Bertrand Russell : Une très brève introduction
برتراند راسل: مقدمة قصيرة جدا
Genres
تمهيد
1 - حياته وعمله
2 - المنطق والفلسفة
3 - الفلسفة والعقل والعلم
4 - السياسة والمجتمع
5 - تأثير راسل
الأعمال المقتبس منها داخل النص
قراءات إضافية
تمهيد
1 - حياته وعمله
Page inconnue
2 - المنطق والفلسفة
3 - الفلسفة والعقل والعلم
4 - السياسة والمجتمع
5 - تأثير راسل
الأعمال المقتبس منها داخل النص
قراءات إضافية
برتراند راسل
برتراند راسل
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
Page inconnue
إيه سي جرايلينج
ترجمة
إيمان جمال الدين الفرماوي
تمهيد
عاش برتراند راسل حياة مديدة وحقق الكثير من الإنجازات، وهو من بين قلة من الفلاسفة أصبحت أسماؤهم معروفة للعامة، وأصبحوا - في حياتهم وعملهم - تجسيدا للتراث الفكري العظيم الذي يمثلونه. وقد قامت السمعة التي تمتع بها راسل بين معاصريه على تعدد إسهاماته - وكثيرا ما كانت تلك الإسهامات خلافية للغاية - في النقاشات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والتعليمية. ولكن سبب تمتعه بشهرة باقية يستند على إسهاماته الفنية المدهشة في مجالي المنطق والفلسفة. وفيما يلي سأقدم عرضا لما أنجزه من عمل في كلا المجالين على مدى حياته. والهدف من ذلك العرض هو تقديم سرد واضح لهذين المجالين حسبما تسمح به ضرورة الإيجاز. ولما لم يكن هذا مقام التقييم المفصل للمناقشات الفلسفية، ولا مقام التفاصيل الفنية المتعلقة بالمنطق الرياضي، فإني أخصص معظم المساحة للعرض؛ وإن كنت سأجازف بتقديم شيء من المناقشة كذلك. ويمكن الاستزادة من موضوعات المناقشة بالرجوع إلى المؤلفات المذكورة في قسم القراءات الإضافية، وهو القسم الذي يرشد كل من قد يود التبحر في موضوع ما بعد أن يتعرف على نبذة سريعة عنه في هذا الكتاب. ومع ذلك يتسنى للقراء غير المهتمين على وجه الخصوص بنطاقات المنطق والفلسفة المتخصصة أن يغفلوا الفصلين
الثاني
و
الثالث ، ويمكنهم أن يركزوا بدلا من ذلك على سيرة حياة راسل وإسهاماته في المناقشات العامة، كما يرد في الفصلين
الأول
و
Page inconnue
الرابع .
أشكر كيث توماس ومصحح البروفات المطبعية لدى مطبعة جامعة أكسفورد الدقيق الملاحظة لما قدماه من تعليقات، وكين بلاكويل لمساعدته الفورية وما قدمه من مستندات من مؤسسة سجلات راسل، وأليكس أورينشتاين وراي مونك لما شاركا به من مناقشات ذات صلة. والشكر موصول أيضا للينا موخي لما بذلته من جهد في الفهرس.
إهداء إلى سو: «أمرتني ربة الشعر أن أمتدح صوت خليلتك ليسيمنيا العذب.»
إيه سي جرايلينج
لندن
1996
الفصل الأول
حياته وعمله
يعد راسل من أشهر فلاسفة القرن العشرين. ويرجع ما يتمتع به من شهرة أساسا - ومن سوء سمعة أحيانا - إلى مشاركته في الجدل الاجتماعي والسياسي. ظل راسل من الشخصيات العامة المألوفة على مدى نحو 60 عاما؛ إذ كان يظهر في الصحافة الشعبية أحيانا كموضوع للفضائح، وأحيانا أخرى في الفترات التي حظي فيها بالاحترام كمثقف حكيم؛ وأثناء تلك الفترات ظهر كمذيع أيضا. كان يدلي بدلوه كثيرا في شئون الحرب والسلام والأخلاق والجنسانية والتعليم وسعادة البشر. ونشر الكثير من الكتب والمقالات الرائجة، وجلبت عليه آراؤه مجموعة متنوعة من ردود الأفعال تراوحت بين أحكام بالسجن وجائزة نوبل.
ولكن أعظم إسهاماته والأسس الحقيقية التي قامت عليها سمعته تكمن في النطاقات الفنية المتخصصة لمجالي المنطق والفلسفة؛ فقد كان تأثيره شديدا على مضمون الفلسفة وأسلوبها في البلدان الناطقة بالإنجليزية في القرن العشرين، حتى إنه أصبح يمثل اللحن الأساسي للفلسفة في تلك الفترة. صار الفلاسفة يستخدمون الأساليب والأفكار الناشئة من عمله دون أن يشعروا بالحاجة إلى ذكر اسمه - بل وأحيانا دون إدراك وجود تلك الحاجة - مما يوضح مدى تأثيره. وبهذه الطريقة قدم راسل إسهاما أهم بكثير في الفلسفة مقارنة بتلميذه لودفيج فيتجنشتاين. لقد تعلمت الفلسفة دروسا قيمة من فيتجنشتاين، ولكنها اكتسبت إطار عمل كاملا من راسل، يشكل ما صار يطلق عليه حاليا «الفلسفة التحليلية».
Page inconnue
ويقصد بكلمة «التحليل» الاستقصاء الدقيق للمفاهيم الفلسفية المهمة، وكذلك للغة التي تجسدها، وذلك باستخدام طرق وأفكار مشتقة من المنطق الصوري. لم ينشئ راسل الفلسفة التحليلية بالطبع من دون مساعدة؛ إذ تأثر بعلماء المنطق جيوسيبي بيانو وجوتلوب فريجه وبزملائه في جامعة كامبريدج جي إي مور وإيه إن وايتهيد. وكان من بين مصادر التأثر الأخرى مفكرو القرنين السابع عشر والثامن عشر رينيه ديكارت وجوتفريد لايبنتس وجورج بيركلي وديفيد هيوم. كان أول كتاب فلسفي ألفه عبارة عن دراسة تحمل طابعا متعاطفا لثاني هؤلاء الفلاسفة. ولكنه جمع بين مصادر التأثر هذه بحيث أصبحت تقدم نهجا جديدا للمشكلات الفلسفية؛ مما ساعد في إيضاحها بضوء منطقي كاشف جديد؛ وبهذه الطريقة أدى دورا محوريا في تغيير فلسفة القرن العشرين تغييرا جذريا في التراث الفلسفي الناطق بالإنجليزية.
إذن كان راسل فيلسوفا بالمعنى الشعبي؛ أي كحكيم ومعلم للبشرية، وبالمعنى الأكاديمي المهني. في الفصول التالية سأقدم وصفا لإسهاماته في هذين الوجهين الفلسفيين. أما في الفصل الحالي فأقدم صورة وصفية لحياته الطويلة الثرية، المضطربة أحيانا، والتي تشكل في مجملها وتنوعها إحدى أهم السير الملحمية في العصر الحديث.
ولد برتراند آرثر ويليام راسل في 18 مايو 1872 في أسرة شهيرة، هي الفرع الأصغر من نبلاء بيدفورد. وكان جده لأبيه هو اللورد جون راسل الشهير الذي استحدث قانون الإصلاح في عام 1832، وكانت تلك هي الخطوة الأولى نحو إضفاء الطابع الديمقراطي على البرلمان. وشغل اللورد جون منصب رئيس الوزراء مرتين - من 1846 إلى 1852 ومن 1865 إلى 1866 - ومنحته الملكة فيكتوريا لقب إيرل. وكان جد راسل لأمه - اللورد ستانلي أوف ألديرلي - من الحلفاء السياسيين للورد جون.
كان والدا راسل زوجين غير عاديين ومثيرين للجدل؛ إذ كانا ملتزمين بالقضايا التقدمية مثل تنظيم الأسرة وحق التصويت للنساء. واختار أبوه - الفيسكونت أمبيرلي - جون ستيوارت مل ليكون أباه بالمعمودية بالمعنى غير الديني. وتوفي مل قبيل عيد ميلاد راسل الأول؛ لذا كان تأثيره عليه غير مباشر، مع أنه كان كبيرا.
شكل 1-1: عائلة راسل في عام 1863، ويظهر في الصورة دكتور فاجنر، وهو معلم خصوصي، وويليام راسل عم برتراند راسل، وليدي راسل، ورولو راسل (عم آخر) وجورجي (ابنة اللورد جون من زواجه الأول)، ولورد أمبيرلي، ولورد جون راسل، وأجاثا راسل (عمة برتراند راسل).
1
كان أمبيرلي عضوا بالبرلمان لمدة قصيرة، ولكن مسيرته السياسية تهاوت حين أصبح معروفا عنه تأييده لفكرة منع الحمل. ومن أمثلة آراء آل أمبيرلي التقدمية حالة دي إيه سبولدينج، وهو عالم بارع شاب كان يعمل معلما خصوصيا لشقيق راسل الأكبر فرانك؛ إذ كان سبولدينج مصابا بمرض السل؛ ولذا لم يكن وضعه يسمح له بالزواج وتكوين أسرة. وقرر آل أمبيرلي أن هذا ليس مبررا لكي يصير متبتلا؛ لذا فإن أم راسل «سمحت له بالعيش معها» - على حد تعبير راسل في سيرته الذاتية - ويضيف قائلا: «مع أنه على حد علمي ليس هناك دليل على أنها كانت تستمد أي متعة من تلك العلاقة» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص12).
توفيت أم راسل وأخته بمرض الدفتيريا في 1874 حين كان في الثانية من عمره، وتوفي أبوه بعد ذلك بثمانية عشر شهرا. كان أمبيرلي قد خصص اثنين من اللاأدريين أوصياء على أبنائه - كان سبولدينج أحدهما - ولكن جديه، الإيرل راسل وزوجته، رفضا رفضا قاطعا، ورفعا دعوى لإسقاط وصية أمبيرلي، وأخذا أحفادهما ليقيموا معهما في منزلهما في «بيمبروك لودج»، وهو منزل ملكي يقع في حديقة ريتشموند بارك. أحس فرانك - وكان يكبر راسل بسبع سنوات - أن الإقامة هناك غير محتملة؛ فراح يسلك سلوكا متمردا. فأرسلوه إلى مدرسة داخلية. أما بيرتي - وكان لين العريكة ودمث الطباع - فقرروا أن يظل مقيما في المنزل. توفي جده بعد ذلك بثلاث سنوات فقط، وأصبح خاضعا تماما لتأثير جدته المتزمتة التي تعتنق مذهب الكنيسة المشيخية الاسكتلندية، وكانت ابنة إيرل أوف مينتو الثاني. وغالبا ما يمكن تفسير شخصية راسل، بل تبريرها - حين تستدعي المناسبة ذلك فيما يبدو - بالرجوع إلى أصوله الأرستقراطية؛ ولكن التكوين الأولي لشخصيته جاء نتيجة المذهب البيوريتاني المتشدد الذي كانت تعتنقه جدته، وهو المذهب الذي كان يميز الطبقة الوسطى أكثر مما كان يميز الطبقة العليا الأرستقراطية في العصر الفيكتوري. وقد كتبت له جدته على الصفحة البيضاء في مقدمة الكتاب المقدس الذي أهدته إياه في ذكرى ميلاده الثانية عشرة نصا من أهم النصوص المفضلة لديها: «لا تتبع الكثيرين إلى فعل الشر.» وظل هذا النص من المبادئ التي ظل يتبعها راسل طوال حياته.
شكل 1-2: الصورة المصدرة لكتاب «العناصر»، وهو أشهر بحث لإقليدس عن الرياضيات.
2
Page inconnue
بادئ ذي بدء، كانت طفولة راسل طفولة موحشة ولكنها لم تكن تعيسة. كان لديه مربيات ألمانيات وسويسريات، فبدأ يتحدث الألمانية مبكرا بطلاقة تضارع تحدثه بالإنجليزية. وكان يهيم حبا بالمساحات الشاسعة المحيطة بمنزل «بيمبروك لودج»، وهي مساحات تتميز بمناظرها الجميلة المطلة على الأراضي الريفية المحيطة. وجاء فيما كتبه: «كنت أعرف كل ركن من الحديقة، وكنت أبحث كل عام عن زهور الربيع البيضاء في مكان ما، وعن عش طائر الحميراء في مكان آخر، وعن برعم زهرة الأكاسيا وهو يخرج من خميلة من اللبلاب» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص26). ولكن مع دخوله مرحلة البلوغ، أخذت عزلته - الفكرية والعاطفية - تزداد ألما. كان وحيدا بين أسرة من كبار السن متباعدين عنه من كل النواحي. وكان الرابط الوحيد الذي يربطه بالعالم الأكبر هو مجموعة متعاقبة من المعلمين الخصوصيين. ومع ذلك أنقذته الطبيعة والكتب - وفيما بعد الرياضيات - من الإحساس بتعاسة جارفة. كان أحد أعمامه يكن اهتماما بالعلوم، وهو ما نقله إلى راسل؛ مما ساعد على تحفيز يقظته الذهنية. ولكن اللحظة الفارقة الحقيقية جاءت حين بلغ 11 عاما وبدأ أخوه يعلمه الهندسة. صرح راسل أن التجربة كانت «مبهرة مثل تجربة الحب الأول» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص30). وبعد أن أتقن النظرية الخامسة بسهولة النظريات نفسها التي تسبقها، أخبره فرانك أنها عادة ما يجدها الآخرون صعبة، وهذه النظرية الخامسة هي «جسر إقليدس» الشهير الذي يضع حدا للكثير من الناشئين في دراسة الهندسة. وكتب راسل: «كانت تلك المرة هي أول مرة يتبادر لذهني أنني قد أمتلك شيئا من الذكاء.» ولكن ما أفسد الأمر هو أن إقليدس يبدأ ببدهيات، وحين طلب راسل إثباتها، رد عليه فرانك بأنه لا بد أن يقبلها كما هي، وإلا تعذر استمرار المسألة الهندسية. فقبل راسل ذلك على مضض، ولكن الشك الذي ساوره في تللك اللحظة ظل يلازمه، وهو ما حدد سياق عمله اللاحق الذي قام على أسس الرياضيات.
عام 1888 التحق راسل كتلميذ داخلي بمعهد تابع للجيش مخصص لحشو أدمغة الطلاب بالمعلومات في مدة قصيرة؛ وذلك للاستعداد لاختبارات منحة جامعة كامبريدج. وكانت من المنغصات التي تخللت مدة إقامته هناك ما رآه سلوكا فظا بين بعض من الشباب الآخرين. ومع ذلك نال منحة للالتحاق بكلية ترينيتي ، والتحق بها في أكتوبر 1890 لدراسة الرياضيات.
شعر وكأنه قد دخل الجنة. وكان ألفريد نورث وايتهيد - الذي تعاون معه فيما بعد في كتابة كتاب «مبادئ الرياضيات» - قد نظر في أوراق إجابة راسل في المنحة الدراسية التي حصل عليها، وأوصى به عددا من الطلاب والمحاضرين الموهوبين؛ ومن ثم وجد نفسه بين رفاق يشابهونه إلى حد كبير، فلم يعد منعزلا فكريا، ووجد أخيرا سبيلا إلى الصداقة؛ إذ كون صداقات قوامها الاهتمامات المشتركة والمستوى الذهني المتجانس.
