كلمة في الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
Page inconnue
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
Page inconnue
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
Page inconnue
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
Page inconnue
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
كلمة في الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
Page inconnue
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
Page inconnue
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
Page inconnue
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
Page inconnue
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
Page inconnue
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
بديعة وفؤاد
بديعة وفؤاد
تأليف
عفيفة كرم
كلمة في الرواية
بعد حمد الله تعالى الذي هو في بدء ومنتهى كل عمل، أقول: إن انقطاعي عن الكتابة ومناجاة إخواني السوريين وأخواتي السوريات - ولا سيما المهاجرات منهن - على صفحات «الهدى»، كان مني تفرغا لتأليف رواية نسائية أدبية غرامية، سبكت فيها بعض أفكاري لسببين؛ الأول: لأن للسيدات ولعا شديدا بقراءة الروايات، فهن يطالعنها بصبر وجلادة لا يكونان منهن في مطالعة سائر الكتب، وذلك ما يساعد مبادئ الرواية والأفكار المبثوثة فيها على دخول عقولهن وقلوبهن مصحوبة بالتفكهة والفائدة. فالكتابات - وأخصها الروايات - «نار ونور» كما يقولون، وتكون بحسب مبادئها إما محرقة وإما مضيئة. والثاني: لأن الأفكار متى جمعت ونسقت بقالب رواية تصبح كالسلسلة المتصلة الحلقات، فتفيد القارئ وتكون أشد تأثيرا وأحسن وقعا عليه من سواها، فضلا عن أنها تحفظ في البيت كما تحفظ في الذاكرة زمانا طويلا، وتقرأ بلذة ورغبة، بخلاف المقالات والفصول المتقطعة.
Page inconnue
ومعلوم أن الروايات إنما هي المرايا تنعكس عليها صور أعمال وحوادث كل إنسان تقريبا، فيقرأ من بين تضاعيف سطورها وخلال حوادثها ما يمثل له نفسه في بعض الأحيان، فيتأثر مما هو مؤثر أو يبكي ويفرح لما يكون مبكيا ومفرحا، ويطلب فوق ذلك لنفسه الدواء الناجع الذي يصفه المؤلف لغيره، وتلك هي أجل منافع الروايات المفيدة التي لا تستفاد إلا منها ومن أمثالها من الكتب.
إني في هذه الرواية أخالف عادة بعض الكتاب في ثلاثة أمور، وهي أولا: أنني لا أقدمها لشخص وفرت أمواله، فرجي نواله وخيف انتقامه فأجل مقامه. والرواية عمومية لا نصيب لأحد دون محبي العموم والإنسانية فيها، فهي تهدى ولكن إلى المفضلين أدبيا علي، وأخص منهم بالذكر صاحب جريدة «الهدى» اليومية الذي نشطني وساعدني على بث آرائي وإبداء أفكاري، كما ساعد الكثيرين والكثيرات غيري مساعدته لي، حتى عرفت جريدته بالمنشطة للآداب والتهذيب والنافخة لروحهما بين جاليتنا السورية الأمريكية. وأقدمها ثانيا للأديبات والأدباء من قراء جريدة «الهدى» الكرام، الذين كان اعتبارهم الماضي لمقالاتي ورضاهم عنها من أكبر المساعدات لي على استطراد السير في طريق الإصلاح الوعرة، بالرغم عما اعترضني فيها من المصاعب التي عوضا عن أن تثبط عزيمتي كانت منشطة لي، فوجب علي أن أذكر هذه الفئة الكريمة بالشكر والثناء، وأجعل لها من اعتباري بإشراكها في تقديم الرواية لها نصيبا وافرا. وأضم إلى ما مر آنفا كلاما قاله أحد المؤلفين الأمريكيين في صدر كتابه، أقتبسه عنه وأراجعه بلسان الوطنية قائلة: إنني أشرك في تقديم هذه الرواية الذين عملوا لأجلنا كثيرا، والذين نرجو أن نعمل لأجلهم شيئا في المستقبل، وهم:
أولا:
أمهاتنا اللواتي «بنين» البيوت التي استقبلتنا أول دخولنا هذا العالم.
ثانيا:
زوجاتنا اللواتي «يبنين» لنا البيوت التي نسكنها الآن.
ثالثا:
بناتنا المزمعات أن «يبنين» البيوت للذين يأتون بعدنا.
رابعا:
القراء الذين تلطفوا باعتبار كتاباتنا الماضية، وهم غير متحولين عما تفضلوا علينا به من قبل إن شاء الله.
Page inconnue
خامسا:
الذين لهم بيوت سعيدة والذين يحتاجون إليها.
ولا أحب الاعتذار الكثير عن الخلل ولا الترجي بالتجاوز عنه، بل أقول بكل بساطة وحرية: إنني علقت في هذه الرواية كل ما حضرني وخطر لي من الخواطر في بضعة الشهور التي انقطعت فيها عن متابعة الكتابة في «الهدى» وهي ستة، وكان قصدي المساعدة على الخدمة والإصلاح بما في الوسع وليس دون ذلك أم فوقه، ولم أكتب كلمة إلا رجوت من ورائها النفع العام لأبناء وبنات جنسي، فإن كان الأمر ما حسبته فمكافأتي الوحيدة المبتغاة منهم هي تدبر كلامي والعمل بما يرونه حسنا منه، أو انتقاده الذي هو عندي من خير المكافأة على أتعابي أيضا.
وأخالف عادة البعض ثالثا بأنني أشترط على القراء شروطا، منها: أن يتأكدوا بأنني لم أهتم كثيرا في روايتي هذه بتنسيق الحوادث وسردها؛ إذ لكل قارئة وقارئ روايات مما يمر عليهما ومعهما وأمامهما كل يوم، بل كانت غايتي التي أعتبرها أسمى من كل تنسيق وتنميق والتي وجهت إليها أكثر عنايتي: «بث الأفكار الإصلاحية التهذيبية الانتقادية»، ومنها التوسل إلى أبناء وطني أن يتناسوا بعض العوائد السورية، وألا يذكروا بأن المؤلفة امرأة سورية ولو عند قراءة الرواية فقط؛ ذلك لأنني وأنا أكتب هذه السطور بأذن ضميري انتقادهم على المؤلفة لأنها كتبت عن «الحب والزواج»، وأنظر بعين فكري «ازورار الأعين» وعض الشفاه، وأنا لا أبالي بكل هذه العادات المذمومة التي هي من الحوائل في سبيل تقدم النساء وحرمان هذا الجنس من نصائح بناته، بل إنني أخشى على ذهاب الفائدة مع القراء الذين يعتقدون بهذه الحشمة المضرة التي توقف المرأة عن تقديم المفيد لبنات جنسها، ومعلوم أن الذي لا يعتقد بوجوب الشيء لا يستفيد منه.
وأكرر توسلاتي القلبية إلى البعض من القراء، ولا سيما إلى النساء أن يترووا في قراءة هذه الرواية الصغيرة، وألا يدنوا من الحقيقة حتى إذا كادت تصافحهم نفروا منها سراعا إلى الوهم، أي أن يقرءوا بتمعن ويطرقوا بصبر الطريق الموصلة إلى الحوادث المبثوثة بين الأفكار، بأن يعتبروا ما حل بفؤاد وما عملت بديعة وما لقيته لوسيا بعد معيشتها المتطرفة. كل هذه أمور مشوقة، ولكن الأفكار التي قد يحسبونها «مملة» هي مفيدة، والفرق بين الفائدة واللذة عظيم.
وفي الختام، أنبه القراء الكرام إلى أن روايتي هذه هي باكورة مؤلفاتي وأنها لامرأة سورية، فانتقادها يأتي بالفائدة المطلوبة، وتقريظها قائم في «الرضى عنها». وهنا يجب أن أصرح بأمر على غاية من الأهمية، هو أن الرواية كتبت بقصد الخدمة المجردة لا بقصد الأرباح المادية. وأن ما يباع منها بعد أداء أجرة طبعها يكون للإحسان، وأن كل سيدة مشتركة في «الهدى» لها حق بنسخة منها ترسل إليها مجانا، فإذا لم تصلها يجب أن تطلبها مني أو من إدارة «الهدى». وما هذا إلا بعض الواجب علي من الخدمة العامة، وبعض الدليل على حسن القصد. وأنا لكم سيداتي وسادتي القراء المخلصة في خدمة الوطنية والآداب.
عفيفة كرم
الفصل الأول
الصيف
في إحدى ليالي الصيف المقمرة خرج سرب من فتيات إحدى قرى لبنان للاستملاء من عين القرية الواقعة على نحو مسافة ميل من البيوت في قرار واد عميق، وكان بين هؤلاء الفتيات اثنتان تفوقان أترابهما جمالا وتفضلانهن حسنا واكتمالا كما يفضل القمر والشمس الكواكب. وكانت إحداهن في السابعة عشرة من عمرها، بيضاء اللون سوداء العينين والشعر والحاجبين، ذات لون يكاد يبهر الناظر بنقائه وجماله تحت ذلك الليل الدامس من الشعر الطويل، وفوق ذلك الوجه الناصع البياض والممتلئ رواء مما يندر وجوده في امرأة؛ لأن الشعر الفاحم والعينين السوداوين من لوازم اللون الأسمر، كما أن العينين الزرقاوين والشعر الذهبي أو الأشقر من خصائص اللون الأبيض. وكانت معتدلة القوام نحيلة الخصر صغيرة الثغر منتسقة الأسنان، وكانت الأخرى في العشرين من عمرها تمثل نوع الجمال الحنطي ومكملاته من العينين الكستناويتين والشعر المماثل لهما بلونه.
