قال فؤاد: إذن ماذا نسميها؟
قالت: أحب أن أدعوها «مريم»؛ لأن هذا أشرف وأطهر وأجمل اسم ما بين الأسماء. وهو اسم والدتك الذي هو عزيز عندنا.
ففرح فؤاد في قلبه من محبة امرأته لأمه وتناسيها الإساءة الماضية، وقال: الأمر لك.
ولما نظرها ترضع الطفلة قال: إن المرضعة تأتي بعد ثلاثة أيام، فلا يجب أن ترضعيها بعد حضورها.
فقالت له بلهفة: ماذا تقول؟ لا يجب أن أرضع مريم!
لماذا يا فؤاد؟ هل أنا مذنبة حتى استحققت هذا القصاص منك، أن أحرم بنتي من قوتها الخاص إلا إذا حال ما يمنعه عنها، وأحرم طفلا آخر من قوته أيضا! وما هي فائدة من هذا العمل غير حرمان الفتاة من حبي وحنيني الذين يجب أن تتغذاهما مع اللبن، وحرماني أنا من حبها الخالص متى شركت في تغذيتها امرأة أخرى، امرأة لا أعرف عن ماضيها وأخلاقها شيئا. وعلى كل حال فهي سوف لا تكون متهذبة التهذيب الذي أريده؛ لأنها ليست من الطبقة الأولى أو الثانية، بل هي الطبقة الثالثة التي دعي عليها بالجهل في بلادنا السورية. إنك لا تجهل هذا كله يا عزيزي، فلا أعرف ما حملك على هذا القول.
فقال زوجها بتفكر: إنني لا أجهل هذا يا عزيزتي، ولكنك مضطرة إلى حضور الحفلات والولائم وإقامة مثلها في هذا الفصل، وإذا أرضعت ابنتك تقصرين بواجبات أصدقائك وبواجبي أنا أيضا؛ لأنني أريدك معي في كل وقت مفرح، فأجابت تلك الوالدة الفاضلة بحب: إنني من حين أفقت لحالي لا أذكر أني ضحيت واجبا واحدا لأجل مسرة ما، فكيف تطلب مني الآن يا عزيزي أن أضحي أعظم الواجبات لأجل المسرات؛ فإن كان لأصدقائي حق علي يا فؤاد، فذلك من بعد حق أولادي، وأنا لا أقدر على ترك فلذة كبدي في حجر امرأة غريبة كما وصفتها، وأذهب لحضور الحفلات والولائم. إنني أفضل خسارة هذه الأمور لمدة وجيزة من عمري على خسارة أدبية ربما سببتها نقطة حليب واحدة في أخلاق طفلتي.
وكان فؤاد يطيع امرأته بكل ما يكون الحق فيه بجانبها. وكانت بديعة كما قال أحد وجهاء لبنان مرة: «للمطبخ وللصالون.» فكانت تلبس لكل حالة لبوسها وتقوم بواجباتها على الوجاق وبين «الطناجر» والخدم كما تقوم بها في القاعة وعلى البيانو وبين الضيوف.
ولا مشاحة بأنها لم تكن محبوبة من كثيرات من النساء اللواتي كن يحسدنها ويبغضنها بقلوبهن، ولا يظهرن لها ذلك لأنها لم تأت بحيلتها ما يغضب أحدا. وكانت لطيفة وأديبة مع الجميع. ولكن مداخلاتها كانت مع من هم على مبدئها فقط مع النساء والرجال، أما من لا يكونون على مبدئها فإنها كانت تكرمهم ولا تهتم بهم أو تتداخل معهم بشيء.
وأما بغض بعض النساء الشابات لها فكان لثلاثة أمور؛ أولا: لأنها كانت جميلة وغنية وذكية. ثانيا: لأن اعتبار الرجال الأفاضل لها كان عظيما، حتى إنهم كانوا يعنونها إذ يقولون: «المرأة الفاضلة.» وثالثا: لأنها لم تكن تلعب البوكر وأمثاله، ولا تحب اللهو والقصف، وكانت بعيدة عن الكبرياء والخفة. وبهذا لم تكن تجاريهن بأعمالهن؛ لأن عليها واجبات أسمى. وتظهر بفعلها قبح أعمالهن، وقد قيل: «الضد يظهر حسنه الضد.»
Page inconnue