افتتاحية
أدهم
جبل
رفاعة
قاسم
عرفة
افتتاحية
أدهم
جبل
رفاعة
قاسم
عرفة
أولاد حارتنا
أولاد حارتنا
تأليف
نجيب محفوظ
افتتاحية
هذه حكاية حارتنا، أو حكايات حارتنا وهو الأصدق. لم أشهد من واقعها إلا طوره الأخير الذي عاصرته، ولكني سجلتها جميعا كما يرويها الرواة، وما أكثرهم! جميع أبناء حارتنا يروون هذه الحكايات، يرويها كل كما يسمعها في قهوة حيه أو كما نقلت إليه خلال الأجيال، ولا سند لي فيما كتبت إلا هذه المصادر. وما أكثر المناسبات التي تدعو إلى ترديد الحكايات! كلما ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم أو سوء معاملة؛ أشار إلى البيت الكبير على رأس الحارة من ناحيتها المتصلة بالصحراء، وقال في حسرة: «هذا بيت جدنا، جميعنا من صلبه، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوع؟ وكيف نضام؟!» ثم يأخذ في قص القصص والاستشهاد بسير أدهم وجبل ورفاعة وقاسم من أولاد حارتنا الأمجاد. وجدنا هذا لغز من الألغاز؛ عمر فوق ما يطمع إنسان أو يتصور، حتى ضرب المثل بطول عمره، واعتزل في بيته لكبره منذ عهد بعيد، فلم يره منذ اعتزاله أحد. وقصة اعتزاله وكبره مما يحير العقول، ولعل الخيال أو الأغراض قد اشتركت في إنشائها. على أي حال، كان يدعي الجبلاوي وباسمه سميت حارتنا. وهو صاحب أوقافها وكل قائم فوق أرضها والأحكار المحيطة بها في الخلاء. سمعت مرة رجلا يتحدث عنه فيقول: «هو أصل حارتنا، وحارتنا أصل مصر أم الدنيا، عاش فيها وحده وهي خلاء خراب، ثم امتلكها بقوة ساعده وبمنزلته عند الوالي. كان رجلا لا يجود الزمان بمثله، وفتوة تهاب الوحوش ذكره.» وسمعت آخر يقول عنه: «كان فتوة حقا، ولكنه لم يكن كالفتوات الآخرين، فلم يفرض على أحد إتاوة، ولم يستكبر في الأرض، وكان بالضعفاء رحيما.» ثم جاء زمان فتناولته قلة من الناس بكلام لا يليق بقدره ومكانته، وهكذا حال الدنيا. وكنت وما زلت أجد الحديث عنه شائقا لا يمل. وكم دفعني ذاك إلى الطواف ببيته الكبير لعلي أفوز بنظرة منه ولكن من دون جدوى. وكم وقفت أمام بابه الضخم أرنو إلى التمساح المحنط المركب أعلاه! وكم جلست في صحراء المقطم غير بعيد من سوره الكبير، فلا أرى إلا رءوس أشجار التوت والجميز والنخيل تكتنف البيت، ونوافذ مغلقة لا تنم على أي أثر لحياة. أليس من المحزن أن يكون لنا جد مثل هذا الجد دون أن نراه أو يرانا؟ أليس من الغريب أن يختفي هو في هذا البيت الكبير المغلق وأن نعيش نحن في التراب؟! وإذا تساءلت عما صار به وبنا إلى هذا الحال سمعت من فورك القصص، وترددت على أذنيك أسماء أدهم وجبل ورفاعة وقاسم، ولن تظفر بما يبل الصدر أو يريح العقل.
قلت إن أحدا لم يره منذ اعتزاله. ولم يكن هذا بذي بال عند أكثر الناس، فلم يهتموا منذ بادئ الأمر إلا بأوقافه وبشروطه العشرة التي كثر القيل والقال عنها، ومن هنا ولد النزاع في حارتنا منذ ولدت، ومضى خطره يستفحل بتعاقب الأجيال حتى اليوم، والغد. ولذلك فليس أدعى إلى السخرية المريرة من الإشارة إلى صلة القربى التي تجمع بين أبناء حارتنا. كنا وما زلنا أسرة واحدة لم يدخلها غريب، وكل فرد في حارتنا يعرف سكانها جميعا نساء ورجالا. ومع ذلك فلم تعرف حارة حدة الخصام كما عرفناها، ولا فرق بين أبنائها النزاع كما فرق بيننا، ونظير كل ساع إلى الخير تجد عشرة فتوات يلوحون بالنبابيت ويدعون إلى القتال؛ حتى اعتاد الناس أن يشتروا السلامة بالإتاوة، والأمن بالخضوع والمهانة، ولاحقتهم العقوبات الصارمة لأدنى هفوة في القول أو في الفعل بل الخاطرة تخطر فيشي بها الوجه.
وأعجب شيء أن الناس في الحارات القريبة منا كالعطوف وكفر الزغاري والدراسة والحسينية يحسدوننا على أوقاف حارتنا ورجالنا الأشداء، فيقولون: حارة منيعة، وأوقاف تدر الخيرات، وفتوات لا يغلبون. كل هذا حق، ولكنهم لا يعلمون أننا بتنا من الفقر كالمتسولين، نعيش في القاذورات بين الذباب والقمل، نقنع بالفتات، ونسعى بأجساد شبه عارية. وهؤلاء الفتوات يرونهم وهم يتبخترون فوق صدورنا، فيأخذهم الإعجاب، ولكنهم ينسون أنهم إنما يتبخترون فوق صدورنا، ولا عزاء لنا إلا أن نتطلع إلى البيت الكبير ونقول في حزن وحسرة: «هنا يقيم الجبلاوي، صاحب الأوقاف، هو الجد ونحن الأحفاد.»
شهدت العهد الأخير من حياة حارتنا، وعاصرت الأحداث التي دفع بها إلى الوجود «عرفة» ابن حارتنا البار. وإلى أحد أصحاب عرفة يرجع الفضل في تسجيل حكايات حارتنا على يدي، إذ قال لي يوما: «إنك من القلة التي تعرف الكتابة، فلماذا لا تكتب حكايات حارتنا؟ إنها تروى بغير نظام، وتخضع لأهواء الرواة وتحزباتهم، ومن المفيد أن تسجل بأمانة في وحدة متكاملة ليحسن الانتفاع بها، وسوف أمدك بما لا تعلم من الأخبار والأسرار.» ونشطت إلى تنفيذ الفكرة، اقتناعا بوجاهتها من ناحية، وحبا فيمن اقترحها من ناحية أخرى.
وكنت أول من اتخذ من الكتابة حرفة في حارتنا على رغم ما جره ذلك علي من تحقير وسخرية. وكانت مهمتي أن أكتب العرائض والشكاوى للمظلومين وأصحاب الحاجات. وعلى كثرة المتظلمين الذين يقصدونني فإن عملي لم يستطع أن يرفعني عن المستوى العام للمتسولين في حارتنا، إلى ما أطلعني عليه من أسرار الناس وأحزانهم حتى ضيق صدري وأشجن قلبي. ولكن مهلا، فإنني لا أكتب عن نفسي ولا عن متاعبي، وما أهون متاعبي إذا قيست بمتاعب حارتنا! حارتنا العجيبة ذات الأحداث العجيبة. كيف وجدت؟ وماذا كان من أمرها؟ ومن هم أولاد حارتنا؟
أدهم
1
كان مكان حارتنا خلاء؛ فهو امتداد لصحراء المقطم الذي يربض في الأفق. ولم يكن بالخلاء من قائم إلا البيت الكبير الذي شيده الجبلاوي كأنما ليتحدى به الخوف والوحشة وقطاع الطريق. كان سوره الكبير العالي يتحلق مساحة واسعة، نصفها الغربي حديقة، والشرقي مسكن مكون من أدوار ثلاثة.
ويوما دعا الواقف أبناءه إلى مجلسه بالبهو التحتاني المتصل بسلاملك الحديقة؛ وجاء الأبناء جميعا، إدريس وعباس ورضوان وجليل وأدهم، في جلابيبهم الحريرية، فوقفوا بين يديه وهم من إجلاله لا يكادون ينظرون نحوه إلا خلسة. وأمرهم بالجلوس فجلسوا على المقاعد من حوله، وراح يتفحصهم هنيهة بعينيه النافذتين كعيني الصقر، ثم قام متجها نحو باب السلاملك. ووقف وسط الباب الكبير ينظر إلى الحديقة المترامية التي تزحمها أشجار التوت والجميز والنخيل، وتعترش في جنباتها الحناء والياسمين، وتثب فوق غصونها مزقزقة العصافير. ضجت الحديقة بالحياة والغناء، على حين ساد الصمت بالبهو. وخيل إلى الإخوة أن فتوة الخلاء قد نسيهم، وهو يبدو بطوله وعرضه خلقا فوق الآدميين كأنما من كوكب هبط. وتبادلوا نظرات متسائلة. إن هذا شأنه إذا قرر أمرا ذا خطر، وما يقلقهم إلا أنه جبار في البيت كما هو جبار في الخلاء وإنهم حياله لا شيء. التفت الرجل نحوهم دون أن يبرح مكانه، وقال بصوت خشن عميق تردد بقوة في أنحاء البهو الذي توارت جدرانه العالية وراء ستائر وطنافس: أرى من المستحسن أن يقوم غيري بإدارة الوقف ...
وتفحص وجوههم مرة أخرى، ولكن لم تنم وجوههم عن شيء. لم تكن إدارة الوقف مما يغري قوما استحبوا الفراغ والدعة وعربدة الشباب، وفضلا عن هذا فإدريس الأخ الأكبر هو المرشح الطبيعي للمنصب، فلم يعد أحد منهم يتساءل عما هنالك. وقال إدريس لنفسه: «يا له من عبء! هذه الأحكار لا حصر لها، وهؤلاء المستأجرون المناكيد!» أما الجبلاوي فاستطرد قائلا: وقد وقع اختياري على أخيكم أدهم ليدير الوقف تحت إشرافي.
عكست الوجوه وقع مفاجأة غير متوقعة، فتبودلت النظرات في سرعة وانفعال، إلا أدهم فقد غض بصره حياء وارتباكا، وولاهم الجبلاوي ظهره وهو يقول في عدم اكتراث: لهذا دعوتكم!
تفجر الغضب في باطن إدريس، فبدا كالثمل من شدة مقاومته، ونظر إليه إخوته بحرج، ودارى كل منهم - عدا أدهم طبعا - غضبه لكرامته باحتجاجه الصامت على تخطي إدريس، الذي كان تخطيا مضاعفا لهم. أما إدريس فقال بصوت هادئ كأنما يخرج من جسم آخر: ولكن يا أبي ...
قاطعه الأب ببرود وهو يلتفت نحوهم: ولكن؟!
فغضوا الأبصار حذرا من أن يقرأ ما في نفوسهم، إلا إدريس فقد قال بإصرار: ولكنني الأخ الأكبر ...
فقال الجبلاوي مستاء: أظن أنني أعلم ذلك، فأنا الذي أنجبتك.
فقال إدريس وحرارة غضبه آخذة في الارتفاع: للأخ الأكبر حقوق لا تهضم إلا لسبب!
فحدجه الرجل بنظرة طويلة كأنما يمنحه فرصة طيبة لتدبر أمره وقال: أؤكد لكم أني راعيت في اختياري مصلحة الجميع.
تلقى إدريس اللطمة بصبر ينفد. إنه يعلم كم يضيق أبوه بالمعارضة، وأن عليه أن يتوقع لطمات أشد إذا تمادى فيها، ولكن الغضب لم يدع له فرصة لتدبر العواقب، فاندفع خطوات حتى كاد يلاصق أدهم، وانتفخ كالديك المزهو ليعلن للأبصار فوارق الحجم واللون والبهاء بينه وبين أخيه، وانطلق الكلام من فيه كما ينطلق نثار الريق عند العطس بغير ضابط: إني وأشقائي أبناء هانم من خيرة النساء، أما هذا فابن جارية سوداء!
شحب وجه أدهم الأسمر دون أن تند عنه حركة، على حين لوح الجبلاوي بيده قائلا بنبرات الوعيد: تأدب يا إدريس!
ولكن إدريس كانت تعصف به عواصف الغضب المجنونة فهتف: وهو أصغرنا أيضا، فدلني على سبب يرجحني به إلا أن يكون زماننا زمان الخدم والعبيد! - اقطع لسانك رحمة بنفسك يا جاهل! - إن قطع رأسي أحب إلي من الهوان!
ورفع رضوان رأسه نحو أبيه وقال برقة باسمة: نحن جميعا أبناؤك، ومن حقنا أن نحزن إذا افتقدنا رضاك عنا، والأمر لك على أي حال .. وغاية مرامنا أن نعرف السبب.
وعدل الجبلاوي عن إدريس إلى رضوان، مروضا غضبه لغاية في نفسه، فقال: أدهم على دراية بطباع المستأجرين، ويعرف أكثرهم بأسمائهم، ثم إنه على علم بالكتابة والحساب.
وعجب إدريس من قول أبيه كما عجب إخوته. متى كانت معرفة الأوشاب ميزة يفضل من أجلها إنسان؟! ودخول الكتاب، أهو ميزة أخرى؟! وهل كانت أم أدهم تدفع به إلى الكتاب لولا يأسها من فلاحه في دنيا الفتونة؟! وتساءل إدريس متهكما: أتكفي هذه الأسباب لتبرير ما يراد بي من مذلة؟
فأشار الجبلاوي نحوه بضجر وقال: هذه إرادتي، وما عليك إلا السمع والطاعة!
والتفت الرجل التفاتة حادة صوب أشقاء إدريس وهو يسأل: ما قولكم؟
فلم يحتمل عباس نظرة أبيه، وقال وهو واجم: سمعا وطاعة.
وسرعان ما قال جليل وهو يغض طرفه: أمرك يا أبي.
وقال رضوان وهو يزدرد ريقه الجاف: على العين والرأس.
عند ذاك ضحك إدريس ضحكة غضب تقلصت لها أساريره حتى قبحت وجهه وهتف: يا جبناء، ما توقعت منكم إلا الهزيمة المزرية. وبالجبن يتحكم فيكم ابن الجارية السوداء!
فصاح الجبلاوي مقطبا عن عينين تتطاير منهما النذر: إدريس!
ولكن الغضب كان قد اقتلع جذور عقله فصاح بدوره: ما أهون الأبوة عليك! خلقت فتوة جبارا فلم تعرف إلا أن تكون فتوة جبارا، ونحن أبناءك تعاملنا كما تعامل ضحاياك العديدين!
اقترب الجبلاوي خطوتين في بطء كالتوثب، وقال بصوت منخفض وقد أنذرت أساريره المنقبضة بالشر: اقطع لسانك!
ولكن إدريس واصل صياحه قائلا: لن ترعبني. أنت تعلم أنني لا أرتعب، وأنك إذا أردت أن ترفع ابن الجارية علي فلن أسمعك لحن السمع والطاعة. - ألا تدرك عاقبة التحدي يا ملعون؟ - الملعون حقا ابن الجارية!
فعلت نبرات الرجل واخشوشنت وهو يقول: إنها زوجتي يا عربيد، فتأدب وإلا سويت بك الأرض!
وفزع الإخوة وأولهم أدهم؛ لدرايتهم ببطش أبيهم الجبار، ولكن إدريس كان قد بلغ من الغضب درجة لم يعد يدرك معها خطرا كأنه مجنون يهاجم نارا مندلعة، فصاح: إنك تبغضني، لم أكن أعلم هذا، ولكنك تبغضني دون ريب، لعل الجارية هي التي بغضتنا إليك، سيد الخلاء وصاحب الأوقاف والفتوة الرهيب، ولكن جارية استطاعت أن تعبث بك، وغدا يتحدث عنك الناس بكل عجيبة يا سيد الخلاء. - قلت لك اقطع لسانك يا ملعون. - لا تسبني من أجل أدهم، طوب الأرض يأبى ذلك ويلعنه، وقرارك الغريب سيجعلنا أحدوثة الأحياء والحواري!
فصاح الجبلاوي بصوت صك الأسماع في الحديقة والحريم: اغرب بعيدا عن وجهي! - هذا بيتي، فيه أمي، وهي سيدته دون منازع. - لن ترى فيه بعد اليوم، وإلى الأبد ...
واكفهر الوجه الكبير حتى حاكى لونه النيل في احتدام فيضانه، وتحرك صاحبه كالبنيان، مكورا قبضة من صوان، وأيقن الجميع أن إدريس قد انتهى، ما هو إلا مأساة جديدة من المآسي التي يشهدها هذا البيت صامتا. كم من سيدة مصونة تحولت بكلمة إلى متسولة تعيسة! وكم من رجل غادره بعد خدمة طويلة مترنحا يحمل على ظهره العاري آثار سياط حملت أطرافها بالرصاص والدم يطفح من فيه وأنفه. والرعاية التي تحوط الجميع عند الرضا لا تشفع لأحد وإن عز جانبه عند الغضب. لهذا أيقن الجميع أن إدريس قد انتهى. حتى إدريس بكري الواقف ومثيله في القوة والجمال قد انتهى. وتقدم الجبلاوي خطوتين أخريين وهو يقول: لا أنت ابني ولا أنا أبوك، ولا هذا البيت بيتك، ولا أم لك فيه ولا أخ ولا تابع، أمامك الأرض الواسعة فاذهب مصحوبا بغضبي ولعنتي، وستعلمك الأيام حقيقة قدرك وأنت تهيم على وجهك محروما من عطفي ورعايتي!
فضرب إدريس البساط الفارسي بقدمه وصاح: هذا بيتي، ولن أغادره!
فانقض عليه الأب قبل أن يتقيه، وقبض على منكبه بقبضة كالمعصرة، ودفعه أمامه والآخر يتراجع متقهقرا، فعبرا باب السلاملك، وهبطا السلم وإدريس يتعثر، ثم اخترق به ممرا تكتنفه شجيرات الورد والحناء مفروشا بالياسمين حتى البوابة الكبيرة فدفعه خارجا وأغلق الباب. وصاح بصوت سمعه كل من يقيم في البيت: الهلاك لمن يسمح له بالعودة أو يعينه عليها!
ورفع رأسه صوب نوافذ الحريم المغلقة وصاح مرة أخرى: وطالقة ثلاثا من تجترئ على هذا!
2
منذ ذلك اليوم الكئيب وأدهم يذهب كل صباح إلى إدارة الوقف في المنظرة الواقعة إلى يمين باب البيت الكبير. وعمل بهمة في تحصيل أجور الأحكار وتوزيع أنصبة المستحقين وتقديم الحساب إلى أبيه. وأبدى في معاملة المستأجرين لباقة وسياسة، فرضوا عنه على رغم ما عرف عنهم من مشاكسة وفظاظة، وكانت شروط الواقف سرا لا يدري به أحد سوى الأب، فبعث اختيار أدهم للإدارة الخوف أن يكون هذا مقدمة لإيثاره في الوصية. والحق أنه لم يبد من الأب قبل ذلك اليوم ما ينم عن التحيز في معاملته لأبنائه. وعاش الإخوة في وئام وانسجام بفضل مهابة الأب وعدالته، حتى إدريس - على قوته وجماله وإسرافه أحيانا في اللهو - لم يسئ قبل ذلك اليوم إلى أحد من إخوته. كان شابا كريما حلو المعشر حائزا الود والإعجاب. ولعل الأشقاء الأربعة كانوا يضمرون لأدهم شيئا من الإحساس بالفارق بينهم وبينه، ولكن أحدا منهم لم يعلن هذا ولا اشتم منه في كلمة أو إشارة أو سلوك. ولعل أدهم كان أشد إحساسا منهم بهذا الفارق، ولعله قارن كثيرا بين لونهم المضيء ولونه الأسمر، بين قوتهم ورقته، بين سمو أمهم ووضاعة أمه، ولعله عانى من ذلك أسى مكتوما وألما دفينا، ولكن جو البيت المعبق بشذا الرياحين، الخاضع لقوة الأب وحكمته، لم يسمح لشعور سيئ بالاستقرار في نفسه، فنشأ صافي القلب والعقل.
وقال أدهم لأمه قبيل ذهابه إلى إدارة الوقف: باركيني يا أمي، فما هذا العمل الذي عهد به إلي إلا امتحان شديد لي ولك.
فقالت الأم بضراعة: ليكن التوفيق ظلك يا بني، أنت ولد طيب والعقبى للطيبين.
ومضى أدهم إلى المنظرة ترمقه العيون من السلاملك والحديقة ومن وراء النوافذ، وجلس على مقعد ناظر الوقف وبدأ عمله. وكان عمله أخطر نشاط إنساني يزاول في تلك البقعة الصحراوية ما بين المقطم شرقا والقاهرة القديمة غربا. واتخذ أدهم من الأمانة شعارا، وسجل كل مليم في الدفتر لأول مرة في تاريخ الوقف. وكان يسلم إخوته رواتبهم في أدب ينسيهم مرارة الحنق، ثم يقصد أباه بحصيلة الأموال. وسأله أبوه يوما: كيف تجد العمل يا أدهم؟
فقال أدهم بخشوع: ما دمت قد عهدت به إلي فهو أعظم ما في حياتي.
فشاعت في الوجه العظيم البشاشة؛ إذ إنه على جبروته كان يستخفه طرب الثناء. وكان أدهم يحب مجلسه، وإذا جلس إليه اختلس منه نظرات الإعجاب والحب. وكم كان يسعده أن يتابع أحاديثه وهو يروي - له ولإخوته - حكايات الزمان الأول، ومغامرات الفتوة والشباب، إذ هو ينطلق في تلك البقاع ملوحا بنبوته المخيف غازيا كل موضع تطؤه قدماه. وبعد طرد إدريس ظل عباس ورضوان وجليل على عادتهم من الاجتماع فوق سطح البيت، يأكلون ويشربون ويقامرون. أما أدهم فلم يكن يطيب له الجلوس إلا في الحديقة؛ كان عاشقا للحديقة منذ درج، وكان عاشقا للناي. ولازمته تلك العادة بعد اضطلاعه بشئون الوقف وإن لم تعد تستأثر بجل وقته. فكان إذا فرغ من عمله في الوقف افترش سجادة على حافة جدول، وأسند ظهره إلى جذع نخلة أو جميزة، أو استلقى تحت عريشة الياسمين، وراح يرنو إلى العصافير، وما أكثر العصافير! أو يتابع اليمام، وما أحلى اليمام! ثم ينفخ في الناي محاكيا الزقزقة والهديل والتغريد، وما أبدع المحاكاة! أو يمد الطرف نحو السماء خلال الغصون، وما أجمل السماء! ومر به أخوه رضوان وهو على تلك الحال فرمقه بنظرة ساخرة وقال: ما أضيع الوقت الذي تنفقه في إدارة الوقف!
فقال أدهم باسما: لولا إشفاقي من إغضاب أبي لشكوت. - فلنحمد نحن المولى على الفراغ!
فقال أدهم ببساطة: هنيئا لكم.
فسأله رضوان وهو يداري الامتعاض بالابتسام: أتود أن تعود مثلنا؟ - خير ما تمضي الحياة في الحديقة والناي!
فقال رضوان بمرارة: كان إدريس يود أن يعمل ...
فغض أدهم بصره وهو يقول: لم يكن عند إدريس وقت للعمل، ولاعتبارات أخرى غضب، أما السعادة الحقة ففي هذه الحديقة تجدها.
ولما ذهب رضوان قال أدهم لنفسه: «الحديقة، وسكانها المغردون، والماء، والسماء، ونفسي النشوى، هذه هي الحياة الحقة. كأنني أجد في البحث عن شيء. ما هذا الشيء؟ الناي أحيانا يكاد يجيب. ولكن السؤال يظل بلا جواب. لو تكلمت هذه العصفورة بلغتي لشفت قلبي باليقين. وللنجوم الزاهرة حديث كذلك. أما تحصيل الإيجار فنشاز بين الأنغام.»
ووقف أدهم يوما ينظر إلى ظله الملقى على الممشى بين الورود، فإذا بظل جديد يمتد من ظله واشيا بقدوم شخص من المنعطف خلفه. بدا الظل الجديد كأنما يخرج من موضع ضلوعه. والتفت وراءه فرأى فتاة سمراء وهي تهم بالتراجع عندما اكتشفت وجوده، فأشار إليها بالوقوف فوقفت، وتفحصها مليا، ثم سألها برقة: من أنت؟
فأجابت بصوت ملعثم: أميمة.
إنه يذكر الاسم، فهو لجارية قريبة لأمه، وكما كانت أمه قبل أن يتزوج منها أبوه.
ومال إلى محادثتها أكثر، فسألها: ماذا جاء بك إلى الحديقة؟
فأجابت مسبلة الجفنين: حسبتها خالية ... - لكن ذلك محرم عليكن!
فقالت بصوت لم يكد يسمع: أخطأت يا سيدي ...
وتراجعت حتى توارت وراء المنعطف، ثم ترامى إلى أذنيه وقع أقدامها المسرعة، وإذا به يغمغم متأثرا: «ما أملحك !» وشعر بأنه لم يكن قط أدخل في خلائق الحديقة منه في هذه اللحظة، وإن الورد والياسمين والقرنفل والعصافير واليمام ونفسه نغمة واحدة. وقال لنفسه: «أميمة مليحة، حتى شفتاها الغليظتان مليحتان، وجميع إخوتي متزوجون عدا إدريس المتكبر، وما أشبه لونها بلوني! وما أجمل منظر ظلها وهو مفروش في ظلي كأنه جزء من جسدي المضطرب بالرغبات! ولن يسخر أبي من اختياري، وإلا فكيف جاز له أن يتزوج من أمي؟!»
3
رجع أدهم إلى إدارة الوقف بقلب مفعم بجمال غامض كالعبير. وحاول كثيرا أن يراجع حساب اليوم، ولكنه لم ير في صفحة عقله إلا السمراء. ولم يكن عجيبا أن يرى أميمة اليوم لأول مرة، فالحريم في هذا البيت كالأعضاء الباطنية يعرفها صاحبها على نحو ويعيش بفضلها ولكنه لا يراها، واستسلم أدهم إلى تيار أفكاره الوردية حتى انتزع منه على صوت مرعد قريب كأنما انفجر في المنظرة نفسها وهو يصيح: «أنا هنا، في الخلاء يا جبلاوي، ألعن الكل، اللعنة على رءوسكم نساء ورجالا، وأتحدى من لم تعجبه كلماتي، سامعني يا جبلاوي؟!» وهتف أدهم: «إدريس!» وغادر المنظرة إلى الحديقة فرأى أخاه رضوان متجها نحوه في اضطراب ظاهر، وبادره قائلا: إدريس سكران، رأيته من النافذة مختل التوازن من السكر، أي فضائح تخبئ الأقدار لأسرتنا؟
فقال أدهم وهو يغضي ألما: قلبي يتقطع أسفا يا أخي! - وما العمل؟! إن كارثة تتهددنا! - ألا ترى يا أخي أنه يجب علينا أن نحدث أبانا في الأمر؟
فقطب رضوان قائلا: أبوك لا يراجع في أمر، وحال إدريس هذه لا شك ضاعفت من غضبه عليه ...
فغمغم أدهم في كآبة: ما كان أغنانا عن هذه الأحزان! - نعم، النساء يبكين في الحريم، عباس وجليل معتكفان من الكدر، وأبونا وحده في حجرته لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه ...
فتساءل أدهم في قلق وهو يشعر بأن ملابسات الحديث تدفعه إلى مأزق: ألا ترى أنه ينبغي أن نعمل شيئا؟ - يبدو أن كل واحد منا يود أن يلوذ بالسلامة، ولا يهدد السلامة مثل طلبها بأي ثمن، غير أني لن أجازف بمركزي ولو انطبقت السماء على الأرض، أما كرامة أسرتنا فتتمرغ الساعة في التراب في ثوب إدريس!
لماذا قصدتني إذن؟! بين يوم وليلة انقلب أدهم غراب بين ينعق! وتنهد قائلا: إني بريء من كل هذا، ولكن لن تطيب لي الحياة إن سكت .. فقال رضوان وهو يهم بالذهاب: لديك من الأسباب ما يوجب عليك العمل!
ومضى راجعا. ولبث أدهم وحده وأذناه ترددان هذه العبارة: «لديك من الأسباب ...» نعم. إنه المتهم دون ذنب جناه، كالقلة التي تسقط على رأس؛ لأن الريح أطاحت بها. وكلما أسف أحد على إدريس لعن أدهم. واتجه أدهم نحو الباب ففتحه في رفق ومرق منه، رأى إدريس غير بعيد يترنح دائرا حول نفسه، يقلب عينين زائغتين، وقد تشعث رأسه وانحسر جيب جلبابه عن شعر صدره. ولما عثرت عيناه على أدهم توثب للانقضاض كأنه قطة لمحت فأرا، ولكن أعجزه السكر فمال نحو الأرض وملأ قبضته ترابا ورمى به أدهم، فأصاب صدره وانتثر على عباءته. وناداه أدهم برقة: أخي ...
فزمجر إدريس وهو يترنح: اخرس يا كلب يا ابن الكلب، لا أنت أخي ولا أبوك أبي، ولأدكن هذا البيت فوق رءوسكم!
فقال أدهم متوددا: بل أنت أكرم هذا البيت وأنبله ...
فقهقه إدريس من فيه دون قلبه وصاح: لماذا جئت يا ابن الجارية؟ عد إلى أمك وأنزلها إلى بدروم الخدم!
فقال أدهم دون أن تتغير مودته: لا تستسلم للغضب، ولا توصد الأبواب في وجه الساعين لخيرك.
فلوح إدريس بيده ثائرا وصاح: ملعون البيت الذي لا يطمئن فيه إلا الجبناء، الذين يغمسون اللقمة في ذل الخنوع، ويعبدون مذلهم. لن أعود إلى بيت أنت فيه رئيس، فقل لأبيك إنني أعيش في الخلاء الذي جاء منه، وإنني عدت قاطع طريق كما كان، وعربيدا أثيما عاتيا كما يكون، وسيشيرون إلي في كل مكان أعيث فيه فسادا ويقولون: «ابن الجبلاوي!» بذلك أمرغكم في التراب يا من تظنون أنفسكم سادة وأنتم لصوص!
وتوسل أدهم قائلا: أخي أفق، حاسب نفسك على كل كلمة توجب اللوم، ليس الطريق مسدودا في وجهك إلا أن تسده بيديك، وإني أعدك بأن يعود كل شيء طيب إلى أصله.
فخطا إدريس نحوه خطوة بصعوبة كأن ريحا ترجعه وقال: بأي قوة تعدني يا ابن الجارية؟
فقال وهو يرمقه بحذر: بقوة الأخوة. - الأخوة؟! قذفت بها في أول مرحاض صادفني ...
فقال أدهم متألما: ما سمعت منك من قبل إلا الجميل ... - طغيان أبيك أنطقني بالحق! - لا أحب أن يراك الناس على هذه الحال.
فأرسل إدريس ضحكة معربدة وصاح: وسيرونني على أسوأ منها كل يوم، العار والفضيحة والجريمة ستحل بكم على يدي، طردني أبوك دون حياء فليتحمل العواقب!
ورمى بنفسه نحو أدهم فتنحى هذا عن موقفه دون تردد، فكاد إدريس يهوي على الأرض لولا أن استند إلى الجدار، ولبث يلهث حانقا، وينظر في الأرض مفتشا عن حجر، فتراجع أدهم بخفة إلى الباب ودخل، واغرورقت عيناه من الحزن. وكان صياح إدريس ما زال صاخبا. وحانت منه التفاتة نحو السلاملك فلمح أباه خلال الباب وهو يعبر البهو، فمضى نحوه وهو لا يدري، متغلبا على خوفه بحزنه. ونظر إليه الجبلاوي بعينين لا تفصحان عن شيء، وكان يقف بقامته المديدة ومنكبيه العريضين أمام صورة محراب نقشت على جدار البهو خلفه. وأحنى أدهم رأسه قائلا: السلام عليكم.
فتفحصه الجبلاوي بنظرة عميقة، ثم قال بصوت نفذ إلى أعماق قلبه: صرح بما جئت من أجله ...
فقال أدهم بصوت مهموس: أبي، إن أخي إدريس ...
فقاطعه الأب بصوت كضربة الفأس في الحجر: لا تذكر اسمه أمامي ...
ثم وهو يمضي إلى الداخل: اذهب إلى عملك!
4
توالى مشرق الشمس ومغيبها على هذه البقعة الخلاء، وإدريس يتردى في مهاوي الشقاوة. في كل يوم يسجل في كتابه حماقة جديدة. كان يدور حول البيت ليقذفه بأقذع الشتائم. أو يجلس على كثب من الباب، عاريا كما ولدته أمه كأنما يتشمس، وهو يترنم بأفحش الأغاني، وكان يتجول في الأحياء القريبة في خيلاء الفتوات، يتحدى كل عابر بنظرات هجومية، ويتحرش بكل من يعترض سبيله، والناس يتحاشونه كاظمين، وهم يتهامسون: «ابن الجبلاوي!» ولم يحمل لغذائه هما، فكان يمد يده بكل بساطة إلى الطعام حيث وجده، في مطعم أو على عربة، فيأكل حتى يكتظ ثم يمضي دون شكر من ناحيته أو محاسبة من الآخرين. وإذا تاقت نفسه إلى العربدة مال إلى أول حانة تصادفه، فتقدم إليه البوظة حتى يسكر، ثم ينطلق لسانه كالنافورة بأسرار أسرته وأعاجيبها، وتقاليدها السخيفة وجبنها المهين، منوها بثورته على أبيه، جبار هذه الأحياء جميعا، ثم يدخل في قافية ليغرق في الضحك، ويغني إذا لزم الحال ويرقص، وتتناهى مسرته إذا ختمت السهرة بمعركة، ثم يذهب مشيعا بالتحيات.
وفي كل مكان اشتهر بهذه السيرة، فتحاماه الناس ما استطاعوا، ولكنهم سلموا بأمره كأنه مصيبة من مصائب الدهر. ونال الأسرة من ذلك ما نالها من الغم والكرب. وغلب الحزن أم إدريس فشلت واحتضرت. وجاء الجبلاوي ليودعها فأشارت نحوه بيدها السليمة محتجة وفاضت روحها في أسى وغضب. وخيم الحزن على الأسرة كخيوط العنكبوت، فتوقف سمر الإخوة فوق السطح، وسكت ناي أدهم في الحديقة.
ويوما تفجر الأب عن ثورة جديدة كانت ضحيته تلك المرة امرأة؛ إذ تعالى صوته الجهير وهو يلعن نرجس الخادمة ويطردها من البيت. وعلم في نفس اليوم أن أعراض الحمل ظهرت على المرأة، فقررت حتى أقرت بأن إدريس اعتدى عليها قبل طرده. وغادرت نرجس البيت وهي تصوت وتلطم خديها، وهامت على وجهها سحابة النهار حتى عثر عليها إدريس فألحقها بركابه دون ترحيب، ودون جفاء كذلك؛ إذ لم تكن تخلو من نفع عند الحاجة.
على أن كل مصيبة وإن جلت لا بد يوما أن تؤلف؛ لذلك أخذت الحياة تعود إلى مجراها المألوف في البيت الكبير كما يعود السكان إلى ديارهم عقب زلزال أكرههم على الفرار منها. عاد رضوان وعباس وجليل إلى ندوة السطح، كما عاد أدهم إلى سهرة الحديقة يناجي الناي فيناجيه. ووجد أميمة تضيء خواطره وتدفئ مشاعره، وصورة ظلها المعانق لظله ترتسم بوضوح في مخيلته، فقصد مجلس أمه في حجرتها حيث كانت تطرز شالا، فأفضى إليها بذات نفسه، إلى أن قال: إنها أميمة يا أمي، قريبتك ...
فابتسمت أمه ابتسامة باهتة دلت على أن فرحة الخبر لم تستطع التغلب على عناء مرضها وقالت: نعم يا أدهم، إنها فتاة طيبة، تصلح لك كما تصلح لها، وستسعدك بمشيئة المولى.
ولما رأت تورد البهجة في وجنتيه استدركت قائلة: لا ينبغي أن تدللها يا بني حتى لا تفسد حياتك، وسأخاطب أباك في الأمر لعلي أنعم برؤية ذريتك قبل أن يدركني الموت.
وعندما دعاه الجبلاوي إلى مقابلته وجده يبتسم ابتسامة لطيفة حتى قال لنفسه: «لا شيء يعادل شدة أبي إلا رحمته.» وقال الأب: ها أنت ذا تطلب زوجة يا أدهم، ما أسرع الزمن! وهذا البيت يحتقر المساكين، ولكنك باختيار أميمة تكرم أمك، لعلك تنجب ذرية صالحة. لقد ضاع إدريس، وعباس وجليل عقيمان، ورضوان لم يعش له ولد حتى اليوم، وجميعهم لم يرثوا عني إلا كبريائي، فاملأ هذا البيت بذريتك، وإلا ذهب عمري هباء.
وكانت زفة أدهم التي لم يشهد لها الحي نظيرا من قبل. وحتى اليوم يجري ذكرها مجرى الأمثال في حارتنا. تدلت ليلتذاك الكلوبات من غصون الأشجار ومن فوق السور حتى بدا البيت بحيرة من نور وسط الخلاء المظلم، وأقيم سرادق فوق السطح للمغنين والمغنيات، وامتدت موائد الطعام والشراب في البهو والحديقة والخلاء المتصل بمدخل البيت الكبير. وبدأت زفة أدهم من أقصى الجمالية عقب منتصف الليل، سار فيها كل من يحب الجبلاوي أو يخافه حتى انتظمت الجميع. وخطر أدهم في جلباب حريري ولاسة مزركشة بين عباس وجليل، أما رضوان فسار في المقدمة، وعلى اليمين وعلى اليسار حاملو الشموع والورود، وتقدم الموكب مجموعة ضخمة من المنشدين والراقصين، وتعالى الغناء، وتبعته تأوهات المطربين وتحيات المعجبين بالجبلاوي وأدهم، حتى استيقظ الحي ودوت الزغاريد. وسار الموكب من الجمالية فالعطوف ثم كفر الزغاري والمبيضة، ينهال عليه الترحيب حتى من الفتوات، وحطب من حطب، ورقص من رقص، ووزعت الحانات البوظة مجانا فسكر حتى الغلمان، وتهادت الجوزة من جميع الغرز في طريق الموكب هدية للمحتفلين فعبق الجو بحسن كيف والهندي.
وفجأة لاح إدريس كمارد انشقت عنه الظلمة في آخر الطريق. لاح عند المنعطف المفضي إلى الخلاء على ضوء الكلوبات التي تتقدم الموكب، فتوقف حاملو الكلوبات عن السير وانتشر التهامس باسم إدريس. ولمحته أعين المنشدين فاعترض الخوف حناجرهم فكفت عن الغناء، ورآه الراقصون فجمدت أوساطهم. وسرعان ما سكتت المزامير وخرست الطبول، وغاضت الضحكات. وتساءل كثيرون عما يفعلون، فهم إن استكانوا لم يأمنوا الأذى وإن ضربوا لم يضربوا إلا ابن الجبلاوي. ولوح إدريس بنبوته وهو يصيح: لمن الزفة يا حثالة الجبناء؟
فساد الصمت واشرأبت الأعناق نحو أدهم وإخوته، وعاد إدريس يتساءل: متى كنتم لابن الجارية أو لأبيه أصدقاء؟
عند ذاك تقدم رضوان خطوات وهتف قائلا: أخي، من الحكمة أن تدع الزفة تمر ...
فصاح إدريس مقطبا: أنت آخر من يتكلم يا رضوان، أنت أخ خائن وابن جبان، وذليل يشتري رغد العيش بالكرامة والأخوة!
فقال رضوان بإشفاق: لا شأن للناس باختلافاتنا.
فقهقه إدريس قائلا: الناس يعلمون بخزيكم، ولولا جبنهم العريق ما وجدت هذه الزفة زامرا أو منشدا!
فقال رضوان بعزم ثابت: أبوك عهد إلينا بأخيك، ولا بد أن نحفظه!
فعاد إدريس يقهقه وهو يتساءل: أرأيت أنك تدافع عن نفسك لا عن ابن الجارية؟ - أين رشادك يا أخي؟ بالحكمة وحدها تعود إلى بيتك. - إنك كاذب، وأنت تعلم أنك كاذب ...
فقال رضوان في حزن: لن ألومك فيما يخصني، ولكن دع الزفة تمر بسلام ...
فكان جوابه أن انقض على الموكب كالثور الهائج. وأخذ نبوته يرتفع ويهوي فتتحطم الكلوبات وتتصدع الطبول وتتبعثر الورود؛ وراح الناس يولون مذعورين كالرمال أمام العاصفة. وتكاتف رضوان وعباس وجليل أمام أدهم فتضاعف غضب إدريس: يا أنذال، تدافعون عمن تكرهون خوفا على الطعام والشراب!
وهجم عليهم، فتلقوا ضرباته بنبابيتهم دون أن يردوا عليها وهم يتراجعون. وإذا به يرمي بنفسه فجأة بينهم فيشق سبيلا إلى موقف أدهم، فعلا الصوات في النوافذ، وهتف أدهم وهو يتحفز للدفاع عن نفسه: إدريس، لست عدوا لك فارجع إلى عقلك!
