وقد تقدم أن عمر غضب على الحطيئة لهجائه الناس ونهاه أن يهجو أحدا، فضرع إليه الرجل وقال: إذن أموت ويموت عيالي من الجوع، فأنذره ليقطعن لسانه!
ثم عطف عليه فساومه على ترك الهجاء بثلاثة آلاف درهم، فسلم الناس من لسانه، واستغنى عن هذه الصناعة ما عاش عمر، ثم عاد إليها بعد موته.
إن أمين الحساب في خزائن الدول الحديثة يحار في أي باب من أبواب المصروفات يضع هذه الدراهم التي اشترى بها هجاء الحطيئة، ولكنه لا يحار طويلا حتى يذكر باب الدعوة وما تنفقه الدول من الملايين ثمنا للثناء والهجاء، فيضعها هنالك وهو أهدأ ضميرا مما وضع في الباب كله؛ لأنه مال تنتفع به الرعية وتنتفع به الأخلاق، ولا نفع فيه لذوات الحاكمين.
ولنضرب أمثلة من طراز آخر على الطريقة العمرية التي يستغربها العصريون وهم مخطئون في استغرابها، أو قادرون على النظر إليها كما ينظرون إلى المألوفات لو أطلقوا عقولهم من عقال الصيغ والأشكال، ونفذوا من ورائها إلى الجواهر والأصول.
كان عمر يعس في المدينة فسمع صوت رجل وامرأة في بيت، فتسور الحائط فإذا رجل وامرأة عندهما زق خمر،
19
فقال: يا عدو الله! أكنت ترى أن الله يسترك وأنت على معصية؟ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أنا عصيت الله في واحدة وأنت في ثلاث، فالله يقول:
ولا تجسسوا
وأنت تجسست علينا، والله يقول:
وأتوا البيوت من أبوابها ، وأنت صعدت من الجدار ونزلت منه، والله يقول:
لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ، وأنت لم تفعل ذلك. فقال عمر: هل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، والله لا أعود. فقال: اذهب فقد عفوت عنك.
ما أسرع ما تقول الحذلقة العصرية وهي مستريحة البال: هذه بدوات
20
البادية في حكمها تجسس ثم محاجة جدلية، ثم نزول عن عقاب، وهي «طريقة تعوزها الإجراءات الرسمية» التي نحن عليها حريصون وبها جد فخورين!
لكن ما القول في مطابقة هذه الطريقة كل المطابقة لما يجري عليه النظام الحديث في إجراءاته الرسمية بغير استثناء؟
فالدساتير الحرة تمنع الرقابة وفض الرسائل واستباحة الأسرار، والحكومات مع هذا المنع الدستوري تضطر إلى استطلاع الأحوال واتقاء الجرائم بمراقبة المتهمين وذوي الشبهات، فإذا اتفق في حادث من الحوادث أنها استباحت سرا يدل على جريمة محظورة، فماذا يكون من سير الإجراءات الرسمية؟ يكون ما كان من عمر في الحدث الذي رويناه بغير اختلاف؛ فالقضاء لا يأخذ بدليل يمنعه الدستور، ولا تثبت عنده الجريمة إلا بدليل مشروع، والحكومة تضطر هنا إلى السكوت ومتابعة الحالة حتى تسفر عن بينة يجوز لها أن تعتمد عليها أمام القضاء. وهي فيما تصنع من هذا القبيل أعجز من عمر فيما صنع؛ لأنه جعل الاستطلاع سبيلا إلى العظة والتوبة، واستغنى عن الإجراءات الرسمية التي نحن عليها حريصون وبها جد فخورين.
ونقترب من حادث تطول فيه الألسنة العصرية أبعد مما طالت في شتى الحوادث التي قدمناها، ونعني به كتابه الذي خاطب به النيل يوم قيل له إنه أمسك عن الفيضان.
فقد زعم المؤرخون أن أهل مصر ذهبوا إلى عمرو بن العاص في شهر بئونة، فأخبروه أن للنيل عندهم سنة قديمة لا يجري إلا بها، وهي «أنهم إذا كانت ليلة ثلاث عشرة من هذا الشهر، عمدوا إلى جارية بكر بين أبويها، فحملوا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقوا بها في النيل»، فلم يجبهم عمرو إلى ما سألوه وقال لهم: هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله. فأقاموا بئونة وأبيب ومسرى لا يجري فيها النيل قليلا ولا كثيرا، ثم رفع عمرو الخبر إلى عمر فاستصوب ما صنع، وكتب له: إني بعثت إليك بورقة مع كتابي هذا فألقها في النيل. وفي الورقة كتاب يخاطب به النيل يقول فيه: «من عبد الله عمر إلى نيل مصر، أما بعد ، فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كنت تجري من قبل الله، فنسأل الله أن يجريك.»
وقال رواة هذه القصة: إن عمرا ألقى بالورقة في النيل قبل يوم الصليب بشهر، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعا،
21
واستراحوا من ضحاياه في ذلك العام وفيما بعده من الأعوام.
والرواية على علاتها قابلة للشك في غير موضع عند مضاهاتها على التاريخ، وقد يكون الواقع منها - إن وقعت - دون ما رواه الرواة بكثير، ولتكن على هذا صحيحة بحذافيرها، فما هي الغضاضة فيها على العلم الحديث، ولا نقول على العقل «البدوي» قبل نيف وألف سنة؟
إن عمر لم يجد أهل مصر معولين في فيضانهم على القناطر والسدود وفنون الهندسة فأبى عليهم أن يعولوا عليها، ولكنه وجدهم معولين على خرافة يعافها العقل والشعور فأنكرها، وحق له أن ينكرها، ولم يقل لهم إن ورقته الملقاة في النيل هي التي تجريه، بل قال لهم إن النيل ليجري بغير تلك السنة التي استنوها له، وبغير القربان الذي يتقربون به إليه، وليس في هذه القصة كلها ما يستغرب من حاكم عصري مؤمن بالله منكر للخرافات، فورقة عمر أقرب إلى العقل في زماننا هذا من الكئوس والقوارير التي تكسر في الأنهار عند فتح قناطرها وجسورها، وأقرب إلى العقل من البخور الذي يحترق في البيع
22
والهياكل جلبا للفيضان واستغاثة بالسماء.
ونحن لا نعرض لهذه الأشتات من طريقة عمر في حكومته لأنها هنات تلجئ المعجب به إلى دفاع وتسويغ، وليس في كل هذه الأشتات وأشباهها ما يلجئ عمر ولا المعجبين به إلى دفاع أو تسويغ.
وإنما عرضنا لها توسعة لأفق النظر إلى العظمة الإنسانية في مختلف أزمانها، واستخفافا بالغرائب التي تخلقها العادة العارضة لعبادها، ثم هي لا تستحق من هوانها أن نخسر من أجلها شعورنا بعظمة الإنسان، وإنها لأنفس ما نصونه ونعتز به في جميع الأزمان.
عدل عمر نخسره لأنه كان يقضي فيه بغير «استمارة» مدموغة ينص عليها قانون المرافعات! أو لأنه كان يقضي فيه على غير «الإجراءات العصرية» في مواجهة الحقوق الشخصية! أو لأنه كان يقضي فيه قضاء يختلف الفقهاء في عنوانه وفي الرف الذي يضعونه عليه بين رفوف الأضابير!
يا لها من حماقة تخجل العصر الحديث! تخجله وهو واقف بين العصور يتطاول عليها بتسخيف الحماقات وإدحاض الخرافات.
الفصل الثامن
عمر والنبي
يندر أن يظفر الباحثون في طبائع الإنسان بمغنم نفسي هو أوفر ثمرة وأنفس محصولا من دراسة عمر بن الخطاب؛ لأن الظواهر المختلفة التي تتجلى في هذه النفس العظيمة ليست من ظواهر كل يوم ولا ظواهر كل دراسة، ولأن اتفاقها البسيط مع تركيبها العجيب مما يتعذر جدا في النفوس التي نعهدها، ومما يتعذر جدا حتى في نفوس الأفذاذ من العظماء.
بيد أن المغنم الأكبر في هذه الدراسة إنما هو مغنم علم الأخلاق؛ لأن علم الأخلاق أحوج إلى الاستقلال بالظواهر الطبيعية، وأفقر إلى الأسناد والدعائم التي تقيمها أمثال هذه الدراسات.
فكل نفس - عظمت أو صغرت - دراستها مغنم لعلم النفس لا شك فيه، كائنة ما كانت النتيجة التي تتأدى إليها من بحث خفاياها وتنظيم شواهدها.
لكن الوصول إلى نتائج علم الأخلاق هو الصعب الجديد الذي لن يزال اليوم وبعد اليوم صعبا وجديدا إلى أمد بعيد.
فالمفروض أن نتائج علم الأخلاق «فكرية تكليفية»، يستنبطها الفكر الذي يختلف في صوابه كما يختلف في خطئه، ويمليها التكليف الذي يطاع ولا يطاع، ويراض عليه الإنسان رياضته على الأمر الغريب «الأجنبي» عن نوازع الطباع.
فإذا اهتدينا إلى نفس تعزز تلك النتائج الفكرية التكليفية التي هي أقرب إلى الآمال المنشودة منها إلى الوقائع الموجودة، فقد ظفرنا بمغنم كبير.
وإذا ظفرنا بحقيقة نفسية هي في الوقت نفسه حقيقة فكرية وحقيقة خلقية، فذلك هو المغنم المضاعف الذي قلما ينال.
ونفس عمر بن الخطاب هي تلك النفس التي تدعم علم الأخلاق من الأساس، وهي ذلك الصرح الشامخ الذي ننظر إلى أساسه، فكأننا تسلفنا النظر إلى ذروته العليا؛ لأنه قرب بين الآمال والقواعد أوجز تقريب، إذ هو التقريب الملموس.
آمال كثيرة من آمال محبي الخير ودعاة الإصلاح هي في نفس عمر بن الخطاب وقائع مفروغ منها، كأنها وقائع المرئيات والمسموعات.
فمنها فيما أسلفناه أن القوة لا تناقض العدل في طبيعة الإنسان، بل يكون العدل هو القوة التي تخيف فيخافها الظالمون.
ومنها فيما نحن بصدده الآن أن القوة لا تناقض الإعجاب على خلاف ما يتبادر إلى الأكثرين.
فإن الأكثرين يحسبون أن الرجل الذي يعجب به الناس لا يعجب هو بأحد، وأن البطل الذي يقدسه عشاق البطولة لا يعشق البطولة في غيره، وأن التطلع إلى الأعلى صفة ينطبع عليها الصغار ليرتفعوا بعض الارتفاع ويحسنوا الخدمة والعون للكبار، ولكنها صفة ينفر منها الكبير ويحس فيها الغضاضة أن يصغر إلى جانب المتفوقين عليه ممن هم أكبر قدرا وأحق بالإعجاب.
لكن البطل الذي ندرسه هذه الدراسة ينقض ذلك الحسبان أقوى نقض مستطاع؛ لأنه بطل يروع، ويعرف روعة البطولة، ويستحق الإعجاب غاية استحقاقه، ثم يخيل إليك من فرط ولائه لمن يفوقونه أنه خلق للإعجاب بغيره، ولم يخلق ليكون هو موضع إعجاب.
فعمر كان يحب محمدا حب إعجاب، ويؤمن به إيمان إعجاب، ويستصغر نفسه إذا نظر إلى عظمة محمد، وما هو فيما خلا ذلك بصغير في نظر نفسه ولا في نظر الناس.
كان محمد - عليه السلام - كما نعلم قدوة في الدعة وحسن المعاملة لجميع صحبه وتابعيه، وكان يعاملهم جميعا معاملة الإخوان والزملاء، فلا يغمرهم برهبة التفاوت الشاسع والتفوق البعيد، فلو جاز أن ينسى أحد فارقا بينه وبين عظيم لنسي أصحاب النبي هذا الفارق بما يلقونه من مساواته وحسن معاملته، ولو نسيانا إلى حين.
إلا أن عمر «العظيم» سمع مرة من صديقه محمد - عليه السلام - كلمة «يا أخي» فظل يذكرها مدى الحياة.
استأذنه في العمرة فأذن له وقال: «يا أخي لا تنسنا من دعائك»، فما زال عمر يقول بعدها كلما ذكرها: «ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس، لقوله يا أخي!»
شهادة لعظمة محمد أن يؤاخي الناس كبارا وصغارا، وأن الناس كبارا وصغارا لا ينسون ما في مؤاخاته من فخر وغبطة، وما بينهم وبينه من فارق بعيد.
وشهادة لعظمة عمر أنه أهل لذلك الإخاء؛ لأنه يدرك ما فيه من عظمة، ويشعر بما فيه من رضوان.
وما يدريك ما عمر الذي يشيع في قلبه الفرح بهذا الإخاء؟
ليس بالرجل الذي يحب تواضع المرائين، وليس بالرجل الذي يجهل مقداره، أو يهاب مخلوقا بغير الحق وبغير الإعجاب.
عمر هذا هو الذي تولى الخلافة وحجته الأولى في ولايتها أنه أكفأ المسلمين لها غير مدافع، وأنه كما قال: «لو علمت أن أحدا أقوى مني على هذا الأمر، لكان أن أقدم فتضرب عنقي
1
أحب إلي من أن أليه.»
2
نعم، هو عمر أقدر المسلمين كما يعلم، وهو عمر الذي يستصغر نفسه إذا نظر إلى المثل الأعلى والقدوة الفضلى، وهو إذن أكبر ما يكون بهذا الاستصغار.
لقد كان يسمع وهو خليفة يقول كالساخر وما هو بساخر: «بخ بخ
3
يا بن الخطاب، أصبحت أمير المؤمنين!»
أكان يقولها لأنه كان يجهل أنه أكفأ العرب للخلافة بعد صاحبيه؟ كلا، بل كان يقولها لأنه يعرف النظر إلى المثل الأعلى، يعرف الإعجاب بما فوقه، يعرف محمدا ويعرف أن اللحاق به أمل لا يطال، يعرف الإعجاب بطلا معجبا ببطل، ويشاء فضله أن تحصى له هذه بين أصدق شواهد البطولة فيه.
ومن الخطأ أن يتوهم المتوهم أن عمر كان يتصاغر لأنه يشعر بصغره، ويتواضع لأنه يشعر بضعة فيه.
إن الصغير لا حاجة به إلى تصاغر لأنه صغير، وربما كانت حاجته الكبرى إلى مداراة شعوره الدخيل بتفخيم الرواء، وتزويق الطلاء، والتخايل بالمسكن والكساء.
وإنما كان عمر يتصاغر لأنه يشعر بعظمته، ويكبح ما يخامره من اعتداد بنفسه، ومحال أن تمتلئ نفس بمثل هذه القوة، ثم تخلو من شعور بقوتها واعتداد بقيمتها؛ فليس ذلك من معهود الطباع في حي من الأحياء، ولا نقصر القول على الإنسان.
ولهذا كان عمر يتصاغر على قدر ما يراه من بواعث الكبرياء، لا على قدر ما يراه من بواعث الصغر، فأبى أن يركب البرذون
4
وهو يغالب عزة الفتح داخلا إلى الشام دخول المنتصر، وقيل له في ذلك فصاح بهم: خلوا سبيل جملي، إنما الأمر من ها هنا، وأشار إلى السماء!
وكلما اعتز من حوله من خاصة أهله وخلصاء رعاياه بما يرونه فيه من بسطة السلطان وعلو الكلمة غض من اعتزازهم، وأحضر في أذهانهم ما ينسيهم السلطان المبسوط والكلمة العالية، فقال لأصحابه يوما وقد مر ببعض الشعاب
5
على مقربة من مكة: «لقد رأيتني في هذه الشعاب أرعى إبل الخطاب، وكان غليظا يتعبني، ثم أصبحت وليس فوقي أحد!»
وضايقت هذه الكلمة ابنه فقال له: «ما حملك على ما قلت يا أمير المؤمنين؟» قال: «إن أباك أعجبته نفسه فأحب أن يضعها.»
6
وانظر هنا إلى كلمة «أمير المؤمنين» يقولها الابن، ثم انظر إلى كلمة «أباك» يقولها أمير المؤمنين.
ومن قبيل هذا ركوعه لله ذليلا خاشعا يوم أمر أبا سفيان أن ينقل الحجر من مكانه فنقله، فخشع لله الذي جعله يأمر أبا سفيان في شعاب مكة فيستمع لما أمر.
وليس هذا وأشباهه تصاغرا يكشف الصغر، إنما هو تصاغر يكشف القوة والاعتداد بها، ويكبحها بعنان متين هو نفسه دليل القوة والاعتداد.
بل يشاء بأس هذا البطل أن تتمادى فيه الصفات إلى غايتها، وهي متناقضة في النظرة الأولى، فإذا بهذا التمادي يردها إلى الوفاق والتكافؤ، ولا يوسع ما بينها من ظواهر الاختلاف.
فمما رأيناه أنه عادل يفوق العدول، وقوي يفوق الأقوياء، فإذا العدل والقوة فيه وفقان متساندان لا يختصمان ولا يتناقضان.
ومما رأيناه أنه بطل تعجب بطولته الأصدقاء والخصوم، ثم هو في إعجابه بالبطولة كأنه خلو من دواعي الإعجاب.
وبقي من موافقاته النادرة أن الإعجاب عنده لا ينقض الاستقلال، ولا يهدد «الشخصية» بالفناء والزوال، فيعجب بمن يفوقه غاية الإعجاب، ويحتفظ معه باستقلال رأيه غاية الاحتفاظ، ولا يتناقض الأمران.
فلم يكن أحد يعجب بمحمد أكبر من إعجاب عمر.
ولم يكن أحد مستقلا برأيه في مشورة محمد أكبر من استقلال عمر، فهو آية الآيات على أن فضيلة الإعجاب لا تغض من صراحة الرأي عند ذي الرأي الصريح.
فما أحجم عمر قط عن مصارحة النبي - عليه السلام - برأي يراه، ولو كان ذلك الرأي من أخص الخصائص التي يقف عندها الاستقلال.
فمحمد في بيته وهو صاحبه، ومحمد في شريعته وهو صاحبها كان يستمع إلى عمر حين يقترح، وحين يستنزل الأحكام، وحين يستدعي الوحي في أمر من الأمور.
فكان يشير على النبي - عليه السلام - أن يحجب نساءه، ويبلغ ذلك إحدى أمهات المسلمين زينب فتقول له: إنك علينا يا بن الخطاب والوحي ينزل علينا في بيوتنا! وتخرج إحداهن - سودة - وهي تحسب أن أحدا لا يعرفها لاستتارها بالظلام فيعرفها بطول قامتها ويناديها «عرفتك يا سودة!» ليؤكد ضرورة الحجاب، فيؤمر المسلمون بعد ذلك ألا يسألوهن إلا من وراء حجاب.
ولما هم النبي - عليه السلام - بالصلاة على عبد الله بن أبي كبير المنافقين يوم وفاته تحول عمر حتى قام في صدره، وأخذ يذكره مساوئ عبد الله وأقاويله في النكاية بالإسلام، وحكم القرآن فيه وفي أمثاله أن
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم .
وألح في التذكير حتى أكثر على النبي - عليه السلام - وهو يبتسم ويقول له: «أخر عني يا عمر، لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له زدت»، ثم صلى عليه، ومشى معه حتى فرغ من دفنه، ثم ما كان إلا يسيرا - كما قال عمر - حتى نزلت هاتان الآيتان:
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره .
وروى أبو هريرة عن النبي - عليه السلام - أنه أنفذه إلى رهط المسلمين فقال له: اذهب إليهم «فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة»، فكان أول من لقي عمر، فصده وعاد به إلى النبي يسأله: «يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة؟» قال النبي: «نعم»، فلم يتريث عمر أن قال: «فلا تفعل يا رسول الله! فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون»، فوافقه عليه السلام وقال: «فخلهم!»
وفي التشريع أو التحليل والتحريم كان عمر لا يقنع حتى يصل إلى القول الفصل فيما يستفسر عنه ويتردد في حكمه، فما زال يسأل عن الخمر حتى حرمت وبطل فيها الخلاف، وهو هو الذي كانت الخمر شهوة له في الجاهلية يحبها ويكثر منها، ولو شاء لالتمس الرخصة فيها ولم يكثر من السؤال عن تحريمها، ففي سؤاله عنها وحذره منها فضل أكبر من فضل الاستقلال بالرأي والإخلاص في المراجعة، وهو فضل الغلبة على النفس والتحصن من الغواية بالأمر الذي لا هوادة فيه.
وجرى صلح الحديبية الذي كان ظاهر الغبن فيه على المسلمين، وظاهر الفوز فيه للمشركين، فيستطيع قارئ التاريخ قبل أن يحصي أسماء المعارضين للصلح والصابرين عليه أن يعلم أين كان عمر بين الفريقين، فقد غمه هذا الصلح غما شديدا، وذهب إلى أبي بكر يراجعه ويناجيه: علام نعطى الدنية في ديننا؟ فأجابه أبو بكر: يا عمر، الزم غرزك - أي رحلك
7 - فإني أشهد أنه رسول الله. وردد عمر أنه ليشهد أنه رسول الله، ثم ذهب في بعض الروايات إليه عليه السلام فسأله: ألسنا يا رسول الله على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ ورسول الله يجيبه: بلى، بلى، فيعود فيسأل: علام نعطى الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟
فلما ناداه: «ابن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا»، ثم علم أنه الفتح المنتظر، ثاب إلى الرضا وكف عن السؤال.
والمحنة على ما هي عليه أعظم مما يطيقه صبر عمر وتسكن إليه سورة
8
طبعه، فمن شروط الصلح أن يرجع المسلمون عامهم ذاك، فيردوا من جاءهم من قريش، ولا ترد إليهم قريش أحدا ممن يجيئون إليها، وأن يكتب النبي اسمه في عقد الصلح فلا يكتب فيه أنه رسول الله، وهذه محنة وردت على حمية
9
عمر بالوارد الجلل الذي ليس أقسى منه ولا أمر على هذه الحمية العزوف. ولكن الصلح لم ينته حتى تفاقمت المحنة وادلهمت الغاشية كأن ما ابتلاه منها لا يكفيه ، فبينما هم يكتبون إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله فقام إليه سهيل
10 - وكان وكيل المشركين في عقد الصلح - فضرب وجهه وأخذ بتلابيبه ليدفع به إلى قريش، وأبو جندل يصيح: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فواساها النبي ودعاه إلى الصبر والاحتساب،
11
ووثب عمر إليه يمشي إلى جنبه، ويدني منه قائم السيف ويقول له: اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب. ورجا - كما قال بعد ذلك - أن يأخذ أبو جندل سيفه فيضرب به أباه، قال: ولكن الرجل ضن بأبيه ونفذت القضية.
فالمحنة أعظم مما تطيقه الحمية العمرية بغير وازع من هداية نبوية. ولأيا ما
12
سكنت نفسه واطمأنت إلى حكمة سيده ومعلمه وهاديه ولا سيما حين ناداه: ابن الخطاب، إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا.
هذه المراجعة كانت من خلائق عمر التي لا يحيد عنها ولا يأباها النبي - عليه السلام - وكثيرا ما جاراه واستحب ما أشار به وعارض فيه فلا جرم يراجع النبي في كل عمل أو رأي لم يفهم مأتاه ومرماه ما أمكنته المراجعة، وما قلقت خواطره حتى تثوب إلى قرار.
اللهم إلا أن تستعصي المراجعة ويعظم الخطر، فهناك تأتي الخليقة العمرية بآية الآيات من الاستقلال والحب والحزم الذي يضطلع بجلائل المهمات، فلما دخل النبي - عليه السلام - في غمرة الموت ودعا بطرس
13
يملي على المسلمين كتابا يسترشدون به بعده، أشفق عمر من مراجعته فيما سيكتب وهو جد خطير، وقال: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا.
14
ومال النبي إلى رأيه فلم يعد إلى طلب الطرس وإملاء الكتاب، ولو قد علم النبي أن الكتاب ضرورة لا محيص عنها لكان عمر يومئذ أول المجيبين.
وكانت هذه سنته في حياة النبي وبعد موته في كل عمل لا يستريح إليه، فلم يحجم عن مراجعة أمره حيا وميتا في مسألة ليست من مسائل الوحي الذي فيه فصل الخطاب، وما كانت المسألة مسألة رأي فهو ناهض لها برأيه حتى يؤمن بخطئه أو يرده عن المعارضة أمر مطاع.
كذلك صنع في قيادة أسامة بن زيد قائد الجيش إلى البلقاء، وفيه جلة الصحابة من كبار السن والمقام، فقد ولاه النبي القيادة ومات - عليه السلام - وهو في الطريق، فقال أسامة لعمر: «ارجع إلى خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فاستأذنه يأذن إلى أن أرجع بالناس، فإن معي وجوه الناس،
15
ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل
16
رسول الله وثقل المسلمين أن يتخطفهم المشركون»، وقالت الأنصار: «فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغه عنا واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة.»
وغضب أبو بكر وكان جالسا فوثب وأخذ بلحية عمر وهو يهتف به: ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب! استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه؟!
فوجبت الطاعة لأنه أبرأ ذمته بالمراجعة، وسمع أمر الرئيس الذي لا رجعة فيه، وعمر جندي متى صرح
17
له الأمر من صاحب الأمر لم يبق له إلا أن يطيع.
وختمت سنة النبي بوفاته فلم يكن بين الصحابة أحد أحرص على هذه السنة وألزم لها وأكثر رجوعا إليها من عمر، ولم تكن له وصية مقدمة على الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله، إلا أنه مع هذا لم يكن يغفل عن العلل إذا وجب البحث عن العلة التي وراء السنة النبوية، فخالف أبا بكر - رضي الله عنه - في إقطاعه الأرض لعيينة بن حصن والأقرع بن حابس وقال لهما: «إن رسول الله كان يتألفكما
18
على الإسلام وهو يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام؛ فاذهبا فاجهدا جهدكما.»
فقد علم سنة النبي مع «المؤلفة قلوبهم» ولم يغفل عن سببها وموقتها، فهي سنة تطاع لحكمتها ولا توضع في غير موضعها، وليس على المسلمين حرج أن يختاروا للمؤلفة قلوبهم معاملة غير التي ألفوها من صاحب الرسالة، إذا تغيرت الحكمة واختفت العلة، واستغنى الإسلام عن ناصرين تتألفهم العطايا والأنفال.
19
ولمثل هذا السبب - ولا شك - نهى عن زواج المتعة، ونهى عن التحلل من بعض مناسك الحج ولم يكن منهيا عنهما كل النهي في حياة النبي - عليه السلام - فكان الرجل يتزوج بالمرأة لأجل معلوم ثم يتركها، وكان منهم من ينوي الحج، ثم يتحلل من بعض مناسكه، فنهى عمر في أيام خلافته وقال: «متعتان كانتا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما.»
