Nasser et la gauche égyptienne
عبد الناصر واليسار المصري
Genres
وقد استخدمت تعبير التجربة الناصرية لأن هدفي لم يكن الحديث عن عبد الناصر شخصيا، وإنما عن تجربة كاملة، أسهم فيها عبد الناصر نفسه، وأسهم فيها جهاز كامل أحاط نفسه به، وصحيح أن بعض أقطاب هذا الجهاز كانوا يتغيرون من آن لآخر - وهو ما أصبح يعرف باسم تغيير مراكز القوى، التي شهدنا منها حتى عام 1970م «أجيالا» ثلاثة على الأقل - ولكن المهم أن السمات المميزة للتجربة ككل كانت هي موضوع اهتمامنا، أيا كان الدور الذي أسهم به عبد الناصر شخصيا أو أسهم به المحيطون به.
وبهذا المعنى يكون هناك فارق واضح بين تعبيري «التجربة الناصرية» و«ثورة 23 يوليو» فالتجربة الناصرية كان لها نطاق محدد، بدأ منذ أحداث ربيع سنة 1954م، وانتهى في 9 يونيو 1967م؛ لأن السنوات الثلاث التي أعقبت ذلك لم تكن سوى رد فعل على هزيمة يونيو، ولم تكن حرية الحركة أو المبادرة مكفولة فيها للتجربة الناصرية، ومن هنا فإن التجربة الناصرية أضيق في نطاقها الزمني من ثورة 23 يوليو، ومن جهة أخرى فإن ثورة 23 يوليو ما زالت قابلة لمزيد من التطورات في الحاضر وفي المستقبل، وهي تطورات قد تختلف في قليل أو كثير عما كان موجودا في فترة التجربة الناصرية؛ ولذلك كله لا يكون هناك معنى لاتهامي بأنني تجنبت ذكر ثورة 23 يوليو بالاسم، أو بأنني كنت أهدف إلى «إهالة التراب على ثورة 23 يوليو».
ستالين مرة أخرى
وقد أثارت المناقشة مشكلات طريفة وهامة تتعلق بالمنهج الذي اتبعته في دراستي، وكان أهم الاعتراضات التي وجهت إلي في هذا الصدد اعتراضين رئيسيين: أولهما أن نظرتي إلى الموضوع كانت جزئية ولم تكن شاملة، والثاني أن رؤيتي كانت «مكتبية» أي نظرية تجريدية أكثر مما ينبغي.
أما عن النقد الأول، القائل إن نظرتي لم تكن كلية أو شاملة، فقد تمثل بوضوح فيما كتبه الأستاذ أديب ديمتري في بداية مقاله، وإن لم تخل منه بعض الردود الأخرى. ولست أدري من أين أتى اعتقاد الناقد بأنني أحاكم عبد الناصر شخصيا، وأبني أحكامي السياسية على أسس أخلاقية، ومن ثم فإنني أقيم لعبد الناصر «محكمة للآلهة» أحسب فيها حسناته الشخصية وسيئاته لكي أحدد إن كان يستحق الجنة أو النار، هذا الكلام لا أساس له على الإطلاق في دراستي التي حذرت فيها مرارا من الخلط بين الاعتبارات الأخلاقية والاعتبارات السياسية، ولم يكن إصراري على استخدام تعبير «التجربة الناصرية» إلا دليلا على رغبتي في تجاوز أسلوب الحكم على شخص فردي بعينه.
وربما كان الخلاف الحقيقي في هذا الصدد راجعا إلى اعتقاد الأستاذ أديب بأن الناصرية لا يصح، من وجهة نظر المنهج العلمي، أن تبحث إلا كظاهرة عامة في بلاد العالم الثالث، ولكن الذي أعلمه هو أن تجارب التحرر الوطني في هذه البلاد لم تكن كلها «ناصرية» أي أن الناصرية كانت جزءا من كل أعم منها وبهذا الوصف فهي تشترك مع حركات التحرر الوطني الأخرى في سمات معينة، وتنفرد بسمات أخرى هي التي تجعلها تجربة قائمة بذاتها. وليس المنهج العلمي السليم هو وحده الذي يبحث في السمات المشتركة بين جميع التجارب، بل إن بحث السمات النوعية المميزة لهذه التجربة بالذات يمكن أن يكون بحثا علميا بمعنى الكلمة، وأخشى أن يكون الأستاذ أديب لا يزال متأثرا بموقف أرسطو الذي يقول إنه «لا علم إلا بما هو عام» في الوقت الذي اعترف فيه العلم الحديث بإمكان قيام دراسة علمية لما هو نوعي متميز.