وفي أول ثلاث سنوات أمضاها راسل هناك، درس الرياضيات. وفي السنة الرابعة أصبح منكبا على دراسة الفلسفة، ودرس على يد هنري سيدجويك وجيمس وارد وجي إف ستاوت. وكان الفيلسوف الذي يعتنق المذهب الهيجلي، جيه إم إي ماك تاجارت، في ذلك الحين مؤثرا بين الطلاب والمحاضرين الشباب في كامبريدج. وهو الذي حفز راسل على اعتبار الفلسفة التجريبية البريطانية - ويمثلها لوك وبيركلي وهيوم وجون ستيوارت مل - فلسفة «غير مكتملة»، وشجعه بدلا من ذلك على دراسة فلسفة كانط وخصوصا هيجل. وبدافع تأثير ستاوت، أصبح راسل معجبا بالفيلسوف المعتنق للمذهب الهيجلي القادم من جامعة أكسفورد، إف إتش برادلي، فأخذ يدرس أعماله بعناية، وكانت أعماله تروج لصورة من الرأي الفلسفي المعروف باسم «المثالية».
ولكن أكثر من أثر في راسل أشد التأثير كان أحد معاصريه الشباب، وكان ذلك هو جي إي مور، وقد بدأ كمعتنق للفلسفة الهيجلية شأنه شأن راسل، ولكنه سرعان ما نبذها، وأقنع راسل أن يحذو حذوه. كان برادلي يرى أن كل ما يصدقه المرء بدافع المنطق السليم - مثل التعددية والتغير في عالم الأشياء - ليس إلا مظهرا خارجيا، وأن الواقع ما هو إلا حقيقة ذهنية مطلقة. رفض كل من راسل ومور هذا الرأي من منطلق حس عنيد بالتحرر. ومع أنهما تطورا بعد ذلك بطريقتين مختلفتين، ومع أن راسل بالتحديد حاول بكل جهده البحث عن بدائل مرضية، فإن العمل الفلسفي الذي أنجزه كل منهما كان يسلم بالواقعية والتعددية (انظر الفصل
الثاني
للاطلاع على توضيح لهذين المصطلحين).
ولكن التمرد الذي تزعمه مور جاء لاحقا . نجح راسل وصنف بين المتفوقين في امتحانات درجة الشرف بجامعة كامبريدج «ترايبوز» في الرياضيات لعام 1893، وكان ترتيبه السابع في امتحانات الرياضيات بجامعة كامبريدج، وصنف بين المتفوقين مع مرتبة الشرف في امتحانات العلوم الأخلاقية «ترايبوز» في العام التالي (كانت العلوم الأخلاقية الاسم الذي يطلق على مواد مثل الفلسفة والاقتصاد في جامعة كامبريدج). ثم بدأ يكتب أطروحة الزمالة على أسس الهندسة، وذلك على خطا كانط الذي كان له التأثير الأكبر على آرائه في ذلك الحين. وإبان تلك الأحداث الحافلة، بلغ سن الرشد، وأصبح لذلك حرا ليقدم على فعل كان ينتويه على الرغم من المعارضة الشديدة التي أبدتها عائلته، وكان ذلك هو الزواج من أليس بيرسول سميث، وهي فتاة أمريكية من طائفة الكويكرز تكبره بخمس سنوات، كان قد التقاها وهام بها حبا على الفور في 1889، مع أنها لم تبادله المشاعر إلا بعد ذلك بأربع سنوات. ورأت عائلة راسل أنها غير مناسبة على الإطلاق، وأخبرته أنه يستحسن على أي حال من الأحوال ألا ينجب منها لأن بعض أفراد عائلته كانوا يعانون من الجنون، وبرهنوا على ذلك بالإشارة إلى كل من عمه ويليام، وكان مقيما في مصحة للمرضى العقليين، وعمته أجاثا، وكانت تنتابها تهيؤات وتزداد غرابة أطوارها كلما تقدمت في السن.
شكل 1-3: كانت أليس بيرسول سميث - وهي أمريكية من طائفة الكويكرز - أول حبيبة لراسل، التقى بها حين كان في السابعة عشرة من عمره، وتزوجها بعد ذلك بأربع سنوات في 1894.
1
Page inconnue
في محاولة لإبعاده عن أليس، اتخذت عائلة راسل ترتيبات لتعيينه ملحقا شرفيا في السفارة البريطانية في باريس. ومما لا شك فيه أنهم كانوا يأملون أن تلبي المغريات التي كانت تعج بها باريس في تسعينيات ذلك القرن الدوافع التي كانت تدفعه نحو الزواج. ولكن التربية البيوريتانية المتزمتة التي فرضتها عليه جدته كانت مؤثرة فيه إلى أقصى حد؛ وأحبطت تلك التربية الخطة، وذلك كما يتضح من الرسائل - وهي نماذج للتزمت - التي كان راسل يرسلها إلى عائلته ويشكو فيها من الحياة الباريسية؛ فجاء في رسالة كتبها: «في باريس وجدت الجميع يسلكون مسلكا بذيئا، وكلما تلفت المرء حوله يرى نماذج لتدنيس الحب، إنهم يجعلونني أرتجف اشمئزازا.» وما إن أصبح راسل يتحكم في أحواله المالية (كان يتلقى ميراثا طيبا قدره 600 جنيه إسترليني سنويا، وكانت عروسه ميسورة الحال أيضا) حتى تزوج من أليس، وفي البداية كانا سعيدين.
نال راسل بفضل أطروحته زمالة بحثية بمدة ثابتة في كلية ترينيتي دون أي واجبات مفروضة عليه؛ مما ترتب عليه أنه لم يكن مضطرا للتدريس في جامعة كامبريدج أو الإقامة فيها؛ ومن ثم سافر راسل مع أليس إلى برلين حيث درس الديمقراطية الاجتماعية الألمانية وألف كتابا عنها. كان هذا أول كتاب يؤلفه، وهو الأول بين كتبه وكتيباته الكثيرة إلى حد استثنائي؛ إذ بلغ عددها 71 كتابا وكتيبا (دون احتساب المقالات التي لا تحصى) نشرت إبان حياته. وأثناء وجوده في برلين، خطرت له فكرة إنشاء مشروع بحثي كبير، يضم خطين للبحث - أحدهما يتناول العلوم الطبيعية، والآخر يتناول المسائل الاجتماعية والسياسية - كان من المزمع أن يتضافرا في نهاية المطاف ليكونا «عملا موسوعيا هائلا». كان راسل لا يزال متأثرا آنذاك بالفلسفة الهيجلية، والتي كان مشروع كهذا يتوافق معها؛ ولكن الخطة صمدت أمام التغير الجذري الذي اعترى رأي راسل الفلسفي - وإن لم تتخذ شكلا منهجيا - إذ كتب راسل الكثير فعلا عن المسائل النظرية والتطبيقية من بين أعماله الكثيرة.
وبعد نشر كتاب «الديمقراطية الاجتماعية الألمانية» بعام، ظهرت النسخة المنشورة من أطروحة الزمالة التي أعدها، وعنوانها «مقال عن أسس الهندسة». ثم نشر راسل في عام 1900 كتاب «عرض نقدي لفلسفة لايبنتس». جاء تأليفه لهذا الكتاب بدافع صدفة، ولكنها كانت صدفة مهمة له؛ إذ كان لراسل زميل من كامبريدج ألقى عدة محاضرات عن لايبنتس، وطلب منه ذلك الزميل أن يحل محله لمدة عام واحد، فرحب راسل بالفكرة، مع أنه لم يحظ بفرصة لدراسة أعمال لايبنتس بالتفصيل. ونشأ الكتاب من المحاضرات التي كان يلقيها. كان راسل يختلف مع العقائد الأساسية لفلسفة لايبنتس، ومع ذلك ظلت جوانب منها مؤثرة في فكره.
إبان الفترة التي كان راسل يلقي خلالها محاضرات عن لايبنتس، أقنعه مور بالتخلي عن مذهب المثالية. وبعدئذ بمدة وجيزة اكتسب اهتمامه بفلسفة الرياضيات - وخصوصا بمسألة ما إذا كان من الممكن إضافة أسس منطقية للرياضيات - قوة دفع كبيرة بفضل لقائه مع عالم المنطق الإيطالي جيوسيبي بيانو في المؤتمر العالمي للفلسفة في باريس في يوليو عام 1900. كان بيانو قد أنجز تطورات فنية معينة في المنطق، وهو ما أوحى لراسل بطرق لتنفيذ الخطوة المرجوة، وهي إخضاع الرياضيات للمنطق. وأخذ يقرأ أعمال بيانو بنهم، ثم بدأ يحسن المناهج الواردة فيها ويوسعها ويطبقها. وفي فورة اهتمامه، وفي غضون بضعة أشهر فحسب، كتب مسودة كاملة للنقاط التي من المقرر أن تبرهن على أولى أطروحاته الكبرى؛ كتاب «مبادئ الرياضيات». وانشغل بالمراجعات والتحسينات لمدة عام آخر، ثم نشر الكتاب في عام 1903. وحين كتب راسل تمهيدا لطبعة جديدة في عام 1937، ذكر أنه ظل مقتنعا بصحة الفرضية الأساسية للكتاب؛ وهي «أن الرياضيات والمنطق متطابقان».
إن النشوة الفكرية التي شعر بها راسل في عام 1900 لم تعاوده بعدها قط؛ وذلك لأن الأحداث التي وقعت في حياته الشخصية أثناء السنوات اللاحقة ألقت بسحب سوداء على عمله؛ إذ اكتشف أنه فقد حبه لزوجته، وأخبرها بذلك. كتب فيما بعد: «كنت أرى في تلك الفترة (لست واثقا من ماهية التجربة التي علمتني أن أفكر بهذه الطريقة) أن المرء يجب أن يصرح بالحقيقة في العلاقات العاطفية.» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص151). وتسبب ذلك في بؤس جارف لكل منهما في غضون السنوات التسع اللاحقة التي عاشا فيها تحت سقف واحد. وفي الوقت نفسه تقريبا كانت تعتمل ثورة في حياته العاطفية حين شهد معاناة المرض التي تعرضت لها إيفيلين وايتهيد زوجة معلمه السابق ألفريد نورث وايتهيد؛ فحين رآها في العزلة الشديدة التي يكابدها من يعاني الجزع، تغيرت نظرته للعالم فجأة؛ وكانت تلك هي اللحظة التي أخذ يؤرخ منها لاحقا بدء مناهضته للحروب وتوقه للأطفال، وبدايات ارتفاع إحساس مرهف من حيث تذوق الجمال، وظهور إحساس عميق بأن كلا منا قدره أن يكون وحيدا في نهاية المطاف . وقد أورد في سيرته الذاتية وصفا مؤثرا لتلك التجربة.
وعلى صعيد عمله في مجال الرياضيات - الذي كان من الممكن أن يمنحه السلوى - حدث تغير جذري خطير مشابه، وهو أن راسل اكتشف تناقضا في صلب المشروع الذي كان يحاول تنفيذه. يأتي وصف للتناقض وأهميته في المكان المناسب في الفصل
الثاني
أدناه. وبسبب تأثير ذلك التغير توقف عمل راسل لمدة تزيد على عامين، كان يحدق خلالها في صفحة بيضاء وهو لا يدري كيف يبدأ. وفي هذه الفترة كان منشغلا بكتاب «أصول الرياضيات»، وهو كتاب ألفه بقصد أن يكون جزءا ثانيا لكتاب «مبادئ الرياضيات». وكان من المقرر أن يحتوي هذا الجزء الثاني المفترض على التفاصيل الفنية للأفكار الواردة باختصار في كتاب «مبادئ الرياضيات»، إضافة إلى معالجة أشمل لعدد من الصعوبات التي لم يتناولها الكتاب الأول؛ ولكن سرعان ما اتضح أن راسل يحتاج لما هو أكثر من ذلك لإنجاز هدف المشروع، وهو «إثبات أن كل الرياضيات البحتة تنبع من مقدمات منطقية بحتة ولا تستخدم إلا المفاهيم القابلة للشرح بالحدود المنطقية» (تطوري الفلسفي، ص57). ولذلك طلب راسل تعاون وايتهيد معه في الكتاب، ومنذ ذلك الحين وحتى عام 1910 كرس راسل جل طاقاته الذهنية لإنتاج هذا العمل البارز. كان راسل مسئولا عن الجوانب الفلسفية للكتاب وصياغته الفعلية انطلاقا من المادة الفنية؛ وقدم وايتهيد إسهامات مهمة من حيث استخدام مجموعات الرموز، وأسهم بقدر كبير في استنباط البراهين، وذلك من بين نواح أخرى.
يروي راسل أنه كان يعمل في كتاب «أصول الرياضيات» لمدة ثمانية أشهر كل عام، بمعدل يتراوح بين عشر ساعات واثنتي عشرة ساعة يوميا. وعند تسليم المخطوطة أخيرا لمطبعة جامعة كامبريدج كانت هائلة الحجم، حتى إنه كان لا بد من نقلها إلى هناك على عربة حصان بأربع عجلات. واحتسب موظفو المطبعة أن الكتاب سينزل بهم خسارة قدرها 600 جنيه إسترليني، وقالوا إنهم مستعدون لتحمل نصف ذلك المبلغ فقط. فأقنع راسل ووايتهيد الجمعية الملكية بمساعدتهما بالتصويت لصالح منحة مقدارها 200 جنيه إسترليني، ولكن كان لا بد من دفع المبلغ المتبقي من جيبيهما. وهكذا، كانت المكافأة المالية التي عادت عليهما بعد سنوات من العمل في هذا المشروع الهائل هي تكبد خسارة قدرها 50 جنيها إسترلينيا لكل منهما.
ولكن المكافآت الحقيقية كانت عظيمة؛ ففي أثناء إنجاز هذا الكتاب، وانطلاقا منه، نشر راسل بعض الأبحاث الفلسفية المهمة للغاية. وانتخب زميلا للجمعية الملكية وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، وكان ذلك أمرا استثنائيا. ورسخ مكانته في تاريخ المنطق والفلسفة. وتحقق الكثير مما باشره وأنجزه راسل فيما بعد في مجالات أنشطته الكثيرة بفضل نيله للمنزلة الرفيعة التي منحه إياها تأليفه لكتاب «أصول الرياضيات».
Page inconnue
لم يستسلم راسل للخمول في المناحي الأخرى إبان سنوات الكدح الفكري هذه؛ إذ ظل اهتمامه بالسياسة نشطا؛ فكان يدافع عن حرية التجارة، ورشح نفسه للبرلمان متبنيا قضية منح حق التصويت للنساء في الانتخابات الفرعية في دائرة ويمبلدون لعام 1907. وكانت قضية منح حق التصويت للنساء قضية لا تحظى بقبول على الإطلاق، وكان المدافعون عنها يتعرضون للإساءة بل والعنف بصفة دائمة. وكان من الممكن أن يدخل راسل البرلمان في آخر الأمر لو لم يقف إلحاده في طريق ذلك؛ إذ كان في سبيله إلى الترشح عن دائرة بدفورد في انتخابات عام 1911، ولكن حال دون ذلك معرفة منظمي حملته الانتخابية بأنه يرفض إخفاء إلحاده عن الناخبين، وأنه يرفض التوجه إلى الكنيسة؛ ومن ثم اختاروا مرشحا آخر.
