ولما رجع أديب من نيويورك وذهب لغرفة بديعة مسلما، رأت هذه بوجهه سرورا، ولم يكن من قبل باديا. أما هو فقال لها: إن في غرفتي رجلا بانتظارك يحمل إليك بشارة حسنة، فتعالي آخذك إليه وأعود فأحادث جميلة.
وفيما هما سائران نحو الغرفة، نظرت بديعة في وجهه وابتسمت، فقال لها: ليس كما ظننت ...
وبالحقيقة إن أديبا كان صادقا؛ لأن الرجل لم يكن فؤادا كما ظنت هي، بل كان شيخا وقورا لا تعرفه.
فاحتارت بديعة فيمن يكون هذا الرجل، وما هي هذه البشارة التي يحملها إليها؟ أما هو فلم يحتج إلى من يعرفه بها؛ لأنه كان قد رأى تينك العينين وهذا الوجه من قبل. نعم إنه عرفها ذابلة من الهموم، وهو يراها نضيرة وفي ربيع الحياة الآن، ولكن الهيئة هي ذاتها.
فبقي أديب في باب الغرفة وهو يقول: إن السيدة بديعة أقدر من على تقديم نفسها إليك. وخرج، فدخلت بديعة الغرفة بقلب واجف وصافحت الشيخ وهي تتساءل عما يكون غرضه.
ولم تطل بديعة جلوسها حتى مد ذلك الشيخ يده إلى جيبه وناولها كتابا، ففضته بيد مرتجفة، وأخذت تقرؤه وقد شعرت بأن نفسها صعدت إلى ما فوق هذا العالم، إلى عالم لم تكن تحلم به من قبل؛ لأن الكتاب كان كما يلي:
يا بنيتي المحبوبة
إنني والدة لا أستحق أن ألفظ كلمة «ولدي»؛ لأنني احتقرت هذا الاسم الشريف العزيز كثيرا، فصرت أستحق خسرانه. وهذا أخف قصاص على ذنبي العظيم، لولا أنني أثق برحمة الله الغزيرة، وأؤكد صفحك عن والدة هي التي أتت بك إلى هذا العالم، وهي التي تركتك تتحملين برودته وقساوته، وأنت كل أمل لها في الحياة وكل سعادة. ولكن قد يفعل الإنسان أحيانا يا عزيزتي ما يظنه «واجبه» ويكون بالحقيقة مصدر شقائه. وإنك من أولئك الناس الذين جلبوا على نفوسهم وعلى غيرهم معهم التعاسة إكراما لقوم آخرين وقياما بالواجب.
أنا يا حبيبتي قد ضحيت سعادة تربيتك وضمك إلى صدري لأجل والدي، فهل لك أن تصفحي أنت عني قياما بواجب الأمومة عليك أيضا؟ وذلك رحمة بقلب والدة تعيسة لا ترى سعادة بغير صفحك عنها ورجوعك إليها، واحتراما لعظام أب شريف كان محبا في حياته!
إنك سوف تتعجبين من هذه الكتابة؛ لأنك يا ابنتي لم تفتحي عينك على عين والدة حنونة، ولم تسمعي كلامها الحبي يرن في أذنيك؛ ذلك لأن حب العظمة والكبرياء العالمية قد حال دون الحنو الوالدي وأماته في صدري إلى هذا الوقت، حيث نشر من قبره وأتى صارخا نحوك يطالبك بالغفران والرجوع إليه بعد زوال العقبات؛ لأنك له وهو لك.
Page inconnue