ورفع إدريس نبوته. وهنا صاح صائح: «الجبلاوي!» وصاح رضوان مخاطبا إدريس: أبوك قادم ...
فوثب إدريس إلى جانب الطريق والتفت إلى الوراء فرأى الجبلاوي قادما وسط هالة من الخدم يحملون المشاعل. وعض إدريس على أسنانه ثم هتف ساخرا: سأهبك عما قريب حفيدا من الزنى تقر به عينك.
واندفع نحو الجمالية والناس توسع له على الجانبين حتى ابتلعته الظلمة. وبلغ الأب موقف الإخوة وهو يتظاهر بهدوء تحت آلاف الأعين المحدقة فيه، ثم قال بلهجة آمرة: ليعد كل شيء إلى أصله!
ورجع حملة الكلوبات إلى مواقعهم، ودقت الطبول، وعزفت المزامير، ثم غنى المنشدون، ورقص الراقصون، واستأنفت الزفة مسيرها ...
وسهر البيت الكبير حتى الصباح في طرب وشراب وغناء. وعندما دخل أدهم حجرته المطلة على خلاء المقطم وجد أميمة واقفة إلى جانب المرآة، والنقاب الأبيض لا يزال يغطي وجهها. كان مخمورا مسطولا لا تكاد قدماه تحملانه، فاقترب منها وهو يبذل جهدا شديدا ليتمالك أعصابه، ورفع النقاب عن وجهها الذي طالعه في أحسن رواء، وهوى برأسه حتى لثم شفتيها المكتنزتين، ثم قال بلسان مخمور: لتهن الهموم جميعا ما دمت حسن الختام ...
واتجه نحو الفراش، يستقيم خطوة ويترنح خطوة، حتى استلقى على عرض السرير باللاسة والمركوب، وكانت أميمة تنظر إلى صورته المنعكسة على المرآة وهي تبتسم في إشفاق وحنان ...
5
وجد أدهم في أميمة سعادة لم يعرفها من قبل. ولبساطته أعلن عن سعادته بأقواله وأحواله حتى تندر به إخوته. وعند ختام كل صلاة كان يبسط يديه هاتفا: «الحمد لصاحب المنن؛ على رضا أبي الحمد له، على حب زوجتي الحمد له، على المنزلة التي أحظى بها دون من هم أجدر مني بها الحمد له، على الحديقة الغناء والناي الرفيق الحمد له.» وقالت كل امرأة من نساء البيت الكبير: إن أميمة زوجة واعية، فهي ترعى زوجها كأنه ابنها، وتتودد حماتها وتخدمها حتى أسرتها، وتولي مسكنها العناية التامة كأنه قطعة من جسدها .. أما أدهم فكان زوجا مترع القلب بالمحبة وحسن المعاشرة. وكما شغلته إدارة الوقف عن جزء من ملاهيه البريئة في الحديقة من قبل، فقد شغل الحب بقية يومه، واستبد به حتى نسي نفسه.
وتوالت أيام هانئة، وامتدت فوق ما قدر رضوان وعباس وجليل الساخرون، ولكنها ارتطمت في النهاية بذاك الهدوء الحكيم كما تنتهي مياه الشلال المتدفقة الراغية المزبدة في النهر الرصين. وعاد التساؤل يحتل مكانه في قلب أدهم، فشعر بأن الزمن لا يمر في غمضة عين، وأن النهار يعقبه الليل، وأن المناجاة إذا تواصلت إلى غير نهاية فقدت كل معنى، وأن الحديقة ملهاة صادقة لا يجدر به أن يهجرها، وأن شيئا من هذا لا يعني بحال أن قلبه تحول عن أميمة، فلا تزال في صميمه، ولكن للحياة أطوارا لا يخبرها المرء إلا يوما بيوم. وعاد إلى مجلسه عند القناة، وأجال بصره في الأزهار والعصافير ممتنا ومعتذرا. وإذا بأميمة تلحق به مشرقة بالبهجة، فجلست إلى جانبه وهي تقول: نظرت من النافذة لأرى ما أخرك، لماذا لم تدعني معك؟
فقال باسما: خفت أن أتعبك. - تتعبني؟ طالما أحببت هذه الحديقة، أتذكر أول لقاء لنا هنا؟
وأخذ يدها في يده، وأسند رأسه إلى جذع النخلة مرسلا طرفه إلى الغصون، وإلى السماء خلال الغصون، وعادت هي تؤكد له حبها للحديقة، وكلما أمعن في الصمت أمعنت في التوكيد؛ إذ إنها كانت تكره الصمت بقدر ما تحب الحديقة، وكان حديث حياتها أطيب حديث. ولا بأس بالوقوف بعض الوقت عند أهم الأحداث في البيت الكبير، وبخاصة ما يتعلق بزوجات رضوان وعباس وجليل، ثم تغير صوتها مائلا نحو العتاب وهي تقول: أنت تغيب عني يا أدهم ...!
فابتسم إليها قائلا: كيف وأنت ملء القلب؟! - ولكنك لا تصغي إلي ...!
هذا حق. ومع أنه لم يرحب بمقدمها فإنه لم يضق به. ولو همت بالرجوع لأمسك بها صادقا. والحق أنه يشعر بأنها جزء لا يتجزأ منه. وقال كالمعتذر: إني أحب هذه الحديقة، لم يكن في حياتي الماضية أطيب من جلستها، وتكاد أشجارها الباسقة ومياهها المفضضة وعصافيرها المزقزقة تعرفني كما أعرفها، وأود أن تقاسميني حبها. أرأيت إلى السماء كيف تبدو خلال الغصون؟
فرفعت عينيها مقدار لحظة ثم نظرت إليه باسمة وقالت: إنها جميلة حقا، وجديرة بأن تكون أطيب ما في حياتك.
فآنس من قولها العتاب دون إفصاح، وبادرها قائلا: بل كانت كذلك قبل أن أعرفك ... - والآن؟
فضغط على يدها بحنو قائلا: لا يتم جمالها إلا بك!
فقالت وهي تحد بصرها نحوه: من حسن الحظ أنها لا تؤاخذك على انصرافك عنها إلي ...
فضحك أدهم وجذبها نحوه حتى التصق خدها بشفتيه، ثم سألها: أليست هذه الأزهار أجدر بالتفاتنا من الكلام عن زوجات إخوتي؟!
فقالت أميمة باهتمام: الأزهار أجمل، ولكن زوجات إخوتك لا يكففن عن الحديث عنك .. إدارة الوقف، دائما إدارة الوقف، وثقة أبيك فيك، يبدئن ويعدن في هذا ...
وقطب أدهم غائبا عن الحديقة، وقال بحدة: لا شيء ينقصهن! - الحق أني أخاف عليك العين!
فهتف أدهم غاضبا: لعنة الله على الوقف، أرهقني وغير القلوب علي وسلبني راحة البال، فليذهب في داهية!
فوضعت أصبعها على شفتيه وهي تقول: لا تكفر بالنعمة يا أدهم، إن إدارة الوقف شأن خطير، وقد تجر وراءها نفعا لا يخطر بالبال ... - جرت حتى الآن المتاعب .. وحسبنا مأساة إدريس!
فابتسمت، لكن ابتسامتها لم تنم عن بهجة وإنما دارت بها اهتماما جديا تجلى في نظرة عينيها، وقالت: انظر إلى مستقبلنا كما تنظر إلى الغصون والسماء والعصافير!
وواظبت أميمة على مشاركته جلسته في الحديقة. ولم تكن تعرف الصمت إلا في النادر. لكنه اعتادها، كما اعتاد الإصغاء بنصف انتباه أو من دون ذلك، وعند الحاجة يتناول الناي لينفخ فيه ما شاء له الطرب. واستطاع أن يقول في رضا تام إن كل شيء طيب. حتى شقاوة إدريس باتت شيئا مألوفا. لكن المرض اشتد على أمه. وعانت آلاما لم تعرفها من قبل تقطع لها قلبه. وكانت تدعوه إلى جانبها كثيرا فتسبغ عليه أكرم الدعاء. ومرة قالت له بتوسل حار: «ادع ربك دائما أن يقيك الشر ويهديك سواء السبيل.» ولم تدعه يذهب. وظلت تراوح بين الأنين وبين مخاطبته وتذكيره بوصيتها حتى فاضت روحها بين يديه. وبكاها أدهم، وبكتها أميمة، وجاء الجبلاوي فنظر في وجهها مليا ثم سجاها باحترام وقد تجلت في عينيه الحادتين نظرة كئيبة مليئة بالشجن.
وما كاد أدهم يعود رويدا إلى مألوف الحياة حتى ارتطم بتغير طارئ على أميمة لم يعرف له علة. بدأ بانقطاعها عن مجلسه في الحديقة، فلم يسر بذلك كما كان يتوهم أحيانا. وسألها عن سر انقطاعها فاعتلت بأعذار شتى كالعمل أو التعب. ولاحظ أنها لم تعد تقبل عليه بالاندفاع المعهود، فإذا أقبل هو عليها لاقته دون عاطفة حقيقية، كأنما تجامله، وكأنما مجاملته عناء. وتساءل عما هنالك! لقد مر بشيء شبيه بهذا، ولكن حبه صمد له وتغلب عليه. وكان بوسعه أن يقسو عليها، وود أحيانا لو يفعل ذلك ولكن منعه انكسارها وشحوبها ومغالاتها في التأدب معه. أحيانا تبدو حزينة، وأحيانا تبدو حائرة، ومرة باغت في عينيها نظرة نافرة حتى ركبه الغضب والجزع معا. وقال لنفسه: «فلأصبر عليها قليلا، إما ينصلح حالها أو فلتذهب في ألف داهية!»
وجلس إلى أبيه في مخدع الرجل ليعرض عليه حساب الشهر الختامي، وتفحصه الأب دون أن يعنى بمتابعته وسأله: ما لك؟
فرفع أدهم رأسه نحوه في دهش وقال: لا شيء يا أبي.
فضيق الرجل عينيه وتمتم: خبرني عن أميمة.
فانخذلت عيناه تحت نظرة أبيه النافذة وقال: بخير، كل شيء طيب.
فقال الجبلاوي بضجر: صارحني بما عندك.
فصمت أدهم مليا، وهو يؤمن بأن أباه قادر على معرفة كل شيء، ثم قال معترفا: تغيرت كثيرا، وتبدو كالنافرة!
فتجلت في عيني الأب نظرة غريبة وقال: هل وقع بينكما خلاف؟ - أبدا.
فقال الجبلاوي في ارتياح وهو يبتسم: يا جاهل، ترفق بها، لا تقترب منها حتى تدعوك، سوف تكون أبا عما قريب.
6
جلس أدهم في إدارة الوقف يستقبل مستأجري الأحكار الجدد، واحدا بعد آخر، وقد وقفوا طابورا، أوله أمامه وآخره في نهاية المنظرة الكبيرة. ولما جاء آخر المستأجرين سأله أدهم دون أن يرفع رأسه عن دفتره في عجلة وضجر: اسمك يا معلم؟
فجاءه صوت يقول: إدريس الجبلاوي.
فرفع أدهم رأسه في فزع فرأى أخاه واقفا أمامه، ثم وقف متوثبا للدفاع عن نفسه وهو ينظر نحوه بحذر. لكن إدريس بدا في مظهر جديد لا عهد لأحد به. بدا رث الهيئة، هادئا، متواضعا، حزين الطرف، مأمون الجانب، كالثوب المنشى بعد نقعه في الماء. ومع أن هذا المنظر استل من نفس أدهم كل حنق قديم إلا أنه لم يطمئن إلى السلامة كل الاطمئنان، فقال في تحذير مشوب بالرجاء: إدريس!
فأحنى إدريس رأسه قائلا في رقة عجيبة: لا تخف، لست إلا ضيفك في هذا البيت إذا وسعني كرم أخلاقك.
أهذا الكلام اللطيف يصدر عن إدريس حقا؟! هل أدبته الآلام؟ الحق إن خشوعه محزن كفجوره. وألا تعد استضافته له تحديا للأب؟ لكنه جاء دون دعوة منه. ووجد نفسه يشير إليه بالجلوس على مقعد قريب من مقعده، فجلسا معا وهما يتبادلان النظر في غرابة حتى قال إدريس: اندسست في جموع المستأجرين؛ لأتمكن من الانفراد بك.
فتساءل أدهم في قلق: ألم يرك أحد؟ - لم يرني أحد من البيت، اطمئن إلى هذا، لم أجئ لأكدر صفوك، ولكني ألجأ إلى لطف أخلاقك.
فغض أدهم عينيه متأثرا وقد تصاعد الدم إلى وجهه، فقال إدريس: لعلك تعجب لما غيرني، لعلك تتساءل أين ذهب تكبره وصلفه؟ فاعلم أنني قاسيت آلاما لا يقدر عليها أحد، وعلى رغم هذا كله فإنني لا أقف موقفي هذا من أحد سواك؛ إذ إن مثلي لا ينسى كبرياءه إلا حيال الخلق اللطيف.
فغمغم أدهم قائلا: خفف الله عنك وعنا، فكم نغص مصيرك حياتي وكدرها! - كان ينبغي أن أعرف هذا من أول الأمر، ولكن الغضب جنني، وفتكت الخمر بكرامتي، ثم أجهزت حياة التشرد والبلطجة على الرمق الأخير من إنسانيتي، أعهدت مثل ذاك السلوك في أخيك الأول؟! - أبدا، كنت خير أخ وأنبل إنسان!
فقال إدريس بصوت المتوجع: حسرة على تلك الأيام، لست اليوم إلا شقيا أخبط في الخلاء جارا ورائي امرأة حبلى، أشيع في كل مكان باللعنات، وأشتري رزقي بالمنكر والعدوان. - إنك تمزق قلبي يا أخي. - معذرة يا أدهم، لكن هذه هي طويتك التي خبرتها منذ قديم، ألم أحملك صغيرا على يدي؟ ألم أشهد صباك ويفاعتك وألمس فيهما نبلك وسجاياك الحميدة؟ لعن الله الغضب حيثما احترق. - لعنة أبدية يا أخي.
وتنهد إدريس وهو يقول وكأنما يخاطب نفسه: شد ما أسأت إليك، إن ما حاق بي من شر وما سيحيق لهو دون ما أستحق من جزاء. - خفف الله عنك، أتدري أنني لم أيئس أبدا من عودتك؟ حتى في إبان غضب أبينا جازفت بمخاطبته في شأنك.
فابتسم إدريس عن أسنان علاها الاصفرار والقذارة وقال: هذا ما حدثتني به نفسي، قلت إن يكن ثمة رجاء في مراجعة أبي فلن يتأتى عن سبيل سواك.
فلمعت عينا أدهم وهو يقول: إني ألمس الهداية في روحك الكريم، ألا ترى أنه قد آن الأوان لكي نخاطب والدنا في الأمر؟
فهز إدريس رأسه الأشعث في يأس وقال: أكبر منك بيوم يعرف أكثر منك بسنة، وأنا أكبرك بعشر سنوات لا بسنة واحدة، فاعلم أن أبانا يغفر كل شيء إلا أن يهينه أحد. لن يعفو عني أبوك بعد ما كان، ولا أمل لي في العودة إلى البيت الكبير.
لا شك فيما قاله إدريس، وهذا ما زاده حرجا وضيقا، وتمتم في كآبة: ماذا في وسعي أن أفعل من أجلك؟
فابتسم إدريس مرة أخرى قائلا: لا تفكر في مساعدات مالية، فإني واثق من أمانتك كمدير للوقف، واعلم أنك إذا مددت لي يد المعونة فسيكون من حر مالك وهو ما لا أقبله، إنك اليوم زوج وغدا أب، وأنا لم أجئك مدفوعا بفقري، ولكني جئت لأعلن لك ندمي عما فرط مني في حقك، ولأسترد مودتك، ثم إن لي رجاء.
فتطلع إليه أدهم باهتمام وتساءل: قل يا أخي ما رجاؤك؟
فأدنى إدريس رأسه من أخيه كأنما يخشى أن تسمعه الجدران وقال: أريد أن أطمئن على مستقبلي بعد أن خسرت حاضري. سأكون أبا مثلك، فما مصير ذريتي؟ - ستجدني رهن إشارتك في كل ما أستطيع ...
فربت إدريس كتف أدهم بامتنان وقال: أريد أن أعرف هل حرمني أبي حقي في الميراث؟ - كيف لي بمعرفة هذا؟! ولكن إن سألتني عن رأيي ...
فقاطعه إدريس قلقا: إني لا أسألك عن رأيك ولكن عن رأي أبيك ... - إنه كما تعلم لا يصارح أحدا بما يدور في رأسه ... - ولكنه دون شك قد سجله في حجة الوقف!
فهز أدهم رأسه دون أن ينبس، فعاد إدريس يقول: كل شيء في الحجة ... - لا علم لي بها، وأنت تعلم أن أحدا في بيتنا لا يدرى عنها شيئا، وعملي في الإدارة يسير تحت إشراف أبي الكامل.
فحدجه إدريس بنظرة حزينة وقال: الحجة في مجلد ضخم، وقد لمحته مرة في صباي وسألت أبي عما فيه - وكنت وقتذاك قرة عينه - فقال لي إنه يضم كل شيء عنا، ولم نعد إلى الحديث عنه، ولم يسمح لي بذلك حين بدا لي أن أسأل عن بعض ما جاء فيه، ولا أشك الآن في أن مصيري قد تقرر فيه.
فقال أدهم وهو يشعر بأنه ينحصر في ركن ضيق: الله أعلم. - إنه في الخلوة المتصلة بمخدع أبيك، ولا شك في أنك رأيت بابها الصغير في نهاية الجدار الأيسر. وهو باب مغلق دائما، لكن مفتاحه مودع في صندوق فضي صغير في درج الخوان القريب من الفراش، أما المجلد الضخم فعلى ترابيزة في الخلوة الضيقة.
فرفع أدهم حاجبيه الخفيفين في انزعاج وتمتم: ماذا تريد؟
فقال إدريس متنهدا: إن كان ثمة راحة بال باقية لي في هذه الدنيا فهي رهن بمعرفتي ما سجل في الحجة عني.
فقال أدهم في ارتياع: أهون علي أن أسأله عما في الشروط العشرة صراحة! - لن يجيب، وسيغضب، وربما أساء بك الظن، أو خمن الدافع الحقيقي وراء سؤالك فثار سخطه، وكم أكره أن تخسر ثقة أبيك جزاء إحسانك إلي! وهو لا شك لا يريد أن يذيع شروطه العشرة، ولو أراد ذلك لعرفناها جميعا، فلا سبيل مأمونا إلى الحجة إلا السبيل الذي وصفته لك، وهو ميسور جدا عند الفجر حين يتجول أبوك في الحديقة ...
فامتقع وجه أدهم وهو يقول: ما أفظع ما تدعوني إليه يا أخي!
فدارى إدريس خيبته بابتسامة شاحبة وقال: ليس جريمة أن يطلع ابن على ما يخصه في حجة أبيه. - لكنك تطلب إلي سرقة سر يحرص أبونا على صونه!
فتنهد إدريس بصوت مسموع وقال: قلت لنفسي عندما قررت اللجوء إليك: «ما أصعب أن أقنع أدهم بعمل يعتبره مخالفا لإرادة الأب!» ولكن داعبني أمل قوي فقلت: «لعله يقدم إذا لمس مدى حاجتي إلى معونته.» وليس في الأمر جريمة، وسيمر بسلام، وستجد أنك انتشلت روحا من الجحيم دون أدنى خسارة. - ليحفظنا المولى من الأخطاء! - آمين، لكني أتوسل إليك أن تنقذني من العذاب.
نهض أدهم في جزع واضطراب، فنهض إدريس في أثره، وابتسم ابتسامة دلت على تسليمه باليأس، وقال: أزعجتك حقا يا أدهم؛ من أمارات تعاستي أنني لا ألقى شخصا حتى تدركه المتاعب على وجه أو آخر. بات إدريس لعنة سافرة ... - كم يعذبني عجزي عن مساعدتك، إنه عذاب ما بعده عذاب!
فدنا منه حتى وضع يده على منكبه في رقة، ثم لثم جبينه في عطف، وقال: لا يسأل عن تعاستي إلا نفسي، لماذا أحملك فوق ما تطيق؟ دعني أتركك بسلام وليفعل الله ما يشاء!
قال إدريس ذلك ثم ذهب.
7
دبت الحيوية في وجه أميمة لأول مرة منذ عهد غير قصير، فسألت أدهم باهتمام: ألم يحدثك أبوك عن الحجة من قبل؟
كان أدهم متربعا على الكنبة، ينظر من النافذة إلى الخلاء الغارق في الظلمة. فأجابها: لم يحدث أحدا عنها قط. - لكن أنت ... - لست إلا أحد أبنائه الكثيرين!
فابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت: لكنه اختارك أنت لتدير الوقف!
فالتفت نحوها قائلا بحدة: قلت إنه لم يحدث أحدا عنها قط!
فابتسمت مرة أخرى كأنما لتلطف حدته، ثم قالت بمكر: لا تشغل بالك، إدريس لا يستحق ذلك، إن إساءاته لك لا تنسى أبدا!
فحول أدهم رأسه نحو النافذة، وقال بحزن: إدريس الذي جاءني اليوم غير إدريس الذي أساء إلي، إن منظره النادم الحزين لا يبرح مخيلتي!
فقالت بارتياح ظافر: هذا ما أدركته من حديثك، وهو سر اهتمامي بالأمر، ولكنك تبدو ضيق الصدر بخلاف عادتك.
كان ينظر إلى ظلام الليل الكثيف، لكن رأسه المشغول لم يستجب له، فقال: لا فائدة ترجى من الاهتمام! - لكن أخاك النادم يسألك الرحمة! - العين بصيرة واليد قصيرة. - يجب أن تحسن علاقتك به، وبإخوته، وإلا وجدت نفسك يوما وحيدا أمامهم. - إنك تهتمين بنفسك لا بإدريس.
فهزت رأسها كأنما تزيح عنه نقاب المكر وقالت: من حقي أن أهتم بنفسي، ومعنى هذا أن أهتم بك وبما في بطني.
ماذا تريد المرأة؟ وهذا الظلام ما أشد كثافته! حتى المقطم العظيم قد ابتلعه. وأراح نفسه بالصمت. وإذا بها تسأله: ألا تذكر أنك دخلت الخلوة أبدا؟
فأجاب خارجا من صمته القصير: أبدا، أحببت في صباي أن أدخلها فمنعني أبي، ولم تكن أمي تسمح لي بالاقتراب منها. - لا شك في أنك كنت تتمنى دخولها!
ما حادثها في الأمر إلا وهو ينتظر أن تدفعه عنه لا أن تجذبه إليه. كان بحاجة إلى من يؤكد له صواب موقفه من أخيه. كان بحاجة ماسة إلى ذلك ولكنه كمن كان ينادي في الظلام خفيرا فيخرج إليه قطاع الطريق. وعادت أميمة تسأله: والخوان الذي به الصندوق الفضي هل تعرفه؟ - كل من دخل الحجرة يعرفه، لماذا تسألين عنه؟
تزحزحت من مجلسها على الكنبة مقتربة منه وسألته بإغراء: بربك ألا تود أن تطلع على الحجة؟
فأجاب بحدة: كلا، لماذا أود ذلك؟ - من ذا يقاوم الرغبة في الاطلاع على المستقبل؟ - تعنين مستقبلك أنت؟! - مستقبلي ومستقبلك، ومستقبل إدريس الذي حزنت عليه على رغم ما سبق منه ضدك!
المرأة تعرب عما في نفسه. وهذا ما يثير حنقه. ومد رأسه نحو النافذة كأنما يهرب منها وهو يقول: لا أود ما لا يود أبي!
فرفعت حاجبيها المزججين متسائلة: لماذا يخفي هذا الأمر؟ - ذلك شأنه، ما أكثر أسئلتك الليلة!
فقالت وكأنما تخاطب نفسها: المستقبل! نعرف مستقبلنا ونقدم إحسانا كبيرا إلى إدريس التعيس، لن يكلفنا هذا كله إلا قراءة ورقة دون أن يدري أحد، وأتحدى أي صديق أو عدو أن يثبت علينا سوء نية في عملنا هذا أو أنه يمس من قريب أو من بعيد والدك المحبوب!
وكان أدهم يراقب نجما فاق الأنجم بضيائه اللامع فقال متجاهلا قولها: ما أجمل السماء! لولا رطوبة الليل لجلست في الحديقة أراقبها من خلال الغصون. - لا شك في أنه ميز البعض في شروطه.
فهتف أدهم: ما أزهدني في امتياز لا يجر وراءه إلا المتاعب!
فقالت متنهدة: لو كنت أعرف القراءة لذهبت بنفسي إلى الصندوق الفضي.
تمنى لو كان ذلك كذلك. وتضاعف حنقه عليها وعلى نفسه، بل شعر بأنه قد وقع في المحظور فعلا وأنه يفكر فيه كحدث مضى. وتحول نحوها مقطبا فبدا وجهه على ضوء المصباح المرتعش بالنسيم المتسلل من النافذة مهتما ضعيفا، على رغم تجهمه، وقال: لعنت حين أفضيت إليك بالخبر! - لا أريد بك شرا، ومحبتي لوالدك مثل محبتك له ... - دعيك من هذا الحديث المتعب، في هذه الساعة تستحب الراحة. - يبدو أن قلبي لن يرتاح قبل الإقدام على هذا العمل السهل.
فنفخ قائلا: اللهم أرجع إليها عقلها!
فرمقته بنظرة المتحفز ثم سألته: ألم تخالف أباك باستقبالك إدريس في المنظرة؟!
فاتسعت عيناه دهشة وقال: وجدته أمامي فلم يسعني إلا استقباله! - هل أخبرت والدك بنبأ زيارته؟ - ما أثقلك الليلة يا أميمة!
فقالت بصوت الظافر: إذا جاز لك أن تخالفه فيما قد يضرك فكيف لا تخالفه فيما يفيدك ويفيد أخاك ولا يضر أحدا؟!
بوسعه أن يقطع الحديث لو شاء، ولكن المنحدر كان شديد الانحدار. والحق أنه لم يتركها تسترسل في حديثها إلا لأن جزءا من نفسه كان بحاجة إلى تأييدها. وتساءل فيما يشبه الغضب: ماذا تعنين؟ - أعني أن تسهر حتى الفجر، أو حتى يخلو المكان لنا ...
فقال بامتعاض: ظننت الحمل قد أفقدك عاطفتك وحدها، ولكن ها هو ذا يفقدك عقلك أيضا! - أنت مقتنع بما أقول وحق من خلق الروح في بطني، ولكنك خائف، والخوف لا يليق بك!
فاكفهر وجهه اكفهرارا منقطع الأسباب بالتراخي الساري في داخله وقال: سنذكر بهذه الليلة أول زعل فرق بيننا.
فقالت برقة عجيبة: أدهم، دعنا نفكر جادين في الأمر. - لن نجني خيرا! - هذا قولك ولكنك سترى.
شعر بوهج النار وهو يقترب منها. قال لنفسه: «إذا احترقت فلن تجدي دموعي في إخمادها.» وحول رأسه إلى النافذة فخيل إليه أن سكان ذلك النجم اللامع سعداء لبعدهم عن هذا البيت. وتمتم بصوت ضعيف: لم يحب أحد أباه كما أحبه. - ما أبعدك عما يسيئه! - أميمة، ما أحوجك إلى النوم! - أنت الذي طيرت النوم عن عيني. - أملت أن أسمع عندك صوت العقل. - ما أسمعتك غيره.
وساءل نفسه بصوت منخفض كالهمس: ترى هل أندفع نحو الخراب؟!
فربتت يده الملقاة على مسند الكنبة وقالت بعتاب: مصيرنا واحد يا ناكر الحب!
فقال في استسلام دل على أنه اتخذ قراره: ولا هذا النجم يدري ما مصيري!
فقالت بانطلاق: ستقرأ مصيرك في الحجة!
ومد بصره نحو النجوم الساهرة، وقطع السحاب المستضيئة بنورها الهادئ، وخيل إليه أنها مطلعة على نجواه فغمغم: «يا لطف السماء!» ثم سمع أميمة وهي تقول في نبرات مداعبة: أنت علمتني حب الحديقة، دعني أرد إليك الجميل!
8
وعند الفجر غادر الأب حجرته قاصدا الحديقة. كان أدهم بأقصى الردهة يترقب، وأميمة خلفه ممسكة بكتفه في الظلام. تابعا وقع الأقدام الثقيل المتزن ولكنهما لم يتبينا اتجاهها في الظلام، وكان من عادة الجبلاوي أن يسير في هذه الساعة دون حاجة إلى ضوء أو رفيق. وسكت الصوت فالتفت أدهم نحو زوجه هامسا: ألا يحسن بنا أن نعود؟
فدفعته وهي تهمس في أذنه: علي اللعنة إن كنت أضمر سوءا لإنسان.
فتقدم بخطوات حذرة، في اضطراب أليم، ويده قابضة على شمعة صغيرة في جيبه، وجعل يتحسس الجدار حتى مست يده مصراع الباب. وهمست أميمة: سأبقى هنا لأرقب المكان، اذهب مصحوبا بالعناية.
ومدت يدها فدفعت الباب حتى انفتح ثم تراجعت. ومضى أدهم نحو الحجرة بخطواته الحذرة فتلقى من داخلها رائحة مسكية شديدة النفاذ. ورد الباب وراءه ووقف يحملق في الظلام حتى تبين له خصاص النوافذ المطلة على الخلاء وهي تنضح بنور الفجر. شعر أدهم بأن الجريمة - إن كان ثمة جريمة - قد وقعت بدخوله الحجرة وأن عليه أن يتم عمله. سار مع الجدار الأيسر، مرتطما أحيانا بالمقاعد، مارا في طريقه بباب الخلوة، حتى بلغ نهايته، ثم مال مع الجدار الأوسط، وما لبث أن عثر على الخوان. جذب الدرج، وتحسس ما بداخله حتى وجد الصندوق، ثم شعر بحاجته إلى الراحة ليأخذ نفسه. ورجع إلى باب الخلوة، ففتش عن ثقبه، ثم وضع فيه المفتاح وأداره، وفتح الباب، وإذا به يتسلل إلى الخلوة التي لم يدخلها أحد قبله إلا الأب.
رد الباب، وأخرج الشمعة، ثم أشعلها، فرأى مربعا ذا سقف عال لا منفذ فيه إلا الباب، مفروش الأرض بسجادة صغيرة، وعند ضلعه الأيمن ترابيزة أنيقة عليها المجلد الكبير الذي ثبت في الجدار بعلاقة من صلب. ازدرد أدهم ريقه الجاف بشيء من الألم كأن وعكة أصابت اللوزتين، وعض على أسنانه، كأنما ليعصر الخوف الساري في أوصاله والمرعش للشمعة في يده. واقترب من الترابيزة وهو يحملق في غلاف المجلد المزخرف بخطوط مموهة بالذهب، ثم مد يده ففتحه. وجد مشقة في تركيز ذهنه ونفض الاضطراب عنه. وبدأ يقرأ بالخط الفارسي «باسم الله ...»
لكنه سمع الباب وهو يفتح بغتة. انجذب رأسه نحو الصوت بقوة ومن دون وعي كأن الباب شده إليه وهو ينفتح. رأى الجبلاوي على ضوء شمعته يسد الباب بجسمه الكبير ملقيا عليه نظرة باردة قاسية. حملق أدهم في عيني أبيه في صمت وجمود، وتخلت عنه قوى الكلام والحركة والتفكير. وأمره الجبلاوي قائلا: اخرج!
لكن أدهم لم يستطع حراكا. بقي في موقفه كالجماد إلا أن الجماد لا يشعر بالقنوط. وهتف الأب: اخرج!
أيقظه الرعب من تجمده فتحرك، وتخلى الأب عن الباب، فغادر أدهم الخلوة والشمعة لا تزال تحترق في يده. ورأى أميمة واقفة وسط الحجرة صامتة، والدمع ينحدر تباعا من مقلتيها. وأشار له الأب أن يقف إلى جانب زوجته ففعل، ثم خاطبه بصرامة قائلا: عليك أن تجيب عن أسئلتي بالصدق.
فنطقت أساريره بالامتثال. وسأله الرجل: من الذي أخبرك بالكتاب؟
فقال أدهم دون تردد كوعاء تحطم فسال ما فيه: إدريس. - متى؟ - صباح الأمس. - كيف تم اللقاء بينكما؟ - اندس بين المستأجرين الجدد وانتظر حتى انفرد بي. - لماذا لم تطرده؟ - عز علي طرده يا أبي.
فقال الجبلاوي بحدة: لا تخاطبني بالأبوة.
فاستجمع أدهم قواه قائلا: إنك أبي على رغم غضبك وعلى رغم حماقتي. - أهو الذي أغراك بفعلتك؟
وأجابت أميمة دون أن يوجه إليها السؤال: نعم يا سيدي.
فهتف الجبلاوي: اخرسي يا حشرة! (ثم موجها الخطاب إلى أدهم): أجب! - كان يائسا حزينا نادما وود لو يطمئن على مستقبل ذريته. - وفعلت هذا من أجله! - كلا ... اعتذرت له عن عجزي. - وماذا غيرك؟
فتنهد أدهم يائسا وتمتم: الشيطان!
فسأله ساخرا: هل أخبرت زوجتك بما جرى بينك وبينه؟
هنا انتحبت أميمة فنهرها الجبلاوي أن تخرس، وحث أدهم على الإجابة بإشارة من أصبعه، فقال: نعم. - وماذا قالت لك؟
لاذ أدهم بالصمت كي يزدرد ريقه فصاح به: أجب يا وضيع! - وجدت بها رغبة في الاطلاع على الوصية، وظنت أن ذلك لن يضر أحدا.
فحدجه باحتقار شديد وقال: وهكذا انصعت إلى خيانة من فضلك على من هم خير منك.
فقال أدهم بصوت كالأنين: لن يسعفني دفاع عن ذنبي، لكن مغفرتك أكبر من الذنب والدفاع. - تتآمر علي مع إدريس الذي طردته إكراما لك؟ - لم أتآمر مع إدريس، لقد أخطأت، ولا نجاة لي إلا بمغفرتك.
وهتفت أميمة بتوسل: سيدي ...
فقاطعها قائلا: اخرسي يا حشرة.
وجعل يردد عينيه بينهما عابسا، ثم قال بصوت رهيب: اخرجا من البيت.
وهتف أدهم: أبي ...
فقال الرجل بصوت غليظ: غادرا البيت قبل أن تلقيا خارجا.
9
فتح باب البيت الكبير ليشهد هذه المرة خروج أدهم وأميمة مطرودين. خرج أدهم يحمل بقجة ملابس، وتبعته أميمة حاملة بقجة ثانية وأطعمة خفيفة. خرجا ذليلين حزينين باكيين بلا أمل. وعندما سمعا صوت الباب وهو يغلق خلفهما ارتفع صوتاهما بالنحيب. وقالت أميمة وهي تنشج: الموت دون ما أستحق من جزاء!
فقال أدهم بصوت متهدج: لأول مرة تصدقين، ولكن الموت دون ما أستحق كذلك!
وما كادا يبتعدان قليلا عن البيت حتى دوت ضحكة ساخرة مخمورة، فنظرا نحو مصدرها، فرأيا إدريس أمام كوخه الذي بناه من الصفائح والأخشاب وقد جلست امرأته نرجس وهي تغزل صامتة. كان إدريس يضحك في سخرية وشماتة حتى ذهل أدهم وأميمة فوقفا يحملقان فيه. وراح إدريس يرقص ويفرقع بأصابعه حتى ضجرت نرجس فآوت إلى الكوخ. تابعه أدهم بعينين محمرتين من البكاء والغضب. أدرك في لحظة المكر الذي مكره فتكشف له عن حقيقته الخبيثة المجرمة. وأدرك أيضا مدى حمقه وغبائه الذي يرقص له المجرم شماتة وفرحا. هذا هو إدريس الذي استحال شرا مجسدا. وغلى دمه حتى فار فأغرق مخه. وقبض على حفنة من تراب ورماه بها وهو يصيح بصوت مختنق بالغضب: يا قذر، يا لعين، إن العقرب بالقياس إليك حشرة مستأنسة!
فأجاب إدريس بمزيد من حركاته الراقصة؛ هز رقبته يمنة ويسرة، ولعب حاجبيه وما زال يفرقع بأصابعه. وتضاعف غضب أدهم فصاح: الفساد والدناءة والوضاعة هذه هي صفات المخادعين الكاذبين.
فراح إدريس يهز وسطه بمثل الرشاقة التي هز بها رقبته ويرسم بفيه ضحكة صامتة قبيحة، فصاح أدهم دون التفات إلى أميمة التي حاولت أن تدفعه إلى المسير: حتى الدعارة تجربها يا أقذر من خلق!
فمضى إدريس يهز عجيزته وهو يدور حول نفسه في بطء ودلال، فأعمى الغضب أدهم فرمى بالبقجة أرضا ودفع أميمة التي همت بالتعلق به وجرى نحوه حتى قبض على عنقه وشد عليه بكل قوته. لم يبد على إدريس أنه تأثر بالمنقض ولا بقبضته، وواصل الرقص وهو يتأنق في تأوده؛ وجن جنون أدهم فانهال على إدريس ضربا ولكن إدريس ازداد عبثا وراح يغني بصوت كريه:
حطة يا بطة،
يا دقن القطة.
وتوقف بغتة وهو يزمجر، ثم دفع أدهم في صدره دفعة قوية تقهقر على أثرها يترنح ثم اختل توازنه فسقط على ظهره. وهرعت إليه أميمة صارخة فساعدته على النهوض وأخذت تنفض الغبار عن ثوبه وتقول: ما لك أنت وهذا الوحش؟! فلنبتعد عنه!
وتناول البقجة صامتا، وحملت زوجه بقجتها وابتعدا حتى طرف البيت الآخر، وكان الإعياء قد نال منه فرمى بالبقجة وجلس عليها وهو يقول: «لنسترح قليلا.» فجلست المرأة قبالته وقد رجعت تبكي. وإذا بصوت إدريس يترامى إليهما قويا كالرعد وصاحبه يقف ناظرا إلى البيت الكبير نظرة التحدي ويصيح: طردتني إكراما لأحقر من أنجبت، أرأيت كيف كان سلوكه نحوك؟! ها أنت ذا ترميه بنفسك إلى التراب. عقاب بعقاب والبادي أظلم، كي تعلم أن إدريس لا يقهر، فلتبق وحدك مع أبنائك العقماء الجبناء. لن يكون لك حفيد إلا من يسعى في التراب ويتقلب في القاذورات. غدا يسرحون بالبطاطة واللب، غدا يتعرضون لصفعات الفتوات في العطوف وكفر الزغاري، غدا يمتزج دمك بأحقر الدماء، وتقبع أنت وحيدا في حجرتك تبدل وتغير في كتابك كيف شاء لك الغضب والفشل، وتعاني وحدة الشيخوخة في الظلام، حتى إذا جاء الأجل فلن تجد عينا تبكيك.
ثم التفت صوب أدهم وواصل صياحه الجنوني: وأنت أيها الضعيف كيف تلقى الحياة وحدك؟! لا قوة فيك تؤيدك ولا قوي لديك تعتمد عليه، وماذا تفيدك مبادئ القراءة والحساب في هذا الخلاء؟! ها .. ها .. ها!
ولم تزل أميمة تبكي حتى ضاق بها أدهم فقال في فتور: كفي عن البكاء.
فقالت وهي تجفف عينيها: سأبكي كثيرا، أنا الآثمة يا أدهم! - لست دونك إثما، لو لم تلقي مني ضعيفا نذلا ما وقع الذي وقع. - الذنب ذنبي وحدي.
فهتف بغيظ: إنك تحملين على نفسك لتتقي حملتي عليك!
فباخت حميتها في اتهام نفسها وأحنت رأسها مليا، ثم عادت تقول بصوت ضعيف: لم أكن أتصور أن تبلغ قسوته هذا الحد! - إني أعرفه، ولا عذر لي.
فترددت قليلا ثم قالت: كيف أعيش هنا وأنا حبلى؟! - في هذا الخلاء نعيش بعد البيت الكبير، ليت للدموع جدوى، ولكن ليس أمامنا إلا أن نقيم كوخا لنا. - أين؟
فنظر فيما حوله، ووقف نظره قليلا صوب كوخ إدريس، ثم قال بقلق: لا يجوز أن نبتعد كثيرا عن البيت الكبير ولو اضطررنا إلى البقاء غير بعيد من كوخ إدريس، وإلا هلكنا وحدنا في أطراف هذا الخلاء.
ففكرت أميمة قليلا، ثم قالت بوجه مال إلى الاقتناع برأيه: نعم، ولكي نبقى على مرمى بصره لعله يرق لحالنا.
فتأوه أدهم قائلا: الحسرة تقتلني، ولولاك لتوهمت ما بي كابوسا، هل يجفوني قلبه إلى الأبد؟ لن أتطاول عليه كإدريس، هيهات، لست كإدريس في شيء، فهل ألقى المعاملة نفسها؟
فقالت أميمة في حنق: لم تعرف هذه الأحياء أبا مثل أبيك.
فتساءل بعينين حادتين: متى يتوب لسانك؟!
