فغضوا الأبصار حذرا من أن يقرأ ما في نفوسهم، إلا إدريس فقد قال بإصرار: ولكنني الأخ الأكبر ...
فقال الجبلاوي مستاء: أظن أنني أعلم ذلك، فأنا الذي أنجبتك.
فقال إدريس وحرارة غضبه آخذة في الارتفاع: للأخ الأكبر حقوق لا تهضم إلا لسبب!
فحدجه الرجل بنظرة طويلة كأنما يمنحه فرصة طيبة لتدبر أمره وقال: أؤكد لكم أني راعيت في اختياري مصلحة الجميع.
تلقى إدريس اللطمة بصبر ينفد. إنه يعلم كم يضيق أبوه بالمعارضة، وأن عليه أن يتوقع لطمات أشد إذا تمادى فيها، ولكن الغضب لم يدع له فرصة لتدبر العواقب، فاندفع خطوات حتى كاد يلاصق أدهم، وانتفخ كالديك المزهو ليعلن للأبصار فوارق الحجم واللون والبهاء بينه وبين أخيه، وانطلق الكلام من فيه كما ينطلق نثار الريق عند العطس بغير ضابط: إني وأشقائي أبناء هانم من خيرة النساء، أما هذا فابن جارية سوداء!
شحب وجه أدهم الأسمر دون أن تند عنه حركة، على حين لوح الجبلاوي بيده قائلا بنبرات الوعيد: تأدب يا إدريس!
ولكن إدريس كانت تعصف به عواصف الغضب المجنونة فهتف: وهو أصغرنا أيضا، فدلني على سبب يرجحني به إلا أن يكون زماننا زمان الخدم والعبيد! - اقطع لسانك رحمة بنفسك يا جاهل! - إن قطع رأسي أحب إلي من الهوان!
ورفع رضوان رأسه نحو أبيه وقال برقة باسمة: نحن جميعا أبناؤك، ومن حقنا أن نحزن إذا افتقدنا رضاك عنا، والأمر لك على أي حال .. وغاية مرامنا أن نعرف السبب.
وعدل الجبلاوي عن إدريس إلى رضوان، مروضا غضبه لغاية في نفسه، فقال: أدهم على دراية بطباع المستأجرين، ويعرف أكثرهم بأسمائهم، ثم إنه على علم بالكتابة والحساب.
وعجب إدريس من قول أبيه كما عجب إخوته. متى كانت معرفة الأوشاب ميزة يفضل من أجلها إنسان؟! ودخول الكتاب، أهو ميزة أخرى؟! وهل كانت أم أدهم تدفع به إلى الكتاب لولا يأسها من فلاحه في دنيا الفتونة؟! وتساءل إدريس متهكما: أتكفي هذه الأسباب لتبرير ما يراد بي من مذلة؟
Page inconnue