وإذا كان مقام الكلام عن الخبرة باستخدام الأدوات حين تكون هذه الأدوات من الآدميين، فليس ما ينسى في هذه الحملة نفسها مشورته على الواعظ الذي شكا إليه إعراض الجنود عن حضور الصلاة والاجتماع للدعاء، وكان من جراية الجنود أقداح من شراب الروم للتدفئة في الشتاء القارس، فلما سمع شكوى الواعظ المكروب وأشفق عليه من خوفه للهزيمة بعد هذا الإعراض، تبسم مطمئنا للواعظ الخائف وقال له: لا عليك من إعراضهم، خذ على عاتقك توزيع جراية الشراب ولا توزعها إلا بعد أداء الصلاة، فلم يتخلف بعدها جندي واحد عن موعد الصلاة!
وهذه الخبرة بالإدارة في الشئون التي لم يتدرب عليه، تغني عن الإفاضة في دقائق التنظيمات التي كان يبتدعها باجتهاده كلما أدار عملا من الأعمال التي يتصدى لها أمثاله ولا تستغرب من مدير مطبعة أو مدير صحيفة؛ لأنها جميعا أعمال من نمط واحد، ومنها تنظيم البريد، وتنظيم الإضاءة في المدينة، وتنظيم فرق المطافئ، وتنظيم مكاتب الهيئات النيابية والهيئات العلمية التي أسهم في أعمالها، فكل أداة لازمة لهذه التنظيمات فهي على متناول اليد من تفكيره وسجاياه؛ فهم صحيح، وتقسيم متقن، وتنفيذ مرتب، وخبرة باستخدام الأدوات الحية والأدوات الصناعية على السواء. «سياسي بالطبع» إذا صح هذا التعبير. والسياسي بالطبع يصنع السياسة على يديه، ويصنع لكل ساعة سياستها التي تمليها الحوادث عليه.
ولا يختم الكلام عن فرنكلين السياسي قبل أن يقال: إن بلاده قد أصبحت أمة متحدة بفكرة جريئة واسعة هي فكرة الاتحاد، وقد كان فرنكلين صاحب الدعوة الأولى إلى هذا الاتحاد.
الفيلسوف
كان دافيد هيوم يسمي فرنكلين الفيلسوف الأول، ويشفع ذلك أحيانا بقوله عنه: إنه أول فيلسوف وجه أنظار القارة الأوروبية إلى عالم الفكر في الديار الأمريكية.
وكانت الأندية الأدبية في باريس تسميه الفيلسوف أو الدكتور ولا تردفه بالاسم فيفهم السامع أنهم يعنون فرنكلين.
وكانت كلمة «الفيلسوف» كالاسم الغالب عليه بعد عودته إلى بلاده في أخريات أيامه.
ولم يكن ملقبوه بهذا اللقب مخطئين من وجهة العرف، ولا من الوجهة العلمية في عصره؛ فقد كان فرنكلين فيلسوفا بكل معاني الكلمة، إلا هذا المعنى الحديث الذي غلب على الفلسفة بعد عصره، وبعد شيوع التفرقة بين المعارف الإنسانية، ثم شيوع التخصص في كل معرفة منها. ونريد به الفلسفة التي غلبت على بحوث «ما بعد الطبيعة» وقضايا المنطق النظري وكادت تنحصر فيها. فهذا هو مجال الفلسفة الذي لم يكن فيه فرنكلين من زمرة الفلاسفة، ولم يرد أن يكون منها، ولا نخاله كان مستطيعا أن يكونه لو أراد؛ لأنه مجال لا تألفه طبيعته، ولا يألفه تفكيره، ولا يرجى منه أن يأتي فيه بما يفيد.
كان فرنكلين فيلسوفا بمعنى الكلمة القديم، وهو محبة الحكمة ورياضة النفس على اتباعها في أحوال الحياة اليومية، ولعله عرف هذه الفلسفة عملا قبل أن يعرفها علما واطلاعا؛ لأنه نشأ في بيئة المتطهرين، وعرف بالقدوة والبداهة أن الأخلاق المثلى نظام من نظم الحياة الدنيوية.
وكان فرنكلين فيلسوفا بمعنى يوافق معنى الكلمة الحديث، وهو استخراج العلل، والنظريات الفكرية لكل مبحث من مباحث العلم والاختراع التي اشتغل بها منذ شبابه، فكان يقدر الرأي والعلة ثم يبني عليهما الاختراع، أو كان يخترع ما يخترع ثم يعمم الرأي والعلة على المتشابهات من الظواهر الطبيعية، ولولا هذه الفلسفة العلمية لما جمع بين البرق والشرارة الزجاجية في نظرية واحدة.
Page inconnue