Le Reste du Temps est une Heure
الباقي من الزمن ساعة
Genres
فقالت بضيق: لن تجد ضامنا، ولا ضرورة لذلك.
على أن السيد الوجيه نعمان الرشيدي جعل من العسر يسرا؛ نشط نشاطا كبيرا فأهدى أثاث فيلته إلى أبنائه، وأعاد تأثيثها على أحدث طراز، وفي مقابل ذلك اتفق على صداق ومؤخر صداق رمزيين. وارتاحت الأسرة في الأعماق لذلك ولكن تجلى طفحه في الوجوه في صورة كبرياء جريح. لذلك غالت الأم في تزويد كريمتها بالثياب أشكالا وألوانا، وأغدقت عليها هدايا ثمينة؛ أساور ذهبية وقرطا ماسيا وساعة أثرية. وبدا الوجيه حريصا على الوقت فتحدد يوم لكتب الكتاب في البيت الكبير شهده الأصدقاء ولم يحضره أحد من أبناء الوجيه، معلنين بذلك مقاطعتهم التي تواصلت إلى الأبد. ومضى الوجيه بعروسه في سيارته المرسيدس البيضاء مودعا ببسمات متلألئة بالدموع كرمز للفرح والأسى معا. وعقب الزيارة الأولى التي قامت بها الأسرة لفيلا شارع الزقازيق قال حامد برهان: كوثر سعيدة والحمد لله.
كانت سعيدة حقا، وسرعان ما بادلت زوجها حبا بحب. كان حبا حييا هادئا ولكن بالقياس إليها كان الحب كله. وما لبثت أن بشرتهم بمقدم مخلوق مجهول من الغيب؛ فانغرست البشاشة في قلب سنية المهدي طارحة ورودا وأزهارا. وأضفت التسريحة الجديدة على وجه كوثر أنوثة، وأكسبها الزواق ملاحة، وأسبغت عليها الثياب الفاخرة جلالا وسؤددا وإن لم تهمل يوما سجادة الصلاة. وأخفت عن أمها هموما صغيرة تسللت إلى وجدانها من جراء محاولات مستميتة بذلها نعمان الرشيدي ليقنعها باحتساء القليل من الويسكي، لاجئا إلى إصدار فتاوى شخصية لا أساس لها بأن الشرب الشرعي حلال، حتى يئس فقنع بالمتاح. وما إن رفع حامد برهان رأسه عن هم كوثر حتى ركز عينيه على العمارة الجديدة التي استوت قائمة في مواجهة بيته. وبدأ الهدم ورمي الأساس من سنوات، وتوقف العمل وقتا غير قصير لأسباب مجهولة، ثم استؤنف حتى اكتملت بقاعدتها الواسعة وقامتها المديدة. أسف حامد لذلك غاية الأسف، وتحسر على زوال حديقة البيت الأصلي وأن يقوم مقامها بناء فيحجب ما يحجب من منظر مأنوس ويمنع ما يمنع من هواء طلق. وانقض على العمارة سكان جدد فاق عددهم سكان «ابن حوقل» جميعا، لا يعرف بعضهم بعضا ولا يتحمسون لمعرفة أحد. قال جعفر إبراهيم: هذا مصير بيوتنا الكبيرة القديمة!
فتساءل حامد برهان: ولكن ما حلوان إذا اغتصب هدوءها الأبدي؟!
وخيل إليه أن بوذا سينتبه من تأملاته العميقة محتجا ثم يرحل وراء الهدوء إلى أعماق الصحراء.
ولم تكن العمارة بالهم الوحيد الذي طرأ؛ فقد تدفق طوفان في ميدان السياسة دافعا بين يديه مظاهرات من الطلبة والعمال مطالبين باستقلال حقيقي يكافئ ما بذلته مصر من تضحيات وخدمات في أثناء الحرب. وكالعادة غلبت السياسة على السمر وانهمك حامد برهان الوفدي العريق في همومها، وقال: لو بقي مصطفى النحاس في الحكم لطالب الإنجليز بجزاء تأييده لهم في وقت الهزيمة.