ولكن سنحت فرصة تناسبه أكثر بكثير بعد ذلك؛ إذ عينته كلية ترينيتي في وظيفة محاضر لمدة خمس سنوات؛ فسلك راسل حياة المحاضر، ووجه انتباهه إلى تأليف كتاب صغير أصبح من الكتب المرموقة، وهو كتاب «مشكلات الفلسفة»، ويظل هذا الكتاب حتى اليوم من أفضل المقدمات القصيرة إلى هذا الموضوع.
كانت العلاقات العاطفية من النتائج غير المتوقعة لأنشطة راسل السياسية؛ ففي عام 1910 وأثناء إقامته بالقرب من جامعة أكسفورد، كان يساعد في حشد تأييد الناخبين للمرشح المحلي فيليب موريل، وكانت زوجة موريل الليدي أوتولين موريل من معارف راسل في طفولته. وتطورت علاقتهما على مر العام التالي، وتحولت إلى علاقة غرامية. كان راسل يتمنى الزواج منها ، وهو ما كان يستلزم طلاقه من أليس وطلاق أوتولين من فيليب. ولكن أوتولين لم تكن ترغب في ترك فيليب؛ ولذا ظلت علاقتهما علاقة زنا، وتقبل فيليب علاقتهما، ولكن العلاقة لاقت معارضة شديدة من أليس وأسرتها. انفصل راسل وأليس في أوائل عشرينيات القرن العشرين، مع أنهما كانا منذ وقت سابق على هذا في حكم المطلقين، ولم يلتقيا ثانية طوال 40 عاما.
كانت أوتولين مناسبة لراسل قطعا. وكتب عنها راسل: «كانت تضحك علي حين كنت أتصرف كمحاضر جامعي أو متزمت، وحين كنت أستبد برأيي في الحديث. وشفتني تدريجيا من الاعتقاد بأنني أفيض بفجور شنيع لا يمكن كبحه إلا بقبضة حديدية من ضبط النفس. وساعدتني على أن أقلل من أنانيتي واعتدادي بنفسي وبآرائي» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص214).
شكل 1-4: الليدي أوتولين موريل (1873-1938)، رسمها أغسطس جون عام 1926؛ لوحة زيتية على قماش.
3
وهكذا وفرت له إشباعا لدوافع تذوق الجمال لديه، سواء بذاتها أو بالجمال البديع لكل ما يحيط بها. كان راسل يبلغ حينئذ نحو 40 عاما؛ أي إنها كانت صحوة متأخرة ولكنها عميقة الأثر.
وفي عام 1914 زار راسل الولايات المتحدة، وألقى محاضرات في جامعة هارفرد، وذلك من بين أماكن أخرى. ونشرت محاضراته فيما بعد في كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي». وكان تي إس إليوت من بين تلاميذه في جامعة هارفرد، وكتب إليوت قصيدة عنه بعنوان «السيد أبوليناكس»، وصوره فيها على أنه كائن أسطوري غريب بل ومفزع، قد يتدحرج رأسه المزين بأعشاب البحر فجأة تحت مقعد أو يقفز وهو يبتسم فوق حجاب مصباح؛ صوره على أنه يضحك - حسبما يقول إليوت: «مثل جنين مستهتر.» ومع ذلك فإن «حديثه القوي الحماسي» يستهلك كل فترة بعد الظهيرة، مذكرا إليوت بوقع حوافر وحش القنطور الخرافي فوق أرض صلبة. ترك لقاء إليوت براسل انطباعا قويا عليه؛ أما عن غيره من الحاضرين، فلم يتذكر إلا أنهم كانوا يأكلون شطائر الخيار.
أثناء زيارة راسل لشيكاجو أحب ابنة مضيفه - ولا يرد اسمها في السيرة الذاتية - وكانت آنذاك طالبة في كلية برين مور. وأعدا العدة كي تلحق به في إنجلترا حتى يتمكنا من الزواج بعد أن يطلق أليس. وقد سافرت الفتاة فعلا، ولكن الحرب العالمية الأولى كانت قد اندلعت في ذلك الحين؛ مما أصاب راسل بصدمة نفسية، لكن مشاركته الحماسية في الأنشطة المناهضة للحرب أدت إلى محو مشاعره تجاهها. وتفاقمت كارثة زيارتها إليه بإصابتها بالجنون. ويسرد راسل في سيرته الذاتية هذه القصة القصيرة المحزنة بندم ملؤه الألم.
شكل 1-5: كتب تي إس إليوت (1888-1965) - أحد طلاب راسل في جامعة هارفرد - قصيدة عنه بعنوان «السيد أبوليناكس»، ويظهر فيها كمخلوق أسطوري رأسه مزين بالأعشاب البحرية وله حوافر قنطور.
Page inconnue
4
كان رد فعل راسل على اندلاع الحرب معقدا؛ إذ كانت سنه كبيرة؛ فلم يكن من الممكن أن يصبح محاربا؛ لذلك لم يكن قط في موقف الرافض للخدمة العسكرية لأسباب أخلاقية. (ترك عدد من معارفه ممن اتخذوا هذا الموقف - مثل ليتون ستارشي - واجباتهم الزراعية الإجبارية وراحوا يمضون وقتهم في عزبة أوتولين في جارسينجتون.) وشأنه شأن الكثير من المثقفين الذين عاصروا عهد الملك إدوارد، كان راسل يكن ضعفا تجاه ألمانيا والثقافة الألمانية. كان يتحدث الألمانية بطلاقة، وكان يقرأ الكتب الألمانية بحكم الطبع، وسبق له أن أقام هناك وكتب عن السياسة الألمانية. ولكنه كان أيضا وطنيا متحمسا؛ إذ كتب ذات مرة أن «حب إنجلترا يكاد يكون أقوى عاطفة أمتلكها.» ولم يكن كذلك من مناهضي الحروب مناهضة مطلقة؛ إذ إنه أيد الحرب ضد النازية أشد التأييد بعد ذلك بربع قرن. وكان يرى أن اندلاع الحرب في عام 1914 لم يكن بدافع مبدأ معين، وأن الحرب لم تكن تبشر بأي فوائد، بل إن حماقة السياسيين هي التي تسببت فيها، وإنها تهدد بالزج بالحضارة في فوضى عارمة تضيع فيها حياة الشباب سدى. وكتب في رسالة موجهة إلى الأمة عقب اندلاع القتال: «كل هذا الجنون وكل هذا الغضب وكل هذا الموت المشتعل الذي أصاب حضارتنا وآمالنا، تسببت فيه مجموعة من المسئولين الرسميين الذين يعيشون حياة مرفهة، ومعظمهم أغبياء، وكلهم مجردون من سعة الخيال والعاطفة، واختاروا أن تندلع الحرب بدلا من أن يتحمل أي منهم أي انتقاص ولو بسيطا من كرامة بلاده.»
كانت بصيرة راسل بشأن الحرب ثاقبة في ذلك الوقت، تماما مثلما كانت حيال حرب فيتنام التي اندلعت بعد ذلك بنصف قرن. لم تكن المجازر الفظيعة التي راح ضحيتها الجنود في الخنادق قد بدأت بعد، ومع ذلك رأى راسل أنها محتومة، وأن عواقبها بشعة على المدى الطويل. لم يستطع سوى القليلين حينئذ أن يتنبئوا بأن هناك عملية عسكرية قد بدأت ومقدر لها أن تستدرج معظم العالم في حرب فعلية أو كامنة لبقية القرن، وسينتج عنها سقوط عشرات الملايين من الضحايا، وتوجيه الموارد الهائلة توجيها خاطئا إلى تطوير التكنولوجيا العسكرية، كل خطوة جديدة في تطويرها أخطر وأشد فتكا من التي تسبقها. لم يستطع راسل بالطبع أن يتنبأ في عام 1914 بالبلشفية والنازية والمحرقة النازية (الهولوكوست)، والأسلحة النووية والحرب الباردة، والنزعة القومية التي زادت من غلوائها تجارة الأسلحة العالمية، والأصولية التي حفزتها الفجوة المسببة للغيرة القائمة بين الدول الغنية والفقيرة. ولكن كان لديه حس يقظ أوحى له بأن اندلاع الحرب معناه أن الأبواب انفتحت على مصاريعها لكارثة من نوع ما؛ وأتت عقود طويلة من الكوارث كما توقع تماما.
روعه أيضا الدعم الشعبي للحرب في البلدان المشاركة في الحرب، وما اتسمت به من طابع «البربرية البدائية» وإطلاق العنان «لغرائز الكراهية والتعطش للدماء»، وهي العناصر نفسها - كما أشار هو - التي جبلت الحضارة على مناهضتها. وكان أسوأ ما في الأمر هو ظهور هذه الانفعالات نفسها على غالبية أصدقائه ومعارفه. لم يستطع راسل الوقوف مكتوف الأيدي؛ فطوال سنوات الحرب كان يكتب مقالات ويلقي خطبا، يؤيد فيها المعارضة المنظمة للحرب في صورة اتحاد القيادة الديمقراطية وجماعة لا للتجنيد. وفي بداية الحرب أخذ يؤدي أنشطة خيرية فيما بين الألمان المقيمين في إنجلترا ممن أصبحوا معوزين بعد أن تقطعت بهم السبل عن بلادهم. ولم تستمر الحاجة إلى أداء هذه الأنشطة الخيرية طويلا؛ نظرا لأن مواطني البلدان المعادية سرعان ما جرى اعتقالهم ووضعهم رهن الإقامة الجبرية.
كان قائد جماعة لا للتجنيد شابا يدعى كليفورد ألين (وأصبح فيما بعد اللورد ألين أوف هيرتوود)، وكان قد سجن أكثر من مرة لرفضه التخلي عن نشاطه في مجال مناهضة الحرب. وفي إحدى محاكمات ألين، التقى راسل بالليدي كونستانس ماليسون، وهي ممثلة كان اسم شهرتها هو كوليت أونيل، وكانت تشارك في النشاط المناهض للحرب هي الأخرى، وكانت تقضي أمسياتها في المسرح وتقضي ساعات النهار في ملء المظاريف في مكاتب الجماعة. أصبح الاثنان عشيقين؛ إذ وجد راسل في هدوئها ملاذا يهرب إليه من قسوة الصراع إبان زمن الحرب.
وقع راسل عدة مرات تحت طائلة القانون لنشاطه المناهض للحرب؛ ففي عام 1916 رفعت عليه دعوى قضائية بسبب مقال كتبه، وحكم عليه بدفع غرامة قدرها 100 جنيه إسترليني. ولكنه رفض الدفع؛ فقضت المحكمة بالحجز على متعلقاته، ولكن أصدقاءه كانوا كرماء فاشتروها وأعادوها إليه؛ مما أبطل تأثير الموقف الذي اتخذه. وبعدئذ منع من دخول أي منطقة عسكرية في بريطانيا، وخصوصا أي منطقة ساحلية (وافترض هو ساخرا أن السبب في ذلك هو منعه من إرسال إشارات للغواصات المعادية). ورفضت السلطات منحه جواز سفر حين حاول السفر إلى أمريكا في عام 1916. وفي عام 1918 سجن لمدة ستة أشهر بسبب مقال كتب فيه أن القوات الأمريكية القادمة إلى أوروبا قد تستخدم في فض الإضرابات، وهي مهمة سبق أن نفذتها القوات الأمريكية في بلادها. وبفضل علاقاته الاجتماعية (أقر متهكما أنه من المفيد أن يكون المرء أخا لإيرل) وضعوه في الشعبة الأولى من السجن؛ أي إنه كان يقيم في زنزانة مخصصة له وحده، وكان يسمح له بالاحتفاظ بكتب؛ ومن ثم كان يقرأ ويكتب، وأنتج كتابا واحدا - «مدخل للفلسفة الرياضية» - وبدايات كتاب آخر - «تحليل العقل» - إضافة إلى عدد من العروض النقدية والمقالات. وأطلق سراحه في سبتمبر من عام 1918، وذلك حين أصبح من الواضح أن الحرب شارفت على أن تضع أوزارها.
تسببت أول معركة قصيرة خاضها راسل مع القانون في إنزال عقوبة إضافية به. كان كل المحاضرين الشباب في كلية ترينيتي قد ذهبوا للمشاركة في الحرب؛ فتولى مسئولية شئون الكلية حفنة من الرجال الأكبر سنا. وكان هؤلاء يشعرون بعداء شديد تجاه نشاط راسل المتعلق بالحرب. وحين علموا بإدانته، أجروا تصويتا لحرمانه من منصبه كمحاضر. وشعر عالم الرياضيات جي إتش هاردي بالاستياء من معاملة راسل بهذه الطريقة؛ فكتب فيما بعد سردا لما حدث. وحين عاد المحاضرون الشباب بعد أن وضعت الحرب أوزارها، أجروا تصويتا لإعادة راسل إلى منصبه، ولكن بحلول ذلك الوقت كانت اهتمامات راسل توجهه إلى خارج البلاد.
من بين التغيرات الجمة التي انتابت راسل بسبب الحرب اتساع مدى نشاطه الأدبي؛ فقد أنتج كتابين غير فلسفيين إبان هذه السنوات، وهما: كتاب «أسس لإعادة البناء الاجتماعي» (وكان عنوانه في الولايات المتحدة «لماذا يحارب البشر؟») ونشر في عام 1916، وكتاب «الطريق إلى الحرية»، ونشر في عام 1918، وكان هذان الكتابان باكورة كتبه الأخرى الرائجة التي تتناول مسائل اجتماعية وسياسية وأخلاقية. كان راسل يلقي محتويات كتاب «مبادئ إعادة الإعمار الاجتماعي» كسلسلة من المحاضرات في عام 1916، وفي تلك الأثناء التقى راسل بدي إتش لورانس وبدأ معه في ما كان يفترض أن يصبح مشروع تأليف كتاب مشترك، ولكن سرعان ما أصبح أسلوب لورانس عدائيا. في البداية انزعج راسل انزعاجا شديدا من اتهامات لورانس الموجهة إليه بأن نشاطه المناهض للحرب كان قناعا يخفي مشاعر عنيفة من كراهية البشر؛ لأنه كان يظن أن لورانس كان يتمتع بفهم عميق للطبيعة البشرية، ولكن رسائل لورانس ذات اللهجة المسعورة واللاذعة، والتي أخذت تتزايد حدتها، جعلت راسل يكتشف ميول لورانس السياسية الفاشية وعبادته للفلسفة اللاعقلانية، وانقطعت الصلة بينهما.
حين كان راسل في السجن في عام 1918، عكف - كما ذكرت - على تأليف كتابين فلسفيين. ولكن عودته إلى الفلسفة كانت قد بدأت قبل ذلك؛ إذ إنه ألقى سلسلة من المحاضرات في الشهور الأولى من عام 1918 بعنوان «فلسفة مذهب الذرية المنطقية»، ونشرت بعد ذلك بمدة قصيرة في أعداد متعاقبة من دورية اسمها ذا مونيست. وبكرمه المفرط المعروف عنه، نسب راسل أفكاره للودفيج فيتجنشتاين، الذي تتلمذ على يديه لمدة قصيرة في كامبريدج قبل الحرب. في الواقع، فإن معظم الأفكار الواردة في محاضرات راسل كانت واضحة في الأعمال التي أنتجها قبل أن يلتقي بفيتجنشتاين بمدة طويلة؛ ولكن كما نلاحظ من كتاب فيتجنشتاين «دراسة منطقية فلسفية» - وهو كتاب ألفه فيتجنشتاين حين كان مجندا على الجبهة في الجيش النمساوي - فإن الاثنين قد ناقشا هذه الأفكار بشيء من الاستفاضة قبل الحرب. تلقى راسل رسالة من فيتجنشتاين من محبسه في معسكر للأسرى في إيطاليا، يطلعه فيها على كتابه «دراسة منطقية فلسفية». وبعد أن أطلق الإيطاليون سراح فيتجنشتاين، حاول أن ينشر كتابه، ولكنه فشل في ذلك؛ لذا قدم راسل له المساعدة، وأقنع أحد الناشرين بنشر الكتاب بعد أن اتفق معه على كتابة مقدمة له. قدم راسل مساعدات مهمة إلى فيتجنشتاين عدة مرات - ومن أهمها تدبير حصوله على زمالة بحثية في كلية ترينيتي بعد ذلك بعشر سنوات - ومع ذلك انقطعت الصلة بين الرجلين بسبب خلافات مزاجية وفلسفية شديدة.
