الفصل العاشر
المنطق والأخلاق والسياسة
من عجيب أمركم أن السياسة لا حظ لها من المنطق، أين عقولكم، أين أحلامكم، إن الله منحكم عقلا واسعا، فلم ضاق نطاقه، ولا أشبهكم إلا بطفل أعطاه أبوه سلاحا فضرب به نفسه لجهله باستعماله. فقلت: وكيف ذلك؟
فقال: ألم تر أنكم أبيح لكم الزواج فأثقلتموه بالمهور، إما من جهة الزوج وإما من جهة المرأة، ألم تر أنه بحكم الاضطرار أبيحت لكم الملابس وحرمتم مما تمتعت به الطيور في أوكارها، والأنعام في مرابضها من الملابس الطبيعية، فذهلتم عن القصد الأول من اللباس ونظرتم للزخارف والزينة، وكم وشمتم الجلود، لتبحثوا عن جمال غير ما سنته النواميس الإلهية. فطرتم مختلفين عقلا وقوة، وقد أودع فيكم نظام العقول الكبيرة التي وضعها الله لتدبر شئونكم فتجاوزتموها، وعمدتم إلى وارثي الملك ولو كانوا جهلاء.
قضاياكم الاجتماعية وهمية، كثر الدجالون والخادعون فصدقتم وانقدتم، أليس العقل فوق القوة، فلم خضعتم لمن كثر ماله ولو كان جاهلا؟ وما لكم اتخذتم رجال الدين في بعض الأمم مقدسين! فما جاء الدين إلا للمساواة، ولا ضربت الدراهم إلا لتكون حكما بين الناس، ولا وضع الحكام إلا ليحكموا بالعدل، فدأبكم أن تحيدوا عن الصراط السوي وتنكبوا عن الجادة، إني أعلم أنكم خاضعون لقضايا وهمية، قد أشربت بها عقولكم، وألفتها نفوسكم، علموا سائر الطبقات من جميع الأمم، أن فيها من العقول ما يكفي حاجاتكم.
إنكم سجنتم في الأرض وحرم عليكم الفرار منها والابتعاد عنها، فلم يبح لكم أن تنفذوا في أقطار السماوات إذا ضاقت عليكم الأرض بما رحبت وضاقت عليكم أنفسكم، فالكرة الأرضية مقركم ومأواكم ومستودكم، ولو أن امرأ منكم فر هاربا من دولته لتلقفته الأخرى ولرمت به إلى دولته، وحرم عليكم البحر الملح أن تسكنوه، أو تجولوا في أقطاره، أو تصلوا إلى قراره، أو تقفوا على أسراره، مع أننا لا نرى أرضكم كلها إلا بحرا ملحا، وكرة من الماء الأجاج تفيض نورا على عالم القمر أضعاف ما يفيض هو عليها 14 ضعفا نوريا، وليس في الأرض مكان لسكنكم، أو مستقر لحياتكم إلا جزائر مختلفة القدر صغرا وكبرا لا تبلغ إلا ثلاثة أعشار كرتكم.
ثم هذه اليابسة منها الجبال والأنهار والأودية، يسكنها ملايين الآلاف من الطير والهوام والوحش والسباع، وأنتم أقل الحيوان عدوا وأضعفه بطشا، فأكثر الكرة مجهول لكم وهو البحار وبعض الأقطار، وأنتم وما معكم من الحيوان تقتتلون وتخادعون وما تخدعون إلا أنفسكم وما تشعرون.
عميت عليكم السبل، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، وضاقت عليكم أنفسكم، فلا ملجأ لكم ولا قوة إلا بأن تتحابوا وتتوادوا وتقوموا معا لتشتركوا فتفتحوا خزائن النواميس الطبيعية الأرضية والجوية والبحرية، فكيف تدعون أنكم أفضل الحيوان، وأنتم أقل منها إدارة ودستورا ونظاما، أفلا تكونون أفضلها عملا، وأعلاها سياسة، وأرقاها نظاما، ولن تنالوا هذه المنقبة إلا أن تتحابوا وتتحدوا، وليكن الإنسان أخا الإنسان، وكيف تحاربكم النواميس وأنتم متحاربون؟ وكيف تخادعكم الحوادث وأنتم فيما بينكم تتخادعون؟ وكيف تجعلون أنفسكم أجناسا وأنتم نوع واحد؟ أفلا تعقلون؟
الحقيقة المرة في مقارنة السياسة بالقضاء والتعليم
ثم قال: ألا أنبئكم بالحقيقة المرة. فقلت: وما الحقيقة المرة؟ قال: جهل الأمم بمثار المظالم ومناط الدمار والخراب. فقلت : أوضح المقال، ودع الإجمال. فقال: ما حال القضاء، وهل أنتم سائرون للعدل في العالمين؟ قلت: أن القضاء أخذ في الارتقاء منذ القرن الثامن عشر إلى الآن، فلعمرك ما حدثت الثورة الفرنسية الكبرى حتى ثارت الأفكار من مكامنها، واستيقظت العقول من نومتها، وهبت العقلاء لحكمتها.
Page inconnue