(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: يستحب للضيف أن يجلس حيث يجلسه صاحب البيت لأنه أعرف بعورة بيته من غيره، ويقال يجب على الضيف أربعة أشياء، أولها: أن يجلس حيث يجلسه، والثاني أن يرضى بما قدم إليه، والثالث أن لا يقوم إلا بإذن رب البيت، والرابع أن يدعو له إذا خرج. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج يقول ((أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، ونزلت عليكم الرحمة)) ولا ينبغي للضيف أن يشتهي على رب البيت إلا الملح والماء ولا يعيب طعامه بل ما وجد أكل وحمد وهو الأدب. ويقال في المثل: ليس للضيف ما اشتهى وتمنى إن للضيف ما إليه يقرب. وإذا كان في المائدة من هو أكبر منه سنا فلا يبدأ قبله فإنه يقال: الصدر للسلطان والبداءة لذي السن. ذكر أن حكيما دعي إلى طعام فقال أجيبك بثلاث شرائط أولها أن لا تتكلف، والثاني أن لا تخون والثالث أن لا تجور. قال ما التكلف؟ قال أن تتكلف ما ليس عندك. قال وما الخيانة. قال: أن تبخل بما عندك فلا تقربه إلى ضيفك، قال وما الجور؟ قال تحرم عيالك وتعطي ضيفك. قال وإذا دعوت قوما إلى طعام فإن كان القوم قليلا فإن جلست معهم فلا بأس لتخدمهم على المائدة لأن خدمتك إياهم على المائدة من المروءة، وإن كان القوم كثيرا فلا تقعد معهم واخدمهم بنفسك فإن إكرام الضيف أن تخدمه بنفسك. وذكر في قوله تعالى {ضيف إبراهيم المكرمين} قال: كان إكرامهم خدمته لهم بنفسه، ويستحب لصاحب الضيافة أن يقول للضيف أحيانا كل من غير إلحاح لأن الفرس تشرب من غير صفير ومع الصفير أكثر شربا. والبعير يسير من غير حداء ومع الحداء أكثر. فكذلك الضيف إذا قلت له كل كان أكله أهنأ ولا تلح عليه فإن الإلحاح مذموم، ولا تكثر السكوت عند الأضياف فتدخل الوحشة عليهم، ولا تغب عنهم فإن ذلك من الجفاء ولا تغضب على الخادم عند الأضياف لأنه يقال أفضل ما يبذل للضيف وأفضل ما يكرم به الوجه الطلق والقول الجميل. ولا ينبغي أن يجلس مع الأضياف من يثقل عليهم فإن الثقيل ينغص الطعام، وإذا فرغوا من الطعام واستأذنوا فلا ينبغي أن يمنعهم فإن ذلك مما يثقل عليهم. وروي عن محمد بن سيرين أنه قال: لا تكرم أخاك بما يكره، وذكر أن حكيما أضافه رجل فقال له أجيبك بثلاث شرائط أحدها: أن لا تطعمني سما، والثاني أن لا تجلس معي من هو أحب إليك وأبغض إلي، والثالث أن لا تحبسني في السجن. قال نعم، فلما دخل عليه أجلس معه صبيا صغيرا ولما قدم إليه الطعام وفرغ من الأكل جعل يلح عليه في الأكل، ولما أراد الخروج قال امكث ساعة، فقال له الحكيم نقضت الشرائط كلها وإذا حضر بعض القوم وأبطأ الآخرون فالحاضرون أحق أن يقدموا. ويقال ثلاث يورثن السل: رسول يبطئ، وسراج لا يضيء وطعام ينتظر عليه من يجيء. وينبغي لصاحب الضيافة أن لا يقدم الطعام حتى يقدم الماء ليغسلوا أيديهم فإن ذلك من المروءة، وإذا أراد أن يقدم الماء لغسل الأيدي قبل الطعام كان القياس أن يبدأ بمن هو في آخر المجلس ويؤخر صاحب الصدر، لأن في ترك ذلك حبسا عن المس والتناول، والبر في تأخيره، لأنه قيل أول الغسل أخلاق فالأصاغر أولى به وآخر الغسل إطلاق فالأكابر أولى به، ولكن الناس قد استحسنوا البداءة بصاحب الصدر إذا كان ذلك قبل الطعام ويعدون ذلك من البر، فإن فعل فلا بأس به، وإذا غسلوا أيديهم قبل الطعام كان القياس أن لا يمسح الغاسل يديه بالمنديل، لأنه غسل يديه من المس ولا يمس بعد الغسل، ولكن الناس قد استحسنوا مسح اليد بالمنديل فإذا فعل ذلك فلا بأس به. وإذا أرادوا غسل أيديهم بعد الطعام فقد كره بعض الناس إفراغ الطست في كل مرة وذهبوا إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((املأوا الطسوس ولا تتشبهوا بالمجوس)) وروي في خبر آخر ((اجمعوا وضوءكم يجمع الله شملكم)) ويقال إفراغ الطست في كل مرة من فعل العجم. وقال بعضهم: لا بأس به وهو من المروءة ، ولأن الدسومة إذا سالت في الطست فربما تنضح ثيابه فتفسد عليه. وقد كان في الزمن الأول غالب طعامهم الخبز والتمر أو طعاما فيه قليل من الدسومة، وأما اليوم إذا أكلوا البأجاة والألوان ويصيب أيديهم من ذلك فلا بأس بصبه في كل مرة، فأي الوجهين فعل فلا بأس به. ويكره للرجل أن ينظر على لقمة غيره لأن في ذلك سوء أدب. ولا ينبغي للضيف أن يكثر الالتفات إلى الموضع الذي يؤتى الطعام منه فإن ذلك مكروه عند الناس، والله أعلم.
الباب السادس والخمسون: في الخلال
Page 347