فانفعلت قائلة: والله ما ارتكبت جريمة ولا إثما، خبر من تشاء بما فعلت وبما نلت جزاء ما فعلت، وأراهنك على أنه سيضرب كفا بكف، والله ما عرفت الأبوة أبا كأبيك. - ولا عرفت الدنيا رجلا مثله، هذا الجبل وهذه الصحراء وهذه السماء تعرفه، ومثله يجن عند التحدي. - بهذا الجبروت لن يبقى في البيت أحد من أبنائه. - نحن أول الخارجين فنحن شر من فيه.
فقالت بامتعاض: لست كذلك، لسنا كذلك. - الحكم الصحيح لن يكون إلا عند الامتحان.
لاذ كلاهما بالصمت. لم يكن بالخلاء حي يرى، إلا بعض العابرين عن بعد عند سفح الجبل. وكانت الشمس ترسل أشعة حامية من سماء صافية فتغمر الرمال المترامية حيث يلمع الحصى أو قطع الزجاج المتناثرة. ولم يكن من قائم إلا الجبل في الأفق، وصخرة كبيرة في الشرق كأنها رأس جسم مطمور في الرمال، وكوخ إدريس عند الطرف الشرقي للبيت الكبير ينغرس في الأرض متحديا بهيئته الزرية. كان الجو كله ينذر بالشقاء والتعب والخوف. وتنهدت أميمة بصوت مسموع وقالت: سنتعب كثيرا حتى تتيسر لنا الحياة.
فرنا أدهم إلى البيت الكبير وقال: وسنتعب أكثر حتى ينفتح لنا هذا الباب مرة أخرى.
10
شرع أدهم وأميمة في إقامة كوخ لهما عند الطرف الغربي للبيت الكبير. كانا يجيئان بالأحجار من المقطم، ويجمعان الصفائح من سفح الجبل، ويلتقطان الأخشاب من مشارف العطوف والجمالية وباب النصر. وتبين لهما أن بناء الكوخ سيستغرق وقتا أطول مما قدرا، وصادف ذلك نفاد الزاد الذي حملته أميمة من البيت من جبن وبيض وعسل أسود، فقرر أدهم أن يبدأ بالسعي في سبيل رزقه. ورأى أن يبيع بعض ثيابه الثمينة؛ ليشتري بثمنها عربة يد لبيع البطاطة والملانة والخيار وغيرها على حسب المواسم. وعندما أخذ في جمع ثيابه أجهشت أميمة في البكاء من شدة التأثر، ولكنه لم يستجب لعواطفها، فقال وهو بين السخط والسخرية: لم تعد هذه الثياب تناسبني، أليس من المضحك أن أسرح ببطاطة وأنا متلفع بعباءة مزركشة من وبر الجمل؟!
ثم شهده الخلاء وهو يدفع عربته نحو الجمالية؛ الجمالية التي لم تنس بعد زفته، وانقبض قلبه وانحبس صوته فكف عن النداء، وكادت تغرورق عيناه. واتجه نحو الأحياء البعيدة متهربا. وكان يواظب على المشي والنداء من الصباح إلى المساء حتى كلت يداه وانجرد نعلاه وسرت الأوجاع في قدميه ومفاصله. وكم كان يشق عليه مساومات النسوان، أو أن يضطره الإعياء إلى افتراش الأرض لصق جدار، أو أن يقف في ركن ليفك حصره. بدت الحياة غير حقيقية، وأيام الحديقة وإدارة الوقف والمخدع المطل على المقطم كالأساطير. وجعل يقول لنفسه: «لا شيء حقيقيا في هذه الدنيا، هي البيت الكبير، هي الكوخ الذي لم يتم، هي الحديقة، هي عربة اليد، هي الأمس واليوم والغد، لعلي أحسنت صنعا بالإقامة قبالة البيت حتى لا أفقد الماضي كما فقدت الحاضر والمستقبل، وهل من عجب أن أخسر الذاكرة كما خسرت أبي وكما خسرت نفسي؟!» فإذا عاد أول الليل إلى أميمة فليس إلى الراحة يعود، ولكن ليواصل العمل في بناء الكوخ.
ومرة جلس في حارة الوطاويط عند الظهر ليستريح فنعس. واستيقظ على حركة فرأى غلمانا يسرقون عربته فنهض مهددا. ورآه غلام فنبه أقرانه بصفير ودفع العربة ليشغله بها عن مطاردتهم فاندلق الخيار على الأرض على حين تفرق الغلمان مسرعين كالجراد. وغضب أدهم غضبا شديدا حتى قذف فوه المهذب بسيل من أقذع الشتائم، ثم انكب على الأرض يجمع الخيار الذي لوث بالطين. وتضاعف غضبه دون أن يجد له متنفسا فراح يقول بتأثر وانفعال: «لماذا كان غضبك كالنار تحرق بلا رحمة؟ لماذا كانت كبرياؤك أحب إليك من لحمك ودمك؟ وكيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نداس بالأقدام كالحشرات؟ والعفو واللين والتسامح ما شأنها في بيتك الكبير أيها الجبار؟!» وقبض على يدي العربة وهم يدفعها بعيدا عن الحارة اللعينة، وإذا بصوت يقول متهكما: بكم الخيار يا عم؟
رأى إدريس واقفا يبتسم ابتسامة ساخرة، رافلا في جلباب مقلم بألوان زاهية، وعلى رأسه لاسة بيضاء. رآه باسما ساخرا لا ثائرا ولا هائجا؛ فضاقت لمنظره الدنيا في عينيه على رغم ذلك. ودفع العربة ليذهب، ولكن إدريس اعترض سبيله وهو يقول في دهشة: ألا يستحق زبون مثلي حسن المعاملة؟
فارتفع رأس أدهم في عصبية وهو يقول: دعني وشأني.
فأمعن إدريس في السخرية متسائلا: ألم تجد خيرا من هذه اللهجة تخاطب بها أخاك الأكبر؟
فقال أدهم بلهجة المتصبر: يا إدريس أما كفاك ما فعلت بي؟ لا أريد أن تعرفني أو أن أعرفك! - كيف يتأتى هذا ونحن في حكم الجيران؟! - ما أردت جوارك ولكني قصدت أن أبقى قريبا من البيت الذي ...
فقاطعه هازئا: الذي طردت منه!
فسكت أدهم وقد تجلى الضيق في شحوب وجهه، فاستطرد الآخر قائلا: النفس تتعلق بالمكان الذي تطرد منه، أليس كذلك؟
فلم يخرج أدهم عن صمته، فقال الآخر: إنك تطمع في العودة إلى البيت يا ماكر، إنك ضعيف حقا ولكنك مليء بالمكر. ألا فاعلم بأني لن أسمح لك بالعودة وحدك ولو انطبقت السماء على الأرض.
فتساءل أدهم ومنخراه يتحركان من الحنق: ألم يكفك ما فعلت بي؟ - ألم يكفك أنت ما فعلت بي؟ من أجلك طردت وكنت كوكب البيت المنير. - بل طردت بسبب نفسك المتعجرفة.
فقهقه إدريس قائلا: وطردت أنت بسبب نفسك الضعيفة، فلا مكان في البيت الكبير للقوة ولا للضعف! فانظر إلى استبداد أبيك. إنه لا يسمح باجتماع القوة والضعف في نفس إلا نفسه هو، إنه القوي لحد الفتك بفلذات كبده، الضعيف لحد التزوج من أم كأمك.
فقطب أدهم غاضبا وقال بتهدج: دعني أذهب، وتحرش إذا شئت بقوي مثلك. - أبوك يتحرش بالأقوياء والضعفاء.
فصمت أدهم وازداد وجهه عبوسا، فقال إدريس هازئا: لا تريد أن تتورط في تجريحه! هذا مكر من مكرك، ودليل على أنك ما زلت تحلم بالعودة. - ثم تناول خيارة وأخذ ينظر إليها باشمئزاز ثم قال: كيف سولت لك نفسك أن تسرح بهذا الخيار الملوث؟! ألم تجد عملا أشرف من هذا؟ - إني راض عنه! - بل اضطرتك الحاجة إليه، على حين ينعم أبوك بالعيش الرغيد. فكر قليلا في الأمر، أليس من الأكرم لك أن تنضم إلي؟!
فقال أدهم في ضجر: لم أخلق لحياتك! - انظر إلى جلبابي! كان صاحبه يرفل فيه أمس دون وجه حق!
فلاح التساؤل في عيني أدهم وقال: وكيف حصلت عليه؟ - كما يفعل الأقوياء!
أسرق أم قتل؟! وقال بحزن: لا أصدق أنك أخي إدريس!
فقال وهو يقهقه: لا تعجب ما دمت تعلم أنني ابن الجبلاوي!
فهتف أدهم في نفاد صبر: هلا أوسعت لي الطريق؟ - كما تشاء لك حماقتك!
وملأ جيبه بالخيار، وألقى عليه نظرة ازدراء، ثم بصق على العربة ومضى.
ووقفت أميمة تستقبله وهو يقترب من الكوخ. كانت الظلمة تغشى الخلاء. وفي داخل الكوخ شمعة تحترق كأنها رمق في صدر محتضر. أما في السماء فالنجوم تزهر، وعلى ضوئها يبدو البيت الكبير كشبح عملاق. أدركت أميمة من صمته أنه على حال يستحسن معها تجنبه. قدمت إليه كوز ماء؛ ليغسل أطرافه وجاءته بجلباب نظيف. وغسل وجهه وقدميه وبدل جلبابه ثم جلس على الأرض ومد ساقيه. واقتربت منه في حذر فجلست وهي تقول بلهجة الاسترضاء: ليتني أتحمل عنك بعض تعبك.
وكأنها حكت أجرب فصاح: اخرسي يا أصل الشر والتعاسة!
فتزحزحت بعيدا عنه حتى كادت تختفي، ولكنه صاح: إنك خير من يذكرني بغفلتي وحماقتي، ملعون اليوم الذي رأيتك فيه.
فجاءه في الظلام انتحابها ولكنه ضاعف من غضبه فقال: سحقا لدموعك! إن هي إلا عرق الخبث الذي يمتلئ به جسدك.
فجاءه صوتها الباكي قائلا: كل قول يهون بالقياس إلى عذابي. - لا تسمعيني صوتك، وابعدي عن وجهي.
وكور ثوبه المخلوع ورماها به، فتأوهت قائلة: «بطني!» وسرعان ما برد غضبه، وأشفق من العواقب. وآنست هي من صمته تراجعا فقالت بصوت المتوجع: سأذهب بعيدا كما تريد.
وقامت فمضت تبتعد حتى صاح بها: هل ترين الوقت مناسبا للدلال؟
ثم تحفز للقيام وهو يصيح: ارجعي لا رجعت إليك الراحة.
وأحد بصره في الظلام حتى رأى شبحها يعود فأسند ظهره إلى جدار الكوخ ورفع رأسه نحو السماء. وود لو يطمئن على بطنها ولكن أبت كبرياؤه. أجل ذلك إلى أجل قريب. ثم مهد له بقوله: اغسلي بعض الخيار للعشاء.
11
مجلس لا يخلو من الراحة. لا نبت فيه ولا ماء، ولا عصافير تزقزق فوق الغصون، لكن أرض الخلاء الجرداء المشاكسة تكتسي في الليل حلة غامضة يخالها الحالم ما يشاء. وفوقه قبة السماء المرصعة بالنجوم والمرأة داخل الكوخ، والوحدة ناطقة، والحزن كالجمر المدفون تحت الرماد. وسور البيت العالي يعاند المشتاق، وهذا الأب الجبار كيف السبيل إلى إسماعه أنيني. ومن الحكمة نسيان الماضي، لكن ليس لنا من زمن غيره، لذلك كرهت ضعفي ولعنت نذالتي ورضيت الشقاء رفيقا وسألد له أبناء. والعصفورة التي لا تصدها قوة عن الحديقة أسعد من أحلامي، وعيناي احترقتا شوقا إلى المياه الجارية بين شجيرات الورد، وأين عبير الحناء والياسمين؟ أين؟ أين خلو البال والناي؟ أين أيها القاسي؟ مضى نصف عام فمتى يذوب ثلج قسوتك؟!
وعن بعد ترامى صوت إدريس مغنيا بصوت كريه: «عجايب والله عجايب». وإذا به يوقد نارا أمام كوخه فاشتعلت كأنها شهاب هوى فانغرس في الأرض، وكانت زوجه تذهب وتجيء ببطنها المتدلي؛ لتقدم طعاما أو شرابا. ولطمته موجة سكر فصاح في السكون موجها الخطاب إلى البيت الكبير: «هذا أوان الملوخية والفراخ المحمرة، اطفحوها سما يا أهل البيت!» ثم عاد إلى الغناء.
وقال أدهم لنفسه متأسفا: «كلما خلوت إلى نفسي في الظلام جاء الشيطان فأشعل ناره وعربد فأفسد علي خلوتي!» وظهرت أميمة عند باب الكوخ فعلم أنها لم تنم على خلاف ظنه. وكانت من الحمل في إعياء، ومن الجهد والفقر على حال لا تسر. وقالت برقة وإشفاق: ألا تنام؟!
فقال في ضجر: دعيني للساعة الوحيدة التي تطيب فيها الحياة! - ستسعى بعربتك مع الصباح الباكر، فما أحوجك إلى الراحة! - في وحدتي أرتد سيدا أو شبه سيد، أتأمل السماء وأتذكر الأيام الخالية.
فتنهدت بصوت مسموع وقالت: أود لو رأيت أباك ذاهبا من البيت أو راجعا إليه أن أرمي بنفسي تحت أقدامه وأن أستغفره.
فقال أدهم في جزع: قلت لك مرارا أن تقلعي عن هذه الأفكار، فليس بهذه الوسيلة يمكن أن نسترد عطفه.
فصمتت مليا، ثم قالت همسا: إني أفكر في مصير الشيء الذي في بطني. - ولا شغل لي إلا هذا على رغم أني لم أعد إلا حيوانا قذرا.
فتمتمت بحزن: والله إنك خير الرجال جميعا.
فضحك أدهم ساخرا وقال: لم أعد إنسانا، فالحيوان وحده هو الذي لا يهمه إلا الغذاء. - لا تحزن، كم من رجل بدأ مثلك، ثم تيسر له العيش الرغيد، فملك الدكاكين والبيوت! - أراهن على أن أوجاع الحبل قد بلغت رأسك!
فقالت بإصرار: ستكون رجلا ذا شأن، وسينشأ وليدنا في أحضان النعيم.
فضرب أدهم كفا بكف وتساءل ساخرا: أأبلغ ذلك بالبوظة أم بالحشيش؟ - بالعمل يا أدهم.
فقال في سخط: العمل من أجل القوت لعنة اللعنات، كنت في الحديقة أعيش، لا عمل لي إلا أن أنظر إلى السماء أو أنفخ في الناي، أما اليوم فلست إلا حيوانا، أدفع العربة أمامي ليل نهار في سبيل شيء حقير نأكله مساء ليلفظه جسمي صباحا، العمل من أجل القوت لعنة اللعنات، الحياة الحقة في البيت الكبير، حيث لا عمل للقوت، وحيث المرح والجمال والغناء.
وإذا بصوت إدريس يقول: نطقت بالحق يا أدهم، العمل لعنة، وهو ذل لم نعتده، ألم أعرض عليك الانضمام إلي؟!
التفت أدهم نحو الصوت فرأى شبح إدريس واقفا على قرب منه. هكذا يتسلل في الظلام دون أن يشعر به فينصت إلى الحديث ما شاء له الإنصات، ويشترك فيه إذا حلا له ذلك. ووقف أدهم منفعلا وهو يقول: عد إلى كوخك.
فقال إدريس بلهجة جدية مفتعلة: إني مثلك أقول: إن العمل لعنة لا تليق بكرامة الإنسان. - إنك تدعوني إلى البلطجة وهي أقذر من اللعنة. - إذا كان العمل لعنة والبلطجة قذارة، فكيف يعيش الإنسان؟
فلم يرتح إلى محادثته فصمت، وانتظر إدريس أن يتكلم فلم يتكلم، فقال: لعلك تريد رزقا بلا عمل؟ ولكن ذلك سيكون حتما على حساب الآخرين!
وثابر أدهم على صمته فعاد الآخر يقول: أم لعلك تريد رزقا بلا عمل دون أن يضار به أحد؟!
وضحك ضحكة كريهة وقال: هذه فزورة يا ابن الجارية!
وصاحت أميمة بغضب: عد إلى كوخك واخز الشيطان.
ونادته امرأته بحدة، فرجع من حيث أتى وهو يترنم: «عجايب والله عجايب».
وتوسلت أميمة إلى زوجها قائلة: تجنب الاشتباك معه بأي ثمن. - إني أجده فجأة فوق رأسي دون أن أدري كيف جاء.
وساد صمت اتخذا منه مسكنا لانفعالهما. وعادت أميمة تقول برقة: قلبي يحدثني بأنني سأجعل من كوخنا بيتا شبيها بالبيت الذي طردنا منه، لن تنقصه الحديقة ولا البلابل، وسيلقى وليدنا فيه كل راحة ومتعة.
فوقف أدهم وهو يبتسم ابتسامة لم ترها في الظلام، وقال ساخرا وهو ينفض التراب عن جلبابه: الخيار القشطة .. الخيار السكر! والعرق يتصبب من جسدي والغلمان يتسلون بمعاكستي، والأرض تأكل قدمي، في سبيل ملاليم!
ودخل الكوخ فتبعته وهي تقول: لكن سيأتي يوم المرح والغناء. - لو كنت تشقين ما وجدت وقتا للأحلام.
ورقد كل منهما على خيشة محشوة بالقش، وهي تقول: أليس الله بقادر على أن يجعل من كوخنا بيتا كالبيت الكبير الذي طردنا منه؟
فقال أدهم وهو يتثاءب: أمنيتي أن أعود إلى البيت الكبير.
ثم وهو يتثاءب بدرجة أعلى: العمل لعنة!
فقالت بصوت هامس: ربما، ولكنها لعنة لا تزول إلا بالعمل!
12
وذات ليلة استيقظ أدهم على تأوهات عميقة. ولبث وهو بين النوم واليقظة حتى تبين صوت أميمة وهي تتوجع هاتفة: «آه يا ظهري ... آه يا بطني!» فجلس من فوره وهو يحملق صوبها، ثم قال: هذا حالك هذه الأيام ثم ينجلي عن لا شيء، أشعلي الشمعة.
فقالت وهي تئن: أشعلها بنفسك، هذه المرة جد.
فقام يتحسس موضع الشمعة بين أدوات الطهي حتى عثر عليها، فأشعلها، وثبتها على الطبلية، فبدت أميمة على الضوء الخافت جالسة متكئة على ساعديها، تئن، وترفع رأسها؛ لتتنفس بصعوبة ظاهرة. وقال الرجل بقلق: هذا ما تظنينه كلما شعرت بوجع.
فقالت بوجه متقلص: كلا، أنا متأكدة أن هذه المرة جد.
وساعدها حتى أسند ظهرها إلى جدار الكوخ، ثم قال: هو شهرك على أي حال . تجلدي حتى أذهب إلى الجمالية لأحضر لك الداية. - صحبتك السلامة. ما الوقت الآن؟
مضى أدهم خارج الكوخ، وجعل ينظر إلى السماء، ثم قال: الفجر قريب، لن أغيب إلا مسير الطريق.
واندفع يسير على عجل نحو الجمالية. ثم عاد يشق الظلام وهو قابض على يد الداية العجوز ليهديها السبيل. وعند اقترابه من الكوخ ترامى إليه صراخ أميمة الذي مزق السكون، فخفق قلبه وأوسع خطاه حتى تشكت الداية. ودخلا الكوخ معا، فخلعت المرأة ملاءتها وهي تقول لأميمة ضاحكة: جاء الفرج، وما بعد الصبر إلا الراحة.
وسألها أدهم: كيف حالك؟
فقالت في صوت كالأنين: أكاد أموت من الألم، جسمي يتفكك، وعظامي تتكسر، لا تذهب.
فقالت الداية: بل ينتظر في الخارج بسلام.
وغادر أدهم الكوخ إلى العراء، فلمح شبحا واقفا عن قرب، عرفه قبل أن يتبينه، فانقبض صدره، ولكن إدريس قال مصطنعا لهجة الأدب: جاءها الطلق؟ مسكينة، مرت زوجي بهذه الحالة كما تعلم منذ زمن قصير، إنه ألم كاذب لا يلبث أن يزول، ثم تتلقى نصيبك من عالم الغيب كما تلقيت هند. إنها طفلة ساحرة، ولكنها لا تكف عن التبول والبكاء، تجلد.
فقال أدهم على مضض وضيق: الأمر لصاحب الأمر.
فصدرت عن إدريس ضحكة خشنة وتساءل: جئت لها بداية الجمالية؟ - نعم. - امرأة قذرة، وطماعة، جئت بها أيضا فغالت في تقدير أتعابها فطردتها، ولا تزال تدعو علي كلما رأتني مارا ببيتها.
فقال أدهم بعد تردد: ما ينبغي أن تعامل الناس هكذا. - يا ابن الأكابر، علمني أبوك أن أعامل الناس بالفظاظة والقسوة.
وارتفع صوت أميمة بصراخ كأنما هو صدى للتمزق الذي يقع في جوفها، فانطبقت شفتا أدهم على ما هم بقوله، واقترب من الكوخ قلقا، وهتف بصوت رقيق: شدي حيلك.
فردد إدريس قوله بصوت مرتفع: شدي حيلك يا امرأة أخي.
فأشفق أدهم من سماع زوجه هذا الصوت، لكنه دارى حنقه قائلا: يحسن بنا أن نقف بعيدا عن الكوخ. - تعال بنا إلى كوخي أقدم لك الشاي، وترى هند وهي تغط في النوم.
لكن أدهم ابتعد عن كوخه دون أن يتجه نحو كوخ الآخر، وهو يلعنه في سره في غيظ مكتوم، فتبعه إدريس وهو يقول: ستكون أبا قبل طلوع الصبح. إنه تغير خطير، من فوائده أن تشعر بالرابطة التي يمزقها أبوك في يسر وبلادة.
فنفس أدهم عن ضيقه بقوله: هذا الكلام يضايقني. - ربما، لكن لا هم لنا غيره.
فسكت أدهم مترددا، ثم قال بشيء من الإشفاق: إدريس، لماذا تتبعني وأنت تعلم أن لا مودة بيننا؟!
فقهقه إدريس عاليا وقال: يا لك من طفل قليل الحياء! لقد أيقظني صراخ زوجك من أحلى نومة فلم أسمح لنفسي بالغضب، وعلى العكس جئت لأقدم لك المعونة إن كنت في حاجة إليها، وإن أباك ليسمع الصراخ كما سمعته ولكنه عاود النوم كمن لا قلب له.
فقال أدهم في ضجر: حسبنا ما كتب لنا من مصير، ألا تستطيع أن تتجاهلني كما أتجاهلك؟ - إنك تكرهني يا أدهم، لا لأنني كنت السبب في طردك، ولكن لأنني أذكرك بضعفك. إنك تكره في نفسك الآثمة، أما أنا فلم يعد لي من مبرر لكراهيتك؛ بل أنت اليوم عزائي وتسليتي، ولا تنس أننا جيران، وأول من سكن هذا الخلاء من الأحياء، وسيدب عليه أولادنا جنبا إلى جنب. - إنك تتلذذ بتعذيبي.
فصمت إدريس مليا حتى منى أدهم نفسه بالخلاص، ولكنه عاد يسأل بلهجة جدية: لماذا لا نتفق؟
فقال أدهم هو يتنهد: لأنني بياع على قد حالي وأنت رجل هوايتك الضرب والاعتداء.
وعاد صراخ أميمة يعلو ويشتد فرفع أدهم رأسه متوسلا، فأدرك من توه أن كثافة الظلام قد خفت، وأن الفجر تسلق الجبل. وهتف أدهم: ما ألعن الألم!
فقال إدريس ضاحكا: ما أجمل الرقة! خلقت لإدارة الوقف والنفخ في الناي. - اسخر ما شئت، إني متألم. - لماذا؟ حسبت امرأتك هي المتألمة!
فصاح أدهم من فرط جزعه: دعني وشأني.
فتساءل الآخر في هدوء مغيظ: أتريد أن تصير أبا بلا ثمن؟
فلزم أدهم الصمت وهو ينفخ، فقال إدريس متعطفا: أنت حكيم، وقد جئت أعرض عليك عملا تستعين به على إسعاد المخلوقات القادمة، إن هذا الذي نسمع مقدمات تشريفه الأول وليس الأخير، فإن شهواتنا لا تقنع إلا بأن تبني فوقنا تلا من الذرية الصاخبة، ما رأيك؟ - الضياء يلوح فاذهب لتستوفي نومك.
وتعالى الصراخ، متتابعا متواصلا، حتى ضاق أدهم بموقفه فرجع إلى الكوخ الذي شف عنه الظلام، وبلغه وأميمة ترسل تنهيدة عميقة مثل ختام أغنية حزينة. اقترب من باب الكوخ وهو يتساءل: كيف الحال عندكم؟
فجاءه صوت الداية وهو يقول: «انتظر!» تحفز قلبه للارتياح عندما خيل إليه أن الصوت يوحي بالظفر. وما لبث أن لاحت المرأة في الباب وهي تقول: رزقت بذكرين! - توءمين؟ - فليرزقك الله برزقهما.
وصكت أذنيه ضحكة إدريس من وراء ظهره وسمعه يقول: إدريس الآن أب لأنثى وعم لذكرين.
ومضى نحو كوخه وهو يغني: «البخت والقسمة فين يا دي الزمان قوللي». وعادت الداية تقول: ترغب الأم في أن يسميا قدري وهمام.
فراح أدهم يغمغم وقد استخفه السرور: قدري وهمام، قدري وهمام.
13
قال قدري وهو يجفف وجهه بذيل جلبابه: فلنجلس؛ لتناول طعامنا.
فقال همام وهو ينظر نحو الشمس المائلة للغروب: نعم، سرقنا الوقت.
تربعا على الرمال تحت سفح المقطم. وحل همام عقدة المنديل الأحمر المخطط فكشف عن خبز وطعمية وكراث، وراحا يأكلان، وينظران بين حين وآخر نحو أغنامهما، التي هام بعضها على وجهه، وقعد البعض ليجتر في راحة وسلام. لم يكن ثمة ما يميز بين الشقيقين في الملامح والقسمات، غير أن نظرة الصائد المتجلية في عيني قدري أضفت على سحنته حدة ميزته بطابع خاص. وعاد قدري يقول، وهو يطحن الطعام المحتشد في فيه: لو كان هذا الخلاء لنا دون شريك لرعينا أغنامنا مرتاحي البال.
فقال همام باسما: ولكن هذا الخلاء مقصد الرعاة من العطوف وكفر الزغاري والحسينية، ومن الحكمة أن نصادقهم فنتقي شرهم.
فضحك قدري ضحكة هازئة انطلقت من فيه مع فتات من طعامه وقال: هذه الحواري عندها جواب واحد لمن ينشد صداقتها؛ هو الصفعات. - لكن ... - لا لكن يا ابن أبي، إني أعرف طريقة واحدة، وهي أن أجذب الرجل من جلبابه وأنطحه في جبينه فينقلب على وجهه أو على قفاه. - لذلك لا نكاد نحصي أعداءنا. - ومن كلفك بإحصائهم؟!
وتابع همام جديا أوغل في الابتعاد فراح يصفر له حتى توقف ودار عائدا في صمت الحكيم. وانتقى عودا من الكراث ومسحه بأصابعه فدفعه في فيه متلذذا، ثم قال وهو يتمطق: لذلك تجدنا وحدنا، ويمضي الوقت الطويل دون أن نتكلم. - وما حاجتك إلى الكلام وأنت تغني طوال الوقت؟!
فنظر همام إليه بثقة وقال: يخيل إلي أنك تضيق بهذه الوحدة أحيانا. - سأجد دائما عللا للضيق، الوحدة أو غيرها.
وساد صمت وضح فيه التمطق. ولاحت عن بعد جماعة عائدة من الجبل نحو العطوف، تسير على غناء منشد كالحادي والآخرون يرددون ...
فقال همام: هذه الناحية من الخلاء امتداد لحينا، ولو ذهبنا شمالا أو جنوبا فأغلب الظن أننا لن نعود.
فضحك قدري ضحكة مجلجلة وقال: ستجد في الشمال وفي الجنوب أناسا يودون قتلي، ولكنك لن تجد واحدا يجرؤ على منازلتي.
فقال همام وهو ينظر نحو الأغنام: لا يمكن إنكار شجاعتك، ولكن لا تنس أننا نعيش بفضل اسم جدنا وسمعة عمنا المخيفة على رغم ما بيننا وبينه من خصام.
فعقد قدري ما بين حاجبيه احتجاجا، ولكنه لم يجهر بمعارضته. واتجه بصره نحو البيت الكبير الذي لاح عن بعد في الغروب هيكلا ضخما مطموس المعالم، وقال: هذا البيت! لم أشهد له مثيلا، في خلاء يكتنفه من جميع النواحي، وعلى مقربة من حوار وأزقة اشتهرت بالجبروت والمشاكسة. صاحبه جبار بلا جدال، هذا الجد الذي لم ير أحفاده وهم على بعد أذرع منه!
فاتجه بصر همام ناحية البيت، ثم قال: إن أبانا لا يذكره إلا مصحوبا بالإجلال والإكبار. - وعمنا لا يذكره إلا مصحوبا باللعنات.
فقال همام بإشفاق: هو جدنا على أي حال. - وما جدوى ذلك يا غلام؟ إن أبانا يكدح وراء عربته، وأمنا تكد طوال النهار وشطرا من الليل، ونحن نعاشر الأغنام حفاة شبه عراة. أما هو فقابع وراء الأسوار، بلا قلب، متمتعا بنعيم لا يخطر على بال.
فرغا من الطعام. نفض همام المنديل ولفه ثم دسه في جيبه، واستلقى على ظهره متوسدا ذراعيه، مرسلا ناظريه إلى السماء الصافية، وهي تقطر هدوء المغيب، والحدآت تولي في الآفاق. ونهض قدري فانتحى جانبا ليبول، وقال: يقول أبونا إنه كان يخرج كثيرا في الماضي فيمر بهم في ذهابه وإيابه، أما اليوم فلا يراه أحد، وكأنما يخاف على نفسه.
قال همام بنبرات حالمة: كم تمنيت أن أراه. - لا تحلم بأن ترى شيئا خارقا، ستجده شبيها بأبينا أو بعمنا، أو لكليهما معا، إني أعجب لوالدي كيف لا يذكره إلا بالإجلال على رغم ما ناله على يديه. - الظاهر أنه كان شديد التعلق به، أو أنه آمن بعدالة ما نزل به من عقاب. - أو أنه ما زال يطمع في عفوه! - إنك لا تفهم أبانا، إنه رجل ودود حلو المعشر.
وعاد قدري إلى مجلسه وهو يقول: إنه لا يعجبني، وأنت لا تعجبني. أؤكد لك أن جدنا شخص شاذ لا يستحق الاحترام، ولو كانت به ذرة من خير ما جفا لحمه هذا الجفاء الغريب، إني أراه كما يراه عمنا، لعنة من لعنات الدهر.
فقال همام باسما: لعل أرذل ما فيه هو ما تتباهى به أنت، أعني القوة والبطش.
فقال قدري بحدة: لقد نال هذه الأرض هبة بلا عناء ثم طغى واستكبر. - لا تنكر ما اعترفت به منذ قليل، إن الوالي نفسه لم يكن بوسعه أن يعيش وحده في مثل هذا الخلاء. - وهل تجد في الحكاية التي رويت لنا مسوغا حقا لغضبه على والدينا؟ - إنك تجد أهون منها سببا كافيا للبطش بالناس!
تناول قدري الكوز ومضى يشرب حتى روي، ثم تجشأ وقال: ما ذنب الأحفاد؟ إنه لا يدري ما رعي الغنم، سحقا له! أود لو أعرف وصيته، وماذا أعد لنا!
فتنهد همام وقال بصوت حالم: ثروة تريح من العناء، كي يفرغ المرء لقلبه، ويمضي العمر في يسر وطرب. - إنك تردد قول أبينا، نشقى في التراب والطين ونحلم بالناي في ظل حديقة غناء. الحق أقول إني أعجب بعمي أكثر من أبي.
فجلس همام وهو يتثاءب، ثم نهض يتمطى ، وقال: على أي حال صرنا شيئا، لنا مأوى يسعنا، ورزق يحفظ علينا الحياة، وأغنام نرعاها، نبيع لبنها ونسمنها لنبيعها أيضا، ومن شعرها تغزل أمنا الكساء. - والناي والحديقة؟
فلم يجب، واتجه نحو الأغنام بعد أن تناول عصاه الملقاة عند قدميه. ووقف قدري، وصاح موجها خطابه إلى البيت الكبير في عبث: أسمحت بأن نرثك، أم ستعاقبنا في موتك كما عاقبتنا في حياتك؟
أجب يا جبلاوي!
وردد الصدى: «أجب يا جبلاوي!»
14
ورأيا عن بعد شخصا يتجه نحوهما لم تتضح معالمه. ومضى القادم يقترب رويدا حتى تبيناه، فانتصبت قامة قدري بحركة تلقائية وشعت عيناه الجميلتان نور ابتهاج. ولحظ همام أخاه باسما، ثم نظر إلى الأغنام في غير مبالاة وهمس بلهجة تنبيه: الظلام غير بعيد.
فهتف قدري باستهانة: فليأت الفجر إذا شاء.
وخطا خطوات نحو الأمام ملوحا بذراعيه في ترحاب للفتاة. وأخذت تدنو من موقفهما، مجهدة من المشي، لطول المسافة من ناحية ولمقاومة الرمال لشبشبها من ناحية أخرى، متطلعة نحوهما ببصر لامع يعكس مع فتنة العينين الخضراوين جرأة. وبدت ملتفة بملاءتها اللف حتى الكتفين، مطلقة الرأس والعنق عاريين فعبث الهواء بضفيرتيها. وارتفع صوت قدري بسرور مسح عن وجهه أمارات الحدة: أهلا بهند.
فأجابت بصوت رقيق: أهلا بك (ثم مخاطبة همام) مساء الخير يا ابن عمي.
فقال همام باسما: مساء الخير يا بنت العم، كيف حالك؟
وتناول قدري يدها وسار بها نحو الصخرة الكبيرة القائمة على بعد أمتار من موقفهما، ودارا حول الصخرة حتى ضلعها المواجه للجبل، فصارا في منعزل عن الخلاء ومن فيه. وجذبها نحوه فأحاطها بذراعيه، ثم قبل ثغرها قبلة طويلة حتى تماست ثناياهما وغابت الفتاة في لحظة استسلام مذهلة. واستطاعت أن تتخلص من ذراعيه، وأن تقف مضطربة الأنفاس فتحكم لف ملاءتها، وتتلقى نظرته المهاجمة بنظرة باسمة. ولكن الابتسامة اختفت كأنما لخاطرة خطرت، وتقوست الشفتان في تبرم، ثم قالت: جئت بعد معركة، أف، هذه الحياة لا تطاق.
فقطب قدري لإدراكه ما تعني وقال بحدة: لا تبالي بشيء، إننا أبناء الحمق. أبي الطيب رجل غبي ، وأبوك الشرس لا يقل عنه غباء، إنهما يودان أن يورثانا الكراهية، فيا للغباء! خبريني كيف تيسر لك المجيء؟
فنفخت وقالت: مضى اليوم كالأيام السابقة في نقار متواصل بين أبي وأمي، وصفعها مرة أو مرتين فصرخت تلعنه وصبت غضبها على قلة فحطمتها، ولكن غضبها اليوم وقف عند هذا الحد. إنها كثيرا ما تمسك بخناقه متحدية لطماته، وتدعو عليه إذا غلبت على أمرها، أما إذا غلبته الخمر فلا سلامة إلا بالبعد عن وجهه. كثيرا ما أشعر برغبة في الهرب، وبكراهية شديدة لهذه الحياة، ولكني أروح عن نفسي بالبكاء حتى تؤلمني عيناي. ما علينا، انتظرت حتى ارتدى ثيابه وذهب، فتناولت الملاءة ولكن أمي تعرضت لي تحاول منعي كالعادة، ولكني تخلصت منها ومضيت إلى الخارج.
فتناول قدري يدها بين يديه وتساءل: ألا تخمن أين تذهبين؟ - لا أظن، لا يهمني، إنها على أي حال لا تجرؤ على إخبار أبي.
فضحك قدري ضحكة مقتضبة وسألها: ماذا تظنينه يفعل لو عرف؟
فرددت ضحكته في حيرة، ولكنها قالت: إني لا أخشاه على رغم شدته، بل أقول لك إني أحبه، وهو يحبني في سذاجة لا تتفق وحدة طبعه؛ ولا يبالي أن يقول إنني أغلى شيء في دنياه، ولعل هذا هو أصل متاعبي.
جلس قدري على الأرض أسفل الصخرة ودعاها إلى الجلوس بأن ربت الموضع جانبه، فجلست وهي تتخفف من حبكة الملاءة، ومال نحوها فلثم خدها، ثم قال: يبدو أن غزو أبي أيسر من غزو أبيك، ومع ذلك فشد ما يبدو فظا إذا جاء ذكر لأبيك. إنه ينكر عليه صفات ...
فضحكت قائلة وهي تذكر ما تردد عن ذكره: بني آدم! ... كذلك ينكر أبي عليه.
فحدجها بنظرة استنكار، فقالت: أبوك ينكر على أبي فظاظته، وأبي ينكر على أبيك طيبته، والمهم أنهما لم يتفقا على شيء.
فندت عن رأس قدري حركة كأنما ينطح الهواء. وقال بتحد: لكننا سنفعل ما نشاء.
فقالت هند وهي تنظر نحوه بعطف وإشفاق: أبي يستطيع أن يفعل ما يشاء كذلك! - وأنا قادر على أشياء كثيرة، ماذا يريد لك هذا العم السكير؟
فضحكت على رغمها، وقالت بلهجة تشي بالاحتجاج والمداعبة معا: تكلم عن أبي بأدب.
وواصلت الكلام وهي تقرصه في أذنه: طالما ساءلت نفسي عما يريد لي، فخيل إلي أحيانا أنه يكره أن يزوجني من أحد.
فحملق فيها منكرا، فعادت تقول: رأيته مرة يرمى بيت جدنا بنظرة غاضبة ويقول: «إذا كان قد رضي لأبنائه وأحفاده بالهوان، فهل يرضى به لحفيدته؟! لا مكان لائق بهند إلا هذا البيت المغلق.» ومرة قال لأمي: إن فتوة كفر الزغاري يرغب في الزواج مني، ففرحت أمي فصاح بها حانقا: «يا وضيعة .. يا خسيسة، من يكون فتوة كفر الزغاري هذا؟ إن أحقر خادم في البيت الكبير أشرف منه وأنظف!» فسألته أمي في حسرة: «فمن تراه الجدير بها؟» فصاح: «علم ذلك عند الطاغية المتواري خلف أسوار بيته، إنها حفيدته، وليس في الأرض من هو أهل لها! أريد لها زوجا مثلي أنا!» فقالت أمي على رغمها: «أتريدها أن تكون تعيسة مثل أمها؟!» فهجم عليها كالوحش وراح يركلها بشدة حتى جرت خارج الكوخ! - هذا هو الجنون بعينه. - إنه يكره جدنا، ويلعنه كلما ذكره، لكنه في أعماقه يتيه إجلالا بأبوته.
فكور قدري قبضته وجعل يضرب بها فخذه ويقول: لعلنا كنا نكون أسعد حالا لو لم يكن ذلك الرجل جدا لنا!
فقالت بمرارة: لعلنا.
فجذبها إلى صدره بشدة تناسب الحدة في قوله وضمها إليه بقوة. واستبقاها هكذا بين يديه ريثما تمر فترة الانتقال بين الشواغل المتعبة وبين الهيام الموعود، وقال: أعطيني فاك.
عند ذاك تراجع همام من موقفه عند الصخرة، واتجه بخفة نحو الأغنام وهو يبتسم في حياء وأسى. خيل إليه أن الهواء يثمل بأنفاس الحب، وأن الحب ينذر بالمآسي. لكنه قال لنفسه: «صفا وجهه ورق، لا يرى على هذا الحال إلا خلف الصخرة، فمن لنا بقوة هذا الحب السحرية لتزيل متاعبنا؟» هذا والسماء تشحب في استسلام، وأنفاس المغرب تتردد في خمول، والسمرة تزحف كنغمة وداع وانية، وهناك تيس يثب على عنزة، وعاد همام يحدث نفسه: «ستفرح أمي يوم تلد هذه العنزة؛ ولكن ميلاد إنسان قد يجيء بالكوارث، فوق رءوسنا لعنة من قبل أن نولد، وأعجب عداوة هي التي لا تجد لها من مبرر إلا أنها بين أخوين. إلى متى نعاني من هذه الكراهية؟! لو نسي الماضي لابتهج الحاضر، ولكننا سنظل نتطلع إلى هذا البيت الذي لا عزة لنا إلا به ولا تعاسة إلا بسبب منه!» وعلقت عيناه بالتيس فابتسم. ومضى يدور حول الغنم وهو يصفر ويلوح بعصاه. وحانت منه التفاتة نحو الصخرة الكبيرة الصامتة فبدت في وقفتها، كأنها لا تبالي شيئا في الوجود.
