Mes papiers... Ma vie (Première partie)

Nawal Saadawi d. 1442 AH
165

Mes papiers... Ma vie (Première partie)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

بعد انتهاء الحفل هب فؤاد جلال من فوق المنصة، الموظفون يحيطون به من كل جانب، رآني واقفة وسط الأطباء، أقبل نحوي وصافحني: أعجبتني كلمتك يا دكتورة نوال، سيصدر قرار تعيينك في وحدة طحلة المجمعة، يمكنك الحضور إلى مكتب الدكتور عبده سلام غدا لاستلام القرار.

كالحمامة البيضاء وسط الحقول الخضراء، كان بيتي الجديد الصغير من دورين، يسميه الفلاحون «الفيلا» بحرف الفاء، وليس الڨاء، وليس ذات النقط الثلاث، لا توجد باللغة العربية هذه الحروف اللاتينية، يصعب على المصريين نطقها (مثل الباء الثقيلة)، كان بالوحدة المجمعة ثلاث فيلات (ڨيلات) متشابهات، الأولى قريبة من البوابة يسكنها الاختصاصي الاجتماعي، إلى جوارها الثانية مخصصة لناظر المدرسة، كانت خالية لأنه يسكن في القرية مع أسرته، الڨيلا الثالثة للطبيب، أصبحت هي بيتي، تتكون من صالة الاستقبال ومائدة الطعام والمطبخ في الدور الأول، في الدور الأعلى غرف النوم والحمام، وشرفة تطل على الحقول الممدودة إلى الأفق.

أول يوم دقت بابي امرأة فلاحة فارعة القامة مرفوعة الرأس ذكرتني بجدتي أم أبي، ربطت حمارتها البيضاء أمام البيت، دقت الباب بكفها الكبيرة المحروقة بالشمس، جلبابها الأسود الطويل والرائحة ذاتها، خليط من الزرع والجميز والذرة المشوية وخبيز الفرن، الضحكة نفسها حتى تدمع عيناها السوداوان اللامعتان، وطرف الطرحة السوداء تخفي بها فمها المملوء بالضحك والعبارة بالصوت نفسه: الله اجعله خير يا رب!

اسمها أم إبراهيم، قالت لي حين دخلت من الباب: «يا ضكطورة نوال احنا قرايب من ناحية المرحومة ستك الحاجة مبروكة وأنا وحيدة، العيال كبروا وتركوا الدار، والراجل راح مطرح ما راح، خديني عندك في البيت أخدمك إنتي والمحروسة بنتك بعيني الاتنين.»

أعطيتها لقب «دادة أم إبراهيم»، ومفاتيح البيت والدولاب وابنتي الطفلة، وماهيتي الشهرية، ومفكرتي السرية، علمتها القراءة والكتابة، أصبح عندها ساعة يد كبيرة ونوتة صغيرة تدون فيها المصاريف والمواعيد، اشتريت لها جلابيب ملونة، ومناديل بيضاء تربط بها شعرها الأسود الطويل، تضفره على شكل ضفيرة واحدة، تهتز وراء ظهرها المرفوع حين تمشي، خطوتها فوق الأرض قوية، تدب بقدمها الكبيرة وصوتها يملأ البيت بالفرح: نهارنا أبيض يا ضكطورة زي الشهد!

روائح الفل والياسمين تملأ الجو، زرعت ثلاث شجرات في الحديقة الصغيرة أمام البيت، واحدة فل، والثانية ياسمين، والثالثة شجرة اليوجانفيليا الحمراء، دم الغزال، كنت أنام في غرفة النوم الكبيرة إلى جواري تنام ابنتي في سريرها الصغير الهزاز، في الغرفة الثانية تنام أم إبراهيم، تصحو مع زقزقة العصافير عند الفجر، تسخن لي صفيحة الماء في الحمام، تهبط إلى المطبخ، تجهز الفطور والشاي، حين يلتصق العقربان داخل قرص الساعة فوق الرقم سبعة، تهتف من الدور الأول، صوتها يصلني في الدور الأعلى وأنا غارقة في النوم: «الساعة سبعة يا دكتورة، صباح الخير، النهاردة الشمس طالعة والزرع فتح، يا حلاوة النورات يا دكتورة.» تفتح نوافذ البيت، تفتح الشرفة المطلة على المزارع، تدخل الشمس حتى السرير، وأنا نائمة، تفتح النافذة في الصالة المطلة على مباني الوحدة، تهتف بصوتها المرح: «صلاة النبي أحسن الطوابير مالية المجمع، العيانين واقفين على باب الوحدة من الفجر، قومي يا ضكطورة، الشامي جاهز وسخنت لك فطيرة في الفرن!»