وموافقات عمر للقرآن وللسنة كثيرة لا يدعونا المقام هنا إلى إحصائها واستيفائها، وكذلك مراجعاته ومناقشاته فيما يرد عليه من أحكام لا تنجلي مآتيها ومراميها، فحسبنا منها دلائل استقلاله وصراحة عقله فيما سردناه، وحسب الإسلام فخرا أن يؤمن به الإنسان إيمان عمر ثم يستقل برأيه وطبعه استقلال عمر، فالإيمان في أقصاه لا يعطل الرأي المستقل في أقصاه، وكل صفة في عمر فهي صفة مستقصية لا وسط فيها؛ إذا آمن فذلك غاية الإيمان، وإذا استقل فذلك غاية الاستقلال، وإذا أعجب فذلك غاية الإعجاب ... وإن الظفر الذي يظفره علم الأخلاق من دراسته لمبعثه هذا الشاهد من الصفات التي تتناقض في ظاهرها وهي على عهدنا بها في عمر متفقات متساندات، لا تستغني واحدة منها عن سائرها.
فإن لم يكن في دراسة عمر إلا أن نرى رجلا عادلا بالغا في عدله، قويا بالغا في قوته، معجبا بالبطولة بالغا في إعجابه، مستقلا بالرأي بالغا في استقلاله، لكفى بذلك ظفرا لعلم الأخلاق، وكفى بسيرة واحدة أن تقرر لنا هذه الحقائق التي تستكثر على عشرات السير، وهي أن القوة لا تناقض العدل، وأن البطولة لا تناقض الإعجاب، وأن الإعجاب لا يناقض الاستقلال، وتلك الحقائق أثبت في عمر من معارف بدنه وملامح سيماه.
وكانت مودة النبي لعمر كمودة عمر للنبي شرفا له من جانبيه، وشهادة لعظمته وعظمة معلمه ومؤدبه وهاديه.
كانت نظرة محمد إليه نظرة عالية لا تعلوها نظرة أحد من أصحابه، فلم يكن أحد يكبر عمر كما كان يكبر عارفيه، ولم يكن رضاه عن مخالفاته ومراجعاته بأقل من رضاه عن موافقاته وتسليماته؛ لأنه كان ينظر إلى بواعث هذه وتلك فيحمدها ويرجو للإسلام خيرا منها، بل يدخر للإسلام سورته
20
كما يدخر له تسليمه وطاعته ، ويسوسه في رفق وكرامة سياسة المعلم لتلميذه الذي يعينه ويستعين بغيرته، ويروضه رياضة الإمام لمريده الذي يهيئه للإمامة بعد حين، ويشجعه بقبول الحسن من رأيه تشجيع من يثبت فيه حسن الرأي ويستزيده منه.
ولا يتأتى أن ينظر النبي الملهم إلى عمر دون أن يرى فيه أولى مشابهاته للطبائع النبوية؛ وهي الإلهام الديني والبصيرة الروحية، فكان - عليه السلام - يقول فيه: «قد كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد فعمر.»
ومثله قوله في بعض ما نقل عنه عليه السلام: «لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب»، وقوله: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه»، وقوله: «عمر بن الخطاب معي حيث أحب، وأنا معه حيث يحب، والحق بعدي مع عمر بن الخطاب حيث كان.»
وتلك لمحات نبي ملهم إلى بصيرة ملهمة تقارب بصيرة الأنبياء، وإن في هذه اللمحات لمعرفة بالنفس ونفاذا إلى الضمير، من أجلها كان محمد مصلح نفوس وهادي ضمائر، وفاتح عهد روحي في تاريخ الإنسان.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن محمدا قد أحاط بكل فضيلة من فضائل عمر، وكل خليقة من خلائق طباعه، وراقبه قبل إسلامه وبعد إسلامه فلم تفته كبيرة ولا صغيرة من مواطن العظمة فيه، إلا أنه لم يحمد منه شيئا كما حمد حبه للحق وكراهته للباطل، فهي الخصلة التي تلاقيا فيها وتقاربا من قبلها، وإن كان محمد لأرحب صدرا، وأعلم بالناس من أن يكلف صاحبه أن يشبهه كل الشبه في علاج الحق والباطل، فلا بد من فارق بين الرجلين هو الفارق الذي لا بد منه بين المعلم والمريد وبين الإمام والمأموم.
ولا نخالنا نلمس هذا الفارق كما نلمسه من قصة الأسود بن شريع، ذلك الشاعر الذي كان ينشد النبي بعض الأماديح، فاستنصته
21
مرتين إذ دخل عليهما عمر والشاعر لا يعرفه فصاح: واثكلاه!
22
من هذا الذي أسكت له عند النبي؟ فقال النبي: «هذا عمر، هذا رجل لا يحب الباطل!»
وتلك قصة تكبر عمر مرة وتكبر النبي مرات، فلا يسمعها السامع فيخطر له أن محمدا كان يقبل الباطل الذي يأباه عمر، أو كان يهوى اللغو الذي يعرض عمر عن سماعه، وإنما يسمعها فيعلم أي الرجلين يهدي صاحبه في مناهج الحق، ويدربه على كراهة الباطل، ويعلم أن الإمام يطيق ما لا يطيقه المريد، ويتسع صدره لما تضيق به صدور تابعيه، وأن محمدا أراد أن يعود الناس مهابة عمر، وأن يستبقي لعمر سورته في محاربة الضلال، والأيام كفيلة بترويض تلك السورة فيما ينبغي أن تراض عليه.
وهنا يتجلى مذهبان في كراهة الباطل، ويتجلى فارق واضح بين مذهب المعلم ومذهب المريد.
فعمر كان ينكر الباطل إنكار المحارب، ويرفع له سلاحه حيثما رآه، ومحمد كان ينكره ولا يرفع له سلاحه حيثما رآه؛ لأنه يعلم ضروبا من الباطل وضروبا من الإنكار.
ومن الإنكار أحيانا أن يتجاوز عنه، وأن يشفق عليه إشفاق الرجل على سخف الطفل الصغير، وأن يتربص به الأيام حيث يزول، وأن يعالجه بسلاح المحارب وبغير سلاح المحارب، وهو بذلك قد أعد له ضروبا من الإنكار، وكان أكمل عدة له من الراصدين له في ميدان واحد.
أنقول إن الفارق بين محمد وعمر في هذا هو الفارق بين نبي وخليفة؟!
إن قلنا ذلك فقد قلنا حقا جامعا لا شبهة فيه، ولكنا لا نعدو به تحصيل الحاصل وتكرير الأسماء؛ فمحمد نبي وعمر خليفة، ما في ذلك خلاف، ولا بد بينهما من فارق، ما في ذلك خبر جديد، فما هو الفارق الذي يعدو تكرير الأسماء، أو تكرير الصفات؟ الفارق فيما نرى هو الفارق بين إنسان عظيم ورجل عظيم.
فالنبي لا يكون رجلا عظيما وكفى، بل لا بد أن يكون إنسانا عظيما فيه كل خصائص الإنسانية الشاملة التي تعم الرجولة والأنوثة والأقوياء والضعفاء، وتهيئه للفهم عن كل جانب من جوانب بني آدم، فيكون عارفا بها وإن لم يكن متصفا بها، قادرا على علاجها وإن لم يكن معرضا لأدوائها شاملا لها بعطفه، وإن كان ينكرها بفكره وروحه؛ لأنه أكبر من أن يلقاها لقاء الأنداد،
23
وأعذر من أن يلقاها لقاء القضاة، وأخبر
24
بسعة آفاق الدنيا التي تتسع لكل شيء بين الأرض والسماء؛ لأنه يملك مثلها، آفاقها كآفاقها هي آفاق الروح.
ومن الصغائر الآدمية التي كثيرا ما يطيقها الإنسان العظيم، ويبرم بها الرجل العظيم كل غرور صبياني يحيك بنفوس الناس، وهو ضروب ليست لها نهاية: غرور الشاعر بأماديحه، وغرور الفنان بصنعته، وغرور المرأة بجمالها، وغرور الشيخ بتراثه، وغرور الأحمق بخيلائه، وغرور الجاهل بعلمه، وفي كل ضرب من هذه الضروب كان بين محمد وعمر فارق واضح وتفاوت محسوس، وكانت بينهما دروس تجري بها الحوادث تعليما وهدى كما تجري عرضا غير ظاهر فيه قصد التعليم والتلقين.
وعمر - رضي الله عنه - قد استفاد من دروس معلمه وهاديه في هذه الضروب شتى الفوائد، كما ظهر من سياسته في أيام خلافته ومن مراجعة نفسه والنبي - عليه السلام - بقيد الحياة.
فقد أشار على النبي بقتل عبد الله بن أبي بن سلول حين مشى بالفتنة بين المسلمين، فأبى النبي وترك عبد الله يمضي في شططه حتى أنكره قومه وعنفوه، وتصدى له من صلبه من يريد له الموت،
25
فقال النبي لعمر حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له آنف، ولو أمرتها اليوم بقتله لقتلته، فقال عمر: قد والله علمت، لأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أعظم بركة من أمري.
وكان عمر يستكثر صلاة النبي على عبد الله بن أبي بعد موته، ويستعظم أن يهب له قميصه، وأن يكفنه أهله في ذلك القميص. وكان النبي يرعى في ذلك حق ابنه الذي أخلص في إسلامه، وبلغ من إخلاصه أنه اقترح على النبي قتل أبيه، وسئل النبي كما جاء في بعض الروايات: لم وجهت إليه بقميصك وهو كافر؟ فقال: إن قميصي لن يغني عنه من الله شيئا، وإنني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب! فقيل إن ألفا من الخزرج أسلموا لما رأوا زعيمهم يطلب الاستشفاء بثوب الرسول، وخرجت الصحابة وعمر في طليعتها بعبرة باقية من هذا الدرس النبوي الحكيم.
وشبيه بدرس عبد الله بن أبي درس الخطيب المفوه سهيل بن عمرو الذي أسر في بدر، فأشار عمر على النبي بكسر ثنيتيه السفليين ليعجز عن الكلام إذ كان مشقوق الشفة السفلى، فأبى النبي «عسى أن يقوم مقاما لا تذمه»، فما زال وما زال عمر حتى رآه في حروب الردة يقطع بلسانه كما يقطع السيف، فحمد له ذلك المقام.
وجاء الفتح بعد صلح الحديبية، فرأى عمر كما رأى المعارضون معه أن قريشا خسرت ولم تربح بالصلح الذي عارضوه، وأن المسلمين ربحوا ولم يخسروا بقبوله، وأنهم زادوا عددا وزادوا حلفاء من غير المسلمين، وأن الذين رفضهم النبي من تابعيه عملا بالصلح لم ينفعوا قريشا، بل كانوا بلاء عليها أشد من بلاء القتال، وبدا ذلك من مبدأ الأمر لعمر فاعتبر به وقال: «ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرا.»
وتجتمع خلاصة هذه الدروس كلها في خبر واحد من أخبار عمر بعد ولايته الخلافة، وذلك حين بلغوه فتح «تستر»، وذكروا له أن رجلا ارتد عن الإسلام فقتلوه، فلامهم على قتله وقال لهم: «هلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه وأطعمتموه كل يوم رغيفا فاستتبتموه؟
26
اللهم إني لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني.»
فهذا عمر تلميذ محمد في الإسلام، وهذا عمر شاهد دروس ابن سلول ومن على شاكلته من المنافقين والمشركين، وهذا عمر المستفيد بما وعى من تلك الدروس، ومعنى ذلك جميعه أن محمدا أعظم من عمر، وليس معناه أن عمر لم يكن بعظيم.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن النبي - عليه السلام - كان يعلم ما يحتاج إليه صاحبه وما يستغني عنه من الدروس، فعمر لم يعوزه قط درس قوي يعلمه حب الحق وكراهة الباطل؛ لأنها خليقة متمكنة منه أصيلة فيه موشوجة
27
بطبعه، ولكنه قد يعوزه حينا بعد حين أن يتعلم الصبر على الباطل ولا سيما في فوعة الشباب،
28
وألا يأسى على الحق أن تفوته معركة زائلة في صراعه الدائم مع خصمه القديم، فهي معركة لا تضيع بصدمة ولا تؤخذ بهجمة، ولا تزال سجالا منظورة العواقب في ساعة النصر وساعة الهزيمة على السواء.
وربما أعوزه ما يعوز الأقوياء في معظم الأحايين، وهو أن يذكروا أن الناس جميعا ليسوا بأقوياء، وأن الناس جميعا ليسوا بعمر بن الخطاب، فإذا استطاع عمر أن يمنع الخمر مرة واحدة فقد يشق ذلك على آخرين، وإذا استطاع أن يتصدى للموت في كل لحظة فليس ذلك في وسع كل مسلم، وقلما يستحضر الأقوياء هذه الحقيقة إلا بعد تذكير وروية. أما على البداهة فهم يقيسون الناس على أنفسهم ويحسبونهم أهلا لما هم أهل له وكفؤا لما هم قادرون عليه، ولهم من الشرف في نسيان هذه الحقيقة فوق ما لهم من الشرف في تذكارها ودوام استحضارها.
وقد كان تفكير عمر كله على البداهة في عهد النبي - عليه السلام - فكان يفضي إليه بما يوحيه عفو خاطره وتمليه بادرة فكره،
29
مطمئنا إلى مرجع الرأي ومقطع القول بين يديه، شاعرا بواجبه الأول أحسن شعور في هذا المقام؛ لأنه شعور الرجل الكريم الذي لا يضن بشيء من عونه، فهو يعرض أقصى ما عنده من البأس ويدع لصاحب الأمر أن يكتفي باليسير منه إذا شاء، ولكن ليس عليه هو أن يعرض اليسير ويترك لصاحب الأمر أن يطلب الكثير.
مثل عمر في هذه المواقف مثل صاحب المال، تنزل الضائقة الحازبة
30
فيبسط ما عنده من المال جميعا ويدع للوالي القائم بالتدبير أن يختار من ماله مقدار ما يريد، وذلك أفضل الحسنيين وأكرم الواجبين، وهو الواجب الذي يليق بعمر في صحبة الرسول.
ولا يحسبن قارئ أننا نعتسف
31
التأويل والتخريج لننظر إلى عمر في أجمل الصور ونوجه أعماله أحسن توجيه، فما نقوله هنا لا يعدو تفسير عمر نفسه لما اتصف به من الشدة في عهد رسول الله، وتفسيره - كما قال غير مرة - أنه كان سيفا للرسول إن شاء ضرب به وإن شاء أغمده في قرابه، وأنه كان جلوازه
32
القائم بين يديه، وليس من شأن الجلواز أن يمسك كثيرا أو قليلا من بأسه حيث يؤمر بإمساكه ويرد إلى الهوادة واللين.
بل هذا الذي نقوله هو الذي قاله أبو بكر - رضي الله عنه - في شدة عمر ولينه، فكلما تحدثوا إليه بغلظته قال: إنما يشتد لأنه يراني لينا، ولا غلظة على الضعفاء فيه.
فكان جميلا بعمر أن يسهو عن تلك الحقيقة، وأن يحتاج فيها إلى تذكير واستحضار، وكان أفضل واجبيه لا مراء أن يعرض البأس حتى يؤبى، ثم يثوب إلى اللين ولا جناح عليه.
وهو اليقين الذي لا يخامرنا الشك فيه أن عمر كان خليقا أن يفهم تلك الحقيقة بتفصيلاتها لو جعل باله إليها، ولم يجعل باله إلى تقديم ما عنده «والجود بأقصى جوده» في انتظار القول الفاصل من رأي النبي - عليه السلام - ولولا استعداده لفهم تلك الحقيقة وما شابهها لما انتفع بالقدوة، ولا أغنت معه المثل والتجاريب.
ومهما يكن من حاجته إلى دروس معلمه وهاديه، فالذي نعتقده أن مكانه من الخلافة لم تقرره الحاجة إلى تلك الدروس؛ لأن الصحابة كلهم على حكم واحد في هذا الاعتبار سواء منهم الخلفاء الراشدون وغير الخلفاء الراشدين، فما من رجل كان بين أصحاب محمد - عليه السلام - إلا كان مفتقرا إلى جانب من جوانب هديه وتهذيبه وتقويمه، وما كان عمر على التخصيص بأشد افتقارا إلى ذلك من رفاقه وتابعيه وإن اختلف ما يعوزه وما يعوزهم من مواضع الهدي والتهذيب والتقويم.
وواضح من هذا أن دعوة النبي - عليه السلام - أبا بكر للصلاة بالناس في مرض وفاته لم تكن بالمصادفة ولا بالاختيار الذي يتساوى فيه أبو بكر وعمر في ذلك المقام، فقد دعاه حتى وصل الأمر إليه رضي الله عنه فلباه. وتفصيل ذلك كما جاء في رواية البخاري أن النبي اشتد عليه المرض فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت عائشة - رضي الله عنها: إن أبا بكر رجل رقيق القلب، إذا قام في مقامك لا يكاد يسمع الناس من البكاء، فلو أمرت عمر؟ فعاد النبي يقول: مروا أبا بكر فليصل. فعاودته، فقال مرة أخرى: مروه فليصل، إنكن صواحب يوسف.
33
وحدث عبد الله بن أبي زمعة أن بلالا دعا النبي إلى الصلاة فقال: مروا من يصلي بالناس، «فخرجت فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبا، فقلت: قم يا عمر فصل بالناس فقام، فلما كبر سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صوته، وكان عمر رجلا مجهرا،
34
فقال: فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلون. فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس.»
قال عبد الله بن أبي زمعة: إن عمر لقيني فقال لي: ويحك! ماذا صنعت بي يا بن أبي زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أمرك، ولولا ذلك ما صليت بالناس. قلت: والله ما أمرني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بذلك! ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة.
والواضح من كلتا الروايتين أن النبي - عليه السلام - قصد إلى اختيار أبي بكر للقيام في مقامه من إمامة المسلمين وضمن ذلك ما ضمنه من معنى الاستخلاف والتقديم.
فعلى أي وجه نفهم هذا الاختيار الذي صدر عن قصد وروية ولم يصدر عن مصادفة واتفاق؟ وعلى أي وجه تساءل النبي - عليه السلام - حين سمع صوت عمر ولم يسمع صوت أبي بكر فقال: «يأبى الله ذلك والمسلمون؟»
إننا لا نفهم ذلك إلا على وجه واحد يجمل بمحمد، ويجمل بأبي بكر، ويجمل بعمر، كما يجمل بالمسلمين.
فمن البديه أن ينظر النبي في اختيار خليفته إلى جميع الاعتبارات التي تدخل في الحسبان، ولا يقنع بالنظر إلى اعتبار واحد.
فإذا نظر النبي إلى جميع الاعتبارات فأي غضاضة على عمر أن يقع الاختيار على أبي بكر ولا يقع عليه؟
إن اختيار أبي بكر يجمع للإسلام فضائل الرجلين، ولا غضاضة فيه على أحدهما ولا على المسلمين، ولكن الغضاضة أن يتأخر أبو بكر وهو أسن وأسبق إلى الإسلام وثاني اثنين في الغار، وأقمن
35
أن تبطل حوله منافسة الأنداد، وله الرأي الصائب والشجاعة المأثورة والإيمان الثابت والمسالمة المرضية والحق الظاهر في الإيثار كلما قوبل بغيره من الحقوق.
ومع هذا الرجحان الذي انفرد به أبو بكر ترجيح آخر لاستخلافه في الموقف الذي كان منظورا بعد موت النبي - عليه السلام - وهو موقف رضا ومسالمة بين المسلمين يغنيان إذا جرت الأمور في مجراها الطيب المأمون، فإذا تأزمت واضطربت ونفدت حيلة اللين حتى نبذه أبو بكر في رفقه وهوادته، فذلك إذن موطن الإجماع، وإذا صلب غيره واجتمعت كلمتهم على الصلابة ولم يبق من يلين في الأمر سواه، فصلابتهم أقمن إذن أن تنعطف بلينه إلى الإجماع الذي لا شذوذ فيه.
فالنبي - عليه السلام - قد حسب للعواقب كل حساب، وقد نظر في استخلافه إلى كل اعتبار، وقد وازن بين أمور كثيرة ولم يوازن بين صاحبين ليس بينهما محل للتنافس والملاحاة.
ومما نظر إليه عليه السلام أن عمر أصغر من أبي بكر بعشر سنوات أو نحو ذلك، فدور أبي بكر لا يحجب دور عمر، وإذا انتفع الإسلام بمزايا أبي بكر في حينها الذي هو أحوج إليها؛ فسينتفع الإسلام بمزايا عمر في الحين الذي يتولاه فيه، يوم تغني الصلابة في مدافعة الأعداء ما أغناه الرفق في تأليف الأوداء،
36
ولا يحسبن قارئ هنا أيضا أننا نستخلص النتائج من التاريخ وندرك ما كان بعد أن كان، فالواقع المنصوص عليه أن الذي رأيناه بعد وقوعه قد كان منظورا إليه قبل أن ينكشف عنه الغيب، وقد نظر إليه النبي - عليه السلام - فقال: «أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب،
37
فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا
38
أو ذنوبين نزعا ضعيفا، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربا،
39
فلم أر عبقريا يفري فريه، حتى روى الناس وضربوا بعطن.»
40
ولم يخف معنى الرؤيا على معبريها؛ لأنها لا تحتمل غير تعبير واحد، وهو الذي أشار إليه الشافعي - رحمه الله - ففسر ضعف النزع بقصر المدة وعجلة الموت، والاشتغال بحرب أهل الردة عن «الافتتاح والازدياد الذي بلغه عمر في طول مدته.»
ويجوز أن النبي - عليه السلام - قد أدخل في حسابه تقديرات أخرى من هذا القبيل لا يحيط بها أبناء عصره ولا نراها نحن في عصرنا، فلهذه المسائل في جميع العصور نواحيها الموضوعية ونواحيها الخاصة التي لا يدركها كل من عاش بينها، ولا يتأتى نقلها بالكتابة والتدوين. ومتى كانت هذه هي التقديرات التي فصلت في مسألة الترشيح للخلافة، فأي غضاضة فيها على عمر؟ إنها شيء لا يتناوله وحده، وليست لكفاءة أبي بكر ولا لكفاءته هو كل اليد فيه، وإن الذي حدث لا يعدو أن يكون موازنة بين أحوال ثم تقديما للصالح في تلك الأحوال، أو هو تأخير موعد ومناسبة، وليس بتأخير حق وكفاءة، فأبو بكر كفء للخلافة، وعمر كفء للخلافة، لكن تقديم أبي بكر أصلح وأولى وأوفق لأحوال الزمن ولكرامة الصحابة والمسلمين أجمعين.
وإنك لتكونن على ثقة من حقيقة واحدة في رهط محمد تجزم بها وأنت آمن أن تخالف التاريخ فيما بطن وفيما ظهر، وذلك أنه عليه السلام لم يبرم قط أمرا فيه غضاضة على أحد من أصحابه، ولا سيما في مسألة الاستخلاف أو التقديم للإمامة والصلاة بالناس، فكل الذي حدث فيها فهو الذي يجمل بالنبي من تقدير وتدبير، ويجمل بصاحبيه من إيثار وتوقير، ويجمل بالإسلام من تمكين وتعمير، وانتفاع بعمل كل عامل، واقتدار كل قدير. •••
بقي جانب من جوانب العلاقة بين النبي وعمر لا يسكت عنه لكثرة ما قيل فيه، فضلا عن وجوب النظر فيه؛ لأنه يتمم العلم بتلك العلاقة ويزيدنا فهما لها واستقصاء لمداها واطلاعا على طريقة عمر في الموازنة بين الواجبات والشئون حيثما اشتجرت بين يديه، ونريد به جانب العلاقة بين عمر وآل البيت، وبين عمر وابني عم النبي الكبيرين علي وابن عباس بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى.
فالذين أولعوا في التاريخ بخلق القضايا والمخاصمات يقولون كثيرا في هذه العلاقة، ويمثلون عمر على صورة الرجل الذي كان يتحدى بني هاشم ويناجزهم مناجزة لعصبية فيه عليهم، ولكنهم لا يذكرون من الوقائع ما يعزز شبهة، أو يرجح بظن في هذه الوجهة، وكل ما حفظته لنا أنباء العصر فإنما تخلص بنا إلى الخلاصة التي تجمل بعمر وتحمد منه، وهي الوفاء المحض لذكرى النبي - عليه السلام - في آله وخاصة بيته، والأمانة المحض لمصلحة العرب والإسلام مقدمة على كل مصلحة خاصة أو عامة، وكل ما عدا ذلك لغو وباطل.
فعند تقسيم الأعطية كان لآل النبي النصيب الأوفى والمكان المقدم بين الصحابة، وكان لهم التفضيل في كل حق من حقوق المسلمين، حسبما كان بينهم وبينه عليه السلام من رحم وقرابة، وفضلهم عمر على أقرب الناس إليه في اللقاء والحفاوة، فكان في بعض الأيام ينتظر الحسين بن علي - رضي الله عنه - فذهب إليه الحسين، فلقي عبد الله بن عمر في الطريق فسأله: من أين جئت؟ قال: استأذنت على عمر فلم يأذن لي. فرجع الحسين ولم يذهب إليه، ثم لقيه عمر معاتبا وسأله: ما منعك يا حسين أن تأتيني؟ قال: قد أتيتك ولكن أخبرني عبد الله بن عمر أنه لم يؤذن له عليك فرجعت. فعز ذلك على عمر وقال له: وأنت عندي مثله؟! وأنت عندي مثله؟! وهل أنبت الشعر على الرأس غيركم؟
وكسا عمر أصحاب النبي فلم يكن في الأكسية ما يصلح للحسن والحسين - رضي الله عنهما - فبعث إلى اليمن فأتى لهما بكسوة تصلح لهما وقال حين رآها: الآن طابت نفسي!
وسافر إلى الشام، فاستخلف عليا - رضي الله عنه - على المدينة، وأخذ نفسه باستفتائه والرجوع إليه في قضائه متحرجا من دعوته إليه حين يحتاج إلى سؤاله. استفتاه بعضهم في مجلسه فقال: اتبعوني، وأخذهم إلى علي فذكر له المسألة، فقال علي: ألا أرسلت إلي؟ قال عمر: أنا أحق بإتيانك.
وكذلك كان يستفتي ابن عباس في الدين والأدب ولا يلقاه باحثا مسترسلا في الحديث إلا قال معجبا متبسطا: غص غواص!
41
وقلما سئل في أمر وابن عباس حاضر إلا قال يشير إليه: عليكم بالخبير بها.
ولم يحجم عن توليتهم الولايات إلا كما أحجم عن تولية الجلة من الصحابة ورءوس قريش الذين أبقاهم عنده للمشورة وصانهم عن محاسبته وعتابه، وفي ذلك يقول لابن عباس: إني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
استعمل الناس وترككم، والله ما أدري أصرفكم عن العمل أو رفعكم عنه وأنتم أهل ذلك؟ أم خشي أن تعاونوا لمكانكم منه فيقع العتاب عليكم ولا بد من عتاب؟
أما مسألة الخلافة فالذي يزعمه فيها الذين يخوضون في القضايا والمخاصمات أن عمر - رضي الله عنه - تعمد أن يحول بين علي والخلافة بصرفه النبي عن كتابة الكتاب الذي أراد أن يبسط فيه وصاياه فلا يضل المسلمون بعده، ويزعمون أنه هو قد حال بين علي والخلافة مرة أخرى يوم تركها للشورى ولم يستخلفه باسمه لولايتها.