15
استيقظت أميمة كعادتها عندما لم يبق في السماء إلا نجمة واحدة. ونادت أدهم حتى استيقظ متأوها. ونهض الرجل فغادر غرفته مثقلا بالنعاس إلى غرفة خارجية متصلة بها حيث ينام قدري وهمام فأيقظهما. وبدا الكوخ في مظهره الجديد ناميا ممتدا كأنه بيت صغير، وأحاط به سور ضم إليه فراغا خلفيا لإيواء الأغنام. وانتشرت على السور أفرع اللبلاب؛ فلطفت من جفاء منظره، ودلت على أن أميمة لم تيئس بعد من تحقيق حلمها القديم بأن تهذب ما استطاعت كوخها على مثال البيت الكبير. واجتمع الرجال في الفناء حول صفيحة مملوءة بالماء، فغسلوا وجوههم، وارتدوا جلابيب العمل، وحمل الهواء من داخل الكوخ رائحة احتراق خشب، وبكاء الإخوة الصغار.
وأخيرا جلسوا حول الطبلية أمام مدخل الكوخ يأكلون من حلة فول مدمس. وكان جو الخريف رطيبا مائلا للبرودة في هذه الساعة المبكرة، ولكنه لاقى أجساما قوية صمدت حيال نزواته. وعن بعد بدا كوخ إدريس وقد كبر وامتد كذلك. أما البيت الكبير فقام في صمت منطويا على ذاته كأنما لا يربطه سبب بهذا العالم الخارجي. وجاءت أميمة تحمل كوز لبن محلوب لتوه فوضعته على الطبلية وجلست. وعند ذاك سألها قدري بسخرية: لماذا لا تبيعين اللبن إلى بيت جدنا الموقر؟
فالتفت إليه أدهم برأسه الذي وخط المشيب فوديه وقال: كل وأنت ساكت، السكوت غاية ما نرجو عندك من خير.
وقالت أميمة وهي تطحن ما في فيها: آن لنا أن نخلل الليمون والزيتون والفلفل الأخضر ، كنت يا قدري تبتهج في أيام التخليل وتشترك في حشو الليمون.
فقال قدري بمرارة: كنا نبتهج ونحن صغار حتى بلا سبب.
فسأله أدهم وهو يعيد الكوز إلى موضعه: وماذا يشقيك اليوم يا أبا زيد الهلالي؟
فضحك قدري ولم يجب. أما همام فقال: يوم السوق قريب، ينبغي أن نفرز الأغنام.
فهزت الأم رأسها بالإيجاب، على حين وجه الأب خطابه إلى قدري قائلا: يا قدري لا تكن فظا، لا أقابل شخصا يعرفك إلا شكاك إلي، أخشى أن تعيد سيرة عمك في هذه الحياة. - أو سيرة جدي!
فاتقدت عينا أدهم استياء وقال: لا تذكر جدك بسوء، هل سمعتني أفعل ذلك؟ ثم إنه لم يسئ إليك.
فقال قدري باستنكار: أساء إلينا ما دام أساء إليك. - اسكت، نقطنا بسكوتك. - بسببه كتبت علينا هذه الحياة، وهي أيضا مصير بنت عمنا.
فقال أدهم في عبوس: ما لنا وما لها، أبوها علة الكارثة.
فهتف قدري: أعني أنه ما كان يصح أن تنشأ نساء من دمنا في الخلاء والعراء! ثم خبرني أي رجل ستتزوج هذه الفتاة؟ - ليكن الشيطان نفسه، لا شأن لنا بها، لا شك في أنها مفترسة مثل أبيها.
ونظر نحو زوجه كأنما ينشد تأييدا فقالت أميمة: نعم، مثل أبيها.
فبصق أدهم قائلا: ملعونة هي وأبوها!
فتساءل همام: ألا يفسد هذا الحديث علينا طعامنا؟
فقالت أميمة برقة: لا تبالغ .. إن أسعد الأوقات وقت اجتماعنا.
هنا ترامى إليهم صوت إدريس كالهدير وهو يلعن ويسب، فقال أدهم بتقزز: بدأت صلاة الصبح!
وتناول آخر لقمة ونهض، ثم اتجه نحو عربته وراح يدفعها أمامه وهو يقول: «تركتكم بعافية.» فردوا عليه: «مع السلامة!» ومضى الرجل مبتعدا صوب الجمالية. وقام همام فمضى نحو الحظيرة من ممشى جانبي، وما لبث أن تعالى ثغاء الأغنام ووقع أظلافها فملأت الممشى في طريقها إلى الخارج. ونهض قدري كذلك فتناول عصاه ولوح لأمه مودعا ولحق بأخيه. وعندما اقتربا من كوخ إدريس تصدى لهما فتساءل ساخرا: بكم الرأس يا جدع؟
فحدجه قدري بنظرة حب استطلاع على حين تجنب همام النظر إليه.
وعاد إدريس يتساءل في إنكار: ألا يتفضل أحدكما بالجواب يا ابني بياع الخيار؟
فقال قدري بحدة: إذا أردت الشراء فاذهب إلى السوق!
فتساءل إدريس مقهقها: وإذا قررت الاستيلاء على إحداها؟
وجاء صوت هند من الداخل وهي تقول: أبي، لا نريد فضائح!
فأجابها مداعبا: اهتمي بشأنك أنت، ودعيني لسلالة الجواري!
فقال همام: نحن لا نتعرض لك فلا تتعرض لنا. - آه، صوت أدهم، كان ينبغي أن تكون بين الأغنام لا وراءها.
فقال همام محتدا: أمرنا أبي بألا نجيب على تحرشك بنا.
فقهقه إدريس عاليا وقال: جزاه الله كل خير، لولا أمره هذا لكنت من الهالكين! (ثم بلهجة خشنة) ... إنكما تعيشان عزيزين بفضل اسمي، لعنة الله عليكم جميعا، غورا من وجهي.
وواصلا سيرهما وهما يلوحان من حين إلى حين بعصويهما، ولبث همام ممتقع اللون من الانفعال فقال لقدري: هذا الرجل مقيت، ما أقذره! حتى في الساعة المبكرة تنفث أنفاسه رائحة الخمر.
فقال قدري وهما يوغلان وراء الأغنام في الخلاء: إنه يتكلم كثيرا، ولكنه لم يمد لنا يدا بأذى.
فقال همام محتجا: بل استولى أكثر من مرة على بعض أغنامنا. - إنه سكير، وهو للأسف عمنا، لا مهرب من الإقرار بذلك.
وساد الصمت قليلا وهما يتجهان نحو الصخرة الكبيرة، وفي السماء سحب متفرقة، والشمس ترسل أشعتها فتغمر الرمال المترامية. وضاق همام بكتمان ما يود قوله فقال: ستخطئ خطأ كبيرا إذا وصلت أسبابك بأسبابه.
فاشتعلت عينا قدري بنظرة غاضبة وهتف: لا تحاول نصحي، حسبي أبوك.
فقال همام وهو لم يفق بعد من إهانات إدريس: حياتنا موفورة المتاعب فلا تزدها.
فصاح قدري: فلتسحقكم المتاعب التي تخلقونها بأنفسكم، أما أنا فأفعل ما أشاء.
وكانا قد بلغا الموضع الذي يسرحان عنده الأغنام فالتفت همام نحو أخيه وتساءل: أتظن أنك ناج من عواقب أفعالك؟!
فقبض قدري على منكبه بقبضته وصاح: ما أنت إلا حسود!
فدهش همام. دهمه قول أخيه الذي لم يتوقعه. ولكنه كان متعودا من ناحية أخرى على مفاجآته ومفرقعاته. ورفع يده عن منكبه وهو يقول: اللهم احفظنا !
فشبك قدري يديه على صدره وهو يهز رأسه ساخرا فقال همام: خير ما أفعل أن أتركك لنفسك حتى تندم، لن تقر بخطأ، ولن تقر به إلا بعد فوات الفرصة.
وأولاه ظهره متجها نحو جانب الصخرة الظليل. ووقف قدري مكفهر الوجه تحت الأشعة الحامية.
16
جلست أسرة أدهم أمام الكوخ تتناول عشاءها في ضوء النجوم الخافت. وإذا بحدث يقع لم يشهد له الخلاء مثيلا منذ طرد أدهم. فتح باب البيت الكبير وخرج منه شبح حاملا مصباحا. وتطلعت الأعين إلى المصباح في دهشة انعقدت لها الألسنة، وتابعته وهو يتحرك في الظلام ككوكب أرضي، وعندما توسط المسافة بين البيت والكوخ تركزت الأبصار على الشبح لتتبينه على ضوء المصباح المنعكس حتى همس أدهم: «هذا عم كريم بواب البيت.» وتضاعفت الدهشة عندما أيقنوا من أنه يقصدهم؛ فوقفوا جميعا، بعضهم اللقمة في يده والبعض اللقمة في فيه بلا حراك، وبلغ الرجل موقفهم فوقف رافعا يده وهو يقول: مساء الخير يا سيدي أدهم.
ارتجف أدهم لدى سماعه الصوت الذي انقطع عنه منذ عشرين عاما، فدعا من أعماق ذاكرته نبرات الأب العميقة وشذا الياسمين والحناء وحنينا وأشجانا، فمادت به الأرض. وقال وهو يقاوم دموعه: مساء الخير يا عم كريم.
فقال الرجل بتأثر غير خاف: لعلك أنت وأهلك بخير. - الحمد لله يا عم كريم.
فقال الرجل برقة: أود أن أعرب لك عما بنفسي، ولكني كلفت فقط بأن أبلغك بأن سيدي الكبير يدعو ابنك همام إلى مقابلته فورا.
وساد الصمت، فتبادلوا النظرات، ولفتهم الحيرة، وإذا بصوت يتساءل: همام وحده؟
والتفتوا ساخطين نحو إدريس الذي بدا عن كثب وهو يصغي، غير أن عم كريم لم يجب، ورفع يده تحية ورجع صوب البيت الكبير تاركا الجميع في ظلام. وتغيظ إدريس منه فصاح به: أتتركني بلا جواب يا ابن اللئيمة؟
وأفاق قدري من ذهوله فتساءل غاضبا: لماذا همام وحده؟
فردد إدريس تساؤله: نعم، لماذا همام وحده؟
فقال له أدهم، ولعله وجد في مخاطبته متنفسا عن أزمته: عد إلى كوخك ودعنا في سلام. - سلام؟! إني أقف حيث أشاء.
وتطلع همام إلى البيت الكبير صامتا، وقلبه يخفق بشدة خيل إليه معها أن المقطم يردد صداه. وقال له أبوه بتسليم: اذهب يا همام إلى جدك مصحوبا بالسلامة.
فالتفت قدري إلى أبيه يسأله بحدة وتحد: وأنا؟ ألست ابنك مثله؟ - لا تتكلم كما يتكلم إدريس يا قدري، إنك ابني مثله بلا أدنى ريب، ولا لوم علي فلست أنا الداعي.
فقال إدريس محتجا: ولكن بوسعك أن تمنع تمييز أخ عن أخيه. - هذا شأن لا يعنيك (ثم مخاطبا همام) يجب أن تذهب، وسيأتي دور قدري، إني واثق من ذلك.
فقال إدريس وهو يهم بالذهاب: إنك أب ظالم مثل أبيك، مسكين قدري، لماذا يعاقب دون ذنب؟
لكن اللعنة تنزل أول ما تنزل في أسرتنا بالممتازين، ألا لعنة الله على هذه الأسرة المجنونة!
ومضى فابتلعته الظلمة. وعند ذاك هتف قدري: إنك تظلمني يا أبي. - لا تعد أقواله، تعال يا قدري، واذهب يا همام.
فقال همام بحرج: وددت لو كان معي أخي! - سيلحق بك.
فصاح قدري بحنق: أي ظلم هذا؟! لماذا آثره علي؟ إنه لم يعرفه كما لم يعرفني، فلماذا يختصه بالدعوة؟
فدفع أدهم همام قائلا: اذهب!
فسار همام، وهمست أميمة: تحفظك العناية!
واحتضنت قدري باكية، ولكنه تخلص من ذراعيها ومضى في أثر أخيه فصاح به أدهم: عد يا قدري ولا تقامر بمستقبلك.
فقال قدري بغضب: لن ترجعني قوة على الأرض.
وعلا صوت أميمة بالبكاء، وبكى الصغار في الداخل. وأوسع قدري خطاه حتى لحق بأخيه، وعلى كثب منه في الظلام رأى شبح إدريس يسير ممسكا بيد هند. ولما بلغوا باب البيت دفع إدريس قدري إلى يسار همام وهند إلى يمينه وتراجع خطوات وهو يصيح: افتح يا عم كريم، جاء الأحفاد للقاء جدهم.
وفتح الباب، وظهر على عتبته عم كريم وبيده المصباح، وقال بأدب: فليتفضل سيدي همام بالدخول.
فهتف إدريس: وهذا أخوه قدري، وهذه هند، وهي صورة مكررة من أمي التي ماتت باكية.
فقال عم كريم بأدب: أنت تعلم يا سيدي إدريس أنه لا يدخل هذا البيت إلا من يؤذن له.
وأشار إلى همام فدخل، وتبعه قدري آخذا بيد هند ولكن علا صوت من الحديقة عرفه إدريس وهو يقول بصرامة: اذهبا بعاركما أيها الملوثان.
تسمرت أقدامهما. وأغلق الباب. وانقض إدريس عليهما فقبض على منكبيهما بقبضتيه وتساءل بصوت متهدج من الغضب: أي عار يعني؟
وصرخت هند ألما، على حين تحول قدري فجأة نحو إدريس ورفع يديه عنه وعن هند، فأفلتت هند وولت هاربة في الظلام. وتراجع إدريس بخفة إلى الوراء، ثم وجه إلى قدري لكمة فتحملها الشاب على رغم قوتها ووجه إليه لكمة أشد. واندفعا يتبادلان الضرب والركل بقسوة ووحشية تحت سور البيت الكبير. وصاح إدريس: سأقتلك يا ابن العاهرة!
فصاح قدري: سأقتلك قبل أن تقتلني!
وتبادلا الضربات حتى سال الدم من فم قدري وأنفه. وجاء أدهم جريا كالمجنون وصاح بأعلى صوته: اترك ابني يا إدريس!
فصاح إدريس بحقد: سأقتله بجريمته! - لن أدعك تقتله، ولن أدعك تعيش إن قتلته!
وجاءت أم هند مولولة وهي تصيح: فرت هند يا إدريس، أدركها قبل أن تختفي!
ورمى أدهم بنفسه بين إدريس وقدري، وصاح بأخيه: أفق، إنك تقاتل بلا سبب، بنتك طاهرة لم تمس، لكنك أرعبتها ففرت، أدركها قبل أن تختفي.
وجذب قدري إليه، ورجع به مسرعا وهو يقول: أسرع .. تركت أمك في حالة إغماء.
أما إدريس فانطلق في الظلام وهو يصرخ بأعلى صوته: «هند .. هند!»
17
تبع همام عم كريم فاجتازا الممشى تحت عريشة الياسمين متجهين نحو السلاملك. بدا الليل في الحديقة شيئا جديدا، لطيفا رطبا مترعا بنشوات الأزهار والرياحين فانسكب بروعته في أعماق روحه. وامتلأ الشاب بشعور جلال وافتتان، وحنين مودة عميقة للمكان، وبأنه مقبل على أجل لحظات عمره. وتراءت لعينيه أنوار وراء شيش بعض النوافذ، ونور قوي ينبعث من باب البهو فارشا على أرض الحديقة تحته شكلا هندسيا، فخفق قلبه وهو يتخيل الحياة خلف النوافذ وفي الأبهاء، كيف تكون؟ ومن يحياها؟ وزاد قلبه خفقانا حينما تمثلت لخاطره هذه الحقيقة العجيبة وهي أنه مخلوق من سلالة هذا البيت ونطفة من هذه الحياة، وأنه جاء ليلقاها وجها لوجه في جلباب أزرق بسيط وطاقية باهتة، منتعلا أديم الأرض. ورقيا في سلم السلاملك، فمالا إلى جناح الشرفة الأيمن نحو باب صغير، فتح على سلم فصعداه في صمت لا ينم عن حياة، حتى بلغا ردهة طويلة مضاءة بمصباح يتدلى من سقف مزركش، واتجها نحو باب كبير مغلق يتوسط الردهة. وقال همام لنفسه في تأثر بالغ: «في موضع من هذه الردهة، لعله هذا الموضع عند رأس السلم، وقفت أمي منذ عشرين عاما لتراقب الطريق، أي ذكرى تعيسة؟!» ونقر عم كريم على الباب الكبير مستأذنا للقادم، ثم دفعه برقة وتنحى لهمام جانبا وهو يشير له بالدخول.
ودخل الشاب في أناة وأدب ورهبة، فلم يسمع صوت الباب وهو يغلق وراءه، ولم يشعر إلا شعورا غامضا بالنور المضيء في السقف والأركان، أما وعيه كله فقد انجذب نحو الصدارة حيث تربع الرجل على ديوان. لم يكن رأى جده من قبل، ولكنه لم يشك في هوية الجالس أمامه، فمن يكون هذا الهائل إن لم يكن جده الذي سمع عنه الأعاجيب؟ واقترب من مجلسه وهو يتلقى من عينيه الكبيرتين نظرة استلت من ذاكرته جميع ما فيها، ولكنها بثت في قلبه في الوقت نفسه طمأنينة وسلاما. وانحنى حتى كادت جبهته تمس طرف الديوان، ومد يده، فأعطاه الآخر يده، فلثمها من الأعماق، وقال بشجاعة غير متوقعة: مساء الخير يا جدي.
فجاءه الجواب من صوت جهوري لم يخل من أنغام رحمة: أهلا بك يا بني، اجلس!
واتجه الشاب نحو مقعد إلى يمين الديوان وجلس على حافته، فقال الجبلاوي: خذ راحتك في مجلسك.
فتزحزح همام إلى الداخل وقلبه يرتوي من المسرة، وتحركت شفتاه بشكر مهموس ثم ساد الصمت. ولبث ينظر في نقوش السجادة تحت قدميه، وهو يشعر بموقع النظرة المسددة نحوه كما نشعر بموقع الشمس منا دون أن نراها. وإذا بذهنه يتجه فجأة نحو الخلوة القائمة إلى يمينه، فلحظ بابها بخوف وكآبة، وإذا بالرجل يسأله: ماذا تعرف عن هذا الباب؟
فارتجفت أوصاله، وعجب كيف يرى كل شيء، وقال بخشوع: أعرف أنه فاتحة مأساتنا. - وماذا ظننت بجدك لدى سماعك الحكاية؟
وفتح فاه ليتكلم فبادره الرجل: اصدقني القول.
فأثرت به اللهجة إلى حد أنه قال فيما يشبه الصراحة: بدا لي تصرف والدي خطأ كبيرا، كما بدا لي عقابهما صارما شديدا.
فابتسم الجبلاوي قائلا: هذا هو شعورك على وجه التقريب، إني أمقت الكذب والخداع؛ ولذلك طردت من بيتي كل من لوث نفسه.
فاغرورقت عينا همام. فقال الجد: بدا لي أنك شاب نظيف، ولذلك استدعيتك.
فقال همام بصوت رطبته الدموع: شكرا يا سيدي!
فقال الجد بهدوء: رأيت أن أعطيك فرصة لم تتح لأحد ممن في الخارج، وهي أن تعيش في هذا البيت، وأن تتزوج به، وأن تبدأ حياة جديدة فيه.
فتتابعت دقات قلب همام في نشوة من الأفراح، ولبث ينتظر أنغاما جديدة يستكمل بها هذا اللحن البديع كالسميع الذي ينتظر الجواب بعد أن طرب للقرار، ولكن الرجل لاذ بالصمت. وتردد همام قليلا، ثم قال: الشكر لك على نعمتك! - إنك تستحقها.
واختلج نظر الشاب بين جده وبين السجادة، ثم تساءل في إشفاق: وأسرتي؟
فقال الجبلاوي في عتاب: قلت ما أريد بوضوح!
فقال همام باستعطاف: إنهم يستحقون رحمتك وعفوك!
فتساءل الجبلاوي بشيء من البرود: ألم تسمع ما قلت؟ - بلى، ولكنهم أمي وأبي وإخوتي، إن أبي رجل ... - ألم تسمع ما قلت؟
وشى الصوت بالضجر فغلب الصمت. وإذا بالرجل يقول إيذانا بانتهاء الحديث: ارجع إليهم لتستأذن، ثم عد.
وقام همام فلثم يد جده ومضى. وجد عم كريم ينتظر، فتحرك الرجل وتبعه الشاب في سكون. ولما انتهيا إلى السلاملك، رأى همام فتاة في منطقة الضوء بأول الحديقة، وقد سارعت إلى الاختفاء. غير أنه لمح منها العارض والعنق وقامة ممشوقة. وعاد صوت الجد يتردد في أذنيه وهو يقول: «أن تعيش في هذا البيت وأن تتزوج به.» بفتاة كهذه الفتاة، وعيشة خبرها أبي. كيف هانت عليه المقامرة؟! وكيف وبأي قلب تحمل الحياة بعد ذلك وراء عربة اليد؟! وهذه الفرصة السعيدة كأنها حلم؛ حلم أبي منذ عشرين عاما.
18
عاد همام إلى الكوخ فوجد أسرته جالسة تترقب عودته، وأحاطوا به مستطلعين وسأله أدهم بلهفة: ماذا وراءك يا بني؟
ولاحظ همام أن قدري معصوب العين؛ فقرب رأسه من وجهه ليتحقق من الأمر فقال أدهم بأسى: نشبت معركة حامية بين أخيك وبين ذلك الرجل.
وأشار بيده نحو كوخ إدريس الذي بدا غارقا في الظلمة والصمت، على حين قال قدري بغضب: كل ذلك بسبب التهمة الخبيثة الكاذبة التي قذفت بها من داخل البيت.
وأشار همام نحو كوخ إدريس، وتساءل في قلق: ماذا يحدث هنالك؟
فقال أدهم بحزن: الرجل وزوجه يبحثان عن ابنتهما الهاربة.
فصاح قدري: من المسئول عن ذلك إلا الرجل الفظ اللعين؟!
فتوسلت أميمة قائلة: أخفت من صوتك.
فصاح قدري في حنق: ماذا تخافين؟ ... لا شيء إلا الطمع في عودة لن تتحقق. صدقيني إنك لن تغادري هذا الكوخ حتى الممات.
فاحتد أدهم قائلا: كفى هذيانا، أنت مجنون وحق خالق الكون! ألم تكن تريد أن تلحق بالفتاة الهاربة؟ - وسألحق بها. - اسكت، لقد ضقت بحماقاتك!
وقالت أميمة بجزع: لن تطيب لنا الحياة بجوار إدريس بعد اليوم.
والتفت أدهم نحو همام وسأله: قلت ماذا وراءك؟
فقال همام بصوت لا أثر للسرور فيه: دعاني جدي إلى الإقامة في البيت الكبير.
وترقب أدهم بقية للحديث، فلما لم ينبس الشاب تساءل في يأس: ونحن؟ ماذا قال عنا؟
فهز همام رأسه في حزن وهمس: لا شيء.
فضحك قدري ضحكة كلدغة عقرب وسأله في سخرية: وماذا جاء بك؟ - نعم ماذا جاء بي؟ لا شيء إلا أن السعادة لم تخلق لينعم بها أمثالي. وقال بحزن: لم أقصر في تذكيره بكم.
فقال قدري بحنق: شكرا، ولكن ماذا جعله يؤثرك علينا؟ - أنت تعلم أن لا شأن لي في ذلك.
وقال أدهم وهو يتنهد: لا شك في أنك يا همام خيرنا جميعا.
فهتف قدري بمرارة: وأنت يا أبي الذي لم تذكره إلا بخير لا يستحقه!
فقال أدهم: أنت لا تفهم شيئا. - هذا الرجل أسوأ من ابنه إدريس.
فتوسلت أميمة قائلة: إنك تقطع قلبي، وتغلق أبواب الأمل في وجهك.
فصاح قدري باستهانة: لا أمل إلا في هذا الخلاء، أدركوا هذا وأريحوا أنفسكم، ايئسوا من هذا البيت اللعين، أنا لا أخاف هذا الخلاء، حتى إدريس نفسه لا أخافه، وبوسعي أن أكيل له من الضربات أضعاف ما يكيل لي. ابصقوا على هذا البيت وأريحوا أنفسكم.
وساءل أدهم نفسه: «أيمكن أن تمضي هذه الحياة على هذا النحو إلى الأبد؟ ولماذا أيقظت يا أبي طموحنا إليك قبل أن ترتضي العفو لنا؟ وأي شيء يمكن أن يلين قلبك إذا كان ذلك الزمن الطويل لم يلنه؟ وما جدوى الأمل إذا كان ذلك العذاب كله لم يزكنا لرحمة من نحب؟» وقال الرجل بصوت كالغروب: خبرني يا همام عما لديك.
فقال همام في حياء: قال لي اذهب فاستأذن ثم عد.
وشى الظلام بمحاولة فاشلة من أميمة لكتم انتحابها، وتساءل قدري في خبث: وماذا يؤخرك؟
فقال أدهم في حزم: اذهب يا همام مصحوبا بالسلامة والبركات.
وقال قدري بلهجة جدية كاذبة: اذهب يا شهم ولا تلق بالا إلى أحد.
فصاح أدهم: لا تهزأ بأخيك الطيب.
فقال قدري ضاحكا: إنه شرنا جميعا.
فهتف همام بحدة: إذا قررت البقاء فلن يكون هذا إكراما لك أنت.
فقال أدهم بقوة: بل اذهب دون تردد!
وقالت أميمة خلال دموعها: نعم .. اذهب بالسلامة.
فقال همام: كلا يا أمي، لن أذهب!
فتساءل أدهم: أجننت يا همام؟ - كلا يا أبي، الأمر يحتاج إلى تفكير ومشاورة. - لا حاجة بك إلى ذلك، ولا تحملني ذنبا جديدا.
فقال همام بعزم وهو يشير نحو كوخ إدريس: يخيل إلي أن أحداثا ستقع.
فقال قدري ساخرا: إنك أضعف من أن تدفع شرا عن نفسك فضلا عن الآخرين.
فقال همام بازدراء: خير ما أفعل أن أتجاهل ما تقول.
فعاد أدهم يقول برجاء: اذهب يا همام!
فاتجه همام نحو الكوخ وهو يقول: سأظل إلى جانبك.
19
لم يبق من الشمس إلا الشفق، وانقطعت السابلة، وانفرد بالخلاء قدري وهمام والأغنام. مر النهار فلم يتبادلا طواله إلا ما تقتضيه ضرورة الشركة في العمل. وغاب قدري شطرا كبيرا من النهار فخمن همام أنه يتشمم أخبار هند، ولبث وحده في ظل الصخرة على كثب من الأغنام. وفجأة، وفي شيء من التحدي، سأل قدري همام: خبرني عما انتويت من ذهابك إلى جدك أو عدولك؟
فقال همام بامتعاض: هذا شأن يخصني وحدي.
فاحتدم الغيظ في قلب قدري، ولاحت بوادره في وجهه كطلائع الظلام فوق المقطم، وتساءل: لماذا بقيت؟ .. ومتى تذهب؟ .. متى تجد الشجاعة لإعلان نيتك؟ - بل بقيت لأتحمل نصيبي من العناء الذي خلقته فضائحك.
فضحك قدري ضحكة كاسرة وقال: هكذا تقول لتداري حسدك!
فهز همام رأسه كالمتعجب وقال: إنك تستحق الرثاء لا الحسد!
فاقترب قدري منه وأطرافه ترتجف من الحنق، وقال بصوت مخنوق بالغضب: ما أبغضك حين تتظاهر بالحكمة!
فحدجه همام بنظرة احتقار دون أن ينبس، فعاد الآخر يقول: يجب أن تخجل الحياة لانتساب أمثالك إليها.
فلم يغض همام من بصره تحت النظرات المتقدة التي تنصب عليه وقال بثبات: اعلم أنني لا أخافك. - هل وعدك البلطجي الأكبر بالحماية؟ - إن الغضب يجعل منك شيئا حقيرا تعافه النفس.
وفجأة لطمه قدري على وجهه. لم تدهمه اللطمة فردها بأشد منها وهو يقول: لا تتماد في جنونك.
وانحنى قدري بسرعة فالتقط حجرا وقذف به أخاه بكل ما أوتي من قوة. وبادر همام؛ ليتفادى الحجر ولكنه أصاب جبينه. ندت عنه آهة وجمد في موقفه والغضب يشتعل في عينيه. وإذا بالغضب يختفي منهما فجأة كأنه شعلة ردمت بتراب كثيف. وإذا بفراغ قاتم يحل فيهما. فبدت العينان وكأنهما تنظران إلى الداخل. وترنح ثم انكفأ على وجهه.
وتبدل قدري حالا بعد حال، فزايله الغضب، وتركه حديدا باردا بعد انصهار، وركبه الخوف. ترقب بلهفة أن ينهض المنكفئ أو أن يتحرك ولكنه لم يرحم لهفته. وانحنى فوقه، ومد إليه يده يهزه في رفق ولكنه لم يستجب. وسواه على ظهره؛ ليخلص أنفه وفاه من الرمال؛ فاستلقى الآخر محملق العينين ولا حراك به. وركع قدري إلى جانبه، وراح يهزه، ويدلك صدره ويديه، وينظر بفزع إلى الدم المتدفق بغزارة من جرحه. وناداه برجاء فلم يجب. وبدا صمته كثيفا عميقا، كأنه جزء لا يتجزأ من كيان، كجموده الذي بدا غريبا عن الحي والجماد معا؛ لا إحساس ولا انفعال ولا اهتمام بشيء، كأنما ألقي إلى الأرض من مكان مجهول فلم يمت إليها بسبب. عرف قدري الموت بفطرته فراح يشد شعر رأسه في يأس، ونظر فيما حوله خائفا، ولكن لم يكن هناك من حي إلا الأغنام والحشرات، وجميعها انصرفت عنه دون اكتراث، سينتشر الليل ويستحكم الظلام.
وقام بعزم، فجاء بعصاه، واتجه إلى موضع بين الصخرة الكبيرة وبين الجبل، وراح يحفر الأرض ويرفع التراب بيديه، ويواصل العمل بعناد، وهو يتصبب عرقا وترتجف منه الأوصال. وهرع نحو أخيه، هزه وناداه للمرة الأخيرة دون أن يتوقع جوابا. وقبض على أسفل ساقيه وجره حتى أودعه الحفر، وألقى عليه نظرة وهو يتنهد، وتردد مليا، ثم أهال عليه التراب. ووقف يجفف عرق وجهه بكم جلبابه. وكلما رأى بقعة دم في الرمال غطاها بالتراب. وارتمى على الأرض من شدة الإعياء. وشعر بقوته تتخلى عنه، وبرغبة في البكاء، ولكن الدموع استعصت عليه. وقال: «غلبني الموت!» لم يدعه ولم يقصده ولكنه يجيء كما يحلو له. ولو أنه انقلب تيسا لغاب في الأغنام، أو ذرة من رمال لاختفى في الأرض. ما دمت لا أستطيع أن أرد الحياة فلا يجوز أن أدعي القوة أبدا. وهيهات أن تمحى تلك النظرة من رأسي أبدا! إن الذي دفنته لم يكن من الأحياء ولا من الجماد، ولكنه من صنع يدي!
20
عاد قدري إلى الدار يسوق الأغنام، ولم تكن عربة أدهم بموقفها. وجاءه صوت أمه من الداخل وهي تتساءل: لماذا تأخرتما عن موعدكما؟
فدفع الأغنام إلى الممشى المفضي إلى حظيرتها وهو يقول: غلبني النوم، ألم يحضر همام؟
رفعت أميمة صوتها؛ ليعلو على أصوات الطفلين قائلة: كلا، ألم يكن معك؟
فازدرد ريقا جافا وقال: غادرني منذ الظهر دون أن يخبرني أين هو ذاهب، فظننته رجع إلى هنا.
فتساءل أدهم وكان قد وصل ومضى يدخل العربة إلى الفناء: هل تشاجرتما؟ - أبدا. - أظنك كنت السبب في ذهابه، ولكن أين هو؟
خرجت أميمة إلى الفناء، على حين أغلق قدري باب الحظيرة، وراح يغسل وجهه ويديه من ماء طشت تحت الزير. لا بد من مواجهة الموقف. الدنيا تغيرت ولكن اليأس قوة. وانضم إلى والديه في الظلام، وهو يجفف وجهه بطرف جلبابه. وتساءلت أميمة: أين ذهب همام؟ لم يغب كهذه المرة من قبل.
فوافقها أدهم قائلا: نعم، خبرنا كيف ولماذا ذهب؟
وارتعد قلب قدري لصورة خطرت برأسه، لكنه قال: كنت جالسا في ظل الصخرة، فلاحت مني التفاتة فرأيته يبتعد صوب حينا، وهممت أن أناديه ولكني لم أفعل.
فقالت أميمة في حسرة: ليتك ناديته ولم تستسلم لزعلك.
ونظر أدهم حائرا في الظلام حوله، فرأى ضوءا خافتا خلال كوة في كوخ إدريس دلت على أن الحياة دبت فيه من جديد، ولكنه لم يأبه لذلك، وثبت بصره على البيت الكبير وتساءل: أتراه ذهب إلى جده؟
فقالت أميمة بإنكار: لا يفعل ذلك دون إخبارنا.
فقال قدري بصوت شاحب: لعل الحياء منعه!
فسدد أدهم نحوه نظرة ارتياب منقبض الصدر؛ لخلو صوته من السخرية والعدوان وقال: دفعناه إلى الذهاب فأبى.
فقال قدري في إعياء: تحرج من القبول أمامنا! - ليس هذا من خلقه، وأنت ما لك كالمريض؟!
فقال قدري بحدة: حملت عبء العمل وحدي!
فهتف أدهم في ضيق المستغيث: الحق أقول .. إن قلبي غير مطمئن.
فقالت أميمة بصوت مبحوح: سأذهب إلى البيت الكبير؛ لأسأل عنه.
فهز أدهم منكبيه في يأس وقال: لن يرد عليك أحد، ولكني أؤكد لك أنه لم يذهب.
فنفخت أميمة في كرب وقالت: رباه، لم يضطرب هكذا قلبي من قبل، افعل شيئا يا رجل!
فتنهد أدهم بصوت مسموع في الظلام وقال: فلنفتش عنه في كل ناحية.
فقال قدري: لعله في الطريق إلينا.
فهتفت أميمة: لا ينبغي أن ننتظر.
ثم مستدركة في جزع، وهي تنظر صوب كوخ إدريس: أيكون إدريس قد صادفه في طريقه؟
فقال أدهم بامتعاض: غريم إدريس قدري لا همام. - إنه لا يتردد عن القضاء على أي منا، إني ذاهبة إليه؟
فحال أدهم بينها وبين الذهاب وهو يقول: لا تزيدي أمورنا تعقيدا، أعدك إذا لم نعثر عليه أن أذهب إلى إدريس، وأن أذهب إلى البيت الكبير.
وحدج شبح قدري بنظرة قلقة. ما باله واجما؟! أليس عنده أكثر مما قال؟ وأين أنت يا همام؟!
واندفعت أميمة لتغادر الفناء فمال أدهم نحوها وأمسك بمنكبها. وإذا بباب البيت الكبير يفتح، فتطلعوا نحوه. وبعد قليل لاح شبح عم كريم وهو يقترب منهم فخرج إليه أدهم وهو يقول: «أهلا بك يا عم كريم.» فحياه الرجل وقال: سيدي الكبير يسأل عما أخر همام.
فقالت أميمة بيأس: لا ندري أين هو حتى ظنناه عندكم. - سيدي يسأل عما أخره!
فهتفت أميمة: أعوذ بالله من أوهام قلبي.
وذهب عم كريم. وأخذت أميمة تحرك رأسها في اضطراب ينذر بالانفجار، فساقها أدهم أمامه إلى حجرتهما الداخلية حيث علا بكاء الصغيرين، وصاح بوحشية: لا تغادري الحجرة، سأعود به، ولكن إياك أن تغادري الحجرة.
وعاد إلى الفناء فعثر على قدري جالسا على الأرض فانحنى فوقه هامسا: خبرني ماذا تعرف عن أخيك؟
فرفع رأسه نحوه بشدة، ولكن شيئا منعه من الكلام فعاد الرجل يسائله: خبرني يا قدري ماذا فعلت بأخيك؟
فقال الشاب بصوت لا يكاد يسمع: لا شيء.
وارتد الرجل نحو الداخل، ثم رجع بمصباح فأشعله ووضعه على عربته فسقط نوره على وجه قدري فتفحصه الرجل بريبة وقال: وجهك ينذر بالشقاء.
وجاء صوت أميمة من الداخل مختلطا بأصوات الطفلين؛ ليقول كلاما لم يميزه أحد فصاح أدهم: اسكتي يا ولية، موتي إن شئت ولكن في صمت!
وعاد إلى تفحص ابنه. وبغتة ارتعدت أطرافه. وأمسك بطرف كمه وقال في فزع: دم! ما هذا؟ دم أخيك؟!
فحملق قدري في كم جلبابه ثم انكمش بحركة لا إرادية، وحنى رأسه في يأس. وأطرق قدري بحركته اليائسة، فجذبه أدهم حتى أقامه، ثم دفعه إلى الخارج. دفعه بقسوة لم يعهدها من قبل، وغشي عينيه ظلام فوق الظلام المحيط.
21
دفعه نحو الخلاء قائلا: سنميل نحو خلاء الدراسة كي لا نمر أمام كوخ إدريس.
وأوغلا في الظلام، وقدري يسير كالمترنح تحت قبضة أبيه الناشبة في منكبه. وتساءل أدهم وهو يجد في السير بصوت أدركه الهرم: خبرني هل ضربته؟ بأي شيء ضربته؟ وعلى أي حال تركته؟
لم يجب قدري. كانت قبضة أبيه شديدة ولكنه لم يكد يشعر بها. وكان ألمه شديدا ولكنه لم يفصح عنه، وود أن الشمس لا تطلع أبدا. - ارحمني وتكلم، ولكنك لم تعرف الرحمة، وقد قضيت على نفسي بالعذاب يوم أنجبتك، أنا الذي تطاردني اللعنات منذ عشرين عاما، وها أنا ذا أطلب الرحمة ممن لا يعرفها.
فانفجر قدري باكيا، حتى ارتجف منكبه في قبضة أدهم القاسية، وظل يرتجف حتى سرت عدواه إلى أدهم، لكنه قال: أهذا جوابك؟ لماذا يا قدري؟ لماذا؟ كيف هان عليك؟ اعترف في الظلام قبل أن ترى نفسك في ضوء النهار.
فهتف قدري: لا طلع النهار! - نحن أسرة الظلام، لن يطلع علينا نهار! وكنت أحسب الشر مقيما في كوخ إدريس، فإذا به في دمنا نحن. إن إدريس يقهقه ويسكر ويعربد، أما نحن فيقتل بعضنا البعض، رباه .. هل قتلت أخاك؟ - أبدا! - فأين هو؟ - ما قصدت قتله!
فصاح أدهم: لكنه قتل!
وأجهش قدري في البكاء واشتدت قبضة أبيه. إذن قتل همام، زهرة العمر وحبيب الجد، كأنه لم يكن، لولا الألم المفترس ما صدقت.
وبلغا الصخرة الكبيرة فسأله أدهم بصوت غليظ: أين تركته يا مجرم؟
فسار قدري نحو الموضع الذي حفره لأخيه، ووقف عنده فيما بين الصخرة والجبل. وتساءل أدهم: أين أخوك؟ لا أرى شيئا.
فقال قدري بصوت لا يكاد يسمع: هنا دفنته.
فصاح أدهم: دفنته؟!
وأخرج من جيبه علبة ثقاب وأشعل عودا تفحص الموضع على ضوئه حتى رأى قطعة من الأرض قلقة المستوى، كما رأى مسحب الجثة الذي انتهى عندها. تأوه أدهم من الألم. وراح يزيح التراب بيدين مرتعشتين. وواصل عمله في جو رهيب حتى مست أصابعه رأس همام. وغرز يديه إلى ما تحت إبطيه وسحب الجثة في رفق. وجثا على ركبتيه إلى جانبها واضعا يديه على رأسه، مغمض العينين، مثالا للتعاسة والخيبة. وزفر من أعماقه، ثم غمغم: إن حياة أربعين عاما من العمر تبدو سخفا سقيما أمام جثتك يا بني.
وقام بغتة، ونظر نحو قدري وهو يقف أمام الجثة من الناحية الأخرى، فعانى لحظات كراهية عمياء، وقال بصوت غليظ: سيعود همام إلى الكوخ محمولا على عنقك.
فجفل قدري متراجعا، ولكن الرجل سارع إليه دائرا حول الجثة ثم قبض على منكبه وهتف: احمل أخاك!
فقال قدري بصوت كالأنين: لا أستطيع! - إنك استطعت قتله. - لا أستطيع يا أبي! - لا تقل «أبي»، قاتل أخيه لا أب له، لا أم له، لا أخ له. - لا أستطيع!
فشد قبضته عليه وقال: على القاتل أن يحمل ضحيته!
