فلما وصلت هذه القطعة إلي، ووردت علي، أثارت مني كامنا، وحركت ساكنا، في ما ندب إليه وحض عليه، فخاطبت أبي_وقاه الله بي_برسالة فيها بعض أصناف هذه الأوصاف أسأله إباحة الخروج لي فبلغني أملي. والرسالة بعد صدرها: "لما خلق الربيع من أخلاقك الغر، وسرق زهره من شيمك الزهر، حسن لكل عين منظره، وطاب في كل سمع خبره، وتاقت النفوس إلى الراحة فيه، ومالت على الإشراف على بعض مم تحتويه من النور الذي كسا الأرض حللا، لا يرى الناظر في أثنائها خللا. فكأنها نجوم نثرت على الثرى، وقد ملئت مسكا وعنبرا. إن تنسمتها فأرجة. أو توسمتها فبهجة. تروق العين أجناسها، وتحيي النفوس أنفاسها: [البسيط]
فالأرض في بردة من يانع الزهر ... تزري إذا قستها بالوشي [والحبر]
قد أحكمتها أكف المزن واكفه ... وطرزتها بما تهمي من الدرر
تبرجت فسبت منا العيون هوى ... وفتنة بعد طول الستر والخفر
فأوجدني بمعانيك سبيلا إلى أعمال بصري فيها لأجلو بصيرتي بمحاسن نواحيها. فالفصل على أن يكمل أوانه، وينصرم وقته وزمانه، فلا تخلني من بعض التشفي منه لأصدر نفسي متيقظة عنه، فعهدي بمثل ما سألته بعيد، وشوقي إليه شديد، والنفوس تصدأ كما يصدأ الحديد، ومن أجمها فهو السديد الرشيد. "واكفة" في الشعر: هاطلة غزيرة. ومن المصنوع المطبوع في وصف الربيع ما أنشدنيه لنفسه أبو القاسم البلمي وهو: [الكامل]
انظر ونزه ناظريك بروضة ... غناء ما زلت تراح وتمطر
لتريك من صنعاء صنعة وشيها ... بمطارف من تستر لا تستر
ألوانها شتى وطيب نسميها ... يقصى العبير به وينسى العنبر
"تراح" من الريح، مثل "تمطر" من المطر. قال أبو الوليد: وخرجت متنزها في زمن الربيع إلى بعض ضياعي، فكتبت منها إلى صاحب الشرطة أبي الوليد بن العثماني قطعة نثر تحتمل أن تدخل في هذا الباب، وهي بعد صدرها. "قد علم سيدي أن بمرآه يكمل جذلي، ويدنو أملي، وقد حللت محلا عني الجو بتحسينه، وانفرد الربيع لتحصينه، فكساه حللا من الأنوار، بها ينجلي صدأ البصائر والأبصار، فمن مكموم يعبق مسكه، ولا يمنعه مسكه، ومن باد يروق مجتلاه، ويفوق مجتناه، في مرآه ورياه، فتفضل بالخفوف نحوي، وتعجيل اللحاق بي لنجدد للأنس مغاني قد درست، ونفك من السرور معاني قد أشكلت، ونشكر للربيع ما أرانا من البديع إن شاء الله". المكموم: هو الذي في كمامته لم يبد. ومسكه: جلده. أعني الكمامة.
الفصل الثاني
في القطع التي لم تنفرد بنوار وإنما اشتملت على نورين أو أنوار
قال أحمد بن هشام بن عبد العزيز بن سعيد الخير بن الإمام الحكم_رضي الله عنهم_يصف النرجس والورد من جملة قصيد مطول: [المنسرح]
انظر إلى الروض في جوانبه ... أحمره ضاحك وأصفره
إذا هفت فوقه الرياح سرى ... بهفوفها مسكه وعنبره
نرجسه تستجد صفرته ... حتى كأن الحبيب يهجره
والورد يختال في منابته ... تطويه أكمامه وتنشره
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: [الخفيف]
باكر الروض في رياض السرور ... بين نظم الربيع والمنثور
في رياض من البنفسج يحكي ... أثر العض في بياض الصدور
وترى السوسن المنعم يحكي ... ذهبا نابتا على كافور
وكتب عمر بن هشام بن قلبيل إلى صديق له يستدعيه في زمن. الربيع ويصف ما عنده من النواوير بوصف بديع: "نحن_أكرمك اله_على بسط الرياحين، ودرانك الورد والياسمين، ووشي رياض مونقه، حاكتها أيدي الربيع المغدقة. تلاحظنا عن أعين النرجس والسوسان، بأحلى محاجر وأجفان، وتبسم عن نور الأقحوان بمثل الدر والمرجان، فهي متضوعة عن لطائم المسك، متنفسة بأرج الورد، جذلة بهجة، فائحة أرجة، فإن تقارن حسنها بحسن وجهك فهي حالية مشرقة، وإن عطلت من ضياء غرتك فهي باكية مطرقة". ولعبد الزكي بن عثمان الأصم قطعة حسنة في الورد والأقاح وهي: [مجزوء الكامل]
وغضيض من جنى الور ... د حكى الصبح انفجارا
وأكاليل أقاحي ... ي يخالسن حذارا
مشرئبات إلى الشم ... س بأحداق حيارى
إن سقاها الطل في السر ... ر تضاحكن جهارا
1 / 8