Genie de la réforme et de l'éducation : Imam Muhammad Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Genres
ويتفق أن يكون أكبر دعاة هذه النهضة تلميذا للشيخ العطار اختاره للسفر إلى الغرب، ونصح له قبل سفره «أن ينبه على ما يقع في هذه السفرة، وعلى ما يراه وما يصادفه من الأمور الغريبة والأشياء العجيبة، وأن يقيده ليكون نافعا في كشف القناع عن محيا تلك البقاع».
ذلك التلميذ الناجح هو نابغة جيله (رفاعة بدوي رافع الطهطاوي) رحمه الله، وهو القائل في فضل العلوم الحديثة، بعد أن نبه بغاية ما يستطاع من الصراحة في ذلك الزمن إلى إهمال محمد علي الكبير لتعميم تلك العلوم في الجامع الأزهر: «... ولو أنه أعلى منار الوطن ورقاه لم يستطع إلى الآن أن يعمم أنوار هذه المعارف المتنوعة بالجامع الأزهر الأنور، ولم يجذب طلابه إلى تكميل عقولهم بالعلوم الحكمية التي كبير نفعها في الوطن ليس ينكر. نعم، إن لهم اليد البيضاء في إتقان الأحكام الشرعية العلمية والاعتقادية، وما يجب من العلوم الآلية كعلوم العربية الاثني عشر، وكالمنطق والوضع وآداب البحث والمقولات وعلم الأصول المعتبر، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، غير أن هذا وحده لا يفي للوطن بقضاء الوطر، والكامل يقبل الكمال كما هو متعارف عند أهل النظر، ومدار سلوك جادة الرشاد والإصابة، منوط بعد ولي الأمر بهذه العصابة، التي ينبغي أن تضيف إلى ما يجب عليها من نشر السنة الشريفة، ورفع أعلام الشريعة المنيفة، معرفة سائر المعارف البشرية المدنية، التي لها مدخل في تقدم الوطنية، من كل ما يحمد على تعلمه وتعليمه علماء الأمة المحمدية، فإنه بانضمامه إلى علوم الشريعة والأحكام يكون من الأعمال الباقية على الدوام، ويقتدى بهم في اتباعه الخاص والعام، حتى إذا دخلوا في أمور الدولة يحسن كل منهم في إبداء المحاسن المدنية قوله، فإن سلوك طريق العلم النافع من حيث هو مستقيم، ومنهجه الأبهج هو القويم، يكون بالنسبة للعلماء سلوكه أقوم وتلقيه من أفواههم أتم وأنظم، لا سيما وأن هذه العلوم الحكمية التي يظهر الآن أنها أجنبية، هي علوم إسلامية نقلها الأجانب إلى لغاتهم من الكتب العربية، ولم تزل كتبها إلى الآن في خزائن ملوك الإسلام كالذخيرة، بل لا زال يتشبث بقراءتها ودراستها من أهل أوروبا حكماء الأزمنة الأخيرة، فإن من اطلع على سند شيخ الجامع الزهر الشيخ أحمد الدمنهوري الذي كانت مشيخته قبل شيخ الإسلام أحمد العروسي الكبير، جد شيخ شيوخ الجامع الأزهر الآن السيد المصطفوي العالم الشهير؛ رأى أنه قد أحاط من دوائر هذه العلوم بكثير، وأنه له فيها المؤلفات الجمة، وأن تلقيها إلى أيامه كان عند أهل الجامع الأزهر من الأمور المحلية، فإنه يقول فيه بعد سرد ما تلقاه من العلوم الشرعية وآلاتها معقولا ومنقولا:
