ولقد كان القضاء في بعض الأمم موكولا لذمة القضاة، فعدل عن هذه الطريقة العتيقة وأصبح في القرن التاسع عشر مراعى فيه أحوال الجناة، معتبرين أنهم مرضى والقضاة أطباؤهم، والسجون مستشفياتهم، وكما أن الأطباء يداوون الداء بالعقاقير الطبية، والأعمال الجراحية، فهكذا أصبح من المقرر في الأمم الحية تشخيص داء الجانين، واعتبارهم مرضى أو معتوهين، وعلى ذلك وقف المذهب الطلياني، وزاد عليه المذهب الاجتماعي، فاعتبر الذنوب أمراضا اجتماعية، كالأمراض الوبائية، فمتى صلح المجتمع صلح العصاة، ومتى اختل أمره اعتل سيرهم، وضل سعيهم.
فالمذهب الاجتماعي في القضاء يرى أن الذنوب الجنائية ثمر ما زرعته يد الجمعية.
وكما أن الأشجار والأزهار والأثمار نتيجة البذور المبذورة والحبوب المطمورة، فإن كانت حنظلا أثمرت حنظلات، أو قمحا فسنبلات، أو نوى تمر فنخلات، فهكذا المجتمع إذا صلحت أحواله أو فسدت، وإن حسنت أو قبحت، فما الناس إلا أشجار بذوره، وأزهار شجره، وأثمار نخله وحنظله، ذلك مذهب أهل الاجتماع، وعلى ذلك يعاقب المجرم عقابا يشفع في تخفيفه الأحوال التي ألجأت الجناة، والضرورات المحيطة بالجنايات، ولقد أصبح السجن مدرسة المذنبين، ومستشفى الجانين، مما ألم بعقولهم، وأحاط بقلوبهم من الجهل والغواية، وروعيت صحة أجسامهم، ونظافة ثيابهم، ورقي عقولهم، وتشغيل أبدانهم، فالبطالة منبت الجرائم، وجرثومة الذنوب والعيوب والقذارة.
فقال: إذن أممكم الراقية اليوم تسعى للعدالة، وتهوى ارتقاء الناس للفضيلة؟ قلت: نعم، قال: ما شاء الله، وهز رأسه وضحك، ثم قال: لكنكم هدمتم ما شيدتموه، فخر عليكم سقف العدالة من فوقكم، وأتاكم عذاب الظلم من حيث لا تشعرون.
إذا صلحت المعدة صلح الجسم، وإذا اعتدل الدماغ اعتدل الإنسان، قادة الأمم ثلاثة ، حاكم عادل، وقاض فاضل، ومعلم كامل، فلئن صلح القاضي في محكمته، والمعلم في مدرسته، ولم يصلح الحاكم في عمله ضاع الإصلاح، وظهر الفساد، ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذوقوا بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
الحكومة من الأمة كالرأس من الجسد، فإذا عدل القضاة، وصلح المعلمون، وظلت الحكومات عاكفة على ظلمها سائرة في غيها فالعالمون خاسرون.
قلت: على رسلك، أن القضاة يحكمون على الملوك والأمراء. فقال: فإذا طغى مجلس الأمة في دار الندوة على أمة إنسانية، أو ساقت الملوك جيوشها لظلم غيرها فهل يقاصهم القضاة، وتحاكمهم الشعوب التي اصطفتهم، أو تعاقبهم الأمم التي ولتهم؟ قلت: أما في هذا فلا، بل الشعوب ترضى عنهم، وتستمرئ مرعى ظلمهم، فإن الخير راجع لهم، والغنيمة مردودة عليهم. فقال: ما أجهل الإنسان! ما أجهل الإنسان! ما دامت أمة تستبيح قهر أمة ظلما وعدوانا فقد قتلت نفسها بالسكين، وضربت رأسها بمديتها، وجردت سيفها لقتل نفسها، فإنك تعلم أن الخلق ملكة راسخة، والناس أبناء عاداتهم، وصرعى سوء أخلاقهم.
وكما أن اعتياد الناس ذبح الحيوان أنساهم الرأفة على الإنسان فظلموه، هكذا إذا سفكوا دماء الأمم الأخرى، وظلموا من عداهم، فإن ملكة الظلم ترسخ في عقول نواب الأمم، وعظماء الممالك، ويتوارثونها جيلا عن جيل، وقرنا عن قرن، فيظلمون نفس أممهم، ويسقونها بكأسهم، ومن أعان ظالما سلط عليه، ومن سل سيف البغي قتل به؛ قال شاعركم المتنبي:
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه
تصيده الضرغام فيما تصيدا
Page inconnue