حاول قدري أن يفلت من قبضة أدهم، ولكن أدهم لم يمكنه، وانهال في عصبية على وجهه باللكمات فلم يتفاد من لكمة أو يتأوه من ألم. وكف الرجل، ثم قال: لا تضيع الوقت، أمك تنتظر.
وارتعد قدري لدى ذكر أمه، فقال برجاء: دعني أختفي.
فجذبه نحو الجثة وهو يقول: هلم نحمله معا.
تحول أدهم إلى الجثة ووضع يديه تحت إبطي همام، وانحنى قدري واضعا يديه تحت الساقين. رفعا الجثة معا، وسارا في بطء نحو خلاء الدراسة. أوغل أدهم في مشاعره الأليمة حتى فقد أي شعور بالألم أو بسواه. ولبث قدري يعاني ألما من خفقان قلبه وارتجاف أطرافه. وامتلأ أنفه برائحة ترابية نفاذة على حين سرى مس الجثة من يديه إلى أعماقه. وكان الظلام غليظا بينما نضح الأفق بأنوار الأحياء الساهرة. وشعر قدري باليأس يكتم آخر أنفاسه فتوقف قائلا لأبيه: سأحمل الجثة وحدي.
ووضع ذراعا تحت الظهر وأخرى تحت الفخذين، وسار يتبعه أدهم.
22
وعندما اقتربا من الكوخ جاءهما صوت أميمة متسائلا في جزع: هل وجدتماه؟
فصاح أدهم بصوت آمر: اسبقيني إلى الداخل!
وسبق قدري إلى الكوخ؛ ليتأكد من اختفائها. ووقف قدري عند مدخل الكوخ لا يريد أن يتحرك. وأشار له أبوه بالدخول، فامتنع قائلا في صوت هامس: لا أستطيع أن ألقاها.
فهمس الأب حانقا: استطعت ما هو أفظع.
فتشبث قدري بموقفه وهو يقول: كلا، هذا أفظع!
ودفعه أدهم أمامه بحزم فاضطر إلى التحرك حتى بلغ الحجرة الخارجية. وانقض أدهم على أميمة بسرعة فكتم براحته الصرخة التي أوشكت على الإفلات من فيها، وقال بقسوة: لا تصرخي يا ولية، لا ينبغي أن نلفت الأسماع إلينا حتى نتدبر الأمر، فلنقاس المقدور صامتين، ولنتحمل الألم صابرين، الشر من بطنك ومن صلبي خرج، واللعنة حقت علينا جميعا.
وسد فاها بقوة. وحاولت التخلص من يده عبثا. أرادت أن تعضها فلم تتمكن. اضطربت أنفاسها وخارت قواها فسقطت مغشيا عليها. ولبث قدري واقفا يحمل الجثة في صمت وخزي مركزا بصره على المصباح ليتجنب النظر إليها. واتجه أدهم نحوه، فساعده على وضع الجثة على الفراش، ثم سجاها برفق. ونظر قدري إلى جثة أخيه المسجاة على الفراش الذي اقتسماه طوال العمر، فشعر بأنه لم يعد له مكان في الدار. وحركت أميمة رأسها، ثم فتحت عينيها فبادر أدهم إليها وهو يقول بحزم: إياك أن تصرخي.
وأرادت أن تنهض فساعدها على النهوض وهو يحذرها من إحداث صوت. وهمت بالارتماء على الفراش فحال الرجل دون ذلك، فوقفت مغلوبة على أمرها واندفعت تنفس عن كربها بشد شعرها بقسوة فانتزعت منه خصلات بعد خصلات. ولم يبال الرجل بما تفعل، وقال بغلظة: افعلي ما يريحك ولكن في صمت.
فقالت بصوت مبحوح: ابني .. ابني!
فقال أدهم في ذهول: هذه جثته، لم يعد ابنك ولا ابني، وهذا هو قاتله، اقتليه إن شئت.
ولطمت أميمة خديها وقالت لقدري بوحشية: إن أحط الوحوش تتبرأ من فعلتك!
فحنى قدري رأسه في صمت، على حين قال أدهم بوحشية: هل تذهب هذه الروح هدرا؟ لا ينبغي أن تحيا، هذه هي العدالة.
فهتفت أميمة: كان أمس أملا مشرقا، قلنا له اذهب فأبى، ليته ذهب، لو لم يكن كريما نبيلا رحيما لذهب، أيكون جزاء هذا القتل؟! كيف هان عليك يا صخري القلب! لست ابني ولست أمك!
لم ينبس قدري، لكنه قال لنفسه: «قتلته مرة وهو يقتلني مرة كل ثانية، لست حيا ، من قال إني حي؟!» وسأله أدهم بفظاظة: ماذا أفعل بك؟
فقال قدري بهدوء: قلت إنه لا ينبغي أن أحيا.
فهتفت أميمة: كيف سولت لك نفسك قتله؟!
فقال قدري في يأس: لا جدوى من النواح، إني مستعد للعقاب، والقتل أهون مما أعاني.
فقال أدهم بحنق: لكنك جعلت حياتنا أيضا أفظع من الموت.
وهبت أميمة هاتفة وهي تلطم خديها: لن أحب هذه الحياة، ادفنوني مع ابني، لماذا لا تدعني أصوت؟
فقال أدهم بمرارة وسخرية: ليس شفقة على حنجرتك، ولكني أخشى أن يسمعنا الشيطان.
فقال قدري باستهانة: فليسمع كيف شاء، لم أعد أكترث للحياة.
وإذا بصوت إدريس يعلو قريبا من مدخل الكوخ: أخي أدهم! تعال يا مسكين!
فسرت الرعدة فيهم جميعا، غير أن أدهم صاح به: عد إلى كوخك، واحذر أن تستفزني.
فقال إدريس بصوت قوي: شر أهون من شر، مصيبتكم نجتكم من غضبي، ولكن لندع هذا الحديث، كلانا مصاب، أنت فقدت العزيز الغالي، وأنا ضاعت ابنتي الوحيدة؛ كان الأبناء عزاءنا في منفانا ولكنهم ذهبوا، تعال يا مسكين نتبادل العزاء.
إذن ذاع السر! كيف ذاع؟! ولأول مرة يخاف قلب أميمة على قدري. وقال أدهم: لا تهمني شماتتك، من يذق ألمي تهن عليه الشماتة!
فجاء صوت إدريس مستنكرا: شماتة؟! ألا تدري أنني بكيت عندما رأيتك تسحب الجثة من الحفرة التي حفرها قدري؟!
فصاح أدهم بغضب: تجسس حقير! - لم أبك على القتيل وحده، ولكن على القاتل أيضا! وقلت لنفسي: يا لك من مسكين يا أدهم، فقدت شابين في ليلة واحدة!
وصوتت أميمة دون اكتراث لأحد، واندفع قدري خارج الكوخ بغتة. وجرى أدهم وراءه. وصرخت أميمة: لا أريد أن أفقد الاثنين!
أراد قدري أن يثب على إدريس، ولكن أدهم دفعه بعيدا عنه، ثم وقف أمام الرجل متحديا وهو يقول: احذر أن تتعرض لنا!
فقال إدريس بهدوء: أنت أحمق يا أدهم، لا تفرق بين الصديق وبين العدو، تريد أن تعارك أخاك دفاعا عن قاتل ابنك! - اذهب عني.
فقال إدريس ضاحكا: كما تشاء، تقبل عزائي والسلام عليكم.
غاب إدريس في الظلام. وتحول أدهم نحو قدري فوجد أميمة واقفة تتساءل عنه، فجزع الرجل وراح ينظر في الظلام ويصيح بأعلى صوته: قدري .. قدري .. أين أنت؟!
وجاءه صوت إدريس وهو يصيح بقوة: قدري .. قدري .. أين أنت؟!
23
دفن همام في مقبرة تابعة للوقف بباب النصر. سار في جنازته قوم كثيرون من معارف أدهم، أكثرهم باعة من زملائه، وأقلهم زبائن ممن أسرتهم رقة أخلاقه وحسن معاملته. وفرض إدريس نفسه على الجنازة فاشترك في تشييعها، بل وقف يتقبل العزاء بصفته عم الفقيد. وسكت أدهم كارها، فسار في الجنازة كثيرون من الفتوات والبلطجية والبرمجية واللصوص وقطاع الطرق. وعند الدفن وقف إدريس فوق القبر يشجع أدهم بكلمات العزاء، والآخر صابر متصبر لا يجيب ودموعه تستبق على خديه. وروحت أميمة عن كربها باللطم والصوات والتمرغ في التراب. وعندما تفرق المشيعون، التفت أدهم إلى إدريس وقال بحنق: ألا يوجد حد لقسوتك؟!
فتظاهر إدريس بالدهشة وتساءل: عم تتحدث يا أخي المسكين؟
فقال أدهم بحدة: لم أتصورك على هذا القدر من القسوة على رغم سوء ظني بك، الموت نهاية كل حي، فما وجه الشماتة فيه؟!
فقال إدريس وهو يضرب كفا على كف: الحزن أخرجك عن أدبك، لكني مسامحك. - متى تقر بأنه لم تعد تربطنا صلة؟ - لترحمنا السماء، ألست أخي؟! هذه رابطة ليس في الإمكان فصمها. - إدريس! كفاك ما فعلت بي. - الحزن قبيح، ولكن كلينا مصاب، أنت فقدت همام وقدري وأنا فقدت هند، أصبح للجبلاوي العظيم حفيدة عاهرة وحفيد قاتل. وعلى أي حال فأنت خير حالا مني، إذ لك ذرية تعوضك عما فات. فتساءل أدهم في حسرة: أما زلت تحسدني؟
فقال إدريس متعجبا: إدريس يحسد أدهم؟!
فعلا صوت أدهم وهو يهدر: إذا لم يكن جزاؤك من جنس عملك فعلى الدنيا العفاء. - العفاء .. العفاء.
ومرت أيام كئيبة مفعمة بالأشجان. وقهر الحزن أميمة فساءت صحتها واعتصرها الضمور. وفي أعوام قلائل بلغ أدهم من الهرم ما لا يبلغ في عمر مديد. وبات الزوجان يعانيان الهزال والمرض. ويوما اشتدت عليهما وطأة المرض فركنا إلى الرقاد ، أميمة مع طفليها في الغرفة الداخلية، وأدهم في الغرفة الخارجية، غرفة قدري وهمام. ومضى النهار وجاء الليل فلم يشعلا مصباحا، وقنع أدهم بضوء القمر المنبعث من الفناء. وراح يغفو قليلا ويستيقظ قليلا في حال بين الوعي والذهول. وجاءه صوت إدريس من خارج الكوخ وهو يسأله متهكما: ألست في حاجة إلى خدمة؟
فانقبض صدره ولم يجبه. وكان يكره الساعة التي يغادر فيها الآخر كوخه؛ ليذهب إلى سهرته الليلية. وجاءه الصوت مرة أخرى وهو يقول: اشهدوا يا ناس على بري وعقوقه.
وذهب وهو يغني:
كنا تلاتة طلعنا الجبل نصطاد،
واحد قتله الهوى، والتاني خدوه الأحباب.
امتلأت عينا أدهم بالدموع. هذا الشر الذي لا يصد عن اللهو. يقاتل ويقتل ويحظى بكل احترام. يقسو ويستبد هازئا بالعواقب وله ضحكة تجلجل فتملأ الآفاق. له لذة في العبث بالضعفاء ويسمر في المآتم ويغني فوق شواهد القبور. الموت يدنو مني وهو ما زال يضحك ساخرا. القتيل في التراب والقاتل ضائع، وفي كوخي بكاء على الاثنين. ضحكة الطفولة في الحديقة استحالت مع الأيام عبوسة غارقة في الدمع. وفي الداخل بقية جسدي يتوجع. لماذا هذا العناء كله؟ وأين صفو الأحلام؟ أين؟
وخيل إلى أدهم أنه يسمع وقع أقدام؛ أقدام بطيئة وثقيلة استثارت ذكريات غامضة كرائحة زكية مؤثرة تستعصي على الإدراك والتحديد. حول وجهه نحو مدخل الكوخ فرأى الباب يفتح، ثم رآه يمتلئ بشيء كجسم هائل. حملق في دهش، وأحد بصره في أمل يكتنفه يأس، وندت عنه آهة عميقة، وغمغم متسائلا: أبي؟!
وخيل إليه أنه يسمع الصوت القديم وهو يقول: مساء الخير يا أدهم.
فاغرورقت عيناه، وهم بالقيام فلم يستطع، ووجد غبطة وبهجة لم يجدهما منذ أكثر من عشرين عاما. وقال بصوت متهدج: دعني أصدق.
فقال: أنت تبكي وأنت الذي أخطأت.
فقال أدهم بصوت يشرق بالدمع: الخطأ كثير والعقاب كثير، ولكن حتى الحشرات المؤذية لا تيئس من العثور على ظل. - هكذا تعلمني الحكمة. - عفوا عفوا، الحزن أرهقني، والمرض ركبني، حتى أغنامي مهددة بالهلاك. - جميل أن تخاف على أغنامك.
تساءل أدهم في رجاء: هل عفوت عني؟
أجاب بعد صمت: نعم.
فهتف أدهم بجسم مرتعش: الشكر لله، منذ قليل كنت أقرع قاع هاوية اليأس بيدي. - فعثرت علي فيها؟ - نعم كالصحو بعد الكابوس. - لذلك فأنت ولد طيب.
فتأوه أدهم قائلا: أنجبت قاتلا وقتيلا. - الميت لا يعود، فماذا تطلب؟
فتنهد أدهم قائلا: كنت أهفو للغناء في الحديقة، ولكن لن يطيب لي اليوم شيء.
فقال: سيكون الوقف لذريتك. - الشكر لله.
فقال: لا تجهد نفسك واركن إلى النوم. •••
وفي تواريخ متقاربة ودع الحياة أدهم، فأميمة، ثم إدريس. وكبر الأطفال. وعاد قدري بعد غيبة طويلة ومعه هند ومعهما أطفال. نشئوا جنبا إلى جنب وخالطوا غيرهم فازدادوا بهم عددا. وانتشر العمران بفضل أموال الوقف فارتسمت في صفحة الوجود حارتنا. ومن هؤلاء وأولئك جاء أبناء حارتنا.
جبل
24
أقيمت بيوت الوقف في خطين متقابلين يصنعان حارتنا. ويبدأ الخطان من خط يقع أمام البيت الكبير، ويمتدان طولا في اتجاه الجمالية. أما البيت الكبير فقد ترك خاليا من جميع الجهات على رأس الحارة من ناحية الصحراء. وحارتنا، حارة الجبلاوي، أطول حارة في المنطقة. أكثر بيوتها ربوع كما في حي آل حمدان، وتكثر الأكواخ من منتصفها حتى الجمالية. ولن تتم الصورة إلا بذكر بيت ناظر الوقف على رأس الصف الأيمن من المساكن، وبيت الفتوة على رأس الصف الأيسر قبالته.
كان البيت الكبير قد أغلق أبوابه على صاحبه وخدمه المقربين. ومات أبناء الجبلاوي مبكرين فلم يبق من سلالة الذين أقاموا وماتوا في البيت الكبير إلا الأفندي ناظر الوقف في ذلك الوقت. أما أهل الحارة عامة فمنهم البائع الجوال، ومنهم صاحب الدكان أو القهوة، وكثيرون يتسولون، وثمة تجارة مشتركة يعمل فيها كل قادر هي تجارة المخدرات وبخاصة الحشيش والأفيون والمنافع. وكان طابع حارتنا - كحالها اليوم - الزحام والضجيج. الأطفال الحفاة أشباه العرايا يلعبون في كل ركن، ويملئون الجو بصراخهم والأرض بقاذوراتهم. وتكتظ مداخل البيوت بالنساء، هذه تخرط الملوخية، وتلك تقشر البصل، وثالثة توقد النار، يتبادلن الأحاديث والنكات، وعند الضرورة الشتائم والسباب. والغناء والبكاء لا ينقطعان، ودقة الزار تستأثر باهتمام خاص. وعربات اليد في نشاط متواصل. ومعارك باللسان أو بالأيدي تنشب هنا وهناك، وقطط تموء وكلاب تهر، وربما تشاجر النوعان حول أكوام الزبالة. والفئران تنطلق في الأفنية وعلى الجدران، وليس بالنادر أن يتجمع قوم لقتل ثعبان أو عقرب. أما الذباب فلا يضاهيه في الكثرة إلا القمل، فهو يشارك الآكلين في الأطباق والشاربين في الأكواز، يلهو في الأعين ويغني في الأفواه كأنه صديق الجميع.
وما إن يجد شاب في نفسه جرأة أو في عضلاته قوة حتى يندفع إلى التحرش بالآمنين، والاعتداء على المسالمين، فيفرض نفسه فتوة على حي من أحياء الحارة، يأخذ الإتاوات من العاملين، ويعيش ولا عمل له إلا الفتونة. هكذا وجد فتوات الأحياء مثل: قدرة والليثي وأبو سريع وبركات وحمودة. وكان زقلط أحد هؤلاء الفتوات، فخاض معارك كثيرة مع فتوة بعد فتوة حتى هزم الجميع وصار فتوة الحارة كلها. وفرض الإتاوات على الفتوات جميعا. ورأى الأفندي ناظر الوقف أنه بحاجة إلى مثل هذا الرجل؛ لينفذ أوامره أو يدفع عنه ما قد يتهدده من شر فقربه ورتب له راتبا عظيما من ريع الوقف، فأقام زقلط في بيته المقابل لبيت الناظر واستحكم سلطانه. وعند ذلك ندر وقوع المعارك بين الفتوات؛ إذ إن الفتوة الأكبر لا يرتاح إلى هذا النوع من المعارك الذي قد ينتهي بتكبير فتوة، وبالتالي بتهديد مركزه هو؛ لذلك لم يجد الفتوات متنفسا لقوة شرهم الحبيسة إلا في الأهالي المساكين المسالمين. كيف انتهى الأمر بحارتنا إلى هذه الحال؟
لقد وعد الجبلاوي أدهم بأن يكون الوقف لخير ذريته. وشيدت الربوع ووزعت الخيرات وحظي الناس بفترة من العمر السعيد. ولما أغلق الأب بابه واعتزل الدنيا احتذى الناظر مثاله الطيب حينا، ثم لعب الطمع بقلبه فنزع إلى الاستئثار بالريع. بدأ بالمغالطة في الحساب والتقتير في الأرزاق، ثم قبض يده قبضا مطمئنا إلى حماية فتوة الحارة الذي اشتراه. ولم يجد الناس بدا من ممارسة أحقر الأعمال. وتكاثف عددهم؛ فزاد فقرهم وغرقوا في البؤس والقذارة. وعمد الأقوياء إلى الإرهاب، والضعفاء إلى التسول، والجميع إلى المخدرات. كان الواحد يكد ويكدح نظير لقمات يشاركه فيها فتوة، لا بالشكر، ولكن بالصفع والسب واللعن.
الفتوة وحده يعيش في بحبوحة ورفاهية، وفوق هذا الفتوة الأكبر، والناظر فوق الجميع، أما الأهالي فتحت الأقدام. وإذا عجز مسكين عن أداء الإتاوة انتقم منه فتوة حيه شر الانتقام، وإذا شكا أمره إلى الفتوة الأكبر ضربه الفتوة الأكبر وأسلمه إلى فتوة حيه ليعيد تأديبه، فإذا سولت له نفسه أن يشكو إلى الناظر ضربه الناظر والفتوة الأكبر وفتوات الأحياء جميعا. وهذه الحال الكئيبة شهدتها بنفسي في أيامنا الأخيرة، صورة صادقة مما يروي الرواة عن الأزمان الماضية.
أما شعراء المقاهي المنتشرة في حارتنا فلا يروون إلا عهود البطولات متجنبين الجهر بما يحرج مراكز السادة، ويتغنون بمزايا الناظر والفتوات، بعدل لا نحظى به، ورحمة لا نجدها، وشهامة لا نلقاها، وزهد لا نراه، ونزاهة لا نسمع عنها.
وإني لأتساءل: عما أبقى آباءنا - أو عما يبقينا نحن - بهذه الحارة اللعينة؟ الجواب يسير. لن نلقى في الحواري الأخريات إلا حياة أسوأ من الحياة التي نكابدها هنا، هذا إذا لم يهلكنا فتواتها انتقاما مما لاقوا على أيدي فتواتنا. والأدهى الأمر أننا محسودون! يقول أهالي الحواري حولنا: يا لها من حارة سعيدة! تحظى بوقف لا مثيل له، وفتوات تقشعر عند ذكرهم الأبدان. ونحن لا ننال من الوقف إلا الحسرات، ومن قوة فتواتنا إلا الإهانات والأذى. على ذلك كله فنحن باقون، وعلى الهم صابرون. نتطلع إلى مستقبل لا ندري متى يجيء، ونشير إلى البيت الكبير ونقول: هنا أبونا العتيد، ونومئ إلى الفتوات ونقول هؤلاء رجالنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
25
ونفد صبر آل حمدان فاصطخبت في حيهم أمواج التمرد.
كان آل حمدان يقيمون في قمة الحارة فيما يلي بيتي الأفندي وزقلط، حول البقعة التي بنى أدهم فيها كوخه. وكان رئيسهم حمدان صاحب قهوة؛ قهوة حمدان، أجمل قهوة في الحارة كلها وتتوسط حي حمدان بين الربوع. جلس المعلم حمدان في الجهة اليمنى من مدخل القهوة، في عباءة رمادية، وعلى الرأس لاسة مزركشة، يتابع عبدون صبي القهوة في نشاطه المتواصل، ويتبادل مع بعض الزبائن الأحاديث. وكانت القهوة ضيقة العرض ولكنها تمتد طولا حتى أريكة الشاعر في الصدر تحت صورة خيالية ملونة لأدهم في رقاده الأخير، وهو يتطلع إلى الجبلاوي الواقف بباب الكوخ.
أشار حمدان إلى الشاعر فتناول الربابة واستعد للإنشاد. وبين أنغام الأوتار بدأ بتحية الناظر حبيب الجبلاوي، وزقلط زين الرجال، ثم روى فترة من حياة الجبلاوي قبيل مولد أدهم. وندت عن احتساء القهوة والقرفة والشاي أصوات، وانعقد الدخان المتصاعد من الجوز حول الفانوس سحبا شفافة. وتركزت الأعين في الشاعر، واهتزت الرءوس لجمال ذكرى أو حسن موعظة. ومضى وقت الخيال في شغف وانسجام حتى وافاه الختام، وترامت على الشاعر تحيات الاستحسان. عند ذاك تحركت في الأعماق موجة التمرد التي اجتاحت آل حمدان، فقال عتريس الأعمش من مجلسه وسط القهوة، معلقا على ما سمع من قصة الجبلاوي: كان في الدنيا خير، حتى أدهم لم يجع يوما واحدا.
وإذا بتمر حنة العجوز تقف أمام الدكان وتنزل قفص البرتقال من فوق رأسها، ثم تقول موجهة الخطاب إلى عتريس الأعمش: يسلم فمك يا عتريس، كلامك كالبرتقال السكري!
فنهرها المعلم حمدان قائلا: اذهبي يا ولية وأريحينا من كلامك الفارغ.
لكن تمر حنة جلست على الأرض لصق مدخل القهوة وهي تقول: ما أحلى القعدة جنبك يا معلم حمدان! (ثم وهي تشير إلى قفص البرتقال) يوم ونصف ليلة في المشي والنداء نظير ملاليم يا معلم!
وهم المعلم بالرد عليها، ولكنه رأى ضلمة مقبلا مقطبا وقد تلوث جبينه بالتراب فنظر إليه حتى وقف أمامه في مدخل القهوة وهتف بصوت مرتفع: ربنا على المفتري! قدرة .. قدرة يا هوه أكبر مفتري، قلت له: أمهلني إلى الغد حتى يفتح الله علي؛ فرماني على الأرض وبرك فوق صدري حتى كتم أنفاسي.
فجاء صوت عم دعبس من أقصى القهوة وهو يقول: تعال يا ضلمة اقعد جنبي، تعال الله يلعن أولاد الحرام. نحن أسياد هذه الحارة ولكننا نضرب فيها كالكلاب، ضلمة لا يجد إتاوة لقدرة ، تمر حنة تسرح بالبرتقال وهي لا ترى أبعد من ذراع أمامها، وأنت يا حمدان أين شجاعتك يا ابن أدهم؟!
فاتجه ضلمة إلى الداخل، وتساءلت تمر حنة: أين شجاعتك يا ابن أدهم؟!
فهتف بها حمدان: غوري يا تمر حنة، أنت فت سن الزواج من خمسين سنة فلم تحبين مجالس الرجال؟!
فتساءلت المرأة: أين هم الرجال؟!
فقطب حمدان ولكن تمر حنة بادرته كالمعتذرة: دعني أسمع الشاعر يا معلم.
فقال دعبس للشاعر بمرارة: حدثها عن هوان آل حمدان في هذه الحارة.
فابتسم الشاعر قائلا: حلمك يا عم دعبس، حلمك يا سيد الناس.
فقال دعبس محتدا: من سيد الناس؟ إن سيد الناس يضرب الناس ويظلم الناس ويغتال الناس، أنت تعرف من هو سيد الناس!
فقال الشاعر بقلق: قد نجد بيننا فجأة قدرة أو غيره من الشياطين!
فقال دعبس بحدة: كلهم ذرية إدريس!
فقال الشاعر بصوت خافت: حلمك يا عم دعبس قبل أن تهدم القهوة فوق رءوسنا.
فنهض دعبس من مجلسه وقطع القهوة في خطوات واسعة ثم جلس إلى يمين حمدان على أريكة وهم بالكلام، ولكن ضجة غلمان علت بغتة حتى غطت على صوته، وانتشروا أمام القهوة كالجراد وهم يتبادلون السباب، فصرخ فيهم دعبس: يا أولاد الشياطين أليس لكم جحور تؤويكم في الليل؟
لكنهم لم يبالوا بصراخه فوثب كالملدوغ وانقض عليهم، فجروا في الحارة وهم يصيحون: «هيه!» وترامى أكثر من صوت نسائي من نوافذ الربع المواجه للقهوة: «وحد الله يا عم دعبس»، «خوفت الأولاد يا رجل». فلوح بيده ساخطا وعاد إلى مجلسه وهو يقول: الواحد حيران، لا عند الأولاد راحة ولا عند الفتوات راحة ولا عند الناظر راحة.
أمن كل على قوله. آل حمدان ضاع حقهم في الوقف، آل حمدان تمرغوا في تراب القذارة والبؤس. آل حمدان تسلط عليهم فتوة ليس منهم بل من أحط الأحياء. قدرة يسير بينهم مختالا يصفع من يشاء ويأخذ الإتاوة ممن يشاء؛ لذلك نفد صبر آل حمدان واصطخبت في حيهم أمواج التمرد.
والتفت دعبس إلى حمدان وقال: يا حمدان، الجميع على رأي واحد، نحن آل حمدان، عددنا كبير، أصلنا معروف، وحقنا في الوقف كحق الناظر نفسه.
فغمغم الشاعر: اللهم فوت الليلة على خير.
حمدان حبك العباءة حوله ورفع حاجبيه المثلثين الغزيرين وقال: قلنا في هذا وعدنا، سيحدث أمر، إني أشم الأحداث شما.
وارتفع صوت علي فوانيس بالتحية وهو يدخل القهوة مشمرا الجلباب وطاقيته الترابية مائلة حتى حاجبيه، وما لبث أن قال: الكل مستعدون، ولو احتاج الأمر إلى نقود سيعطون، حتى الشحاذون.
وانحشر بين دعبس وحمدان وهو يهتف بعبدون صبي القهوة: شاي من غير سكر!
فانتبه إليه الشاعر قائلا: إحم!
فابتسم علي فوانيس ودس يده في صدره فأخرج كيسا ثم فتحه واستخرج منه لفافة صغيرة رمى بها إلى الشاعر. وربت فخذ حمدان متسائلا فقال هذا: أمامنا المحكمة.
فقالت تمر حنة: خير ما نفعل.
فقال الشاعر وهو يخرج الشيء من اللفافة: فكروا في العواقب.
فقال علي فوانيس بحدة: لا هوان أحط مما نحن فيه، ولنا عدد وفير يجب حسابه، والأفندي لا يمكن أن يتجاهل أصلنا وقرابتنا إليه وإلى صاحب الوقف.
فقال الشاعر وهو ينظر إلى حمدان نظرة ذات معنى: لم تضق بنا الحلول.
فقال حمدان كأنما يجيبه: عندي فكرة جريئة!
تطلعت إليه الأبصار، فقال: أن نلجأ إلى الناظر!
فقال عبدون وهو يقدم الشاي إلى فوانيس: خطوة عزيزة وبعدها تحفر قبور.
فضحكت تمر حنة قائلة: اسمعوا فالكم من عيالكم.
لكن حمدان قال بتصميم: ينبغي أن نذهب، ولنذهب جماعة.
26
تجمهر أمام بيت الناظر جمع كثير من آل حمدان نساء ورجالا، على رأسهم حمدان ودعبس وعتريس الأعمش وضلمة وعلي فوانيس ورضوان الشاعر. كان من رأي رضوان أن يذهب حمدان وحده نفيا لشبهة العصيان واتقاء لعواقبه، ولكن حمدان قال له بصراحة: «إن قتلي شيء يسير ولكن قتل آل حمدان لا يقدرون عليه.» واسترعى التجمهر أنظار أهل الحارة وبخاصة الجيران الأقربون، فبرزت رءوس النساء من النوافذ، وتطلعت أعين من تحت السلال والمقاطف ومن فوق عربات اليد، وأقبل كثيرون كبارا وصغارا وتساءلوا: ماذا يريد آل حمدان؟ وقبض حمدان على المطرقة النحاسية وطرق الباب، ففتح بعد قليل عن البواب بوجهه الكئيب ونسائم محملة بشذا الفل والياسمين. نظر البواب إلى المتجمهرين بانزعاج وتساءل: ماذا تريدون؟
فقال حمدان بقوة استمدها ممن خلفه: نريد مقابلة حضرة الناظر. - كلكم؟ - ليس فينا من هو أحق بالمقابلة من الآخرين. - انتظروا حتى أستأذن لكم.
وهم برد الباب لكن دعبس مرق إلى الداخل وهو يقول: الانتظار في الداخل أكرم.
واندفع وراءه الآخرون كالسرب وراء الحمامة، ودفع حمدان بينهم على رغم سخطه على اندفاع دعبس فانتقلت المظاهرة إلى الممشى المفروش بين السلاملك والحديقة. وصاح البواب: يجب أن تخرجوا.
فقال حمدان: الضيف لا يطرد، اذهب وخبر سيدك.
وتحركت شفتا الرجل باحتجاج غير مسموع، وشت به قسماته المكفهرة ثم تحول مهرولا نحو السلاملك. وتبعته الأعين حتى اختفى وراء الستار المسدل على باب البهو، وظلت أعين عالقة بالستار، وجالت أعين في أنحاء الحديقة، حول الفسقية المحاطة بالنخيل، وأعراش العنب لصق الجدران، وفروع الياسمين المتسلقة الأسوار، جالت بنظرات حائرة وحواس مغلقة بالهم وما لبثت أن ردت إلى الستار المسدل على باب البهو.
وانزاح الستار فخرج الأفندي بنفسه متجهم الوجه، وتقدم في خطوات حادة غاضبة حتى وقف عند رأس السلم. لم يبد من شخصه المتلفع بالعباءة إلا وجهه الغاضب وشبشبه الوبري ومسبحة طويلة في يمناه. ألقى نظرة ازدراء على المظاهرة ثم استقرت عيناه على حمدان فقال هذا بأدب جم: صبحك الله بالسعادة يا حضرة الناظر.
فاكتفى برد التحية بحركة من يده، وتساءل: من هؤلاء؟ - آل حمدان يا حضرة الناظر. - من أذن لهم بالدخول في بيتي؟
فقال حمدان بدهاء: إنه بيت ناظرهم، فهو بيتهم، وهم في حماه.
فلم يلن وجه الأفندي وقال: تحاول الاعتذار عن سوء سلوككم؟!
وضاق دعبس بتأدب حمدان فقال: نحن أسرة واحدة، جميعنا أبناء أدهم وأميمة.
فقال الأفندي بامتعاض: ذاك تاريخ مضى، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
فقال حمدان: نحن في كرب من الفقر وسوء المعاملة، فاجتمع الرأي بيننا على اللجوء إليك لتفرج كربنا.
وهنا قالت تمر حنة: وحياتك عيشتنا تقرف الصراصير.
فقال دعبس بصوت ارتفع درجات: أكثرنا متسولون، أطفالنا جياع، وجوهنا متورمة من صفع الفتوات، أيليق ذلك بأبناء الجبلاوي ومستحقي وقفه؟!
فتقبضت يد الأفندي على المسبحة وهتف: أي وقف يا هذا؟
حاول حمدان أن يمنع دعبس من الكلام، ولكنه اندفع قائلا كمن لطشت الخمر رأسه: الوقف الكبير، لا تغضب يا حضرة الناظر، الوقف الكبير الذي يملك حارتنا من أولها إلى آخرها، ويتبعه كل حكر في الخلاء المحيط، وقف الجبلاوي يا حضرة الناظر.
فاندلعت ألسنة الغضب من عيني الأفندي، وصاح: هذا وقف أبي وجدي ما لكم به صلة. إنكم تتناقلون الحكايات الخرافية وتصدقونها، وما لديكم دليل أو حجة.
فقال أكثر من صوت وضح بينها صوتا دعبس وتمر حنة: الجميع يعرفون ذلك. - الجميع؟ ما قيمة ذلك؟ لو تناقلتم فيما بينكم أن بيتي هو بيت فلان أو علان منكم، فهل يكفي هذا لاغتصاب بيتي يا هؤلاء؟ حارة حشاشين حقيقة! خبروني متى أخذ أحدكم مليما من ريع الوقف؟
فساد الصمت مليا ثم قال حمدان: كان آباؤنا يأخذون. - ألديكم دليل؟
فعاد حمدان يقول: قالوا لنا ونحن نصدقهم.
فهتف الأفندي: كذب في كذب، وتفضلوا غير مطرودين.
فقال دعبس بتصميم: أطلعنا على الشروط العشرة.
فصاح الأفندي: لماذا أطلعكم عليها؟ من أنتم؟ ما علاقتكم بها؟ - نحن المستحقون.
عند ذاك تعالى صوت هدى هانم حرم الناظر من وراء الباب وهي تقول: دعهم وادخل، لا تبح صوتك بمناقشتهم.
فقالت تمر حنة: كوني محضر خير يا ست هانم.
فقالت هدى هانم بصوت متهدج من الغضب: قطع الطرق لا يكون بالنهار والشمس طالعة!
فقالت تمر حنة بامتعاض: الله يسامحك يا ست هانم، الحق على جدنا الذي أغلق على نفسه الأبواب.
فرفع دعبس رأسه وصاح بصوت الرعد: يا جبلاوي! تعال شف حالنا، تركتنا تحت رحمة من لا رحمة لهم.
دوى الصوت قويا حتى خيل إلى البعض أنه سيبلغ الجد في بيته. ولكن الأفندي صاح مرتعش النبرات من الحنق: اخرجوا، اخرجوا دون تردد.
وقال حمدان بضيق: هيا بنا.
وتحول عن موقفه ومضى نحو الباب. وأخذوا يتبعونه صامتين. حتى دعبس تبعه. لكنه رفع رأسه مرة أخرى وصاح بالقوة نفسها: يا جبلاوي!
27
دخل الأفندي البهو مصفر الوجه من الغضب فوجد زوجه واقفة مقطبة، فقالت: حركة غريبة لها ما بعدها، ستكون حديث الحارة كلها، وإذا تهاونا في الأمر فقل علينا السلام.
فقال الأفندي بتقزز: رعاع أبناء رعاع ويطمعون في الوقف، من ذا الذي يستطيع أن يعرف أصله في حارة مثل خلية النحل؟ - احسم الأمر، ادع زقلط ودبر أمرك، زقلط يقاسمنا الريع دون أن يفعل شيئا فدعه يحلل ما ينهب من أموالنا.
فحدجها الأفندي بنظرة طويلة، ثم تساءل: وجبل؟!
فقالت بطمأنينة وثقة: جبل؟! إنه ربيبنا، بل هو ابني، لم يعرف من الدنيا إلا بيتنا، أما آل حمدان فلا يعرفهم ولا يعرفونه، ولو كانوا يعدونه منهم؛ لتشفعوا به إلينا، اطمئن من ناحيته، وسوف يعود من جولته بين المستأجرين فيحضر الاجتماع.
وجاء زقلط تلبية لدعوة الناظر. كان متوسط القامة، بدينا، متين البنيان، وبقسماته سماجة وغلظة، وبرقبته وذقنه ندوب. جلسوا متقاربين وزقلط يقول: سمعت أخبارا لا تسر.
فقالت هدى بغيظ: ما أسرع ما تجري أخبار السوء!
وقال الأفندي وهو يلحظ زقلط بمكر: إنها تمس هيبتنا كما تمس هيبتك.
فقال زقلط بصوت كالخوار: مضى زمن غير قصير دون أن نحرك نبوتا أو نسفك دما.
فابتسمت هدى قائلة: يا لهم من مغرورين آل حمدان! لم يظهر منهم فتوة واحد، ومع ذلك فأحقرهم يزعم أنه سيد الحارة.
فقال زقلط باشمئزاز: باعة ومتسولون، ولن يظهر فتوة من قوم خرعين!
فتساءل الأفندي: والعمل يا زقلط؟ - سأدوسهم بقدمي كالصراصير.
سمع جبل قول زقلط وهو يدخل البهو. بدا مورد الوجه بعد جولته في الخلاء، وجرت حيوية الشباب في جسمه الفارع القوي، ووجهه ذي الملامح الصريحة وبخاصة أنفه المستقيم وعيناه الكبيرتان الذكيتان. حيا الموجودين بأدب وبدأ يتكلم عن الأحكار التي تم تأجيرها اليوم، ولكن هدى هانم قاطعته قائلة: اجلس يا جبل، نحن في انتظارك لأمر عظيم.
فجلس جبل وعيناه تعكسان نظرة تحرج لم تغب عن عيني الهانم فقالت : أرى أنك تحدس ما نحن مهتمون له.
فقال بصوت هادئ: الجميع يتحدثون في الخارج.
فنظرت الهانم صوب زوجها هاتفة: أسمعت؟ .. الجميع يتوقعون منا الجواب.
فقال زقلط وقسماته تزداد سماجة: شعلة تطفئها حفنة تراب، بودي أن أبدأ العمل!
فالتفتت هدى إلى جبل متسائلة: ألديك ما تقوله يا جبل؟
فقال وهو يداري ضيقه بالنظر في الأرض: الأمر منكم وإليكم يا سيدتي. - يهمني أن أعرف رأيك!
تفكر مليا وهو يشعر بنظرات الأفندي الحادة، ونظرات زقلط الممتعضة ثم قال: سيدتي، إني ربيب نعمتك، ولكني لا أدري ماذا أقول، فلست إلا أحد أبناء حمدان!
قالت هدى بحدة: لماذا تذكر حمدان ولا أب ولا أم ولا أقارب لك فيهم؟
وند عن الأفندي صوت ساخر مقتضب يشبه الضحك لكنه لم يتكلم. وبدا في وجه جبل أنه يعاني ألما صادقا، لكنه أجاب: كان أبي وأمي منهم، لا يمكن إنكار ذلك.
وقالت هدى: ما أخيب أملي في ابني! - معاذ الله، إن المقطم لا يستطيع أن يزحزحني عن الوفاء لك، لكن إنكار الحقائق لا يغيرها.
وقام الأفندي نافد الصبر وقال يخاطب زقلط: لا تضيع وقتك في سماع هذه المعاتبات.
فقام زقلط باسما، وإذا بالهانم تقول له وهي ترمي جبل بلحظ خفي: لا تجاوز المعقول يا معلم زقلط، نريد تأديبهم لا إبادتهم.
غادر زقلط البهو. وألقى الأفندي على جبل نظرة لوم وهو يتساءل ساخرا: إذن أنت من آل حمدان يا جبل؟!
ولاذ جبل بالصمت حتى رحمته هدى فقالت: قلبه معنا ولكن شق عليه أن يتنكر لأصله أمام زقلط.
فقال جبل بحزن واضح: إنهم بؤساء يا سيدتي على الرغم من أنهم أكرم أهل الحارة أصلا.
فصاح الأفندي: حارة لا أصل لها.
فقال جبل جادا: إننا أبناء أدهم، وما زال جدنا حيا أطال الله بقاءه.
فتساءل الأفندي: من ذا يستطيع أن يثبت بنوته لأبيه؟ .. إنه كلام لا بأس أن يقال أحيانا، ولكنه لا ينبغي أن يتخذ وسيلة لنهب أموال الغير.
وقالت هدى: نحن لا نريد بهم شرا على شرط ألا يطمعوا في أموالنا .
وأراد الأفندي أن ينهي الحديث فقال لجبل: اذهب إلى عملك ولا تفكر في سواه.
