بزغت شمس النهار، فاستقبلها الثلاثة أو بالحري الأربعة بقلوب تخفق اضطرابا، وبعد الفطور ونزول الخواجة منصور ونسيب إلى السوق كما هي العادة، وبقاء فؤاد عند والدته؛ فاتحها بأمر نفسه فلم يظهر عليها القلق الذي كان يتوقع ظهوره لو كان كاشفها بالأمر مباشرة، ولما سمعت كلامه جاوبته بما كانت تحلم به وتدرسه طول ليلها من أنها لا تجد أعظم سرورا من اقترانه ببديعة إذا كان يحبها حقيقة؛ لأن الفتاة متهذبة وهي تستحقه ... ولكن يجب أن يبقى الأمر سرا مكتوما عن والده اتقاء لغضبه، ومن بعد أن يرجع فؤاد من المدرسة تكون هي بتلك الفرصة قد سعت لديه بالأمر واستعطفت خاطره.
ولجهل فؤاد ما مر على والدته في ذلك اليوم، ولنقاوة قلبه، لم يرتب قط في صدقها، فرضي ولكن بعد أن تذهب معه بنفسها إلى بديعة وتطمئنها، فمانعت والدته بادئ بدء؛ لأنها اضطربت من مقابلة الفتاة بهذه النية، ولكن ولدها أصر على عزمه وقال: إن بديعة لا تصدق ما لم تذهبي أنت بنفسك إليها. فذهبت معه إتماما لحيلتها وتقيدا بقولها، ولما دخلا غرفة الفتاة وجداها متهيئة ولابسة ثياب السفر ومنتظرة جواب سيدتها وهي ذابلة العينين منهوكة القوى، يظهر عليها أنها كانت في عراك قوي طوال ليلها، ولما فتحت الباب لهما كادت تقع من الاضطراب عند دخولهما مع أنها رأت على وجه فؤاد ما يدل على سرور.
ولم يخف على فؤاد منظر بديعة واستعدادها، فترك يد والدته واقترب منها مستغربا وقال: ما لي أراك بهذه الحالة يا بديعة؟ وماذا جرى؟ فها هي والدتي، قد أتت معي لتبرهن لك عن عزمها على الرضى باقتراننا وعن احتقارها لما حسبته «سببا» لعدم الاقتران، وهو «المقام» الذي هو مقام العقل فقط، وستكونين منذ الآن «ابنة» لا «خادمة» لها.
فاحمر وجه بديعة خجلا، وجوابا عن كلامه نظرت إلى سيدتها نظرة استفهام، فابتسمت هذه قائلة: إن فؤاد صادق في ما يقوله؛ لأن إرادته هكذا تقضي، ثم اقتربت من الفتاة، وإذ ألقت شفتيها الباردتين على جبهة الفتاة لتقبلها اضطرمت بقلب الفتاة نار لم تكن نار السرور ولا السعادة، فخافت ورجعت إلى الوراء بضع خطوات.
وشكت بديعة في إخلاص سيدتها؛ لأن منظرها والرضى العاجل في مسألة كهذه دلا الفتاة على أن في الأمر ريبة، ولكنها لم تحسب قط أن القصد هو الإيقاع بها؛ لأنها وثقت بشرف سيدتها، وزين لها قلبها النقي أن ترضخ غير مترددة وتسلم أمرها لله.
وكان فؤاد قد ارتاب من نظر المرأتين المعنوي الواحدة إلى الأخرى، فدنا من بديعة وقال: ما بالك صامتة لا تجيبين؟
أما هي فبقيت على سكوتها ولم تجب، فقال ثانية: هل من مانع عن الجواب وقد كان عذرك الوحيد رضى والدي، وهل والدتي الآن تنوب عن والدي وعن نفسها بهذا الأمر؟
إذ ذاك سقطت من عيني بديعة دمعتان كحبتي لؤلؤ أثر منظرهما في قلب سيدتها أكثر مما أثر في قلب ابنها، فلم يعد بإمكانها الوقوف ولا تصور قلبين طاهرين محبين يحومان كفراشتين حول نور تلك السعادة المزعومة، ولا يعلمان بأنهما قريبا يسقطان على نار محرقة لا على نور مضيء من قصدها الشرير، وخوفا من افتضاح أمرها وحبا بالتخلص من ذلك الموقف المزعج قالت: يظهر أن بديعة تخجل من الكلام في حضوري فسأذهب عنكما.
وظنت مريم أن ذهابها من أمامها ينسيها مقاصدها، ولكنها نسيت بأنه ولو احتجب النظر عن مرأى نتيجة الأعمال فإن الضمير لا يموت عن الشعور ولو مهما كان مصابا.
فسر فؤاد لذهاب والدته التي أخلت له الجو لمخاطبة بديعة؛ الأمر الذي حقق له صدق رضاها عنه، وكان الأمر بالعكس مع بديعة التي مع خوفها من وجود سيدتها، فضلت بقاءها على تركها إياها مع فؤاد بوقت هذا الاضطراب، ولم تكن بعد على استعداد لمقابلته.
Page inconnue