أخذت عن أستاذنا الشيخ المعمر علي الزعتري خاتمة العارفين بعلم الحساب واستخراج المجهولات، وبما توقف عليها كالفرائض والميقات، ووسيلة ابن الهائم ومعونته كلاهما في الحساب، والمقنع لابن الهائم، ومنظومة الياسميني في الجبر والمقابلة، ودقائق الحقائق في حساب الدرج والدقائق لسبط المارديني في علم حساب الأزياج، ورسالتين إحداهما على ربع المقنطرات والأخرى على ربع المجيب، كلاهما للشيخ عبد الله المارديني جد السبط، ونتيجة الشيخ اللدائقي المحسوبة لعرض مصر، والمنحرفات للسبط المارديني في علم وضع المزاول، وبعض اللمعة في التقويم. وأخذت عن سيدي أحمد القرافي الحكيم بدار الشفاء بالقراءة عليه كتاب الموجز واللمحة العفيفية في أسباب الأمراض وعلاماتها بشرح الأمشاطي، وبعضا من قانون ابن سينا، وبعضا من كامل الصناعة، وبعضا من منظومة ابن سينا الكبرى، والجميع في الطب. وقرأت على أستاذنا الشيخ عبد الفتاح الدمياطي كتاب لقط الجواهر في معرفة الحدود والدوائر للسبط المارديني في الهيئة السماوية، ورسالة ابن الشاط في علم الأسطرلاب، ورسالة قسطا بن لوقا في العمل بالكرة وكيفية أخذ الوقت منها، والدرر لابن المجدي في علم الزيج. وقرأت على أستاذنا الشيخ سلامة الفيومي أشكال التأسيس في الهندسة، وبعضا من الجغميني في علم الهيئة، وبعضا من رفع الإشكال عن مساحة الأشكال في علم المساحة. وقرأت على شيخنا الشيخ عبد الجواد المرحومي جملة كتب، منها رسالة في علم الأرثماطيقي للشيخ سلطان المزاحي. وقرأت على الشيخ محمد الشهير بالسحميمي منظومة الحكيم درمقاش المشتملة على التكسير وعلم الأوفاق وعلم الاستنطاقات وعلم التكعيب، ورسالة أخرى في رسم ربع المقنطرات والمنحرفات لسبط المارديني، وعلم المزاول ومنظومة في علم الأعمال الرصدية، وروضة العلوم وبهجة المنطوق والمفهوم لمحمد بن ساعد الأنصاري، وهو كتاب يشتمل على سبعة وسبعين علما، أولها علم الحرف وآخرها علم الطلاسم، ورسالة للإسرائيلي، ورسالة للسيد الطحان، كلاهما في علم الطالع، ورسالة للخازن في علم المواليد، أغنى الممالك الطبيعية وهي الحيوانات والنباتات والمعادن. وأخذت عن شيخنا الشيخ حسام الدين الهندي شرح الهداية في الحكمة، ومتن الجغميني في علم الهيئة بمراجعة قاضي زاده ومطالعة السيد عليه. وأخذت عن سيدي أحمد الشرفي شيخ المغاربة بالجامع الأزهر كتاب اللمعة في تقويم الكواكب السبعة ...»
ولما ذكر ما تلقاه من هذه العلوم أعقبه بما طالعه بنفسه بدون الأخذ عن شيخ، فقال: «طالعت كتاب إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد في علم الأرثماطيقي في كراسين، وكتاب عين الحياة في علم استنباط المياه، في نحو كراسين، والرسالة في الكلام اليسير في علاج البواسير في نحو كراسين، ورسالة التصريح بخلاصة القول الصريح في علم التشريح في نحو كراسين، ومنها كتاب إتحاف البرية بمعرفة الأمور الضرورية في علم الطب في نحو خمسة كراريس، ومنها رسالة القول الأقرب في علاج لسع العقرب في نحو كراس، ومنها منهج السلوك في نصيحة الملوك في نحو عشرة كراريس، ومنها كتاب بلوغ الأرب في أسماء سلاطين العجم والعرب، معنونا باسم السلطان مصطفى خان ابن السلطان أحمد خان، المولود في رابع عشر شهر صفر سنة تسع وعشرين ومائة وألف، يوم الأربعاء أول النهار في الساعة الأولى بعد الشمس، الجالس على سرير الملك في سابع عشر شهر صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف، يوم الأحد قبل الشمس.» انتهى كلامه ملخصا بتصرف.