Page inconnue
وكانت هؤلاء الفتيات ماشيات وجرارهن على أكتافهن فارغات لا يعيقهن شيء عن التقدم بخفة ورشاقة في ذلك السهل الواسع قبل مشارفة الوادي، وكانت الواحدة منهن تثب ضاحكة فتتبعها الأخرى هائلة مازحة اندفاعا بقوة الشباب وثمولا من خمرة الصبا، وما ترى كان ليزعجهن في تلك الساعة وفي ذلك المكان والعمر! أما إن أيام الصبا تساعد على السعادة الحقيقية؛ إذ تفتح العين على هناء الحياة وتغمضها عن شقائها، إلى أن يمر طور «البساطة الطبيعية» وتنقضي ليالي الأحلام الذهبية ويأتي زمان الاختبار والجد، فيتنبه الإنسان لما خسره في ذلك الشطر من العمر؛ إذ يرى غيره يسرح ويمرح تحت ظل سماء السعادة التي كانت في تلك الليلة ضاحكة لهؤلاء الفتيات بوجه القمر المنير على ذلك السهل الواسع، وهن يركضن بدون أن يشعرن بتعب من المشي أو يكترثن للأحمال الثقيلة التي كانت من نصيب أكتافهن عند الرجوع. ولم يكن ينقص تلك الليلة القمراء وذلك المنظر الطبيعي الجميل اللذين يشابهان بياض وجمال قلوبهن الطاهر، وذلك النسيم العليل البليل الذي كان يزيد وجوههن بهاء ورواء، وأنفاسهن طيبا وحلاوة، وأصواتهن نعومة ورخامة، غير مصور يشعر بجمال ذلك المنظر وقوته، فيرسم الطبيعة وبناتها الطبيعيات الطاهرات بشكل بقعة جميلة من الأرض مصونة بحائط نبت فيها الكثير من الزنابق النضرة الجميلة المنظر الزكية الرائحة والمحتاجة إلى الري مع تدفق المياه العذبة من حولها. بقعة جميلة هي لبنان العزيز وزنابق نضرة هي نساؤه الجميلات الطاهرات. ولكن وا أسفاه، انظروا إليها كيف هي ذليلة لانحباس قطر التهذيب عنها، فليس لها الرائحة التي كان يجب أن ترافقها، ولماذا؟ ذلك لأن الطبيعة مهما ساعدت على إيجاد المادة فلا بد ليد الصقال من المرور عليها للتحسين ولا سيما في هذه الأيام. نساؤنا جميلات؟ نعم. طاهرات؟ نعم. فاضلات وذكيات؟ نعم، وكأمهن الطبيعة. ولكن ما هو النفع من الآلة إذا كانت بدون يد تديرها وتزيل صدأها؟ وهل تكفي المادة وحدها بدون صقل؟ كلا! لأن الفائدة لا تأتي من صلابة فولاذ تلك الآلة ولا من جمال منظرها أو إتقان صنعتها، بل من العمل الذي تقوم به متى أدبرت. وأما إذا تعطلت فكل جمال فيها لا يفيد شيئا إلا التحسر، على أن لا تكون في حالتها اللائقة بها لتفيد. فجمال الوجه ونضارته وصحة الجسم وغضارته، أمور حسنة للمرأة، ولكنها لا تبني البيت؛ لأن من وراء الوجه الجميل والجسم الحسن التركيب معملا للفضيلة والفائدة البيتية والاجتماعية، وما دواليب ذلك المعمل وآلاته غير التهذيب والعلوم التي مع ظهور نفعها ومع محبة اللبنانيين لها والشعور بوجوبها للصبي، ينكرونها على البنت ويساعدون بذلك على قتل نصف المنفعة المتأتية للهيئة الاجتماعية من النساء لو كن متعلمات ومتهذبات حقيقة؛ فالزنابق لا تعيش بدون ماء، وقليلا ما يوجد الماء لزنابق لبنان الجميلة، وإذا وجد فهو غير كاف، فكيف تدعي إذن بأن زنابق الغرب أزكى رائحة وأجمل منظرا من زنابقنا التي كان يجب أن تكون أبهى وأبهج؟ لأنها تنبت في أرض طيبة تساعدها على ذلك، ونحن نمنع الماء عن تلك الزنابق فتجف وتذوي ثم تيبس من التهامل.
فتيات جميلات الوجوه، ولكن ينقصهن ما يجعل لذلك الحال رونقا ليضيء من وراء تلك الوجوه الوسيمة، ويظهر واضحا كأحرف مكتوبة على زجاجة حمراء في ليل أليل، لا تقرأ ما لم يوضع وراءها ضوء فتظهر بأجمل مظاهرها. صحيحات الأجسام، ولكن ينقصهن معرفة كيف تظهر هذه الصحة وكيف تكسى تلك الأجسام الجميلة بملابس مرتبة جميلة مثلها. رشيقات القدود، ولكن تلك القدود ينقصها هندام وعياقة. وكأن وجود «بديعة ولوسيا» تينك الفتاتين المهذبتين بين رفيقاتهما مما يصح به قول القائل: «والضد يظهر حسنه الضد.» وكأنهما كانتا كقطعتي قماش أخذتا من شقة واحدة فخيطتا وخرجتا وزخرفتا، وبإضافة صنعة يد الإنسان إلى يد الله فيهما صار الناظر إليهما يظنهما من غير ذلك القماش وهما منه. هكذا كانت «بديعة ولوسيا» اللتان أظهرتا للناظر جمالا مزدوجا أو جمالا تاما، وهو جمال النفس والجسد. ذلك لأنهما كانتا متهذبتين ومتعلمتين، وهذا ما جعلهن كغادتين باريسيتين قد اختلطتا بأولئك الفتيات الباقيات، ولو مر بهما رجل متهذب في ذلك الوقت لسأل نفسه متعجبا: هل هاتان الفتاتان لا تزالان عزبتين بهذا العمر وهذا الجمال والتهذيب؟! فيجيبه صوت من وراء هاتين النفسين الشريفتين متنهدا: «نعم.» نعم لا تزالان عزبتين؛ لأنه ما ترى يكون نصيب فقيرتين يتيمتين في العالم قد تربتا بالعازارية، وهذه الأيام أيام «دوطة» ووجاهة ومال، لا أيام تهذيب وأهلية.
ولما انتهت الفتيات من الوثوب والركض في ذلك السهل وأقبلن على شفا الوادي، انحدرن إلى العين أو بالحري هبطن هبوط الملائكة وأجنحتهن السعادة الحقيقية والقلوب الطاهرة النقية، فملأن جرارهن وجلسن للاستراحة قليلا يتجاذبن أطراف الأحاديث تحت سماء الله الصافية كقلوبهن، حيث الطبيعة جميلة ورءوفة ولا رقيب أو عذول، وما عسى أن تكون تلك الأحاديث سوى نتائج أفكارهن وقلوبهن الطاهرة؟ وكانت أول متكلمة منهن لوسيا، فقالت: ما أجمل هذه الليلة التي ستكون آخر ليلة نقضيها في الوطن يا بديعة!
فلم تجبها بديعة بل أجابت فتاة أخرى قائلة: أفلا تذكريننا وتذكرينها يا لوسيا متى وصلت إلى العشق، وهي آخر ليلة قضيناها سوية على هذه العين؟
فصعدت إذ ذاك زفرة من صدر لوسيا وقالت: كيف لا وأنا مع سروري بالسفر أشعر بأسف على فراقكن وفراق هذه العين المحبوبة؟ فجاوبها باقي الفتيات بزفرات حرى أيضا، وقالت واحدة منهن: هل أنت سعيدة بالسفر يا ابنة عمتي؟ أجابت لوسيا: سعادتي لا مزيد عليها.
وكانت الفتاة الثانية رفيقة لوسيا متكئة على حجر بعيدة عن سائر الفتيات مقدار خمس أقدام، وهي مصغية إلى نقيق الضفادع وناظرة إلى الوادي أمامها، وكأنها غير موجودة إلا بالجسد بينهن؛ لأن فكرها كان بعيدا ولم تفهم من كلامهن كلمة حتى، ولم تشعر أنهن بجانبها ولم تنتبه إلا ليد ألقيت على كتفها بلطف وصوت رقيق يكلمها قائلا: وهل أنت مسرورة أيضا يا بديعة؟
فبغتت الفتاة من هذا الصوت ونظرت إلى صاحبته بلهفة قائلة: «مسرورة من ماذا؟!»
