ولم يكن شيء يشغل بال نسيب؛ لأن ذلك الشاب لم يمر عليه هم في زمانه، ليس لعدم وجود الهموم، بل لقلة اكتراثه لها؛ فهو قد كان محبا لذاته أكثر من كل شخص ومن كل شيء، ولهذا لم يكدر صفاءه أمر من الأمور لأن الأمور كلها لم تكن تستحق التفاته واكتراثه، ومع أنه كان قد لحظ بأن لرجوع فؤاد سببا، وكان يرقب دائما ميل فؤاد إلى بديعة والتغير الذي طرأ عليه بمدة قصيرة، لم يعبأ بالأمر كثيرا شأنه في كل شيء؛ ولذلك لم يكن ما يقلقه فنام براحة. ولما سمع تلك القرعات الخفيفة على باب غرفته ولم يكن منتظرا لها، نزل من سريره مسرعا إلى الباب، ولما رأى خالته واقفة فيه قال لها: خير إن شاء الله يا سيدتي!
فلم تجبه بشيء بل دخلت وجلست على سريره والاضطراب باد على وجهها، فجلس هو إلى جانبها وطوقها بذراعيه وقال: بالله عليك يا خالة أخبريني عن سبب مجيئك إلي بهذه الساعة؛ فإن أفكاري قلقة جدا لأن قلبي يحدثني بأنك مصابة بأمر ذي بال.
عند ذلك تنهدت خالته وقالت: صدقت يا نسيب، فأنا مصابة بمصاب ليس أعظم منه. - وما هو يا سيدتي؟ - ما هو! آه يا نسيب، إنني لا أقدر على قصه عليك؛ لأنني لم أكن لأصدق بأنه يمر علي فينطق به لساني.
فنظر إليها الشاب وكان يعرف ما هي عليه من العظمة والكبرياء، ولما قالت الكلام الأخير تجسمت له كبرياؤها وعرف بأنها مجروحة، وأن هذا الجرح لا يبعد أن يكون من القصة التي افتكر فيها كثيرا، ولم يتمالك نفسه أن انتصب أمامها قائلا: أنا لك يا سيدتي بما أقدر عليه.
فأجابته هي بصوت أدنى إلى الغضب منه إلى الانكسار: إنني لهذا الغرض أتيت إلى غرفتك في هذا الوقت؛ إذ إنني لم أجد معينا سواك، فاجلس لأقص عليك قصتي المؤثرة.
ولما انتهت السيدة مريم من كلامها رفع نسيب نظره إليها وقال بهدوء: هذا ما كنت أخشاه، وقد عرفته تماما إذ رأيتك على باب غرفتي.
فقالت خالته وصوتها يرتجف من الغضب: إنك قد عرفت الداء وانتظرته قبلي، فلربما تكون أقدر مني على وصف الدواء، فما هو رأيك الآن؟ وما هو الجواب الأنسب الذي يجب أن أجيب به فؤادا في الغد على سؤاله العظيم الذي أفضل الموت على مجاراته عليه؟
فأطرق نسيب برأسه إلى الأرض يفتكر، ثم حوله إلى خالته قائلا: وهل عرف العم منصور بالخبر؟
فأجابت بتنهد: هذا ما دعاني إلى الإتيان إليك؛ لأنني لا أحب أن يعلم إلا إذا حدث ما يضطرني إلى إطلاعه على الخبر بعد الليلة. - لقد فعلت حسنا؛ لأن العم مزمع على السفر إلى مصر للنظر في شئونه التجارية في الأسبوع القادم، وهو سيقضي هناك أسابيع، والفرصة مناسبة، ولا سيما وأنا قد أنهيت دروسي هذه السنة وسوف لا أرجع إلى المدرسة، بل أساعد العم في التجارة، ويمكننا أن نقضي هذه المسألة بغيابه. فالتفتت إليه خالته مدهوشة وقالت: أتعني أننا لا نطلع عمك على الأمر مطلقا؟ - هذا ما أعنيه تماما. - ولكن إذا لم نفعل نحن ربما فعل فؤاد. فالأوفق أن نكون السابقين. - ولكن لم تطلعيني على ما ستقولينه لفؤاد متى فاتحك بالأمر. - هذا ما سألتك عنه؛ لأن الهموم قد استولت على عقلي ورشادي ولا رأي لي، فمدني بنصائحك إذ لا مخلص لي أتكل عليه في حراجة هذا الموقف إلاك.
وكأن ضمير نسيب وبخه على أمر ما، فقال لخالته: وهل تقبلين نصائحي المخلصة المنزهة عن كل غاية إلا غاية راحتك؟ - هذا ما أفعله بسرور لأنني أثق كل الوثوق بحبك لي. - فنصيحتي إذن هي أن تتظاهري بالرضى عن طلب فؤاد، وتطمئني خاطره وتطلبي منه أن لا يخبر والده بالأمر، ولا أن يتظاهر به أمام أحد، وقصدي من هذا هو أن يطمئن الشاب بمدة العطلة ويعاشر الفتاة لأجل التسلية إلى أن يرجع إلى المدرسة، وإذ ذاك يكون لكل مقام مقال، أظهري لفؤاد الرضى التام وقولي له بأن كلامك لوالده بهذا الخصوص يكون أكثر قبولا من كلامه هو. فقاطعته خالته وقالت: إنك لم تصرح بشيء يا نسيب، فكيف يمكنني أن لا أكترث لأمر هذه أهميته؟ - هذا هو أسد رأي يا سيدتي؛ لأنك إن طردت الفتاة أو تهددت الشاب فسيفعلان الأمر بالرغم عنك، فاللطف أحسن دواء لهذا الداء. - ولكن بعد هذا اللطف ماذا يصير؟ - بعد هذا اللطف يرجع فؤاد إلى المدرسة فيتم دروسه، وهو لا يفعل هذا ما لم يكن آمنا من جهة بديعة، ولما يرجع ندبر نحن حيلة هنا لطرد بديعة وحيلة أخرى لإقناع فؤاد بأن بديعة ذهبت برضاها أو كانت مدفوعة بأمر آخر ... - نسيب نسيب، ماذا تقول؟ هل أذنك بهذا المقدار بعيدة عن فمك؟ ألم تنتبه لعاقبة ومعنى كلامك؟
Page inconnue