واستكثروا من عمر صرامته في دعوة علي إلى مبايعة أبي بكر كما جاء في بعض الروايات التي ترجح صحتها، وخلاصتها «أن عمر أتى منزل علي وبه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال: والله لأحرقن عليكم الدار أو لتخرجن إلى البيعة، فخرج الزبير مصلتا بالسيف
42
فسقط السيف من يده فوثبوا عليه
43
فأخذوه ...» أو قال لهما في رواية أخرى: «والله لتبايعان وأنتما طائعان، أو لتبايعان وأنتما كارهان.»
فاستكثر المستكثرون هذه الصرامة وعدوها من إصرار عمر على الإجحاف بعلي وإقصاء بني هاشم عن الخلافة.
أما القول بأن عمر هو الذي حال بين النبي - عليه السلام - والتوصية باختيار علي للخلافة بعده فهو قول من السخف بحيث يسيء إلى كل ذي شأن في هذه المسألة، ولا تقتصر مساءته على عمر ومن رأى في المسألة مثل رأيه.
فالنبي - عليه السلام - لم يدع بالكتاب الذي طلبه ليوصي بخلافة علي أو خلافة غيره؛ لأن الوصية بالخلافة لا تحتاج إلى أكثر من كلمة تقال، أو إشارة كالإشارة التي فهم المسلمون منها إيثار أبي بكر بالتقديم، وهي إشارته إليه أن يصلي بالناس.
وقد عاش النبي بعد طلب الكتاب فلم يكرر طلبه، ولم يكن بين علي وبين لقائه حائل، وكانت السيدة فاطمة زوج علي عنده إلى أن فاضت نفسه الشريفة، فلو شاء لدعا به وعهد إليه.
وفضلا عن هذا السكوت الذي لا إكراه فيه، نرجع إلى كل سابقة من سنن النبي في تولية الولاة فنرى أنه كان يجنب آله الولاية ويمنع وراثة الأنبياء، وهذه السنة مع هذا السكوت لا يدلان على أن محمدا - صلوات الله عليه - أراد خلافة علي فحيل بينه وبين الجهر بما أراد.
ولم يعتمد عمر على الشورى في اختيار الخليفة بعده وله مندوحة عنها، فقد رأى من أصحابه - كما قال - حرصا سيئا وخلافا لا يحسمه رأي واحد، وكانت حيرته عظيمة بين الاستخلاف وترك الاستخلاف، فلما قيل له وهو طعين يودع الحياة: ماذا تقول لله عز وجل إذا لقيته ولم تستخلف على عباده؟ أصابته كآبة ثم نكس رأسه طويلا ثم رفع رأسه وقال: «إن الله تعالى حافظ الدين، وأي ذلك أفعل فقد سن لي، إن لم أستخلف فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم يستخلف، وإن استخلفت فقد استخلف أبو بكر.»
واختار للشورى في أمر الخلافة أناسا ليس بين المسلمين أولى منهم بالاختيار، وكأنهم كانوا مسمين بأسمائهم لهذه المهمة لو لم يرشحهم هو لرشحهم لها كل مختار.
ولم يكن الفكاك من التبعة هو الذي أوحى إليه أن ينفض يديه، ويلقي بالعبء على عواتق غيره؛ فعمر لا ينجو بنفسه ليوقع أحدا فيما يحاول النجاة منه، ولكنه قدر أن الرجل الذي تختاره كثرة المحكمين هو أولى أن ينعقد عليه الإجماع وينحسم بترجيحه النزاع، فمن خرج عليه فهو باغي فتنة يتبعها الأقلون ويردعها الأكثرون.
وكان مع هذا يود لو اجتمع الرأي على اختيار علي بعد المشاورة فقال لابنه: لو ولوها الأجلح - أي المنحسر الشعر - لسلك بهم الطريق، فسأله ابنه: فما يمنعك أمير المؤمنين أن تقدم عليا؟ قال: أكره أن أحملها حيا وميتا.
وفيما عدا الاستخلاف بعد النبي والاستخلاف بعد عمر، فالسياسة التي جرى عليها عمر كانت كلها سياسة عامة قائمة على أساس عام لا تفرقة فيها بين بني هاشم وغيرهم ولا بين علي وغيره.
فكان يكره أن تستأثر بالأمر عصبة دون غيرها بالغة ما بلغت منزلتها، ولم يكره ذلك من بيت هاشم دون سائر البيوت.
كان يحجر على وجوه قريش أن يخرجوا إلى البلدان إلا بإذن وإلى أجل، وبلغه أنهم يشكونه، فأعلن في الناس: «إن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونة على ما في أنفسهم، ألا إن في قريش من يضمر الفرقة ويروم خلع الربقة،
44
أما وابن الخطاب حي فلا، إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد.»
وكان يزجر قومه بني عدي كلما أحس منهم الطمع في خلافته لأنه واحد منهم، فيصارحهم قائلا: «بخ بخ بني عدي! أردتم الأكل على ظهري، وأن أهب حسناتي لكم، ولا والله حتى تأتيكم الدعوة وإن أطبق عليكم الدفتر ...» أي وإن كتبتم في الأعطية آخر الناس. وهو الذي أبى أن يختار ابنه للخلافة، وقال للمغيرة بن شعبة الذي زين له استخلافه: «لا أرب
45
لنا في أموركم وما فيها لأحد من بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن كان شرا فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد.»
وجمع عليا وعثمان في مجلس الشورى لاختيار الخليفة، فالتفت إلى علي فقال: «اتق الله يا علي إن وليت شيئا، فلا تحملن بني هاشم على رقاب المسلمين.»
والتفت إلى عثمان فقال: «اتق الله إن وليت شيئا، فلا تحملن بني معيط على رقاب المسلمين»، أو قال بني أمية.
وكان أكبر همه أن يعصم الإسلام من الملك الذي يستأثر به مستأثر لأناس دون أناس، وكثيرا ما سأل: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك؟ مستعيذا بالله من كل سلطان لا يعم جميع رعاياه بالخير. وكلمته لابن عباس حيث قال: «إن الناس كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، وإن قريشا اختارت لأنفسها فأصابت»، هي كلمته حيثما تكلم في هذا الصدد لا يخص بها بيتا دون بيت ولا معشرا دون معشر ولا قبيلة دون قبيلة، إلا الأمانة لمصلحة المسلمين جميعا حيثما اتفقوا عليها، أو كان لهم رجاء في الاتفاق.
وما كانت لعمر صرامة مع علي لم تكن له مع غيره في مأزق الخوف من الفتنة والذود عن الوحدة، فقبل أن يسلم الروح كانت وصيته وهو لا يعلم من الخليفة بعده: «إن اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبى واحد فاشدخ
46
رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلا وأبى اثنان فاضرب رأسيهما، فإن رضي ثلاثة رجلا منهم وثلاثة رجلا فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس.»
وما اختار ابنه عبد الله للفصل بين الفئتين المتساويتين إلا لأنه خارج من الاختيار، ثم لم يجعل له القول الفصل؛ حتى يفتح للناس مخرجا من رأيه إن شاءوا ألا يتبعوه.
ولن يقضي بأمثل من هذا القضاء في مأزق الفتنة أحد له قضاء عادل منزه عن خبايا القلوب.
فما اتخذ عمر من حكم بين الناس فهو الحكم الذي يجمل به ويحمد منه، ولا ينتفع به قبل أن ينتفع سائر الناس، هو الحكم الذي يعم ويعدل ولا يخص ويتحيز، وهو الحكم الذي لو سئل فيه النبي سيد بني هاشم لأعاد فيه قوله: «عمر بن الخطاب معي حيث أحب، وأنا معه حيث يحب، والحق بعدي مع عمر بن الخطاب حيث كان.»
الفصل التاسع
عمر والصحابة
بايع عمر فبطل الخلاف إلا ما لا خطر فيه، وبويع عمر فبطل الخلاف إلا ما لا خطر فيه.
وقد تواترت أقوال الصحابة في عمر بما يشيد بفضله، ويشهد بقدره، ويكبر في أعين الناس أكبر من تقال فيه؛ لأن الذين قالوها أناس لهم حلوم راجحة، وألسنة صادقة، وعقيدة راسخة، وقلوب لا تهاب أن تقول الحق في إنسان. ولكن الشهادتين اللتين شهد بهما الواقع أدل على قدر عمر بين الصحابة من كل ما قيل؛ لأن شهادة الواقع هي الشهادة التي يقولها الصادق باختياره، ويحاول الكاذب أن يكذب فيها فلا يستطيع، وإنما يجوز الصدق والكذب فيما يملكه اللسان أو يملكه الشعور. أما الشهادة التي تعبر عن نفسها بلغة الواقع، فهي قائمة من وراء كلام الألسنة ومن وراء هوى النفوس، إنكارها كإنكار المحسوس الذي تقع عليه الأيدي، ولا تغمض عنه العيون.
وقد انتهت مسألة الخلافة بعد النبي بسلام.
ولكن انتهاءها بسلام لا يعني أنها كانت ستنتهي وحدها بسلام على أية حال، ولا يعني أنها انتهت لأنها من المسائل التي يؤمن فيها الخطر وتمتنع فيها الفتنة؛ إذ الحقيقة أن انتهاءها على هذا النحو قد كان أعجوبة من أعاجيب التاريخ، مع ما يحيط بها من دواعي النزاع ومن كوامن القلق والخوف على غير سابقة يستقيم بها العرف وتتضح بها معالم الطريق.
فما هو إلا أن لحق النبي بالرفيق الأعلى حتى تحفزت دواعي النزاع من كل فج، وتكشفت كوامن القلق والخوف من كل مكمن، وجهل أعلم الناس كيف تتجلى الغاشية ويستقر القرار.
فالأنصار يقولون إنهم أحق من المهاجرين لأنهم كثرة والمهاجرون قلة، ولأنهم في ديارهم والمهاجرون طارئون عليهم، ولأنهم جميعا عرب مسلمون ولهم فضل التأييد والإيواء.
والمهاجرون على قلتهم غير متفقين على اتفاق ينعقد به الإجماع، وحجتهم الغالبة أنهم السابقون إلى الإسلام ومنهم جلة الصحابة الأولين.
وتسايرت الأحاديث بحق آل البيت النبوي في الخلافة النبوية، وبين آله رجلان قويان هما علي والعباس، لو أصغيا إلى هذه الدعوة ومضيا فيها لتمخضت عن خطب عظيم.
ولكن هذه العصبيات لم تكف دعاة الخلاف حتى جاء أبو سفيان يزيدها عصبية أخرى بالمفاخرة بين أكبر القبائل وأصغرها في قريش، فدخل على علي والعباس يثيرهما، ويعرض عليهما النجدة والمعونة، ويهيب بعلي باسمه، ثم بالعباس باسمه: «يا علي، وأنت يا عباس، ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها؟! والله لو شئت لأملأنها عليه - يعني أبا بكر - خيلا ورجلا وآخذنها عليه من أقطارها.»
1
فيجيبه علي بما هو أهله: «لا والله، لا أريد أن تملأها عليه خيلا ورجلا، ولولا أننا رأينا أبا بكر لذلك أهلا ما خليناه وإياها.» ثم يبلغ من كرم النحيزة أن يؤنب أبا سفيان من طرف خفي على سعيه في هذه العصبية فيقول: «يا أبا سفيان، إن المؤمنين قوم نصحة بعضهم لبعض، وإن المنافقين قوم غششة بعضهم لبعض، متخاونون وإن قربت ديارهم وأبدانهم.»
ولم تكن هذه العصبيات كل ما هنالك من دواعي النزاع وكوامن القلق والخوف؛ فقد كان هنالك منافقون أسلموا وهم راغمون، وكان هنالك ضعفاء من المسلمين يقفون على شفير
2
من الفتنة لا يلبث أن يضطرب تحت أقدامهم حتى ينهار، وكان هنالك أناس لا ينصرون ولا يخذلون، فهم إن لم يفسدوا في الأرض لا يصلحون.
وبين هذه المخاوف والنوازع تنتهي مسألة الخلافة بسلام فيكون انتهاؤها بسلام أعجوبة الأعاجيب، وتبحث عن سر هذه الأعجوبة أو عن سرها الأكبر فيغنيك فيها أن تذكر اسما واحدا هو اسم عمر بن الخطاب، إلى أين كانت تلك الفتنة ذاهبة لو لم يقف في وجهها عمر وقفته المرهوبة يوم السقيفة؟
سؤال يدلك على سر تلك العجيبة قبل كل جواب، فما عرف رأي عمر في البيعة حتى بطل الخلاف إلا ما لا خطر له، واطمأن من يوافق، وعلم من يخالف أن خلافه لا ينفعه، واجتمعت كلمة على مبايعة أبي بكر أوشكت أن تكون كلمات.
قال أبو بكر لعمر: ابسط يدك نبايع لك.
قال عمر: أنت أفضل مني. قال أبو بكر: أنت أقوى مني.
قال عمر: إن قوتي لك مع فضلك، لا ينبغي لأحد بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن يكون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار مع رسول الله وثاني اثنين، وأمرك رسول الله حين اشتكى فصليت بالناس، فأنت أحق الناس بهذا الأمر.
ووثب عمر فأخذ بيد أبي بكر، فتواثب الجميع من علية الصحابة يبتدرون البيعة، ثم كان الغد فجلس أبو بكر على المنبر، وتكلم عمر بين يديه يقول للناس: «إن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وثاني اثنين إذ هما في الغار، وأولى الناس بأموركم، فقوموا فبايعوا.»
فكانت البيعة العامة، وتركت شجرة الخلاف لجفاف، فإن لم تذبل لساعتها فهي وشيكة ذبول.
بايع عمر فقطعت جهيزة قول كل خطيب.
وذلك قدر عمر عند الصحابة، وقدره عند أبي بكر، وقدره عند الله، تغني شهادة السرائر فيه عن شهادة كل كلام.
وفي تلك الكلمات الموجزات التي تبادلها الصديقان العظيمان خلاصة نقد الناقدين وبحث الباحثين، وحكم التاريخ في أبي بكر وعمر، وفي موقف الخلافة من بدايته إلى منتهاه.
قال عمر: إنك أفضل مني. وقال أبو بكر: إنك أقوى مني. وقال عمر: إن قوتي لك مع فضلك.
صدقا غاية الصدق، وجاملا غاية المجاملة، وقضيا بالعدل والحكمة والإخاء، وتركا التاريخ يقول ما يقول ويسهب ما يسهب، ثم لا يزيد في فحواه كلمة على ما ضمنته تلك الكلمات الموجزات.
ولقد كان من قوة عمر أنه كان يراجع أبا بكر في خلافته حتى يرجع عن رأيه، وكان من فضل أبي بكر أنهم يسألونه مستثيرين: والله ما ندري أأنت الخليفة أم عمر؟ فيقول: هو لو كان شاء!
وكان فضل أبي بكر وقوة عمر جمعا لا يشذ عنه مكابر، ومن شذ عنه فما له من فضل ولا من قوة ينفعانه.
بل كان الرجلان على اختلافهما في المزاج كأنهما رجل واحد، يراجع نفسه بين الرأيين المختلفين حتى يستقر على أحدهما، فإذا هو رأي جميع لا خلاف فيه؛ لأنهما يصدران عن عقيدة واحدة، ويتجهان إلى غرض واحد، فهما غير مفترقين إلى أمد طويل.
وأعجوبة الأعاجيب في هذا الأمر موقف الرجلين من المشكلة الكبرى التي واجهتهما معا بعد موت النبي بأيام قلائل، وهي مشكلة الردة ونكوص العرب عن أحكام الدين وحيرة الصحابة الكبار فيما يعامل به المرتدون.
وليس العجب أن يختلف أبو بكر وعمر في مشكلة كبيرة أو صغيرة، وإنما العجب هو نوع هذا الخلاف الذي لم يتوقعه أحد، فيخالف أبو بكر لأنه يجنح إلى الشدة والصلابة، ويخالف عمر لأنه يجنح إلى اللين والهوادة، ثم يلتقيان ولا يتعارضان.
فأبو بكر يأبى إلا أن يحارب الذين منعوا الزكاة، ويقول مصرا على قوله: «والله لو منعوني عناقا
3
لقاتلتهم على منعها.»
وعمر يقول له: «كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله»؟!»
ويشارك عمر في رأيه جلة الصحابة كأبي عبيدة الذي قال فيه النبي: «إنه أمين الأمة»، وسالم مولى أبي حذيفة الذي قال فيه النبي: «إن سالما شديد الحب لله»، وأناس من هذه الطبقة في صحابة رسول الله.
ويعود أبو بكر فيقول: «إن الزكاة حق المال، وفيها نحارب بالحق.» ثم يهيب بعمر: «رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك! أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام؟»
فإذا بعمر يثوب إلى شدته بعد أن أفرغ أمانة الرأي كما قال: «ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق.» وما أسهل أن يعرف الحق لمن يريد أن يراه ولا يغمض عينيه، أرجلان هنا مختلفان أم رجل واحد؟
قل هذا وذاك فالقولان مستويان ما دمت لا تنسى أن الرجلين المختلفين معهما العقيدة الراسخة التي لا تفارقهما، وطالما جمعت العقيدة جيوشا على قلب واحد فضلا عن رجلين.
وإنما كان يعيب عمر أن يعارض إذا كان في المسألة وجه واحد لا يحتمل المعارضة بحال، فأما أن يكون لها وجه آخر يبديه ويشرح حجته، فالذي يعيبه ويضير الإسلام أن يكتم ذلك الوجه وأن ينطوي عليه صامتا في موقف البحث والمشاورة وهو الناصح الأمين.
ومسألة الردة قد كان لها وجه آخر غير الذي راضه أبو بكر - رضي الله عنه - وكان عمر خليقا أن يرى ذلك الوجه الآخر؛ لأنه موافق لمجمل آرائه في الحرب والسياسة، فقد كان بطيئا إلى الحرب كما عرفنا من عامة وصاياه، وكان أبطأ ما يكون عنها إذا نشبت بين العرب أو المسلمين، وكان جيش الإسلام بعيدا عن المدينة في غزوة الروم التي خرج بها أسامة بن زيد بعد قيام أبي بكر بالخلافة، فالتريث إلى أن يستكمل الإسلام عدته ويسترجع الغائبين من جنده وجه غير ضعيف، أو هو في أقل الأمر وجه لا يحسن كتمانه عن الأمير المسئول.
وقد كان من عادة عمر أن يطيع صاحب التبعة متى وجبت الطاعة واستقر القرار، فلا ضير إذن ألا يألوه جهده معارضة حتى يتبين مذاهب الرأي على اختلافها، ثم هو مستعد بقوته لمعاونته بأقصى ما استطاع.
ومثل هذا الرجل معارضته قوة فوق قوة وخير لا ضير فيه.
وخليق بنا أن نفهمها على صوابها في مسألة الردة فنعلم بعد النظرة الثانية أنها من دلائل قوته المعهودة وليست من فلتات الضعف فيه؛ لأنه رأى الرأي فلم يحجم أن يبديه ويشرح حجته، جريئا فيما رآه.
وعلى هذا الدأب ظل عمر قوة لأبي بكر بموافقته ومعارضته على السواء، وأصاب فيما قال له يوم بايعه: «إن قوتي لك مع فضلك.» فكسب الإسلام خليفتين معا بتقديم أبي بكر للخلافة؛ لأنهما لم يبغيا بالخلافة مأربا غير خدمة الإسلام. •••
ثم بويع عمر بالخلافة فبطل الخلاف إلا ما لا خطر فيه.
عرضها عليه أبو بكر فقال: «لا حاجة لي فيها.» فقال أبو بكر: «ولكن لها بك حاجة يا ابن الخطاب.» وسأل خيرة أصحابه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: «هو والله أفضل من رأيك فيه.» وقال عثمان بن عفان: «إن سريرته خير من علانيته، وإنه ليس فينا مثله.» وسأل أسيد بن الحضير فقال: «اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضا ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.»
وأجمع المهاجرون والأنصار على تزكية عمر وتصويب أبي بكر في ترشيحه، ولعلهم لم يذكروا من مناقبه إلا ما هو به أعلم وأخبر، فلم يزده ثناء المثني علما بصاحبه! ولم يكن قدح القادح ليخلف رأيه فيه؛ لأنه على عرفانه بالدنيا وعرفانه بالناس لا يجهل أن رجلا كعمر بن الخطاب في حزمه وصدقه لن يخلو من مبغض، ولن يبغضه أحد لما يعيبه ويحول بينه وبين ولاية أمر المسلمين.
قال له وهو يعرض عليه الخلافة: «يا عمر، أبغضك مبغض وأحبك محب، وقدما يبغض الخير ويحب الشر.»
وإن منهم لمن حذره شدة عمر وقالوا له: «إنك كنت تأخذ على يديه ولا نطيق غلظته، فكيف وهو خليفة؟ وما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافه علينا؟»
فبلغ الصبر بالرجل الصبور مداه، وأمر من حوله أن يجلسوه فجلس، فقال لمن خوفوه الله وعمر: «أبالله تخوفونني؟ خاف من تزود من أمركم بظلم. أقول: اللهم قد استخلفت على أهلك خير أهلك!»
ولو شاء أبو بكر لقال إن ما خوفوه من شدة عمر لفضيلة من فضائله التي قدمته عنده على غيره، فقد خاف عليهم الفتنة، وكان أكبر حذره أن تجيء الفتنة من أولئك الأعلام الذين يتبعهم الطغام،
4
وليس لهؤلاء غير عمر يرهبونه ويتقون الفتنة باتقائه، فمن هنا وصاه فحذره «هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الذين قد انتفخت أجوافهم، وطمحت أبصارهم، وأحب كل امرئ منهم لنفسه»، وقال له: «إن لهم لحيرة عند زلة واحد منهم فإياك أن تكونه، واعلم أنهم لن يزالوا منك خائفين ما خفت الله، ولك مستقيمين ما استقامت طريقتك.»
فالذين حذروه عمر إنما رغبوه فيه ولم يحذروه منه؛ لأنه أراد لهم من يخافونه ويستقيمون معه، فكانت سيئته عندهم حسنة عند أبي بكر، ورجاء في صلاح أمر الأعلام والطغام.
فلما اتفق مدح المادحين ونقد الناقدين على إيثار عمر بالخلافة، فرغ أبو بكر من مشورته، وأبرأ إلى الله ذمته، ودعا بعثمان فأملى عليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب: إني استخلفت عليكم بعدي ...»
ثم أخذته غشية فكتب عثمان «عمر بن الخطاب»، ولم يترك الكتاب خلوا من الاسم مخافة أن يذهب الموت بأبي بكر في تلك الغشية، فيلج من يلج بالخلاف وله شبهة يحوم عليها.
وإنه ليكتبها إذ أفاق أبو بكر فقرأ عليه ما كتب، فكبر وأدرك ما وقع في روعه فحياه ودعا له: «جزاك الله عن الإسلام خيرا، والله إن كنت لها لأهلا.»
5
ثم أتم الكتاب.
ثم بويع عمر بالخلافة بإجماع لم ينعقد لخليفة قبله ولا بعده إلا أن تكون وراثة في دولة استقرت لها دعائم وثبتت لها أركان، فكانت شهادة من الصحابة والمسلمين أجمعين بما هو أنطق من الألسنة والقلوب؛ بالبديهة التي لا تكذب في صادق ولا كذوب.
وجائز جدا أن يبدأ عمر خلافته وهذا رأي المسلمين فيه، وأن يختمها آخر الأمر ورأيهم فيه على اختلاف؛ إذ الحكم يخلق العداوات، ويفتق أسباب التباعد في الظنون والآراء، ويفتن صاحبه حتى يتبدل من حيث يريد ولا يريد، فشهادة أخرى من شهادات الواقع والبداهة أن عمر قد فارق الدنيا والمختلفون فيه ينقصون، والمتفقون على حمده يزيدون، ثم هم يزيدون في حمدهم إياه وثنائهم عليه.
دخل زياد على عثمان في خلافته بما بقي عنده لبيت المال، فجاء ابن لعثمان فأخذ شيئا من فضة ومضى به، فبكى زياد، قال عثمان: ما يبكيك؟ قال: أتيت أمير المؤمنين
6
بمثل ما أتيك به فجاء ابن له فأخذ درهما، فأمر به أن ينتزع منه حتى أبكى الغلام، وإن ابنك هذا جاء فأخذ ما أخذ، فلم أر أحدا قال له شيئا. قال عثمان: «إن عمر كان يمنع أهله وقرابته ابتغاء وجه الله، وإني أعطي أهلي وأقربائي ابتغاء وجه الله، ولن تلقى مثل عمر، لن تلقى مثل عمر، لن تلقى مثل عمر!»
وبكى علي يوم موته فسئل في بكائه فقال: «أبكي على موت عمر، إن موت عمر ثلمة
7
في الإسلام لا ترتق إلى يوم القيامة.» وقال عبد الله بن مسعود: «كان إسلامه فتحا، وكانت هجرته نصرا، وكانت إمارته رحمة.»
وقال معاوية يوازن بين الخلفاء: «أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهرا لبطن.» وقال عمرو بن العاص وهو يحدث نفسه: «لله در ابن حنتمة! أي امرئ كان؟!»
ولم يقل فيه قائل راض ولا ساخط إلا ثناء كهذا الثناء، بعد خلافة طويلة لو خرج منها بنصف الثناء لأربى على الأمل في إنصاف بني الإنسان.
ورعى عمر قدر الصحابة والتابعين كما رعوا قدره، إلا أنه كان مفضلا في هذه كما كان مفضلا في جميع محامده وحسناته، فإنه رعى أقدارهم وهو مستطيع ألا يرعاها، وقليل منهم من كان قادرا أن يعمل غير ما عمل ويقول فيه غير ما قال.
جمع منهم مجلس المشورة لا يبرم أمرا ولا ينقضه إلا بعد مذاكرتهم والاستئناس بنصيحتهم وسابق علمهم من مأثورات النبي وأحاديثه.
وارتفع بهم أن يكونوا أتباعا له فجنبهم ولاية الأعمال قائلا لمن راجعه في ذلك: «أكره أن أدنسهم بالعمل.»
8
فسبق الدساتير العصرية بحسن تقسيمه وصادق حدسه وتدبيره. هم مجلس الأمة وليس لأحد من مجلس الأمة أن يلي عملا من أعمال الحكومة، فهما في الدولة وظيفتان لا تجتمعان.
وقدم صغارهم على أعظم العظماء من رءوس القبائل وقروم
9
الجزيرة العربية، فحضر بابه سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام وأبو سفيان بن حرب في جمع من السادة ينقطع ندهم بين الكابرين،
10
وحضره معهم صهيب وبلال وهما موليان فقيران، ولكنهما شهدا بدرا وصحبا رسول الله، فأذن لهما قبل علية القوم! وغضب أبو سفيان فقال لصاحبه: لم أر كاليوم قط، يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه؟! أما صاحبه فكان حكيما فقال: «أيها القوم، إني والله أرى الذي في وجوهكم، إن كنتم غضابا، فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم - إلى الإسلام - ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟»
ولو غير عمر لما تقدم عنده صهيب وبلال، ولا أمن أن يغضب عليه أبو سفيان وسهيل.
