وبعد أن استراحت بديعة من التعب أخذتها والدتها بيدها، وأدخلتها غرفة خاصة يظهر من منظرها أنها كانت غير مأهولة. ولما استقر بهما المكان وكانت كل واحدة منهما تنظر إلى الأخرى بتفكر، الأم تتصور ذاتها لما كانت بعمر البنت، وكان لها الحب والصبا والجمال، وتسر ولو بالفكر، والبنت تصور نفسها بعد عشرين سنة؛ إذ تصير كوالدتها وتفتكر بما تكون الحالة إذ ذاك - نظرت الوالدة إلى صورة معلقة على حائط تلك الغرفة، وأشارت بيدها إليها قائلة: أتعلمين صورة من هذه يا بديعة؟
أجابت الفتاة بحزن: أظن أنها صورة والدي.
فتنهدت الوالدة وقالت: أليس جميلا؟
قالت البنت: أجمل رجل رأيته بحياتي.
وكان كلام بديعة صادقا؛ لأنها قبل أن رأت هذه الصورة كانت تقول هذا القول عن صورة فؤاد، ولكنها لم ولن تنظر بالرجال أحسن من صورة والدها، ولا بالنساء أجمل من صورة والدتها؛ لأنها شريفة. وأثر كلامها بقلب والدتها أكثر مما أثر منظر الصورة، فبكت وبكت بديعة معها.
ولما استراحتا قليلا قالت الوالدة: دعيني أقص عليك تاريخ صاحب هذه الصورة الذي هو أبوك وتاريخي.
إنني يا عزيزتي لما كنت بسنك كنت مثلك في الهيئة تماما، أما الأخلاق فلا أقدر أن أقول عنها شيئا؛ لأنه كثيرا ما تمحو المعاشرة والتربية ما يكون قد علق بأخلاق الإنسان بالإرث. وإذ كنت في الخامسة عشرة من عمري مرت علي العاصفة التي تمر على كل فتاة في هذه الحياة، والتي أرجو أن لا تكون مرت عليك بعد؛ لأن مرورها وأنت بحجر والدتك يكون أصلح وآمن، فهي عاصفة الحب التي تحتمل الفتاة، فإما أن تنزلها في مكان أمين، وإما أن تطرحها في هاوية خطرة.
وكنت يا بنيتي جميلة وغنية وعزيزة عند والدي وأصدقائي، أرى أمامي من جهة مالا كثيرا يشتري كل ما يباع بمال، ومن جهة أخرى سعادة وخدما ووالدين وأصدقاء يحبونني، وأنا أسكن في دار، فخيمة تحفني فيها كل أنواع العظمة والجمال، وتحسدني عليها أكثر النساء؛ إذ يحسبنها سعادتهن. وأما أنا فلم أكن أحسبها كذلك، بل كنت دائما أشعر بفراغ في قلبي ولا أعرف له سببا، وكنت أنفر من كل هذه الأشياء لأنني أميل إلى المعيشة الروحية، ولذلك أحسب هذه العظمة وهمية، والشيء الذي يسرني ويملأ فراغ قلبي لم أكن قد وجدته بعد.
ومعلوم أن شبان المدينة كانوا يتسابقون إلى طلب يدي، فمنهم حبا بمالي ومنهم بجمالي وأشياء غير هذه متعددة، ومع ذلك فإن قلبي لم يحب أحدا منهم. ومع أنني كنت أعرف اضطراري للاقتران يوما ما إتماما لرغائب والدي، فلم أحب أن أظهر ميلا خاصا إلى أحد أولئك الطلاب، وكنت أفضل الانتظار.
وكنت مولعة بالرياضة الجسدية كثيرا، ففي أحد الأيام بينما كنت مع جماعة من الأتراب نتنزه في الخرج مر بنا رجل لابس اللباس الإفرنجي وعلى رأسه قبعة. وبما أن الثياب الإفرنجية لم تكن زي تلك الأيام كما هي اليوم بكثرة، عرفنا بأن الرجل غربي ثم فرنساوي؛ لأنه خاطبنا باللغة الفرنساوية سائلا عن الطريق الأقرب إلى المدينة، وإذ لم يكن بين الفتيات من تفهم هذه اللغة غيري دللته على الطريق. وبعد أن شكرني ومشى بضع خطوات، رجع إلي ثانية وطلب مني جرعة ماء. وكان معنا زاد وماء، فسقيته، فظهر لي من هيئته بأنه تعبان، وكانت ثيابه بالية وحذاؤه مرقعا، والخلاصة أن هيئته كانت فقرية ولكنها جميلة للغاية. وكان وراء ذلك المنظر الفقري قلب يتحرك بالعينين، فشغف به قلبي، وبكل جرأة سألته ما إذا كان يريد طعاما، والذي حملني على سؤال رجل إفرنجي غريب هو وجود خادم وخادمة كهلين كانا قد خرجا معنا لأجل الخدمة، فنظر إلي الشاب عند هذا السؤال نظرة شكر لا أنساها قط وجلس حالا؛ لأنه كان جائعا فأتيته بطعام، ولما انتهى قام وذهب بعد أن رفع قبعته وقال: شكرا لك يا سيدتي إنني سوف لا أنسى طعم جميلك وطعامك ما حييت.
Page inconnue