Genie de la réforme et de l'éducation : Imam Muhammad Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Genres
فلا تجعل سعيك لغير تحصيل الكمالات العرفانية مصروفا، ولا تتخذ غير نفائس الكتب أليفا ومألوفا.
ولا تك من قوم يديمون سعيهم
لتحصيل أنواع المآكل والشرب
فهذي إذا عدت طباع بهائم
وشتان ما بين البهيم وذي اللب
وهذه نفثة مصدور، ولله عاقبة الأمور، لعمري لقد تساوى الفطن والأبله الأفن، واستنسر البغاث وسد طريق النظر على الناظر البحاث، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.»
والشيخ حسن العطار - نافث هذه الشكوى - قد كان مثلا للعالم المثقف بثقافة عصره قبل نحو القرن ونصف القرن. ولد بالقاهرة سنة 1190، وتوفي بها سنة 1250 هجرية (1776-1835م)، وشهد حملة نابليون وعاشر علماءها واستفاد من زيارة معالمها، وعاش زمنا في دمشق وزمنا في أشقودرة بالبلاد الألبانية، واجتهد لنفسه في تحصيل المعارف الحديثة، فدرس الطبيعة والفلك والهندسة والمنطق، وطرفا من علم الميكانيكا الذي كان يسمى بعلم الحيل، وألف الرسائل في العمل بالأسطرلاب، والربعين المقنطر والمجيب، والبسائط، وأدمن الاطلاع على كتب الأدب، فنظم الشعر وأجاد كتابة الرسائل، وأسند إليه تحرير الوقائع المصرية عند إنشائها لاشتهاره بجودة الأسلوب والتمكن من صناعة القلم، مع حسن الاطلاع على المعارف الحديثة وحسن الفهم للعلاقة بين قواعدها النظرية ونتائجها العملية في المخترعات وعجائب الفنون، ثم تولى مشيخة الجامع الأزهر بعد أن قارب الخامسة والخمسين، فبقي فيها إلى سنة وفاته. •••
ولقد تولى هذا العالم الفاضل مشيخة الجامع الأزهر - وهو كما نرى - لا تعوزه الغيرة على العلم الحديث، ولا الرغبة في تعميمه واجتذاب العقول الناشئة إليه، ولكنه كان - رحمه الله - رجلا من رجال الفطنة والكياسة، ولم يكن على غرار ذوي البأس الصارم والعزيمة الغلابة من أولئك المصلحين النوادر، الذين يناط بهم افتتاح العهود وهدم العوائق الراسخة في سبيل الإصلاح، ولا سيما الإصلاح الذي يعارضه أعداؤه باسم الدين، ويعتصمون منه بالحصون المنيعة من العادات المتأصلة والمصالح المتأشبة، وصغائر الغرور والادعاء ووجاهة المظاهر والألقاب، ونحسبه - لو كان من أولئك المصلحين النوادر - لما تسنى له في مدى السنوات القلائل التي تولى فيها مشيخة الجامع أن يقوم بعمل ذي بال لتجديد نظام التعليم وإتمام العدة اللازمة لابتداء ذلك النظام؛ فإن العزيمة الغلابة لا تكفي وحدها للغلبة على معارضة الشيوخ وإعراض الطلاب، وتبديل مصالح هؤلاء وهؤلاء في النظام القديم بمصالح مثلها أو أكبر منها تعوض عنها العلماء المعارضين والطلاب المعرضين. وقد تكفي عزيمة الشيخ للابتداء في العمل، إن لم تكف للتقدم البعيد في طريقه، لو أنه وجد من ولاة الأمر معونة صادقة تفعل بالسلطان ما لا يفعله البرهان، ولكن ولاة الأمر في عهده كانوا يؤثرون سكوت العلماء عنهم على إثارتهم بالشكوى والاتهام من أجل عمل يغضبهم ولا يرضي أحدا غيرهم، وليس هو - بعد - من العمال التي تلجئهم الضرورة العاجلة إليها.
على أننا قد نبلغ في تهوين أثر القدوة الحية إذا خطر لنا أن نفثة المصدور ذهبت في الهواء، فإنها نفثة عالم كبير يسمعها منه العاقل والغافل، ويقرؤها في كتبه مئات الطلاب من مريديه ومريدي غيره من العلماء الموافقين والمعارضين، وتأتي في أوانها الذي مهدت له الحوادث وتهيأت له النفوس المتطلعة والآمال المتوثبة، فهي من طلائع الجو الذي يتفتح له الأفق وإن لم يمتلئ به لأول وهلة، وعلى هذه السنة من سنن التجديد تبتدئ طلائع الأجواء في جميع الآفاق.
ثم تعمل الضرورة الواقعة عملها غير مدفوعة بحيل المحتالين وتعلات الكسالى المتعنتين، فقد نفث الشيخ نفثته في مفتتح القرن التاسع عشر والمدارس الحديثة تتوالى عاما إثر عام، بين مدرسة للهندسة ومدرسة للطب، ومدرسة للألسن ومدرسة للعلوم الطبيعية، ويتوالى معها بناء المعامل لصناعات السلم والحرب، ويختار لها الطلاب والمحترفون من أبناء الأزهر الناشئين، كما تختار منهم البعوث إلى البلاد الأوروبية، فيقضون فيها الأعوام المعدودة ويعودون إلى مناصب الرئاسة أو مناصب الأستاذية، ويصعدون من تلك المناصب إلى أرفع مراتب الدولة، وتتهيأ لهم وسائل التنفيذ التي لم تكن مهيأة لشيخهم في منصبه، فلم يمض جيل واحد حتى كان في القاهرة من تلاميذ العلوم الحديثة حزب كبير يفهم ما ينبغي عمله للمضي بالنهضة العلمية في سبيلها، ويملك من الرأي والمشورة المسموعة ما يعينه على خصومها ...
Page inconnue