وقع راسل في الحب مرة أخرى، وكانت من أحبها هذه المرة شابة تخرجت في كلية جيرتون تدعى دورا بلاك. وفي عام 1920 زار كل منهما الاتحاد السوفييتي وحده، وعادت دورا من الاتحاد السوفييتي وهي متحمسة له، فيما عاد راسل وهو يشعر بالعداء حياله. ألف راسل كتابا لاذعا عن البلاشفة، وتشاجر هو ودورا بسببه. ولكن ذلك لم يمنعهما من السفر معا إلى الصين في عام 1921؛ إذ تلقى راسل دعوة لقضاء عام هناك كأستاذ زائر في بكين.
Page inconnue
شكل 1-6: كانت دورا بلاك (1894-1986) شابة متخرجة في كلية جيرتون. التقت براسل في عام 1916، وأحب كل منهما الآخر، ولكن دورا لم تقبل عرضه بالزواج إلا في سبتمبر عام 1921. وأنجبا طفلين، هما جون راسل وكاثرين راسل.
1
أحب راسل الصين، شأنه في ذلك شأن الكثيرين ممن يقضون أي مدة في الصين. وشأنه شأن أغلب هؤلاء الكثيرين، كان يميل إلى إضفاء طابع شاعري على الصينيين أنفسهم. وأشاد بحس الفكاهة الذي يتمتعون به وبحكمتهم وقدرتهم على الاستمتاع بكل ما هو جميل وحبهم الشديد التحضر للثقافة والعلم. ولكنه على نحو ما لم يدرك مدى قسوة حياة غالبية الناس في ذلك البلد الكبير، ولا كيف كانت التقاليد العتيقة تقهر الصين وتعيقها. وأثناء إقامته هناك رفض أن ينصب نفسه كناصح للكثيرين الذين طلبوا نصحه بشأن طريقة حياتهم وتفكيرهم، وعن الكيفية التي يتسنى بها للصين الخروج من فقرها والاضطراب الإقطاعي الذي كانت تعاني منه. كان الفيلسوف الأمريكي جون ديوي يزور الصين في الوقت نفسه، ولم يتردد أن يتحدث في كل هذه الموضوعات؛ مما نتج عنه أن ذكراه لا تزال ذات تأثير أقوى من ذكرى راسل. إن ميراث الحكماء شديد القوة في الصين؛ ومن ثم ضاعت من راسل فرصة لإفادة هذا البلد. ألف راسل كتابا يعرض فيه آراءه عن الصين ومستقبلها، بيد أن هذا الكتاب الذي نشر في وقت لاحق في بلد بعيد عن الصين مثل إنجلترا لم يصلح بديلا عن النبوءات التي كان ضيوفه يأملون أن يسمعوها منه. بدلا من ذلك، ألقى عليهم راسل محاضرات عن المنطق الرياضي.
وقرب نهاية إقامة راسل في بكين، مرض مرضا شديدا؛ إذ أصيب بنزلة شعبية وكاد يموت. وبسبب التحمس الزائد لبعض الصحفيين اليابانيين أعلن خبر وفاة راسل؛ وهكذا أتيح له أن يقرأ نعيه بنفسه، وقرأ أيضا نعيا من سطر واحد ظهر في دورية تبشيرية أضحكه بصفة خاصة، وكان يقول: «ها قد سنحت الفرصة للبعثات التبشيرية ليتنفسوا الصعداء لسماع خبر وفاة السيد برتراند راسل.»
كانت أليس قد وافقت أخيرا على الطلاق؛ لذا تزوج راسل ودورا في سبتمبر عام 1921 عند عودتهما إلى إنجلترا، وسرعان ما رزقا بعدئذ بمدة وجيزة بابنهما الأول جون كونراد، ورزقا بعد ذلك بسنتين بابنة أطلقا عليها كيت. ترشح راسل مرتين لعضوية البرلمان كمرشح عن حزب العمال في منطقة تشيلسي، وذلك في عامي 1922 و1923، ولكنه لم يفز. كان ينوء تحت إلحاح المسئوليات الأسرية؛ وكان بحاجة إلى كسب رزقه؛ مما دفعه إلى التخلي مرة أخرى عن فكرة المشاركة السياسية البرلمانية، والانكباب على الكتابة والتدريس في الجامعة. وكانت أكثر أوساط التدريس الجامعي ربحا موجودة في الولايات المتحدة، فزارها أربع مرات خلال العشرينيات من القرن العشرين. وكان من بين الكتب الرائجة التي نشرها كتب «ألف باء النسبية » و«ألف باء الذرات» و«ما أومن به» و«عن التربية» و«مقالات متشككة» و«الزواج والأخلاق» و«الفوز بالسعادة». وحققت بعض هذه الكتب نجاحا ماليا، وتسبب بعضها في التشهير به، وكان ذلك غالبا بسبب ما تحتويه من آراء ليبرالية عن الأخلاقيات الجنسية. لم يهمل راسل الفلسفة أيضا؛ إذ ظهر كتابه «تحليل العقل» - الذي بدأ تأليفه وهو في السجن - في عام 1921؛ وقد وجهت إليه الدعوة لإلقاء «محاضرات تارنر» في كامبريدج عام 1925، ونشرت في عام 1927 بعنوان «تحليل المادة». وأنتج كذلك كتابا دراسيا تمهيديا بعنوان «موجز للفلسفة».
أشبع مجيء الأطفال توقا طالما كان يراود راسل. أمده طفلاه ب «محور عاطفي جديد» استغرقه في الاهتمامات الأبوية لبقية عقد العشرينيات من القرن العشرين. اشترى بيتا في كورنوول حتى تقضي فيه الأسرة العطلات الصيفية، وحين بلغ جون وكيت سن المدرسة، قرر راسل ودورا إنشاء مدرسة تخصهما حتى يتعلم الأطفال على النحو الأفضل من وجهة نظرهما. واستأجرا القصر الريفي الذي يملكه أخو راسل في التلال الجنوبية، وأسسا مدرسة يرتادها 20 طفلا كلهم في السن نفسها تقريبا. كان القصر كبيرا، ويقع على مساحة 200 فدان من أراضي الغابات البكر، والتي تعج بأشجار الزان وأشجار الصنوبر، وكانت تجوبها كائنات من مختلف أشكال الحياة البرية، بما فيها الغزلان. وكان المنظر من القصر نفسه جميلا.
ومع كل هذه المثاليات والموقع الريفي الساحر الذي تتمتع به المدرسة، فشلت التجربة في النهاية؛ إذ لم تتمكن المدرسة قط من تغطية تكاليفها، وكان الهدف الذي يسعى إليه راسل من تأليف الكتب والمقالات الصحفية الرائجة، والسفر عبر المحيط الأطلنطي ذهابا وعودة في جولات لإلقاء محاضرات - مع أنه كان يكره الرحلات البحرية - هو دعم المدرسة في المقام الأول. قامت دورا أيضا بجولة لإلقاء محاضرات في أمريكا، ولكن مسئوليتها الأساسية كانت إدارة المدرسة. واتضح أنه من بين الصعوبات التي واجهت المدرسة طاقم موظفي المدرسة؛ إذ لم يعثر راسل ودورا على معلمين يمكنهم تطبيق مبادئهما باستمرار، وكانت تلك المبادئ تشمل السماح بالحرية التي يحكمها الانضباط؛ إذ لم تكن مدرسة راسل مكانا فوضويا للصغار، وذلك بالرغم من ادعاءات كانت تقول عكس ذلك؛ وكتب راسل فيما بعد: «السماح للأطفال بالانطلاق من شأنه أن يفسح المجال لمكان يسوده العنف، يرعب فيه الأقوياء الضعفاء؛ فأي مدرسة هي أشبه بالدنيا؛ لا يمنع العنف الوحشي فيها إلا وجود حكومة.»
ومن الصعوبات الأخرى أن المدرسة كانت تجتذب نسبة مرتفعة من الأطفال المشاغبين، الذين حاول أولياء أمورهم إرسالهم إلى مدارس أخرى، ولكن اضطروا في النهاية إلى تجربة المدارس التجريبية. ولما كان راسل وزوجته بحاجة إلى المال، قبلوا هؤلاء الأطفال، ولكنهما اكتشفا أن وجودهم تسبب في صعوبة شديدة في إدارة المدرسة.
ومع ذلك كان أسوأ ما في الأمر هو تأثير ذلك على أطفال راسل. كان التلاميذ الآخرون يظنون أن طفليه يتلقيان معاملة تفضيلية دون وجه حق لأن والديهما يديران المدرسة، ولكن راسل ودورا حاولا أن يعاملاهما على قدم المساواة مع الآخرين، في محاولة منهما ليكونا عادلين، وتسبب ذلك في حرمان جون وكيت من والديهما في واقع الأمر، وكم تألما لذلك. وعلى حد وصف راسل، فإن أول فرحة في حياة الأسرة «تبددت وحل محلها الإحراج» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص390).
في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى سادت العالم آمال معقودة على التعليم كطريقة لتغيير وجه العالم؛ ففي النمسا، على سبيل المثال، حيث كان لسقوط الإمبراطورية النمساوية المجرية تأثير مدمر، امتهن الكثير من المثقفين الشباب التدريس في المدارس أملا في بناء البشر من جديد. وكان كارل بوبر ولودفيج فيتجنشتاين من بينهم. كان راسل منتميا إلى هذا الاتجاه بطريقة غير مباشرة. ولكن التفاصيل الواقعية للتدريس ومدى تعقيد الطبيعة البشرية سرعان ما جعلت معظمهم يفيق من وهمه، وتخلوا عن مهنة التدريس.
Page inconnue
وفي عام 1931 توفي شقيق راسل - فرانك - فجأة، وورث راسل عنه لقب إيرل، وورث أيضا ديون أخيه والتزاما يقضي بأن يدفع 400 جنيه إسترليني سنويا كنفقة لثاني زوجات أخيه الثلاث السابقات. كان موقفه من لقب إيرل ساخرا بعض الشيء، ولكنه لم يكن يمانع في استغلاله بعدة طرق، كان أهمها استغلال ما منحته إياه من حق الدخول تلقائيا إلى منابر دوائر أهل الحل والعقد؛ فهناك كان من الممكن لآرائه المستقلة التي تنتقد الأفكار والمعتقدات الراسخة السائدة أن يكون لها أكبر الأثر. ولكنه لم يكن يكثر من حضور جلسات مجلس اللوردات، وكان يكن شيئا من الاحتقار للنظام الطبقي البريطاني.
وفي هذا التوقيت تقريبا كان زواج راسل ينوء تحت وطأة التوتر بسبب المدرسة والعلاقات الغرامية المتعددة التي كان كلا الزوجين ينغمسان فيها. ولم يكن راسل يعارض في أن يكون لدورا علاقات غرامية، ولكنه لم يكن يرغب في أن يكون مسئولا عن أي أطفال يأتون ثمرة لتلك العلاقات. حملت دورا بطفلة من عشيق أمريكي، وسجلت الطفلة في البداية باعتبارها ابنة راسل؛ ولكنه حين وجدها فيما بعد مسجلة باسمه في كتاب ديبريتس الذي يشتمل على أسماء النبلاء، اتخذ إجراءات قانونية لشطب اسمها من الكتاب. كان راسل إذن يملك دوافع تتعلق بالحفاظ على نقاء السلالة.
وفي أعقاب ما حل براسل من نكبات بسبب المدرسة وانفصاله عن دورا، فضلا عن الأعباء المالية الإضافية التي ورثها عن أخيه، كان راسل لا يزال بحاجة إلى كسب عيشه من نتاج قلمه. انتهت علاقة العمل المجزية التي جمعت راسل بصحف هيرست في أمريكا - وكان راسل يكتب عمودا فيها - في أوائل ذلك العقد؛ ولذا اضطر إلى تكريس كل طاقته لتأليف الكتب. وفي عام 1932 نشر كتاب «الاستشراف العلمي»، وفي عام 1934 نشر كتابا من أفضل كتبه، وهو يتناول التاريخ السياسي، وهو بعنوان «الحرية والتنظيم 1814-1914». ونشر في عام 1935 كتاب «في مديح الكسل»، وفي عام 1936 كتاب «أين الطريق إلى السلام؟» وفي هذا الكتاب أعاد التأكيد على اتجاهه المناهض للحرب مع بعض التحفظات والتزامه بفكرة الحكومة العالمية. ولكن بحلول توقيت نشر هذا الكتاب كان قد أدرك من قبل ضرورة وجود تحفظات أكبر على حركة مناهضة الحرب، وخصوصا - كما تبين من الأحداث التي شهدتها ألمانيا على مدى العامين أو ثلاثة الأعوام السابقة - في مواجهة خطر رأى أنه «منفر للغاية» مثل النازية. وبحلول وقت اندلاع الحرب العالمية الثانية كان قد قرر أن مقاومة هتلر يجب أن تكون بلا تحفظات.
في عام 1937 نشر راسل كتاب «أوراق أمبيرلي»، وهو سيرة لحياة والديه يتألف من ثلاثة أجزاء. كان يرى أن هذا العمل «مريح»؛ لأنه كان معجبا بالآراء الجريئة التي كان يعتنقها والداه وكان متفقا معها تماما، وكان يشعر بالحنين إلى العالم الرحب والمفعم بالأمل - هكذا كان يبدو لراسل - الذي كانا يناضلان فيه دفاعا عن آرائهما. كانت تعاون راسل في هذا الكتاب وفي كتاب «الحرية والتنظيم 1814-1914» امرأة شابة - كانت تعمل معلمة في مدرسته سابقا، ثم أصبحت عشيقته، ثم زوجته الثالثة في عام 1936 - تدعى باتريشا سبينس (وكانت تدعى عادة «بيتر»). وفي عام 1937 رزقا بابن، سمياه كونراد. وانتقلا إلى منزل بالقرب من جامعة أكسفورد حيث كان راسل يدرس مقررا من المحاضرات ويعقد مناقشات مع مجموعة من الفلاسفة الشباب، من بينهم إيه جيه آير. ثم نشر كتاب «القوة، تحليل اجتماعي جديد» في عام 1938، وتحولت محاضراته التي ألقاها في جامعة أكسفورد - التي كانت بعنوان «كلمات وحقائق» في البداية - إلى كتابه الفلسفي التالي، بعنوان «ما وراء المعنى والحقيقة»، ونشر عام 1940.
