وبدون كلام تناولت السيدة مريم من جيبها كتابا وناولته لبديعة، فأخذته بديعة، وكانت تنظر فيه وترتجف وسيدتها تنظر في الأرض ولا تقدر أن تنظر إليها. وارتجفت السيدتان لما وقع المكتوب من يد بديعة إلى الأرض، فانحنت السيدة مريم وتناولته.
حمل الغيظ وعزة النفس بديعة على الكلام العاجل، فقالت لتلك السيدة التي خفضت الآن من كبريائها مقابل تلك الفتاة الطاهرة، إما لأن الرذيلة لا تكون سوى رذيلة أمام الفضيلة، وإما لأنها اتخذت هيئة التذلل والخضوع لإتمام حيلتها. - وماذا تريدين مني الآن؟ - فأجابتها: ألم تقرئي الكتاب؟ - نعم قرأته ورأيت فيه أن سيدي قد خطب لفؤاد فتاة «غنية جميلة مهذبة»، وأن مراده استصحابها معه، وأنه لا يشك في سعادة فؤاد معها؛ لأن الفتاة تناسبه، ولكني لم أعلم ما قصدت من عرض الكتاب علي. - قصدت إطلاعك عليه لتري فيه رأيك، ولتتحققي تعاستي وظلمي، فإن زوجي رجل متشبث برأيه غضوب، إذا عرف بالأمر يغضب علي وعلى فؤاد، وربما يطردنا ويحرم ابني من إرثه!
فقاطعتها بديعة قائلة، وقد عرفت مرادها: كفى كفى يا سيدتي! فإنني سأكفيك مئونة هذه الأمور كلها بذهابي من بيتك في هذه الليلة، وبذلك أفكك من قيود عهودك وأهبك ولدك الذي قد وهبته قلبي وسعادتي على غير أمل الاسترجاع، ولكن اسمحي لي يا سيدتي بأن أوضح لك أفكاري وأكلمك بحرية تامة للمرة الأخيرة في بيتك؛ فإن ضميرك سوف لا يريحك دقيقة واحدة لأنك خدعت وأقلقت حياة فتاة يتيمة ليس لها من يطالب بحقوقها غير الله، وهو أعظم المطالبين! إن حيلتك لم تنطل علي يا سيدتي، ولكنني رضخت لأحكام القدر التي نفذت في الآن، فإنك لم ترضي عن اقتراني بولدك قط، بل إنك تظاهرت بهذا الأمر خوفا على ولدك من مخالفة إرادتك والاقتران بي بالرغم عنك، فقلت: وأي بأس إذا سر ولدي نشر بمعاشرة الفتاة وبعد ذهابه أطردها ...؟ لأن هذا أمر جائز عند بعضكم أيها الأغنياء أن تكون أرواح وأموال وسعادة الفقراء والتعساء مسخرة لكم. أنت تجهلين بأنك أضررت بولدك وبنفسك كما أضررت بي؛ لأنك تلاعبت بقلبين طاهرين وحرمت شخصين سعادتهما الوحيدة، وخدعتني أنا الفتاة اليتيمة، ورمت طردي من بيتك وعلى منكبي حمل ثقيل من الهموم والتعاسة يعيقني عن إتيان أمور كثيرة مفيدة لمستقبلي، فلو سمحت لي بالذهاب من بيتك قبل أن خدعتني بإظهار حبك لي وقبل أن تعلقت بحب ابنك، لكان ذهابي منه ألف مرة أهون مما هو الآن، ففي ذاك الوقت كنت أتركه مسرورة بقيامي بواجب الأمانة نحو أصحابه. أما الآن فإن الحالة تفرق كثيرا؛ لأنني بحق أمكث فيه ولو كانت فتاة غيري مكاني لما كانت تخرج مطلقا، بل كانت تذهب إلى خطيبها وتقترن به بالرغم عن الجميع، ولكنني لا أفعل هذا؛ لأنني أقوم بواجب الشرف نحو أعدائي كما أفعل نحو أصدقائي ، فأنا سأخرج من بيتك أسيرة النفس كسيرة القلب، وقد دخلت إليه حرة، وليس من حقك أنت أسرهما، غفر الله لك يا سيدتي وصفح عن عملك معي. فهل أنت بدون قلب يا سيدتي حتى لا تشعري بألم القلوب المتوجعة؟! أم أن شواعر قلوب الأغنياء تفرق عن شواعر قلوب الفقراء؟! إن بعضكم يحسب هذا ويدعي الشرف له دون الفقراء، ولكن عملي وعملك يكذبان هذا ويقولان بصوت خفي: «إن الشرف الحقيقي إنما هو ثمرة القلوب لا الجيوب.» فأنا قد ضحيت وسأضحي لأجلك سعادتي، وأما أنت فقد ضحيت الشرف والشهامة والدين والذمة لأجل كبريائك، سامحك الله سامحك الله، ومد في عمرك وعمر عائلتك؛ لأنني لا أحب أن أجرح قلبك كما جرحت قلبي.