فقالت الفتاة ولم تلحظ تشتت أفكارها، إما لأنها لم تكن دخلت بعد هذا الطور، وإما لأنها غير ذات ذوق لطيف وذكاء غريب تقدر على قراءة أفكار الإنسان من منظره: مسرورة من سفرك إلى أمريكا؟
فتنهدت إذ ذاك بديعة وقالت: إن السرور يتأتى من الشيء الذي يفعله الإنسان برغبة وحب وليس باضطرار وضغط ...
فأصاب سهم كلامها هذا كبد لوسيا وقالت بنزق: ومن ذا الذي اضطرك إلى السفر ضد إرادتك يا بديعة؟!
Page inconnue
فأجابت بديعة بصوتها الرزين مبتسمة: قولي «ما الذي» وليس «من الذي» يا عزيزتي؛ لأن اضطراري إلى السفر هو من الظروف الحاكمة. - ليس للظروف شأن بسفرنا ولا لحكمها يد به؛ لأن ذهابنا بملء إرادتنا وهو لأجل التقدم والربح والرجوع بغنائم الكسب كما رجع غيرنا. - إذن إن الظروف هي التي تحملنا على تحمل مشاق السفر والابتعاد عن أوطاننا وما فيها من الأحباء، فلو كانت والدتك ووالدتي في قيد الحياة، أو لو كانت ظروفنا تساعدنا على المعيشة براحة وعزة نفس؛ لما كنا نفضل التغرب على البقاء في الوطن الذي نحبه ونحب من فيه يا لوسيا. - هذا ما أسلم معك به، ولكن هل أنت تعيسة لسفرك وهو السعادة بعينها؟ - ومن أين عرفت هذا؟ - إن هذا معروف من الدلائل الظاهرة؛ فإن إبدال شيء قبيح بآخر حسن مما يسر لا يحزن. - وهل إبدال أمريكا بوطننا المحبوب من هذا القبيل؟ - من وجه ما نعم؛ لأن الناس يقولون بأن أمريكا هي أم الحرية والإخاء والمساواة، وأيامنا هذه أيام «مال»، فهو الكل في الكل، ومتى توفر للإنسان لا يعود يسأل عن الأصل أو الأدب أو الشرف؛ لأنه هو ينوب عن كل هذه الأشياء. - ما أوسع جنانك يا لوسيا وما أطلق لسانك! فإنك بالحقيقة خطيبة شهيرة، ولكن ليس هذا مقامك بين الجرار، فدعينا من هذا كله، وقولي من أين عرفت كل هذا عن أمريكا وأنت بعيدة عنها ألوف الأميال؟
فتحمست لوسيا وقالت بشيء من الغيط والتشبث في الرأي: هلمي بنا نرجع الآن، ومتى أقبلنا على القرية أريك بأن تهكمك خطأ يا بديعة؛ إذ تقرئين فضل أمريكا على وطننا مكتوبا بأحرف من نور على جدران كل منزل من منازلها.
فقامت البنات - إذ سمعن كلام لوسيا - إلى جرارهن وحملنها وصعدن هذه المرة، وقد نابت أفكارهن عن ألسنتهن فلم يثبن ولم يتكلمن كما في المرة الأولى؛ لأن مناكبهن كانت مؤلمة تحت ثقل أحمالهن، وهل يقدر الإنسان أن يجود بغير ماله؟! وكانت الفتيات بين معجبة بكلام لوسيا، ومشتاقة إلى مرأى أمريكا، وهازئة بهذه «الفلسفة»، ومفضلة الاستملاء من العين في كل ليلة على ألف أمريكا. ومع أنهن اختلفن رأيا وفكرا، فقد تساوين بخلو الفكر والقلب مما يزعجهما، ولم يكن منهن من تفتكر في أمر ذي بال غير لوسيا بسرورها بالسفر إلى أمريكا وبديعة بما هو أعظم من هذا بكثير.
ولم تنس بديعة قول لوسيا الأخير لها، فلما أطلت على القرية وظهرت منها الأنوار قالت للوسيا: يجب أن تقيمي بوعدك. فقالت لوسيا: هذا ما أفعله بسرور، فهل ترين تلك الأنوار المضاءة بهذه الدور الثلاث أكثر من الجميع؟ أجابت بديعة: نعم. قالت: إنك تعرفين هذه الدور لمن؟ - إنها لثلاثة إخوة، بنوها من سنوات، هذا كل ما أعرفه عنها. - وأنا أتمم لك ما بقي من تاريخها؛ فإن أبا هؤلاء الإخوة كان شريكا عند أحد الأغنياء فتوفي مخلفا ثلاثة صبيان وبنتا وأرملة تعيسة، طردت بعد موته بأيام بدعوى أن أولادها صغار ولا تقدر على العناية «بالرزق» والقيام به، فلم يكن من ملجأ لها غير الخدمة ولا لأولادها غير التكفف، فاقتصدت من خدمتها وتكفف أولادها قيمة جواز السفر، فسافرت إلى أمريكا تاركة أولادها على أبواب الناس. ولم تمض عليها سنة حتى أرسلت ستين ليرة «لمعلمها» أو الرجل الذي كانت تشتغل في أرضه لكي يرسل إليها أولادها. فأرسلهم ومكثوا جميعا عشر سنوات في أمريكا، ثم رجعوا وهم غير أولئك «الشحاذين»؛ لأنهم أتوا بمال كثير لم يعرف مبلغه، فتزوجوا بأحسن بنات البلدة، وأحدهم اقترن بابنة معلم وصار الناس ينادونهم «خواجات» بعدما كانوا أولئك «الشحاذين». وبنوا هذه الدور الثلاث التي هي أجمل دور البلدة. فهل يا ترى كانت موجودة لولا أمريكا؟ وهل كان يتخطر أهلها بالملابس الفاخرة، ويجارون أعاظم الناس بالتمدن والتفرنج وكل شيء لولا أمريكا؟ أو هل كان أضيف إلى الطبقة العالية في هذه القرية ثلاث دور وثلاثة «وجهاء» لولا أمريكا؟ فهذه أمريكا «تعمل» الناس بمعمل المال والتمدن، فيصبحون شيئا مذكورا بعد أن يكونوا نسيا منسيا.
ولما أنهت لوسيا كلامها الذي لفظته بحماسة زائدة صادق البنات كلهن عليه، إلا واحدة منهن قالت: تحيرنا من سرور لوسيا وسعادتها بالسفر، فهي تؤمل أن تذهب إلى أمريكا لترجع ظافرة بالمال الكثير وتتزوج أحسن عريس في البلد.
فأجابت لوسيا بقلة اكتراث: لا يا أختي، إن هذا ليس قصدي، بل إنني فتاة أحب التقدم المادي والأدبي، ولا أرى شيئا صعبا على الوصول إلى غايتي ومطلبي. إذ ذاك تكلمت بديعة فقالت: «ما أسهل القول قبل الفعل والعمل» يا لوسيا! فإن المستقبل لله، وما أدراك فلربما نلقى التعاسة عوضا عن السعادة بسفرتنا هذه؛ لأنه قد قيل:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن - إن كلامك غير مقبول عندي يا بديعة؛ لأن السعادة بأمريكا أمر مقرر لوجود المال بكثرة، وأما بيت المتنبي فلا أعتبره كثيرا؛ لأنه على رأي أحدهم قد نظمه في أيام كانت الريح تقدم وتؤخر؛ إذ كانت المراكب شراعية، وأما في أيامنا هذه فهي بخارية. - إذا كنت تحسبين يا أختي أن السعادة بالمال وحده، فأملي وطيد بأنك إن اجتهدت تكونين سعيدة. وأما أنا فإني أعتقد بصوابية بيت المتنبي لا فض فوه؛ إذ إنني لا أحسب السعادة بالمال حتى ولا هي بشيء آخر معلوم، بل هي بما يسر الإنسان. وقد تكون السعادة في الفقر أحيانا. ثم تنهدت وهي تعرف ما تجهله لوسيا عن السعادة. ثم نظرت إلى لوسيا ضاحكة وقالت: أظن أن رفيقاتنا ضجرن من حديثنا حتى ابتعدن عنا.
وهكذا كان لأن الفتيات ابتعدن عنهن وأخذن يغنين بأصوات رخيمة يحملها نسيم تلك الليلة إلى حيث يشاركهن فيها الملائكة، ولما وصلن إلى «باب القرية» ذهبت كل واحدة منهن إلى بيتها. وفي ثاني يوم اجتمعن ثانية في بيت لوسيا يودعنها ويودعن بديعة بعيون دامعات تقابلها عيون الفتاتين المحمرة من البكاء أيضا، وكانت لوسيا تطمئن قلوب البنات قائلة: لا تبكين يا عزيزاتي؛ فإننا نجتمع بعد سنتين إذا أراد الله. وهذه أفكار كل مهاجر يترك وطنه، ولكن هيهات أن تتم!
الفصل الثاني
Page inconnue
من هما الفتاتان؟
لندع الفتاتين الآن تجري بهما العربة إلى بيروت، يرافقهما والد لوسيا وأخوها من أبيها، ومنها إلى ظهر الباخرة مساجري ماريتيم، ولنعرف القارئ بهما.
