وأشهر أئمة الإنشاء في ذلك العصر رجلان؛ أحدهما: القاضي الفاضل محيي الدين - أو مجير الدين - أبو علي عبد الرحيم البيساني ثم العسقلاني ثم المصري، وزير صلاح الدين وصاحب ديوان الإنشاء لعهده، المتوفى سنة 596.
وثانيهما: العماد الكاتب الوزير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن حامد الأصفهاني، المتوفى سنة 597.
ويلقب القاضي الفاضل بشيخ البلاغة، ويلقب العماد الكاتب بعمدة المنشئين.
وقد أدخل العماد أساليب الترسل بما فيها من سجع، وجناس، واقتباس، واستعارات، وكنايات في المؤلفات العلمية، فكتب في التاريخ كتبا على هذا الطراز؛ مثل مؤلفه المعروف بالفيح القسي في الفتح القدسي.
أما القاضي الفاضل فله في كتابة الإنشاء طريقة تعرف بالطريقة الفاضلية، سار على نهجها أهل عصره ومن جاء بعد عصره، وفشت في الأدب العربي، وقد سن سننا فيما تصدر به الرسائل والتواقيع وما تختم، وفي أساليب الدعاء وغير الدعاء.
وتمتاز الطريقة الفاضلية بالإطناب، وكثرة الاقتباس والتضمين، والمطابقة، والتورية، والمجاز، مع الإسراف في الجناس وما إليه من المحسنات اللفظية، ومع الميل إلى المفردات الغريبة والتراكيب الفخمة.
عين البهاء زهير رئيسا لديوان الإنشاء في الدولة الأيوبية، فحل محلا كان القاضي الفاضل صاحبه من قبل، وتولاه بعده تلميذان من أتباع مذهبه.
جاء البهاء زهير والطريقة الفاضلية في عنفوان مجدها، فابتدع هو في الشعر والإنشاء نمطا جديدا خرج به عن التقاليد المرسومة في صور المخاطبات وفي الأساليب؛ فهو موجز لا يحب الإطناب، وهو مقتصد في زينة اللفظ، وهو نزاع إلى الوضوح والبساطة، فلا يرضى كثرة المجاز والكناية، وهو عدو للجمود على نظم في البيان تقتل مواهب الإبداع والتفنن.
ثم هو لا يريد أن يستبدل الناس بكلامهم العادي كلام الجاهلية الأولى إذا نظموا الشعر أو كتبوا، وإنما يريد أن يصحح الشعراء والكتاب أساليبهم على مقتضى القواعد العربية، حتى لا تنقطع الصلة بين ماضيهم وحاضرهم، من غير أن يجني ذلك على سهولة التفاهم، ولا على حركة اللغة ونموها وحياتها.
هذا المذهب الجديد في إصلاح الأدب العربي لم يلق في ذلك العصر ما يمده ويقويه، ولم يكن البهاء زهير بفطرته السمحة، وخلقه الوديع، رجل كفاح يجاهد متحمسا في سبيل دعوة لمذهب جديد.
Page inconnue