(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ القرآن على أبي بن كعب فتكلم الناس في ذلك فقال بعضهم: إنما قرأ عليه القرآن ليعلم الناس التواضع لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة، وقال بعضهم: إنما قرأ عليه لأن أبي بن كعب كان أسرع أخذا لألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته عليه أن يأخذ أبي بن كعب ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرأ كما سمع منه ويعلم غيره. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: ((إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال: الله سماني؟ قال: نعم، فبكى)) ويروى ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه {لم يكن الذين كفروا} وقال صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا} الحديث. أما بكاؤه فبكاء سرور واستصغار لنفسه عن تأهيله لهذه النعمة وإعطائه هذه المنزلة والنعمة فيها من وجهين. أحدهما: لكونه منصوصا عليه بعينه ولهذا قال وسماني معناه نص على تعييني، أو قال اقرأ على واحد من أصحابك قال بل سماك فتزايدت النعماء. والثاني قراءة النبي صلى الله عليه وسلم عليه فإنها منقبة عظيمة له لم يشاركه فيها أحد من الناس، وقيل إنما بكى خوفا من تقصيره في شكر هذه النعمة. وأما تخصيصه بهذه السورة بالقراءة فلأنها مع وجازتها جامعة لأصول وقواعد ومهمات، وكان الحال يقتضي الاختصار. وأما الحكمة في أمره تعالى بالقراءة على أبي فهو أن يتعلم: أي ألفاظه وصيغة أدائه ومواضع الوقوف وضبط النغم، فإن نغمات القرآن على أسلوب ألفه الشرع وقدره بخلاف ما سواه من النغم المستعملة في غيره، ولكل ضرب من النغم أثر مخصوص في النفوس، فكانت القراءة عليه ليعلمه لا ليتعلم منه. وقيل: قرأ عليه ليبين عرض القرآن على حفاظه البارعين فيه المجيدين لأدائه، وليبين التواضع في أخذ الإنسان القرآن وغيره من العلوم الشرعية من أهلها وإن كانوا دونه في النسب والدين والفضيلة والمرتبة والشهرة وغير ذلك، ولينبه الناس على فضيلة أبي في ذلك ويحثهم على الأخذ عنه وتقديمه في ذلك، وكان بعد النبي صلى الله عليه وسلم رأسا وإماما مقصودا في ذلك مشهورا.
الباب الثاني والعشرون: في الشعر وإنشاده
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: قد تكلم الناس في إنشاد الشعر فكرهه بعض الناس، ورخص فيه آخرون. فأما من كرهه فاحتج بما روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لأن يملتئ جوف أحدكم قيحا ودما حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا)) ولأن الله تعالى قال {والشعراء يتبعهم الغاوون} يعني الضالون. وروي عن الشعبي أنه قال: كانوا يكرهون أن يكتبوا أمام الشعر بسم الله الرحمن الرحيم. وروي عن مسروق أنه كان يتمثل ببيت من شعر فقطعه فقيل له لو أتممت البيت؟ فقال إني لأكره أن أجد في كتابي بيتا من الشعر. وروي عن إبراهيم بن يوسف عن كثير بن هشام قال: سئل عبد الكريم عن قوله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} قال: الغناء والشعر. وروي عن عطاء أن إبليس قال يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فأين بيتي؟ قال الحمام قال فأين مجلسي؟ قال: السوق قال فما قراءتي؟ قال الشعر قال فما حبالي؟ قال النساء قال فما حديثي؟ قال الغيبة والكذب قال فأين كتابي؟ قال الوشم. وأما حجة من أباح ذلك فما روي عن هشام بن عروة عن أبيه قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من الشعر لحكمة)) وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما رأيت امرأة أعلم بشعر ولا بطب ولا بلغة ولا بفقه من عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. وروى سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتناشدون الشعر والنبي صلى الله عليه وسلم بينهم جالس يتبسم. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا قرأ أحدكم شيئا من القرآن فلم يدر ما تفسيره فليلتمسه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب. قيل لأبي الدرداء كل الأنصار يقولون الشعر غيرك؟ قال: وأنا أقول أيضا الشعر، ثم قال عند ذلك:
يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا
فلا تك يا ابن آدم في غرور ... فقد قام المنادي صاح نادى
بأن الموت طالبكم فهبوا ... لهذا الموت راحلة وزادا
Page 320