لم تكن تعرف بديعة عن تاريخ حياتها شيئا سوى أنها أفاقت لحالها فوجدت نفسها في العازارية، وكانت لوسيا من أعز البنات إليها؛ لأنها كانت رفيقتها الخاصة، ومن مدة شهور قليلة ذهب والد لوسيا إلى المدرسة وأخرج الفتاتين وأتى بهما إلى بيته. وقال لبديعة وهي في الطريق معه بأنها بنت أخته وأن أبويها توفيا بالجدري حينما كانت بنت شهر فقط. أما أم لوسيا فقد توفيت إذ كانت هذه بنت سنة، فوضعهما في العازارية حيث تربتا. فاقتنعت الفتاتان بهذا القول ولم تستزيداه سؤالا.
ولما وصلتا إلى البيت كاد يغمى عليهما من مرآه واستنشاق الروائح الكريهة منه؛ لأنه كان كالمأوى للإنسان والحيوان معا، فيه البقر وغيرها من الدواب من الجهة الواحدة، والناس من الجهة الأخرى ينامون ويأكلون معا. فبكت الفتاتان وتذكرتا ذلك الدير الرحب النظيف الذي ربيتا وخدمتا وعاشتا داخل جدرانه محبوبتين من كل من فيه. وزاد في تألم الفتاتين أن والد لوسيا كان متزوجا بامرأة جاهلة ظالمة لا حنو ولا شفقة في قلبها عليهما؛ لظنها أنهما جاءتا لتسابقا أولادها وتسلباهم طعامهم ولباسهم.
وكانت تحسدهما بجمالهما وتهذيبهما وتغار منهما، وهذا شأن كل خالة مع أولاد زوجها، إلا إذا كانت عادلة فاضلة عاقلة.
فلم تطق بديعة هذا الضغط ولا هذه المعيشة، وفضلت أن تخدم عند أناس يفهمونها وتفهمهم، حتى تزيل أتعابها القلبية والجسدية بما تراه من نظافة وترتيب بيوتهم ، وما تسمعه من أفواههم من الكلام اللطيف، فرجعت بعد أسبوع إلى بيروت حيث توفقت لخدمة عائلة من أشهر عائلات تلك المدينة الزاهرة. وأما لوسيا فإنها تحملت كل هذا؛ لأن والدها لم يسمح لها بترك البيت ووعدها بإحسان معاملتها في المستقبل. وبالحقيقة إن معيشتها مع امرأة أبيها كانت خلاصة الحنظل؛ لأنها كانت ذات كبرياء زائدة، فرأت برعاية «البقر» والاستملاء وتربية دود الحرير مذلة وعارا. وكانت دائما تقول لأبيها: إننا يا أبي لا نفرق شيئا عن البهائم. نحن نكد ونتعب، ونفلح ونزرع، ونحمل على ظهورنا الأحمال الثقيلة، وكل ما نكسبه من ثمرة أتعابنا هذه هو «قوت يومنا»، كهذه الدواب التي تحمل الأحمال الثقيلة التي من ورائها غنى وسعادة أصحابها، وهي لا تستفيد منها إلا مقدارا من العليق والعلف، فكأن الحياة كلها كناية عن أكل ثلاث وجبات في النهار ونوم عشر ساعات في الليل. وكأننا قد خلقنا لنكون آلات يستعملنا الأغنياء لبناء بيت مستقبلهم وقلعة سعادتهم.
أما بديعة فقد وجدت بعد ذهابها راحتها عند أسيادها؛ لأن سيدتها وسيدها كانا مسرورين منها جدا؛ إذ إنها كانت تعلو منزلة وتسمو قدرا عن سائر الخدام والخادمات، وكأنها بأعمالها وآدابها وأخلاقها خلقت لتكون «سيدة لا خادمة»، كما قالت سيدتها مرة. وكان في بيت سيدها خدام كثيرون، أما هي فكانت أحسنهم. ولم تكن تعاشرهم ولا تخالطهم مطلقا؛ لما رأته من انحطاط آدابهم وميلهم إلى اللهو والقصف، وعدم أمانتهم على البيت الذي يعيشون فيه أو على من فيه.
ولكم من مرة مرت بديعة على غرفة الخدم، فوجدتهم بعد الانتهاء من أشغالهم جالسين يدخنون ويسكرون ويهزءون بأسيادهم وبمن دخل ذلك البيت في ذلك النهار، كأنهم الجواسيس على البيت وأصحابه وضيوفه. وفي ذات يوم سمعت بديعة صوت خادمة غريبة تنم بسيدتها لخادمة من خادمات بيت الخواجة منصور، فأجابت تلك الخادمة: «كلنا بهذه المصيبة» لأن سيدتنا كسيدتك وأمرها كيت وكيت. فزجرتها بديعة على عدم أمانتها وجحودها للجميل، وبطريق الصدفة كان كلامها على مسمع من سيدتها. فطردت تلك الخادمة من دارها وأعلت قدر ومنزلة بديعة، حتى أصبحت نديمتها وشريكتها وصديقتها في البيت أكثر مما هي خادمتها.
ولم يكن لبيت الخواجة منصور سوى ولد وحيد في الحادية والعشرين من عمره لم يزل في المدرسة، مع شاب آخر هو ابن خالته التي ماتت هي وأبوه بشهر واحد، فأتت السيدة مريم بابن أختها وربته، وإذ كان زوجها يحبها ويحترمها كثيرا أحب الغلام ورباه وعلمه العلوم التي علمها لابنه.
ولم يمض وقت طويل على خدمة بديعة لذلك البيت حتى كان الخامس عشر من شهر تموز، وهو يوم رجوع التلامذة من المدرسة لقضاء أيام العطلة في بيوتهم، وحسب العادة ذهبت والدة فؤاد السيدة مريم ووالده الخواجة منصور لملاقاته ومرافقته للبيت مع ابن خالته نسيب؛ ذلك بعد أن أكملت استعدادها لحفلة شائقة تقيمها في ذلك المساء إكراما لمجيء ولدها العزيز. وتركت بديعة في البيت الذي أوكلت إليها أمره.
Page inconnue
واستوحشت بديعة لغيابهما، فنزلت إلى الحديقة تتمشى، وفيما هي هناك سمعت ضجة الخدم يتكلمون وواحدة منهم تقول: أنا أعلم حق العلم بأن سيدتي ستندم على إكرام هذه الفتاة المتكبرة؛ لأنها قد أصبحت هي ربة البيت وسيدتنا الخادمة، وإذا تركتها على هذا الحال فإن وجهها هذا الجميل الذي تحبها لأجله وتفضله علينا كلنا سيكون سبب تعاستها؛ إذ يأتي سيدنا فؤاد ويقع في شراك هواها فتعرف إذ ذاك والدته الخطر من الوجوه الجميلة ... فأجابه صوت آخر وقال: اصبري قليلا فتسمعي سيدتك تقول هذه الجملة: «ركبتها ورائي فمدت يدها إلى الخرج.» ومن يعش ير.
عند ذلك انقطع الصوت، فمشت بديعة تهز برأسها وجملة المرأة الأخيرة ترن بأذنيها، ولما وصلت إلى ردهة الاستقبال جلست على مقعد من القطيفة الحمراء، وقالت: لا غرو إذا أبغضني الخدم، فأنا أبغض أعمالهم ولا أجاريهم فيها، ولكن كلام تينك الخادمتين كلام حكمة بالرغم عن صدوره منهما؛ فإن «الوجه الجميل خطر كبير» هذا حقيق، ولكن ليس مع من يكون عقلها أعظم من جمالها وشرفها أعظم من الاثنين. فما أقل عقول أولئك الخدام الذين يظنونني أتاجر بجمالي وأرمي شباك حسني إلى الشبان لأصطادهم بها. فأنا أعرف مقامي. وكفى بهذا لي رادعا عن كل عمل لا يكون لي ولا للغير منه سعادة بل شقاء. فطمئنوا نفوسكم يا رفاقي الخدم، واعلموا بأنني فتاة سوف لا أجعل سيدتكم تندم على استخدامي لثلاثة أمور؛ الأول: لأن التفاوت بيني وبين سيدكم عظيم. والثاني: لأنني سوف أتسلط على إرادتي كما فعلت وأفعل بكل وقت. والثالث: لأن لسيدتكم جميلا عظيما علي لا يكافأ بجرح قلبها هذا الجرح من اقتراني بولدها. وبينما هي بهذه الأفكار سمعت خرير دواليب العربة، فأسرعت للباب لملاقاة القادمين الذين نزلوا وذهبوا توا إلى ردهة الاستقبال، وذهبت هي إلى المطبخ لتعد لهم المرطبات.