غادر جبل البهو فذهب إلى إدارة الوقف في منظرة الحديقة. كان عليه أن يسجل في الدفاتر عددا من عقود الإيجار، وأن يراجع الحساب الختامي للشهر ولكن الحزن شتت عقله. ومن عجب أن آل حمدان لا يحبونه، وهو يعلم ذلك ويذكر كيف كان يقابل بالبرود في قهوة حمدان في المرات القلائل التي غشيها. مع ذلك أحزنه ما يدبر لهم من شر. أحزنه أكثر مما أسخطه سلوكهم الجريء. وود أن يدفع عنهم الشر لولا إشفاقه من إغضاب البيت الذي آواه ورباه وتبناه. ماذا كان يكون لو لم يدركه عطف هدى هانم؟
منذ عشرين عاما رأت الهانم طفلا عاريا يستحم في حفرة مملوءة بمياه الأمطار. مضت تتسلى بمشاهدته فمال قلبها، الذي حرمه العقم من نعم الأمومة، إليه. أرسلت من حمله إليها وهو يبكي خائفا. وتحرت عنه فعلمت أنه طفل يتيم ترعاه بياعة دجاج. استدعت الهانم بياعة الدجاج وطلبت إليها أن تنزل لها عن الطفل فرحبت بذلك كل الترحيب. هكذا نشأ جبل في بيت الناظر وفي رعاية حضرته ينعم بأسعد أمومة في الحارة جميعا. وأدخل الكتاب فتعلم القراءة والكتابة، ولما بلغ رشده ولاه الأفندي إدارة الوقف.
في كل بقعة فيها للوقف أملاك يدعونه «حضرة الوكيل» وتتابعه نظرات الإكبار والإعجاب أينما حل. وكانت الحياة تبدو ودودة واعدة بكل جميل حتى كان تمرد آل حمدان. وجد جبل أنه ليس شخصا واحدا كما توهم طوال عمره ولكنه شخصان. أحدهما يؤمن بالوفاء لأمه، وثانيهما يتساءل في حيرة: وآل حمدان؟!
28
انبعثت الرباب تحكي مصرع همام على يد قدري. اتجهت الأعين نحو رضوان الشاعر في انتباه يشوبه القلق. ليست الليلة كبقية الليالي، ليلة ختمت نهارا ثائرا، وظل كثيرون من آل حمدان يتساءلون: هل تمر بسلام؟ وشمل الحارة ظلام، حتى النجوم توارت وراء سحب الخريف فلم يبد من ضوء إلا ما نضحت به النوافذ المغلقة أو ما أرسلته مصابيح عربات اليد المتباعدة في أحياء الحارة. وضجت الأركان بغوغاء الغلمان المتجمعين كالفراشات حول مصابيح العربات، على حين افترشت تمر حنة خيشة أمام أحد ربوع آل حمدان وراحت تدندن:
على باب حارتنا حسن القهوجي.
وارتفع مواء قطط في نوبات متقطعة واشيا بمنافسات جنسية أو منازعات تموينية. واحتد صوت الشاعر وهو يروي قائلا: وصرخ أدهم في وجه قدري: «ماذا فعلت بأخيك؟» في تلك اللحظة ظهر زقلط في دائرة الضوء التي يرسمها فانوس القهوة على الأرض. ظهر فجأة كأنما انشق عنه الظلام. بدا عابسا متحديا كارها مكروها يتفجر الشر في عينيه وتشد قبضته على نبوته المرعب. وزحفت من محجريه نظرة ثقيلة مخيفة على القهوة والجالسين كأنها حشرة سامة، فتحجر الكلام في حلق الشاعر. وباخت نشوة ضلمة وعتريس، وانقطع عن التهامس دعبس وعلي فوانيس، وكف عن الحركة عبدون. أما حمدان فشدت يده على خرطوم النارجيلة بعصبية، وساد صمت كالموت.
وتتابعت حركات خاطفة. غادر القهوة سراعا الزبائن الذين لا ينتسبون لآل حمدان. جاء فتوات الأحياء قدرة والليثي وأبو سريع وبركات وحمودة فصنعوا جدارا وراء زقلط، وسرى الخبر في الحارة بسرعة كأنه بيت تهدم ففتحت النوافذ، وأقبل الصغار يجرون والكبار يتنازع قلوبهم الإشفاق والشماتة. وكان حمدان أول من خرق الصمت فقام في هيئة استقبالية وهو يقول: أهلا بالمعلم زقلط فتوة حارتنا، تفضلوا.
لكن زقلط تجاهله. كأنه لا يسمعه ولا يراه. وظل يطلق الطعنات من عينيه القاسيتين. ثم تساءل بصوت غليظ: من فتوة هذا الحي؟
فأجاب حمدان ولو أن السؤال لم يوجه إليه: فتوتنا قدرة.
التفت زقلط نحو قدرة متسائلا في سخرية: أنت حامي آل حمدان؟
فتقدم قدرة خطوات بجسمه القصير المدمج ووجهه المتحرش بكل شيء وقال: أنا حاميهم من الجميع إلاك يا معلم.
فابتسم زقلط ابتسامة كالامتعاض وقال: ألم تجد حيا غير حي النسوان لتكون فتوة عليه؟
ثم صاح بالقهوة: يا نسوان، يا أولاد الزواني، ألا تعترفون بأن للحارة فتوة؟
فقال حمدان بوجه شاحب: يا معلم زقلط ليس بيننا وبينك إلا الخير.
فصاح به: اخرس يا عجوز يا قارح، الآن تتمسكن بعد أن تهجمت على أسيادك وأسياد أهلك.
فقال حمدان بصوت المتألم: لم يكن في الأمر تهجم، لكنها شكوى سرنا بها إلى حضرة الناظر.
فصاح زقلط: أسمعتم ما يقول ابن الزانية؟ حمدان يا نتن أنسيت ما كانت أمك تفعله؟ والله لن يسير أحدكم آمنا في هذه الحارة حتى يقول بأعلى صوته: أنا مرة.
ورفع بسرعة نبوته وهوى به بشدة على الطاولة فتطايرت الفناجيل والأكواب والصواني والملاعق وعلب البن والشاي والسكر والقرفة والزنجبيل والكنكات. وثب عبدون إلى الوراء فارتطم بترابيزة وسقطا معا. وبغتة وجه زقلط لطمة إلى وجه حمدان ففقد الرجل توازنه وسقط على جنبه فوق النارجيلة التي تحطمت. ورفع زقلط نبوته مرة أخرى وهو يصيح: لا ذنب بلا عقاب يا أولاد الزواني.
وتناول دعبس كرسيا ورمى به الفانوس الكبير فتحطم وساد الظلام قبل أن يهوي النبوت على المرآة الكبيرة وراء الطاولة. وصوتت تمر حنة فرددت نساء آل حمدان الصوات في النوافذ والأبواب، كأنما انقلبت الحارة حنجرة كلب رمي بحجر. وجن جنون زقلط فأطلق ضرباته في كل ناحية فأصابت أناسا ومقاعد والجدار. وتلاطمت أمواج الصراخ والاستغاثات والتأوهات. وتطايرت الأشباح في كل ناحية. وارتطمت أشباح بأشباح. وصاح زقلط بصوت كالرعد: كل واحد يلزم بيته.
فبادر إلى تنفيذ الأمر كل شخص، من آل حمدان أو من غيرهم، وتتابع وقع الأقدام المتراجعة. وجاء الليثي بفانوس فظهر على ضوئه زقلط والفتوات من حوله، في حارة خالية، لا يسمع بها إلا صوات النسوان. وقال بركات متوددا: وفر نفسك يا معلم للشدائد، وعلينا نحن تأديب الصراصير.
وقال أبو سريع: لو شئت جعلنا من آل حمدان ترابا تمشي عليه بحصانك.
وقال قدرة فتوة حمدان: لو كلفتني بتأديبهم لحققت لي أمنية كبيرة وهي أن أخدمك يا معلم.
وعلا صوت تمر حنة من وراء باب الربع: ربنا على الظالم.
فصاح بها زقلط: يا تمر حنة أتحدى أي رجل من آل حمدان أن يعد الزانين بك!
فهتفت تمر حنة وإن دل آخر كلامها على أن يدا وضعت على فيها؛ لتمنعها من الاستمرار: ربنا بيننا وبينك ، آل حمدان أسياد ال...
ووجه زقلط الخطاب إلى الفتوات بصوت أراد أن يسمعه آل حمدان، قال: لا يغادر رجل من آل حمدان داره إلا ضرب.
فصاح قدرة مهددا: من ير نفسه رجلا فليخرج.
وتساءل حمودة: والنسوان يا معلم؟
فقال زقلط بحدة: زقلط يعامل الرجال لا النسوان.
وطلع النهار فلم يغادر الربوع رجل من آل حمدان. وجلس كل فتوة عند باب قهوة حيه يراقب الطريق. وجعل زقلط يمر بالحارة كل بضع ساعات فيستبق الناس إلى تحيته والتودد إليه والثناء عليه، «والله أسد بين الرجال يا فتوة حارتنا»، «عفارم عليك يا زين الرجال، يا ملبس آل حمدان الطرح»، «والحمد لله الذي أذل آل حمدان المتعجرفين بيدك القوية يا زقلط». ولم يكن يعير أحدا أدنى اهتمام.
29 - هل يرضيك هذا الظلم يا جبلاوي؟!
تساءل جبل وهو يفترش الأرض أسفل الصخرة التي تقول الحكايات إن عندها كان قدري يخلو إلى هند، وإن عندها قتل همام. ونظر إلى الشفق بعين لم تعد ترى إلا ما يكدر الصفو. لم يكن ممن يركنون إلى الخلوات؛ لكثرة مشاغله لكنه شعر أخيرا برغبة قاهرة في الخلو بنفسه التي زلزلها ما حاق بآل حمدان. لعل في الخلاء أن تسكت الأصوات التي تعيره والتي تعذبه؛ أصوات تهتف به من النوافذ وهو مار: «يا خائن آل حمدان يا لئيم»، وأصوات تهتف به من أعماق نفسه: «لن تطيب الحياة على حساب الغير». وآل حمدان أهله، ففيهم ولدت أمه وأبوه، وفي مقابرهم دفنا. وهم مظلومون وما أقبح الظلم! اغتصبت أموالهم، ولكن من الظالم؟ إنه ولي نعمته، الرجل الذي انتشلته زوجه من الطين فرفعته إلى مصاف آل البيت الكبير. وجميع الأمور تجري في الحارة على سنة الإرهاب، فليس عجيبا أن يسجن سادتها في بيوتهم. وحارتنا لم تعرف يوما العدالة أو السلام. هذا ما قضي به عليها منذ طرد أدهم وأميمة من البيت الكبير، ألا تعلم بذلك يا جبلاوي؟ ويبدو أن الظلم ستشتد كثافة ظلماته كلما طال بك السكوت، فحتى متى تسكت يا جبلاوي؟ الرجال سجناء في البيوت والنساء يتعرضن في الحارة لكل سخرية، وأنا أمضغ المهانة في صمت.
ومن عجب أن أهل حارتنا يضحكون! علام يضحكون؟ إنهم يهتفون للمنتصر أيا كان المنتصر، ويهللون للقوي أيا كان القوي، ويسجدون أمام النبابيت، يداوون بذلك كله الرعب الكامن في أعماقهم. غموس اللقمة في حارتنا الهوان. لا يدري أحد متى يجيء دوره ليهوي النبوت على هامته.
ورفع رأسه إلى السماء فوجدها صامتة هادئة ناعسة، يوشي أطرافها الغمام، وتودعها آخر حدأة. وانقطع المارة وآن للحشرات أن تزحف.
وفجأة سمع جبل صوتا غليظا يصيح من قريب: «قف يا ابن الزانية!» استيقظ من أفكاره فنهض قائما وهو يحاول أن يتذكر أين سمع هذا الصوت، ثم اتجه حول صخرة هند إلى الجنوب فرأى رجلا يركض في رعب وآخر وراءه يطارده ويوشك أن يلحق به. وأمعن النظر فعرف في الهارب دعبس وفي المطارد قدرة فتوة حي حمدان، وفي الحال أدرك حقيقة الموقف. ومضى يراقب المطاردة التي تقترب منه بفؤاد قلق. وما لبث قدرة أن أدرك دعبس؛ فقبض بيده على منكبه وتوقف الاثنان عن العدو وهما يلهثان من الجهد. وصاح قدرة بصوت متقطع من البهر: كيف تجرؤ على مغادرة جحرك يا ابن الأفعى؟ لن تعود سالما.
فهتف دعبس وهو يحمى رأسه بذراعه: دعني يا قدرة، أنت فتوة حينا وعليك أن تدافع عنا.
فهزه قدرة هزة أطارت اللاسة عن رأسه وصاح به: أنت تعرف يا ابن اللئيمة أني أدافع عنكم ضد أي مخلوق إلا زقلط.
وحانت من دعبس نظرة نحو موقف جبل فرآه وعرفه فناداه قائلا: أغثني يا جبل، أغثني فأنت منا قبل أن تكون منهم.
فقال قدرة بغلظة وتحد: لا مغيث لك مني يا ابن الدايخة.
ووجد جبل نفسه يتقدم منهما حتى وقف عندهما وهو يقول بهدوء: ترفق بالرجل يا معلم قدرة.
فحدجه قدرة بنظرة باردة وهو يقول: إني أعرف ما ينبغي أن أفعله. - لعل أمرا ضروريا دفعه إلى مغادرة بيته. - ما دفعه إلا قضاؤه المحتوم.
وشد على منكبه حتى أن دعبس أنينا مسموعا، فقال جبل بحدة: ترفق به، ألا ترى أنه أكبر منك سنا وأضعف بنية؟
رفع قدرة يده عن منكبه وصفعه على قفاه بقوة تقوس لها ظهره، ثم ضرب بركبته دبره فانكفأ على وجهه، وسرعان ما برك فوقه وراح يكيل له الضربات، وهو يقول بصوت يزفر الغل والحنق: ألم تسمع ما قال زقلط؟!
واشتعل الغضب في دماء جبل فصاح به: اللعنة عليك وعلى زقلط، اتركه يا قليل الحياء!
فكف قدرة عن ضرب دعبس ورفع إلى جبل وجها ذاهلا، ثم قال: أنت تقول هذا يا جبل؟! ألم تشهد حضرة الناظر وهو يأمر زقلط بتأديب آل حمدان؟
فصاح جبل وغضبه آخذ في ازدياد: اتركه يا قليل الحياء.
فقال قدرة بصوت يرتعش من الحنق: لا تظن أن خدمتك في بيت الناظر تحميك مني إذا أردت محاسبتك!
فانقض عليه جبل كمن فقد وعيه وركله فألقاه جانبا وصاح به: عد إلى أمك قبل أن تثكلك.
وثب قدرة قائما وهو يتناول نبوته من على الأرض ثم رفعه بخفة، ولكن جبل بادره بضربة في بطنه من يد قوية فترنح متألما. وانتهز جبل هذه الفرصة فخطف النبوت من يده ووقف وهو ينظر نحوه بحذر. تراجع قدرة خطوتين، ثم انحنى بسرعة خاطفة فالتقط حجرا، ولكنه قبل أن يقذف به أصاب النبوت رأسه فصرخ، ودار حول نفسه، ثم سقط على وجهه والدم يتفجر من جبينه بغزارة. كان الليل يهبط فنظر جبل فيما حوله فلم ير أحدا إلا دعبس الذي وقف ينفض جلبابه ويتحسس المواضع التي تؤلمه من جسده، ثم اقترب من جبل وهو يقول ممتنا: عوفيت من أخ كريم يا جبل.
فلم يجبه جبل، وانحنى فوق قدرة فعدله على ظهره، ثم تمتم: أغمي عليه!
فانحنى دعبس فوقه كذلك ثم بصق على وجهه، فجذبه جبل بعيدا عنه، وانحنى فوقه مرة أخرى، وراح يهزه برفق ولكنه لم يبد أملا في الإفاقة، فتساءل: ما له؟
فانحنى دعبس فوقه وألصق أذنه بصدره، ثم قرب وجهه من وجهه، وأشعل عودا من الثقاب، ثم وقف وهو يهمس: إنه ميت.
فاقشعر بدن جبل وقال: كذبت! - ميت ابن ميت وحياتك. - يا خبر أسود!
فقال دعبس مهونا الأمر: كم ضرب وكم قتل! فليذهب إلى الزبانية!
فقال جبل بصوت حزين وكأنه يخاطب نفسه: لكنني لم أضرب ولم أقتل. - كنت تدافع عن نفسك. - لكنني لم أقصد قتله ولا أردته.
فقال دعبس باهتمام: إن يدك لشديدة يا جبل، لا خوف عليك منهم، وبوسعك أن تكون فتوة لو أردت.
فضرب جبل جبينه بيده وهتف: يا ويلي، هل أنقلب قاتلا من أول ضربة؟ - انتبه إلى نفسك وهلم ندفنه وإلا قامت القيامة. - ستقوم القيامة دفناه أم لم ندفنه. - لست آسفا، عقبى للباقي، عاوني على إخفاء هذا الحيوان.
وتناول دعبس النبوت وراح يحفر في الأرض غير بعيد من الموضع الذي حفر فيه قدري من قبل. وما لبث جبل أن انضم إليه بقلب كئيب. وتواصل العمل في صمت حتى قال دعبس ليخفف عن جبل ثقل مشاعره: لا تحزن فالقتل في حارتنا مثل أكل الدوم.
فقال جبل متنهدا: ما وددت أن أكون قاتلا قط، رباه ما كنت أحسب أن غضبي بهذه الفظاعة!
ولما فرغا من الحفر وقف دعبس يجفف جبينه بكم جلبابه ويتمخط ليطرد الرائحة الترابية التي تملأ خيشومه. قال بحقد: هذه الحفرة تسع ابن الزانية والفتوات الآخرين.
فقال جبل بضجر: احترم الميت، فجميعنا أموات.
فقال دعبس بحدة: عندما يحترموننا أحياء نحترمهم أمواتا.
ورفعا الجثة فأودعاها الحفرة، ووضع جبل النبوت إلى جانبها، ثم أهالا عليها التراب.
ولما رفع جبل رأسه رأى الليل قد أخفى الدنيا وما عليها فتنهد من الأعماق وهو يكبت نزوعا نحو البكاء.
30 - أين قدرة؟
سأل زقلط نفسه كما سأل الفتوات الآخرين. لكن الفتوات كانوا يتساءلون أيضا عن صاحبهم الذي اختفى من الوجود كما اختفى رجال آل حمدان من الحارة. كان قدرة يسكن في الحي التالي لحي آل حمدان وكان أعزب يسهر الليل في الخارج فلا يعود إلى مسكنه إلا مع الفجر أو بعد ذلك، ولم يكن من النادر أن يغيب عن مسكنه ليلة أو ليلتين، ولكن لم يحدث أبدا أن غاب أسبوعا كاملا دون أن يعلم أحد بمكانه وبخاصة في أيام الحصار هذه التي أوجبت عليه أعباء لا يستهان بها من اليقظة والمراقبة. وحامت الظنون حول آل حمدان فتقرر تفتيش بيوتهم. واقتحم الفتوات وعلى رأسهم زقلط ربوعهم ففتشوها تفتيشا دقيقا من البدروم إلى السطح، وحفرت الأفنية بالطول والعرض، وتعرض رجال آل حمدان لإهانات شتى، ولم يسلم أحد منهم من لطمة أو ركلة أو بصقة، ولكنهم لم يعثروا على شيء يريب. وتفرقوا في أطراف الخلاء يسألون فلم يدلهم أحد على أمر ذي بال.
وبات قدرة الموضوع الذي تدور به الجوزة في غرزة زقلط تحت تكعيبة العنب بحديقة بيته. كان الظلام يغشى الحديقة عدا نور حيي ينبعث من مصباح صغير قائم على الأرض على بعد شبرين من المجمرة؛ ليستضيء به بركات وهو يقطع الحشيش ويبططه، ويفتت الجمرات، ويرص الحجر ويخشنه ليعد الجوزة. وكان نور المصباح الراقص في مجرى النسيم ينعكس على وجوه زقلط وحمودة والليثي وأبو سريع الكالحة فيبدي عن أعين متراخية الجفون، انعقدت في نظراتها الشاردة نوايا معتمة. وتعالى نقيق ضفادع كأنه استغاثات خرس في هدأة الليل. قال الليثي وهو يتناول الجوزة من بركات ويوجهها نحو زقلط: أين ذهب الرجل؟ كأن الأرض بلعته.
شد زقلط نفسا عميقا وهو ينقر الغابة بسبابته ثم زفره دخانا كثيفا وقال: قدرة بلعته الأرض وهو راقد في جوفها منذ أسبوع.
تطلعت إليه الأبصار باهتمام عدا بركات الذي بدا مسلوبا بعمله، فعاد زقلط يقول: لا يختفي فتوة لغير ما سبب، وللموت رائحة أعرفها.
فتساءل أبو سريع بعد سعال تقوس له ظهره كأنه سنبلة في مهب ريح عاتية: ومن قاتله يا معلم؟ - عجيبة! ومن يكون غير رجل من آل حمدان؟ - لكنهم لا يغادرون بيوتهم وقد فتشناها.
فضرب زقلط طرف الشلتة بقبضته وتساءل: ماذا يقول أهل الحارة الآخرون؟
فقال حمودة: يعتقد حينا بأن لآل حمدان يدا في اختفاء قدرة. - افهموا يا مساطيل! ما دام الناس يعتقدون أن قاتل قدرة في آل حمدان فالواجب علينا أن نعتبره كذلك! - ولو كان القاتل من العطوف؟ - ولو كان من كفر الزغاري، نحن لا يهمنا عقاب القاتل بقدر ما يهمنا إرهاب الآخرين.
فهتف أبو سريع بإعجاب: الله أكبر!
فقال الليثي وهو ينفض الحجر في الكوز ويعيد الجوزة إلى بركات: الله يرحمكم يا آل حمدان.
فندت عن أفواههم ضحكات جافة اختلطت بنقيق الضفادع وتحركت منهم الرءوس حركات الوعيد، على حين هبت نسمة بقوة طارئة أعقبتها خشخشة في الأوراق الجافة. وصفق حمودة بيديه وهو يقول: لم تعد المسألة صراعا بين آل حمدان والناظر، ولكنها كرامة الفتوات.
فعاد زقلط يضرب طرف الشلتة بقبضته ويقول: لم يقتل فتوة بيد حارته من قبل.
وتصلبت ملامحه من الغضب حتى خاف شره ندماؤه فحذروا أن تند عنهم كلمة أو حركة تحول غضبه إليهم. وساد الصمت فلم يعد يسمع إلا قرقرة الجوزة وسعلة أو نحنحة. وإذا ببركات يسأل: وإذا عاد قدرة على غير ما نظن؟
فقال زقلط بحنق: أحلق شاربي يا ابن المسطولة.
كان بركات أول من ضحك ثم عادوا إلى الصمت. تخايلت للأعين المذبحة، والعصي تحطم الرءوس، والدماء تسيل حتى تصبغ الأرض، والصوات يعلو من النوافذ والأسطح، وعشرات الرجال يصعدون حشرجة الموت. اضطربت في النفوس رغبة نمرية في الافتراس وتبادلوا نظرات قاسية. لم يهمهم قدرة لذاته، بل لم يكن أحد منهم يحبه، ولم يكن أحد منهم يحب الآخر قط، ولكن جمعتهم رغبة واحدة في الإرهاب والذود عن الفتونة. وتساءل الليثي: وبعد؟
فقال زقلط: ينبغي أن أرجع إلى الناظر كالعهد بيننا.
31
قال زقلط: يا حضرة الناظر، قتل آل حمدان فتوتهم قدرة.
وركز بصره في الناظر ولكنه كان يرى في الوقت نفسه هدى هانم إلى يمينه وجبل إلى يمينها. وبدا أن الأفندي لم يفجأه الخبر؛ إذ قال: بلغتني أنباء عن اختفائه، ولكن هل يئستم حقا من العثور عليه؟
قال زقلط وكان نور الضحى الذي يقتحم باب البهو يؤكد سماجة ملامحه: لن يعثر عليه وأنا خبير بهذه المكائد.
فقالت هدى بعصبية وهي تلحظ وجه جبل الذي راح ينظر إلى الجدار المواجه له: لو صح أنه قتل لكان ذاك حدثا خطيرا!
فقال زقلط وهو يشد على أصابعه المتشابكة: ويقتضي عقابا شاملا، أو قولوا علينا وعليكم السلام!
فلعبت أصابع الأفندي بحبات مسبحته وقال: إنه يمثل هيبتنا!
فقال زقلط بتركيز مقصود: ويمثل الوقف كله!
وخرج جبل من صمته قائلا: لعلها جريمة مزعومة لم تقع.
واندلع الغضب في صدر زقلط لدى سماعه صوت جبل، فقال: لا ينبغي أن نضيع الوقت في الكلام. - هات دليلا على مقتله.
فقال الأفندي بلهجة اصطنع لها القوة؛ ليخفي ما وراءها من ارتياب: لا يختفي أحد من أبناء حارتنا على هذا النحو إلا إن كان قتل!
ولم تفلح زفرات الخريف الرطيبة في تلطيف هذا الجو المشحون بالنوايا الدموية فهتف زقلط: الجريمة تنادينا بصوت سوف تسمعه الحواري المجاورة وما الكلام إلا مضيعة للوقت.
لكن جبل قال بإصرار: رجال حمدان في بيوتهم مسجونون!
فضحك زقلط بصوته دون وجهه وقال ساخرا: فزورة حلوة!
ثم وهو يستريح في مجلسه ويتحداه بنظرة نافذة: لا يهمك إلا تبرئة أهلك!
ومع أن جبل بذل جهدا صادقا لشكم غضبه إلا أن صوته احتد وهو يقول: يهمني الحق. إنكم تعتدون لأوهى الأسباب، وأحيانا بلا سبب، وما همك الآن إلا الحصول على إذن لإحداث مذبحة في قوم مسالمين.
وتبدى الحقد في عيني زقلط وهو يقول: أهلك مجرمون، قتلوا قدرة وهو يدافع عن الوقف!
فالتفت جبل نحو الأفندي وقال: يا سيدي الناظر لا تسمح لهذا الرجل بإشباع شراهته الدموية.
فقال الأفندي: إذا ضاعت هيبتنا ضاعت حياتنا!
وتساءلت هدى، وهي تنظر نحو جبل: أتريد أن ندفن أحياء في حارتنا؟
فقال زقلط بحنق: إنك تنسى فضل أصحاب الفضل عليك وتذكر المجرمين.
وارتفعت موجة الغضب في صدر جبل حتى قلقلت جذور إرادته فقال بصوت شديد: ليسوا مجرمين وإن غصت حارتنا بالمجرمين!
قبضت يد هدى بشدة على طرف شالها الأزرق، وتحركت فتحتا أنف الأفندي وقد عبرت وجهه صفرة، فتشجع زقلط بهذه المظاهر وقال بحقد ساخر: لك عذر في دفاعك عن المجرمين ما دمت منهم! - تهجمك على المجرمين شيء لا يصدق وأنت شيخ الإجرام في حارتنا.
قام زقلط قومة عنيفة وقد اربد وجهه، وقال: لولا مكانتك عند آل هذا البيت لأخرجتك من مجلسك على أجزاء!
فقال جبل بهدوء مخيف يشف عما تحته: أنت واهم يا زقلط!
وصاح الأفندي: أتجرآن على هذا أمامي؟
فقال زقلط بخبث: إني أناطحه دفاعا عن هيبتك!
فأوشكت أصابع الأفندي أن تفتك بالمسبحة، وخاطب جبل بشدة قائلا: لا أسمح لك بالدفاع عن آل حمدان. - هذا الرجل يفتري الكذب عليهم لغاية سوء في نفسه. - دع هذا لتقديري أنا!
وساد الصمت هنيهة. ترامت من الحديقة زقزقة لاهية، وتعالت في الحارة موجة تهليل صاخبة يتخللها سباب فاحش. وابتسم زقلط قائلا: أيأذن لي حضرة الناظر في تأديب الجناة؟
أيقن جبل أن ساعة المنايا قد دنت فالتفت نحو الهانم وقال يائسا: سيدتي، سأجد نفسي مضطرا إلى الانضمام إلى أهلي في سجنهم؛ لألقى معهم مصيرهم.
فهتفت هدى في عصبية ظاهرة: يا لخيبة رجائي!
فتأثر جبل حتى انحنى رأسه، ودفعه شعور مرهف إلى أن ينظر نحو زقلط فرآه يبتسم ابتسامة شماتة كريهة فانطبقت شفتاه في حنق، ثم قال في أسى: لا خيار لي، ولن أنسى صنيعك معي ما حييت.
فحدجه الأفندي بنظرة قاسية وسأله: يجب أن أعرف إن كنت معنا أم علينا؟
فقال جبل بحزن وهو يشعر بأنه في النزع الأخير من حياته الراهنة: ما أنا إلا ربيب نعمتك فلا يمكن أن أكون عليك، ولكن من العار أن أترك أهلي يبادون وأنا أنعم بظلك.
وقالت هدى وهي تتلوى من انفعال الأزمة التي تهدد أمومتها: يا معلم زقلط فلنؤجل الحديث إلى وقت آخر.
فقطب زقلط كأنما ركب على وجهه حافر بغل، ونقل عينيه بين الأفندي وزوجه ثم تمتم: لا أدري ماذا يحدث غدا في الحارة!
فتجنب الأفندي النظر إلى هدى وتساءل: أجبني يا جبل أأنت معنا أم علينا؟
وتمادت موجة الغضب به حتى بلغت قمة رأسه فهتف دون أن ينتظر الجواب: فإما أن تبقى معنا كواحد منا، وإما أن تذهب إلى أهلك؟
وثار جبل ، وبخاصة وهو يلحظ أثر هذا القول في صفحة وجه زقلط فقال بعزم: يا سيدي إنك تطردني، وإني ذاهب.
وهتفت هدى بصوت معذب: جبل!
وهتف زقلط ساخرا: أمامكم الرجل كما ولدته أمه.
وضاق جبل بمجلسه، فقام، ثم سار بخطوات ثابتة نحو باب البهو. ووقفت هدى ولكن ذراع الأفندي حالت دون تحركها. وسرعان ما اختفى جبل. وفي الخارج هبت ريح تحركت بها الستائر واصطفقت مصاريع نوافذ. وامتلأ جو البهو بتوتر وانقباض. وقال زقلط بهدوء: ينبغي أن نعمل.
ولكن هدى قالت بإصرار وعصبية ينذران بالعناد: كلا، حسبهم الآن الحصار، وحذار أن يمس جبل بشر.
لم يغضب زقلط؛ إذ إنه لم يهضم بعد ما أحرز من فوز، ورفع إلى الناظر عينا متسائلة.
فقال الأفندي وهو يبدو كمن يتمصص ليمونة: سنعود إلى الحديث مرة أخرى.
32
ألقى جبل نظرة وداع على الحديقة والمنظرة فتذكر مأساة أدهم التي ترويها الرباب كل مساء. واتجه نحو الباب فوقف له البواب وهو يتساءل: ماذا يدعوك إلى الخروج ثانية يا سيدي؟
فقال جبل بامتعاض: إني ذاهب بلا عودة يا عم حسنين!
ففغر الرجل فاه وجعل ينظر إليه مليا في انزعاج ثم غمغم متسائلا: بسبب آل حمدان؟
فأحنى جبل رأسه صامتا، فعاد البواب يقول: من يصدق هذا؟ كيف تسمح به الهانم؟ يا رب السماوات! وكيف تعيش يا بني؟
فعبر جبل عتبة الباب مرسلا بصره إلى الحارة المكتظة بالناس والحيوان والقاذورات وهو يقول: كما يعيش أهل حارتنا. - لم تخلق لهذا.
فابتسم جبل ابتسامة ذاهلة وقال: إنها المصادفة وحدها التي انتشلتني منه.
ومضى يبتعد عن البيت وصوت البواب يحذره في حسرة من التعرض لغضب الفتوات.
وامتدت أمام عينيه الحارة بأتربتها ودوابها وقططها وغلمانها وجحورها. أدرك مدى الانقلاب الذي جرى على حياته، ما ينتظره من متاعب، وما خسره من نعيم. لكن غضبه غطى على آلامه فبدا وكأنه لا يبالي بالأزهار والعصافير والأمومة الحانية. ومر في سبيله بالفتوة حمودة، فقال هذا بسخرية ملساء: ليتك تعيرنا قوتك لنؤدب بها آل حمدان.
فلم يعره التفاتا وقصد ربعا كبيرا من ربوع آل حمدان وطرقه. وإذا بحمودة يلحق به ويسأله في دهشة واستنكار: ماذا تريد؟
فأجابه في هدوء: إني أعود إلى أهلي.
وارتسمت الدهشة في عيني حمودة الضيقتين وبدا أنه لا يصدق ما سمع. ورآهما زقلط وهو يغادر بيت الناظر متجها نحو مسكنه فصاح بحمودة: دعه يدخل، وإذا خرج بعد ذلك ادفنه حيا.
فزايلت حمودة دهشته وابتسم ابتسامة بلهاء متشفية. ومضى جبل يطرق الباب حتى فتحت نوافذ الربع والربوع الملاصقة، وأطلت رءوس كثيرة من بينها حمدان وعتريس وضلمة وعلي فوانيس وعبدون ورضوان الشاعر وتمر حنة، وتساءل ضلمة ساخرا: ماذا تريد يا ابن الأكابر؟
وسأله حمدان: معنا أم علينا؟
فصاح حمودة: طردوه فعاد إلى أصله القذر!
فتساءل حمدان بلهفة: طردوك حقا؟!
فقال جبل بهدوء: افتح الباب يا عم حمدان.
وزغردت تمر حنة ثم صاحت: كان أبوك رجلا طيبا وأمك امرأة شريفة.
فضحك حمودة قائلا: مباركة عليك شهادة الزانية.
فصاحت تمر حنة غاضبة: اسم الله على أمك ولياليها الملاح عند حمام السلطان.
وأسرعت بإغلاق النافذة فصك الحجر المنطلق من يد حمودة الضلفة من الخارج محدثا دويا هلل له الصبية في الأركان. وفتح باب الربع فدخل جبل مستقبلا جوا رطبا وهواء غريب الرائحة. واستقبله أهله بالعناق واختلطت الكلمات الطيبات. ولكن قطع الترحيب عليهم جعجعة شجار آتية من أقصى الحوش، فنظر جبل فرأى دعبس مشتبكا في شد وجذب مع رجل يدعى كعبلها، فمضى نحوهما ودفع نفسه بينهما وهو يقول بحدة: تتشاجران وهم يحبسوننا في بيوتنا؟!
فقال دعبس خلال أنفاسه المضطربة: سرق البطاطة من حلة على نافذتي.
وصاح كعبلها: هل رأيتني وأنا أسرق؟ حرام عليك يا دعبس!
فصاح جبل غاضبا: فلنرحم أنفسنا كي يرحمنا من في السماء!
لكن دعبس قال بإصرار: بطاطتي في بطنه وسأستخرجها بيدي.
فقال كعبلها وهو يعيد طاقيته إلى رأسه: والله ما ذقت البطاطة من أسبوع. - أنت اللص الوحيد في هذا الربع.
فقال جبل: لا تقض بلا دليل كما يفعل زقلط معكم.
فصاح دعبس: لا بد من تأديب ابن الخطافة.
فصرخ كعبلها : يا دعبس يا ابن بياعة الفجل!
وثب دعبس على كعبلها فنطحه فترنح كعبلها وسال الدم من جبينه، وراح يكيل له الضربات غير مبال بزجر الواقفين، حتى غضب جبل فانقض عليه وقبض على عنقه بشدة. وعبثا حاول دعبس أن يتخلص من قبضة جبل فقال بصوت مبحوح: أتريد أن تقتلني كما قتلت قدرة؟!
فدفعه جبل بقوة فارتمى على الجدار وراح يحدق فيه بحنق وغيظ. وردد الرجال أبصارهم بين الرجلين، وتساءلوا: أجبل حقا هو الذي قتل قدرة؟ وقبله ضلمة وصاح عتريس: «فلتحل بك البركة يا خير آل حمدان!» وقال جبل لدعبس حانقا: لم أقتله إلا دفاعا عنك!
فقال دعبس بصوت منخفض: لكنك استحليت القتل.
فصاح ضلمة: يا لك من جاحد يا دعبس، اخجل من نفسك يا رجل!
ثم وهو يجذب جبل من ذراعه: ستنزل ضيفا علي في شقتي .. تعال يا سيد آل حمدان!
طاوع جبل يد ضلمة لكنه شعر بأن الهاوية التي انفتحت اليوم تحت قدميه لا قرار لها.
وهمس متسائلا في أذنه وهما يسيران معا: ألا يوجد سبيل إلى الهرب؟
فقال ضلمة باستنكار: أتخاف يا جبل أن يشي بك أحد إلى أعدائنا؟! - دعبس أحمق. - نعم ولكنه ليس بالنذل! - أخاف أن تثبت عليكم التهمة بسببي!
فقال ضلمة بثقة: سأدلك على طريق الهرب إذا أردته، ولكن أين تقصد؟ - الخلاء واسع لا يحيط به خاطر.
33
لم يتيسر الفرار لجبل إلا في الهزيع الأخير من الليل. جعل ينتقل من سطح إلى سطح في هدأة الليل، وفي رعاية النوم المرفق بالأجفان حتى وجد نفسه في الجمالية. ومضى على رغم الظلام الحالك نحو الدراسة ثم مال نحو الخلاء، متجها نحو صخرة هند وقدري، فلما بلغها على ضوء النجوم الخافت لم يعد بوسعه أن يغالب النوم، من فرط ما نال منه الإعياء والسهر، فاستلقى على الرمال متلفعا بعباءته وغط في النوم.
وفتح عينيه مع أول شعاع يضيء أعلى الصخرة، فقام من فوره كي يصل إلى الجبل قبل أن يعبر الخلاء عابر. لكن بصره انجذب نحو البقعة التي دفن فيها قدرة قبل أن يهم بالسير. ارتعدت فرائصه وهو ينظر إليها حتى جف ريقه ثم فر بنفسه وهو في ضيق شديد. ما قتل إلا مجرما، لكنه بدا كالمطارد وهو يبتعد عن قبره. وقال لنفسه: «لم نخلق لنقتل وإن فاق عدد قتلانا الحصر.» وعجب لنفسه كيف أنه لم يجد مكانا ينام فيه إلا المكان الذي دفن فيه قتيله! وشعر برغبته في الابتعاد تتضاعف، وأن عليه أن يودع إلى الأبد من يحب ومن يكره على السواء، أمه وحمدان والفتوات إلى الأبد. وبلغ سفح المقطم ونفسه تفيض بالأسى والوحشة، فسار معه نحو الجنوب حتى بلغ سوق المقطم وسط الضحى. وألقى نظرة طويلة إلى الخلاء وراءه وقال في شيء من الاطمئنان: «الآن بعد ما بيني وبينهم.»
وراح يتفحص سوق المقطم أمامه، ذلك الميدان الصغير الذي تصب فيه جملة حواري من جميع نواحيه، وتتصاعد من جنباته ضوضاء عالية تختلط فيها أصوات الآدميين بنهيق الحمير. وكان ثمة ما يدل على مولد يقام، لازدحام الميدان بالمارة والباعة والمجذوبين والدراويش والمهرجين على الرغم من أن حركة المولد الحقيقية لا تبدأ قبل الغروب، فتنقلت عيناه بين أمواج البشر المتلاطمة .. ورأى عند حافة الخلاء كوخا من الصفائح صفت حوله مقاعد خشبية فبدا على حقارته أصلح مقهى في السوق وأحفله بالزبائن، فاتجه نحو مقعد خال وجلس بجسم اشتد حنينه إلى الراحة. وأقبل نحوه صاحب الكوخ محتفلا بمظهره المتميز بين الجلوس بعباءة فاخرة وعمامة عالية ومركوب ثمين فطلب قدح شاي وراح يتسلى بمتابعة الناس.
وما لبث أن جذب سمعه ضوضاء اشتدت حول كشك حنفية مياه عمومية، رأى الناس يتزاحمون أمامها ليملئوا أوعيتهم بالماء، وكان التزاحم كالقتال عنفا وضحايا، فارتفع الصخب وتهاوت اللعنات، ثم ندت صرخات رفيعة حادة من الوسط عن فتاتين غرقتا في لجة الزحام وراحتا تتراجعان لتنجوا بنفسيهما حتى خرجتا من المعترك بصفيحتين فارغتين. بدتا في جلبابين فاقعي الألوان ينسدلان على جسميهما من العنق حتى الكعبين، فلم يظهر منهما إلا وجهان يزهر فيهما الشباب. مرت عيناه بأقصرهما دون توقف، ثم ثبتتا على الأخرى ذات العينين السوداوين فلم تتحولا عنها.
أقبلتا نحو مكان خال قريب من مجلسه فتبين في ملامحهما شبها أخويا على تميز جاذبته بقسط أوفر من الحسن، فقال جبل لنفسه منتشيا: «ما أبدع هذه الملاحة! لم تقع عيناي على مثلها في حارتنا.» وقفتا تسويان ما تشعث من شعريهما وتعيدان الخمار إلى رأسيهما، ثم وضعتا الصفيحتين مقلوبتين وجلستا عليهما والقصيرة تقول متشكية: كيف نملأ الصفيحة في هذا الزحام؟
فقالت جاذبته: المولد أجارك الله! وأبونا الآن ينتظر غاضبا!