وانظر إلى هذا الإمام الذي كان شيخ مشايخ الجامع الأزهر، وكان له في العلوم الطبية والرياضية وعلم الهيئة الحظ الأوفر، مما تلقاه عن أشياخه الأعلام فضلا عن كون أشياخه كانوا أزهرية، ولم يفتهم الوقوف على حقائق هذه العلوم النافعة في الوطنية، وفضل العلامة الجبرتي المتوفى في أثناء هذا القرن في هذه العلوم وفي فن التاريخ أمر معلوم، وكذلك العلامة الشيخ عثمان الورداني الفلكي، وكان للمرحوم الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر أيضا مشاركة في كثير من هذه العلوم، حتى في العلوم الجغرافية، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على كتاب تقويم البلدان لإسماعيل أبي الفداء سلطان حماة المشهور أيضا بالملك المؤيد، وللشيخ المذكور هوامش أيضا وجدتها بأكثر التواريخ وعلى طبقات الأطباء وغيرها، وكان يطلع دائما على الكتب المعربة من تواريخ وغيرها، وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية، مع غاية الديانة والصيانة، وله بعض تآليف في الطب وغيرها زيادة عن تآليفه المشهورة ... فلو تشبث من الآن فصاعدا نجباء أهل العلم الأزهريين بالعلوم العصرية التي جددها الخديو الأكرم بمصر بإنفاقه عليها أوفر أموال مملكته، لفازوا بدرجة الكمال وانتظموا في سلك الأقدمين من فحول الرجال، وربما يتعللون بالاحتياج إلى مساعدة الحكومة، والحال أن الحكومة إنما تساعد من يلوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد، فعمل كل من الطرفين متوقف على عمل الآخر، وترجع المسألة دورية، والجواب عنها أن الحكومة قد ساعدت بتسهيل الوسائط والوسائل ليغتنم فرصة ذلك كل طالب وسائل، وكل من سار على الدرب وصل، وإنما تكون المكافأة على تمام العمل ... فهذا ما يتعلق بطبقة العلماء، وقد ذكرنا ما يتعلق به في الفصل الأول من الباب الأول من هذا الكتاب مبسوطا بما فيه الكفاية. •••
وهذا الفصل من كتاب «مناهج الألباب» يعتبر وثيقة «رسمية» من أهم الوثائق في تاريخ التعليم بالجامع الأزهر؛ لأنه يشتمل على ثبت صحيح بأسماء المؤلفات الكثيرة التي كانت تؤلف في علوم الطب والرياضة والطبيعة وغيرها من العلوم التي تسمى بالعلوم الكونية تمييزا لها من العلوم الإلهية أو الشرعية، ويشتمل كذلك على أسماء مؤلفيها والعلماء الذين يدرسونها وطريقتهم في تحصيلها، إما بالقراءة على أصحابها أو بالمطالعة في مراجعها. ومن هذا الثبت الصحيح يتبين لنا أنها كانت تحيط بصفوة المعارف البشرية كما عرفها الناس إلى نهاية العصور الوسطى في بداية القرن السابع عشر، وأنها كانت دراسات «موسوعية» جامعية من طراز مناهجها في أنحاء العالم كله على عهدها.