لكنه الحق فوق كل قدر عند هذا القسطاس الذي يعطي كل ذي قدر قدره حيث ينبغي له من تقديم وتأخير، فيقدم من يقدمه عمله ويؤخر من يؤخره عمله، ولا عليه من غضب الغاضبين ولوم اللائمين.
فلما ندب الناس إلى غزو العراق فبادر إليه أبو عبيد بن مسعود، وتخلف من حضر الدعوة من الصحابة، ولاه قيادتهم وأبى أن يوليها رجلا من السابقين من المهاجرين والأنصار، وأجاب من راجعوه قائلا: «لا والله لا أفعل، إن الله إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء فأولى بالرئاسة منكم من سبق إلى الدفع، وأجاب إلى الدعاء، والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا.»
ثم دعا معه ابن عبيد وسليط بن قيس فأبلغهما: «إنكما لو سبقتما لوليتكما»، والتفت إلى أمير الجيوش الذي اختاره فقال له: «اسمع من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعا حتى تتبين، فإنها الحرب.» هذا ما استحقوه، فلا رجحان لهم إلا بالحق، ولا رجحان عليهم إلا للحق.
ومن الحق الذي له الرجحان عليهم حق الأمة جمعاء، وحق الأمان الذي يعم الدولة ويوطد أركانها، فإذا خيف على الدولة من بعضهم فأمان الدولة مفضل عليهم، وحقها الأكبر مقدم على الكبير من حقوقهم، فربما حبسهم في المدينة لا يسافرون منها إلا بإذن وإلى أجل مخافة منهم على الناس ومخافة عليهم من الناس، ويستأذنه أحدهم في غزو الروم والفرس محتجا بسابق بلائه مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيتخذ من سابق هذا البلاء حجة عليه يذوده بها عن السفر، ويقول له: «إن لك في غزوك مع رسول الله ما يكفيك ويبلغك، وبحسبك، وهو خير لك من الغزو اليوم، وإن خيرا لك ألا ترى الدنيا ولا تراك.»
على هذا الوجه وحده ينبغي أن نفهم كل علاقة كانت بين عمر وبين أحد من أكابر الصحابة والتابعين، فهو القسطاس الذي لا يجور، وكأنه لا يعرف الجور لو شاء.
بل على هذا الوجه وحده نفهم كل علاقة بينه وبين أحد من عامة المسلمين، فلكل رجل ولكل عمل حقه، ولا ضير على أحد أن يتأخر قدره ويتقدم عمله، ولا ينفع أحدا أن يتقدم قدره ويتأخر عمله، فكل عمل وله حساب، وكل قدر وله كرامة، وأكبر الصحابة خليق أن ينزل منزلة المرءوسين لمن سبقهم إلى العمل النافع، وأصغر الناس خليق أن ينال جزاءه الحسن إذا استحقه، وكل قسطاس غير هذا القسطاس فإنما يقارفه الحاكم لظلم أو لخوف، وليس لهذا ولا ذاك سبيل إلى عمر؛ لأنه عادل، ولأنه لا يخاف، وإذا وقع ما يخافه غيره فهو ضليع بالتبعات.
11
على هذا الوجه وحده ينبغي أن نلتمس التأويل في محاسبات عمر ومعاملاته إذا وقع منها ما يحتاج إلى تأويل، وقل في محاسبات عمر ومعاملاته ما يحتاج إليه؛ لأنه كان يحاسب نفسه قبل أن يحاسب غيره، وحسابه لنفسه أعسر من حسابه للآخرين.
ففي جميع محاسباته للقادة والولاة من كبار الصحابة لم توضع مسألة في موضع التأويل الكثير والمناقشة الحادمة،
12
كما وضعت مسألة خالد بن الوليد رضي الله عنه.
ولا يعقل أن تكون هذه المسألة شذوذا عن خطته مع جميع القادة والولاة؛ لأن الذي صنعه فيها عمر هو الذي كان منتظرا أن يصنعه، سواء كان القائد خالدا أو كان رجلا غيره، وهذا الذي ينفي الشذوذ والحيف، أو ينفي المعاملة الخاصة التي تكيل للناس بكيلين وتزن لهم بميزانين، وتنظر إليهم بنظرتين مختلفتين.
عزل عمر خالدا وهو سيف الإسلام وبطل الجزيرة والشام، وإذا كان لا بد لخالد بن الوليد من عازل أو قاض عادل، فلن يكون عازله وقاضيه غير عمر بن الخطاب، هو على قدر عزله بلا مراء، وهو قدر كبير.
فقال أناس: إنها منافسة الند للند والشبيه للشبيه، وقال أناس: عزله لغير خطأ أتاه. وقال أناس: إنها ترة
13
قديمة، ولولاها لما كان الخطأ الجديد بمستوجب عزله وحرمان المسلمين من بأسه وجهاده.
والذين ظنوا هذه الظنون لهم شبهات من ظواهر الأمور تخيلها لهم وتقربها إلى حدسهم؛ لأن المشابهة بين عمر وخالد كانت مشابهة خلق وخلق توحي الظن بالتنافس والملاحاة، وكانت مشابهة خالد لعمر في خلقته تلتبس على بعض الناس، فيكلمون عمر وهم يحسبونه خالد بن الوليد.
فمن شاء أن يخبط بالظن فله أن يحسب أن عمر قد عزله لغير سبب يستوجب عزله؛ لأن عمر نفسه قد صان على القائد الكبير كرامته وأمسك عن الخوض في أمر عزله بعد الفراغ من ضجته الأولى، وكتب إلى الأمصار يبرئه من الخيانة ويعلنهم «أنه لم يعزله لسخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به.» قال: «فخشيت أن يوكلوا به ويبتلوا، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة.» ولما سأله خالد في ذلك قال له: «إن الناس افتتنوا بك فخفت أن تفتتن بالناس.»
فمن شاء أن يخبط بالظن هنا فقد يخبط ما شاء وله شبهة فيه، ولكنه لا يرجع إلى الوقائع من قديمها وحديثها حتى تسقط شبهاته بين يديه، ويوقن أن عمر لم يحاسب خالدا بميزان غير الذي حاسب به جميع القادة والولاة، وأن المدهش الحق أن يبقيه في الولاية والقيادة بعد ما أخذه عليه؛ لأنه حينئذ يكون قد وزن بميزانين وكال بكيلين.
والذي أخذه عمر على خالد يرجع بعضه إلى أيام النبي - عليه السلام - وبعضه إلى أيام أبي بكر - رضي الله عنه - وبعضه إلى أيامه، وكله مما يصح أن يؤخذ به في موقف الحساب، وإن كان الذي حدث في أيام عمر وحدها كافيا لما قضاه في أمره.
ففي فتح مكة نهى رسول الله خالدا عن القتل والقتال، وقال له وللزبير: «لا تقاتلا إلا من قاتلكما.» ولكن خالدا قاتل وقتل نيفا وعشرين من قريش وأربعة نفر من هذيل، فدخل رسول الله مكة، فرأى امرأة مقتولة، فسأل حنظلة الكاتب: من قتلها؟ قال: خالد بن الوليد. فأمره أن يدرك خالدا، فينهاه أن يقتل امرأة أو وليدا أو عسيفا،
14
وبعث إليه من يسأله: ما حملك على القتال؟ فاعتذر بخطأ الرسول
15
في تبليغه، وشهد الرسول على نفسه بالخطأ فكف عنه.
ثم بعث رسول الله خالدا إلى بني جذيمة داعيا إلى الإسلام، ولم يبعثه للقتال، وأمره ألا يقاتل أحدا إن رأى مسجدا أو سمع أذانا، ثم وضع بنو جذيمة السلاح بعد جدال بينهم واستسلموا، فأمر بهم خالد فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم، وأفلت من القوم غلام يقال له السميدع، حتى اقتحم على رسول الله وأخبره وشكا إليه، فسأله رسول الله: هل أنكر عليه أحد ما صنع؟ قال: نعم، رجل أصفر ربعة
16
ورجل أحمر طويل. وكان عمر حاضرا فقال: أنا والله يا رسول الله أعرفهما، أما الأول فهو ابني، وأما الثاني فهو سالم مولى بني حذيفة. وظهر بعد ذلك أن خالدا أمر كل من أسر أسيرا أن يضرب عنقه، فأطلق عبد الله بن عمر وسالم مولى أبي حذيفة أسيرين كانا معهما، فرفع رسول الله يديه حين علم ذلك وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»، ثم دعا علي بن أبي طالب وأمره أن يقصد إلى القوم ومعه إبل وورق،
17
فودى
18
لهم الدماء وعوضهم من الأموال.
وفي عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وجه خالدا إلى بعض أهل الردة يدعوهم إلى أحكام الإسلام أو يقاتلهم حتى يثوبوا إليها، فعزم على المسير إلى مالك بن نويرة، ولم يأمره الخليفة بالمسير إليه، وأحجم الأنصار ينتظرون أن يكتب إليهم الخليفة بما يراه، وقال خالد: «قد عهد إلي أن أمضي وأنا الأمير، ولو لم يأت كتاب بما رأيته فرصة وكنت إن أعلمته فاتتني لم أعلمه، وكذلك لو ابتلينا بأمر ليس فيه منه عهد إلينا لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به، فأنا قاصد إلى مالك ومن معي من المهاجرين والتابعين ولست أكرههم ...»
ثم جاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن يربوع، فاختلفت السرية فيهم، يشهد قوم أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا، ويشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شيء، فلما اختلفوا فيهم أمر بحبسهم في ليلة باردة، وأرسل فيما قيل مناديا ينادي: أدفئوا أسراكم. فظن القوم أنه أراد قتلهم؛ لأن إدفاء الأسرى كناية عن القتل في لغتهم.
ويروى أن مالكا قال لخالد: ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا، فلم يجبه خالد إلى طلبته وقال له: لا أقالني الله إن أقلتك. وتقدم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه، وتزوج بامرأته في الحرب، وهو أمر تكرهه العرب وتعايره.
وقد أبلغ الخبر عمر بن الخطاب فقال لأبي بكر: إن سيف خالد فيه رهق.
19
فاعتذر له أبو بكر بأنه «تأول فأخطأ»، وودى مالكا واستدعى خالدا إليه.
قدم خالد فدخل المسجد وعليه قباء وفي عمامته أسهم غرزها للمباهاة، فقام إليه عمر فنزعها وحطمها وقال له: قتلت امرأ مسلما، ثم نزوت على امرأته؟ والله لأرجمنك بأحجارك!
وكان أبو بكر - رضي الله عنه - هم بعزل خالد لاستئثاره بتصريف المال الذي في ولايته، فسأل عمر: من يجزئ جزاء خالد؟
20
فندب عمر نفسه ليخلفه إن لم يكن بد من ذلك، وتجهز عمر حتى أنيخ الظهر في الدار، لولا أن مشى أصحاب رسول الله إلى أبي بكر يوصونه أن يحتفظ بعمر لحاجته إليه، وأن يبقي خالدا في ولايته لحاجته إليه، فعمل بما أشاروا.
ذلك ما كان في عهد النبي وأبي بكر، فلما بويع عمر كتب إلى خالد أن يراجعه في حساب المال، وألا يعطي شاة ولا بعيرا إلا بأمره، فأحاله إلى ما جرى به العمل قبله، وكان قد أجاب أبا بكر بكلام مقتضب قال فيه: «إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك بعملك.» فلم يطقها عمر وقال: «ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه.»
وقد أبرمه منه أنه وهب الشاعر الأشعث بن قيس عشرة آلاف درهم، ونمى الأمر إليه كما كانت تنمى إليه أخبار الولاة والقواد من عيونه وأرصاده، فكتب إلى أبي عبيدة أن يحاسبه على هذه الهبة «فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقر بالخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف.»
وقد أبى خالد أن يجيب في مبدأ الأمر، فاعتقله أبو عبيدة بعمامته كما أمر عمر، ونزع منه قلنسوته في موقف المحاسبة حتى قال إنها من ماله، فقومت عروضه وضم ما زاد منها إلى بيت المال، وقال له عمر يومئذ: «يا خالد، والله إنك علي لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء.»
ولم يعزله عمر دفعة واحدة على إثر قيامه بالخلافة كما جاء في بعض الأخبار؛ لأن اسم خالد كان بين أسماء الشهود على عهد بيت المقدس بعد فتحه، والأرجح أن في تاريخ القصة خطأ وقع فيه بعض المؤرخين ومنهم ابن الأثير، فكتب عن عزل خالد في أخبار السنة الثالثة عشرة للهجرة ثم ذكره في أخبار السنة السابعة عشرة، وأورد في الموضعين أقوالا متشابهات.
تلك جملة المآخذ التي أخذها على خالد من عهد النبي - عليه السلام - إلى عهد خلافته، وما من أحد يعرف عمر ثم يلوح له أنه أنكر من خالد شيئا كان يقبله من غيره ، وأنه نصب له ميزانا غير الموازين التي يحاسب بها القواد والولاة وكل صاحب عمل مسئول، فرأي عمر في إنكار هذه المآخذ معروف من بداية أيامه، والذين لزموه وتأدبوا بأدبه ينكرونها مثله ولو كانوا على البعد منه، كما حدث من ابنه في بعثة جذيمة حيث أبى على خالد بطشه بمن أوثقهم وعرضهم على السيف، ثم أنكر النبي - عليه السلام - ما أنكره واستصوب ما استصوبه.
فعمر كان يكره الإسراع إلى القتال ويوصي قواده جميعا بالتريث فيه، وربما نحى القائد المغوار عن القيادة وهو كفؤ لها لأنه يعجل بالقتال كما قال لسليط بن قيس: «لولا أنك رجل عجل في الحرب لوليتك هذا الجيش، والحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث.»
وكان يتحرج غاية الحرج أن يستبيح دم بريء أو مشكوك فيه، وتقدم في هذا الكتاب أنه لام أناسا من أصحابه لأنهم قتلوا رجلا ارتد عن دينه، وقال لهم: «هلا استتبتموه وحبستموه؟» وتبين من رأيه في أهل الردة أنه كان يؤثر الهوادة والاستتابة على القتال، فإن كان قتال فالذي لا حيلة فيه ولا محيص عنه، فإنكاره لمقتل مالك بن نويرة وأصحابه هو رأيه الذي لا شذوذ فيه، ويضاف إليه إنكار البناء بامرأته،
21
ووقع البناء بها في أثناء المعركة، وهو أمر لا ينفرد عمر بكراهته وانتقاده، بل تكرهه العرب عامة، مسلمين وغير مسلمين.
وكان عمر يحاسب جميع الولاة أدق حساب: يكتب عروضهم
22
قبل ولايتهم، ويسألهم فيما فشا من طارئ أموالهم، ويأمرهم إذا عادوا إلى أهلهم أن يدخلوا المدينة نهارا لينكشف ما عادوا به إليهم، ويقاسمهم كل درهم يربى
23
على المحسوب من أرزاقهم، ويجري على السنة مع كل وال وكل عامل ذي أمانة فلم يستثن منها أحدا قط، ولم يعرف وال قط سلم من مصادرة أو حساب عسير.
فالذي صنعه خالد حين أنكر «سرعة هجماته وشدة صدماته» سنة عمرية لا شذوذ فيها، والذي صنعه حين حاسبه على هباته وتوزيعاته سنة عمرية كذلك لا شذوذ فيها، ولو أنه صنع غير هذا الصنيع لقد كان ذلك هو الشذوذ المستغرب الذي لا يقع من عمر بن الخطاب خاصة؛ لأنه لا يحابي ولا يفرق في المعاملة ولا يبالي غضب قائد كبير ولا وال قدير، وليس يحب أن يقال إن رجلا من الرجال لا غنى عنه لدولة الإسلام، فربما كان شيوع هذه العقيدة أخطر على الإسلام من عزل وال مظلوم أو ولاة مظلومين.
ولا ننسى الأمانة الكبرى التي هي أكبر من أمانة الرفق بالولاة والعدل في محاسبة العمال، ونعني بها أمانة الدين والدولة أو ما نسميه نحن في أيامنا «بالسياسة العليا».
عمر لا يتركنا نفسر أعماله هنا باجتهادنا في فهمها وتأويلها على ما نراه، بل يصرح للناس فيها بما يغنيهم عن التفسير والتأويل.
فكان يرعى في شئون الولاة الكبار والقواد المشهورين أمرين يجيزان له عزلهم، ولو لم يقع منهم ما يوجب المؤاخذة.
أحد هذين الأمرين أن يفتتن بهم الناس فيفتتنوا هم بالناس، كما قال لخالد بعد عزله، والخوف في هذا الأمر من القائد الكفء أعظم من الخوف من قائد صغير لم يبل أحسن البلاء، ولم تتساير بذكره الأنباء، فليس لهذا خطر في بقائه كخطر القائد الكبير.
وخطته هنا عامة لا يخص بها واليا دون وال ولا قائدا دون قائد.
فلما عزل زياد بن أبي سفيان عن ولاية العراق سأله زياد: لم عزلتني يا أمير المؤمنين؟ ألعجز أم خيانة؟ فقال له: لم أعزلك لواحدة منهما، ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس. وقديما قال فيه عمر: لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه. فالحيطة منه وفاق رأيه فيه.
وقد كان من خلق عمر أن يقدم الحذر ويأخذ الحيطة ويطيل الروية، ثم يجزم بالرأي السديد في غير إبطاء، ولهذا كان يكره ولاية الرجل الفخور وينهى عنها في خلافته وقبل خلافته، فأشار على أبي بكر ألا يولي خالد بن سعيد وكلمه في عزله لأنه رجل فخور يحمل أمره على المغالبة والتعصب، فعزله أبو بكر كما أشار.
فإذا اجتمع لعمر هذا السبب من أسباب السياسة العليا إلى المآخذ التي أنكرها على خالد فلا جناح عليه ، ولا محل للشك والظنة في أسباب عزله.
لقد رأى زهو خالد بالنصر والغلب قبل أن يفتح الشام ويسبق بالشهرة أنداده من القواد، رأى ذلك يوم عاد من حرب أهل الردة فدخل المسجد وفي عمامته السهام، ورآه يوم استقل ببيت المال في ولايته على عهد أبي بكر وعلى عهده، ورآه في أمور كان يبتدئها ولا يستأذن فيها، ورآه مما يحس ولا يلمس ومما يقدر ولا ينتظر، «فإذا أشفق أن يفتتن بالناس كما افتتنوا به فلا جناح عليه.»
وثاني الأمرين اللذين يدخلان في تقديرات السياسة العليا ويجيزان العزل في غير جريرة ظاهرة أن يصبح القائد ضرورة لا غنى عنها لتسيير الجيوش وفتح الفتوح، وأن يعزى إليه النجاح فتتخاذل العزائم وتصغر أقدار القادة دونه، وأن تعظم العقيدة فيه فتضعف العقيدة بالله، ويخسر الجيوش بذلك أضعاف ما يخسره بإقصاء قائده ولو لم يكن له نظير.
فإن كان له نظير، كما تبين من اختيار عمر لقواده في كل ميدان، فلا خسارة هناك، بل هو كسب العقيدة وكسب قائد جديد، وإذا حان اليوم الذي ينتفع فيه بالقائد المعزول، فهو قمين أن ينفع ما بقيت فيه بقية من صلاح وخير.
وتعويل عمر على العقيدة أمر تعزوه إلى كل شيء فتراه فيه على صواب؛ تعزوه إلى إيمانه بالله فهو فيه مصيب، وتعزوه إلى حسن سياسته فهو فيه مصيب، وتعزوه إلى تقديره للواقع فهو فيه مصيب، فكل أولئك كان خليقا أن يرجح كفة العقيدة عنده على كل كفة، وأن يوجب عليه استبقاءها قبل كل استبقاء، وألا يزال بالناس يذكرهم ما ذكرهم به حين كتب إلى الأمصار بعد عزله خالدا «إن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة.»
ولو أن رئيسا لخالد غير عمر بن الخطاب في إيمانه المكين، لما فاته أن يعلم أين كانت قوة المسلمين، وبم كان انتصارهم في جميع الميادين، ولا فاته أن يستبقي هذه القوة بكل وسيلة، وأن يفتديها بجميع ما في يديه؛ تلك قوة العقيدة لا مراء، إن ضاعت فلا عوض عنها، وإن بقيت فللقادة عوض كثير.
فكيف بعمر بن الخطاب الذي يؤمن بهذا إيمان تسليم كما يفكر فيه تفكير سياسة وتدبير؟ لئن نسي ذلك لهو الحقيق باللوم على نسيانه، ولئن ذكره فاقتضاه ذكره أن يعزل خالدا بغير جريرة لما كان عليه من لوم، وهو كما رأينا لم يعزله لغير جريرة، أو لم يكن حسابه له مختلفا عن حسابه للقادة والولاة، وقد كان أبو بكر نفسه - وهو من أبقى خالدا - يلمح بعض الخطر من افتتان الناس به حين قال: أعجزت النساء أن ينشئن مثل خالد!
ويؤكد تعويل عمر على العقيدة في كل نجاح وإسناده كل فشل إلى ضعفها والترخص فيها أن الجيش الذي غزا مصر أبطأ في فتحها، فالتمس عمر علة ذلك في ضعف نياتهم، وكتب إليهم يقول: «عجبت لإبطائكم عن فتح مصر تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذاك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله - تبارك وتعالى - لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم.»
فنظرته في عزل خالد هي النظرة العامة التي لا تخصيص فيها لرجل ولا لمعركة ولا لمكان، وتقديمه العقيدة على كل عدة من عدد النصر هو الخطة التي جرى عليها في مراقبة القادة ومراقبة الجيوش، وتدبير عدد النصر، وتجنيب المسلمين مآزق الخذلان. وهل أخطأ؟ هل كانت منه حماسة إيمان ولم تكن روية تفكير؟ هل يرى غير هذا الرأي ناقد عسكري من أعداء الإسلام لو بحث في الأمر ونفذ إلى حقائق الأسباب؟ كلا، بل هو صدق الرأي وصدق الإيمان معا مقترنين، لا يشير هذا بغير ما يشير به ذاك.
ودون هذا من أسباب «السياسة العليا» يجيز لعمر ما استجازه من عزل خالد من القيادة والولاية، ولا سيما بعدما أخذ عليه ما أخذ، وبعدما علم الناس أنه لا يسامح أحدا في أمثال هذه المآخذ فما باله يسامح خالدا فيها؟ إنه إذن لصانع النصر الذي لا غنى عنه، وإن الخطر الأكبر الذي يخشاه لقد حق على الجند وعلى الدولة، ولقد حق معه خطر آخر لا يقل عنه؛ أن يسكن الناس إلى التفرقة في الحساب، وأن يألفوا ما يعاب إذا عيب من الرءوس والأقطاب، دون الأتباع والأذناب.
ومسألة أخرى يجب ألا يغفل عنها الرجل العصري وهو ينظر في عزل خالد للأسباب التي قدمنا أو لأي سبب غيرها، وذلك أن حقوق الولاية في عصرنا غير حقوق الولاية في عصر عمر على التخصيص، وهو العصر الذي بدأت فيه تجربة الولاية والعمالة في دول الإسلام.
فالولاية في عصرنا مركز يستحقه موظف الحكومة بعد مرانة طويلة ودراسة خاصة، واستعداد مقصور على طائفة من المرشحين لها لم تشركهم فيه طائفة أخرى، وكأنها صناعة العمر التي لا يحتمل عمر الإنسان تجديد صناعتين مثلها، فإذا قيل إن واليا عزل في عصرنا فكأننا نقول إن تاجرا صودر ماله أو زارعا حيل بينه وبين زرع أرضه، ومصادرة من هذا القبيل حري أن تلتمس لها أسباب من قبيلها في الرجاحة والإقناع.
غير أن الولاية في عهد عمر لم تكن كذلك بوجه من الوجوه، ولم يكن لصاحبها مثل هذا الحق الذي اصطلح عليه، وإن لم ينص عليه القانون، وإنما كانت تجربة ارتجالية يتساوى فيها جميع الصالحين من المسلمين، لا تنقطع بها صناعة العمر ولا سابقة الاستعداد والمرانة، فيصح أن يعزل الوالي لأسباب أهون من تلك الأسباب التي قدمناها في الرجاحة والإقناع، ويصح أن يكون للعزل معنى المناوبة في ندبة متساوية بين جميع المسلمين. «لله در «ابن حنتمة»! أي رجل كان؟!»
كلمة قالها رجل يعرف الرجال، قالها عمرو بن العاص، وكأنه لم يكن يود أن يقولها لولا أنطقه بها الإعجاب الذي لا يجدي فيه كتمان.
وهي كلمة يقولها الناظر في سيرة عمر كلما وقف من أخبارها موقف الناقد الذي يبحث عن الخطأ فيلفيه حيثما بحث عنه عسيرا جد عسير، أي رجل كان هذا الرجل؟ أي عدل كان عدله؟ أي قسطاس كان قسطاسه؟ أي حساب كان حسابه لنفسه؟ وأي سبيل للناقد إلى رجل كان يحاسب نفسه هذا الحساب؟
وربما اختلفت الأمزجة أو اختلف تركيب العقول والأبدان، فقل في ذلك ما تشاء، وقل في خلائق عمر ما تشاء، قل هي الشدة والصرامة، أو قل هي الخشونة والصلابة، أو قل هو نسيان الضعف وفرط الغيرة على الحق في عالم تستكثر فيه مصانعة الحقوق، ويستعظم فيه تكلف الصواب، قل ما بدا لك من ذلك، واذهب ما شئت أن تذهب فيه، فإنك لا تعطي المزاج حقه ولا تفرض له فرضه حتى تحار بعد ذلك في سبب انتقاد أو علة اختلاف؛ لأنه لا يزاول أمرا إلا وهو صواب لا محل فيه لسوء الطوية من وجهة ذلك المزاج.
كنا نقرأ عن عزل خالد ما تتفق قراءته من هنا وهناك، وكنا نستمع إلى الذين يردونه إلى المنافسة والتناظر فنجيز هذا ولا نمنعه، أو نرى فيه منالا من قدر عمر ومنقصه تغض من إعجابنا بمزاياه؛ لأنه قد يغار من خالد، ويعزله لغير جريرة، ويبقى له بعد ذلك قدره الجليل، وأثره الضخم في تاريخ الإنسان.
وفي عصرنا هذا رأينا أبطالا خدموا أقوامهم، ثم بلغ من ضغنهم على منافسيهم أنهم قتلوهم، ولم يقنعوا بإقصائهم عن الحكم ولا بمحاسبتهم بين يدي القضاء، ثم نصب الناقدون لهم موازين النقد فأسقطوا السيئات من الحسنات، وقرنوا قتل أفراد بإحياء أمة، فبقي لأولئك الأبطال حقهم الخالد في الثناء والتعظيم، وإذا بلغ من صواب عمر أنك لا تحصي عليه خطأ غير عزله لخالد وما جرى مجراه، فما أكثر هذا صوابا على الآدمي وإن كان من أعظم العظماء!
