فصل واعلم أن لفظ القبيح وما يرادفه والحسن وما يرادفه ألفاظ موضوعة لمعان ثابتة، وذلك المعنى معلوم عند الواضعين له لا خلاف بين العقلاء من أهل اللغة وغيرهم أن قولهم هذا قبيح وهذا حسن أو هذا حق وهذا باطل أو نحو ذلك من الألفاظ المرادفة لهما المؤدية لمعناهما كلام مفيد، وليس من اللفظ المهمل الذي لا يفيد، وإذا كان مفيدا فلا يخلو إما أن يفيد المعنى المعقول منهما أولا، والثاني باطل بالإجماع فتعين الأول وبه يتبين المطلوب، وهذا الحكم لازم لجميع الألفاظ اللغوية كلفظ قادر، وعالم وخالق لأن أهل اللغة إنما يضعون الأسماء للمعاني، وهذا أمر ظاهر لا ينكره من له أدنى بصيرة؛ فإذا ثبت ذلك فلا يكون خطاب الشارع مطابقا لذلك إلا وهو كذلك، وإذا ثبت ذلك فقد ثبت له صفة الحسن والقبيح من قبل ورود الخطاب، وهذا مما لا خلاص منه إلا بالقول بأن للأفعال صفات تقع عليها إذا اقتضت أن يؤمر بحسنها وينهى عن سيئها ويخبر عن حسنها بما هو عليه، وعن قبيحها بما هو عليه، فيكون للخير مخبر ثابت في نفسه فعلم العقل بأن الفعل حق حسن، وضده باطل قبيح، ثم علمه بأن الشارع هدى إلى الحق وما هو في نفسه حسن، ونهى عن القبيح وما هو في نفسه باطل طريق له إلى علم من هو أحق بأن يتبع إذا هدى إليه كما قال تعالى: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى} وهذا أيضا من الطرق إلى تصديق الرسل وأنهم جاءوا بالحق من عند الله، ولهذا قال بعض الأعراب وقد سئل بما ذا عرفت أن محمدا رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به، قال الله تعالى: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب}.
وأخرج الماوردي، وابن السكري، وابن مندة ، وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال: بلغ أكتم بن صيفي مخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأراد أن يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلان فأتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: نحن رسل أكتم نسأل من أنت؟ وبم جئت به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا محمد بن عبد الله وأنا عبد الله ورسوله ثم تلا عليهم: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} إلى:{ تذكرون})) قالوا: اردد علينا هذا القول فردد عليهم حتى حفطوه فأتيا أكتم فأخبراه، فلما سمع الآية قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها فكونوا في هذا الأمر رأسا ولا تكونوا فيه أذنابا، وكونوا فيه أولا ولا تكونوا فيه آخرا.
Page 15