لم تدر بديعة أن تلك النظرة بفؤاد قد غرست بقلبه شجرة سيكون ثمرها التعاسة والشقاء؛ إذ لو درت هذا لاقتلعتها حالا. ولكن هيهات أن تعود تقدر على ذلك؛ لأن غدف شجرة الحب تمتد في أرض القلوب بسرعة عجيبة، وأول ما شعرت به بديعة من أمر الحب هو لما قالت لها سيدتها في عصاري ذلك النهار بأنها تريد أن تعرفها بفؤاد ونسيب وتقدمها إليهما، وبدافع خفي لم تعرفه رفضت هذا الأمر معتذرة، واضطرب قلبها عند ذكر هذين الاسمين. فذهبت السيدة مريم من عندها وهي تقول: إذن لاحظي على الخدم في هذه الليلة يا عزيزتي، واستعدي للتعرف بهما غدا صباحا، إذا كنت لا تريدين هذا الأمر الليلة.
الفصل الثالث
الوليمة
عند الساعة السابعة إفرنجية - وكل شيء إفرنجي - ابتدأ توارد العربات البيتية الجميلة، تجرها جياد الخيول العربية إلى دار الخواجة منصور، فمنها ما كان ينتظر في فسحة الدار الخارجية، ومنها ما يتراجع بعد إيصال أصحابها. وكانت تلك الدار الرحيبة مضاءة بأجمل الأنوار الملونة، تضحك وتبش في وجوه الزائرين نائبة عن أصحابها بمقابلة الضيوف.
وعند مدخلها كان يرى شاب واقفا يلاحظ بطرف عينه الداخلين كأنه يدرس أخلاقهم بوجوههم، ولكن قل من اكترث له؛ لأن هؤلاء كانوا يدخلون وهم معرضون عن كل شيء حولهم، ومتشاغلون إما بالكلام مع رفقائهم وإما بالإسراع إلى داخل الدار. وكأن ذلك الشاب ضجر وتعب من الوقوف فجلس على مقعد قريب؛ لأنه عرف بأن مهمته لا تقضى بالقليل من الوقت.
وإذ ذاك تفرغ لمراقبة الناس المتقاطرة، فرأى ما كاد يضعضع فكره من اختلاف الأشياء، رأى السيدات الشابات بأثوابهن الفاخرة وأزيائهن العجيبة، يجررن وراءهن الأذيال الطويلة ليطابق قول القائل بأن المرأة كالطاوس، وعليهن الحلي النفيسة الموضوعة فوق صدور وأذرع مكشوفة كالبلور، لا يعرف الناظر أكان منها أم من الجواهر انبعاث ذلك النور الباهر. وإلى جوانبهن الشبان بملابسهم الإفرنجية على آخر زي، وقد بدا للكهولة والشيخوخة أثر ضعيف من النساء والرجال الذين كانوا يقبلون بالملابس العربية الفاخرة، حتى يخيل للناظر أن الأولين إفرنج والآخرين سوريون، ولا عجب إذا حكم الإنسان عليهم باختلاف الجنس، وكل فريق منهم يختلف عن الثاني زيا ولغة، فبينما الأولون يتكلمون اللغات الفرنساوية والإنكليزية والتركية، كان الآخرون يتكلمون لغتهم العربية فقط. ومن الغرابة أن بعض الشبان والشابات كانوا يشمئزون من الشيوخ والكهول لمحافظتهم على لغتهم وزيهم العربيين، في حين أن هؤلاء ينظرون إليهم بعيون ملؤها الرضى والسرور برؤية أولادهم وحفدتهم قادرين على تقليد الإفرنج، بينما هم مقصرون عن ذلك لكبر سنهم.
وبقي ذلك الشاب منتظرا خارجا حتى دخل جميع المدعوين تقريبا، فقام من مكانه وهم بالدخول أيضا؛ لأنه كان من جملة المدعوين. وكان يقول في نفسه: بعد مضي عشر سنين من الآن نسبق الإفرنج. ولربما صرنا في ذلك الوقت ننظر إليهم كما كانوا ينظرون إلينا قبل عشرين سنة. ولكن أهذا ما ندعوه تمدنا مفيدا أم مضرا؟ هذا هو السؤال السهل، ولكن الصعوبة في الجواب. إن التمدن والترتيب مفيدان جدا ولا شيء مثلهما، ولكن بشرط أن يكونا في كل شيء. والذي يستدعي الأسف أننا كدنا نسبق الإفرنج بتقليد العوائد المضرة فقط كعادة «الموضة» بكل شيء حتى «بلعب القمار»؛ فإن الإفرنج قوم درسوا قواعد تمدنهم أجيالا، أما نحن فلم نعرفه إلا من سنين. وقد كدنا نسبقهم بالتقليد. وهذه السرعة الغريبة تجعل الإنسان في ريب من الأصالة، وتحمله على المناداة مع العقلاء القائلين: «إذا أردتم الفضل الحقيقي فجدوا في طلبه من بيوت الفلاحين ومن الأكواخ المنفردة؛ لأنه هناك أبقى وأنظف مما هو في شوارع المدن الكبرى وساحاتها العمومية.» فلو نظرنا في أمر واحد، وهو أن نبقي على الجيد الحسن من عوائدنا، ونضيف إليه الجيد الحسن من عوائد الإفرنج عوضا عن الاندفاع التام وراء العوائد الإفرنجية، مع غض النظر عن المضر والمفيد منها، وترك عوائدنا كلها وإن كان فيها ما هو أفضل من عوائدهم بدعوى أن الأولى «موضة جديدة» وأن الثانية موضة قديمة، كأن الآداب ثوب يطويه البلى؛ لما كنا على ما نحن عليه من سوء الحال والحاجة إلى الإصلاح.
ولما دخل ردهة الاستقبال رآها مضاءة من وجوه الحسان بأبهى ما هي مضاءة من الأنوار، ورأى صاحبة المنزل قد جلست بقرب الباب لتكون منظورة من جميع ضيوفها عند وصولهم، فتوفر عليهم مشقة التفتيش عليها. وقد لبست ثوبا أسود نفيس القماش بسيط التخريج لا زخرفة فيه، ظهر به قدها الأهيف بأجمل مظهر، وتجلى فوقه وجهها الناصع البياض تحت شعر بلون ذلك الثوب كالقمر المنير في الليلة الحالكة الظلام. فقال في نفسه: يظهر بأن لي من وجه هذه السيدة مجلدات للدرس؛ لأن هيئتها تدل على أنها عارفة واجباتها، وستحسن تمثيل دور ربة بيت فاضلة. فلننظر لنرى إذا كان الظن لا يخيب، وإذا كانت هذه المرأة كما يقولون: «ملكة عارفة بواجبات مملكتها الصغيرة التي هي عائلتها.» وتقدر على القيام بمهام هذه المملكة الداخلية والخارجية خير قيام.
Page inconnue
وبالحقيقة أن السيدة مريم هي كما ظنها ذلك الشاب؛ لأنها مع كثرة انشغالها وضيوفها في تلك الليلة الحافلة، ومع سرورها بمجيء ولدها الذكي النجيب من المدرسة، وعلى رأسه أكاليل الفخر والفوز، ومع أنها كانت تتبعه بنظرها كيفما ذهب وانتقل؛ كانت تظهر رزينة هادئة لا تضحك ولا تتكلم بصوت عال ولا تضج ولا تركض، حتى إنها لم تظهر سرورا زائدا لئلا يقال عنها بأنها خفيفة. ولم تظهر عدم اكتراث أو تهامل بالقيام بواجب إرضاء ومسرة ضيوفها، بل إن البساطة الطبيعية كانت على وجهها والحرارة الودادية الإخلاصية كانت تطيب حديثها، وبالإجمال كانت تظهر العظمة الزائدة والهدوء التام؛ مما يجعل الإنسان يظن أنها متكبرة، وهذه هي الحالة الوحيدة التي تعاب عليها.
وكأن عيني ذلك الشاب أقسمتا أن لا تفارقا حركاتها فأحدقتا بها طول تلك السهرة، وأول شيء قدر على استنتاجه - مما دل على معرفة تلك السيدة بأصول آداب السلوك - هو أنها نسيت نفسها بالكلية، ولم تفتكر في غير مسرة ضيوفها الذين ضحت بسعادتها لأجل سعادتهم شأن المرأة الفاضلة. ومما كان يزيد وجهها الوسيم جمالا هو استقبالها وبشاشتها للضيوف، ومخاطبتها كلا منهم بالحديث الذي يناسب ذوقه وسنه ليكون مسرورا. ولم تظهر على وجهها لوائح الانشغال أو القلق على الإطلاق، فكأن كل أفكارها كانت حائمة حول مسرة ضيوفها، ولا فكر يقلقها خارج قاعة الاستقبال، مع أن واجباتها كانت كثيرة، ولكنها بتعقل ودراية رتبت كل الأمور على ما يرام حتى تتفرغ للقيام بواجبات الضيوف.