فدخل جبل في الحديث دون وعي منه متسائلا: لماذا لم يحضر بنفسه ليملأ الصفيحتين؟
فالتفتتا نحوه باحتجاج، ولكن منظره المتميز لم يخل من أثر مسكن فاكتفت فتاته بأن قالت: ما شأنك أنت؟! هل شكونا إليك؟!
فسر جبل بخطابها وقال معتذرا: أردت أن أقول إن الرجل أقدر على اقتحام زحام المولد! - هذا عملنا، وله عمل أشق.
فتساءل مبتسما: ماذا يعمل أبوك؟ - هذا ليس من شأنك.
وقام جبل غير مبال بالأعين المحدقة حوله، حتى وقف أمامهما وقال بأدب: سأملأ لكما الصفيحتين.
فقالت جاذبته وهي تدير عنه وجهها: لسنا في حاجة إليك!
ولكن القصيرة قالت بجرأة: افعل ولك الشكر.
وقامت وهي تشد الأخرى لتقوم معها فتناول جبل الصفيحتين من مقبضيهما، وسار بجسمه القوي، يشق الزحام، ويرتطم بالرجال، ويلاقي الجهد، حتى بلغ الحنفية التي يجلس وراءها الساقي في كشكه الخشبي، فنقده مليمين، وملأ الصفيحتين وعاد بهما نحو موقف الفتاتين. وأزعجه أن يجد الفتاتين مشتبكتين مع بعض الشبان في معركة كلامية بسبب معاكستهم لهما، فوضع الصفيحتين على الأرض، وتصدى للشبان مهددا. وتحرش به أحدهم ولكنه صرعه بضربة في صدره فتجمع الشبان للهجوم عليه وهم يسبونه، غير أن صوتا غريبا صاح بهم: اذهبوا يا شين الرجال.
اتجهت الأبصار نحو رجل كهل، قصير مدمج الجسم، براق العينين، يشد جلبابه على وسطه بحزام فهتفوا خجلين: «المعلم البلقيطي؟!» وسرعان ما تفرقوا وهم يرمقون جبل بحنق. ولاذت الفتاتان بالرجل والقصيرة تقول: اليوم عسير بسبب المولد وهؤلاء الأوغاد.
فقال البلقيطي يجيبها وهو يتفحص جبل: تذكرت المولد لتأخيركما فجئت، جئت في الوقت المناسب.
ثم خاطب جبل قائلا: وأنت من أهل الشهامة، وما أندرهم في أيامنا!
فقال جبل في حياء: ما هي إلا مساعدة تافهة لا تستحق شكرا.
في أثناء ذلك حملت الفتاتان الصفيحتين وغادرتا المكان صامتتين. ود جبل بأن يملأ من المليحة عينيه ولكنه لم يجرؤ على نزعهما من عيني البلقيطي الحادتين. خيل إليه أن هذا الرجل يستطيع أن يرى الأعماق فخشي أن يقرأ رغائبه، ولكن المعلم قال: دفعت عنهما الأشرار، أمثالك يستحقون الحب، وهؤلاء الشبان كيف تجرءوا على التحرش بابنتي البلقيطي؟ إنها البوظة! ألم تلحظ أنهم سكارى؟!
فهز جبل رأسه نفيا، فقال الآخر: إني أشم كالجن الأحمر، ما علينا، ألا تعرفني؟ - كلا يا معلم، لم يحصل لي هذا الشرف.
فقال بثقة: إذن فأنت لست من هذه الناحية؟ - نعم. - أنا البلقيطي الحاوي.
وأضاء وجه جبل بنور التذكر المباغت، فقال: حصل لنا الشرف، كثيرون يعرفونك في حارتنا. - وما حارتكم؟ - حارة الجبلاوي.
فرفع البلقيطي حاجبيه الخفيفين الأبيضين وقال بصوت منغوم: أنعم وأكرم، من ذا الذي يجهل الجبلاوي صاحب الوقف؟ أو فتوتكم زقلط! وهل جئت للمولد يا معلم ...؟ - جبل.
ثم قال بمكر: جئت أبحث عن مقام جديد. - هجرت حارتك؟ - نعم.
فاشتد تفحص البلقيطي له، ثم قال: ما دام يوجد فتوات فلا بد أن يوجد مهاجرون! ولكن خبرني أقتلت رجلا أم امرأة؟
فانقبض قلب جبل وقال بثبات: مزاحك ليس لطيفا مثلك!
فضحك البلقيطي عن فم خرب وقال: لست من الرعاع الذين يعبث بهم الفتوات، ولا أنت من أهل السرقة، فمثلك لا يهاجر من حارته إلا بسبب القتل!
فقال جبل بحدة وضيق: قلت لك ...
فقاطعه قائلا: يا سيدي أنا لا يهمني أن تكون قاتلا وبخاصة بعد أن ثبتت لي شهامتك. ما من رجل هنا إلا وقد سرق أو نهب أو قتل. ولكي تطمئن إلى صدق قولي فإني أدعوك إلى فنجان قهوة ونفسين في داري!
فعاود الأمل جبل وقال: حبا وشرفا.
سارا جنبا إلى جنب يخترقان السوق نحو حارة قلة، وعندما خلفا الزحام وراءهما سأله البلقيطي: أكنت تقصد أحدا في حينا؟ - لا أعرف أحدا. - ولا مأوى؟ - ولا مأوى.
فقال البلقيطي في انبساط: كن ضيفي إذا شئت حتى تجد لنفسك مأوى.
فرقص قلب جبل فرحا وقال: ما أنبلك يا معلم بلقيطي!
فقال الرجل ضاحكا: لا تعجب لذلك، في داري تقيم الثعابين والحيات فكيف تضيق عن إنسان؟! هل أفزعك قولي؟ إني حاو وستعرف عندي كيف تستأنس الثعابين!
عبرا الحارة فانتهيا إلى خلاء لا يحد. ورأى جبل في مطلع الخلاء دارا صغيرة بعيدة عن الحارة، جدرانها أحجار غير مطلية، لكنها تعتبر جديدة بالقياس إلى بيوت حارة قلة المتداعية، فأشار البلقيطي إليها وقال بفخار: بيت البلقيطي الحاوي.
34
ولما بلغا البيت قال البلقيطي: اخترت هذا المكان المنعزل لبيتي؛ لأن الناس لا يرون في الحاوي إلا ثعبانا كبيرا.
دخلا معا إلى دهليز غير قصير يفضي في نهايته إلى حجرة مغلقة، على حين قامت على الجانبين حجرتان مغلقتان. وأردف البلقيطي وهو يشير إلى الحجرة المواجهة للداخل: في هذه الحجرة توجد أدوات العمل، الحي منها والجامد، لا تخش شيئا فبابها محكم الإغلاق، أؤكد لك أن الثعابين أصلح للمعاشرة من أناس كثيرين، كالذين فررت منهم مثلا!
ثم ضحك كاشفا عن فيه الخرب وقال: الناس تخاف الثعابين، حتى الفتوات تخافها، أما أنا فأدين لها برزقي، وبفضلها أقمت هذا البيت.
وأشار إلى الحجرة اليمنى وهو يقول: هنا تنام ابنتاي، ماتت أمهما من زمن تاركة إياي لشيخوخة لا تصلح للزواج من جديد. (ثم أشار إلى اليسرى) وهنا سننام معا.
وترامى صوت الفتاة القصيرة من سلم جانبي يصعد إلى السطح وهي تنادي: شفيقة ساعديني في الغسيل ولا تقفي هكذا كالحجر بلا عمل.
فصاح البلقيطي: يا سيدة! صوتك سيوقظ الثعابين، وأنت يا شفيقة لا تقفي كالحجر!
اسمها شفيقة؟! ما أبدع المليحة! وزجرها غير الجارح. والشكر الصامت في عينيها السوداوين. من يخبرها بأنه ما قبل هذه الضيافة الخطيرة إلا من أجل عينيها؟
ودفع البلقيطي باب الحجرة اليسرى وأوسع لجبل حتى دخل ثم تبعه ورد الباب. ومضى الرجل إلى كنبة تمتد بطول الحجرة الصغيرة في جانبها الأيمن، متأبطا ذراع جبل حتى جلسا معا. وأحاط جبل بالحجرة بنظرة واحدة، فرأى فراشا في الجانب الآخر مغطى ببطانية ترابية اللون، وفي أرض الحجرة فيما بين الفراش والكنبة حصيرة مزركشة تتوسطها صينية نحاس حال لونها من كثرة البقع، ويرقد وسطها موقد هرمي الرماد، مركونة إلى قائمه جوزة، وعلى مسطح حافته سيخ وكماشة وحفنة من معسل جاف. ولم يكن يرى من النافذة الوحيدة المفتوحة إلا الخلاء والسماء الشاحبة وجدارا شاهقا داكنا عن بعد من جدران المقطم، على حين ورد منها خلال الصمت المخيم زعيق راعية ونسائم مشبعة بحرارة الشمس الساطعة. وكان البلقيطي يتفحصه لحد المضايقة ففكر في أن يشغله عن نفسه بالحديث ولكن السقف فوقهما اهتز لوقع أقدام تمشي فوق السطح فاهتز قلب جبل. تخيل أول ما تخيل قدميها ففاض قلبه برغبة كريمة في أن تحل السعادة بالبيت ولو انطلقت ثعابينه، وقال لنفسه: «قد يغتالني هذا الرجل ويدفنني في الخلاء كما دفنت قدرة دون أن تدري فتاتي أني ضحيتها هي.»
وأيقظه صوت البلقيطي وهو يسأله: هل لك عمل؟
فأجابه وهو يتذكر آخر نقود يملكها في جيبه: سأجد عملا، أي عمل. - لعلك في غير حاجة عاجلة إلى عمل؟
فداخله شيء من القلق لهذا السؤال وقال: بل يحسن بي أن أبحث عن عمل اليوم قبل الغد؟ - لك جسم فتوات! - لكني أكره العدوان!
فضحك البلقيطي وتساءل: ماذا كنت تعمل في الحارة؟
فتردد قليلا ثم قال: كنت أعمل في إدارة الوقف. - يا خبر أسود! وكيف تهجر هذا النعيم؟ - حظي! - هل طمعت عيناك في إحدى الهوانم؟ - اتق الله يا شيخ. - إنك شديد الحذر، ولكنك ستأنس إلي سريعا وتفضي لي بكل أسرارك. - إن شاء الله. - معك نقود؟
فعاوده القلق ولكنه لم يكشف عنه وقال ببراءة: عندي قليل منها لن يغني عن السعي.
فقال البلقيطي وهو يرمش: أنت ذكي كالعفاريت، ألا تدرك أنك تصلح حاويا؟ لعلنا نتعاون معا، لا تدهش لقولي، فإني عجوز في حاجة إلى المعين.
لم يأخذ قوله مأخذ الجد ولكنه كان مدفوعا برغبة عميقة إلى توثيق صلته به، وهم بأن يتكلم ولكن الآخر بادره قائلا: سنفكر في ذلك على مهل، أما الآن ...
ونهض الرجل، ومال فوق الموقد فرفعه، ومضى به خارجا كأنما ليشعله. •••
وقبيل العصر خرج الرجلان معا، فمضى البلقيطي إلى تجواله، وقصد جبل السوق للفرجة والتسوق. وعاد مع المساء إلى الخلاء فاهتدى إلى البيت المنعزل على بصيص نور ينبعث من نافذة. ولما بلغ البيت ترامت إلى أذنيه أصوات محتدمة في نقاش فلم يملك إلا أن يصغي. سمع سيدة تقول: إن صح ما تقول يا أبي فإن وراءه جريمة ونحن لا قبل لنا بفتوات الحارة.
فقالت شفيقة: لا يبدو أنه مجرم!
فقال البلقيطي بسخرية واضحة: وهل عرفته لهذا الحد يا بنت الأفاعي؟
فقالت سيدة: لماذا يهرب من النعيم؟
فقالت شفيقة: ليس عجيبا أن يهرب الإنسان من حارة اشتهرت بكثرة فتواتها!
فتساءلت سيدة بسخرية: من أين أتتك هذه القدرة على معرفة الغيب؟
فقال البلقيطي متنهدا: معاشرة الثعابين جعلتني أنجب حيتين! - أتستضيفه يا أبي وأنت لا تدري عنه شيئا؟ - عرفت عنه أشياء، وسأعرف كل شيء. لي عينان يعتمد عليهما عند الحاجة، ثم استضفته متأثرا بشهامته ولن أرجع عن رأيي.
ما كان يتردد عن الذهاب في غير هذا الظرف. ألم يهجر بيت النعيم بلا تردد؟ ولكنه يذعن للقوة التي تشده إلى هذا البيت. وطرب منه الفؤاد حتى سكر لسماع الصوت الذي دافع عنه. صوت الحنان الذي بدد وحشة الليل والخلاء وجعل الهلال السابح فوق الجبل يبتسم كمن يزف بشرى في الظلام. ولبث ينتظر في الظلام، ثم سعل، وأقبل نحو الباب فطرقه. فتح الباب عن وجه البلقيطي الذي انعكس عليه ضوء المصباح في يده. وذهب الرجلان إلى حجرتهما فجلس جبل بعد أن ترك فوق الصينية النحاس لفة جاء بها. ونظر البلقيطي إلى اللفة متسائلا فقال جبل: تمر وجبن وحلاوة طحينية وطعمية ساخنة.
فابتسم البلقيطي، وجعل يشير إلى الجوزة تارة وإلى اللفة أخرى ويقول: خير الليل ما مضى بين هذا وذاك.
وربت كتفه متوددا وهو يتساءل: أليس كذلك يا ابن الواقف؟
وانقبض قلبه على رغمه، وتوالت على مخيلته صور الهانم التي تبنته والحديقة الغناء بأعراش الياسمين والعصافير والمياه الجارية، والطمأنينة والسلام والأحلام الناعمة، دنيا النعيم الزائلة، حتى أوشكت الحياة أن تفسد. وإذا بموجة تدفع ذكرياته الغارقة في الأسى إلى بر الأمان إلى هذه الصبية الودودة الطيبة، إلى القوة الساحرة التي تشده إلى بيت فيه وكر للثعابين، فقال بحماس غير متوقع كتوهج مصباح إثر هبة نسيم: ما أطيب الحياة في جوارك يا عم!
35
لم يعطف عليه النوم إلا قبيل الفجر إذ عانى من الخوف كثيرا. وزاره طيفها في هلوسة المخاوف كما تتساقط أوراق الياسمين على حشائش جافة تسعى بينها الحشرات. كابد الأوهام التي تلدها الظلماء في البيت الغريب. وقال لنفسه في الظلام: «ما أنت إلا غريب في بيت الثعابين، تطاردك جريمة ويهتز قلبك بالعشق.» ولو ترك وشأنه ما رغب في غير السلام والدعة. وما خاف الثعابين قدر خوفه الغدر من ناحية ذلك الرجل الذي يتعالى شخيره في فراشه، فمن أدراه أن شخيره صادق؟ وما عاد يطمئن إلى صدق شيء. حتى دعبس المدين له بحياته ستذيع حماقته السر فيثور زقلط وتبكي أمه وتندلع النيران في الحارة التعيسة. والحب الذي شده إلى هذا البيت، وإلى حجرة رفيقه مروض الثعابين، من أدراه أنه سيعيش حتى يصرح بمكنونه. هكذا لم يعطف عليه النوم إلا قبيل الفجر بعد أن عانى من الخوف كثيرا.
وفتح عينيه المثقلتين عندما نضحت النافذة المغلقة بنور الصباح. رأى البلقيطي جالسا في فراشه متقوس الظهر، يدلك بيديه المعروقتين ساقيه تحت الغطاء. وابتسم في ارتياح على رغم الدوخة الملمة برأسه لقلة النوم. لعن الأوهام التي تعشش في الرأس في الظلام وتتبدد في النور كالخفافيش. أليست أوهاما جديرة بسوء ظن قاتل؟ أجل، إن أسرتنا المجيدة تجري في دمائها الجريمة منذ القدم. وسمع البلقيطي يتثاءب بصوت مرتفع متماوج كالحية الراقصة فهاج صدره وراح يسعل طويلا بشدة حتى خيل إليه أن وجهه سيلفظ عينيه. ولما سكت السعال تأوه الرجل من الأعماق فقال جبل: صباح الخير.
وجلس على الكنبة فالتفت البلقيطي نحوه ووجهه ما زال محتقنا من السعال وقال: صباح الخير يا معلم جبل، يا من لم ينم من الليل إلا أقله. - لعل وجهي متغير؟ - بل أذكر تقلبك في الظلام والتفاتات رأسك نحوي كالخائف!
يا لك من ثعبان! ولكن كن ثعبانا غير سام وحق العينين السوداوين! - الحق إني أرقت لتغيير مكان النوم.
فضحك البلقيطي قائلا: أرقت لسبب واحد وهو أنك كنت تخافني على نفسك، قلت سيقتلني ويسلبني نقودي ثم يدفنني في الخلاء كما فعلت أنا بالرجل الذي قتلته. - أنت ... - اسمع يا جبل، الخوف شديد الإيذاء، والثعبان لا يلدغ إلا عند الخوف!
فقال جبل في انهزام خفي: إنك تقرأ ما ليس في الصدور. - إنك تعلم أنني ما جاوزت الحق يا موظف الوقف السابق!
وترامى صوت من الداخل ينادي بقوة: «يا سيدة تعالي». فشعشع روحه بانبساط غير متوقع. هذه الحمامة الزاجلة في وكر الثعابين، التي قضت له بالبراءة وجذبته إلى شجرة الآمال المورقة. وقال البلقيطي وكأنه يعلق على نداء شفيقة: النشاط يدب في بيتنا منذ الصباح الباكر، فتنطلق هاتان البنتان إلى الطريق لتعودا بالماء والمدمس لتطعما أباهما العجوز ثم ترسلاه بجراب الثعابين ليلتقط لنفسه ولهما الرزق.
وحلت السكينة بقلبه، وشعر بأنه عضو في هذه الأسرة، وفاضت نفسه بالمودة، فنزع إلى فتح صدره والتسليم إلى مقاديره في عفوية لا تقاوم فقال: يا معلم، بالحق سأقص عليك قصتي.
فابتسم البلقيطي وتشاغل بتدليك ساقيه فعاد جبل يقول: إني قاتل كما قلت، ولكن لي قصة.
وقص عليه قصته. ولما فرغ قال الرجل: يا لهم من قوم ظالمين! أما أنت فرجل شهم ولم يخب نظري فيك.
واعتدل في جلسته باعتزاز ثم قال: من حقك الآن أن أبادلك صراحة بصراحة، فاعلم أني أنتسب في الأصل إلى حارة الجبلاوي. - أنت؟! - نعم، وفررت منها في صدر الشباب ضيقا بفتواتها!
فقال جبل والدهشة لم تزايله بعد: هم شقاء حارتنا. - نعم، لكننا لا ننسى حارتنا على رغم فتواتها، ولذلك أحببتك عندما عرفت أصلك. - من أي حي كنت؟ - من حي آل حمدان مثلك. - يا للعجب! - لا تعجب لشيء في هذه الدنيا، لكنه تاريخ مضى من بعيد، فلا أحد يعرفني الآن ولا تمر حنة نفسها التي تربطني بها صلة قربى. - أعرف هذه السيدة الشجاعة، ولكن من كان غريمك من الفتوات؟ زقلط؟ - لم يكن في ذلك العهد إلا فتوة حي حقير. - قلت هم شقاء حارتنا! - ابصق على الماضي بكل ما فيه.
ثم قال بلهجة فيها إغراء: اشغل نفسك منذ الساعة بمستقبلك، وها أنا ذا أكرر لك القول بأنك تصلح حاويا ماهرا، ولنا مجال مريح في الجنوب من هنا، بعيدا عن حارتنا، وعلى أي حال ففتواتكم وأتباعهم لا يظهرون في هذا الحي.
لم يكن بطبيعة الحال يدري شيئا عن فن الحواة ولكنه رحب به باعتباره الوسيلة التي ستلصقه بهذه الأسرة، فتساءل بنبرات فضحت رضاه: أتراني أصلح حقا لذلك؟
فوثب الرجل إلى الأرض في سرعة بهلوانية ووقف أمامه بجسمه القصير وقد كشف طوق جلبابه عن شعر كث أبيض وقال: أنت موافق، لم يخب نظري في شيء قط.
ومد له يده فتصافحا ثم قال الرجل: أصارحك بأني أحبك أكثر من أي ثعبان عندي.
فضحك جبل في نشوة طفل، وشد على يد الرجل ليمنعه من الذهاب حتى وقف متسائلا ثم قال باندفاع لم تجد حيلة في منعه: يا معلم، جبل يطلب القرب منك.
فابتسمت عينا البلقيطي المحمرتان وتساءل: حقا؟! - نعم ورب السموات!
فضحك البلقيطي ضحكة قصيرة وقال: كنت أتساءل متى يا ترى يفاتحني في ذلك! نعم يا جبل فلست أحمق، ولكنك الرجل الذي أعهد إليه بابنتي مطمئنا، ومن حسن الحظ أن سيدة فتاة ممتازة كما كانت المرحومة أمها!
واعترى ابتسامة الابتهاج في فم جبل ارتباك غير خاف كما يعتري أطراف الزهرة اليانعة الذبول، وخاف أن يتبدد حلمه بعد أن صار في قبضته وغمغم: لكن ...
فقهقه البلقيطي قائلا: لكنك تطلب شفيقة! أعلم هذا يا ابن والدي، أخبرتني به عيناك وحديث الصغيرة ومعاشرة الثعابين والحيات، فلا تؤاخذني فهذه هي طريقة الحواة فيما يعقدون من اتفاقات.
تنهد جبل من صميم القلب، وشعر ببرد الطمأنينة والسلام، ووثبت بصدره مشاعر قوة وحماسة وانطلاق، حتى بيت النعيم لم يعد يبالي به، ولا الجاه المولي، ولم يعد يخاف ما ينتظره من كد ومرمطة، فليسدل على الماضي ستارا لا ينضح بضوء، وليبتلع النسيان المتاعب والآلام الماضية كافة، وليبتلع فيما يبتلع حنان القلب إلى الأمومة الضائعة.
في الضحى زغردت سيدة.
وسرى النبأ السعيد في الحواري المجاورة.
ثم شهد سوق المقطم وحيه زفة جبل.
36
قال البلقيطي بلهجة انتقاد ساخرة: لا يجمل بالرجل أن يركن إلى حياة الأرنب والديك! وها أنت ذا لم تتعلم شيئا وأوشكت نقودك أن تفرغ!
كانا يجلسان على فروة أمام باب الدار، وكان جبل يمد ساقيه على الرمال المشمسة تلوح في عينيه الغبطة والدعة فالتفت إلى حميه وقال باسما: عاش أبونا أدهم ثم مات وهو يتمنى الحياة البريئة اللاهية في الحديقة الغناء!
فضحك البلقيطي ضحكة مرتفعة ونادى بأعلى صوته: يا شفيقة! أدركي زوجك قبل أن يقتله الكسل.
فظهرت شفيقة على عتبة الباب وهي تنقي عدسا في طبق على يدها وقد لفت رأسها بخمار أرجواني أكد صفاء وجهها. تساءلت دون أن ترفع عينيها عن الطبق: ما له يا أبي؟ - يتمنى شيئين؛ «رضاك وحياة بلا عمل.»
فضحكت متسائلة في إنكار: وكيف يجمع بين إرضائي وقتلي جوعا؟
فقال جبل: هذا سر الحاوي!
فلكزه البلقيطي في جنبه قائلا: لا تستهن بأشق المهن. كيف تخفي بيضة في جيب متفرج وتستخرجها من جيب آخر في الصف الذي يقابله؟ كيف تحول البلي إلى كتاكيت؟ كيف ترقص الحية؟
فقالت شفيقة التي بدت منورة بالسعادة: علمه يا أبي، إنه لم يعرف من الحياة إلا الجلوس على مقعد وثير في إدارة الوقف.
فقام البلقيطي وهو يقول: «جاء وقت العمل.» ثم دخل البيت. وراح جبل يتأمل زوجه بإعجاب ويقول: زوجة زقلط دونك في الملاحة ألف درجة، لكنها تقطع النهار على أريكة ناعمة، والأصيل في الحديقة تستنشق عبير الفل وتلهو بالمياه الجارية.
فقالت بسخرية ومرارة معا: هذا حال المتخمين بأرزاق الناس.
فهرش جانب رأسه متفكرا وقال: ولكن هنالك سبيلا إلى السعادة الشاملة. - لا تحلم، لم تكن حالما عندما نهضت للأخذ بيدي في السوق، ولم تكن حالما عندما طردت عني ذباب البشر؛ ولذلك دخلت قلبي.
فاشتاق أن يقبلها. ولم يهون من قيمة كلامها اقتناعه بأنه يعرف أكثر منها، وقال: أما أنا فأحببتك دون ما سبب. - في هذه الحواري من حولنا لا يحلم إلا المجانين. - ماذا تريدين مني يا حلوة؟ - أن تكون مثل أبي.
فتساءل معابثا: وهذه الحلاوة تقطر منك ما شأنها؟
فانفرجت شفتاها عن ابتسامة، وأسرعت أصابع يدها بين حبات العدس. - عندما فررت من الحارة كنت أشقى الناس جميعا، ولكن لولا ذلك ما تزوجتك!
فضحكت قائلة: نحن مدينان في سعادتنا لفتوات حارتك، كما يدين أبي في رزقه للحيات والثعابين.
فتنهد جبل قائلا: ومع ذلك فقد آمن خير من عرفته حارتنا من أبنائها بأنه يوجد سبيل يكفل الرزق للناس وهم في الحدائق يغنون. - رجعنا! ها هو ذا أبي قادم بجرابه، قم رعاك الله.
وجاء البلقيطي بجرابه وقام جبل ومضى الاثنان في طريقهما المعهود. وجعل البلقيطي يقول له: تعلم بعينيك كما تتعلم بعقلك، انظر ماذا أفعل ولا تسألني أمام أحد من الناس، واصبر حتى أوضح لك ما يغمض عليك فهمه.
ووجد جبل الحرفة شاقة حقا، ولكنه لم يستهن بها من أول الأمر ووطن نفسه على الحذق فيها مهما كلفه الجهد. والواقع أنه لم يكن أمامه من مهنة أخرى إلا أن يرضى بمهنة بائع جوال أو الفتونة أو اللصوصية وقطع الطريق. لم تكن الحواري في حيه الجديد لتختلف عن حارته في شيء عدا الوقف والقصص التي نشأت حوله. وقد رسبت في قرارة نفسه حسرة متخلفة من أحلام الماضي وذكريات المجد الغابر والآمال التي يتعذب بسببها آل حمدان كما تعذب أدهم من قبل. وكان مصمما على النسيان بإلقاء نفسه في خضم الحياة الجديدة وتقبلها وفتح الصدر لها، واللواذ بزوجه المحبة المحبوبة كلما خطر له خاطر حزن أو هوان في تجواله. وتفوق على أحزانه وذكرياته وبرع في تعليمه حتى أدهش البلقيطي نفسه.
كان يواصل التدريب في الخلاء ويعمل في النهار والليل، وتمضي الأيام والأسابيع والأشهر فلا تهن له عزيمة ولا يدركه الكلال. وقد عرف الحواري والأزقة، واستأنس الثعابين والحيات، ولعب أمام آلاف الصبية، وذاق حلاوة النجاح والربح، وتلقى بشرى الأبوة المقبلة. واستلقى على ظهره يرعى النجوم حين الراحة، وسهر الليالي يتجاذب مع البلقيطي الجوزة ويقص القصص التي كانت الرباب ترويها بقهوة حمدان. وتساءل: من حين إلى حين أين الجبلاوي؟ ونادى كثيرا: يا جبلاوي. وإذ أشفقت شفيقة من أن يفسد عليه الماضي حياته هتف بها: إلى هؤلاء ينتسب الشيء الذي في بطنك، وآل حمدان آله، والأفندي رأس الاغتصاب كما أن زقلط رأس الإرهاب، فكيف تطيب الحياة وبها أمثال أولئك؟ •••
ويوما كان يعرض ألاعيبه في زينهم وسط حلقة محكمة من الصغار. ولاحت منه التفاتة فرأى أمامه دعبس وقد شق سبيله إلى الصف الأمامي وراح يحملق فيه بذهول. اضطرب جبل وتجنب النظر إلى وجهه ولم يعد بمستطاعه أن يواصل عمله فأنهاه على رغم احتجاج الصغار، ورفع جرابه ومضى. وما لبث أن لحق به دعبس وهو يصيح: جبل! أهذا أنت يا جبل؟!
فتوقف عن السير ملتفتا إليه وقال: نعم، ماذا جاء بك يا دعبس؟
ولم يفق دعبس من دهشته وجعل يقول: جبل حاو؟! متى تعلمت هذا؟ وأين؟
فقال جبل باستهانة: ليس هذا بأعجب ما يقع في هذه الدنيا.
وسار جبل والآخر يتبعه حتى بلغا سفح الجبل ثم جلسا في ظل نتوء، ولم يكن بالمكان إلا أغنام ترعى وراع جلس عاريا يفلي جلبابه. وتفرس دعبس في وجه صاحبه وقال: لماذا هربت يا جبل؟ كيف ساء ظنك بي حتى توقعت أن أخونك؟ والله ما أخون أحدا من آل حمدان ولو يكون كعبلها! ولحساب من أخونك؟ الأفندي أم زقلط؟! فليحرقهم رب السموات جميعا، كم سألوا عنك كثيرا، وكنت أسمعهم يسألون فأغرق في عرقي.
فسأله جبل باهتمام: خبرني كيف تعرض نفسك للانتقام بالتسلل من ربعك؟
فلوح دعبس بيده في استهانة قائلا: رفع الحصار عنا من زمن، لم يعد أحد يسأل اليوم عن قدرة أو قاتله، ويقال إن هدى هانم هي التي أنقذتنا من الموت جوعا، ولكن قضي علينا بالذل إلى الأبد، ولا مقهى لنا ولا كرامة. نسعى في أعمالنا بعيدا عن حارتنا وإذا عدنا توارينا وراء الجدران، وإذا عثر على أحدنا فتوة عبث به صفعا أو بصقا. إن تراب حارتنا اليوم أكرم عليهم منا يا جبل .. ما أسعدك في غربتك!
فقال جبل بامتعاض: دع سعادتي وشأنها وخبرني ألم يصب أحد بسوء؟
فقال دعبس وهو يتناول طوبة ويضرب بها الأرض: قتلوا منا عشرة في عهد الحصار! - يا رب السموات؟ - ذهبوا فداء لقدرة الحقير ابن الحقيرة، ولكنهم ليسوا من أصحابنا!
فقال جبل بحنق: ألم يكونوا من آل حمدان يا دعبس؟
فرمش دعبس حياء وتحركت شفتاه بعذر غير مسموع، فعاد جبل يقول: والآخرون ينعمون بالصفع والبصق!
وشعر الرجل بأنه مسئول عن الأرواح التي أزهقت، وعصر الألم قلبه. ووجد ندما داميا على كل لحظة سلام مرت به منذ هجرته. ودهمه دعبس بقوله: لعلك الوحيد السعيد اليوم من آل حمدان.
فهتف: لم أكف يوما عن التفكير فيكم. - لكنك بعيد عن الهم والغم.
فقال بحدة: لم أفلت من الماضي قط. - لا تبدد راحة بالك بلا أمل، لم يعد لنا أمل.
فردد جبل قوله الأخير ولكن في نبرات غامضة: لم يعد لنا أمل!
فرمقه دعبس باهتمام مستطلعا ولكنه لم ينبس احتراما للحزن المرسوم على وجهه. ونظر إلى الأرض فرأى خنفساء تدب مسرعة حتى اختفت تحت كومة أحجار. وكان الراعي ينفض جلبابه ليغطي جسده الذي ألهبته الشمس. وعاد جبل يقول: في الحق لم أكن سعيدا إلا في الظاهر.
فقال مجاملا: إنك تستحق السعادة عن جدارة. - تزوجت واتخذت لنفسي عملا جديدا كما ترى وما برح نداء خفي يلح في إقلاق منامي. - فليباركك الله، أين تقيم؟
لم يجبه. وبدا وكأنه يخاطب نفسه. ثم قال: لا تطيب الحياة وبها أمثال أولئك الأوغاد. - صدقت، ولكن كيف التخلص منهم؟
ارتفع صوت الراعي وهو ينادي أغنامه ، ويسير نحوها متأبطا عصاه الطويلة، ثم ترامى عنه لحن غناء غير واضح. وتساءل دعبس: كيف أستطيع أن ألقاك؟ - سل عن بيت البلقيطي الحاوي عند سوق المقطم ولكن اكتم خبري إلى حين.
ونهض دعبس فشد على يده ومضى والآخر يتابعه بعينين محزونتين.
37
أوشك الليل أن ينتصف. وكادت حارة الجبلاوي تغرق في الظلمة لولا أضواء وانية تتسلل من أبواب المقاهي المواربة اتقاء للبرد. ولم يلح في سماء الشتاء نجم واحد، وتوارى الغلمان في الحجرات وحتى الكلاب والقطط أوت إلى الأفنية. ومن خلال الصمت الشامل انبعثت أنغام الرباب الرتيبة تردد الحكايات، أما حي آل حمدان فقد تلفع بظلمة خرساء. وجاء شبحان من ناحية الخلاء، فسارا تحت سور البيت الكبير، ثم مرا أمام بيت الأفندي، قاصدين حي آل حمدان، حتى وقفا أمام الربع الأوسط وطرق أحدهما الباب، فرن الطرق في الصمت مثل قرع الطبول. وفتح الباب عن وجه حمدان نفسه الذي بدا شاحبا على ضوء سراج بيده ورفع السراج ليتبين وجه الطارق، وما عتم أن هتف في دهشة: جبل؟! - وتنحى عن الباب فدخل جبل حاملا بقجة كبيرة وجرابا، وتبعته زوجه حاملة بقجة أخرى. وتعانق الرجلان. وألقى حمدان نظرة سريعة على المرأة فلمح بطنها، وقال: زوجتك؟ أهلا بكما، اتبعاني على مهل.
اخترقوا دهليزا طويلا مسقوفا حتى بلغوا الحوش الواسع غير المسقوف، ثم مالوا إلى السلم الضيق ورقوا فيه حتى مسكن حمدان. وأدخلت شفيقة إلى الحريم، ومضى حمدان بجبل إلى حجرة واسعة متصلة بشرفة مطلة على حوش الربع. وما لبث خبر عودة جبل أن ذاع فأقبل كثيرون من رجال آل حمدان على رأسهم دعبس وعتريس وضلمة وفوانيس ورضوان الشاعر وعبدون، فصافحوا جبل بحرارة، وجلسوا في الحجرة على الشلت يتطلعون إلى العائد باهتمام وحب استطلاع. وتتابعت الأسئلة على جبل فقص عليهم طرفا من حياته الأخيرة. وتبادلوا نظرات الأسى. ورأى جبل أن أرواحهم المضعضعة تنعكس على أجسادهم المهزولة وأن الفناء يدب في الأوصال. وقصوا عليه ما يلقون من هوان، فقال دعبس: إنه أخبره بكل شيء في لقاء اتفق لهما منذ شهر؛ وإنه لذلك يعجب لما جاء به، وسأله ساخرا: أجئت لتدعونا للهجرة إلى مقامك الجديد؟
فقال جبل بحدة: لا مقام لنا إلا هنا!
وجذب الأسماع في صوته نبرة قوة حتى لاح الاستطلاع في عيني حمدان وقال: لو كانوا ثعابين لما استعصى عليك ردعهم.
ودخلت تمر حنة بأقداح الشاي فحيت جبل تحية حارة، وأثنت على زوجه، وتنبأت له بأنه سينجب ذكرا، ولكنها قالت مستدركة: لم يعد من فارق بين رجالنا ونسائنا!
ونهرها حمدان وهي تغادر الحجرة، ولكن أعين الرجال عكست اقتناعا ذليلا بقولها، وتكاثفت سحب الأحزان المخيمة على المجلس، فلم يذق أحد للشاي طعما. وتساءل رضوان الشاعر: لماذا عدت يا جبل وأنت لم تألف الإهانة؟
فقال حمدان بصوت ينم عن الانتصار: قلت لكم مرارا إن الصبر على ما نلقى خير من التسكع بين غرباء سيكرهوننا.
فقال جبل بقوة: ليس الأمر كما ترى.
وهز حمدان رأسه دون أن ينبس، فساد صمت حتى قال دعبس: يا جماعة فلنتركه ليستريح.
ولكنه أشار لهم بالبقاء وقال: ما جئت لأستريح، ولكن لأحدثكم في شأن خطير، أخطر مما تتصورون.
وتطلعت إليه الأعين بدهشة وغمغم رضوان متمنيا الخير فيما سيسمع. أما جبل فراح يقلب في الوجوه عينيه القويتين، ثم قال: كان بوسعي أن أمضي العمر كله في أسرتي الجديدة دون تفكير في العودة إلى حارتنا.
وصمت مليا، ثم عاد يقول: لكنه حدث منذ أيام معدودة أن شعرت برغبة في المشي وحدي على رغم البرد والظلام، فخرجت إلى الخلاء، وإذا بقدمي تقودانني إلى البقعة المشرفة على حارتنا، ولم أكن دنوت منها منذ هروبي.
تجلى الاهتمام في الأعين، فواصل الرجل حديثه قائلا: مضيت في تجوالي في ظلام دامس، فحتى النجوم توارت وراء السحب، وما أدري إلا وأنا أوشك أن أصطدم بشبح هائل، توهمته أول الأمر أحد الفتوات، ولكنه بدا لي شخصا ليس كمثله أحد في حارتنا ولا في الناس جميعا، طويلا عريضا كأنه جبل، فامتلأت رهبة وهممت بالتراجع، وإذا به يقول بصوت عجيب: «قف يا جبل!»؛ فتسمرت في مكاني وسألته وجلدي ينضح بالخوف: «من؟ من أنت؟»
وتوقف جبل عن الحديث فمالت الرءوس إلى الأمام في اهتمام، وتساءل ضلمة: من حارتنا؟
ولكن عتريس قال بسرعة معترضا: قال إنه ليس كمثله أحد في حارتنا ولا في الناس جميعا.
ولكن جبل قال: بل إنه من حارتنا؟
وتساءلوا عن هويته جميعا فقال جبل: قال لي بصوته العجيب: «لا تخف، أنا جدك الجبلاوي!»
وارتفعت صيحات الدهشة من الجميع ورمقوه بنظرات الارتياب، وقال حمدان: إنك تهزر دون شك. - بل أقول الحق دون زيادة ولا نقصان!
فسأله فوانيس: ألم تكن مسطولا؟
فصاح جبل بغضب: إن السطل لم يذهب بعقلي قط!
فقال عتريس: له لطشات لا تعرف عزيزا وخصوصا الأصناف الجيدة!
فتبدى الغضب في وجه جبل كالسحاب المظلم وصاح: سمعته بأذني وهو يقول لي: «لا تخف، أنا جدك الجبلاوي»!
فقال حمدان برقة ليسكن غضبه: لكنه لم يغادر بيته من زمن ولم يره أحد! - لعله يخرج كل ليلة دون أن يدري أحد.
فعاد حمدان يتساءل في حذر: لكن أحدا غيرك لم يصادفه! - صادفته أنا! - لا تغضب يا جبل فما قصدت التشكيك في صدقك، ولكن الوهم خداع. بالله خبرني إذا كان الرجل يستطيع الخروج من بيته، فلماذا نزل عن النظارة لغيره؟ ولماذا يتركهم يعبثون بحقوق أبنائه؟!
فقال جبل مقطبا: هذا سره وهو به أعلم. - إن ما قيل عن اعتزاله لكبره وعجزه أقرب إلى المعقول.
فقال دعبس: إننا نتخبط بين الأقاويل، دعونا نسمع القصة إن كان لها بقية.
فقال جبل: قلت له: «لم أحلم أن أقابلك في هذه الحياة!» فقال: «ها أنت ذا تقابلني.» وحددت بصري؛ لأتبين وجهه المرتفع في الظلام فقال لي: «لن تستطيع رؤيتي ما دام الظلام!» فقلت بذهول لرؤيته محاولة رؤيتي له: «لكنك تراني في الظلام!» فقال: «إني أرى في الظلام منذ اعتدت التجوال فيه قبل أن توجد الحارة.» فقلت بإعجاب: «الحمد لرب السماوات على أنك ما زلت تتمتع بصحتك.» فقال: «أنت يا جبل ممن يركن إليهم، وآي ذلك أنك هجرت النعيم غضبا لأسرتك المظلومة. وما أسرتك إلا أسرتي، وهم لهم في وقفي حق يجب أن يأخذوه، ولهم كرامة يجب أن تصان، وحياة يجب أن تكون جميلة.» فسألته في فورة حماس أضاءت الظلام: «وكيف السبيل إلى ذلك؟» فقال: «بالقوة تهزمون البغي، وتأخذون الحق، وتحيون الحياة الطيبة.» فهتفت من أعماق قلبي: «سنكون أقوياء.» فقال: «وسيكون النجاح حليفكم.»
وترك صوت جبل وراءه صمتا كالحلم بدوا فيه جميعا مسحورين.
كانوا يفكرون ويتبادلون النظرات، ثم يتجهون بأعينهم إلى حمدان حتى خرج عن صمته قائلا: فلنتدبر هذه الحكاية بعقولنا وقلوبنا!