ويدل هذا الفصل على موقف الحكومة يومئذ من مسألة التعليم بالجامع الأزهر، فإنها كانت على موقف الحذر من تقرير علوم تدرس فيه بغير طلب من أهله، هيبة لعلمائه وخوفا من تهمة المساس بالدين والاجتراء على سنن السلف ومجاراة البدع المستحدثة؛ بدع الفرنجة أو بدع الفلاسفة كما قال الشيخ العطار بألسنتهم حين تتلى عليهم مسألة من مسائل المعرفة لم ترد في كتاب من كتب المتأخرين، وكأنما كان النابغة الأزهري - رفاعة - يلوح لشيوخ العلماء بالخطة التي يسلكونها إذا ترقبوا من الحكومة أن تغير مسلكها، «فإن الحكومة إنما تساعد من يلوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد، فعمل كل من الطرفين متوقف على عمل الآخر، وترجع المسألة دورية ...» إن لم يبدأ علماء الأزهر من قبلهم بمسلك جديد.
وقد دل رفاعة بما كتبه عن مسألة التعليم الأزهري على صراحة الرائد المجدد وحصافته في وقت واحد، فكان صريحا في تنبيهه إلى إهمال محمد علي الكبير لتلك المسألة، وكان صريحا في تنبيهه العلماء إلى موضع تقصيرهم أو موضع مشاركتهم في تبعة ذلك الإهمال، وكان حصيفا في عنايته بسرد أسماء العلوم والمؤلفات التي سبق إليها العلماء الأسبقون، فإنه - ولا شك - قد فطن للوجهة التي اتجه إليها تيار الفكر الحديث في البلاد، وكشف عن الموطن الحساس الذي لمسته هذه المسألة من جانب العاطفة القومية، فمنذ الحملة الفرنسية وقعت الصدمة في ذلك الجانب من العاطفة القومية موقعين متناقضين متلازمين: موقع اليقين بغلبة القوم، وفيه من دواعي الوجوم والانكسار ما فيه، وموقع العزاء بسبق الشرق إلى تلك العلوم، والإيمان بأنها عند القوم عارية مستعارة نستردها لنقول لأنفسنا وللعالم إنها بضاعتنا ردت إلينا، وفي ذلك من تجديد الثقة ما فيه.
ورفاعة في دعوته نجباء الأزهر إلى العلم العصري باسم السلف، إنما تسلم هذه العاطفة من حيث تركها رواد الفكر الحديث، ولعله تعمد أن يسوق الكلام فيها بذلك الأسلوب التقليدي المسجوع، ليدخل في روع قرائه أن الكاتب العصري لا يعجز عن مثل ذلك الأسلوب، أو لا ينقصه ولا يخلعه عن قلمه؛ لأن المعرفة العصرية لا تنقطع بكاتبها عن ماضيه.
ولم يتمكن رفاعة من تقرير النظام الذي كان يؤثره لتعليم طلاب الأزهر؛ لأنه أبعد إلى السودان في أخريات أيامه لتنظيم التعليم فيه، وتوفي سنة 1871 والأزهريون لا يحفزون لتلك الخطوة التي كان ينتظر منهم أن يخطوها تشجيعا للحكومة على استخدام سلطانها في تقرير نظامه اعتمادا على دعوة أهله، ولكن شيخ الجامع لعهده - الشيخ مصطفى العروسي - خطا في داخل الأزهر خطوة حسنة بالرقابة على علمائه وطلابه، وانتقاء الصالحين منهم للتعليم والتعلم ومتابعة الدرس في العلوم التي يتطلبها العمل الجديد في دواوين القضاء ومدارس الحكومة العصرية، وأهمها علوم الحديث والتفسير والأصول والتوحيد والفقه، والنحو والصرف، والمعاني والبديع والمنطق، ثم جاء خليفته الشيخ محمد المهدي العباسي فأسس نظام الامتحان لشهادة العالمية على نظامها الحديث، بعد استئذان الحكومة لاعتبار هذه الشهادة في ولاية الوظائف العامة غير التدريس بالجامعة الأزهرية، وجعل هذه الشهادة على درجات: أولى وثانية وثالثة، على حسب إجابة الطالب وطبقة الكتب التي يجرى الامتحان في مادتها. •••
Page inconnue