رجوع الخواجة منصور إلى البيت
نترك الآن بديعة في أمريكا تتقدم إلى الصحة يوما فيوما، وجميلة وأديبا مسرورين من ذلك، بينما الأخير يلاحظها بعين يزيد بها الحب كل يوم. ونرجع إلى الوطن ... لما رست الباخرة التي تقل بديعة ولوسيا ونسيبا في مياه الإسكندرية مخرت من تلك الميناء باخرة تقل رجلا له علاقة كبيرة بالحادثة التي جرت لبديعة وحملتها على السفر، ولكنه كان جاهلا مجرى الأمور تماما ولذلك وصل إلى البيت مطمئنا.
ولما رست تلك الباخرة في ميناء بيروت نزل ذلك المسافر منها، وهو الخواجة منصور، ولما دخل بيته وقابل امرأته ارتاب في منظرها الذي كان يدل على تغير كبير، فسألها عما إذا كانت مريضة فأجابته: كلا. وهذا ما زاد قلقه؛ لأن امرأته كانت قلقة البال ومصفرة اللون وعلى وجهها وفي حديثها دلائل الانزعاج والاضطراب.
ولم يصدق أن انتهى من أشغاله، فدخل غرفة زوجته فرآها جالسة تفتكر في أمر هام، وكأنها اضطربت من قدومه.
أما هو فوقف بجانبها وألقى إحدى يديه على كتفها ووضع اليد الأخرى في جيبه، وقال: ما بالك مضطربة ومتغيرة يا مريم؟ فإنني منشغل وأظن أنه قد طرأ بغيابي ما ضعضع أحوالك وأحوال البيت والشغل. فقد أخبرني الكاتب بأن نسيبا لم يذهب إلى المحل من سبعة أيام والأشياء على غير انتظام هناك، كذلك قد أخبروني الخدم بأنك قد طردت بديعة من البيت، فلماذا هذا كله؟! ماذا حدث؟ أخبريني. ولما رآها تبكي من كلامه مسح دموعها بمنديله وقال: لماذا البكاء؟ هل أصاب فؤادا سوء؟!
قال هذا بلهفة واضطرب فأحوج زوجته إلى سرد القصة له بتمامها، وكان هو يسمعها ولونه يتغير من الاصفرار إلى الاحمرار ومنهما إلى الاخضرار، ولما انتهت نظر إليها نظرة كأنها كانت تنتظرها، فقابلتها بهدوء تام، وقال: جرى كل هذا ولم تعلميني بشيء يا مريم؟!
قالت: نعم؛ لأنني خشيت إزعاجك وغضبك.
فقال وقد ابتسم ابتسامة الغضب: لو كانت أمامي امرأة غيرك لكنت قلت لها: «يا خائنة» وأما أنت فلا أدري بماذا أكلمك ولا إلام أنسب سلوكك واستقلالك بهذا الأمر.
فبكت وقالت: ارحمني يا منصور؛ لأنني لم أكتم ما كتمت عنك إلا خوفا من غضبك، وظنا مني أن النساء أقدر على احتمال الهموم من الرجال. فقال لها بحدة: ولكنك لم تظني قط أن النساء الفاضلات لا يأتين حتى التافه من الأمور بدون علم رجالهن، فكيف والأمر عائلي محض للرجل كما للمرأة حق الاطلاع عليه وإبداء الرأي فيه إذا لم أقل أكثر؟ وقد نسيت على ما أظن بأن الزوجين يجب أن يتشاركا في هذا الأمر، ويكون لكل منهما رأي فيه فإن اتفق الرأيان كان الشيء أتم وأنفع وإن اختلفا ينظر بحكمة وعدل في الرأي الأصح، ومتى كان الأمر برأي الاثنين يرتفع الملام عن أحدهما ولا سيما عن الزوجة.
ولما كان هذا الجرح الوحيد الذي جرح قلبها به بحربة الكلام آلم السيدة مريم كثيرا، فرفعت نظرها الذي كان منخفضا إليه وكأنها ظنته يمزح، ولكنها لم تلبث أن رجعت فأطرقت إلى الأرض ثانية؛ لأن سهام عينيه كانت أحد من سهام كلامه.
Page inconnue