وكانت تلاقي الداخلين إلى الباب إن كن نساء، وتنهض لهم فقط إن كانوا رجالا. ومما أعجب الشاب المنتقد حذرها الزائد وملاحظتها الغريبة عند الكلام حتى لا يفرط منها ما تؤاخذ عليه، ثم صبرها وجلادتها على تقديم وتعريف ضيوفها بعضهم ببعض، إن كان منهم من يجهل الآخر. وكانت تلفظ اسم الشخص بهدوء وضبط وبصوت مسموع حتى لا يصير التباس بفهم الاسم، والذي جعله أن يهز برأسه إعجابا هو استعدادها التام، حتى إنها لم تغفل عن وضع طاولة عليها كتب وجرائد ومجلات وكتب وصور، حتى إذا ضجر الضيوف من الحديث يتسلون بسواه مما هو جائز في الاجتماعات.
ولما اكتمل اجتماع المدعوين كانت مع زوجها الخواجة منصور يحدثانهم بأحاديث عمومية حتى يكون التفاتهما شاملا الجميع على السواء، وحذرا من قصور يبدو من جانبهما أو عتب من جانب المدعوين مما يجب منعه في الحفلات الكبيرة والصغيرة.
وسمع الشاب صوت السيدة مريم قد ارتفع نوعا وترحيبها قد زاد عما قبل، فنظر ليرى السبب وإذا بعائلة متأخرة قد دخلت بعد الجميع، فلاقتها تلك السيدة بترحيب زائد أزال خجلها من التأخير عن الحضور ، فهز رأسه وقال: لو كان كل رجل وامرأة من بني وطننا يحسنان تقليد الإفرنج والمحافظة على عوائدنا الحميدة كهذه السيدة، والجمع بين الحسنين ودرس فروعهما درسا مدققا؛ لكان كل كاتب يستبدل لهجته الانتقادية على تمدننا وتقدمنا الأدبي بالاستحسان لهما.
ولم يكن هذا الشاب المراقب محبا للانتقاد من طبعه لغير سبب، بل كان حاملا له عليه ما رآه من بعض الضيوف مما لو قابله بصنيع السيدة مريم لظهر الفرق بين الحسن والقبيح جليا، وهو أن بعض أولئك المدعوين من نساء ورجال كانوا يدخلون القاعة ويذهبون توا إلى المقاعد، فيجلسون بدون أن يصافحوا يد ربة البيت أو أن يتكلموا معها برهة قبل كل شيء؛ لأن هذا من أول الواجبات على الزائرين. وبعضهم كانوا يرجعون فيسلمون عليها بعد جلوسهم بدقائق وبعد أن يكونوا قد سلموا على أصدقاء لهم في المجلس، وكثار من الشابات والشبان الذين كانوا يتكلمون بلغات أجنبية عوضا عن لغتهم التي يجب أن تكون لغة المجلس؛ لأن الجميع يفهمها، ولأن التكلم بلغة لا يفهمها الجميع محظور إلا في ظروف مخصوصة إذا لم يكن مفر من التكلم بلغة أجنبية لا يفهم سواها.
وكانت السيدة مريم خبيرة بقواعد الحديث، وكأنها من حين قابلت أول ضيف في هذه الليلة وضعت أمام عينها قول أحد الحكماء: «إن الحديث لذة المحدث لا المحدث.» فكانت تنتقي أكثر الأحاديث ابتعادا عن الشخصيات أو ما يدنو منها، وتختار أقربها إلى الفائدة واللذة للجميع؛ حتى لا تجرح عواطف أحد وتجلب الضجر عليه بكلامها. وعلى ذلك انقضى جزء من السهرة بدون أن يشعر به الناس؛ لأن لطف وأدب أصحاب المنزل كانا قد أثملاهم فألهياهم عن معرفة الوقت الذي مر بسرعة غريبة.
وآثرت السيدة مريم الطريقة الإفرنجية عند الدخول إلى غرفة المائدة، فأخذت بذراع أحد ضيوفها الأفاضل ودخلت الغرفة التي كانت مرتبة أجمل ترتيب، وأنواع الزهور الجميلة في كل مكان فيها تنبعث منها الروائح الزكية فتنعش القلوب، ولا غرو فإن غرفة المائدة يجب أن يعتنى بها أكثر من كل غرفة في البيت ، حتى ومن ردهة الاستقبال في مثل هذه الحفلات.
جلست السيدة مريم على كرسي في رأس المائدة وجلس إلى يمينها الرجل الذي رافقها إلى المائدة، وكان الأكل عربيا وإفرنجيا أي «الجيد من النوعين». ولم تدل ضيوفها على كراسيهم، بل تركت لهم الحرية المطلقة في ذلك.
وبالحقيقة أن ذلك الشاب الذي شبع من السرور بلطف وأدب سيدة البيت لم يأكل كثيرا؛ لأنه عجز عن «حمل بطيختين بيد واحدة»، وكان يفضل الدرس على الأكل، فوجه كل اهتمامه إلى الأول ولم يبال كثيرا بالثاني.
Page inconnue
واستأنف بتدقيق مراقباته التي كان أكثرها موجها إلى ربة البيت التي كانت على مائدة الطعام مثلها في ردهة الاستقبال، محافظة أتم المحافظة على آداب السلوك وواجبات التهذيب؛ فإنها لم تتكلم بشأن المائدة والطعام ولم تشبع ضيوفها «أعذارا» من الغباوة عن تقصيرها؛ إذ أي شيء يمنع المرأة عن القيام بواجباتها إذا كانت تعرف بأنه ينقصها شيء؟ أو أي عذر يقبل لها متى كانت قادرة على عمل الشيء ولم تعمله؟ أو أي ذوق في الاعتذار عن أشياء فوق المقدرة، وليس من الحكمة أن يعمل الإنسان ما هو ضد إرادته وفوق مقدرته؟ فالمرأة لا يجب أن تقصر إذا كانت قادرة، ولا أن تعتذر إذا لم تكن قادرة؛ لأن الأمرين ممقوتان. ولم تكن السيدة مريم تلتفت إلى الخدام ما بين الدقيقة والدقيقة، ولا تنظر إليهم بلهفة كأنها تخاف أن يأتوا عملا مضرا، ولم تتبعهم بعينها أو تظهر القلق من عملهم، وأنهم لا يحسنونه وأشياء كثيرة أخرى تدل على عدم وثوقها بهم؛ لأنها استدراكا لهذا كله كانت قد أعدت من تعتمد عليهم وباتت مرتاحة الفكر بدون أن تضطرب وتجلب على نفسها المؤاخذة وعلى الخدم الخجل. وما جعل الشاب مسرورا جدا هو تجنب تلك السيدة للعادة السورية المذمومة التي يأتيها الأغلب، وهي عادة إجبار الضيوف على الشره والأكل من كل نوع، وملاحظة صحون الضيوف، ومعاتبتهم لأنهم لم يأكلوا من لون الطعام هذا ولا من ذاك، وغير هذه أمور تزعج الضيوف لا تريحهم بل تجعلهم «غرباء»، وتجعل عين صاحبة المنزل محدقة بهم كل دقيقة. فإنها عرفت ما عليها، وأكثرت من ألوان الطعام الفاخرة والشهية المأكل ووضعتها أمام المدعوين، وما تبقى من الواجبات يكون على الضيوف الذين يجب أن يستعملوا الحرية التامة؛ لأنهم إنما للانبساط دعوا.
وتولت السيدة مريم زعامة الحديث، فكان حديثها المستظرف يزيد الناس شهوة إلى الأكل، وكان «حديث مائدة» أي عموميا ونقيا ومحدثا به بصوت مسموع حتى يحيط الجميع به فهما، وكان هذا الحديث سلسلة متصلة الحلقات بين الآكلين.
ولما انتهى دور ربة البيت حول ذلك الشاب وجهه ونصف فكره إلى الضيوف، فرأى من البعض ما يسره ومن البعض الآخر ما يسيئه. ومن أقبح ما رأى من بعض السيدات أنهن كن متكئات على مائدة الطعام قبل الابتداء بالأكل كأن المائدة وسادة أمامهن ... والبعض الآخر كن بعيدات عنها مسافة قدمين أو ثلاث، وغيرهن لم ينتبهن لوضع الفوط جيدا فسقطت على الأرض وسقط مكانها الطعام الذي لطخ أثوابهن الجميلة.
وفيما القوم على المائدة وقفت سيدة جميلة بكل استياء وعبوسة وتكلمت بغيظ كلاما عاليا، فانقطع الجميع عن أكلهم ونظروا إليها ومنهم من وقف لوقوفها. ولماذا كان كل هذا؟ لأن أحد الخدم - ومسكين هو - أراق بدون قصد ولا انتباه المرق على ثوبها الجميل. فهذه السيدة عوضا عن أن تبتسم في وجهه بلطف وتنظر إلى اضطرابه مزيلة بأدبها ورفقها بعض خجله؛ وقفت توبخه بعنف وغيظ وتعنفه بكلام قاس حتى أضحكت البعض منها وضاعفت خجل ذلك الخادم المسكين دون أن ينتفع ثوبها بشيء ...