ولا حاجة إلى القول بأن كل كلمة من كلام بديعة كانت حربة تطعن قلب السيدة مريم، ولكنها تجلدت وأظهرت الصبر؛ لأن رجوعها عن عزمها كان مستحيلا في ذلك الوقت. ونظرت إلى بديعة قائلة: إنك تظلمينني بكلامك الآن يا بديعة؛ لأن الذنب ليس ذنبي، ولو كنت أنت مكاني لما كنت تفعلين غير ما فعلت أنا الآن، فإني امرأة أحب المحافظة على سعادة ولدي، التي لا تكون من الحب فقط متى حرمه والده إرثه وغضب عليه. ولو عرفت من هي تلك الفتاة التي ذكر عنها والده لما كانت تلومينه أيضا بل كنت تقولين: «إن الطيور على أشكالها تقع.»
عند ذلك حمي وطيس الغضب بقلب بديعة فقالت: إذا كنت سمحت لك بخداعي والتلاعب بي قبل الآن، فأنا لا أسمح لك بإهانتي الآن لأنني لم أضح ما ضحيت لأجلك «خوفا من سطوتك»، بل اندفاعا مع واجب الشرف والمروءة. وسواء استحققت هذا العمل أم لا فحسبي أنني قويت على عمله. أما الآن فإنني أستودعك الله؛ لأنني أخرج من بيتك في هذه الساعة. ثم نزعت من يدها خاتمين من الألماس الثمين وتركت بيدها واحدا قائلة: أرجوك أن تسلمي هذين الخاتمين لولدك عند رجوعه، وقد أبقيت معي هذا الخاتم تذكارا لحبه ولهذه القصة التي حدثت لي منك.
فقالت سيدتها وقد فرحت: لا أحب أن أفارقك على هذه الصورة يا بديعة، وأريد أن نفترق صديقتين كما كنا، وأن تقبلي مني هذه الهدية الصغيرة، وتتناسي الماضي، ثم وضعت أمامها كيسا مملوءا من الذهب.
فنظرت بديعة إلى ذلك الكيس الملقى على ذلك الكرسي وقالت بحنق: ما هذا؟!
هذا شيء حقير أرجو أن تحسبيه هدية تافهة، وأن تقبليها تذكارا كما قبلت أنا منك الخاتمين، وسوف أحفظهما لنفسي وليس لفؤاد. فلما سمعت الفتاة اسم خطيبها ابتسمت ابتسامة الغضب وقالت: لا عجب من هذا الأمر، لأن أمورك كلها معجبة ... فإنك تعنين بهذا المال ثمن حبي لولدك، ولا شك أنه «قيمتك»؛ لأن حبي الطاهر لا يباع ولا يشترى، فأنت مخطئة أيتها السيدة المعتبرة بظنك بي؛ لأنني وإن كنت فقيرة فأنا شريفة، ولو كنت أفضل الذهب على المروءة والشرف لما كنت أذهب من بيتك، ولكنت أمكث فيه وأحصل على حب ابنك وذهبه معا؛ لأن تهديدك إياي بقطع الميراث لا يهولني، وأنا أعرف كم يطول تهديد الوالدين مع حنوهما.
فأنا حرة الضمير وصادقة في كل شيء، وهذا ما يحملني على القول بأنني لا أحتاج من مالك إلا إلى عشرين ذهبا أستعين بها على السفر إلى أمريكا حيث أستريح وأريح.
وفي تلك الساعة فقط عرفت السيدة مريم مقدار شرف بديعة، فبكت من كلامها، وقالت لها بإخلاص: أكرر عليك الرجاء بأن تصفحي عن ذنبي وتقبلي تقدمتي الحقيرة.
Page inconnue