أما الشق الآخر من هذا النقد، فيقول إن الأخطاء التي نبهت إليها يسيرة إذا قيست بالصورة الكلية لإنجازات التجربة الناصرية، وهو نقد كنت أتوقعه في دراستي السابقة، ورددت عليه مقدما، ولكن لا بأس من أن أضيف الآن مثلا آخر، فيه ذكرى تنفع المؤمنين . فقد حوكم ستالين بعد موته (وأنا آسف إذا كنت قد عدت مرة أخرى إلى الكلام عن ستالين، ولن تكون هذه المرة هي المرة الأخيرة، لا لأنني - أشبه كلا من الحالتين بالأخرى، بل لأن للمثل دلالة بالغة في موضوع دراستنا) وكانت محاكمته لأسباب من هذا النوع الجزئي الذي لا يعجب نقاد مقالاتي. فمع كل إنجازات ستالين الخارجية والداخلية الهائلة، أدانه خلفاؤه من أجل الاستبداد بالرأي، ونشر عبادة الفرد، واضطهاد الخصوم بمحاكمات صورية ... (وربما أضفنا أن القائمة لم تكن تشمل استغلال أعوانه لنفوذهم أو عدوانهم على أموال الشعب) ومع ذلك لم يقل أحد إن خلفاء ستالين قد نصبوا له «محكمة الآلهة» وإن مقياس الحكم عليه كان ينبغي أن يكون أوسع وأشمل.
وأنتقل الآن إلى النقد الثاني الذي وجه إلى منهجي في الدراسة، وهو أنه كان منهجا «مكتبيا» ولقد كان الأساس الأكبر لهذا النقد هو نوع المهنة التي أمارسها؛ إذ أشار الكثيرون، بالغمز تارة وبالتصريح تارة أخرى، إلى أن أستاذ الفلسفة يعالج هذه الموضوعات كما لو كانت مشكلات فلسفية تجريدية. وأعجب ما في الأمر أن معظم نقادي كانوا من دارسي الفلسفة! ولكن هذه، على أية حال حجة لا أكترث بها؛ لأن ما يعنيني هو مضمون الكلام فقط.
والأمر الذي أومن به إيمانا عميقا هو أن عدم انتمائي إلى اليسار «المحترف» (وهو لفظ لا أستخدمه على سبيل السخرية أو التنديد، بل على سبيل التمييز فقط)، يعطيني حرية في التفكير والتحليل قد لا تتوافر لدى الكثيرين ممن تقيدهم «النظريات» أكثر مما ينبغي، فهؤلاء تجدهم يستخدمون في تحليلاتهم مجموعة محدودة من الألفاظ والمصطلحات، يحشرون فيها كل الظواهر حشرا، وكلما طرأ واقع جديد لجئوا إلى ما أسميه بأسلوب تفنيط الكوتشينة: إذ تفنط مجموعة المصطلحات المعروفة والمستخدمة دائما، بطريقة مختلفة، وكأننا بذلك قد فسرنا كل موقف جديد، هؤلاء هم الأكثر تعرضا، «للرؤية المكتبية» من غيرهم، وإنا لنعلم جميعا كيف أن اليسار في مصر وسوريا ولبنان قد أعاد تقييم التجربة الناصرية مرات متعددة، وكان في كل مرة يتصور أن هذا التقييم هو وحده العلمي، وأن من يصدر تقييما مخالفا لا بد أن يكون «مكتبي» الرؤية.
ولأضرب في هذا الصدد مثلا عايشته بنفسي في السنوات الأخيرة: ففي أيام العبور الأولى، وفي الوقت الذي كنا فيه جميعا نحبس أنفاسنا مبهورين من الإعجاز الذي حققه الجندي المصري، سمعت بنفسي يساريين (من حسن الحظ أنهم قلة، ولا يمثلون الجميع)، يفسرون ما حدث في السادس من أكتوبر بأنه محاولة البورجوازية المصرية لتلهية الشعب في مغامرة خارجية بعد أن تراكمت عليها المشاكل وخنقتها المتناقضات! هكذا كانت «تفنيطة الكوتشينة» في ذلك الحين، ومن الجائز أنها «فنطت» فيما بعد - بالنسبة إلى هذه الظاهرة نفسها - بطريقة مختلفة، ولكن المهم أن التقيد المفرط بمقولات نظرية معينة، توصف بأنها وحدها العلمية، هو الذي يؤدي إلى الرؤية المكتبية.
Page inconnue