ومما استلفت أنظار الشاب قهقهة إحدى النساء، وهمس امرأة أخرى مع جارها على المائدة، ونظرها إلى بعض الجلوس بطرف عينها مبتسمة، كأنها تتكلم عنهم أو تهزأ بهم. وكانت هذه السيدة كلما وضع أمامها لون من الطعام تجد فيه علة وتنظر إليه باحتقار. والغريب من هذه السيدة «المنتقدة» أنها لم تحسن انتقاد نفسها حينما قدمت الطعام لفمها بالسكين مع أن الشوكة وجدت لذلك، ووجدت السكين لتقطيع اللحم. وانتبه أيضا لثقالة سيدة كانت تزيد على رفيقتها «العزيمة» وتلح عليها بالأكل وتقدم لها الصحون، مع أن ذلك ليس من واجباتها بل من واجبات خادمي المائدة. وفيما هو ينظر ويفتكر وينتقد ألف أمر وأمر، كان يجب على كل سيدة استدراكه إن كان في ردهة الاستقبال أو في غرفة المائدة حيث تكون معرضة لانتقاد الجميع، طرق أذنيه صوت سيدة تقول لرجل كان جالسا بينه وبينها: إنه لم يزل ينظر إلى الباب نظرة من ينتظر أحدا وهو مشتت الأفكار.
فأجابها الرجل: ربما كان بانتظار أحد الضيوف أو بانتظار رفيق له لم يحضر.
فالتفت الشاب ليرى من هي تلك السيدة فتلاقى نظره بنظرها وهي تنظر إلى جارها نظرة معنوية، وسمعها تقول مازحة: إنك أصبت الغرض؛ لأن رفيقه ينشر على وجهه الاصفرار والكمد إذا لم يحضر ويمنعه عن الأكل إلا تظاهرا ... إنكم أيها الرجال تتظاهرون دائما بما ليس فيكم، وتتجاهلون الأمور وما أنتم بجاهلين.
فقال لها مبتسما: وما عسى أن يكون أمره يا ترى؟
وكانت لحظت بأن أحد الحضور ينظر إليهما، فأجابته أن ليس هذا مقام إيضاح.
وعرف الشاب بأن كلامهما كان عن فؤاد صاحب الوليمة؛ لأنه كان قد قرأ على وجهه ما جعله أن يصدق قول تلك السيدة التي لما تكلمت أيقظت بكلامها أفكاره، فقال في نفسه: إنها صادقة بقولها، إنه لا ينتظر «رفيقا» بل «رفيقة»؛ لأن تشتت أفكاره في ردهة الاستقبال واضطرابه كلما دخل أحد وتغير لون وجهه من البشاشة للتعبس، دلائل ظاهرة على أن في الأمر ما هو أعظم من الصداقة البسيطة، لا سيما وهو لم يأكل ولا تكلم إلا قليلا على المائدة.
Page inconnue
ولما انتهى الناس من الطعام وأخذوا بالخروج سمع ضجة من السيدات، ورأى الناس يتراجعون ليعرفوا ما صار، وإذا بسيدة مصفرة الوجه من الغيظ والاستياء؛ لأن جارتها وضعت كرسيها على طرف ثوبها، فلما أرادت القيام قد ذلك الثوب النفيس وذهب ضحية الإهمال وقلة التهذيب. فضحك الشاب من هذا الفصل الأخير ومضى إلى الردهة، ولما رجع المدعوون من غرفة المائدة ذهب الشبان والشابات منهم إلى قاعة الرقص، وبقي الشيوخ وبعض الكهول ممن لم يتعلموا الرقص الإفرنجي ولا أرادوا التفرج عليه، فقدمت لهم النراجيل وجلسوا يدخنون ويتحدثون. وكان الشاب لم يزل واقفا حتى رسم بمخيلته هذه الصورة العربية القبيحة، ثم ذهب إلى قاعة الرقص فرأى صورة العادة الأخرى القبيحة، فقال في نفسه: ماذا يضرنا يا ترى أن نعدل عن عوائدنا القبيحة دون أن نضيف إليها ما هو مثلها من عوائد الإفرنج؟ أو بالحري ما كان أعدلنا لو رضينا بواحدة فقط من الاثنتين؛ لأن الضرر المتأتي عنها كاف لإقناعنا!
الفصل الرابع
نتيجة أول نظرة
ولما مثل ذلك الشاب دور انتقاده وانتهى من ملاحظاته، ذهب وهو يقول: إنني رأيت كل أعضاء جسم العوائد المضرة بين الهيئة الاجتماعية في هذه الليلة، ولكن الحمد لله لم أر «رأسها» الذي هو «لعب القمار»؛ فالفضل بهذا راجع إلى أصحاب البيت الأفاضل الذين لا يحبون أن يكون بيتهم هيكلا يضحى على مذابحه شرف وعقل ومال الناس بسرور ورغبة.
حدثت كل هذه الأشياء وفؤاد لم يكترث لأكثرها؛ لأنه لم يكن موجودا بغير الجسد هناك. ومع أنه كان في الوليمة بنات يخجلن بجمالهن زنابق حزيران الجميلة في الصباح، ويمثلن ضروبا من الجمال والدلال؛ فإن الشاب لم يكترث لهن إلا من جهة الضيافة والقيام بواجب الملاطفة المعتدلة، وكان كل فكره عند تلك الفتاة التي رآها حين دخوله الباب، وعلى ذلك الثوب البسيط الذي ظهر جمال وجهها وقدها فيه بأبهى مظهريهما؛ إذ لا شيء يظهر الجمال الحقيقي كالبساطة الطبيعية بكل شيء. وكان يفتكر في من عسى أن تكون تلك الفتاة التي لم يقدر على التمتع بمرآها أكثر من دقائق معدودة والتي أوجدت في قلبه شوقا عظيما إلى نظرة ثانية منها لم يعرف سببه.
وهذا التأمل صيره مشتت الأفكار وجعل وجوه أكثر الفتيات كالحة في تلك الليلة التي كان هو فيها مطمح أبصارهن وأبصار أمهاتهن اللواتي كن يراقبنه ويطوقنه بأنظارهن كيفما دار، وكل واحدة منهن تتوهم «أنه في قبضة يدها»؛ لأن بنتها أحسن من بنت فلانة أو أن نحلتها «الدوطة» أكبر من نحلة فلانة. ولو كان لإصابة العين أثر من الصحة مع شدة اعتقاد بني وطننا بها، لكان وقع فؤاد صريعا من عيون بعض الأمهات اللواتي كن يترقبنه كما تترقب الهرة العصفور ... أما هو فقد كان - وا أسفاه - مشغولا عنهن بالنظر بلهفة إلى الباب كلما فتح أو دخل منه أحد؛ لأنه كان يعلل النفس باستعادة النظر إلى تلك الصورة التي تركت في قلبه أثرا لا يمحى، ولكنه كان يرجع نظره بالقنوط والخيبة إذ يرى بأن الداخل ليس من يريد، وانتبه لأمره كل من كان حاضرا من أصحاب الذوق في تلك الليلة؛ لأن أفكاره كانت مرسومة على جبينه.
وكان يسأل نفسه عن سبب حضور تلك الفتاة الحفلة ويود الاختلاء بوالدته ليسألها عنه، ولكنه تصبر احتشاما إلى ما بعد ذهاب المدعوين. وعند منتصف الليل كان قد ذهب أكثرهم وكانت السيدة مريم قد تعبت جدا من الجهد الذي قاسته بمقابلة الضيوف والقيام بواجباتهم بتدقيق، ومن الحر الشديد في تلك الليلة، فنزلت إلى الحديقة وجلست على مقعد هناك للاستراحة من عناء الأشغال، ولتنشق الهواء النقي الذي هو أحسن وسيلة للراحة وأعظم منعش للقلب في مثل هذه الظروف.
وكان فؤاد ينتظر هذه الفرصة أيضا، فلما خرجت والدته تبعها ماشيا وراءها إلى أن وصلت إلى ذلك المقعد وجلست، فأتى هو ووضع يده اللطيفة على كتفها فأحست بأن هذه اليد هي التي خففت عناءها وليس النسيم العليل، وللحال أخذتها عن كتفها وأدنتها من فمها فقبلتها بحرارة والدية، واجتذبت ولدها بلطف قائلة: اجلس بجانبي يا حبيبي لنريح نفسينا قليلا بالحديث.
وكانت السيدة مريم في الأربعين من عمرها، ولكن من ينظر إليها يظن أنها في الثلاثين فقط؛ لأنها كانت اكتسبت الظهور بأقل من سنها بعشر سنوات، واستبقت جمالها على حاله من اعتنائها بصحتها اعتناء زائدا، وهذا سر قد لا يفهمه جميع الناس ولكنه أصل سعادة العائلة؛ لأن المرأة متى كانت قادرة على الاعتناء بصحتها وجمالها تبقى إلى ما بعد الخمسين صبية، وتكون بذلك لم تزل «عروسا» محبوبة من زوجها ورفيقة عزيزة لبناتها وصبيانها؛ لأن الأم الصبية تكون رفيقة للبنت قادرة على مسرتها والسرور بها، فتفهم احتياجاتها أكثر مما لو كانت شيخة وبنتها صبية، ورب امرأة تلبس هي وابنتها فسطانا من قماش وتخريج واحد، فتعيش بنتها سعيدة معها أكثر مما لو كانت غضنتها الأيام فأصبحت لا تكترث لشيء، وقد قيل: «كل جيل مع جيله يلعب.» وأما منفعة الأم الشابة الجميلة للشاب فهي عظيمة جدا؛ إذ تكون له مدربة ومحبة ورفيقة يسر بمعاشرتها واستشارتها بوقت واحد.