غير أن همومه لم تحل بينه وبين رؤية ساكنة جديدة في الدور الرابع من العمارة الجديدة. كان يتمشى في حديقته الموحشة مصارعا الفراغ الجديد المهيمن على حياته فحانت منه التفاتة فرآها تتمشى في مطلع خريف. لعلها تماثل سنية في العمر - في الخمسين - ولكنها رشيقة مزخرفة ذات شعر ذهبي وعرق أجنبي. استقبل من ناحيتها تيارا مثيرا، هو الذي لم يهتم بالنظر إلى امرأة منذ تزوج من سنية المهدي. عاش حياته زوجا مثاليا لا يزهد ولا يتغير ولا يحلم حتى لفت الأنظار بطبعه العجيب. ولا يذكر أحد من معارفه أنه سمعه يحدث عن عالم المرأة، حتى قال صاحبه راضي أبو العزم مدرس العلوم: حامد متخصص في زوجته.
وبدا أن المرأة هيجت اهتمامات الجيران بفرنجتها وعصريتها وملابسها، فانتشر من نافورتها الشادية رذاذ المعلومات. قيل إن أمها إفرنجية - وإن لم يحدد الجنس - وإنها أرملة للمدعو حسن كمال الذي كان مدرسا بمدرسة الفنون وعضو بعثة في الخارج. وقيل إن لها ابنة وحيدة مترجمة بوزارة الخارجية، ثم صحح الخبر فيما بعد فقيل إنها ابنة زوجها من زوجة سابقة متوفية وإن المرأة تبنتها لعقمها؛ فعد ذلك حسنة تحسب لها. ثم عرف أن اسم المرأة - بعد إسلامها - ميرفت وأن البنت اسمها ألفت. وكانت المرأة تسلي وحدتها بالمشي في شوارع حلوان وزيارة الحديقة اليابانية، تمضي رشيقة براقة مثيرة داعية - دون مبالاة - لشتى الظنون، باسمة متحدية، بخلاف ألفت المواظبة على عملها والمتسمة بالجدية والحياد أيضا. وبالقياس إلى حامد برهان لم تكن ميرفت مجرد امرأة مثيرة تسعى، ولكنها كانت غزوة اقتحمت حصنه المنيع، ونارا أشعلت هشيم خياله، وسيلا جرف سده العالي. وعجب الرجل لحاله مغمغما: أعوذ بالله.
وذكره ذلك بما جرى في الحرم الجامعي وفوق كوبري عباس من مظاهرات وسفك دماء فقال: هذا يثبت أن الأرض تدور على قرن ثور! - وعم البلاء عندما وهبته المرأة انتباهها ولم يعد ثمة شك في أنها تشجعه! وذات يوم تلاقت أعينهما في نظرة آسرة فابتسمت إليه. تناثرت إرادته وانفجرت غرائزه، وتمخض جسده البدين عن جنون أحمر. تناسى واقعه وسنية وكوثر ومحمد ومنيرة فمضى وراءها إلى الحديقة اليابانية، ولم يكن يدري شيئا عن الغزل ولا حتى عما يجب أن يقال فسلم نفسه في براءة طفل، وتواعدا على اللقاء في القاهرة مختارا اليوم الذي يتسلم فيه معاشه على سبيل الحذر. وبهذه العلاقة استوى في مقام الحيرة. أدرك من أول وهلة أن «مصروفه» لا يسمح له بعلاقة غير مشروعة، فضلا عن أنهما لا يجدان عشا مناسبا. وقالت له: إني سيدة محترمة!
فقال - وكانا يجلسان في محل باليرمو بالهرم - بصراحة مؤثرة: وأنا كما ترين فقير!
Page inconnue