عام 1938 سافر راسل مع زوجته بيتر وكونراد إلى أمريكا لتسلم منصب أستاذ زائر في جامعة شيكاجو. وعقد مناقشات منشطة هناك مع طلاب وزملاء أذكياء - كان من بين الزملاء رودولف كارناب - ولكنه لم يكن على وفاق مع رئيس قسم الفلسفة، وكان يكره شيكاجو، ووصفها بأنها «مدينة بغيضة ذات طقس سيئ.» وفي أواخر العام انتقلت أسرة راسل إلى كاليفورنيا؛ حيث وجد طقسها ألطف بكثير. كان راسل يدرس في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. وفي صيف عام 1939 جاء جون وكيت لقضاء عطلة في كاليفورنيا، ولكن اندلاع الحرب حال دون عودتهما إلى إنجلترا؛ لذلك أدخلهما راسل في جامعة كاليفورنيا.
وبرغم الطقس المشرق في كاليفورنيا، كان راسل يشعر بقدر أقل من الرضا في جامعة كاليفورنيا عما كان عليه شعوره في شيكاجو؛ لأن الموظفين والطلاب لم يكونوا مؤهلين، وكان رئيس الجامعة سيئ الطبع إلى حد كبير من وجهة نظر راسل ؛ ولذلك، بعد عام واحد، قبل عرضا لشغل منصب أستاذ في كلية سيتي كوليدج أوف نيويورك. ولكن قبل أن يتمكن من تسلم منصبه، ثارت حوله فضيحة بسبب الإلحاد والفجور. وكان أول من فجر شرارة الفضيحة هو أسقفا من الكنيسة الأسقفية، ونقلها الكاثوليكيون بكل حماس، وذاعت أنباؤها بسبب دعوى قضائية رفعتها أم طالبة كانت ستدخل الكلية. وقالت الأم - وتدعى السيدة كاي - إن وجود راسل في الكلية سيكون خطيرا على عفة ابنتها. ولم يتمكن راسل من الدفاع عن نفسه في المحكمة؛ لأن الدعوى كانت مرفوعة ضد بلدية نيويورك ولم يكن هو طرفا فيها. ووصف محامي السيدة كاي أعمال راسل بأنها «فاسقة، وداعرة، وشهوانية، وشبقة، ومثيرة للشهوة، وماجنة، وتتسم بضيق الأفق، وكاذبة، ومجردة من القيمة الأخلاقية.» وكان من أسباب هذا الوصف أن راسل ذكر في كتاب له أنه لا ينبغي عقاب الأطفال الصغار على الاستمناء. وتفوق القاضي الأيرلندي الكاثوليكي في سب وذم راسل على محامي السيدة كاي وهو يوجز الاتهام الموجه لراسل. وربحت القضية السيدة كاي طبعا.
ولم تتسبب القضية في تأليب مدينة نيويورك وولاية نيويورك بأكملها ضد راسل فحسب، بل تسببت في تأليب البلاد بأكملها ضده. وبعد طرده من وظيفته في نيويورك، لم يستطع في البداية أن يجد أي مكان آخر يقبل بمنحه وظيفة في مجال التدريس، ولم يستطع كذلك أن يجد أي جريدة تعرض عليه كتابة عمود فيها، ونظرا لظروف الحرب كان من المستحيل الحصول على المال من إنجلترا؛ وهكذا تقطعت به السبل خارج بلاده دون مورد للرزق، وهو مسئول عن أسرة عليه أن يعولها.
أنقذ راسل من هذه المعضلة جامعة هارفرد أولا؛ إذ وجهت إليه دعوة كريمة للتدريس فيها في عام 1940، ثم أنقذه مليونير من مدينة فيلادلفيا، يدعى د. بارنز، وكان من هواة جمع القطع الفنية وصاحب مؤسسة مخصصة في المقام الأول لدراسة تاريخ الفنون. منح بارنز راسل عقدا مدته خمس سنوات للتدريس في المؤسسة. ومن الأمور التي وجدها راسل مسلية أن القاعة التي كان يلقي فيها محاضراته كانت معلقة على جدرانها لوحات فرنسية تصور أشخاصا عراة، بيد أنه كان يعتقد أن ذلك لا يتناسب مع الفلسفة الأكاديمية. كان بارنز غريب الأطوار ويشتهر بالتشاجر مع الموظفين العاملين لديه؛ فأصدر فجأة إخطار فصل بعد أقل من نصف مدة عقد راسل؛ لأن محاضرات راسل كانت - في رأيه - سيئة الإعداد. نشرت هذه المحاضرات بعدئذ ككتاب بعنوان «تاريخ الفلسفة الغربية»، وأصبح أكثر كتب راسل نجاحا بفارق كبير على المستويين الشعبي والمالي. ورفع راسل دعوى على بارنز لخرق العقد، وأعطى المخطوطة للقاضي ليقرأها، وربح القضية. ومن نافلة القول أنه توجد أجزاء من هذا الكتاب الشهير مختصرة إلى حد يجعل المرء يشعر بشيء من التعاطف مع مليونير فيلادلفيا. ولكنه من نواح أخرى عبارة عن دراسة شاملة رائعة تتناول الفكر الغربي تتسم بأسلوب ممتع سهل القراءة، ويتميز الكتاب بوضع الفكر الغربي في سياقه التاريخي على نحو مفيد. من الواضح أن راسل استمتع بكتابته، ويظهر هذا الاستمتاع في الكتاب، كما تظهر تعليقاته اللاحقة عن الكتاب أنه كان يدرك مواطن القصور فيه.
استكمل راسل العمل في كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية» في مكتبة كلية برين مور بعد انفصاله عن بارنز. ويعود الفضل في ذلك إلى كرم الأستاذ الجامعي بول فايس، الذي وجه الدعوة لراسل للعمل في الكلية، وذلك حين كان راسل ينتظر الحصول على إذن من السفارة البريطانية في واشنطن للعودة إلى إنجلترا. عرضت كلية ترينيتي على راسل فرصة الحصول على درجة الزمالة؛ مما أنقذ راسل من الصعوبات التي كان يواجهها، وأنقذه كذلك التقدم الهائل الذي كان يحرزه كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية». وقبل عودة راسل بحرا وسط أخطار الغواصات الألمانية التي كانت تجوب المحيط الأطلنطي، أمضى راسل مدة قصيرة في جامعة برينستون، حيث كانت له مناقشات مع أينشتاين وكيرت جوديل وفولفجانج باولي. وعلى مدى السنوات القليلة التالية، درس راسل في جامعة كامبريدج، ونشر كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية» في عام 1945 وكتاب «المعرفة الإنسانية: نطاقها وحدودها» في عام 1948. كان هذا الكتاب هو آخر الأعمال الفلسفية لراسل، وقد أصيب بخيبة أمل حين تلقى الكتاب اهتماما محدودا من الأوساط الفلسفية. ونسب ذلك إلى الشعبية الهائلة التي كانت تحظى بها أفكار فيتجنشتاين آنذاك ولفترة بعد ذلك. وفي عام 1949 - وهو عام وصفه بأنه «أوج الرفعة» التي نالها - تغيرت الزمالة التي حصل عليها في كلية ترينيتي إلى زمالة مدى الحياة دون تحمل واجبات تدريس، واختير للحصول على زمالة شرفية للأكاديمية البريطانية، ودعته هيئة الإذاعة البريطانية لإلقاء أول سلسلة من محاضرات رايث، ومنحه الملك جورج الخامس وسام الاستحقاق، وفي العام التالي فاز بجائزة نوبل للآداب، ووصله نبأ نيله الجائزة وهو في زيارة جديدة للولايات المتحدة.
سر راسل لمنحه وسام الاستحقاق، وتوجه إلى قصر باكنجهام لحضور حفل تقليد الوسام. وشعر الملك جورج بالحرج لاضطراره إلى التعامل بلطف مع رجل ارتكب الزنا وسبقت إدانته ويميل إلى انتقاد الأفكار والمعتقدات الراسخة، وفضلا عن ذلك - على حد وصف الملك - عجيب المظهر؛ فقال له الملك: «لقد كنت تسلك أحيانا مسلكا لن يكون من اللائق أن يكون مسلكا شائعا.» وكان الرد الذي كاد يفلت من بين شفتي راسل، ولكنه تمكن من كبحه: «مثل أخيك.» وكان يقصد الملك إدوارد الثامن الذي تنازل عن العرش؛ لكنه قال بدلا من ذلك: «يتوقف السلوك الذي ينبغي على المرء أن يسلكه على مهنته؛ فساعي البريد، مثلا، ينبغي أن يدق على كل الأبواب في شارع معين ليسلم الخطابات، ولكن إذا دق أحد غيره على كل الأبواب، فسيعتبر ذلك من قبيل الإزعاج.» وعندها غير الملك الموضوع بسرعة (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص516-517).
Page inconnue
وبفضل المكانة الرفيعة الجديدة التي اكتسبها راسل، ولا سيما معارضته الطويلة الأمد للشيوعية في الاتحاد السوفييتي، استعانت به الحكومة البريطانية في زيادة برودة الحرب الباردة. وفي سبيل تحقيق هذه المهمة زار ألمانيا والسويد لإلقاء محاضرات. وأثناء زيارته للسويد سقطت الطائرة المائية التي كان يستقلها في ميناء تروندهايم، واضطر عندئذ إلى السباحة في مياه شديدة البرودة لينجو؛ أما خلال زيارته لألمانيا فقد أصبح مؤقتا فردا من أفراد القوات الجوية البريطانية، وهو ما أسعده كثيرا.
كان راسل كثير السفر في خمسينيات القرن العشرين - إلى أستراليا والهند وأمريكا مرة أخرى، وكذلك أوروبا والبلدان الإسكندنافية - وكان يلقي محاضرات هناك طوال الوقت، وكان يحظى بشهرة كبيرة هناك. وبعد انفصال راسل عن بيتر سبينس بثلاث سنوات تزوج من صديقته الأمريكية التليدة إيديث فينش، وأمضيا شهر العسل في باريس؛ ولكن حتى حينما كان راسل يتجول بأرجاء المدينة لمشاهدة معالمها - ولم يكن أي منهما قد تجول فيها كسائح قط؛ لأن كلا منهما سبقت له الإقامة فيها - كان الناس يتعرفون عليه ويتجمعون حوله.
تحولت الأسفار وجولات إلقاء المحاضرات إلى كتب، كدأب راسل دوما. وظهرت محاضرات رايث ككتاب بعنوان «السلطة والفرد». وفي عام 1954 نشر كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة»، وهو الكتاب الذي أدرج فيه الخطبة الرسمية التي ألقاها بمناسبة تسلمه جائزة نوبل. ولما كان راسل قد نال جائزة نوبل في الآداب (ورد في خطاب التنويه كتاب «الزواج والأخلاق»)، حفزه ذلك على الكتابة القصصية. وفي عام 1921 كتب رواية ولكن لم يحاول نشرها، وكتب مجموعتين من القصص القصيرة - أو إن شئنا الدقة قلنا الحكايات الرمزية القصيرة - وكلها ذات مغزى فلسفي أو جدلي، بعنوان «الشيطان في الضواحي» و«كوابيس المرموقين». وفي عام 1956 نشر كتاب «صور من الذاكرة»، وهو سلسلة من المقالات الوصفية لأشخاص مرموقين تعرف عليهم، وفي عام 1959، قدم للعالم سيرته الذاتية الفكرية، وعنوانها، «تطوري الفلسفي»، وتلخص التقدم الذي شهدته آراؤه منذ الطفولة فصاعدا.
لكن أي فكرة مفادها أن راسل قد تمكن أخيرا من الدخول إلى دوائر أهل الحل والعقد - وأنه سيخفف من غلوائه ويركن إلى الشيخوخة الهادئة المكللة بالجلال والاحترام - كانت خاطئة؛ إذ إن راسل كان يرى أن العالم يحدق به خطر داهم ومتزايد بسرعة، وكان يرى أنه من المحتم مقاومته. وكان هذا الخطر هو انتشار أسلحة الدمار الشامل. وبدءا من منتصف خمسينيات القرن العشرين وحتى وفاته في فبراير عام 1970، ظل يناضل ضد الأسلحة والحرب بحماس شاب في مقتبل العمر؛ مما أدى إلى الحكم عليه بالسجن مرة أخرى، وذلك فضلا عن عواقب أخرى - خفف الحكم بسبب تقدمه في السن (كان آنذاك في التسعينيات من عمره)، بحيث أصبحت العقوبة أسبوعا في مستشفى السجن - وجلب عليه موقفه ذلك الكراهية والعداوة في سنواته الأخيرة، خاصة بسبب معارضته الطائشة المفرطة بل والمسعورة - فيما كان يبدو - للأفعال الأمريكية في حرب فيتنام. اتضح فيما بعد أن اتهاماته للولايات المتحدة بارتكاب جرائم حرب كانت قائمة على معلومات صحيحة في معظمها. وفي إطار هذه المساعي أصبح راسل أول رئيس للحملة المعنية بنزع السلاح النووي، ونشر كتابين - «المنطق السليم والحرب النووية» و«هل يوجد مستقبل للبشر؟» - وأدى دورا مهما في تأسيس مؤتمر بوجواش وفي تأسيس المحكمة الدولية لجرائم الحرب تعبيرا عن المعارضة لحرب فيتنام، وذلك بمشاركة جان بول سارتر.
ترد مناقشة للصراعات السياسية التي شهدها راسل إبان السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياته في الفصل
الرابع . كان راسل يبدو وكأنه يزداد شبابا مع الزمن عند خاتمة حياته، رغم شيخوخة الجسد وشيء من الوهن (ولكنه كان نشطا ومتيقظا حتى النهاية، حين توفي وهو في عامه الثامن والتسعين)؛ إذ قدمته جدته إلى العالم على صورة كهل فيكتوري، لكنه غير من نفسه إلى فارس مطوف دائم الشباب؛ فارس صادق وصارم ذي فكر مهيب ومقدرة هائلة ككاتب، يستخدم مواهبه - ولعل من أهمها قدراته الفريدة المتعلقة بالمنطق وخفة الظل - للتصدي للقوى الغاشمة.
إن منظور الزمن من شأنه إما أن يضخم من شأن من شغلوا المشهد العام وإما أن يقلل منه. ويتضاءل السواد الأعظم من هؤلاء ويظلون في السفوح، فيما يسمو قلائل إلى قمم الجلال. ويظهر راسل صرحا منيفا بين القمم.
هوامش
الفصل الثاني
المنطق والفلسفة
Page inconnue
مقدمة
كان الحافز الفلسفي الأساسي الذي يدفع راسل - على حد تعبيره - هو اكتشاف ما إذا كان من الممكن معرفة أي شيء معرفة يقينية. وقد راوده هذا الطموح - الذي يطابق طموح ديكارت - بسبب أزمتين فكريتين مبكرتين: فقدانه الإيمان الديني، وخيبة أمله في الاضطرار إلى تقبل البديهيات كأساس للهندسة. وكان أول مسعى فلسفي حقيقي يتولاه هو إثبات أن الرياضيات تعتمد على المنطق؛ فنجاحه في هذا المسعى كان من شأنه أن يقدم أساسا من اليقين للمعرفة الرياضية. فشل المشروع، لكن انطلقت من المحاولة عدة تطورات فلسفية مهمة. واتجه راسل بعد ذلك إلى مشكلات الفلسفة العامة؛ حيث يصبح العثور على اليقين أصعب. ومع ذلك أخذ يعمل في بناء نظريات كان يأمل أن توفر حلولا مرضية، بصرف النظر عن الطابع المراوغ لليقين. وراح يعود إلى هذه المشكلات مرة بعد مرة، ويطور آراءه ويغيرها وهو يؤمن بالأساليب التحليلية المستمدة من عمله المنطقي. وقد شعر في آخر الأمر أن بإمكانه أن يقول إنه حقق درجة من النجاح، مع أنه كان يدرك أنه لم يكن يتفق معه إلا قلة من أقرانه الفلاسفة.