أخرج من البيت في الثامنة صباحا، أخترق الحديقة والمزرعة الخاصة بالوحدة، أسير تحت التكعيبة إلى العيادة الخارجية، كل شيء في غرفة الكشف الطبي جاهز، التمورجي عبد الفتاح واقف كالألف عند الباب داخل المريلة البيضاء الطويلة، جسمه لا يكف عن الحركة، كالسهم ينطلق، كالسهم يعود، كل شيء تحت يديه يتحول من الفوضى إلى نظام، طوابير المرضى والمريضات تصبح خطوطا مستقيمة، قد يصل عددهم إلى مائة أو أكثر، النظام يجعل كل شيء ممكنا، أنتهي من العيادة الخارجية في ثلاث أو أربع ساعات، أصعد إلى الدور العلوي حيث القسم الداخلي وغرفة العمليات، دربت الممرضات الثلاث على العمل، أكثرهن نشاطا كان اسمها «زينات»، تخرجت من مدرسة التمريض الملحقة بمستشفى قصر العيني، أعطيتها لقب الحكيمة، كانت تسكن مع الممرضات في القسم الخاص المواجه للقسم الداخلي، امرأة في الثلاثين من عمرها، لم تتزوج، متوسطة القامة، بيضاء البشرة، عيناها خضراوان مستديران تشبهان عيون القطط، تلمعان في الليل، تمر على المرضى، في يدها كشاف كهربي صغير، حول شعرها الملفوف «الكاب» الأبيض، فوق ثوبها القصير حتى الركبتين المريلة البيضاء المربوطة حول وسطها بحزام رفيع.

كان معي في الوحدة عدد من الموظفين الرجال، دربت أحدهم على أعمال الصيدلية وقراءة الروشتة وصرف الدواء، دربت موظفا آخر على أعمال الثقافة الصحية، والمرور على البيوت في القرى التابعة للوحدة، يشرح لهم وسائل الوقاية من مرض البلهارسيا والإنكلتوستوما أو الملاريا، الأمراض المتوطنة والأمراض المعوية التي تصيب الأطفال، يسكن في القرية مع زوجته وطفلين، تخرج من المعهد الصحي، كان قصير القامة ممتلئ الجسم يرتدي بدلة وكرافتة مثل الموظفين في الحكومة.

يوم السبت كان يوم العمليات الجراحية وهو أول يوم في الأسبوع، يوم الخميس كان للمرور على البيوت، وبقية الأيام للعيادة الخارجية، يوم الجمعة هو إجازتي، أتمشى فوق جسر النيل تحت أشعة الشمس، أدفع عربة الأطفال أمامي ذات الكبوت، يطل منها وجه ابنتي، عيناها العسليتان تلمعان بالضوء، بشرتها البيضاء متوردة بالصحة، تضحك بصوت يشبه الزقزقة، تقبض بأصابعها الصغيرة على يدي حين أرفعها من العربة، أحملها عاليا فوق رأسي لترى النيل.

في منتصف الليل سمعت الدق على باب بيتي، كان هو التمورجي عبد الفتاح، واقفا في الظلمة كالسهم الأبيض داخل مريلته الطويلة، رأسه الأصلع يلمع تحت ضوء القمر، يسكن في القرية مع زوجته وأطفاله الثلاثة، يأتي إلى الوحدة عند الفجر، لا يغادرها حتى منتصف الليل، يعرف المرضى واحدا واحدا باسم الأب والجد. - محمود ابن الحاج حسنين من دار أبو هشام جابوه دلوقتي من الكفر حالته متأخرة أوي يا ضكطورة. - عنده إيه يا عبد الفتاح، أنت دلوقتي بقيت أحسن مني في تشخيص الأمراض! - العفو يا ضكطورة، أنا آجي إيه جنب سعادتك، جايز يكون المصران الأعور أو حصوة في الكلية اليمين، عنده مغص شديد أوي وجسمه سخن نار! - افتح أوضة العمليات وجهز كل حاجة إنت والحكيمة زينات وأنا جاية حالا.

Page inconnue