بدأنا نقرأ عن هذه القصة وفي خلدنا هذا الفرض الذي يحملنا على استبعادها وعندنا أنه خطأ يذكر إلى جانب حسنات، فلا ضير أن يكون له موضعه في جانب تلك الحسنات.
ثم نقرأ كل ما تسنى لنا أن نقرأه في هذه القصة، فلا نزال نستبعد الخطأ ونستبعده، ولا تزال كلمة ابن العاص تعود إلى لساننا وتعود، حتى نطقنا بها كما هي، وغفر الله لابن العاص.
وهكذا كنا نصنع في كل خطأ نسب إلى عمر وتواتر على السماع دون تمحيص واستقصاء، فلا تزال بنا الوقائع حتى يثبت بطلانه من أساسه، أو يضعف سنده ضعفا لا يبيح الاعتماد عليه إلا لمن يتجنى ويتمحل ذرائع النقد ودعوى التخطئة والعيب.
كلا، هذا رجل لا يسهل نقده، ولا يتأتى لإنسان أن يحاسبه كما حاسب هو نفسه، ولن يقع الخلاف بين المنصف وبينه إلا على أنه اختلاف في الأمزجة وتركيب العقول والأبدان، فإذا وضع هذا موضعه من التقدير فأعسر عسير بعد ذلك أن تلومه على خطأ، وأن تحصي عليه خطأ فيه من سوء النية نصيب.
فالذي حصل والذي كان متوقعا حصوله ينفيان الظنة عن مروءة عمر وإنصافه في قضية خالد بن الوليد، وقد حكم فيها بما وجب عنده، وانتهى كل شيء بعد ذلك في هذه القضية بانتهاء الغرض منها في مصلحة الدولة ومصلحة السياسة العليا، إذ لا موضع فيها لحزازات النفوس وصغائر المنافسة وما تجر إليه من لغو المشاكسة وفضول الكلام.
قال لخالد: لن تعتب علي في شيء بعد اليوم. ثم أمسك عن الخوض في قضية إلا أن تثار في معرض عام، فيشير إليها حيث تثار على سبيل الاعتذار، ويقبل ما شاء له كرم الخليقة أن يسمع من ملام الأقربين والمشايعين وإن أغلظوا في المقال، على ما كان له من هيبة ترد الجامح وتخيف من لا يخاف.
قال من خطبته بالجابية: إني أعتذر إليكم من عزل خالد بن الوليد، فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطى ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان. فتصدى له أبو عمرو بن حفص بن المغيرة وجابهه بكلام غليظ يقول منه: «والله ما أعذرت يا عمر، ولقد نزعت غلاما استعمله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأغمدت سيفا سله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ووضعت أمرا نصبه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقطعت رحما وحسدت بني العم ...»
فما زاد عمر على أن قال وهو يعذره: «إنك قريب القرابة، حديث السن، تغضب في ابن عمك.»
ولم ينس أن يصون للرجل اسمه ومنزلته في أمصار المسلمين، فكتب ما ألمعنا إليه آنفا يدحض عنه سمعة العجز والخيانة، ويجعل العزل لفضيلة فيه لا لقصور منه ولا لتثريب عليه.
وعلم بموته فاشتد حزنه عليه، واسترجع
24
مرارا، ونكس رأسه وهو يكثر من الترحم عليه، ثم قال: كان والله سدادا لنحور العدو ميمون النقيبة.
ولم يهمه أن يذكر صوابه أو خطأه في عزله بمقدار ما أهمه أن يعلن فضله ويذكر حسناته فقال: «قد ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق.» وقيل له: لم يكن هذا رأيك فيه! فلم يحجم أن يعلن قائلا: «ندمت على ما كان مني إليه»، وقال في غير المعرض وبلغه أنه لم يعقب من حطام الدنيا غير فرسه وغلامه وسلاحه: «رحم الله أبا سليمان! كان على غير ما ظنناه به.»
وقد كان عمر ينهى عن الندب والعويل، فلما مات خالد واجتمع بنات عمه يبكينه وسئل عمر أن ينهاهن قال: «دعهن يبكين على أبي سليمان، ما لم يكن نقع أو لقلقة، على مثله تبكي البواكي.»
ودخل هشام بن البختري في أناس من بني مخزوم على عمر فاستنشده شعره في خالد، وقال له وقد أطال الإصغاء إليه: «قصرت في الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إن كان ليحب أن يذل الشرك وأهله، وإن كان الشامت به لمتعرضا لمقت الله. رحم الله أبا سليمان! ما عند الله خير له مما كان فيه.»
ومن الحق أن يقال إن قضية خالد قد أرتنا مروءة خالد كما أرتنا مروءة عمر، وقد عرضت لنا هذا البطل في صفحتيه فإذا هو بطل الفؤاد في ولايته وبعد عزله، وفي شدته على عدوه وطاعته لأميره، وما على مثله من ضير أن يحق عليه العزل في ميزان عمر بن الخطاب، فذاك ميزان تعلو فيه الكفة ولا يزال صاحبها راجحا أي رجحان.
وقد استحق المجد بيقين واستحق العزل بظن، ولولا مصلحة أعلى من مصلحة الإبقاء على رضاه، لقد كان ذلك الظن حقيقا بالغض عنه والتجوز فيه.
وكفى بالرجلين فضلا أن يختلفا ومن وراء اختلافهما فضل يعترف به كلاهما ويعترف به كل محب وشانئ، وكل منصف وجاحد، وما نخال أن تقديرنا خالدا وتقديرنا عمر يدعونا أن ننصب الميزان في هذه القضية من جديد، فقصارى ما نغنم من ذلك أن خالدا كان جديرا بالبقاء في منصبه ولم يكن مستحقا لعزله، وليس ذلك بشيء إلى جانب ما رأيناه حين ننصب الميزان في القضية كما نصبه خليفة الإسلام، فقد أرانا عدلا أعظم من بطولة الأبطال، فإن أخطأ البطل - على تقدير خطئه - فالعدل أعظم منه وأحرى أن يتعقبه كأنه من أضعف الضعفاء، وذلك ميزان أشرف لعمر ولخالد وللإسلام من كل ميزان.
الفصل العاشر
ثقافة عمر
إذا تكلمنا عن ثقافة عمر بلغة العصر الحاضر جاز لنا أن نقول إنه كان رجلا وافر الحظ من ثقافة زمانه، إنه كان أديبا مؤرخا فقيها، مشاركا في سائر الفنون، مدربا على الرياضة البدنية، خطيبا مطبوعا على الكلام، فليس أرجح من نصيبه في ثقافة زمانه نصيب.
ظل في إسلامه كما كان في جاهليته عظيم الشغف بالشعر والأمثال والطرف الأدبية، بل ظل كذلك بعد قيامه بالخلافة واشتغاله بجلائلها ودقائقها التي لا تدع له من وقته فراغا لغيرها، فكان يروي الشعر ويتمثل به ويحث على روايته ويعتدها من تمام المروءة والمعرفة كما قال لابنه عبد الرحمن: «يا بني، انسب نفسك تصل رحمك، واحفظ محاسن الشعر يحسن أدبك، فإن من لم يعرف نسبه لم يصل رحمه، ومن لم يحفظ محاسن الشعر لم يؤد حقا ولم يقترف أدبا»، وقال للمسلمين عامة: «ارووا الأشعار فإنها تدل على الأخلاق.»
ونظر إلى فائدته العملية كما نظر إلى متعته الأدبية، فقال فيه إنه جذل
1
من كلام العرب يسكن به الغيظ، وتطفأ به النائرة،
2
ويبلغ به القوم في ناديهم، ويعطى به السائل.
وكانت متعته بطرائف الأدب من متع الحياة التي لا يبالي الموت لو حرم نصيبه منها، فكان يقول: لولا أن أسير في سبيل الله، وأضع جبهتي لله، وأجالس أقواما ينتقون أطايب الحديث كما ينتقون أطايب الثمر؛ لم أبال أن أكون قد مت.
وإذا أقرنت العبادة باستطراف الحديث المهذب عند عمر فذلك غاية ما يبلغه فضل الأدب عنده من ثناء وتقريظ.
وقد كان إعظام الرجل في عينيه بمقدار حذقه للحديث وقدرته على الإبانة والمنطق الحصيف، فنظر يوما إلى هرم بن قطبة ملتفا في بت
3
بناحية المسجد وقد عرف تقديم العرب له في الحكم والعلم وهو ما هو من دمامة وضآلة ومنظر زري، فأحب أن يكشفه ويسبر حكمته، فسأله في علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل: أرأيت لو تنافرا إليك اليوم، أيهما كنت تنفر؟
4
فأجابه الرجل: يا أمير المؤمنين، لو قلت كلمة لأعدتها جذعة - أي لأعاد الحرب فتية كما كانت - فأثنى عليه وقال: لهذا العقل تحاكمت إليه العرب!
وجاءه وفد فيه الأحنف فتركهم جميعا، واستفتح ما عنده من الحديث، فأعجبه وأعظم قدره، وعقد له الرئاسة إلى أن مات.
وسره أن عاد العرب إلى رواية الشعر بعد أن شغلهم عنه الجهاد في سبيل الدين، فكان يقول إن الشعر «كان علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم ولهيت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا
5
إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، فألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقله وذهب منهم أكثره.»
ومن ناحية الأدب فيه وناحية الدين معا حثه على تعلم العربية «لأنها تثبت العقل وتزيد في المروءة»، وقد أوصى بوضع قواعد النحو لأنه قوام العربية.
ولم يزل عمر الخليفة هو عمر الأديب طوال حياته، ولم ينكر من الشعر إلا ما ينكره المسئول عن دين، ولم ينس قط أنه الأديب الحافظ الراوية، إلا حيث ينبغي أن ينسى ذلك ليذكر أنه القاضي المتحرز الأمين.
فنهى عن التشبيب بالمحصنات، كما نهى عن الهجاء، وجيء له بالحطيئة متهما بهجاء الزبرقان بن بدر حيث يقول فيه:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
6
فنسي أنه الأديب الراوية، ولم يذكر إلا أنه القاضي الذي يدرأ الحدود بالشبهات ولا يحكم بما يعلم دون ما يعلمه أهل الصناعة، وقال للزبرقان: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة. ثم سأل حسان بن ثابت فقضى بأنه هجاه وأفحش في هجائه، فحبسه وأنذره ونهاه أن يعود إلى مثلها، فانتهى طوال حياة عمر، ثم عاد إلى الهجاء بعد وفاته. واستعداه تميم بن مقبل على النجاشي لأنه قال في قومه بني العجلان:
إذا الله عادى أهل لؤم وذلة
فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
فذكر عمر قضاءه ولم يذكر روايته للشعر، وقال على سنة القضاء يدفع الحدود بالشبهات: إنه دعاء والله لا يعادي مسلما.
قال تميم: فإنه يقول عنا:
قبيلته لا يغدرون بذمة
ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر: ليتني من هؤلاء. قال تميم: وإنه يقول:
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم
وتأكل من عوف بن كعب بن نهشل
فقال عمر: كفى ضياعا بمن تأكل الكلاب لحمه.
قال تميم: وإنه يقول:
ولا يردون الماء إلا عشية
إذا صدر الوراد عن كل منهل
فقال عمر: ذلك أصفى للماء وأقل للسكاك (أي الزحام).
قال تميم: وإنه يقول:
وما سمي العجلان إلا لقولهم
خذ القعب
7
واحلب أيها العبد واعجل
فقال عمر: كلنا عبد، وخير القوم أنفعهم لأهله.
قال تميم: فسله عن قوله:
أولئك أولاد الهجين وأسرة ال
لئيم ورهط العاجز المتذلل
فقال عمر: أما هذا فلا أعذرك عليه. وحبس الشاعر وضربه وأنذره لئن عاد ليضاعفن له العقاب.
وقد تجوزنا فقلنا إن عمر نسي علمه بالشعر ليذكر إبراء الذمة في القضاء، وقد حاول ذلك جهده فأفلح لو يفلح أديب في نسيان أدبه، ولكنه مطلب ما استطيع قط ولن يستطاع، فكان عمر في تخريجه للكلام وعلمه بما تنصرف إليه معانيه أخبر بالشعر من قاض لا يفقه منه إلا ظاهر لفظه ومعناه.
ومن المشهور عن عمر أنه كان عليما بتاريخ العرب وأيامها ومفاخر أنسابها كعلمه بالمتخير من شعرها والسائر من أمثالها.
جنح إلى ذلك بطبعه ونقله عن أبيه، وكثيرا ما كان يقول كما جاء في البيان والتبيين: سمعت ذلك عن الخطاب، ولم أسمع ذلك عن الخطاب.
ومن وصاياه: «تعلموا النسب، ولا تكونوا كنبط السواد
8
إذا سئل أحدهم عن أهله قال: من قرية كذا»، ومنها: «عليكم بطرائف الأخبار ، فإنها من علم الملوك والسادة، وبها تنال المنزلة والحظوة عندهم.»
وفقه عمر بالشريعة التي كان مسئولا عن نفاذها مشهور بين الفقهاء كاشتهار أدبه واطلاعه على تاريخ قومه، فكان عبد الله بن مسعود يقول: «كان عمر أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، وكان إذا اختلف أحد في قراءة الآيات قال له: اقرأها كما قرأها عمر.» وأطنب فقال: «لو أن علم عمر بن الخطاب في كفة ميزان ووضع علم الأرض في كفة لرجح علم عمر بعلمهم.» ولقد كانوا يروون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم، وقال ابن سيرين: «إذا رأيت الرجل يزعم أنه أعلم من عمر فشك في دينه.» وكل ما فسر به آي القرآن في معرض الحكم والعظة فهو التفسير الراجح في وزن العقل والدين، وكل ما استخرجه من أحكام الشريعة فهو الحكم الواضح الصحيح.
ونصائحه للعلماء والمتعلمين نصائح عالم يعرف ما هو العلم وماذا يجمل بالعلماء في طلبه، فكان يقول: «تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم، وتواضعوا لمن تتعلمون منه وتواضعوا لمن تعلمون، ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم.» وكان يوصي طلابه «أن يكونوا أوعية الكتاب وينابيع العلم، ويسألوا الله رزق يوم بيوم، ولا يضيرهم ألا يكثر لهم»، ولا يزال يذكرهم أن التفقه مقدم على السيادة؛ «فتفقهوا قبل أن تسودوا».
ولم يقصر نصائحه على علم الدين، ولا علم الأدب واللغة وحده، بل تناول كل ما عرف من معارف زمانه فقال: «تعلموا من النجوم ما يدلكم على سبيلكم في البر والبحر ولا تزيدوا عليه». ولا شك أن نصائحه العملية في طلب العلم كانت أغلب من نصائحه النظرية فيه، شأنه في ذلك شأن رجل الدولة الذي يعلم الناس ما ينفعهم ويصلح معاشهم ويهذب أخلاقهم. ولكننا مخطئون إن فهمنا من هذا القول الذي رويناه في علم النجوم أنه كان يكره الزيادة الحديثة فيه كما عرفناها نحن في أيامنا، فإنما الزيادة التي كرهها هي تلك التي كانت على عهده تخوض في التنجيم وتربط أقدار الناس بالكواكب، وتجعل منها أربابا تعبد وأرصادا تؤتمن على أسرار الغيب، وذلك ما ننهى عنه الآن، ونعد النهي عنه من تحقيق العلم الصحيح.
ولم يفته الحرص على المعرفة التي تخترع منها منافع للناس في أمر المعاش، فطلب إلى أبي لؤلؤة غلام المغيرة أن ينجز ما ادعاه من اختراع طاحون تدار بالهواء، وهو علم الصناعات كما انتهى إليه في عصره، لا يضيره أنه قسط ضئيل، بل حرصه عليه مع ضآلته دليل على ما يلقاه منه تشجيع الصناعة يوم يراها جليلة كبيرة الآثار.
على أن زبدة الثقافة كلها في أقطاب الحكم وعظماء الأعمال إنما تتلخص في شيء واحد هو الدراية بالناس، ونفاذ البصر في شئون الدنيا، وصدق الخبرة بدخائل النفس البشرية، أو هو ما نسميه في أيامنا هذه بالرأي السليم والحكمة العملية، وهو مجال كان عمر بن الخطاب قليل النظراء فيه، وحفظت له كلمات في معانيه يندر مثيلها بين كلمات الحكام، ولا يكثر مثيلها بين كلمات الحكماء.
فأي كلمة أدل على النفس البشرية من قوله: «ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين؟»
وأي نفاذ في تركيب الطبائع أمضى من نفاذه إذ يقول: «ما وجد أحد في نفسه كبرا إلا من مهانة يجدها في نفسه؟» أليس هذا بعينه هو مركب النقص الذي يلهج به علم النفس الحديث؟
وأي رأي في تجربة الناس أصدق من رأيه حين يقول: «لا تعتمد على خلق رجل حتى تجربه عند الغضب»، أو حين أثنى بعضهم على رجل أمامه فسأله: «أصحبته في السفر؟ أعاملته؟» فلما أجابه نفيا قال: «فأنت القائل بما لم تعلم؟»
وأي فهم لمعنى الاستعداد للعمل أقرب من فهمه حين ينصح العاملين: «إذا توجه أحدكم في الوجه ثلاث مرات فلم ير خيرا فليدعه؟»
كذلك سداد جوابه حين سئل فيمن يشتهي المعصية ولا يقارفها، وفيمن ينتهي عنها وهو لا يشتهيها أيهما أفضل وأجزل مثوبة عند الله؟ فكتب في هذا فصل الخطاب إذ قال: «إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها
أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم .» وكذلك وصيته بكتمان السر وتبيينه لحسن عقباه حين قال: «من كتم سره كان الخيار بيده.»
وكذلك وصيته في الحب والبغض حين قال: «لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا.»
وكذلك مخافته محنة الفراغ على الناس أشد من مخافته محنة الخمر حين قال: «أحذركم عاقبة الفراغ فإنه أجمع لأبواب المكروه من السكر.»
وكذلك وصاياه التي كانت تحفل بها كتبه إلى الولاة، وخطبه في الصلوات والأعياد كلها آيات من هذه الحكمة العملية التي هي خلاصة الثقافة المحمودة في أقطاب الحكم خاصة، وفي كل رجل يزاول شئون الحياة على التعميم.
أما مشاركته في سائر الفنون والمعارف التي كانت ميسورة على عهده فمنها المستغرب عند من يتخيل صورة عمر من جملة أخباره، ولا يتقصى فيها إلى التفصيل.
فقليل من يتخيل أن عمر كان يعرف «جغرافية» الشرق كأحسن ما يعرفها رجل في وطنه، ولكنه كان يعرفها حقا عن سماع وعن رؤية وعن زكانة تعين السماع والرؤية، بل كان يفرض على الولاة أن يحيطوا بعلم ما يتولونه من البلاد ويعزل من يرى فيه تقصيرا عن ذاك، فاستقدم عمار بن ياسر أمير الكوفة لما شكوه إليه وقالوا في شكواهم إياه: «إنه لا يدري علام استعمل»، وجعل يسأله عن المواقع والبلدان من بلاد العرب والفرس حول الكوفة سؤال مطلع خبير، ثم عزله لتقصيره بعد اختباره.
ومن الواجب أن نشك في كل خبر يوهم أن عمر كان يجهل معرفة من المعارف العملية التي يحتاج إليها في تدبير الدولة، فلا يعقل مثلا أنه كان يجهل المعرفة العامة بالحساب، وقد كان تاجرا منذ نشأته في الجاهلية، وكان يحضر الجيوش، ويعرف ما هي الألوف وما هي عشرات الألوف، فإذا استفسر عن رقم، فلن يكون إلا استفسار تجاهل واستعظام، وليس بجهل وغرارة، كما جاء في أخبار الخراج من هجر والبحرين.
قال أبو هريرة ما فحواه: قدمت من هجر والبحرين بخمسمائة ألف درهم، فأتيت عمر بن الخطاب ممسيا، أسلمه إياه، فسأل: كم هو؟ قلت: خمسمائة ألف درهم. قال: وتدري كم خمسمائة ألف درهم؟ قلت: نعم ، مائة ألف ومائة ألف خمس مرات. قال: أنت ناعس، اذهب فبت الليلة حتى تصبح!
فكل شيء يجوز أن يفهم من هذه القصة إلا أن عمر كان يجهل ذلك الرقم ولم يسمع بمثله قبل ذلك، وهو الذي شهد الدولة وحسابها من عهد أبي بكر، وأحصى الجند والمال في عهده، إنما هو غبطة واستعظام، وليس هو جهلا بدلالة هذا الرقم في جملة الحساب.
وإذا قل من يتخيل علم عمر بالجغرافية والحساب، فأقل من أولئك من يتخيل له حظا من السماع والغناء، ولكنه كان يسمع ويغني في بعض الأحيان، ولا ينهى عن غناء إلا أن تكون فيه غواية تثير الشهوات، جيء له برجل يغني في الحج، وقيل له: إن هذا يغني وهو محرم، فقال: دعوه فإن الغناء زاد الراكب.
وروى نائل مولى عثمان بن عفان أنه خرج في ركب مع عمر وعثمان وابن عباس، وكان مع نائل رهط من الشبان فيهم رياح بن المعترف الفهري الذي كان يحدو ويجيد الحداء
9
والغناء، فسألوه ذات ليلة أن يحدو لهم فأبى وقال مستنكرا: مع عمر؟! قالوا: احد فإن نهاك فانته. فحدا حتى إذا كان السحر قال له عمر: كف فإن هذه ساعة ذكر. ثم كانت الليلة الثانية فسألوه أن ينصب لهم نصب
10
العرب فأبى وأعاد استنكاره بالأمس قائلا: مع عمر؟! قالوا له كما قالوا بالأمس: انصب فإن نهاك فانته. فنصب لهم نصب العرب حتى إذا كان السحر قال له عمر: كف، فإن هذه ساعة ذكر. ثم كانت الليلة الثالثة فسألوه أن يغنيهم غناء القيان،
11
فما هو إلا أن رفع عقيرته
12
بغنائهن حتى نهاه وقال له: كف فإن هذا ينفر القلوب.
وكان يخرج للحج ومعه من يحسن الغناء، فيقترح عليه أن يغني شعرا ويؤثر أن يكون ذلك من شعره.
خرج مرة للحج ومعه خوات بين جبير وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف، فاقترحوا على خوات أن يغنيهم من شعر ضرار، وقال عمر: بل دعوا أبا عبد الله فليغن من بنيات فؤاده. فما زال يغنيهم حتى كان السحر، فهتف به عمر: ارفع لسانك يا خوات فقد أسحرنا.
وجاء قوم فذكروا أن إمامهم يصلي بهم العصر ثم يتغنى بأبيات من الشعر، فقام معهم إليه واستخرجه من منزله وسأله فيما بلغه عنه، واستنشده الأبيات التي يغنيها فأنشده:
وفؤادي كلما نبهته
عاد في اللذات يبغي تعبي
لا أراه الدهر إلا لاهيا
في تماديه فقد برح بي
يا قرين السوء ما هذا الصبا
فني العمر كذا باللعب
13
وشباب بان
14
مني فمضى
قبل أن أقضي منه أربي
نفس لا كنت ولا كان الهوى
اتقي المولى وخافي وارهبي
فأعاد البيت الأخير وقال لمن شكوا إليه: من كان منكم مغنيا فليغن هكذا.
وكان مرة في سفر، فرفع عقيرته بالغناء وأنشد:
وما حملت من ناقة فوق رحلها
أبر وأوفى ذمة من محمد
فاجتمع الركب إليه، فقرأ فتفرقوا، فعل ذلك وفعلوه مرات، فصاح بهم: «يا بني المتكاء!
15
إذا أخذت في مزامير الشيطان اجتمعتم، وإذا أخذت في كتاب الله تفرقتم؟!» لا يلومهم على الغناء وسماعه، وإنما يلومهم أن يؤثروه على سماع القرآن مرات.
ولا شك أن الشغف بالشعر الجزل والحديث الرائق والصوت الحسن لا يجتمع في نفس إلا اجتمع معه ذوق للجمال وسرور بكل حسن جميل، ولكن أين يقع هذا من صرامة عمر وبأسه وشدة حجره على زينة الحسان؟ فقد دخل في روع أناس أنها جميعا من نقائض حب الجمال، وقد سمعنا هذا فعلا من أدباء يجلون عمر ولا يحسبون ذوق الجمال من مأثور حسناته؛ لأنه كان شديدا في الحجاب، وكان ينفي الفتيان الحسان، كما صنع بنصر بن حجاج ومعقل بن سنان، وكان يقول: «استعيذوا بالله من شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر.»
وعندنا نحن أن هذا جميعه ينم على الإحساس بخطر الجمال وطغيان فتنته، ولا ينم على غفلة عنه وقلة مبالاة بأثره. وما نخال أحدا من المترخصين في الحجاب كان يؤمن بسلطان الجمال أبلغ من إيمان عمر بسلطانه، أو كان يعرف حق المرأة في الشوق إليه كما عرفه وأمر برعايته، فإنه كان ينكر على الآباء أن يكرهوا فتياتهم على قباح الوجوه ويوصيهم «أن لا تكرهوا فتياتكم على الرجل القبيح، فإنهن يحببن ما تحبون.» وجاءت له امرأة بزوج أشعث أغبر تسأله الخلاص منه، فأمر به أن يحم وأن تقلم أظفاره، ويؤخذ من شعره، ثم قال له ولمن في مجلسه: «هكذا فاصنعوا لهن، فوالله إنهن ليحببن أن تتزينوا لهن كما تحبون أن يتزين لكم».
فكل ما روي عن عمر من الشدة والرفق في معرض الجمال فهو دليل على الإحساس به وإكبار خطره، وليس بدليل على الغفلة عنه واستصغار أثره، وربما كانت الشدة والحجر أدل على ذلك من الرفق والمحاسنة. •••
ومن الآداب العامة التي لها حظ من ذوق الجمال في معارض السياسة أدب الذكريات الذي لا يستغني عنه ولاة الأمر الموكلون بإحياء معالم الدول، والاحتفال بمراسمها وأعيادها.
ففي هذا الأدب كان لعمر النصيب الذي يغنيه، فهو الذي اختار أو وافق على اختيار يوم الهجرة بداية للتاريخ الإسلامي، وإنه لأصلح يوم يؤرخ به الإسلام؛ لأن العقائد - كما قلنا في «عبقرية محمد» - «تقاس بالشدائد ولا تقاس بالفوز والغلب، وكل إنسان يؤمن حين يتغلب الدين وتفوز الدعوة، أما النفس التي تعتقد حقا ويتجلى فيها انتصار العقيدة حقا، فهي النفس التي تؤمن في الشدة، وتعتقد ومن حولها صنوف البلاء.»