حين يدرس المرء الأعمال الفلسفية لراسل، ويتجاهل حقيقة أنها تطورت على مدى فترة زمنية طويلة للغاية - إذ كانت كثيرا ما تتخللها أنشطة كثيرة أخرى تدوم لفترات طويلة - فإنه يندهش لمدى استمرار ومنطقية التطور الذي تمثله. وحسب وصف راسل لتطوره الفلسفي، يقول إن حياته الفلسفية انقسمت إلى قسمين: القسم الأول تمثل في التجريب المبكر والقصير الأمد للمثالية، أما القسم الثاني - وهو مستلهم من اكتشافه لأساليب منطقية جديدة - فظل يسيطر على رأيه منذ ذلك الحين فصاعدا:
هناك قسم مهم في عملي الفلسفي - في عامي 1899-1900 - أخذت فيه أعتنق فلسفة مذهب الذرية المنطقية وأسلوب بيانو في المنطق الرياضي. كان هذا تغيرا جذريا هائلا بحيث إنه يجعل عملي السابق - فيما عدا ما كان رياضيا بحتا - غير ذي صلة بكل ما أنجزته فيما بعد. كان التغير في هذه السنوات بمنزلة تغير جذري؛ أما التغيرات اللاحقة فكانت تتسم بأنها بمنزلة تطور. (تطوري الفلسفي، ص11)
كان التطور الذي أعقب التغير الجذري كبيرا، ولكن كانت تحفزه في كل مرحلة حاجة إلى حل المشكلات التي تأتي بها المراحل السابقة، أو - إذا كانت المشكلات أكبر من اللازم - إلى اكتشاف طرق بديلة للتقدم للأمام. وتوضح هذه المتوالية الجدلية من المشكلات أن الطرفة التي أطلقها تشارلز برود «ينتج السيد برتراند راسل نظاما فلسفيا جديدا كل عام أو نحو ذلك، أما السيد جي إي مور فلا ينتج أي نظام فلسفي على الإطلاق.» مع أنها تنطبق على مور، فإنها لا تنطبق على راسل، ولا سيما في تلميحها إلى الطابع المتقلب الذي تتسم به خطوات رحلة راسل الفلسفية.
وخلال السنوات التي تفصل بين حصوله على شهادته واكتشافه لبيانو - وهي تقريبا عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر - كان راسل خاضعا لتأثير المثالية الألمانية كما كان يفضلها أساتذته في كامبريدج. وكانت النسخة المنشورة من أطروحة حصوله على الزمالة عبارة عن سرد عن الهندسة بالأسلوب الكانطي، ولكن ولاءه الأساسي كان لهيجل؛ إذ كتب سردا عن الرياضيات بالأسلوب الهيجلي، وأعد جدلية مثالية كاملة للعلوم يهدف منها إلى إثبات أن كل الواقع أصله تصور ذهني، وذلك بأسلوب هيجل.
تبرأ راسل من هذا العمل فيما بعد، بصرامته المعهودة، واصفا إياه بأنه «ليس إلا محض هراء» (تطوري الفلسفي، ص32). لقد طرأ التغير الجذري في أسلوبه الفلسفي - كما رأينا - نتيجة لثورته المشتركة مع مور على المثالية، ونتيجة لاكتشافه للعمل الفلسفي الذي أنجزه بيانو. وكان عمل بيانو مهما للغاية؛ لأنه حفز من رغبة راسل لاشتقاق الرياضيات من المنطق، وقدم له الوسيلة اللازمة لتنفيذ ذلك. وكرس راسل السنوات ما بين عام 1900 و1910 لهذه المهمة أساسا، ونتج عن ذلك قدر كبير من الإنجاز الفلسفي القيم. يناقش كتاب «مبادئ الرياضيات» (1903) هذا المشروع، ويتألف كتاب «أصول الرياضيات» (1910-1913) من وصف تفصيلي لمحاولة تنفيذه. ومن بين الأبحاث الفلسفية القيمة التي أنجزها راسل أثناء ذلك كتاب «عن التدليل» (1905)، وبعض الأفكار الواردة فيه صار لها تأثير هائل على تاريخ الفلسفة لاحقا.
واستمر العمل الفلسفي إبان هذه السنوات بعد أن انتهى العمل المنطقي المشترك بإصدار كتاب «أصول الرياضيات». وشرع راسل في تطبيق أساليب التحليل التي توصل إليها في هذا العمل على مشكلات الميتافيزيقا (الاستقصاء عن طبيعة الواقع) والإبستمولوجيا (الاستقصاء عن طريقة حصولنا على المعرفة واختبارنا لها). ويصف كتابه القيم القصير الخالد «مشكلات الفلسفة» (1912) الآراء الميتافيزيقية والإبستمولوجية التي كان يعتنقها آنذاك. كان ينوي أن يتناول هذه الآراء بمزيد من التفصيل في كتاباته اللاحقة، وبدأ في عام 1913 في كتابة مسودة لكتاب كبير ، نشر بعد وفاته بعنوان «نظرية المعرفة» (1984). ولكنه كان غير راض عن بعض جوانب الكتاب؛ لذلك قرر تفكيكه ونشره كجزء من سلسلة من الأبحاث، بدلا من نشره في كتاب. وفي الوقت نفسه بدأ يطبق الأساليب المنطقية على تحليل الإدراك بناء على اقتراح من وايتهيد؛ وأسفر ذلك عن مجموعة من المحاضرات ألقاها في جامعة هارفرد ونشرها لاحقا في كتاب بعنوان «معرفتنا بالعالم الخارجي» (1914). ويمثل هذا الكتاب - إضافة إلى بحث بعنوان «صلة البيانات الحسية بالفيزياء» نشر في العام نفسه - استطرادا من راسل ناقش فيه شيئا مثل مذهب الظواهر. ومذهب الظواهر هو الرأي القائل بأن المعرفة الإدراكية يمكن تحليلها في إطار معرفتنا بالمعلومات الأساسية للتجربة الحسية. (وأقول «شيئا مثل مذهب الظواهر» لأنه مع أن راسل وصف هذه الآراء بعد ذلك بنصف قرن بأنها تابعة لمذهب الظواهر، فإنها في الكتابات الأصلية ليست واضحة هكذا؛ وأناقش هذه النقطة في مكانها المناسب أدناه.) وبعد ذلك بأربع سنوات، في سلسلة أخرى من المحاضرات، طبق راسل منهجه التحليلي على الأشياء وطريقة حديثنا عنها. وأطلق على هذا المنهج «فلسفة مذهب الذرية المنطقية». وفي الوقت نفسه نشر كتابا كان في الواقع نسخة شعبية من كتاب «أصول الرياضيات»، وعرض فيه الأفكار الأساسية لفلسفة الرياضيات. والكتاب بعنوان «مقدمة إلى الفلسفة الرياضية» (1918).
وفي عشرينيات القرن العشرين سعى راسل إلى تحسين تطبيق أساليبه التحليلية على فلسفة علم النفس والفيزياء والتوسع في ذلك. وكانت أول ثمرة لهذا السعي هي كتاب «تحليل العقل» (1921)، ويطبق فيه فهمه لمبدأ يشبه مذهب الظواهر على تحليل الكيانات العقلية. وكان الكتاب الثاني هو «تحليل المادة» (1927)، وفيه يسعى راسل إلى تحليل المفاهيم الأساسية للفيزياء، مثل القوة والمادة، من منظور الأحداث. وحجة هذا الكتاب تتبع مذهب الواقعية تماما؛ فقد كان راسل يرى أنه من غير الممكن تحليل المفاهيم الأساسية للفيزياء دون الإقرار بوجود كيانات معينة يستحيل إدراكها؛ وبهذا انتهت علاقة راسل مع مذهب الظواهر. ومن الممكن أيضا وصف الكتاب بأنه عودة إلى الواقعية؛ لأن راسل كان ملتزما بشكل صارم بعض الشيء من الواقعية قبل أن يؤلف كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي».
شكل 2-1: الصورة المصدرة لكتاب «مبادئ الرياضيات »، المنشور عام 1900، والقائم على افتراض أن لا فارق بين الرياضيات والمنطق.
Page inconnue
1
بعد رحلة العودة من شكل من أشكال مذهب الظواهر أو ما يشبهه، أعاد راسل التفكير في المشكلات التي أصبح يرى أنها لم تكن محل معالجة مناسبة في ظل افتراضاته المبنية على مذهب الظواهر. ونتج عن ذلك كتاب «ما وراء المعنى والحقيقة» (1940) حيث يناقش فيه ثانية علاقة التجربة بالمعرفة المشروطة، وكتاب «المعرفة الإنشائية» (1948) ويعود فيه - من ضمن أمور أخرى - إلى موضوع تركه دون أن يناقشه مناقشة مناسبة في الكتابات السابقة؛ وهو الموضوع المهم المتعلق بالاستنتاج غير البرهاني (غير الاستدلالي)، من النوع الذي يفترض عموما أنه يستخدم في العلوم.
تستحق كل مرحلة من هذه المراحل على مدى تطور فكر راسل مناقشة مستفيضة، ويمكن الاطلاع عليها في الأعمال المذكورة في قسم القراءات الإضافية في نهاية الكتاب. وفي الأقسام التالية أقدم سردا موجزا لهذه المراحل.
رفض المثالية
تتخذ المثالية عددا من الصور المتباينة، ولكن عقيدتها الأساسية مفادها أن الواقع في جوهره له طابع ذهني. ولعل مصطلح «الفكرية» من الممكن أن يكون تسمية أفضل من المثالية، فمصطلح «المثالية» من المصطلحات الفنية في الفلسفة، وليس له علاقة بالمعاني العادية لكلمة «مثالي». والمثالية - في إحدى صورها، وفي رأي بيشوب بيركلي - هي الفرضية القائلة بأن الواقع يتألف جوهريا من مجموعة من العقول وأفكارها. وأحد هذه العقول غير متناه، وتنشأ منه معظم الأفكار؛ ويعتبره بيشوب هو الذات الإلهية. وفي آراء لاحقة من النوع الذي يعتنقه تي إتش جرين وإف إتش برادلي - وكلاهما تأثر تأثرا كبيرا بالمثالية الألمانية - تكون الفرضية هي أن الكون يتألف جوهريا من عقل واحد يستشعر نفسه، إذا جاز التعبير. وهما يؤكدان أن خبرتنا المحدودة والجزئية والفردية، والتي تخبرنا أن العالم يتألف من مجموعة متعددة من الكيانات ذات الوجود المنفرد - والكثير منها، إن لم يكن معظمها، مادية أكثر منها ذهنية - متناقضة، أو على أقل تقدير مضللة. وتعددية الأشياء هذه ليست إلا «مظهرا»، يخفي الطبيعة الحقيقية للواقع بدلا من أن يصورها. ويشي هذا بفكرة مهمة ملازمة للمثالية ، تعلم راسل أن يتقبلها؛ وهي أنه نظرا لأن التعددية عبارة عن مظهر مضلل، فإن الحقيقة هي أن كل شيء متصل بكل الأشياء الأخرى في الكون؛ ولذلك فإن الكون عبارة عن شيء واحد، وكل شيء هو عبارة عن كيان واحد. وهذا الرأي يعرف بمذهب «الأحادية».
حين رفض مور وراسل المثالية في عام 1898 (وكان نشر مقال مور في ذلك العام، وعنوانه «طبيعة الرأي»، علامة على ذلك الرفض) اعترض كل منهما على الفرضيات الأساسية التي تقوم عليها المثالية، وهي أن التجربة ومكوناتها تعتمد بعضها على بعض اعتمادا متبادلا ومعقدا، وأن كل شيء عبارة عن كيان واحد. وبهذه الطريقة التزما بمذهب «الواقعية»، وهي الفرضية التي تقول بأن مكونات الخبرة منعزلة عن الخبرة ذاتها، والتزما بمذهب «التعددية»، وهي الفرضية القائلة بأنه يوجد الكثير من الأشياء المستقلة المنفردة في العالم.
كان راسل يرى أن المثالية والفكرة الملازمة لها - الأحادية - تنشآن من نظرة «للروابط» تفسح، فور دحضها، المجال للواقعية التعددية. والروابط تعبر عنها تعبيرات مثل «أ تقع على يسار ب»، و«أ موجودة قبل ب»، و«أ تحب ب». كان راسل يرى من وجهة النظر المثالية أن كل الروابط «داخلية»، بمعنى أنها عبارة عن صفات للأطراف التي تصل بينها، وتظهر - في وصفها الكامل - كصفات للكل الذي تؤلفه بما فيها من أطراف. يكون هذا أحيانا قابلا للتنفيذ؛ ففي «أ تحب ب» فكرة محبة «أ» ل «ب» عبارة عن صفة ل «أ» - بمعنى أنها عبارة عن حقيقة عن طبيعة «أ» - والحقيقة المعقدة التي تدل عليها «أ تحب ب» تحمل صفة المحبة التي يتلقاها «ب» من «أ». ولكن إذا كانت كل الروابط داخلية، يترتب على ذلك فورا أن الكون يتألف مما يطلق عليه الفيلسوف المثالي هارولد جواكيم «الكل ذو المعنى»؛ لأنه يعني أنه من طبيعة أي شيء أن يكون متصلا بكل شيء آخر؛ وبناء على ذلك، فإن أي وصف كامل لأي شيء سيطلعنا على كل شيء عن الكون بالكامل، وبالعكس. يعبر برادلي عن هذه الجزئية كما يلي: «الواقع واحد. ويجب أن يكون مفردا لأن التعددية - في حالة الإقرار بأنها حقيقية - تناقض نفسها؛ فالتعددية تفترض ضمنا وجود الروابط، وهي تفرض دائما كرها وجود وحدة عليا، وذلك من خلال روابطها» (المظهر والواقع، ص519).
رد راسل معترضا على هذا الرأي بقوله إن أتباع مذهب المثالية يرتكبون خطأ جوهريا، وهو أنهم يفترضون أن كل القضايا تتخذ صيغة الموضوع والمحمول. فلنأخذ عبارة «الكرة مستديرة». يمكن استخدام هذه العبارة للتعبير عن قضية تسند فيها صفة الاستدارة إلى كرة معينة («تسند» معناها: تنطبق على، تقال عن). ففي رأي راسل، أخطأ أتباع مذهب المثالية حين ظنوا أن كل القضايا - حتى الارتباطية - تتخذ شكل الموضوع والمحمول؛ مما يعني أن كل قضية يجب أن تؤلف في التحليل النهائي إسنادا عن الواقع ككل، وأن الروابط في حد ذاتها غير واقعية. على سبيل المثال: من وجهة النظر المثالية، ينبغي فهم القضية «أ موجودة إلى اليسار من ب» على أنها تقول: «الواقع يتصف بصفة أن أ تبدو إلى اليسار من ب» (أو نحو ذلك).
