Nasser et la gauche égyptienne
عبد الناصر واليسار المصري
Genres
وفي اعتقادي أن الرؤية المكتبية هي التي تعلل استنكار نقادي ودهشتهم مما قلته عن تخريب التجربة الناصرية لنفس الإنسان المصري؛ ذلك لأن هذه حقيقة كان كل مصري يعايشها بنفسه، حين يتكلم في بيته لغة معينة ويتكلم في أي مكان عام لغة أخرى، بل إن اليساريين الذين انتقدوني لو كانوا صرحاء مع أنفسهم لاعترفوا بأنهم كانوا بدورهم يستخدمون هذه اللغة المزدوجة على أوسع نطاق.
ولكن، لم نذهب بعيدا؟ لقد كانت «سنوات الواحات» هي ذاتها دليلا حيا على ما أقول؛ ذلك لأن اليساريين الذين قضوا سنوات الاعتقال الرهيبة في هذا المنفى النائي، إذا تمسكوا بالدفاع عن التجربة الناصرية ضد تهمة تخريب نفس الإنسان المصري، فسيكون عليهم أن يعترفوا بأنهم اعتقلوا؛ لأنهم كانوا يستحقون ذلك، ولما كانوا بالطبع لا يرضون لأنفسهم بهذا الوصف - ولا أنا أرضاه لهم - فلا بد أن يكون ما حدث لهم من تعذيب وتنكيل وصل إلى حد القتل، نموذجا حيا لما أعنيه، وإذا كانوا هم قد تحملوا العذاب بشجاعة وخرج معظمهم من المحنة سالما، فكم من المواطنين الآخرين كان يستطيع أن يتحمل ذلك دون أن تخرب نفسه؟ وكم من الذين ظلوا خارج المعتقلات لم يلجم الخوف لسانهم، ويلوذوا بالسلبية أو النفاق خوفا من أن يلقوا نفس المصير؟
إن نقادي هم أنفسهم تجسيد للفكرة التي أقولها، ومع ذلك فقد استنكروها بشدة، وهذا أمر ليس له من تعليل سوى أن الرؤية المكتبية قد غلبت لديهم على الواقع الذي عاشوه وعاشه غيرهم يوما بيوم؛ ذلك لأن كل شيء كان على ما يرام، وأن الإنسان المصري تحرر و«رفع رأسه» ... إذن فليسقط الواقع، ولتسقط التجربة اليومية!
اليمين وآلام الناس
فإذا انتقلت الآن من مناقشة المسائل المنهجية إلى المضمون نفسه، فإني أود أن أقدم إيضاحا لبعض الأمور التي التبست على نقادي، وأرد في الوقت نفسه على أسئلتهم التي تصوروا أنها محرجة.
فقد استنكر البعض (فتحي خليل وفيليب جلاب) تلك العبارة التي قلت فيها إنه إذا استغل اليمين ما أكتب، فسيكون الخطأ في ذلك خطأ اليسار أيضا، ورأوها عبارة متجنية، أو غير مفهومة، على أن المعنى المقصود، ببساطة، هو أن اليسار إذا حاول اتهامي بأنني أخدم قضية اليمين وأردد شعاراته، وإذا تصور أن أي نقد للتجربة الناصرية لا يمكن أن يصدر إلا من منطلق يميني، فإنه بذلك يعطي اليمين فرصة ذهبية؛ لكي يستغل ما أقول لصالحه. وقد حدث بالفعل ما توقعت، ولمح فتحي خليل إلى أنني أخدم اليمين بطريق غير مباشر، وزادت جرعة الصراحة عند فيليب جلاب، واقتربت من الاتهام بالعمالة لليمين عند أبو سيف يوسف، أما محمد عودة فكان في هذا الاتهام أصرح الجميع.
والأمر الذي لن أمل من تأكيده هو أن هجمة اليمين الضارية في هذه الأيام ليست مبنية على فراغ، بل هي تستغل عيوبا ونقاط ضعف أساسية كانت موجودة بالفعل، ومصدر قوة الهجمة اليمينية هو أنها تضرب على نغمة أوجاع الناس وشكاواهم، ثم تنحرف بالناس - بعد أن تكتسب ثقتهم - في اتجاهها الخاص، ولتحقيق مصالحها الجشعة. أما عن نفسي فقد كنت أشير إلى هذه العيوب صراحة في الوقت الذي كان اليمين فيه لا يزال يحرق البخور للتجربة الناصرية؛ ولذلك فإني لا أشعر إزاء اتهامي بالعمالة لليمين إلا بالازدراء، ولا أقابل هذا الاتهام إلا بالترفع.
وكم كنت أود أن يسير اليسار في طريقه المستقل، ويكشف مدى تباعد هذه التجربة عن الاشتراكية بمعناها الصحيح، وعندئذ كان الطريق سيصبح مسدودا أمام اليمين ولو كان اليسار أبعد نظرا لما واجه هجمة اليمين بالإصرار على إنكار حقائق لم تعد تخفى على أحد، أو بالإقلال من أهمية ظواهر عانى منها الناس أفدح الآلام، بل لكانت طريقة مواجهة هذه الهجمة هي فضح الأغراض الخبيثة التي يسعى إليها اليمين، وبهذا الأسلوب وحده كان اليسار يستطيع أن يضمن احترام الجماهير، التي لم تعد تحتمل تسترا على الجرائم، وكان يستطيع أن يجرد اليمين من أقوى سلاح يستخدمه في مهاجمة اليسار، وفي تضليل الشعب.
ومن ناحية أخرى فإن بعض النقاد رأوا ما قلته عن دلالة استقبال الشعب لنيكسون هو كلام غير مقنع، وإلا فكيف نعلل خروج جموع أكبر بكثير يوم جنازة عبد الناصر، وفى 9، 10 يونيو؟ وردي على ذلك هو أن يوم الجنازة ويوم الهزيمة كانا مقترنين بانفعال شديد، صدمة مفاجئة، أما استقبال نيكسون فقد جاء في أعقاب معركة كانت فيها أسلحة نيكسون تقتل شبابا من كل قرية استقبلته بالترحاب، وليس أقوى من ذلك دليلا على مرارة التجربة السابقة، وتعلق الناس بأمل كاذب.
على أن استقبال نيكسون ليس هو المظهر الوحيد لخيبة أمل الناس في التجربة الاشتراكية. فهناك مظاهر أخرى مثل رد فعل رجل الشارع العادي - وليس فقط أصحاب المصالح - على خروج الخبراء السوفيت، وربما كان المظهر الأكثر دلالة، والذي تعبر عنه أرقام وإحصاءات، هو أن جريدة اليمين أصبحت أوسع الجرائد انتشارا، والتغيير الوحيد الذي طرأ على هذه الجريدة هو أنها أصبحت تعزف باستمرار، وبطريقة مملة، على نغمة الظلم والاضطهاد وسلب أموال الشعب، واختفاء سيادة القانون في أيام التجربة الناصرية.
Page inconnue