وكان فؤاد يشبه أمه أكثر مما يشبه أباه، فكان وهو جالس معها على ذلك المقعد يظن أنها أخته لا والدته، ومن جهة أخرى يشعر بقوتها عليه وبوجوب طاعته لها لشعوره باللذة والسعادة بمحادثتها. وفي خلال الحديث سألها بلطف قائلا: هل حضر كل مدعويك الوليمة يا أمي؟ فارتابت والدته من سؤاله وقالت له: وما الذي حملك على هذا السؤال؟ أجاب: لا شيء سوى أنني أظن أن البعض منهم ذهبوا بعد حضورهم لأسباب لا أعلمها. فتعجبت والدته من هذا السؤال الغريب، وقالت: لم يذهب أحد من هنا على الإطلاق، ولكن عائلة واحدة لم تحضر؛ لأن أحد أعضائها مريض، فما الذي دعاك لأن تقول بأن البعض حضروا ورجعوا؟ أجاب: ومن هي إذن تلك الفتاة الجميلة التي نظرتها عند وصولي للبيت ولم أعد أنظرها فيما بعد البتة مع ضيوفك؟
Page inconnue
وكان الولد مخاطبا الوالدة وهو كما يقولون «فلذة كبدها»، فكانت أفكاره بعض أفكارها! فلما سمعت كلامه اضطرب قلبها ولكنها ابتسمت وقالت في نفسها: إن التفات الشبان للفتيات الجميلات أمر طبيعي، فما بالي أخشى منه؟ وأجابت الولد قائلة: أنت غلطان يا عزيزي؛ لأن الفتاة التي رأيتها لم تكن من جملة الضيوف، بل هي خادمة عندنا.
ظنت الوالدة أن ولدها يشعر بقلبها، وأن مجرد قولها له بأن الفتاة خادمة يحقرها في عينه ويوقفه عند حد السؤال عنها ثانية. أما هو فلم تؤثر به معرفة كونها خادمة شيئا، بل زادت رغبته بالنظر إليها ثانية ومخاطبتها منفردا، وعظم سروره أنها قريبة منه وفي بيته. ومن حظ تلك السيدة المتعظمة أنها لم تقدر على معرفة الدلائل التي ظهرت على وجه ولدها في ذلك الليل.
وبعد أن سمع فؤاد كلام والدته وعرف ما عرفه عن الفتاة، حمله الشوق على التفتيش عنها في تلك الساعة، ولم تدعه آدابه أن يترك والدته في ذلك المكان وحدها، فقال لها: إن الرطوبة تضر برأسك يا سيدتي لا سيما وأنت تعبانة، فالأوفق أن نرجع. فأذعنت والدته وأخذت ذراعه إلى قاعة الاستقبال حيث كان بعض المدعوين لا يزال باقيا.
أما هو فمضى يفتش عن بديعة، ولكنه رجع بالخيبة بعد أن ذهب إلى المطبخ وغرفة المائدة وكل مكان يدخله الخدم؛ إذ إن بديعة كانت قد ذهبت إلى غرفتها قبل نصف الليل بساعتين؛ لأن النوم قبل نصف الليل بساعتين أو ثلاث كان من القواعد الصحية التي لم تخالفها قط.
وفي غد اليوم الثاني رأت السيدة مريم أن تفي بوعدها لبديعة؛ لأنها كانت تعاملها معاملة رفيقة، لا خادمة في البيت، فذهبت إليها، وكانت في ذلك الصباح كوردة نيسان المفتحة في الليل والمستقبلة ندى الربيع صباحا. فأخذتها من يدها وهي تقول: إنني امرأة وأعشقها، فهل ألوم فؤادا لأنه سأل عنها؟! وكان في غرفة السيدة مريم الخاصة زوجها وولدها وابن أختها نسيب يدخنون ويشربون قهوة الصباح، فلما دخلت السيدتان انتصب الخواجة منصور واقفا لهما، فعجب فؤاد ونسيب اللذان وقفا أيضا. أكان هذا الاحترام لامرأته أم لبديعة الخادمة؟ وأشرق على وجه فؤاد نور غير عادي عند دخول بديعة لم تلحظه والدته لحسن حظها، ولا والده الذي كان ناظرا إلى بديعة، ولا بديعة التي كانت منخفضة الرأس وعيناها كزهرتي نرجس أطبقهما النسيم.
ولكن لم يشأ الله أن يبقى سر الشاب مكتوما عن الجميع؛ لأن ابن خالته كان ينظر إليه بتلك الساعة، وكأنه كان ينتظر أن يرى ما رأى من دلائل السرور على وجه فؤاد، فابتسم عن مكر. واستأنفت السيدة مريم خطوها إلى ابن أختها، وعرفته ببديعة أولا، ثم نادت فؤادا وعرفته بها ثانيا، وقالت له وهي تنظر ببديعة: إنها أتت إلينا بصفة خادمة، ولكنها قدرت بآدابها على إيجاد مقام أسمى لنفسها حتى أصبحت لي رفيقة وصديقة. ثم حولت نظرها إلى فؤاد ورمته بسهم آخر من الكلام؛ إذ قالت له بلطف: إن بديعة أديبة جدا يا فؤاد، وهي تستحق منك إكرام أخ لأخته وليس سيد لخادمته.
ولكن هذين السهمين من نظر أمه وكلامها لم يصيبا منه مقتلا؛ لأنهما خرجا من القلب وفتشا عن القلب فلم يجداه في صدر فؤاد؛ إذ إنه كان قد نزعه وسلمه لبديعة عند مصافحته لها، أما بديعة فلم يخف عليها المعنى من كلام سيدتها ولكنها قدرت على إخفاء عواطفها في هذه المرة، كما كانت قادرة كل وقت فلم يصبغ وجنتيها لون الورد.
جلست بديعة بين تلك العائلة المحبوبة منها وهي غاضة الطرف عن النظر إلى فؤاد ونسيب، اللذين كانا إلى جانبها يرشقانها بسهام العيون بنظرات أحد من السهام، كانت تشعر بأنها مصوبة إليها وهي لم تنظرها. وأما السيدة مريم فإنها بقيت واقفة وهي لا تدري؛ لأن عينيها الحادتين كانتا محدقتين إلى ولدها الذي كانت تقرأ على وجهه فصولا حسبتها من مقدمة الليلة البارحة.
ولم تصدق بديعة أن أتى وقت الانصراف حتى خرجت من ذلك السجن الذي لم تقدر فيه على تحريك يديها وعينيها ولسانها؛ إذ كان الاضطراب سائدا عليها فيه لأسباب لا تعلمها، وأسرعت إلى غرفتها حيث جلست على كرسي هزاز أمام النافذة وأطلقت لما سجنته في صدرها من الأنفاس العنان، وبعد أن تنفست طويلا وأدخلت لرئتيها الهواء النقي شعرت براحة في فكرها وقلبها وجسمها، وقالت: آه ... ما أجمل الحرية الحقيقية بكل شيء!
اشتغلت بديعة كل شغلها طول ذلك النهار، ولم تنظر أحدا من أصحاب البيت الذين كانوا مهتمين باستقبال المسلمين والزائرين، وكانت ترى في وسط أشغالها صورة مع أنها لم تعرف ما هي جليا، فهي حقيقية لا وهمية؛ لأنها كانت تشعر بها. وكانت تشعر من جهة بسرور زائد ومن أخرى بانقباض شديد، ولا تعرف لهما معنى. وكان في نفسها شوق إلى مرأى فؤاد بكل دقيقة، حتى إنها كانت تتصوره قادما إليها أو أنه يخاطبها. ومع أنها لم ترغب بهذا الشعور نحو ابن سيدها، فإنها لم تقدر على غلق أبواب قلبها دونه إلى أن غلبها على أمرها. وكان شوقها يزداد يوما عن يوم حتى رأته خطرا عليها، فاستعدت لمحاربته، وكانت مسرورة؛ لأنها لم تر فؤادا من أيام لاجتنابها الالتقاء به، وكان هو مشغولا برد الزيارات. وكما أن بديعة كانت تفتكر في فؤاد هكذا كان فؤاد يفتكر فيها، والفرق بينهما أنها هي كانت ترى الاسترسال بالافتكار خطرا عظيما يجب ملافاته، وما ذلك إلا للفاصل الذي يفصل بينهما لعدم المناسبة، أما هو فلم يكن هذا الفكر فكره؛ لأنه كان يسعى جهده لإنهاء أعماله والتفرغ لمحادثة بديعة وتعليمها حبه واستمالتها إليه، مع غض النظر عن مقامها الذي لم يقدم ولم يؤخر معه شيئا.
Page inconnue