ولكن إذا رأى المرء أن الكثير من القضايا ارتباطي في الشكل على نحو يتعذر فصمه، فإن المرء هكذا يرى أن الأحادية زائفة؛ فقولنا إن الكثير من القضايا ارتباطي على نحو يتعذر فصمه يساوي قولنا إن الروابط حقيقية أو «خارجية»؛ فهي لا تقوم على الأطراف التي تصلها؛ فالرابطة «إلى اليسار من» لا تنتمي في حد ذاتها إلى أي شيء مكاني، بمعنى أنه ليس من الضروري أن يوجد شيء مكاني إلى اليسار من أشياء أخرى. وذهب راسل إلى أنه لكي نضمن صحة أن «أ على يسار ب»، يجب أن يكون لدينا «أ» وكذلك «ب» «على نحو منفصل» حتى تصبح الأولى طرفا في رابطة مع الثانية، وهي رابطة «إلى اليسار من». وبالطبع فإن قولنا بوجود أكثر من شيء واحد معناه رفض الأحادية.
ويشكل رفض الأحادية رفضا للمثالية في رأي راسل؛ لأنه من الضروري في المثالية أن تكون الرابطة التي تربط الخبرة بالأشياء المكونة لها رابطة داخلية؛ وهو ما يساوي بالتبعية أن نقول بعدم وجود رابطة من هذا النوع؛ وهو ما يساوي بالتبعية أن نقول إن الروابط غير حقيقية. ولكن في رأي راسل المخالف القائل بأن الروابط حقيقية، لا يمكن دمج الخبرة مع الأشياء المكونة لها؛ بمعنى أن تلك الأشياء موجودة بمعزل عن كونها أشياء تستشعر. ويصب هذا في صميم ما كان يقصده كل من راسل ومور بالواقعية.
Page inconnue
من غير المؤكد ما إذا كان راسل محقا في الظن أن كل أتباع المثالية (بما فيهم لايبنتس) - وقبلهم فلاسفة العصور الوسطى أصحاب فكرة ميتافيزيقا المادة والصفة - كانوا ملتزمين بالرأي القائل بأن كل القضايا تتخذ شكل الموضوع والمحمول. ولكنه قطعا اعتبر أنه اكتشف خللا مهما للغاية في الفلسفة السابقة. وبعد رفض المثالية اتجه لفترة إلى النقيض منها؛ وهو أن يكون واقعيا حيال كل شيء. وكان على حد قوله «تابعا ساذجا لمذهب الواقعية» من حيث إنه كان يؤمن أن كل ما يدركه من صفات الأشياء المادية هي صفات حقيقية لها، وأنه كان تابعا لمذهب الواقعية من الزاوية الفيزيائية؛ لأنه كان يؤمن بأن كل الكيانات النظرية للفيزياء هي عبارة عن «كيانات موجودة فعليا» (تطوري الفلسفي، ص48-9)، وأنه كان تابعا لمذهب الواقعية من الزاوية الأفلاطونية؛ لأنه كان يؤمن كذلك بوجود - أو على الأقل ب «كينونة» (وهي درجة مخففة وربما أقل من الوجود) - «الأعداد والآلهة الإغريقية والروابط والكائنات الخرافية مثل وحش الكمير والأمكنة الرباعية الأبعاد» (مبادئ الرياضيات ص449). ولاحقا شذب راسل هذا الكون الباذخ بتطبيق قاعدة نصل أوكام، وهو المبدأ القائل بأنه لا ينبغي زيادة عدد الكيانات دون ضرورة. فعلى سبيل المثال، إذا كان من الممكن شرح الأشياء المادية باستفاضة في سياق الكيانات دون الذرية، فينبغي ألا تحتوي القائمة الأساسية لمكونات الكون على الأشجار من جهة وأيضا على اللبتونات والكواركات وغيرها من الجسيمات القياسية التي تتألف منها الأشجار من جهة أخرى. وكانت هذه هي الطريقة التي طبق بها أسلوب التحليل فيما بعد. ولكنه كان لا يزال يؤمن بصيغة شاملة من مذهب الواقعية في كتاب «مبادئ الرياضيات»؛ فعاد إلى الواقعية بعد أن اطلع على أعمال جيوسيبي بيانو في باريس في عام 1900.
أصول الرياضيات
كان لايبنتس يحلم بوجود «لغة شاملة»، وهي لغة شاملة ودقيقة تماما، ستحل عند استخدامها كل المشكلات الفلسفية. وأقر راسل - في كتابه الذي يتناول لايبنتس - أن هذا الحلم كان توقا إلى اكتشاف منطق رمزي، كان يقصد به راسل آنذاك الجبر البولياني الذي وضعه جورج بول في منتصف القرن التاسع عشر. ولكنه لم يكن يظن في تلك المرحلة أن لايبنتس كان على الصواب في افتراض أنه يمكن حل المشكلات الفلسفية باستخدام التفاصيل الفنية التي يقوم عليها نظام منطقي استدلالي؛ لأن الأسئلة المهمة حقا في الفلسفة تتعلق بشئون «سابقة على الاستدلال»، وهي المفاهيم أو الحقائق المشار إليها في المقدمات التي ينطلق منها الاستنتاج. وكان راسل يؤكد أنه أيا كانت هذه المشكلات، فإن المنطق لا يقدمها لنا؛ إذ إن المنطق يمكنه مساعدتنا في الاستدلال عليها فقط.
ولكن راسل غير رأيه حين اطلع على أعمال بيانو. واستلهم راسل على الفور من خطوات التقدم التي حققها بيانو في الأسلوب المنطقي (سبقه إليها جوتلوب فريجه، ولكن ذلك لم يدركه أي من بيانو أو راسل آنذاك) طرقا لصياغة المبادئ الأساسية للمنطق، ولعرض شيئين في غاية الأهمية؛ أولا: كيفية تعريف كل مفاهيم الرياضيات من حيث المبادئ الأساسية، وثانيا: كيفية إثبات كل الحقائق الرياضية انطلاقا من تلك المبادئ الأساسية. باختصار، استلهم راسل منها كيفية إثبات أن لا فارق بين المنطق والرياضيات. وهذا هو الهدف من كل من كتاب «مبادئ الرياضيات»، وصيغته الأكثر استفاضة وهو كتاب «أصول الرياضيات».
ويعرف مشروع اشتقاق الرياضيات من المنطق باسم «النزعة المنطقية». ولم يسع راسل في كتاب «مبادئ الرياضيات» إلى مناقشة هذه الجزئية من البرنامج باستفاضة؛ إذ لم يزد عن تقديم وصف مختصر سطحي. لكنه أدرج المناقشة المستفيضة في كتاب «أصول الرياضيات». وكان من بين أهم الأسباب التي دعت راسل إلى تأجيل المهمة حتى إصدار كتاب «أصول الرياضيات» هو أنه اكتشف وجود تناقض ظاهري؛ مما كان يهدد المشروع بأكمله.
كانت أول مهمة ينفذها راسل هي تعريف مفاهيم الرياضيات باستخدام أقل عدد ممكن من المفاهيم المنطقية البحتة. (فيما يأتي ثلاث فقرات تحتوي على تفاصيل فنية مبسطة، ويجب ألا تعيق القارئ.) إذا جعلنا الحرفين
و
يرمزان إلى القضايا، تكون هذه المفاهيم كما يأتي: النفي (ليس )، والفصل (
أو )، والربط (
و )، والتضمين (إذا كان
Page inconnue
إذن يكون ). وتضاف إلى هذه العمليات رموز لتمثيل البناء الداخلي للقضايا:
تعبير وظيفي يكون فيه
متغيرا يرمز إلى أي فرد، ويكون
بمنزلة محمول يرمز إلى أي صفة؛ وهكذا تعني الصيغة
أن
هو (مثال لما ترمز إليه هو: «الشجرة عالية»). ومن خطوات التقدم المهمة التي تمكن راسل من استخدامها تحديد كمية مثل هذه الدالات. وباستخدام الرموز التي أصبح استخدامها معمما حاليا في المنطق، يرمز إلى تحديد الكمية بهذه الطريقة:
يرمز إلى كل أفراد ؛ إذن
تقول إن كل أفراد
هي ، و
ترمز إلى «
Page inconnue
واحد على الأقل»؛ إذن
يقصد بها أن «
واحد على الأقل» هو . وأخيرا يتبقى مفهوم الهوية؛ فالتعبير
يقصد به أن
و
ليسا شيئين بل شيء واحد. ويصبح من الممكن باستخدام هذه اللغة البسيطة تعريف مفاهيم الرياضيات.
كان علماء الرياضيات الأوائل يستقصون عن الروابط الموجودة ضمن المفاهيم الرياضية وأقروا بأنها كلها قابلة للاختزال إلى الأعداد الطبيعية (الأعداد المستخدمة في العد 1، 2، 3 ...) مع أنه لم يكن أحد قد برهن على هذا بدقة حتى ذلك الحين. وكانت الخطوة الأولى في البرنامج إذن هي تعريف الأعداد الطبيعية بمصطلحات منطقية. وهذا هو ما أنجزه فريجه من قبل، مع أن راسل لم يدرك ذلك آنذاك.
يستخدم التعريف مفهوم الفئات؛ حيث الفئة 2 تعرف على أنها فئة كل الثنائيات، والفئة 3 تعرف على أنها فئة كل الثلاثيات، وهكذا. ويعرف «الثنائي» بدوره باعتباره فئة تضم الفردين
و ، حيث
و
Page inconnue
ليسا متطابقين، وحيث - في حالة وجود أي فرد آخر في الفئة يسمى - يصبح
متطابقا مع أي من
أو . ويصاغ التعريف العام للعدد من حيث مجموعات من الفئات المتشابهة، حيث يكون التشابه مفهوما دقيقا يدل على رابطة بين شيئين؛ حيث تصبح الفئتان متشابهتين إذا أمكن تحديد علاقة فردية تجمع بين أفرادهما.
وفي ظل تطبيق هذه المفاهيم، يتسنى حل مجموعة كبيرة من المشكلات، ومن بينها: كيفية تعريف العددين صفر و1 (أشار راسل إلى أن هذين العددين من أصعب المفاهيم في الرياضيات)، وكيفية التغلب على الأحاجي المستندة إلى «واحد وكثير» (هل الكرسي شيء واحد أم كثير من الأشياء: أهو كيان واحد، أم كثير، إذا أحصيت أجزاءه ومكوناته؟) وكيفية فهم الأعداد غير المتناهية. وفور تعريف الأعداد الكاملة، لا تمثل الأعداد الأخرى (الأعداد الموجبة والسالبة والكسور والأعداد الحقيقية والأعداد المركبة) أي صعوبة تذكر.
ومن ثم يصبح الجزء الأول من البرنامج - وهو تعريف المفاهيم الرياضية في ضوء المفاهيم المنطقية - عموما غير معقد، وذلك بمجرد أن تتوافر التفاصيل الفنية المناسبة. ويتضح أن الجزء الثاني - وهو الجزء المتعلق بالنزعة المنطقية الذي ينطوي على بيان إمكانية إثبات الحقائق الرياضية من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها المنطق - أصعب بكثير.
والسبب الأساسي في ذلك - من وجهة نظر راسل آنذاك - كان اكتشافه لوجود تناقض ظاهري. ويتصل ذلك التناقض الظاهري بمفهوم محوري للمشروع، كما يعرض الوصف المختصر السابق: مفهوم الفئات. ووجد راسل نفسه يتفكر أثناء عمله في حقيقة أن بعض الفئات - وبعضها ليس كذلك - أفراد لأنفسها؛ فمثلا، فئة ملاعق الشاي ليست في حد ذاتها ملعقة شاي؛ ولذلك ليست عضوا لنفسها، ولكن فئة الأشياء من غير ملاعق الشاي هي فرد من نفسها لأنها ليست ملعقة شاي. ماذا إذن بخصوص الفئة التي تضم كل الفئات التي ليست أفرادا لأنفسها؟ إذا لم تكن هذه الفئة فردا من نفسها، تصبح بالتبعية فردا من نفسها؛ وإذا كانت فردا من نفسها، فلن تصبح بالتبعية فردا من نفسها؛ إذن فهي فرد من نفسها وليست فردا من نفسها في الآن عينه؛ ومن هنا يأتي التناقض الظاهري.
في البداية ظن راسل أن السبب في ذلك يعود إلى خطأ تافه، ولكن اتضح له أن كارثة قد حلت، وذلك بعد أن بذل جهدا كبيرا لتصحيح الأمور، وبعد التشاور مع فريجه ووايتهيد. ونشر راسل «مبادئ الرياضيات» دون أن يجد حلا. ولكن أثناء انكبابه هو ووايتهيد على تأليف كتاب «أصول الرياضيات»، ظن أنه قد وجد الحل، ولكن ثبت أن الاستراتيجية التي وضعها خلافية للغاية. وفيما يلي وصف لمجريات الأمر.
اكتشف راسل أنه يتعذر مواصلة محاولة استنتاج النظريات الرياضية من بديهيات منطقية بحتة دون وجود بديهيات إضافية تتيح إثبات نظريات معينة في علم الحساب ونظرية المجموعات. ويوجد بديهيتان من هذه البديهيات الإضافية (تفاصيلهما غير مهمة؛ أذكرهما على سبيل الاكتمال) هما: «بديهية اللانهائية»، وتقول إنه يوجد مجموعات غير متناهية في العالم، و«بديهية التغير» (وأحيانا يطلق عليها «بديهية التضاعف») وتقول بأن داخل كل مجموعة من المجموعات غير المتوالية غير الفارغة توجد مجموعة تتقاسم عضوا واحدا بالضبط مع كل من المجموعات الفردية الأخرى. توجد حاجة إلى وجود البديهيات حتى يتسنى تعريف الأعداد من حيث الفئات، كما سبق الوصف. ولكن يبدو أن كلتيهما تنطويان على صعوبة ما، وهي أنهما ذواتا طابع وجودي، بمعنى أنهما تقولان «يوجد كذا» - في الحالة الأولى عدد، وفي الثانية مجموعة - وهذه مشكلة لأنه لا ينبغي أن يعنى المنطق بما يوجد أو بما لا يوجد، بل ينبغي أن يعنى بالأمور الشكلية تماما فقط. ولكن راسل وجد حلا، وهو تناول التعبيرات الرياضية باعتبارها جملا شرطية؛ أي باعتبارها جملا بصيغة «إذا ... إذن»، على أن تشغل البديهيات الفراغ الموجود بعد «إذا»: وكأنها تقول، «إذا سلمت بصحة هذه البديهية، إذن ...» ونظرا لأن هذه الجمل الشرطية قابلة للاستنتاج من بديهيات المنطق؛ فلا يهم الاستعانة الظاهرية بالاعتبارات الوجودية.
ولكن نشأت صعوبة أكبر بكثير من بديهية إضافية ثالثة، وهي «بديهية قابلية الاختزال». هذه هي البديهية التي استخدمها راسل للتغلب على مشكلة التناقض الظاهري، ولكن علماء المنطق الآخرين لا يستطيعون تقبلها.
ترتبط بديهية قابلية الاختزال ب «نظرية الأنماط» التي وضعها راسل. توجد طريقة مبسطة لفهم هذه النظرية، وذلك من خلال ملاحظة أن التناقض الظاهري الذي اكتشفه راسل سببه أن صفة «عدم كون الفئة فردا من نفسها» تنطبق على الفئة التي تضم كل الفئات التي تحمل تلك الصفة. لكن إذا أمكن ابتكار قيد يقضي بأن هذه الصفة قابلة للتطبيق على الفئات التي تضم أفرادا فقط وليس على الفئة التي تضم فئات، فلن ينشأ تناقض ظاهري. ويوحي هذا بأنه لا بد من وجود ما يشبه فارقا يتألف من مستويات فيما بين الصفات، بحيث إن الصفات المسندة في مستوى معين يتعذر إسنادها عند مستوى أعلى.