وكلما اقترح على عمر اقتراح فيه نفخة من ذوق الذكرى، كان مجيبا له سريع الإصغاء إليه، فكان يحترم وفاء بلال وإقلاعه عن الأذان بعد وفاة النبي - عليه السلام - ولكنه دعاه إلى الأذان تلبية لاقتراح الجلة من الصحابة في يوم وداع دمشق بعد الفتح المبين، فبينما المسلمون يشهدون الصلاة الجامعة إذا بالصوت الذي انقطع بعد النبي يرتفع رويدا رويدا في الفضاء، ويسري رويدا رويدا من الأسماع إلى الصدور، والتفتوا وكأنهم يسألون: ماذا؟ هل عاد محمد إلى الأرض؟ إن لم يكن قد عاد فقد عاد الحنين إليه أقوى ما ينبعث من صوت إنسان إلى صدر إنسان؛ فذابت قلوب لا يذيبها الهول، وبكى أشيب أولئك الأبطال وأصبرهم على حر القتال.
وإذا كان عمر المعجب بالجمال مستكنا وراء ستار يحوجنا إلى النظر من ورائه، فعمر الرياضي المشغول بالرياضة البدنية ظاهر لنا بعمله وقوله، وبسيرته في الجاهلية وسيرته بعد الإسلام، وسيرته بعد الخلافة إلى أن فارق الحياة.
فكان يصارع في المواسم ويسابق على الخيل، وكان ينوط مجد العرب بالرياضة والفروسية ويكتب إلى الأمصار أن «علموا أولادكم السباحة والفروسية ورووهم ما سار من المثل وحسن من الشعر»، ولا يفتأ يذكرهم أنه: «لن تخور قوى ما دام صاحبها ينزع وينزو»؛ أي يرمي بالقوس ويركب ظهور الخيل بغير ركاب.
أما الخطابة فقد كانت فيه من صفات البنية ولم تكن من صفات الذهن وكفى، فكان له فم يمتلئ بالكلام حين يخطب كأنه خلق ليقول، ولوحظ عليه أنه كان ينطق ببعض الحروف - كالضاد - من كلا شدقيه، وهي تنطق في الأغلب من شدق واحد.
وكان جهوري الصوت واضح النطق سليم الشفتين في إخراج الحروف، وكتابته كلها كأنها خطب مرتجلات، تقرؤها فكأنك تصغي إلى خطيب لا تفقد منه إلا الصوت المسموع.
ولانطباعه على الكلام الذي لا تصنع فيه كان يستهل كل كلام يوافق طبعه، ولا يستصعب من الخطب إلا الذي يغير من نظرته إلى الناس ويلجئه إلى المداراة والباطل فكان يقول: «ما يتصعدني كلام
16
كما تصعدني خطب النكاح.» والتمس ابن المقفع علة ذلك فقال: ما أعرفه إلا أن يكون أراد قرب الوجوه من الوجوه، ونظر الحداق من قرب في أجواف الحداق،
17
ولأنه إذا كان جالسا معهم كانوا كأنهم نظراء وأكفاء، وإذا علا المنبر صاروا سوقة ورعية. والتمس الجاحظ علة ذلك فروى عن أناس أنهم رجعوا باستصعاب عمر لخطب النكاح إلى «أن الخطيب لا يجد بدا من تزكية الخاطب، فلعله كره أن يمدحه بما ليس فيه فيكون قد قال زورا وغر القوم من صاحبه.»
وكلا القولين جائز في بيان وجه المخالفة بين طبع عمر والتكلم في محافل النكاح، فهو مطبوع على أن يتكلم إلى الناس كلام رجل يقود الرجال، ومطبوع على الصدق الذي تثقل على صاحبه المداهنة، وهي مما لا غنى عنه في هذا المقام ، ولو كان الخاطب من الأكفاء.
وقد اختلفوا في نظمه الشعر، فزعم الشعبي أنه كان شاعرا، ورويت أشعار لا تشبهه ولا ترضيه، ونفى هو نظمه للشعر حين قال: «لو كنت أقول الشعر لرثيت أخي زيدا.»
ولا طائل في هذا الخلاف؛ لأنه لن ينتهي إلى رأي قاطع يسكت عليه، ولكنما المهم في هذا الصدد أنه كان مطبوعا على التعبير وله عبقرية فيه، أو أن تعبيره كان خاصا به، لا يشبهه تعبير سواه، فهو تعبير عمري بمفرداته وتركيبه لا يلتبس بتعبير أحد من أهل عصره حتى ليسهل تمييز كلامه من كل كلام، ويصعب تزوير القول عليه ولو أحكمت المحاكاة.
فمن خصوصياته في التعبير أنه كان يقول: «لولا الخليفي لأذنت»، وهو يعني الخلافة ولا يقصد الإغراب.
ومنها وهو ينقل خبر إسلامه إلى خاله: «وجئت إلى خالي فأعلمته فدخل إلى البيت وأجاف الباب»؛ أي أوصده.
ومنها وهو يصف ما وقع في نفسه من الآية التي تلاها أبو بكر - رضي الله عنه - حين أنكر موت النبي فقال: «والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي.» يعني أنه عجز عن القيام.
ومنها في الكتابة والقراءة ينهى عن العجلة فيها: «شر الكتابة المشق، وشر القراءة الهذرمة، وأجود الخط أبينه.»
18
ومنها وهو يذكر امرأة كانت تسقي الناس يوم أحد أنها «كانت تزفر للناس القرب»؛ أي تحملها.
ومنها في المشورة: «الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار لا يكاد ينتقض.»
19
ومنها حين كتب إلى أبي عبيدة بعد ولايته الخلافة: «... ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس.»
20
ومنها حين شكا إليه الشاكي هجاء الشاعر الذي قال فيه:
ولا يردون الماء إلا عشية
إذا صدر الوراد عن كل منهل
فقال: ذلك أنفى «للسكاك»؛ أي الزحام.
ومنها في سماحه بالبكاء: «ما لم يكن نقع أو لقلقة»؛ أي ما لم يثر التراب ويفرط في العويل.
ومنها وقد حار بأهل الكوفة: «أعضل بي
21
أهل الكوفة، ما يرضون بأمير ولا يرضاهم أمير!»
ومنها: «إن قريشا تريد أن تكون مغويات لمال الله»؛ أي مصائد تحتجنه لها دون عباد الله.
ومنها: «تمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وانزوا على الخيل نزوا»؛ أي تزيوا بزي العرب من معد بن عدنان.
ومنها: «فرقوا بين المنايا واجعلوا الرأس رأسين، ولا تلثوا
22
بدار معجزة»؛ أي تقيموا.
ومنها: «فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا»؛ أي أن يتعرضا للقتل.
ومنها: «... إن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في الضلالة، فافهموا ما توعظون به، فإن الحريب من حرب في دينه.» يريد المسلوب.
ومنها وقد سمع بالمرأة سافرة يبرزها زوجها فقال: «هذه الخارجة وهذا المرسلها لو قدرت عليهما لشترت بهما»؛ أي لأغلظت القول لهما.
ومنها لما سألوه: لم حصبت المسجد؟ فقال: «هو أغفر للنخامة وألين في الموطئ»؛ أي أستر للبصاق.
ومنها: «ثلاث من الفواقر:
23
جار مقامة إن رأى حسنة سترها وإن رأى سيئة أذاعها، وامرأة إن دخلت عليها لسنتك وإن غبت عنها لم تأمنها، وسلطان إن أحسنت لم يحمدك، وإن أسأت قتلك.» ولسنتك أي تناولتك بلسانها.
ومنها وهو يخاطب سعد بن عبادة يوم السقيفة: «لقد هممت أن أطأك حتى تنذر عضدك»؛ أي تسقط.
ومنها وهو يتكلم عن امرئ القيس: «خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معان عور أصح بصر»؛ أي استنبط عين الشعر وشق طريق المعاني وأتى بالشوارد الحسان.
ومنها وهو يتكلم عن نصيب المسلمين في الغنائم وبيت المال: «والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يحمر وجهه»؛ أي قبل أن يخجل ويحمر وجهه في طلبه.
ومنها قوله لأعرابي استفتاه في صيد ظبي وهو محرم: «أتقتل في الحرم وتغمص الفتيا؟!» أي تعيبها ولا ترضاها.
وأشباه هذا كثير لا تخلو منه خطبة أو حديث أو كتاب، تعمدنا أن نكثر شواهده لنرى أنه ليس بالمصادفة وليس بالتكرير لنمط واحد من العبارات.
ويلحق بهذا تسمية مواليه بين أسبق وأسلم ويرفأ وفرقد وذكوان وفروخ وما شابه هذه الأسماء، وهي تسمية مفردة تكاد تقتصر عليه ، وإنما هي الطبيعة العمرية تمثلت في صيغة الكلام وفي اختيار الأعلام، فلا تستطيع أن تسميها إغرابا أو عسلطة أو تعملا
24
بنحو من أنحائه؛ إذ ليس وراءها قصد متفق في جميع هذه الصيغ، وأبين ما يبين فيها أنها من عفو البداهة هنا وهناك، وأنها تترجم عن الطبيعة العمرية أصدق ترجمة وأشبهها بصاحبها، فهي قوية خشنة مستقلة جادة خالية من الزخرف. وهكذا كان المتكلم عمر، وهكذا كان كلامه الذي ينطبع عليه حين يكون منطبعا على التعبير، فلو أن كلمات تتمثل رجلا لتراءى لنا من مثال هذه الكلمات شخص عمر في خلقه وخلقه كما كان. •••
ومحصل هذه الأخبار جميعا أن عمر كان من نخبة المثقفين في العربية، وكان وافر السهم في ثقافة قومه وعصره، وكان الجانب العملي من ثقافته أغلب وأظهر من جوانبها النظرية كما هو المعهود في ساسة الأمم وعواهل الدول، وإن كان هذا لا يمنع أنه اشتقاق إلى نفائس الشعر وأطايب الأدب لما يجده فيها من راحة النفس ومتعة الخاطر. •••
ويستطرد بنا الكلام على ثقافته العربية إلى الكلام على موقفه من الثقافات الأخرى في زمانه، وعلى حقيقة الرواية التي شاعت وتواترت عن موقفه من مكتبة الإسكندرية التي قيل إنه أمر بإحراقها، فهل هو الآمر بإحراقها كما جاء في تلك الرواية؟ وإذا كان هو الآمر بذلك فما دلالته على تفكيره؟ وما وجه التبعة فيه؟ فحوى تلك الرواية أن عمرو بن العاص رفع إليه خبر المكتبة الكبرى في الإسكندرية، فجاءه الجواب منه بما نصه: «أما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله، ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه، فتقدم بإعدامها.» قال مفصل هذه الرواية: فوزعت الكتب على أربعة آلاف حمام بالمدينة، ومضت ستة أشهر قبل أن تستنفد لكثرتها!
وأحرى شيء أن يلاحظ في مسألة المكتبة هذه أن الذين أدحضوها وأبرءوا عمر من تبعتها كان معظمهم من مؤرخي الأوروبيين الذين لا يتهمون بالتشيع للمسلمين، وكانوا جميعا من الثقات الذين يؤخذ بنتائج بحثهم في هذا الموضوع.
فالمؤرخ الإنجليزي الكبير إدوارد جيبون
Gibbon
صاحب كتاب الدولة الرومانية في انحدارها وسقوطها، يسرد الحكاية، ويعقب عليها قائلا: «أما أنا من جانبي فإنني شديد الميل إلى إنكار الحادثة وتوابعها على السواء؛ لأن الحادثة لعجيبة في الحق، كما يقول مؤرخها إذ يسألنا هو أن نسمع ما جرى ونعجب! وهذا الكلام الذي يقصه أجنبي غريب يكتب على تخوم ميدية بعد ستمائة سنة يوازنه ويرجح عليه، ولا شك سكوت اثنين من المؤرخين كلاهما مسيحي وكلاهما مصري، وأقدمهما البطريق يوتيخيوس
Eutychius
الذي توسع في الكتابة عن فتح الإسكندرية، وإن القضاء الصارم الذي نسب إلى عمر لبغيض إلى أصحاب الفهم الصحيح المستقيم من فقهاء المسلمين الذين يفتون بتحريم إحراق الكتب الدينية التي تغنم من اليهود والمسيحين في الحرب، وما كان من الكتب دنيويا ظنينا سواء ألفه المؤرخون أو الشعراء أو الأطباء أو الفلاسفة فحكمهم فيه أن يستخدم على الوجه المشروع لمنفعة المؤمنين. وقد تعزى إلى متقدمي الخلفاء بعد محمد غيرة أضرى من ذلك بالهدم والإبادة، ولكن لو صح هذا لوجب أن تنفد الأوراق سريعا لقلة المادة المحترقة! فلا ترجع إلى نكبة المكتبة في الحريق الذي أصابها على غير قصد بيدي قيصر وهو يدافع عن نفسه، ولا إلى تعصب المسيحيين الأوائل الذين كانوا يدبرون الوسائل تدبيرا لتعفية الآثار المتخلفة من أيام عبادة الأصنام، ولكننا ننحدر شيئا فشيئا من عصر أنتونين إلى عصر ثيوديسيوس، فنعلم من سلسلة الأنباء المعاصرة أن القصر الملكي وهيكل سرابيس لم تبق فيهما تلك الأسفار التي جمعها البطالسة، وبلغت في إحدى الروايات أربعة آلاف، وفي رواية أخرى سبعة آلاف، ولا يبعد أن تحفل الكنيسة ومعهد البطارقة بذخيرة من الأوراق والأضابير، فإن كانت هذه هي الوقود الذي أفنته الحمامات بما كان فيها من جدل بين القائلين بتعديد الطبيعة المسيحية والقائلين بتوحيدها، فقد يرى الفيلسوف وعلى فمه ابتسامة أنها كانت في الحمامات أنفع لبني الإنسان!»
والدكتور ألفرد
Butler
بتلر المؤرخ الإنجليزي الذي أسهب في تاريخ فتح العرب لمصر والإسكندرية يلخص الحكاية وينقضها ابتداء؛ لأن حنا فلبيوتوس الذي قيل إنه خاطب عمرو بن العاص في أمر المكتبة لم يكن حيا في أيام فتح العرب لمصر، ثم ينقضها لأسباب شتى منها أن كثيرا من كتب القرن السابع كانت من الرق
25
وهو لا يصلح للوقود، وأنها لو قضى الخليفة بإحراقها لأحرقت في مكانها ولم يتجشموا نقلها إلى الحمامات مع ما فيه من التعب ومع إمكان شرائها من الحمامات بعد ذلك بأبخس الأثمان، وأننا لو صرفنا النظر عن الكتب المخطوطة على الرق لما كفى الباقي من ذخائر المكتبة لوقود أربعة آلاف حمام مائة وثمانين يوما. وهذا عدا الشك الذي يعتور القصة من تأخر كتابتها زهاء خمسة قرون ونصف قرن بعد فتح الإسكندرية، ثم كتابتها بعد ذلك خلوا من المصادر والأسناد، بل هذا عدا ما قيل من احتراق المكتبة في السنة الثامنة والأربعين للميلاد، وفيما تلا ذلك من الفتن والقلاقل بين طوائف المسيحيين.
والمستشرق كازانوفا يسمي الحكاية أسطورة، ويقول إنها نشأت بعد تاريخ الحادثة بستة قرون، وينقضها لمثل الأسباب التي لخصناها من كتاب بتلر، ثم يقول: «... وهناك اعتراض أخطر مما تقدم وهو أن ما ذكر عن يحيى النحوي منقول عن كتاب الفهرست لابن النديم في أواخر القرن العاشر، وفيه أن يحيى هذا عاش حتى فتحت مصر وكان مقربا من عمرو ولم يذكر شيئا عن مكتبة الإسكندرية، فحادثة المكتبة إذن من أوهام ابن القفطي أخذها عن خرافة كانت شائعة في عصره.»
ثم يمضي في تفنيده فيقول: «وقد تساءل ابن خلدون عن مخلفات الفرس والآشوريين والبابليين والقبط التي حرقها عمر عند فتح العرب، وقال ابن خلدون في كلام آخر: إن العرب لما فتحوا بلاد الفرس سأل سعد بن أبي وقاص عمر عما يأمر به في شأن الكتب التي بها فأمره بإلقائها في اليم، فانتقلت القصة من فارس إلى الإسكندرية مع الزمن، وفعل الخيال فعله في تحريفها.
وقد وقع تحريف في هذه الخرافة في بعض دوائر المعارف، حيث نقل عن سبرنجل أن مكتبة الإسكندرية حرقها العرب عند فتح مصر، وأن الخليفة المتوكل أنشأها من جديد، وأن الترك فتحوا الإسكندرية 868 وأضرموا فيها النار على عهد أحمد بن طولون، ولكن أحمد بن طولون لم يفتح مصر وإنما أقامه خليفة بغداد حاكما عليها، فلا علاقة للترك إذن بهذا الحادث المزعوم.»
قال: «وفي سنة 1877 ذكر الكونت دي لندبرج أن أحد الضباط الإنجليز اتهم نابليون الأول بإحراق مكتبة الإسكندرية.»
قال: «وسنلم هنا بالسبب الذي من أجله ظهرت هذه الخرافة في القرن الثالث عشر ولم تظهر قبل ذلك.» «ففي أواخر القرن الثاني عشر رجعت مصر إلى حكم خلفاء بغداد، وأبلى صلاح الدين بلاءه في الحروب الصليبية وانتصر على المسيحيين، فلقبه الشعب بفاتح مصر، وقرن بين اسمه واسم عمر بن الخطاب. وكان لابن القفطي أب يعجب بصلاح الدين ولاه صلاح الدين قضاء القدس، وعاصر عبد اللطيف البغدادي، وهو من المعجبين مثله بصلاح الدين، فتلاقيا في القدس وسمع منه هذه الأسطورة التي توسع ابن القفطي في نقلها، فكان أول من ألف هذه الأسطورة من حاشية صلاح الدين لتزكية حاكم مصر الجديد. ومما يروى عن صلاح الدين أنه باع كنوز القصر والمكتبة فبقيت هذه الرواية إلى القرن الثامن عشر يوشيها ما ينسجه الخيال حول الخرافة العمرية، ثم اتخذت صورتها التاريخية منذ ذلك العهد تعززها خرافات أخرى لحقت بعمرن ووافقت معنى قوله ألا كتاب إلا كتاب الله.»
ومن المشارقة الذين تناولوا حكاية المكتبة المؤرخ الكبير جورجي زيدان في الجزء الثالث من كتابه «تاريخ التمدن الإسلامي»، حيث قال إنه كان يميل إلى نفي الحكاية، ثم عدل عن ميله هذا إلى قبولها، وأورد من أسباب ذلك «أن حكاية إحراق مكتبة الإسكندرية لم يختلقها أبو الفرج لتعصب ديني، ولا دسها أحد بعده، بل هو نقلها عن ابن القفطي وهو قاض من قضاة المسلمين عالم بالفقه والحديث وعلوم القرآن واللغة والنحو والأصول والمنطق والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل، وكان صدرا محتشما جمع من الكتب ما لا يوصف، وكانوا يحملونها إليه من الآفاق، وكانت مكتبته تساوي خمسين ألف دينار، ولم يكن يحب من الدنيا سواها، وله حكايات غريبة من غرامه بالكتب، ولم يخلف ولدا فأوصى بمكتبته لناصر الدولة صاحب حلب، وله مؤلفات عديدة في التاريخ والنحو واللغة، وفي جملتها كتاب أخبار مصر من ابتدائها إلى أيام صلاح الدين في ستة مجلدات، وكتاب تراجم الحكماء الذي نحن في صدده، وأن ابن القفطي وعبد اللطيف البغدادي أخذا عن مصدر ضائع، وأما خلو كتب الفتح من ذكر هذه الحادثة فلا بد له من سبب، والغالب أنهم ذكروها ثم حذفت بعد نضج التمدن الإسلامي واشتغال المسلمين بالعلم ومعرفتهم قدر الكتب، فاستبعدوا حدوث ذلك في عصر الخلفاء الراشدين فحذفوه، أو لعل لذلك سببا آخر، وفي كل حال فقد ترجح عندنا صدق رواية أبي الفرج.»
ونرى نحن أن ابن القفطي كان أولى ممن تقدموه بالسكوت عن حريق المكتبة بأمر عمر بن الخطاب لو كان الذين تقدموه قد سكتوا عنه لعرفانهم قدر الكتب وغيرتهم على سمعة الخلفاء الراشدين، فإن ابن القفطي لا يجهل قدر الكتب، ولا يسبقه سابق من المؤرخين في المغالاة بنفاسة المكتبات. فلا بد من تعليل أصوب من هذا التعليل لسكوت المؤرخين المسلمين والمسيحيين الذين شهدوا فتح مصر عن هذه الحكاية إلى أن نجمت بعد بضعة قرون.
فمن جملة هذا العرض لآراء نخبة من الثقات في هذه المسألة، يحق لنا أن نعتقد أن كذب الحكاية أرجح من صدقها، وأنها موضوعة في القرن الذي كتبت فيه، ولم تتصل بالأزمنة السابقة له بسند صحيح، وربما كانت مدسوسة على الرواة المتأخرين للتشهير بالخليفة المسلم، وتسجيل التعصب الذميم عليه وعلى الإسلام.
وإذا كانت هذه الحكاية من تلفيق النيات السيئة، فالمعقول ألا توضع قبل القرن السادس الهجري الذي تسربت فيه إلى الكتب المدونة، وهذا يفسر لنا كل غموض يستوقف النظر في الحكاية من جميع أطرافها؛ لأن تلفيق هذه الحكاية يستلزم عناصر شتى لا تجتمع كلها في وقت واحد قبل القرن السادس للهجرة.
فهو يستلزم أن يكون الملفق عليما بالأقوال والأحوال التي أثرت عن عمر بن الخطاب، وفيها ما يجعل حكاية المكتبة قريبة التصديق مشابهة لما يتوخاه الخليفة في أوامره ونواهيه. ولم تكن هذه الأقوال والأحوال معلومة مستفيضة الخبر بين المسلمين أنفسهم عند فتح الإسكندرية فضلا عن المسيحيين أو الإسرائيليين، وإنما علمت واستفاضت بعدما دونت السير وجمعت المتفرقات.
ويستلزم تلفيق الحكاية للتشهير بالخليفة المسلم أن يكون الملفق عارفا بما في هذه التهمة من المعابة، شاعرا بما فيها من الاعتساف والغرابة، ولم يكن هذا أيضا مفهوما في أيام فتح الإسكندرية بين خصوم الإسلام؛ لأنهم كانوا قد تعودوا إحراق الكتب والتماثيل واعتبار الوثنية وبقاياها رجسا من عمل الشيطان يستحق نار الدنيا قبل نار الجحيم، وما من عارف بالكتب بينهم إلا كان يسمع بحماسة القياصرة المسيحيين في تدمير التحف الإغريقية، ولا سيما «ثيوديسيوس» الذي أحرق هياكل شتى، فيها ولا شك كتب كثيرة من بقايا المكتبة التي عليها الخلاف.
وقد يستلزم تلفيق الحكاية أن تكون مصر وأخبارها موضع اهتمام ومثار قيل وقال، ولم تكن مصر قبلة أنظار العالم كما كانت في أوقات الحروب الصليبية، يوم كانت هي ميدان الفصل ومناط الظفر والهزيمة بين جيوش الدنيا المحشودة فيها أو على أبوابها.
وقد يستلزم كذلك أن يكون العصر حزازة بين الإسلام وخصومه، كما كان عصر الحروب الصليبية وما قبله بقليل.
وقد يستلزم مع جميع أولئك أن يشترك في القيل والقال حافظو الكتب الإغريقية في بيزنطية وشواطئ آسيا الغربية، وهي البلاد التي كانت موطئ أقدام الجيوش في الكر والفر والقدوم والإياب، ومنها تدفق حافظو الكتب إلى أوروبا عندما أغار الترك على بيزنطية من تلك الأرجاء.
فتلفيق الحكاية إذن كان عجيبا في أيام فتح الإسكندرية وما تلاها من الأزمنة إلى زمان القفطي والبغدادي وأبي الفرج الملطي، ولهذا لم تظهر حكاية المكتبة في تلك الأيام.
وتلفيقها في عصر الحروب الصليبية غير عجيب لاجتماع الأسباب التي يستلزمها ذلك التلفيق، ولهذا ظهرت فيه، وأمدنا ظهورها فيه بالسبب الذي يبطل العجب، ويفسر الغوامض التي لا يفسرها تعليل معروف غير هذا التعليل.
إلا أننا على الرغم من كل هذا نفرض أن عمر بن الخطاب أمر بإحراق مكتبة الإسكندرية، فما هي الوصمة التي تلحقه من هذا الأمر؟ ولماذا كان يحرم عليه أن يحرقها، ويجب عليه أن يستبقيها ويفتح أبوابها؟ ولماذا كان ينبغي أن يكون على يقين أنها شيء مفيد للمسلمين ولغيرهم من الأمم، وأنها ذخيرة من ذخائر العالم لا يجوز التفريط فيها؟
أمن النقص في تفكير الإنسان أن ينشأ بمعزل عن بلاد اليونان وعن عصر حكماء اليونان، فلا يطلع على الفلسفة اليونانية؟ أكانت فائدة تلك الكتب واضحة كل الوضوح من أحوال أقوامها الذين حفظوها، إن صح أنهم حفظوها؟
إن أحوال الروم والقبط في ذلك العهد لم يكن فيها دليل واحد على أنهم محتفظون بينهم بمعرفة نفيسة، وأن ضياع كتبهم فيه ضياع لذخيرة من ذخائر العالم التي لا يجوز التفريط فيها.
فقد كانوا على شر حال من الضعف والفساد والجهل والهزيمة والشقاق والتهالك على سفاسف الأمور، فإذا كان عمر مطالبا بعلم الفلسفة اليونانية، أو غير ملوم على فوات الاطلاع عليها، وإذا كانت أحوال الأمم التي هي أهلها لا تدل على قيمتها، بل تسوغ الاعتقاد بخلوها من كل قيمة، فأين هو العيب في تفكيره إن صح أنه فكر على ذلك المنوال؟
إنما يعيب الإنسان أن يكون عدوا للمعرفة على إطلاقها، ولم يكن عمر عدوا للمعرفة ولا معرضا عنها، بل كان مشغوفا بها حيث رآها دينية أو أدبية، ومن قومه أتت أو من غير قومه.
فكان يستشير الغرباء في تدوين الدواوين ومنافع الصناعة، ولا ينتهي عن علم شيء إلا أن تكون فيه فتنة أو ضلال.
وكان - ولا ريب - يؤثر للمسلمين أن يقبلوا على دراسة القرآن ويقدموا فهمه على فهم كل كتاب، وهذا واجبه الأول الذي لا مراء فيه، وما من أحد هو مطالب بهذا الواجب قبل أن يطالب به عمر على التخصيص؛ لأنه الخليفة الذي في عهده انتشر المسلمون بين أقطار المشرق، وخيف عليهم أشد الخوف أن ينحل العقد الذي جمعهم، وبث فيهم الهمة والبأس وسودهم على العالمين.
وفي الأخبار التي نقلت بهذا الصدد أن رجلا أنبأه أنهم لما فتحوا المدائن أصاب كتابا فيه كلام معجب ، فسأله: أمن كتاب الله؟ قال: لا. فدعا بالدرة، فجعل يضربه بها وهو يقرأ:
الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون .
ثم قال: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم، وتركوا التوراة والإنجيل حتى درسا وذهب ما فيهما من العلم.»
رويت هذه الرواية عن عمر بن ميمون عن أبيه، وليس فيها ما يأباه العقل، ولو حكمنا على عمر بحكم الدنيا وحكم التجربة الواقعية، وتركنا حكم الدين والإيمان إلى حين.
فبالتجربة الواقعية أيقن عمر أن المسلمين بكتابهم خرجوا من الظلمات إلى النور، وانتصروا على من حاربوه وعندهم كل كتاب.
وما فرغ المسلمون بعد من قراءة القرآن، ولا انقضت على تداوله بينهم سنوات، فكيف يرضى الخليفة الذي يهمه أمر رعاياه أن ينصرفوا عنه إلى كتب لا يؤمن ما فيها؟ وكيف يكون الحال إذا تفرقوا شذر مذر
26
ولهم في كل بلد قراءة غير هذا الكتاب الذي لم يفرغوا منه، ولم يستوعبوا كل ما فيه؟ أمن عداوة المعرفة هذا، أو من إيثار المعرفة التي تتقدم على غيرها؟ وإذا لم تتقدم هذه المعرفة على غيرها في السنوات الأولى من تداول القرآن الكريم فمتى تتقدم؟ ومتى يعطى القرآن حقه من الفقه والوعي والإقبال؟ وأين هي الغنيمة الروحية التي تعدل في كتاب من الكتب بعض ما غنمه المسلمون بوحي القرآن في صدر الإسلام؟
فعلى أي فرض من الفروض لم يكن في تصرف عمر ما يأباه العقل الذي ينظر إلى الحقائق المشهودة والآثار الواقعة، ويجوز أنه أمر بإحراق مكتبة الإسكندرية على أبعد احتمال، ولكن الذي لا يجوز لمنصف أن يفهم من ذلك أنه عدو الثقافة، وهو الأديب الفقيه الخطيب، وهو قد وازن بين معرفة ظاهرة النفع ومعرفة مجهولة ظواهرها كلها تغري باتهامها، ولا لوم عليه أن يولد حيث يجهلها، ولا لوم عليه أن يتهمها وهي لم تنفع أهلها يوم رآهم يخبطون في الضلالة والهزيمة، ولا يقال عن عقل يفكر هذا التفكير إنه لم يفكر على هدى مستقيم.
الفصل الحادي عشر
عمر في بيته
كان الخليفة الأكبر - صاحب الأمر في الجزيرة العربية، وصاحب الغلبة على ملك الأكاسرة والقياصرة والفراعنة، ومدبر الحكم في الرقعة الوسطى بين قارات العالم المعمور - رجلا فقيرا يعيش عيشة الكفاف، ويقنع من الغذاء والكساء بحظ لا يتمناه كثير من الرجال، ويزهد فيه كثير من النساء.
فمن غير العجيب أن يخطب بعض النساء فيأبين عيشه، وقد أبى مثل هذا العيش نساء النبي - عليه السلام - فلم يقبلنه إلا وقد خيرن بينه وبين الطلاق.
وما ندري أي الشهادات لحكم الخليفة الأكبر أغلى وأجمل، فإن الشهادات لحكمه أكثر من أن تحصى، وهي جميعا مما تغالي به السير وتزدان بجماله، ولكننا لا نعرف بينها ما هو أغلى وأجمل من هاتين الشهادتين: أن يعيش في بيته عيشا لا يشتهى، وأن تكون في يده صولة الملك فلا ترى فيها امرأة من النساء خلابة
1
تغرها، ولا صولة تخيفها من أن ترفضها وتأباها.
إن امرأة واحدة ترفض عمر لأغلى في الشهادة له من ألف امرأة يقبلن على بيته، ويطمعن في سلطانه.
وقد وصفته امرأة خطبها ورفضته وصفا لم نسمع فيما قيل عن إيمانه بالله أصدق منه ولا أوجز وأوفى، فقالت أم أبان بنت عتبة بن ربيعة: إنه رجل «أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه، كأنه ينظر إلى ربه بعينه.»
والذي نعنيه من الوصف هو قولها عن مخافته الله أنه كان يخافه كأنه يراه بعينه.
فهو في الحق أصدق وصف لإيمان هذا الرجل المتفرد بإيمانه، كما تفرد بكثير من شئونه. إنه تجاوز حد الإيمان إلى حد الرؤية والعيان، وحقق مبالغات أبي الطيب المتنبي حين وصف الغاية القصوى من الشجاعة والحكمة فقال:
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
ومهما يكن من إيمان بالغيب، فهو لا يبلغ في اليقين والحضور مبلغ الرؤية بالعين، وهي قولة عابرة من قائلة أصابت ما لم يصبه قائل، ولعلها لا تدري مدى صوابها.
وخطب عمر أم كلثوم بنت أبي بكر إلى أختها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فقالت له: الأمر إليك . ثم سألت أختها، فأبته وقالت: لا حاجة لي فيه. فزجرتها قائلة: أترغبين عن أمير المؤمنين؟ قالت: نعم، إنه خشن العيش شديد على النساء. وكرهت عائشة أن تجبهه
2
بالرفض، فوسطت في الأمر عمرو بن العاص يحتال له برفقه وحسن تدبيره، فجاء عمر وفاجأه قائلا: بلغني خبر أعيذك بالله منه. قال: ما هو؟ قال: خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر؟! قال: نعم، أفرغبت بي عنها أم رغبت بها عني؟ قال: لا واحدة، ولكنها حدثة،
3
نشأت تحت كنف أمير المؤمنين في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك، وما نقدر أن نردك على خلق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها؟ كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك! ففهم عمر أن ابن العاص لا يقدم على هذه الوساطة بغير موسط، وأن في الأمر ممانعة على نحو من الأنحاء، فسأله كأنه يستطلع ما وراءه من الممانعة: كيف بعائشة وقد كلمتها؟ قال: أنا لك بها، وأدلك على خير منها: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، تعلق منها بنسب رسول الله.
وأم كلثوم بنت علي حدثة أيضا، والمحظور في إغضابها أكبر من المحظور في إغضاب بنت أبي بكر، وإن اعتمد ابن العاص على أن عمر يملك نفسه فلا يغضبها، فقد كان حريا به أن يعتمد على شيء من ذلك في خطبته لبنت الصديق، فلن يفوت عمر - وهو يعلم من يخاطبه في الأمر - أن يفهم خبيئة سعيه، وأن يتجاهله لئلا يكشف موقف الرفض والاعتذار من عائشة وأختها - رضي الله عنهما - ويعمل بما يراه الصواب.
والطريف في القصة - وكلها طريف - أن يذهب عمرو بن العاص إلى خليفته ليواجهه بما يؤخذ عليه من خلائقه وهو آمن أن يغضبه، بل هو فوق ذلك واثق من موافقته إياه ما دام على صدق في مقاله.
وللمرأة أن تأبى الخشونة في رجلها ولا تستريح إليها، ولكن دارس الأخلاق لا ينبغي أن يعيب هذه الخصلة إلا بمقدار ما فيها من نقص في الطبائع الإنسانية الأصيلة؛ إذ المحقق أن الخشونة حرمان من الصقل والمرونة، ولكننا نخطئ كل الخطأ إن حسبناها حرمانا من البر والرحمة؛ لأن المرء قد يكون ناعم الملمس وهو قاس مفرط القسوة، ويكون خشن الملمس وهو رحيم مفرط الرحمة، ويغلب في هذه الحالة أن تكون خشونته - كما أسلفنا في فصل سابق - درعا يستر بها مواضع اللين في خلقه، وضربا من الخجل أن يطلع على ناحية فيه يتطرق إليها الضعف وتنفذ منها الرماية.
فالخشونة نقيض الصقل والنعومة، وليست نقيض العطف والرحمة، وعمر بن الخطاب من أفذاذ الرجال الذين تتجلى فيهم هذه الحقيقة أحسن جلاء، حتى في علاقاته بالأهل والنساء.
رحمة عمر رحمة في غلاف، وليست بالرحمة المكشوفة لكل ناظر ولامس، ولا تطول بالناس عشرته حتى ينقشع هذا الغلاف عن قلب وديع مفعم بالعطف والمودة، مفتح الجوانب لكل عاطفة كريمة ولو لم تكن من ولي حميم.
فنساؤه اللائي عاشرنه قد كلفن بحبه ورضين عيشه لرضاهن بمودته وعطفه، وكانت إحداهن، التي سميت العاصية وسماها النبي - عليه السلام - الجميلة، لا تطيق فراقه، فإذا خرج مشت معه إلى باب الدار فقبلته ولم تزل في انتظاره.
وكانت من نسائه عاتكة بنت زيد، وهي على قسط وافر من الجمال ومن الدين ومن البلاغة، تولهت
4
في رثائه حين قتل فلم يكن بكاؤها عليه كبكاء كل زوجة على كل زوج فقيد، وتعددت قصائدها في تأبينه بكلام لا يغيب عنه صدق المدح ولا صدق الحسرة، وهي التي قالت فيه:
عصمة الناس والمعين على الده
ر وغيث المنتاب والمحروب
قل لأهل الضراء والبؤس موتوا
قد سقته المنون كأس شعوب
5
وقالت فيه:
رءوف على الأدنى غليظ على العدا
أخي ثقة في النائبات منيب
متى ما يقل لا يكذب الله قوله
سريع إلى الخيرات غير قطوب
وقالت فيه:
جسد لفف في أكفانه
رحمة الله على ذاك الجسد
وقالت فيه:
يا ليلة حبست علي نجومها
فسهرتها والشامتون هجود
قد كان يسهرني حذارك مرة
فاليوم حق لعيني التسهيد
ولا يبكى الرجل هذا البكاء على ما في عيشه من الشظف إلا ومن وراء خشونته مودة قلب تنفذ إلى القلوب.
وأكثف ما تكون الدروع أرق ما يكون الموضع الذي يليها وأخوفه من الإصابة، فانظر أين الموضع الحصين المحمي فهنالك الموضع اللين الذي يخاف عليه، ولا يخدعنك عن ذلك خادع من إظهار أو تظاهر غير مشعور به وغير مقصود، أين أكثف ما تكاثفت الغلظة فيه من درع عمر التي عنيناها؟
المرأة ولا نزاع!
فعلى المرأة كانت له غيرة اشتهر بها وعدت من دلائل شدته عليها، وفي هذا يقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إن الله غيور يحب الغيور، وإن عمر غيور.»
وعلى المرأة ومن المرأة كان حذره أن تتخايل للعيون وتتبرج في مضطرب الفتون.
وكلما أوصى بوصية فيها فإنما هي الفتنة التي يتقيها، فلما قال: عليكم بالأبكار. لم يقل عليكم بالأبكار لأنهن أمتع وأنضر، ولكنه قال عليكم بهن لأنهن أكثر حبا وأقل خبا.
6
ولما توجس من زواج المسلمين ببنات الأعاجم، لم يتوجس منه لأنه حرام، بل لأن «في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم.»
فالخلابة هي المحذور الذي يتقى.
وهنا كثافة الدرع فابحث هنا عن منفذ الحذر. إنك لا تبعد كثيرا حتى تلمس الموضع الذي نم عليه الرجل حيث قال: «لو أدركت عفراء وعروة جمعت بينهما»،
7
أو نم عليه الصبي الذي عناه ابن الخطاب حيث قال: «أحب أن يكون الرجل في أهله كالصبي، فإذا احتيج إليه كان رجلا.»
ومتى كان فرط الغيرة على المرأة أو الحذر منها دليلا على أنها ذلك الشيء المهين، وإن قال الغيور الحذور بلسانه إنها لشيء مهين؟
وابحث عن جانب واحد مغلق أو مقطوع من جوانب الرحم الذي ينبغي أن يوصل فإنك لن تجده في نفس هذا الرجل بتة، وإن جهدت في البحث.
فكان ابنا بارا لا ينسى التحدث عن أبيه، ويعتز بذكراه على ما كان من قسوته عليه في صباه، ولم يزل يقسم باسمه حتى نهاه النبي، فانتهى وهو يقارب الكهولة.
وكان أبا يحب أبناءه ويعرف وجد الآباء بالأبناء، وينزع الثقة من وال لا يحنو على صغاره. أمر بكتابة عهد لبعض الولاة، فأقبل صبي صغير فجلس في حجره وهو يلاطفه ويقبله، فسأله المرشح للولاية: أتقبل هذا يا أمير المؤمنين؟! إن لي عشرة أولاد ما قبلت أحدا منهم ولا دنا أحدهم مني. فقال له عمر: وما ذنبي إن كان الله - عز وجل - نزع الرحمة من قلبك؟! إنما يرحم الله من عباده الرحماء. ثم أمر بكتاب الولاية أن يمزق وهو يقول: إنه إذا لم يرحم أولاده فكيف يرحم الرعية؟
وكان كلاب بن أمية الكناني في غزوة فاشتاق إليه أبوه الهرم وحزن لغيابه، واتصل نبؤه بعمر فكتب إلى قائد الجيش يستعيد كلابا إلى المدينة، فلما عاد ودخل عليه سأله: ما بلغ من برك بأبيك؟ قال: كنت أكفيه أمره، وكنت أعتمد - إذا أردت أن أحلب لبنا - أغزر ناقة في إبله وأسمنها فأريحها وأتركها حتى تستقر، ثم أغسل أخلافها حتى تبرد، ثم أحلب له فأسقيه.
ثم بعث إلى أبيه فجاء يتراوح في مشيته ضعيفا بصره، محنيا ظهره، فسأله: كيف أنت يا أبا كلاب؟ قال: كما ترى يا أمير المؤمنين. ثم جاءه بلبن حلبه ابنه، ففطن الرجل وقال وهو يدني الإناء إلى فمه: لعمر الله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدي كلاب من هذا الإناء! فقال عمر: هذا كلاب عندك حاضر قد جئناك به. فوثب إليه ابنه، وطفق الأب الذي لم يكد يراه يضمه ويقبله، وبكى عمر، وأمر كلابا أن يلزم أبويه ما بقيا، وله عطاؤه كأنه يجاهد في سبيل الله.
ومن حنانه على الأطفال أنه كان يشفق عليهم أن يحزنوا في لهوهم ولعبهم فلا يترك الخائف منهم حتى يأمن على لهوه ومحصول لعبه، فحدث سنان بن سلمة أنه كان في صباه يلتقط البلح في أصول النخل مع بعض الصبية إذ أقبل عمر فتفرق الغلمان وثبت هو في مكانه، فلما دنا منه أسرع قائلا: يا أمير المؤمنين، إنما هذا ما ألقت الريح! قال عمر: أرني أنظر فإنه لا يخفى علي. فنظر في حجره ثم قال: صدقت. إلا أن الصبي لم يقنع بهذا حتى يحرسه أمير المؤمنين إلى بيته! فقال: يا أمير المؤمنين، أترى هؤلاء الآن؟ وأشار إلى الصبية الهاربين، ثم قال: والله لئن انطلقت لأغاروا علي فانتزعوا ما معي. فمشى معه عمر حتى بلغه بيته!
وكثير على المصدقين المفرطين في التصديق أن يعرفوا هذا عن عمر، ثم يصدقوا أنه وأد بنتا في الجاهلية على تلك الصورة البشعة التي انتقلت إلينا في بعض الروايات، وخلاصتها أنه - رضي الله عنه - كان جالسا مع بعض الصحابة إذ ضحك قليلا ثم بكى، فسأله من حضر فقال: كنا في الجاهلية نصنع صنما من العجوة فنعبده ثم نأكله، وهذا سبب ضحكي، أما بكائي فلأنه كانت لي ابنة فأردت وأدها فأخذتها معي وحفرت لها حفرة فصارت تنفض التراب عن لحيتي فدفنتها حية.
فهي قصة يعتورها الشك من ناحية ضحكها ومن ناحية بكائها ومن ناحية اجتماعهما في لحظة واحدة لتمكين واضع القصة من التفرقة بين عصري عمر في جاهليته وإسلامه، وأدعى ما فيها من الشك تلك الخاتمة التي يتم بها اختراع الفجيعة والبلوغ بها إلى ذروتها، وهي نفض الطفلة الصغيرة تراب حفرتها عن لحية أبيها.
فالوأد لم يكن بالعادة الشائعة بين جميع القبائل العربية، ولم يشتهر بنو عدي خاصة بهذه العادة ولا اشتهرت بها أسرة الخطاب التي عاشت منها - فيما نعلم - فاطمة أخت عمر، وحفصة أكبر أولاده، وهي التي كني أبا حفص باسمها.
وقد ولدت حفصة قبل البعث الإسلامي بخمس سنوات فلم يئدها، فلماذا وأد الصغرى المزعومة، وهي في السن التي تفهم فيها كيف تنفض التراب عن لحية أبيها؟ ولماذا انقطعت أخبار هذه الصغرى المزعومة فلم يذكرها أحد من إخوانها وأخواتها ولا أحد من عمومتها وخئولتها؟
ما نحسبها إلا إحدى جنايات الإغراب على من خلقوا وفي سيرتهم مثال للإغراب والإعجاب، فهي اختراعة تضعفها خلائق عمر التي لا تتبدل هذا التبدل من النقيض إلى النقيض بين جاهليته وإسلامه، وقد كان عمر في جاهليته لم يسلم بعد يوم أشفق على أخته وهي دامية الوجه، وكان في جاهليته يوم أحب أخاه حبه المفرط وبقي عليه.
فليس وقوع القصة المزعومة في الجاهلية مانعا لغرابتها ومقربا لتصديقها وغير هذا الأب وهذا الأخ يطيق هذه القسوة التي لا تطاق.
إن قليلا من الآباء من أحب أبناءه كما أحب عمر أبناءه، وإن قليلا من الإخوة من أحب أخا كما أحب عمر زيدا أخاه، فما سمع اسمه بعد مقتله إلا سالت عبرته، وما هبت الصبا - كما قال - إلا وجد نسيم زيد وتمنى نظم الشعر لينظمه في رثائه.
بل إن قليلا من الأصدقاء من أخلص لأصدقائه وعشرائه كما أخلص عمر لكل صديق وعشير، وهو القائل: «لقاء الإخوان جلاء الأحزان»، وهو القائل حرصا على المودة وضنا بها: «إذا أصاب أحدكم ودا من أخيه فليتمسك به، فقلما يصيب ذلك.»
فإذا أردنا أن ننقب عن وشائج الرحم وصلات المودة في نفس هذا الرجل المهيب المخيف فلننقب عنها في ينابيعها الخفية التي تسري منها وترقرق في نواحيها، ولا ننقب عنها في الصخور التي تكتنفها وتطفو عليها وترفع أعلامها.
أو نحن حريون أن ننقب عنها بين هذه الصخور والأعلام ولكن على هدى وبصيرة، فلا نقنع منها برأي العين من بعيد أو قريب، ولا نغتر بما تبديه كأنه كل شيء تحتويه.
فما هذه الصخور والأعلام التي كانت تروع الناظر من هيبة عمر ومن ملامح سيماه؟ هي مظهر قدرته على نفسه لا أكثر ولا أقل، وهي الحارس اليقظ الذي يحمي تلك النفس أن يتسرب إليها الوهن، وأن تؤخذ على حين غرة من حيث يخاف عليها.
والمرء لا يعتصم بقدرته على نفسه وهو آمن، ولا يوقظ الحارس على دخيلته وهو وادع في سربه، إنما يعتصم بقدرته ويوقظ حارسه حين يحذر، وإنما يحذر من الطارق الذي لا يستهين به ولا يزال على رقبة منه.
وقد كان عمر بن الخطاب أكثر ما يكون اعتصاما بقدرته في أمس الأمور بقلبه وسريرة طبعه؛ في خشية الخديعة من ناحية الترف والمتعة، فهو لا يستسلم لشهوة مأكل وملبس ولا قنية دنيوية، وفي خشية الخديعة من ناحية ولده وأهله، فهو يجفل من أن يرى لهم رزقا لا يعرف مأتاه، ويجفل من أن يرى لهم إبلا سمانا بين الإبل العجاف مخافة أن يسمنها لهم الناس في مراعيهم لأنهم ولد أمير المؤمنين، وتلك إبل أبناء أمير المؤمنين!
وكان أكثر ما يكون اعتصاما بقدرته حين يلمح الفتنة الكبرى التي يقتدر بها شيطان الغواية، وتلك هي المرأة لا فرق بين خيارها وشرارها، فمن شرارها استعذ بالله، ومن خيارها كن على حذر!
وإذا اعتصم عمر بن الخطاب بنفسه فانتظر شيئا واحدا لن تجد حولا عنه، وهو تقديره العدل تقدير الخائف أن يزيد فيه شعرة أو ينقص منه شعرة، فمتى اعتصم بنفسه استيقظ وانتصر، ومتى استيقظ وانتصر فللحق يقظته وفي سبيل الحق انتصاره.
يعرض شأن المرأة فهو الغيور الحذور، وهو الواقف على الميزان فيما تعطاه وفيما تعطيه، فلا هي بظالمة ولا مظلومة في كل أمر يرجع إليه.
فمن همه كان ألا تظلم لضعفها ولا تغبن لحيائها وخفرها، ومن حقها عنده ألا تكره على زواج الرجل القبيح، تحب لنفسها ما يحبه الرجل لنفسه، وأن يعرف لها عذرها حيث يعرف للرجل عذره في الصلة بينها وبينه، فسمع مرة أعرابية تنشد:
فمنهن من تسقى بعذب مبرد
نقاح
8
فتلكم عند ذلك قرت
ومنهن من تسقى بأخضر آجن
9
أجاج
10
ولولا خشية الله فرت
فتوهم في زوجها عيبا وأرسل في طلبه فإذا هو متغير الفم، فخيره بين خمسمائة درهم وطلاقها، فقبل الدراهم وطلقها.
وسمع امرأة من وراء بابها تنشد:
تطاول هذا الليل تسري كواكبه
وأرقني ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره
لزلزل من هذا السرير جوانبه
فسأل عن زوجها فعلم أنه خرج في غزوة طالت غيبته فيها، فأمر بعد ذلك ألا تطال غيبة الأزواج في الغزوات.
وكان يقبل شكوى المرأة من زوجها الذي يهمل النظافة والزينة؛ لأن النساء «يحببن أن تتزينوا لهن كما تحبون أن يتزين لكم.»
وقبل شكوى المرأة من زوجها الخاضب
11
قبل البناء بها يوهمها أنه شاب وهو موخوط الرأس بالشيب، فأوجعه ضربا وقال: غررت القوم.
ولم يكن يتحرج مع المرأة مثل هذا التحرج أن تستر من سيرتها ما لا يضير ستره إن عاق زواجها، فكاشفه رجل بأمر ابنة له أسلمت وأصابها حد من حدود الله، فهمت أن تذبح نفسها، فأدركها أهلها وقد قطعت بعض أوداجها،
12
فبرئت وتابت واستقامت على الهداية، فسأله: أأخبر القوم الذين يخطبونها بما تقدم من سيرتها؟ قال: ويلك! أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه؟ والله لئن أخبرت بشأنها أحدا من الناس لأجعلنك نكالا، «أنكحها نكاح العفيفة المسلمة.»
فهي أولى عنده ببعض المحاباة حين لا ضير في المحاباة، وقد عاهد الناس فيما عاهدهم عليه «ليمنعن النساء إلا من الأكفاء.»
ونرى أنه قضى في الخلاف بين الزوج والزوجة بالقول الفصل في بناء الأسر وتعمير البيوت، حين قال لرجل هم بطلاق امرأته لأنه لا يحبها: «أوكل البيوت بني على الحب؟ فأين الرعاية والتذمم؟»
فإنه لبر بربات البيوت لم يدركه متحذلقة العصر الذي يلغطون بالحب والزواج، ويجهلون أن الرعاية والتذمم أقمن بالدوام والتعمير من زواج يبنى على الحب وحده؛ لأن الحب منوط بالأهواء التي تتغير بين آونة وأخرى، وأما مناط الرعاية والتذمم فهو الأخلاق التي قل أن يطرأ عليها تغيير.
وقد استشار النساء فيما يحسن كما استشار الرجال فيما يحسنون، ولم يتعال قط أن يرجع عن خطئه إذا ردته عنه امرأة بالبينة الصادعة،
13
ومن ذاك أنه نهى الناس في بعض خطبه أن يزيدوا مهور النساء على أربعين أوقية، فصاحت به امرأة فطساء من صفوف النساء: ما ذاك لك؟ فلم يأنف أن يسألها: ولم؟ قالت: لأن الله تعالى يقول:
وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا . فرجع عن خطئه واعترف بصوابها.
فما للمرأة من حق تعطاه، وما ليس لها بحق لا تعطاه وتذاد عنه.
والذي ليس لها بحق في رأي عمر - ورأي كل رجل ذي رجولة - ألا تتعرض لعمله الذي لا تفقهه، ولا يرجع إليها في مثله، ولا سيما إن كان شأنا من شئون الدولة، ومهمة من أخص مهام الرجال، فتشفعت له امرأته في وال مقصر تسأله: فيم وجدت عليه؟
14
فالتفت غاضبا وقال لها: وفيم أنت وهذا؟ إنما أنت لعبة يلعب بك ثم تتركين! كلمة لا تلبس القفاز الناعم، ولم يخلق القفاز الناعم ليلبس في كل حين.
والذي ليس بحق للمرأة أن تعلو كلمتها على كلمة وليها، وهذا الذي كان ينكره عمر على أهل المدينة حيث قال: «... كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار.
وصحت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني، قالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم
ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فأفزعني.»
نعم، هذا مفزع لعمر، وقد كان - ولا ريب - مفزعا لرسول الله أن تعلو كلمة على كلمته في بيته، لكن طريقة محمد في تغليب الكلمة طريقة نبي يؤم متبعيه، وطريقة عمر طريقة مريد مؤتم بنبوة، ولا جناح على عمر ألا يلحق بشأو محمد في كل ما سبق إليه.
فمحمد إنسان عظيم، وعمر رجل عظيم، وهذا هو الفارق بينهما كما بيناه في مناسبة سابقة، وإنما الفارق بينهما في المناسبة التي نحن بصددها أن الرجل العظيم يرحم المرأة كما يرحمها الجندي في معرض القوة والنضال، ولكنه يأنف أن يستكين لسلطانها في معرض الهوى والفتنة، فيكسرها ولا ينكسر لها إذا لجت في الغرور وانطلقت في عنانه، ومن ثم استصغر عمر ولده نفسه - عبد الله - لأنه عجز عن تطليق زوجه، فلما أشاروا عليه باستخلافه قال لمن كلمه في ذلك: «ويحك! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته؟!»
أما الإنسان العظيم فهو يشمل ضعف الإنسانية كله ويعطف عليه، ومنه ضعف المرأة في غرورها واعتزازه بدلال الضعف على القوة؛ لأنه في حقيقته اعتزاز بمكانها منها وتقدير لتلك القوة في بعض نواحيها، فهو يرى في تكبر المرأة إذا كانت كبيرة عنده نوعا من الاعتراف بكبره، وهو لا يقف معها في ميدان كما يقف كل ذكر وأنثى؛ لأن ميدانه هو يشمل الميدانين مجتمعين، إذ هو ميدان الإنسان كله والإنسانية جمعاء.
