Bertrand Russell : Une très brève introduction
برتراند راسل: مقدمة قصيرة جدا
Genres
أصبح راسل يرى في هذه المرحلة أن من الجوانب المهمة لهذا الرأي أن البيانات الحسية والأشياء المحسوسة ليست كيانات عقلية خاصة، بل هي جزء من المادة الفعلية للفيزياء. إنها فعلا «المكونات النهائية للعالم المادي»؛ نظرا لأن التحقق من المنطق السليم والفيزياء يعتمد عليها أساسا. وهذا مهم لأننا عادة ما نعتقد أن البيانات الحسية تابعة للأشياء المادية، بمعنى أن وجودها وطبيعتها مرجعهما إلى أن الأشياء المادية هي التي تتسبب فيها؛ ولكن لا يتسنى التحقق إلا إذا كان الأمر على عكس ذلك؛ أي أن تكون الأشياء المادية تابعة للبيانات الحسية. وهذه النظرية «تبني» الأشياء المادية من الأشياء المحسوسة؛ ومن ثم يفيد وجود الأشياء المحسوسة في التحقق من وجود الأشياء المادية.
تخلى راسل عن هذه النظرية المميزة بدلا من تطويرها إلى مستوى أكبر؛ وفي أعماله اللاحقة - وبالتحديد في كتاب «تحليل المادة» في عام 1927 وكتاب «المعرفة البشرية» في عام 1948 - عاد إلى تناول الأشياء المادية، والمكان الذي تشغله، باعتبارها مستنتجة من الخبرة الحسية. وقد دفعه إلى ذلك عدة اعتبارات، وكان من بينها قبوله بالرأي السائد الذي تدعمه علوم الفيزياء وعلم وظائف الأعضاء البشرية الذي يقول بأن الإدراك سببه نشاط البيئة المادية على أعضاء الحس لدينا. ويكتب راسل: «إن كل من يقبل نظرية الإدراك العفوية مضطر لاستنتاج أن المدركات موجودة في أذهاننا؛ لأنها تأتي في نهاية سلسلة عفوية من الأحداث المادية التي تنتقل - مكانيا - من الأشياء إلى دماغ المدرك» (تحليل المادة، ص32). وتخلى راسل أيضا - في كتاب «تحليل العقل» الصادر في عام 1921 - عن الحديث عن «البيانات الحسية»، ولم يعد يفرق بين فعل الإحساس والشيء الذي يحس به الشخص. والسبب الذي دفعه إلى ذلك يتعلق بنظرية العقل التي وضعها، والمعروضة لاحقا.
كان من أهم الأسباب التي دفعت راسل إلى التخلي عن النظرية هو التعقيد الشديد، وعدم قابلية التصديق الذي كانت تتسم به الآراء التي حاول أن يصوغها عن الأمكنة الخاصة والعامة، والعلاقات بينها، والطريقة التي من المفترض أن تشغل بها الأشياء المحسوسة هذه الأمكنة. وقد ذكر هذه المجموعة من المشكلات عرضيا في كتاب «تطوري الفلسفي»، ويقول فيه إن السبب الأساسي الذي دفعه إلى التخلي عن «محاولة بناء «مادة» من المعلومات المتعلقة بالتجربة وحدها» هو أنه «برنامج مستحيل ... فلا يمكن تفسير الأشياء المادية باعتبارها أبنية مؤلفة من عناصر يتعرض لها المرء فعليا في الخبرة» (تطوري الفلسفي، ص79). هذه المقولة الأخيرة ليست متسقة بدقة مع رأي راسل الذي ذكره في النصوص الأصلية، ومفاده أنه ليس من الضروري إدراك الأشياء المحسوسة فعليا؛ ويقدم كتاب «تطوري الفلسفي» تعليقا على النظرية أكثر التزاما بمذهب الظواهر مقارنة بما يقدمه نصها الأصلي. ولكنه تعرض لمشكلة جسيمة تتعلق بالنظرية؛ وهي أنه يبدو من باب عدم الترابط أن تتحدث عن «معلومة حسية غير محسوسة» لا تتطلب حتى أي صلة جوهرية بالإدراك، بل إن اسمها نفسه يبدو مناقضا لهذا المطلب.
بلا شك كان التخلي عن المشروع الذي تحتوي عليه مخطوطة كتاب «نظرية المعرفة» وكتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» لطمة لراسل؛ لأنه حين وجه اهتمامه إلى أسئلة المعرفة والإدراك بعد أن انتهى من كتاب «أصول الرياضيات»، رأى أن مهمة حل المشكلات المتعلقة بالعلاقة بين هذه المسائل وبين الفيزياء هي إسهامه المهم التالي. وكان ذلك من الطموحات التي كان يفكر فيها منذ أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر.
توجد أسئلة أخرى مهمة في نظرية المعرفة لم يعرها راسل - في إطار هذه المساعي - إلا اهتماما عابرا. وهي تتعلق بنوع الاستنتاج الذي طالما ظل من المفترض أن يكون عماد العلوم، وهو بالتحديد الاستدلال غير البرهاني. ولم يرجع راسل إلى التفكير في هذه الأسئلة إلا بعد عدة سنوات، وترد المناقشة الأساسية التي يقدمها راسل في كتاب «المعرفة البشرية: نطاقها وحدودها»، وكتبه بعد الحرب العالمية الثانية. بعد ذلك وجه راسل اهتمامه إلى أسئلة معينة تتعلق بموضوع المنهج والميتافيزيقا، والذي كان يرى أنه من الموضوعات المهمة، وذلك أثناء انشغاله بالعمل في مجال الإدراك. وهذه الأسئلة هي موضوع الفصل التالي.
هوامش
الفصل الثالث
الفلسفة والعقل والعلم
المنهج والميتافيزيقا
أطلق راسل اسم «مذهب الذرية المنطقية» على الآراء التي طورها من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» منذ ذلك الحين فصاعدا. ومذهب الذرية المنطقية هو أساسا عبارة عن منهج، وكان راسل يأمل أن يحل هذا المنهج الأسئلة المتعلقة بطبيعة الإدراك وعلاقته بالفيزياء. وتجدر الإشارة إلى أن الأعمال الفلسفية التي أنجزها راسل خلال العقود الأربعة بعد كتاب «أصول الرياضيات» مخصصة في أغلبها لمناقشة موضوع علاقة الإدراك بالفيزياء؛ ومن ثم فهي في الواقع عبارة عن مسعى لتقديم أساس تجريبي (مع وجود تحفظات) للعلوم، واعتبرت بمنزلة أكثر النظريات التي تبحث في طبيعة العالم تمتعا بفرصة أن تكون صحيحة أو على الأقل في طريقها للوصول إلى الحقيقة. وقدم مذهب الذرية المنطقية هكذا لراسل سبيلا للميتافيزيقا - بمعنى وجهة نظره في طبيعة الواقع - والتي اتضح أنها ليست الخواص المادية الراهنة للمادة، على الأقل بطريقة مباشرة، بل على أنها تمثيل للمادة باعتبارها بنية منطقية. تتخذ نصوص راسل عن آرائه في الميتافيزيقا دائما هيئة عرض سطحي يشغل الأقسام الختامية لمناقشاته الكثيرة للتحليل المنطقي، بينما يوجه معظم اهتمامه لوصف استراتيجية التحليل نفسها.
Page inconnue