Page inconnue
توجد صيغة معدلة من نظرية الأنماط - وهي صيغة أبسط من الصيغة التي وضعها راسل - تحمل هذا المعنى وتبدو جديرة بالتصديق في رأي بعض علماء المنطق. وكان من اقترحها هو عالم الرياضيات والفيلسوف فرانك رامزي، وتعرف هذه النسخة باسم «النظرية البسيطة للأنماط». وهذه النظرية تسير كما يأتي: اللغة التي تنطبق على حقل معين تحمل تعبيرات جبرية من المستوى 1 - الأسماء - وتشير إلى الأشياء الموجودة في الحقل، وتحمل تعبيرات جبرية من المستوى 2 - المحمولات - وتشير إلى صفات تلك الأشياء فقط، وتحمل تعبيرات جبرية من المستوى 3 - محمولات المحمولات - وتشير إلى صفات تلك الصفات فقط ... وهكذا. والقاعدة هي أن كل تعبير جبري ينتمي إلى نمط معين ولا ينطبق إلا على التعبيرات الجبرية من النمط التالي الذي يليه في التسلسل الهرمي. وفي ضوء الوصف المبسط الذي ذكرته، نرى كيف أن هذه الاستراتيجية تقدم حلا لمشكلة التناقض الظاهري.
تعرف النسخة المعقدة من نظرية الأنماط التي وضعها راسل باسم «النظرية المتشعبة للأنماط». (فهم هذه النظرية فهما صحيحا من الأمور الخلافية - انظر، على سبيل المثال، هايلتون 1990، الفصل السابع - ولكن الوصف التالي قد يقدم تقريبا أوليا.) كان السبب الذي دفع راسل إلى ابتكار «التشعب» - ويقصد به التقسيم الداخلي للأنماط إلى «رتب» - هو أنه كان يعتقد أن العثور على حل لمشكلة التناقض الظاهري كان يتطلب ذلك بالتحديد. وكان تصوره أن مشكلة التناقض الظاهري تنشأ من محاولة تعريف الصفات باستخدام تعبيرات جبرية تحتوي على إشارة إلى «كل الصفات»؛ لذلك كان لا بد من التحكم بشدة في الحديث عن «كل الصفات»؛ ومن ثم، يجب تقسيم صفات النمط 1، مثلا، تقسيما فرعيا إلى رتب: رتبة أولى من الصفات لا يرد في تعريفها التعبير الجبري «كل الصفات»؛ ورتبة ثانية من الصفات يرد في تعريفها التعبير الجبري «كل صفات الرتبة الأولى»؛ ورتبة ثالثة يرد في تعريفها التعبير الجبري «كل صفات الرتبة الثانية»؛ وهكذا. وما دام لا ترد إشارة قط إلى «كل الصفات» ولا تنسبها إلى رتبة محددة، فلا تعرف أي صفة بحيث يشار إلى المجموعة الكلية التي تنتمي إليها. وتضمن هذه الطريقة تجنب التناقض الظاهري.
ولكنها تحقق هذه النتيجة على حساب جانب آخر؛ فهي تتسبب في إدخال صعوبات في نظرية الأعداد الحقيقية بحجب أهم تعريفاتها ونظرياتها. وللتغلب على هذه المشكلة ابتكر راسل بديهية القابلية للاختزال، وتحاول هذه البديهية تصميم طريقة لاختزال الرتب الموجودة ضمن نمط ما إلى الرتبة الأدنى. وتخلى راسل عن هذه الخطوة في الطبعة الثانية من كتاب «أصول الرياضيات» (1927) بعد أن شبهها أحد المعلقين باستخدام «القوة المفرطة» لإنقاذ نظرية الأعداد الحقيقية. ولكنه وجد نفسه في مأزق لأنه لم يستطع قبول وجود أي بديل للنظرية المتشعبة للأنماط. وفي رد فعل لهذا الموقف، قدم رامزي النظرية «البسيطة» للأنماط التي سبق وصفها. (تجدر الإشارة إلى أن نظرية رامزي تستدعي المناقشة في حد ذاتها؛ فهي تقدم طرحا خلافيا مفاده أن الطابع الدائري الذي تتسم به التعريفات التي تنسب الصفات إلى نفسها غير ضار؛ وتتطلب النظرية اعتناق وجهة نظر واقعية خلافية بالقدر نفسه عن وجود المجموعات الكلية قبل تعريفها.)
اصطدمت طموحات راسل المتعلقة بالنزعة المنطقية بصعوبات، وهو ما يرجع في جزء منه إلى طبيعة الطموحات نفسها وفي جزء آخر إلى أن النزعة المنطقية نفسها غير قابلة للتنفيذ، وذلك كما توحي التطورات اللاحقة التي شهدتها الرياضيات، ولا سيما أعمال كيرت جوديل. برهن جوديل على أن أي نظام منهجي يلائم نظرية الأعداد ينطوي على معادلة غير قابلة للتحديد، بمعنى أنها معادلة لا يمكن إثبات صحتها أو إثبات نفيها. ومن النتائج المباشرة لهذه النظرية أن يتعذر إثبات اتساق مثل هذا النظام داخل النظام؛ لذلك لا يستطيع المرء افتراض أن الرياضيات (أو أيا من أقسامها الكبرى) يمكن تزويدها بمجموعة من البديهيات الكافية لإنتاج كل حقائقها. وتبرهن أعماله على أن المنهج القائم على البديهيات ينطوي على عوائق شديدة متأصلة، وأن الطريقة الوحيدة لإثبات اتساق الكثير من أنواع أنظمة الاستدلال هي استخدام نظام استنتاج معقد إلى حد يجعل اتساقه هو نفسه محل شك بالقدر نفسه.
كان ما يحتاج إليه راسل لمواصلة مشروعه المنطقي هو تنظيما منهجيا يستبعد إمكانية التناقض. وتفيد أعمال جوديل أن هذا مستحيل. ولا بد من أن نستنتج من ذلك أن الإنجاز الذي أحرزه كتاب «مبادئ الرياضيات»، وكتاب «أصول الرياضيات» بوجه خاص، لا يكمن في درجة تحقيق كل منهما لأهدافه المعلنة، بل فيما يمكن أن يطلق عليه «النتائج الاشتقاقية» المهمة التي حققاها في مجالي المنطق والفلسفة.
نظرية الأوصاف
كان من أبلغ النتائج الاشتقاقية تأثيرا «نظرية الأوصاف» التي وضعها راسل. وحقق راسل باستنباط هذه النظرية المهمة عددا من الأهداف المختلفة؛ فمن الدروس التي استفادها من انتقاد المذهب المثالي هو أن القواعد النحوية السطحية للغة من الممكن أن تضللنا بخصوص معنى ما نقوله. كما سبق، كان راسل يظن أن السبب الذي كان يدفع الفلاسفة إلى اعتناق ميتافيزيقا المادة والصفة - وهو رأي يتوغل في صعاب عويصة، كما يتبين من الجدل الذي شهده تاريخ الفلسفة - هو أنهم رأوا أن كل القضايا تتخذ صيغة موضوع ومحمول أساسا؛ فقد تناول الفلاسفة عبارتي «الطاولة مصنوعة من الخشب» و«الطاولة تكون إلى يسار الباب» على أن الموضوع في كل منهما هو كلمة «الطاولة»، وأن المحمول هو الكلمات التي تلي الفعل الرابط «فعل الكينونة» في كلتيهما. ولكن فيما يمكن أن تعد الجملة الأولى قضية من هذا النوع، فإن الجملة الثانية تعبر عن شيء مختلف بعض الشيء؛ قضية ارتباطية، وهي في الواقع تحتوي على موضوعين («الطاولة» و«الباب»)، وهي تؤكد على أن كلا منهما تجمعه رابطة معينة بالآخر. وهكذا فإن الصيغة المنطقية للجملة الثانية مختلفة بعض الشيء عن الصيغة المنطقية للجملة الأولى؛ ومن ثم، كان لا بد - من وجهة نظر راسل - من وجود منهج لكشف الصيغة الكامنة الحقيقية لما نقوله من أجل مساعدتنا على تجنب الأخطاء الفلسفية.
وكانت الخطوة المهمة التالية التي اتخذها راسل هي تطبيق المنطق الجديد على هذه المهمة. ومثلما يفيد المنطق الجديد في تعريف مفاهيم الرياضيات وعملياتها، فهو يفيد أيضا في تحليل ما نقوله عن العالم؛ وبهذا نحصل على صورة صحيحة عن الواقع.
ولعرض كيفية تنفيذ نظرية الأوصاف لهذه المهمة، يمكن وصف كيفية حل هذه النظرية لمشكلة مهمة تتعلق بالمعنى والإسناد. تأتي أصول تناول راسل لهذه المشكلة في أعمال الفيلسوف النمساوي أليكسيوس مينونج، وقد درسها راسل دراسة متأنية؛ ولذلك كانت من المؤثرات المبكرة التي تأثر بها. كان مينونج يرى أن العبارات الدالة - أسماء مثل «راسل» وأوصاف مثل «مؤلف كتاب مبادئ الرياضيات» - لا يمكن أن ترد على نحو ملحوظ في القضايا (تحديدا: في الجمل التي تعبر عن قضايا) إلا إذا كان ما تدل عليه موجودا. وأخذ مينونج يدافع عن رأيه بقوله: فلنفترض أنك تقول «الجبل الذهبي ليس موجودا». من الواضح أنك تتحدث عن شيء - الجبل الذهبي - وأنت تؤكد على أنه غير موجود؛ وما دام ما تقوله له معنى، فلا بد أنه يوجد جبل ذهبي، بمعنى معين. وتقول نظريته إن كل شيء يمكن التحدث عنه - تسميته والإشارة إليه - لا بد أن يكون إما موجودا أو له «كينونة» من نوع ما حتى لو كانت تلك الكينونة لا تساوي الوجود، وإلا صار ما نقوله مجردا من المعنى.
تقبل راسل هذا الرأي في البداية، وطرحه فعلا في كتاب «مبادئ الرياضيات»؛ وهذا هو السبب - كما ذكرت آنفا - في أنه ذكر في هذا الكتاب اعتقاده بوجود - أو على الأقل بكينونة - «الأعداد والآلهة الإغريقية والكائنات الخرافية مثل وحش الكمير». ولكن سرعان ما أساءت عدم قابلية تصديق هذا الرأي إلى «رؤيته النابضة بالحياة للواقع» - على حد تعبيره - لأنه لم يحشد الكون بكيانات مجردة وأسطورية فقط، بل أيضا بأشياء مستحيلة مثل «المربع المستدير»، ولم يستطع راسل أن يقبل هذا.
Page inconnue
استخدم راسل أساليب المنطق لاستنباط حل جميل. لم يكن يرغب في التخلي عن الرأي القائل بأن أي اسم لا يكون ذا معنى إلا إذا كان يوجد شيء يطلق عليه هذا الاسم، ولكنه حاول أن يؤكد أن الأسماء «الصحيحة منطقيا» هي وحدها تلك الأسماء التي تدل على كيانات «محددة» يمكن أن «يتعرف» عليها المرء. وكان راسل يقصد ب «التعرف» صلة مباشرة وفورية بين الذهن والشيء؛ وتشمل الأمثلة الوعي بالبيانات الحسية التي يحيط بها الإدراك (انظر أدناه) ومعرفة مثل تلك الكيانات المجردة على أنها قضايا. الأسماء الصحيحة منطقيا هي وحدها التي يمكنها أن تشغل مكان الموضوع نحويا في الجمل. وأفضل الأمثلة اسما الإشارة «هذا» و«ذلك»؛ لأنه من المؤكد وجود إحالة لهما في كل مرة يستخدمان فيها. وكل عبارات التسمية الظاهرية الأخرى هي في الحقيقة ليست عبارات تسمية على الإطلاق، بل هي - أو عند تحليلها يتضح أنها - «أوصاف معرفة»، بمعنى أنها عبارات معرفة ب «أل». وتكمن أهمية هذا في أنه عند تحليل الجمل التي تحتوي على أوصاف، تختفي العبارات الوصفية؛ ومن ثم لا يتوقف معنى ما يقوله المرء على وجود مفترض أو كينونة مفترضة لكيان ما يبدو أن الأوصاف - وفقا للقواعد النحوية السطحية - تدل عليه.
ويمكن فهم هذا بدراسة مثال؛ فلنأخذ جملة «الملك الحالي لفرنسا أصلع»، على أن تقال في فترة لا يكون لفرنسا فيها ملك. على افتراض أن الجمل دائما إما صحيحة أو كاذبة، فماذا عساه أن يرد المرء إذا سئل: هل هذه الجملة صحيحة أم كاذبة؟ يبدو من الواضح أن الرد سيكون: «كاذبة»، ليس لأن الملك الحالي لفرنسا شعره غزير، بل لأنه غير موجود. ومنحت هذه الجزئية لراسل مفتاح الحل؛ فأخذ يؤكد أن الجمل التي تحتوي على أوصاف معرفة وتقع في مكان الموضوع/الفاعل نحويا يتضح عند تحليلها أنها اختزال لمجموعة من الجمل التي تؤكد وجود وتفرد وصلع شيء يحمل صفة كونه الملك الحالي لفرنسا؛ وهكذا فإن جملة «الملك الحالي لفرنسا أصلع» تعادل: (1)
لفرنسا ملك. (2)
ليس لفرنسا أكثر من ملك واحد. (3)
ملك فرنسا أيا كان هو أصلع.
الجملة (1) هي ادعاء بالوجود؛ والجملة (2) ادعاء بالتفرد، بمعنى أنها تحتوي على معنى ضمني لأداة التعريف «أل» في الوصف يقضي بأنه لا يوجد إلا شيء واحد نتحدث عنه؛ والجملة (3) هي الإسناد. تكون الجملة الأصلية «الملك الحالي لفرنسا أصلع» صحيحة حين تكون كل العناصر الثلاثة صحيحة؛ وتكون كاذبة إذا كان أي منها كاذبا. وفي الحالة الراهنة تكون الجملة كاذبة لأن العنصر (1) كاذب.
لا يظهر وصف «الملك الحالي لفرنسا» في أي من (1)-(3). وما دامت العبارة الوصفية قد اختفت - جرى التخلص منها بالتحليل - فلا ضرورة لاستحضار ملك حقيقي لفرنسا لجعل الجملة ذات معنى.
نظرا للعيوب التي تنطوي عليها اللغة العادية، ولأن الصيغ السطحية للجمل قد تختلف عن صيغها المنطقية الكامنة؛ فإن التحليل الذي طبق - كما يقول راسل - ما زال غير مناسب بما يكفي، بل لا بد من صياغته ب «اللغة المثالية» للمنطق الرمزي؛ فهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنها إيضاح المعنى الذي تؤكده جملة «الملك الحالي لفرنسا أصلع» بوضوح «تام». وبالرموز التي أصبحت حاليا مستخدمة ومتعارفا عليها، يصبح التحليل المنطقي للجملة كما يأتي:
يرمز الرمز
في سلسلة الرموز هذه إلى «و»، ويقسم سلسلة الرموز إلى ثلاث معادلات متصلة؛ إذن تكون الجمل الثلاث السابقة (1)-(3) بالترتيب كما يلي: (1)
Page inconnue