على أن شأن الرجل مع المرأة لا يظهر من رأي الرجل فيها كما يظهر من رأيها فيه، فبعد معاملة عمر للمرأة وقوله فيها يبقى له شأن في عالمها يظهر لنا من رأيها هي فيه.
وقد أكبرت سيدة نساء العصر عمر فوصفته بأنه كان نسيج وحده، وهي عائشة - رضي الله عنها - وجمعت الشفاء بنت عبد الله بعض صفاته فقالت: إنه «كان إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو الناسك حقا»، وصاحت أم أيمن مرضعة النبي يوم أصيب: «اليوم وهى الإسلام.»
وعلينا نحن أن نسأل المرأة في عصر عمر عن مثال الرجل في عصرنا، ولا نسأل فيه نساء زمان غير ذلك الزمان، وما نخالنا نعرف رأي المرأة يومئذ في الرجل الذي يكبر في عينها كما نعرفه من امرأة هي هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وأم معاوية، فليس أقدر منها على الجواب ولا أصرح فيه.
جاءها أبوها يشاورها في رجلين من قومها يخطبانها فاستخبرته عنهما فقال يصفهما: «أما أحدهما ففي ثروة واسعة من العيش، إن تابعته تابعك، وإن ملت عنه حط إليك، تحكمين عليه في أهله وماله، وأما الآخر فموسع عليه، منظور إليه في الحسب الحسيب والرأي الأريب، مدره أرومته
15
وعز عشيرته، شديد الغيرة لا ينام على ضعة، ولا يرفع عصاه عن أهله.»
فقالت: «يا أبت، الأول سيد مضياع للحرة، فما عست أن تلين بعد إبائها، وتضيع تحت جناحه إذا تابعها بعلها فأشرت
16
وخافها أهلها فأمنت؟ ساء عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فمن خطأ ما أنجبت،
17
فاطو ذكر هذا عني ولا تسمه علي بعد! وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة الحرة العقيلة،
18
وإني لأخلاق مثل هذا لموافقة، فزوجنيه.»
ونحن نحسب هذا رأي المرأة النجيبة في زمان عمر، ولو شئنا لحسبناه رأيها في كل زمان على أن تضمره بباطن القلب ولا تلقيه بطرف اللسان، فإن زادت خشونة العيش في بيت عمر على القدر الذي ترضاه المرأة فهي خشونة غير محقورة السبب؛ لأنها لا تحسب على عمر «الزوج» من ناحية حتى تحسب لعمر «الرجل» من ناحية أخرى؛ إذ هي لم تأت من قلة القدرة على العيش، وإنما جاءت من كثرة القدرة على النفس، وهي خليقة تعجب بها المرأة في الرجل الذي تكبره؛ لأنها من أقوى خلائق الرجولة فيه.
وليس لدينا بيان واف عن النساء اللاتي تزوج بهن عمر يعيننا على التمييز بين سماتهن والبحث في المياسم الشخصية التي يتعددن فيها أو يختلفن، ويجيز لنا أن نسهب في الكلام عن موقع كل منهن من نفسه، وأثرها في حياته، ومبلغ حظوتها عنده، وسبب هذه الحظوة في رأيه وشعوره، وما يدل عليه جميع ذلك من نوازع فطرته وذوقه؛ فقد سكت التاريخ، وسكت عمر عن كل بيان واف في هذا الباب، فلم يبق لدينا منه إلا أسماء وأعوام ونوادر مقتضبات لا تساعدنا على تكوين سمات واضحات، فضلا عن التفرقة بين تلك السمات.
غير أننا نعتقد أن التاريخ لم يفقدنا شيئا كثيرا في هذا الباب؛ لأننا مستطيعون أن نعوض ما فقدناه بالقياس إلى ما عرفناه، فلا نخطئ إذا رجحنا أن سمات هؤلاء النساء جميعا تدخل في نطاق الوصف الذي كان يستحبه عمر في المرأة، ولا يطيق منها أن تخالفه وتخرج عليه.
فأفضل ما كان يشرطه في المرأة أن تكون ولودا ودودا، وألا تعاب بالحمق فيسري حمقها في دماء وليدها؛ إذ «لم يقم جنين في بطن حمقاء تسعة أشهر إلا خرج مائقا»
19 - كما قال.
أما ذوق الجمال فقد كان عمر فيه - كما كان في جميع خلائقه - عربيا بحتا يستملح ما يستملحه كل عربي صميم، ويستحسن الحسن عنده وهو أعم من الملاحة، ويروى عنه أنه قال: «تزوجها سمراء ذلفاء
20
عيناء،
21
فإن فركتها
22
فعلي صداقها»، وأنه قال: «إذا تم بياض المرأة في حسن شعرها فقد تم حسنها.» وهذان هما الملاحة والحسن كما وصفا في الشعر العربي من قديم إلى حديث.
ومن القليل الذي بقي لدينا من أخبار نسائه نعلم أنه كان موفور الحظ من هذا الجمال في الزوجات، فقد وصف أكثرهن بالحسن البارع، وضرب المثل بملاحة إحداهن بين نساء قريش وهي قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، فروي في مأثور الحديث الشريف أن سعد بن عبادة قال يوما في حضرة النبي - عليه السلام: ما رأينا من نساء قريش ما كان يذكر من جمالهن! فقال له عليه السلام: «هل رأيت بنات أبي أمية بن المغيرة؟ هل رأيت قريبة؟» وهي إحدى زوجات عمر قبل إسلامه.
وروي أن جميلة بنت ثابت سميت بهذا الاسم لجمالها، وكان اسمها في الجاهلية عاصية، فكرهته بعد إسلامها، وسألت عمر ثم سألت النبي في تغييره فاتفقا على تسميتها بوصفها، ونوديت بعد ذلك باسم جميلة، وروي عن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل أنها أعطيت شطر الحسن مع ما رزقته من الفصاحة والتقوى. وروي مثل ذلك عن زوجات أخريات وإن لم يتفوقن هذا التفوق المشهور.
ومن أخبار زوجاته أنه طلق اثنتين من أشهر نسائه بالجمال وهما قريبة وجميلة، تزوج الأولى وطلقها قبل إسلامه، وتزوج بالثانية وطلقها بعد إسلامه، ولا ندري على التحقيق ما سبب تطليق هاتين الزوجتين الجميلتين، فهل هو دلال الجمال ضاق به صدر عمر وهو على شموس المرأة غير صبور؟ لعله ذاك، ولعل الذي أبقى عاتكة بنت زيد في عصمته أنها تجاوزت دلال الصغر حين بنى بها، أو غضت من دلالها بالفطنة والتقوى.
وكذلك بقيت في عصمته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وهي جميلة صغيرة، وولدت له ابنا سماه باسم أخيه زيد الذي كان يحبه ويذكره ويطيل البكاء عليه، وأعزها عنده النسب والأدب والمحافظة على آصرة النبوة، فلم يفترقا في الحياة ولم ينشب بينهما خلاف إلا حين جاءتها الهدية من ملكة الروم فضمها إلى بيت المال.
وله مع إحدى أولئك الزوجات قصة صغيرة لا يفوتنا إيرادها في الكلام على حياته الخاصة؛ لأنها كثيرة الدلالات عليه، تدل على عمر في أبوته، وتدل على عمر في سورة طبعه، وتدل على عمر في مثوبته إلى الحق كلما وجب أن يثوب إليه.
فقد طلق جميلة وله منها ولد صغير ، فرآه يوما يلعب مع الصبيان، فحمله بين يديه، فأدركته جدته الشموس بنت أبي عامر، وجعلت تنازعه إياه حتى انتهيا إلى أبي بكر رضي الله عنه - وهو خليفة - فقال له أبو بكر: خل بينه وبينها فهي حاضنته. فرده إليها ولم يراجعه بكلمة.
ولعمري إن في هذه القصة الصغيرة من الدلالة عليه لما يغني عن قصص، وفيها عمر إنسان عطوف، وفيها عمر رجل سوار الطبيعة، وفيها عمر صاحب خلق مكين، يكبح من طبيعته كل سورة جاوزت حد العدل والإنصاف، وهذا هو عمر في شتى نواحيه.
وقد تدل هذه القصة على شيء يبرئه من بعض اللوم في تطليقه أم هذا الولد، فاسمها عاصية واسم أمها الشموس، وكأنهما - كما ينبئ عنهما هذان الاسمان - من أسرة تباهي بدلال بناتها وشموسهن، وتختار لهن من الأسماء ما يدل على هذه الخصلة، وقد يضيف إلى توكيد هذه الخصلة فيهن أن عاصية غضبت حين اختار لها عمر اسم جميلة، وقالت له: سميتني باسم الإماء! ثم اختار لها النبي هذا الاسم فقالت: يا رسول الله، أتيت عمر فسماني جميلة فغضبت. قال عليه السلام: أوما علمت أن الله - عز وجل - عند لسان عمر وقلبه؟
فكأنها نشأت في قوم يعتقدون أن التحسين والترغيب إنما هو من شأن الإماء، وأن الشموس والعصيان أليق بالحرائر وإن أحببن أزواجهن وأحبوهن، فإن كان في تطليقها مأخذ على عمر، فقد يكون فيه مآخذ عليها تفسر لنا افتراقهما بعدما أحبها وأحبته.
ورزق عمر الذرية من ذكور وإناث نجباء ونجيبات، فقرت عينه بهم؛ لأنه كان كأهل البداوة كافة، يستكثر من الذرية، ويوصي الناس أن يستكثروا منها، وكانوا جميعا عنده بمكان الحب والمودة، لا يخشى الانحراف عن العدل من جانب كما يخشاه من جانب هذه الذرية، أو جانب أهله على التعميم، ولهذا كان يجمعهم إذا نهى الناس عن حوزة حق من الحقوق، فيبلغهم أنه قد نهى عنه، ويذكرهم: «إن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم.» ويقسم لهم لئن فعله أحد منهم ليضاعفن عليه العقوبة!
وليس بنا أن نحصي فتاواه وأقضيته في محاسبة أهله أو محاسبة أبنائه خاصة قبل سائر أهله، فذلك عمل له لم ينقطع عنه طوال حياته، ولكنا نكتفي بمثل من أمثال عديدة متواترة، وهو قضاؤه في اتجار أبنائه بمال من بيت مال المسلمين، وذاك أن ابنيه عبد الله وعبيد الله خرجا في جيش إلى العراق، فلما قفلا نزلا بالبصرة وذهبا إلى أبي موسى الأشعري وهو أميرها، فقال لهما: لو أقدر على أمر أنفعكما به؟ ثم عرض عليهما أن يحملا إلى أبيهما مالا من مال الله، فيشتريا به متاعا من العراق يبيعانه بالمدينة، ثم يؤديان رأس المال ويكون لهما الربح. فلما علم عمر سألهما: أكل الجيش أسلفه؟ ثم أمرهما أن يؤديا المال وربحه، فسكت عبد الله وقال عبيد الله: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه! وقال رجل في المجلس: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا؟
23
فأخذ رأس المال ونصف ربحه، وأخذ ابناه نصف ربح المال.
وإنما كان عمر يتقي محاباة الولاة لأبنائه وذويه وإقرار هذه المحاباة بإذنه، ولكنه كان يقترض من بيت المال ليتجر ويربح ما يعيش به في أهله، ويلجأ إلى التجارة لقلة رزقه الذي فرضه لنفسه من بيت مال المسلمين، وقد فرض رزقه لنفسه بعد مشاورة أصحاب رسول الله، فقال عثمان: كل واطعم. وقال علي: ما يصلحك ويصلح عيالك بالمعروف، وإن أيسرت قضيت. وكان يقترض فيعسر فيتأخر قضاؤه، فيأتيه صاحب بيت المال ويشتد في تقاضيه، فيحتال له عمر ويؤجله إلى أن يستحق عطاءه مع عطاء المسلمين، فيسد به دينه.
مع هذا كان يشفق أن يقترض من بيت المال إلا أن يتعذر عليه الاقتراض من بعض صحبه، فأرسل مرة إلى عبد الرحمن بن عوف في طلب أربعة آلاف درهم يجهز بها عيرا
24
إلى الشام، فعاد الرسول يقول له: خذها من بيت المال ثم ردها! وشق ذلك عليه، فلقي صاحبه وعلم منه صدق ما بلغه فقال: أفئن مت قبل أن تجيء قلتم أخذها أمير المؤمنين دعوها له، وأوخذ يوم القيامة ؟ «لا، ولكني أردت أن آخذها من رجل حريص شحيح مثلك، فإن مت أخذها من ميراثي.»
وحدث ما توقعه من مجيء الأجل قبل سداد ديونه جميعا، فلم يشغله الموت ولا شغلته كبار الخطوب التي يضطلع بتصريفها قبل موته أن يسأل عن ديونه، ويوصي بسدادها من ماله ومال أهله، وقال لابنه: «إن وفى به - أي بالدين - مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فاسأل فيه بني عدي، فإن لم تف أموالهم فاسأل فيه قريشا، ولا تعدهم
25
إلى غيرهم.» وكان عبد الرحمن بن عوف حاضرا، فأشار عليه مقترحا أن يستقرضها من بيت المال حتى تؤدى، فلم يقبل عمر، ودعا بابنه عبد الله فقال: اضمنها! فضمنها، ووفى بوعده فلم يدفن أبوه حتى أشهد بها على نفسه أهل الشورى وعدة من الأنصار، وما انقضى أسبوع حتى حمل المال إلى عثمان، وأحضر الشهود على البراءة بدفعه، وقد بيعت لعمر دار في هذا الدين، وسميت زمنا باسم دار القضاء؛ لأنها بيعت في قضاء دينه.
ولأن يموت عمر مدينا وفي الدين لهو أعظم الشرفين، وأيسر من ذلك شرفا أن يموت غنيا بغير دين.
الفصل الثاني عشر
صورة مجملة
صحبنا عمر بن الخطاب في حالات كثيرة تختلف فيها صور الرجال.
صحبناه في جاهليته وإسلامه، وفي سره وعلانيته، وفي بيته وحكومته، وفي دينه وثقافته، وفي اتصاله بالله واتصاله بالناس، فإذا الصورة المجملة من جميع هذه الصور المختلفة صورة رجل عظيم من معدن العبقرية والامتياز بين الناس على اختلاف العصور، وإذا هو صاحب مناقب وأخلاق من أنبل الصفات الإنسانية، توافقت فيه على قوة نادرة، وتلاقت فيه إلى غاية واحدة، وهي إحقاق الحق وإدحاض الباطل، ووسمته جميعا بسمة الجندية المجاهدة التي تحمي الحدود للناس، وتحميها من الناس، وهو هو في طليعة من يحمي، وفي طليعة من يحتمي على السواء.
ورسخت في طويته خليقة المساواة في العدل، حتى أصبحت كالوظيفة العضوية التي لا تنفصل منه، وحتى أصبح يتجرد من نفسه، أو يجرد منها شخصا آخر غريبا عنه، لا فرق بينه وبين أحد في حدود الله وحرماته، وتمكنت هذه الخليقة منه حتى جرت على لسانه عامدا وغير عامد، فكان يتكلم عن نفسه كما يتكلم عن غريب: بخ بخ يا عمر! ويحك يا بن الخطاب! ماذا يقول عمر؟ وهذا فلان بن عمر وليس بفلان ولدي ... إلى أشباه هذه التجريدات التي تنبعث فيه من خليقة التسوية بين جميع الناس، وبينهم وبين نفسه قبل جميع الناس.
وكانت فيه خشونة الأقوياء الصرحاء، ولكنه - كما قال عارفوه من الصحابة - «باطنه خير من ظاهره»، أو كما قال فيه الصديق من كلام، فحواه أن مبغضيه هم المبغضون للخير.
وكان له محبون من كرام الناس، لا يعدلون بحبه حب أحد من أمثاله، فكان عبد الله بن مسعود يقول: «لو أعلم عمر كان يحب كلبا لأحببته، والله إني لأحسب العضاه
1
قد وجدت لفقد عمر.»
والغالب في أمثال عمر من أصحاب الطبائع القوية المهيبة أن تحجب عنهم الهيبة ألفة الغرباء الذين لا يختلطون بهم في السر والعلانية، بل تحجب عنهم ألفة الأقربين في كثير من الأحيان؛ لأنهم من تفردهم بالصراحة والحق في عزلة دائمة بين ألصق الناس بهم وأقربهم إليهم:
أعاذك أنس المجد من كل وحشة
فإنك في هذا الأنام غريب
ولكنهم لا يكرهون إلا عن خطأ أو حسد لئيم. وكان عمر على التخصيص ممن لا يثيرون شعور الكراهية في قلب إنسان؛ لأنه كان على عظم «شخصيته» مبرأ من العنصر الشخصي في معاملة الأصدقاء والخصوم، وإنما ينجم العداء الشديد من الإحساس بهذا «العنصر الشخصي» ومقابلته بمثله مقابلة اصطدام وانتقام.
فالذين كانوا يذوقون إنصاف عمر كانوا يستمرئونه ويحبونه، والذين كانوا يذوقون عقابه كانوا لا يشعرون بعمر بن الخطاب معاقبا لهم صوالا عليهم، وإنما يشعرون بميزان الشريعة منصوبا على رءوسهم، ويتساوون فيه وعمر وأبناء عمر لو وجب العقاب، فلا موضع هنا للضغينة، ولا لاصطدام النفس بالنفس واحتدام الحزازة بالحزازة.
ولهذه الخصلة ذكره بالحب والإعجاب من ابتلوا بعدله أشد ابتلاء، وانطبعت نفوسهم على الدهاء أو الهجاء.
فعمرو بن العاص ومعاوية كانا يثنيان عليه وشد ما ابتليا في حياته بضربات عدله وهيبته، والحطيئة أهجى الشعراء وأبخلهم بالثناء كان رفاقه يذكرونه اسم عمر بعد موته فيرتعب ثم يهدأ فيقول: يرحم الله ذلك المرء! ويثني عليه.
وقد قال عمرو بن العاص إذ رأى عمر يبكي لاستعطاف الحطيئة إياه في سجنه: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة!
وقد شاء القدر أن يموت عمر قتيلا، فلا يكون قتله دليلا على بغضاء «شخصية»، أو خلة ترتبط بحياته الفردية، فإنما البغضاء «الوطنية» هي علة التآمر على قتله بين المغلوبين في ميدان القتال على التحقيق، وهكذا كل بغضاء بقيت بعد موته مقرونة بذكراه فإنما هي في أصلها «بغضاء وطنية» كامنة وراء الدعاوى الطائفية والمجادلات المذهبية، وإن تطاولت الأيام.
فالمعلوم أن عمر مات بطعنات من خنجر فيروز «أبي لؤلؤة» من سبايا الفرس بالمدينة، وأن فيروز هذا جاء عمر قبل مقتله بأيام فشكا إليه مولاه المغيرة بن شعبة لأنه فرض عليه خراجا درهمين في كل يوم، فسأله عمر عن صناعته، فأنبأه أنه «نجار نقاش حداد»، فلم يستكثر عمر هذا الخراج على من يصنع هذه الأعمال، وقال له: قد بلغني أنك تقول: «لو أردت أن أعمل رحى تطحن بالريح فعلت»، وطلب إليه أن يصنع رحى على هذه الصفة، فقال له: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب. ثم انصرف وهو يقول: «وسع الناس عدله غيري!» فقال عمر لسامعيه: لقد توعدني العبد آنفا! ولم يؤاخذه بهذا الوعيد، بل كان من نيته أن يلقى المغيرة ليخفف عن مولاه.
هذا هو السبب الظاهر الذي لا يستر ما وراءه؛ لأن أبا لؤلؤة لم يكن إلا منفذا للكيد الذي اتفق عليه كثيرون، وقد روى عبد الرحمن بن أبي بكر أنه رأى هذا الرجل مع الهرمزان وجفينة قبل مقتل عمر جالسين يتحدثون، فلما فاجأهم قاموا وقوفا، فسقط بينهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه، وهو الخنجر الذي حمله فيروز لقتل عمر وقتل نفسه إن أخذ بفعلته.
والهرمزان أمير زالت عنه الإمارة بعد ذهاب الدولة المجوسية، وجفينة من أهل الأنبار وهم على ولاء للفرس، وأبو لؤلؤة فارسي شديد الحقد على المسلمين، لم ينس أسره، ولم يزل كلما جيء إلى المدينة بأسرى من وقعات فارس مسح رءوسهم وتوعد المسلمين أجمعين.
وقد كان شاركهم في هذه المؤامرة يهودي مغلوب تظاهر بالإسلام، وهو المسمى بكعب الأحبار، ولعله أراد أن يكسب سمعة العلم بالأسرار من علمه بالمؤامرة، فذهب إلى عمر قبل ثلاثة أيام من مقتله ينذره أن يختار ولي عهده لأنه ميت في ثلاثة أيام، فسأله عمر: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله التوراة. فلم تجز هذه الدعوى على عمر وعاد يسأله: «الله! إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟!» فأشفق الرجل أن ينكشف دجله وقال: بل أجد صفتك وحليتك وأنه قد فنى أجلك. ثم كرر له النذير مرتين في اليومين التاليين.
فعمر إنما ذهب - رحمه الله - شهيد مؤامرة من أعداء الدولة الإسلامية لا شك فيها، وما كانت قصة الخراج إلا الستار الذي يتوارى به المتآمرون بالمدينة والبلاد الأخرى مخافة القصاص الذي يحيق بهم إذا جهروا بما دبروه، أو جهروا بالعلة التي من أجلها تربصوا بذلك التدبير.
إن مقتل عمر أحرى أن يعد جزءا من أكبر أجزاء سيرته، ولا يحسب نهاية تختم تلك السيرة دون أن تضيف إليها.
فقد تمثلت في مقتله مزاياه الكبار التي تمثلت في جلائل أعماله وعظائم مساعيه وخصاله، فكان عمر الصريع قدوة في الشجاعة وتقديم الواجب والإيثار على النفس ومحاسبة الضمير وسداد التدبير، كما كان عمر في أصح ساعاته وأسلمها للعمل والتفكير.
وكان - رضي الله عنه - ينظر إلى الحياة كأنها رسالة تؤدى ما استطيع أداؤها، ثم لا معنى لها إذا فرغ من رسالتها، أو حيل بينه وبين أدائها، فبعد الحجة التي مات على أثرها أناخ بالأبطح، ثم كوم كومة من البطحاء ألقى عليها طرف ردائه واستلقى عليها ورفع يديه إلى السماء، ودعا الله: «اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك.»
ومضت أسابيع فخرج يوما قبيل الفجر يوقظ الناس ثم يسوي الصفوف للصلاة، فلم يؤم الناس حتى فاجأه القاتل بطعنتين إحداهما في كتفه والأخرى في خاصرته، وقيل ثلاث طعنات إحداهن تحت السرة وقد خرقت الصفاقين
2
قضى بها نحبه رحمه الله، وقيل بل ست طعنات منها تلك الطعنة القاتلة.
فلم تشغله هذه الطعنات المفاجئات عن الصلاة، ولم يفكر أن يشغل المسلمين بمقلته عن أداء فريضتهم في موعدها، وسأل عن عبد الرحمن بن عوف ليصلي بالناس.
ثم جعل يغمى عليه ولا ينتبه إذا دعوه، حتى قال بعض عارفيه: إنكم لن تفزعوه بشيء مثل الصلاة إن كانت به حياة. فنودي: الصلاة، الصلاة! فلما سمع النداء فتح عينيه وفاه بكلمات متقطعات: «الصلاة! ها ... الله ... إذن»، ثم قال: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
ولم يهمه من قتله بعد أن حمل إلى منزله إلا أن يعرف ألمظلمة كان قتله أم لبغي من القاتل؟ فلما علم أنه أبو لؤلؤة قال: ولم قاتله الله وقد أمرت به معروفا؟! ثم حمد الله قائلا: «الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط، ما كانت العرب لتقتلني.»
وهمه بعد ذلك أن يلقى حسابه عند الناس وهو وشيك أن يلقى حسابه عند الله.
فأمر ابن عباس أن يخرج إلى المهاجرين والأنصار يسألهم: أعن ملأ منكم ومشورة كان هذا الذي أصابني؟ فصاحوا معلنين: «لا والله، ولوددنا أن الله زاد في عمره من أعمارنا.»
واشتد البكاء كأن الناس لم يصابوا بمصيبة قبلها، فنهاهم أن يبكوا عليه، ثم سقوه نقيع التمر فخرج من الجرح أحمر كما هو فلم يعرفوا أدم هو أم النقيع خرج بلونه، فسقوه اللبن أبيض يشوبه صديد، فأشار عليه الطبيب أن يعهد فقال: «لو قلت غير هذا لكذبتك.»
وكان قد أنكر على الناس أن يجيئوه بالطبيب قبل أن يفرغ من وصاياه: ويحكم أيها الناس! أأنظر في أمر نفسي قبل أن أنظر في أمور المسلمين؟! فلما قال الطبيب مقالته أخذ في تدبير المهم من شئون الدولة وأولها الخلافة، فجعلها شورى ليستقر بها القرار ما استطيع إقراره، ونجا بأهله منها وهو يقول: «... أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافا
3
لا وزر ولا أجر إني لسعيد.»
وهو في هذا كله لا يخالف ديدنه من صراحة ولا يكتم طبيعة أهل الفناء من حب الحياة، ولا يخفي «إن للحياة لنصيبا من القلب، وإن للموت لكربة!» ولكنها لم تمنعه قط أن يعطي الحق حيث وجب للموت أو للحياة.
فلما فرغ من شئون الدولة نظر في أمر دينه فأبى أن يدفن قبل أن يضمن سداده، وأقبل يطمئن إلى مضجعه في جوار صاحبيه وقد فرغ من حقوق الدنيا، فدعا بابنه عبد الله ينطلق إلى عائشة أم المؤمنين ويقرئها منه السلام، ونهاه أن يسميه عندها أمير المؤمنين؛ لأنه ليس اليوم للمؤمنين أميرا، ثم يستأذنها أن يدفن إلى جوار صاحبيه - يعني النبي عليه السلام وخليفته الصديق.
ووجدها عبد الله تبكي، فسلم عليها، واستأذنها فأذنت وقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي!
فلم يكفه هذا حتى يستوثق كل الاستيثاق من رضاها، فعاد يخاطب ابنه: «يا عبد الله بن عمر، انظر، فإذا أنا قبضت فاحملوني على سريري ثم قف على الباب، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلني، وإن ردتني فردني إلى مقابر المسلمين، فإني أخشى أن يكون إذنها لي لمكان السلطان.»
وقال شهود دفنه: «فلما حمل فكأن المسلمين لم تصبهم مصيبة إلا يومئذ.» وفارق الدنيا أعدل العادلين وهو مظلوم أو متهم بظلم، فما دلها شيء على عظم فضله ولا عظم الحاجة إلى العدل فيها كما دلها هذا الختام.
Page inconnue