فقال دعبس بقوة: إنها لا تبدو وهما من أوهام السطل وكل ما تتضمنه حق.
فقال ضلمة بإيمان: لن تكون وهما إلا إذا كانت حقوقنا وهما!
فتساءل حمدان في شيء من التردد: ألم تسأله عما يمنعه من إجراء العدل بنفسه؟ أو عما جعله يعهد بالنظارة إلى قوم لا يحسنون القيام على حقوق الناس؟
فقال جبل بامتعاض: لم أسأله، ولم يكن بوسعي أن أسأله، أنت لم تلقه في الخلاء والظلمة ولم تستشعر الرهبة في حضرته. ولو وقع لك ذلك ما فكرت في مناقشته الحساب ولا داخلك الشك في أمره.
فهز حمدان رأسه فيما يشبه التسليم وقال: هذا كلام خليق بالجبلاوي حقا، ولكن ما أخلقه بأن ينفذه بنفسه!
فصاح دعبس: انتظروا حتى تموتوا في هوانكم!
فتنحنح رضوان الشاعر وقال وهو ينظر بحذر في الوجوه: كلام جميل ولكن فكروا فيما يجرنا إليه.
فقال حمدان بحزن: ذهبنا مرة نستجدى بعض حقنا فكان ما كان.
وإذا بعبدون الصغير يصيح: علام نخاف وليس هناك أسوأ مما نحن فيه؟!
فقال حمدان كالمعتذر: لست أخاف على نفسي ولكني أخاف عليكم.
فقال جبل بازدراء: سأذهب إلى الناظر وحدي.
فقال دعبس وهو يتزحزح مقتربا من مجلسه: ونحن معك، لا تنسوا أن الجبلاوي وعده بالنجاح!
فقال جبل: سأذهب وحدي عندما أقرر الذهاب، ولكنني أريد أن أطمئن إلى أنكم ستكونون ورائي وحدة متماسكة خليقة بمواجهة الشدة والصمود لها!
ووثب عبدون واقفا في حماس وهتف: وراءك حتى الموت!
وانتقل حماس الغلام إلى دعبس وعتريس وضلمة وفوانيس. وتساءل رضوان الشاعر بشيء من المكر: إن كانت زوجة جبل تدري بما جاء زوجها من أجله، فقص جبل عليهم كيف أنه أفضى بسره إلى البلقيطي، وكيف نصحه الرجل بتقدير العواقب، وكيف أصر على العودة إلى حارته، وكيف اختارت زوجه أن تسير معه إلى النهاية.
وعند ذاك قال حمدان بصوت أنبأ بأنه مع الآخرين: ومتى تذهب إلى الناظر؟
فأجاب جبل: عندما تنضج خطتي.
فقام حمدان وهو يقول: سأدبر لك مقاما في مسكني، إنك أعز الأبناء، وهذه ليلة لها ما وراءها، ولعل الرباب ترويها غدا موصولة بقصة أدهم، هلموا نتعاهد على الخير والشر!
عند ذاك تصاعد صوت حمودة الفتوة، العائد مع الفجر، وهو يغني بلسان مخمور مترنح:
يا واد يا سكري تشرب تنجلي،
وتخش الحارة تتطوح تترمي،
وعاملي فنجري،
وتمز بجنبري.
فلم يؤخذوا بصوته إلا لحظة، ثم مدوا أيديهم للتعاهد في حماس، وفي رجاء.
38
وعلمت الحارة بعودة جبل؛ رأته يسير بجرابه، ورأت زوجته وهي تسعى إلى الجمالية لابتياع حوائجها، وتحدثوا عن مهنته الجديدة التي لم يسبقه إليها أحد من أبناء الحارة. على أنه كان يعرض ألاعيبه السحرية في الأحياء المجاورة دون حارته، وتجنب استعمال الثعابين في ألاعيبه فلم يفطن أحد إلى أنه بها خبير. ومر ببيت الناظر مرات وكأنما لم يطرقه في حياته وهو يكابد في أعماقه حنينا أليما إلى أمه. ورآه الفتوات مثل: حمودة والليثي وبركات وأبو سريع فلم يصفعوه كما يفعلون مع غيره من آل حمدان، ولكنهم عرضوا به وهزئوا بجرابه. وصادفه مرة زقلط فحدجه بنظرة قاسية، ثم اعترض سبيله متسائلا: أين كانت غيبتك؟
فقال في حلم: في الأرض الواسعة ...
فقال الرجل متحرشا: إني فتوتك ومن حقي أن أسألك عما أريد وعليك أن تجيب! - أجبتك بما عندي. - وماذا عاد بك؟
فقال في هدوء: ما يعود بالإنسان إلى حارته.
فقال له بصوت نم عن وعيد: لو كنت في مكانك ما عدت!
وسار فجأة بقوة، فكاد يرتطم به لولا أن تنحى جبل عن سبيله بسرعة، كاظما غيظه. وإذا بصوت بواب بيت الناظر يناديه، فالتفت جبل نحوه دهشا، ثم مشى إليه، فالتقيا أمام البيت وتصافحا بحرارة. وجعل الرجل يسأله عن أحواله، ثم أخبره بأن الهانم تود رؤيته. وكان جبل يتوقع هذه الدعوة منذ ظهوره في الحارة، كان قلبه يحدثه بأنها آتية لا ريب فيها. ومن ناحيته لم يكن بوسعه أن يزور البيت للحال التي غادره عليها، وفضلا عن ذلك، فقد قرر ألا يطلب المقابلة حتى لا يثير الشكوك حولها قبل أن تقع، سواء في نفس الناظر أم في نفوس الفتوات، ولكنه ما كاد يدخل البيت حتى جرى الخبر في الحارة جميعا. وألقى نظرة سريعة - عند مسيره إلى السلاملك - على الحديقة، على أشجار الجميز والتوت العالية، وشجيرات الأزهار والورود التي تغطي الأركان، وقد اختفى العبير التقليدي تحت قبضة الشتاء، وغشي الجو نور هادئ وديع كالأصيل كأنه يقطر من السحاب الأبيض المنتشر، وصعد السلم وهو يطرد عن قلبه بقوة أسراب الذكريات، ودخل البهو فرأى في صدره الهانم وزوجها جالسين، منتظرين.
نظر إلى أمه فتلاقت نظرتاهما، وقامت المرأة لاستقباله في تأثر شديد، فهوى على يديها يقبلهما، ولثمت جبينه في حنان، فاجتاحه في موقفه شعور بالحب والسعادة، والتفت رأسه إلى الناظر فرآه جالسا في عباءته يطالعهما بعينين باردتين، فمد له يده فقام نصف قومة ليصافحه وسرعان ما جلس. وجرت عينا هدى على جبل في دهشة ممزوجة بانزعاج، وهو يبدو بجسمه الفارع في جلباب خشن مشمر وسطه بحزام غليظ، وفي قدميه مركوب شبه بال، وعلى شعره الغزير طاقية عتماء، فتجلى في عينيها الرثاء، وتحدثت عيناها - من دون اللسان - فأبدت حزنها على مظهره وعلى ما ارتضاه لنفسه من حياة، وكأنما كانت تطالع أملا باهرا تهاوى إلى حطام. وأشارت له بالجلوس فجلس على مقعد قريب منها، وجلست هي فيما يشبه الإعياء.
وأدرك ما يدور في نفسها فحدثها بصوت قوي عن حياته في سوق المقطم، وعن مهنته، وزواجه. حدثها حديث الراضي عن تلك الحياة على رغم خشونتها، والقانع بها؛ فامتعضت لقوله وقالت: لتكن حياتك ما تكون، ولكن كيف لم تجعل من بيتي أول بيت تقصده لدى عودتك إلى الحارة؟
كاد يقول لها إنه ليس لعودته إلى الحارة من هدف إلا بيتها، ولكنه أجل ذلك؛ لأن اللحظة لم تكن مناسبة، ولأنه لم يفق بعد من تأثر اللقيا. وأجاب قائلا: كان بيتك أمنيتي، ولكني لم أجد الشجاعة لاقتحامه بعد ما كان.
وإذا بالأفندي يسأله بصوت بارد: ولماذا عدت ما دام العيش قد طاب لك في الخارج؟
فندت عن الهانم نظرة عتاب نحو زوجها الذي تجاهلها. أما جبل فقال باسما: لعلي عدت يا سيدي طامعا في لقياك!
فقالت هدى في عتاب: ولم تزرنا حتى دعوناك يا جاحد!
فقال جبل وهو يخفض رأسه: ثقي يا سيدتي بأنني كلما ذكرت الظروف التي اضطرتني إلى مغادرة هذا البيت لعنتها من صميم قلبي.
فحدجه الأفندي بنظرة مريبة وهم بسؤاله عما يعني، ولكن هدى سبقته قائلة: علمت بلا شك بعفونا عن آل حمدان إكراما لك.
وأدرك جبل أنه آن لهذا الموقف العائلي الطيب أن ينتهي كما قدر له من أول الأمر، وأنه آن للكفاح أن يبدأ، فقال: الحق يا سيدتي أنهم يعانون ذلا ألعن من الموت، وقد قتل منهم من قتل.
فقبض الأفندي بشدة على مسبحته وهتف بحدة: إنهم مجرمون، وقد نالوا ما يستحقون.
فلوحت هدى بيدها في رجاء وقالت: فلننس الماضي كله.
فقال الأفندي بإصرار: ما كان يجوز أن يضيع دم قدرة هدرا.
فقال له جبل بثبات: المجرمون حقا هم الفتوات.
فوقف الأفندي في عصبية ووجه الخطاب إلى زوجته قائلا في لوم: أرأيت نتيجة إذعاني لك في دعوته إلى بيتنا؟
فقال جبل بصوت أفصحت نبراته عما وراءه من عزم: سيدي، كان في نيتي أن أجيء إليك على أي حال، ولعل الاعتراف بالجميل الذي أكنه نحو البيت هو الذي جعلني أنتظر حتى أدعى إليه.
فرمقه الناظر بنظرة توجس وارتياب ثم سأله: ماذا تريد من مجيئك؟
فوقف جبل مواجها الناظر في شجاعة، وهو يدرك تماما أنه يفتح بابا ستهب منه العواصف جامحة، ولكنه كان يستمد من مقابلة الخلاء شجاعة لا تتزعزع. قال: جئت مطالبا بحقوق آل حمدان في الوقف وفي الحياة الآمنة!
اسود وجه الأفندي من الغضب على حين فغرت الهانم فاها من اليأس، وقال الرجل وهو يحدجه بنظرة محرقة: أتجرؤ حقا على معاودة هذا الحديث؟ أنسيت أن المصائب تتابعت عليكم مذ جرؤ شيخكم المخرف على التقدم بهذه المطالب الخرافية؟! أقسم على أنك جننت، ولست مطالبا بتضييع وقتي مع المجانين.
وقالت هدى بصوت باك: جبل، كان في نيتي أن أدعوك أنت وزوجك للإقامة معنا.
لكن جبل قال بصوت قوي: إنما رددت على مسامعك رغبة من لا ترد له رغبة، وهو جدك وجدنا الجبلاوي!
نظر الأفندي إلى جبل بإمعان وتفرس وذهول. نهضت هدى جزعة ووضعت كفها على منكب جبل وهي تتساءل: جبل، ماذا دهاك؟!
فقال جبل باسما: بخير يا سيدتي.
فقال الأفندي في ذهول: بخير؟! أنت بخير؟ ماذا حصل لعقلك؟
فقال جبل بهدوء وسكينة: اسمع قصتي واحكم بنفسك.
وقص عليهما ما سبق أن قصه على آل حمدان. ولما فرغ من قصته قال الأفندي وكان يتفرس في وجهه طوال الوقت بريبة: الواقف لم يغادر بيته قط منذ اعتزل!
فقال جبل: لكني قابلته في الخلاء.
فسأله متهكما: ولماذا لم يطلعني أنا على رغباته؟
فقال جبل: هذا سره وهو به أعلم.
فضحك الأفندي ضحكة حانقة وقال: إنك حاو بحق وجدارة، ولكنك لا تقنع بألاعيب الحواة، وإنما تطمع في اللعب بالوقف كله!
فقال جبل دون أن يزايله هدوءه: علم الله أني ما جاوزت الحق، فلنحتكم إلى الجبلاوي نفسه إن استطعت، أو إلى شروطه العشرة!
فانفجر غضب الأفندي؛ اربد وجهه وارتعشت أطرافه وصاح: أيها اللص المحتال! لن تنجو من مصيرك الأسود ولو اعتصمت بقمة الجبل!
وهتفت هدى: يا للشقاء! ما كنت أتوقع أن تجيئني بهذه التعاسة كلها يا جبل!
فتساءل جبل في عجب: أيحدث هذا كله لا لشيء إلا لأنني طالبت بحق آلي المشروع؟!
فصرخ الأفندي بأعلى صوته: اخرس يا محتال، يا حشاش، يا حارة حشاشين يا أولاد الكلب، اخرج من بيتي، وإن عدت إلى هذيانك قضيت على نفسك وعلى أهلك بالذبح كالنعاج.
فقطب جبل غاضبا وصاح: احذر أن يحيق بك غضب الجبلاوي.
فهجم الأفندي على جبل ولكمه في صدره العريض بأقصى قوته.
ولكن جبل تلقاها بثبات وصبر، والتفت إلى الهانم قائلا: إنما أكرمه إكراما لك.
ثم ولى لهما ظهره وذهب.
39
توقع آل حمدان شرا داهما. وخالفت تمر حنة الإجماع، فظنت أنه ما دام جبل على رأس آل حمدان هذه المرة فلن تسمح الهانم بالقضاء عليه. لكن جبل نفسه لم يؤمن بظن تمر حنة وأكد أنه إذا هدد الوقف طامع فلن يقام وزن لجبل ولا لأحد من الناس ولو كان أقربهم إلى الأفندي نفسه. وذكرهم جبل بوصية جدهم بأن يكونوا أقوياء وأن يصمدوا للملمات. ومضى دعبس يقول: إن جبل كان يرفل في النعيم وإنه نبذه مختارا إكراما لهم، فلا يصح أن يخذله أحد، وإن التذرع بالقوة إذا لم ينفع، فلن يدفع بهم إلى أسوأ مما هم فيه بحال. والحق أن آل حمدان استشعروا الخوف وتوترت منهم الأعصاب ولكنهم وجدوا في اليأس قوة وعزيمة فكانوا يرددون المثل القائل «لطابت لاتنين عور».
رضوان الشاعر وحده راح يقول متحسرا: «لو شاء الواقف لأعلن كلمة العدل وقضى لنا بالحق ونجانا من هلاك مبين.» وقد غضب جبل لما بلغه قوله، فقصده عابسا هائجا ثم هزه من منكبيه حتى كاد يقتلعه من مجلسه وصاح به: «أهذا هو حال الشعراء يا رضوان؟! تروون حكايات الأبطال وتغنون على الرباب، فإذا جد الجد تقهقرتم إلى الجحور وأشعتم التردد والهزيمة؟! ألا لعنة الله على الجبناء!» والتفت إلى الجالسين قائلا: «لم يكرم الجبلاوي حيا من أحياء هذه الحارة كما أكرمكم، ولو لم يكن يعتبركم أسرته الخاصة ما لاقاني ولا كلمني، ولكنه نور السبيل ووعد بالتأييد، ووالله لأكافحن ولو كنت وحدي!» لكن بدا أنه لم يكن وحده. أيده كل رجل، وأيدته كل امرأة، وانتظروا جميعا المحنة وكأنهم لا يبالون بالعواقب.
واحتل جبل مكان الزعامة في حيه بطريقة عفوية أملتها الأحداث دون قصد منه أو تدبير، ودون ممانعة من حمدان الذي ارتاح إلى تخليه عن موضع سيصير هدفا لهجوم لن يعرف مداه. ولم يقبع جبل في الربع فخرج - مخالفا نصيحة حمدان - ليتجول كعادته. كان يتوقع شرا عند كل خطوة ولكن أحدا من الفتوات لم يتعرض له بسوء، فعجب لذلك غاية العجب، ولم يجد له من تفسير إلا أن يكون الأفندي قد كتم أنباء المقابلة على أمل أن يسكت هو أيضا عن مطالبه فينتهى الأمر وكأنه ما كان. وأشفق من أن ينتهي الأمر وكأنه ما كان. ورأى وراء هذه السياسة وجه الهانم المحزون وأمومتها الصادقة. وخاف أن يثبت حنانها أنه أقسى عليه من غلظة زوجها، ففكر طويلا فيما ينبغي أن يفعل لينفض الرماد عن الجمر.
وجرت في الحارة أحداث غريبة. فذات يوم ترامت استغاثة امرأة من بدروم، وتبين أن ثعبانا زحف بين قدميها فخرجت تجري إلى الطريق. وتطوع رجال للتفتيش عن الثعبان فدخلوا مسكنها بعصيهم، وفتشوا عن الثعبان حتى عثروا عليه، فانهالوا عليه ضربا حتى قتلوه، وطرحوه على أرض الحارة فتلقفه الغلمان وراحوا يلعبون به مهللين. ولم يكن الحادث بالغريب في الحارة ولكن لم تكد تمضي ساعة حتى ارتفعت صرخة استغاثة ثانية من بيت في مطلع الحارة فيما يلي الجمالية. وما جثم الليل حتى تعالت ضجة في ربع من ربوع حمدان، إذ رأى البعض ثعبانا ولكنه اختفى قبل أن يلحق به أحد، وضاعت جهود القوم للعثور عليه، وعند ذاك تطوع جبل نفسه لاستخراجه مستعينا بالخبرة التي اكتسبها عند البلقيطي. وتحدث آل حمدان عن وقفة جبل عاريا في الحوش، وعن لغته السرية التي خاطب بها الثعبان حتى جاء طائعا. وكادت تلك الأحداث تنسى مع صباح اليوم التالي لولا أن تكرر وقوعها في بيوت أناس من ذوي الشأن. فقد ذاع وملأ الأسماع أن ثعبانا لدغ حمودة الفتوة وهو يقطع دهليز الربع الذي يقيم فيه، فصرخ الرجل على رغمه حتى أدركه أصحابه وأسعفوه. هنا انقلب الحادث أحدوثة. وقال الناس في الثعابين وأعادوا.
غير أن نشاط الثعابين العجيب لم يتوقف. فقد رأى بعض الصحاب في غرزة الفتوة بركات ثعبانا بين عمد السقف، لاح نصف دقيقة ثم اختفى، فهبوا مذعورين وتقوض المجلس. وغطت أخبار الثعابين على حكايات الشعراء في المقاهي. وبدا أن نشاطها قد جاوز حدود الأدب، إذ ظهر ثعبان ضخم في بيت حضرة الناظر. ومع أن خدم البيت الكثيرين انتشروا في أركانه للتفتيش عن الثعبان المختفي إلا أنهم لم يقفوا له على أثر. وركب الخوف الناظر والهانم حتى فكرت جديا في مغادرة البيت إلى أن تطمئن إلى خلوه من الثعابين. وبينما البيت مقلوب رأسا على عقب ترامى من بيت زقلط فتوة الحارة صراخ وضجة، وذهب البواب ليستطلع الخبر ثم عاد ليخبر سيده بأن ثعبانا لدغ أحد أبناء زقلط ثم اختفى؛ وتملك الخوف النفوس. وتتابعت الاستغاثات من الثعابين من كل ربع فصممت الهانم على مغادرة الحارة.
وقال عم حسنين البواب: إن جبل حاو وللحواة خبرة باصطياد الثعابين، وأكد أنه استخرج ثعبانا من أحد ربوع آل حمدان. وامتقع لون الأفندي ولم ينبس، أما الهانم فأمرت البواب بأن يستدعي جبل. ونظر البواب إلى سيده مستأذنا، فغمغم الأفندي بكلمات حانقة دون أن يبين. وخيرته الهانم بين دعوة جبل وبين مغادرة البيت، فأذن للرجل بالذهاب وهو ينتفض حنقا وغضبا وتجمع كثيرون فيما بين بيتي الناظر والفتوة، وتوافد ذوو الشأن على بيت الناظر وفي مقدمتهم الفتوات: زقلط وحمودة وبركات والليثي وأبو سريع. ولم يكن للمجتمعين من حديث إلا الثعابين، فقال أبو سريع: لا بد أن شيئا في الجبل دفع بالثعابين إلى بيوتنا!
فصاح زقلط وقد بدا وكأنه يقاتل نفسه؛ لأنه لا يجد من يقاتله: طول عمرنا جيران للجبل وما حصل منه شيء.
كان زقلط ثائرا لما أصاب ابنه، وكان حمودة لا يزال يعرج من إصابة ساقه، على حين تملك الخوف الجميع، فقالوا: إن بيوتهم لم تعد صالحة للمبيت، وإن السكان تجمهروا في الحارة.
وجاء جبل حاملا جرابه الخالي، فحيا الجميع، ووقف أمام الناظر والهانم في أدب وثقة.
ولم يستطع الناظر أن ينظر إليه، أما الهانم فقالت له: قيل لنا يا جبل إنك تستطيع استخراج الثعابين من بيوتنا؟
فقال جبل بهدوء: تعلمت ذلك فيما تعلمت يا صاحبة الفضل. - دعوتك؛ لتطهر البيت من الثعابين.
فنظر جبل إلى الأفندي متسائلا: هل يأذن لي حضرة الناظر؟
فغمغم الناظر وهو يداري حنقه وقهره: نعم.
وهنا تقدم الليثي بإيحاء خفي من زقلط وسأله: وبيوتنا وبيوت الآخرين؟
فقال جبل: إن خبرتي تحت أمر الجميع.
وارتفعت أصوات بالشكر، فأجال جبل عينيه الكبيرتين في الوجوه مليا ثم قال: ولعلي في غير حاجة إلى تذكيركم بأن لكل شيء ثمنه كما تجري المعاملات في حارتنا!
فتطلع إليه الفتوات في دهشة فقال: علام تدهشون؟ إنكم تحمون الأحياء نظير الإتاوات، وحضرة الناظر يدير الوقف نظير التصرف في ريعه!
والظاهر أن حرج الموقف لم يسمح للأعين بالإفصاح عما في الصدور، غير أن زقلط سأله: ماذا تطلب نظير عملك؟
فقال بهدوء: لن أطلب نقودا، ولكني أطلب كلمة شرف باحترام آل حمدان في كرامتهم وحقهم في الوقف.
وساد الصمت، فبدا أن الجو يتنفس بالحقد المكتوم. وتضاعف قلق الهانم على حين أخفى الناظر عينيه في الأرض. وعاد جبل يقول: لا تظنوا أنني أتحداكم، الحق أنني أذكركم بما يمليه عليكم الحق والعدل نحو إخوانكم المغلوبين على أمرهم. إن الخوف الذي أخرجكم من دياركم ما هو إلا جرعة مما يتجرع إخوانكم كل يوم من أيام حياتهم التعيسة.
التمعت في الأعين نظرات غضب سريعة كالبرق في السحاب، وسرعان ما اختفت تحت غيم الكظم. غير أن أبو سريع صاح: أستطيع أن آتيكم بأحد الرفاعية ولو نبيت خارج بيوتنا يومين أو ثلاثة أيام حتى يحضر من قريته.
فتساءلت الهانم: كيف لحارة بأكملها أن تبيت خارج بيوتها يومين أو ثلاثة؟
وكان الأفندي يفكر بكل قواه مغالبا ما استطاع عواطف الغضب والحقد التي تستعر في صدره، وإذا به يقول مخاطبا جبل: إني معطيك كلمة الشرف التي تطلب، فابدأ عملك.
وذهل الفتوات، غير أن الموقف لم يسمح لهم بإعلان ما في نفوسهم، وران على صدورهم هم قاتل. أما جبل فأمر الجميع بالابتعاد إلى أقصى الحديقة فخلا له المكان والبيت. وتجرد من ثيابه فانقلب كيوم التقطته الهانم من الحفرة المترعة بمياه الأمطار. ومضى ينتقل من مكان إلى مكان، ومن حجرة إلى حجرة، وهو يصفر صفيرا خافتا تارة أو يغمغم بكلام غير مبين. واقترب زقلط من الناظر وقال له: إنه هو الذي بعث بالثعابين إلى بيوتنا.
فأشار الناظر إليه بالسكوت وتمتم: دعه يخرج ثعابينه.
وأذعن لجبل ثعبان كان مختفيا في المنور، وأخرج آخر من حجرة إدارة الوقف، فلف الثعبانين على ذراعه، وظهر بهما أمام السلاملك حيث أودعهما جرابه. وارتدى ملابسه ووقف ينتظر حتى جاء الجميع، فقال موجها خطابه لهم: هلموا إلى بيوتكم؛ لأطهرها.
والتفت نحو الهانم وقال بصوت خافت: لولا تعاسة أهلي ما اشترطت في خدمتك شرطا قط.
واقترب من الناظر فرفع يده تحية وقال بشجاعة: وعد الحر دين عليه.
ومضى خارجا والجمع يسير وراءه صامتا.
40
وفق جبل في تطهير الحارة من الثعابين على مرأى من جميع أهلها. وكان كلما أذعن له ثعبان تعالى الهتاف والزغاريد حتى باتت مهارته حديث الحارة من البيت الكبير إلى الجمالية. ولما فرغ من عمله ومضى إلى ربعه تجمع حوله الغلمان والشبان وراحوا يتغنون مصفقين:
جبل .. يا نصير المساكين
جبل .. يا قاهر الثعابين.
وتواصل الغناء والتصفيق حتى بعد ذهابه. غير أنه كان لذلك رد فعل شديد في أنفس الفتوات، فما لبث أن خرج للمتظاهرين حمودة والليثي وأبو سريع وبركات، فانهالوا عليهم لعنا وسبا وصفعا وركلا حتى تفرقوا لائذين بالبيوت، فلم يبق في الطريق إلا الكلاب والقطط والذباب. وتساءل الناس عن سر هذه الحملة: كيف يجزي الفتوات صنيع جبل بالاعتداء على المتظاهرين من أجله؟ وهل يحافظ الأفندي على وعده لجبل أو تكون حملة الفتوات بداية لحملة انتقام عاتية؟ ودارت هذه الأسئلة برأس جبل، فدعا رجال حمدان إلى الربع الذي يقيم فيه ليتدبروا الأمر معا. وكان زقلط مجتمعا في الوقت ذاته بالناظر وحرمه، وكان يقول بإصرار والحنق يلتهمه: لن نبقي منهم على أحد.
وبدا الارتياح في وجه الأفندي، غير أن الهانم تساءلت: وكلمة الشرف التي أعطاها الناظر؟
فعبس زقلط حتى انقلب وجهه أقبح من أي وجه آدمي وقال: الناس يخضعون للقوة لا للشرف.
فقالت بامتعاض: سيقولون فينا ويعيدون. - فليقولوا ما حلا لهم، متي سكتوا عنكم أو عنا؟ إن الغرز تضج كل ليلة بالقفش والتنكيت علينا، ولكن إذا خرجنا إلى الطريق وقفوا خاشعين، وهم يخشعون خوفا من النبوت لا إعجابا بالشرف.
وحدجها الأفندي بنظرة ممتعضة وقال: جبل هو الذي دبر مؤامرة الثعابين ليملي علينا شروطه، كل أحد يعرف ذلك. فمن ذا الذي يطالب باحترام كلمة أعطيت لمحتال نصاب مخاتل؟!
وقال زقلط محذرا ووجهه ما زال متشبثا بقبحه: تذكري يا هانم أنه إذا نجح جبل في استخلاص حق آل حمدان في الوقف فلن يهدأ بال أحد في الحارة حتى ينال حقه أيضا، وبذلك يضيع الوقف ونضيع جميعا.
وقبض الأفندي على المسبحة في يده بشدة حتى طقطقت حباتها وهتف بزقلط: لا تبق على أحد منهم.
ودعي الفتوات إلى بيت زقلط ثم لحق بهم أعوانهم المقربون. وذاع في الحارة أن أمرا خطيرا يدبر لآل حمدان، فامتلأت النوافذ بالنساء وازدحم الطريق بالرجال. وكان جبل قد أعد خطته، فاحتشد رجال حمدان في حوش الربع الأوسط مدججين بالنبابيت ومقاطف الطوب على حين توزعت النساء في الحجرات وفوق السطح. وكان لكل أحد منهم عمله المرسوم، غير أن أي خطأ في التنفيذ أو انقلاب في التدبير لم يكن يعني إلا هلاكهم إلى الأبد. لذلك اتخذوا أماكنهم حول جبل وهم في غاية من التوتر والجزع. ولم تغب حالهم عن فطنة جبل فمضى يذكرهم بتأييد الواقف له ووعده للأقوياء بالنجاح، فوجد منهم قلوبا مصدقة، بعضها عن إيمان، والبعض عن يأس. ومال الشاعر رضوان على أذن المعلم حمدان وقال له: أخاف ألا تنجح خطتنا، والأوفق عندي أن نحكم إغلاق البوابة ونضرب من السطح والنوافذ!
فهز حمدان منكبيه امتعاضا وقال: إذن نقضي على أنفسنا بالحصار حتى نهلك جوعا!
وقصد حمدان جبل وسأله: أليس الأفضل أن نترك البوابة مفتوحة؟
فقال جبل: دعها كما هي وإلا شكوا في الأمر.
وكانت ريح باردة تهب بشدة باعثة عواء، وركضت السحب في السماء كأنها مطاردة، فتساءلوا هل ينهال المطر؟ وترامت ضجة المتجمهرين في الخارج حتى ابتلعت مواء القطط ونباح الكلاب. وهتفت تمر حنة محذرة: «جاء الشياطين!»
وحقا غادر زقلط بيته وسط هالة من الفتوات، يتبعهم الأعوان، ومقابضهم على نبابيتهم. ساروا على مهل حتى مدخل البيت الكبير، ثم عرجوا نحو حي حمدان فقابلهم المتجمهرون بالتهليل والهتاف. وكان المهللون الهاتفون أحزابا، منهم قلة تبتهج للعراك وتتسلى بمشاهدة الدم المسفوك، ومنهم من يحقد على آل حمدان لإدلالهم بمكانة لم يعترف لهم بها أحد. وأكثرهم حانق على الفتونة والبغي فهو يبطن الكراهية ويظهر التأييد خوفا ونفاقا. ولم يلق زقلط إلى أحد منهم بالا، ومضى في مسيره حتى وقف أمام ربع حمدان، وصاح: إن كان فيكم رجل فليخرج إلي!
فجاءه صوت تمر حنة من وراء النافذة: أعطنا كلمة شرف جديدة حتى لا يغدر بالخارج غادر!
فغضب زقلط لتعريضها بكلمة الشرف، وصاح: أليس عندكم من مجيب غير هذه الزانية؟
فصاحت تمر حنة: الله يرحم أمك يا زقلط!
وصرخ زقلط آمرا رجاله بالهجوم على البوابة. هجم على البوابة رجال، ورمى آخرون النوافذ بالطوب حتى لا يجرؤ أحد على فتحها واستعمالها في الدفاع. وتكتل الهاجمون على البوابة وراحوا يدفعونها بمناكبهم بقوة وعزيمة. وواصلوا الدفع بشدة حتى أخذ الباب في الاهتزاز. واشتدت عزيمتهم حتى ارتج الباب وتخلخل. وتراجعوا متحفزين ثم اندفعوا نحوه بقوة وصكوه صكة واحدة فانفتح على مصراعيه. وتراءى من خلال الدهليز الطويل الممتد وراء باب الحوش جبل ورجال حمدان وقد رفع الجميع نبابيتهم. ولوح زقلط بيده في حركة فاضحة وأطلق ضحكة هازئة، ثم اندفع إلى الدهليز ورجاله خلفه.
وما كادوا يتوسطون الدهليز حتى مادت أرضه بهم بغتة وهوت بمن عليها إلى قاع حفرة عميقة. وفي سرعة مذهلة فتحت نوافذ الدور على جانبي الدهليز وانصبت المياه من الأكواز والحلل والطشوت والقرب. وتقدم رجال حمدان دون تردد ورموا الحفرة بمقاطف الطوب، ولأول مرة سمعت الحارة الصراخ يصدر عن فتواتها، ورأت الدم يتفجر من رأس زقلط والنبابيت تتخطف رءوس حمودة وبركات والليثي وأبو سريع وهم يتخبطون في المياه المطينة. ورأى الأعوان ما حل بفتواتهم فلاذوا بالفرار، وترك الفتوات لمصيرهم دون معين. واشتد انصباب الماء، والأحجار، وتهاوت النبابيت بلا رحمة. وترامت إلى الناس استغاثات ندت عن حناجر لم تألف طوال حياتها إلا السب والقذف. وكان رضوان الشاعر يهتف بأعلى صوته: لا تبقوا منهم على أحد.
واختلطت المياه المطينة بالدم، وكان حمودة أول الهالكين، وعلا صراخ الليثي وأبو سريع، وتشبثت يدا زقلط بجدار الحفرة يريد أن يثب وقد تجلى الحقد في عينيه، وراح يغالب الإعياء والخور، ويزفر أنات كالخوار، فانهالت عليه النبابيت حتى تهاوى إلى الوراء وتراخت يداه عن الجدار فسقط في الماء وفي كل راحة من راحتيه قبضة من طين! وساد الصمت الحفرة. لم تند عنها حركة ولا صوت واصطبغ سطحها بالطين والدم. ووقف رجال حمدان ينظرون وهم يلهثون. وتزاحم عند مدخل الدهليز المتجمهرون وهم يرددون في الحفرة نظرات ذاهلة. وصاح رضوان الشاعر: هذه عاقبة الظالمين.
وجرى الخبر في الحارة كالنار. وقال المتجمهرون إن جبل قد أهلك الفتوات كما أهلك الثعابين! وهتف له الجميع بأصوات كالرعد. ولفحهم الحماس فلم يبالوا بالريح الباردة. ونادوا به فتوة لحارة الجبلاوي. وطالبوا بجثث الفتوات ليمثلوا بها. وصفقت الأيدي وراح قوم يرقصون. ولم ين جبل عن التفكير لحظة. وكان كل شيء مدبرا في رأسه. فصاح بأهله: هلموا الساعة إلى بيت الناظر.
41
في الدقائق التي سبقت خروج جبل وأهله من الربع تفجرت الأنفس عن براكين حامية.
غادرت النسوة البيوت منضمات إلى الرجال. وهاجم الجميع بيوت الفتوات فاعتدت الأيدي والأرجل على أهاليهم حتى فروا بأرواحهم وهم يتحسسون أقفيتهم وخدودهم مصعدين التأوهات سافحين الدموع. أما البيوت فقد نهب كل ما فيها من أثاث وطعام ولباس، وحطم كل قابل للتحطيم من أخشابها وزجاجها حتى انقلبت خرابا يبابا. وانطلقت الجموع الغاضبة نحو بيت الناظر؛ فتكتلت أمام بوابته المغلقة وراحت تهتف وراء مناد منها بأصوات كالرعود: هاتوا الناظر ... - وإن ما جاش ...
ثم يختمون الهتاف بالتهليل الساخر الهازئ. واتجه البعض إلى البيت الكبير منادين جدهم الجبلاوي أن يخرج من عزلته؛ ليعالج ما فسد من أمورهم وأمور حارتهم. وراح آخرون يدقون بوابة الناظر بأكفهم ويدفعونها بمناكبهم محرضين المترددين المهيبين على اقتحامها.
وفي تلك اللحظة الحرجة جاء جبل على رأس أهله نساء ورجالا، يسيرون في قوة وعزم بما أحرزوا من فوز مبين. وأوسعت الجموع لهم، وتعالى الهتاف والزغاريد حتى أشار جبل لهم بالسكوت فأخذت أصواتهم تخف رويدا رويدا حتى ساد الصمت وعاد عواء الريح يصك الآذان مرة أخرى. ونظر جبل في الوجوه المتطلعة إليه وقال: يا أهل حارتنا، أحييكم وأشكركم.
فارتفعت الأصوات بالهتاف ثانية حتى رفع يده مطالبا بالسكوت، ثم قال: لن يتم عملنا حتى تتفرقوا في هدوء.
فترامى إليه من حناجر شتى: نريد العدل يا سيد حارتنا.
فقال بصوت سمعه الجميع: اذهبوا في هدوء، ولسوف تتحقق إرادة الواقف.
وتعالى الهتاف للواقف ولابنه جبل. ووقف جبل يحث بنظراته الجموع على الذهاب. وكانوا يودون لو يبقون في أماكنهم ولكنهم لم يجدوا بدا أمام نظراته من التفرق فأخذوا يذهبون واحدا في أثر واحد حتى خلا المكان منهم. عند ذاك مضى جبل إلى باب الناظر وطرقه صائحا: افتح يا عم حسنين.
فجاءه صوت الرجل المرتعد وهو يقول: الناس .. الناس. - لا أحد هنا غيرنا.
وفتح الباب فدخل جبل، ودخل وراءه أهله. واخترقوا الممر المعروش إلى السلاملك فرأوا الهانم واقفة أمام باب البهو في استسلام، على حين بدا الأفندي على عتبة الباب، خافض الرأس شاحب الوجه كأنه ملثم بكفن أبيض. وندت عن الأفواه لدى رؤيته دمدمة، فقالت هدى هانم متأوهة: إني بحال سيئة يا جبل.
فأشار جبل نحو الأفندي بازدراء وقال: لو نجحت مكيدة هذا الرجل الفاقد الشرف، لكنا الآن جميعا جثثا ممزقة.
فأجابت الهانم بتنهدة مسموعة دون كلام. فحدج جبل الناظر الخائر بنظرة قاسية وقال: ها أنت ذا ترى نفسك ذليلا بلا حول ولا قوة، لا فتوة يحميك، ولا شجاعة تؤيدك، ولا مروءة تشفع لك. ولو شئت أن أخلي بينك وبين أهل حارتنا لمزقوك إربا ولداسوك بالأقدام.
ارتعدت فرائص الرجل وبدا وكأنه تقوض وضؤل، غير أن الهانم تقدمت من جبل خطوة وقالت برجاء: لا أحب أن أسمع منك غير ما عهدت من طيب الكلام، ونحن في حال عصيبة تستحق من مروءتك الرحمة في المعاملة.
فقطب جبل ليداري تأثره وقال: لولا منزلتك عندي لجرت الأمور بغير ما جرت به. - لا أشك في ذلك يا جبل، إنك رجل لا يخيب عنده الرجاء.
فقال جبل متأسفا: ما كان أيسر أن يقوم العدل دون إراقة نقطة من الدم!
فندت عن الأفندي حركة غامضة فضحت تخاذله وازداد انكماشا، فقالت الهانم: قد كان ما كان، ولن تلقى منا إلا آذانا مصغية!
وبدا أن الناظر يريد أن يخرج من صمته بأي ثمن، فقال بصوت ضعيف: ثمة فرصة لإصلاح ما سلف من أخطاء.
أرهفت الآذان لسماع كلامه رغبة في الاطلاع على حال الجبار إذا تخلى عنه جبروته، وكانوا يرمقونه بتشف قليل وإنكار وحب استطلاع لا حد لهما. وتشجع الأفندي بتغلبه على الصمت فقال: تستطيع اليوم أن تحتل مكانة زقلط عن جدارة.
فتجهم وجه جبل وقال بازدراء: ليست الفتونة مطلبي، فابحث لحمايتك عن غيري، وما أريد إلا حقوق آل حمدان كاملة. - هي لكم دون نقصان، ولك إدارة الوقف إن شئت.
فقالت هدى برجاء: كما كنت يا جبل من قبل.
وهنا صاح دعبس من بين آل حمدان: ولم لا يكون الوقف كله لنا؟
وسرت همهمة في آل حمدان حتى اصفر وجه الناظر وزوجه حتى الموت. غير أن جبل قال بقوة غاضبة: أمرني الواقف باسترداد حقكم لا باغتصاب حقوق الآخرين.
فتساءل دعبس: ومن أدراك أن الآخرين سيأخذون حقوقهم؟
فصاح به جبل: لا شأن لي بذلك، وإنك لا تكره الظلم إلا إن وقع عليك؟!
فقالت الهانم بتأثر: نعم الرجل الأمين أنت يا جبل! ولشد ما أرجو أن تعود إلى بيتي.
فقال جبل بتصميم: سأقيم في ربوع آل حمدان. - إنها لا تليق بمقامك. - عندما يجري الخير بين أيدينا سنرفعها إلى مقام البيت الكبير ، وتلك رغبة جدنا الجبلاوي!
ورفع الناظر عينيه في شيء من التردد إلى وجه جبل وقال: إن ما بدر اليوم من أهل الحارة يهدد أمننا؟
فقال جبل باحتقار: لا شأن لي بما بينك وبينهم.
وإذا بدعبس يقول: إذا احترمت عهدنا فلن يجرؤ أحد منهم على تحديك!
فقال الناظر بحماس: سيسجل حقكم على رءوس الأشهاد!
وهنا قالت هدى برجاء: ستتناول يا جبل عشاءك معي الليلة، هذه رغبة أم!
وفطن جبل إلى ما ترمي إليه من إعلان المودة بينه وبين بيت الناظر، ولم يكن في وسعه أن ينبذ رغبتها، فقال: لك ما تشائين يا سيدتي.
42
وابيضت الأيام التالية بأفراح آل حمدان أو آل جبل كما باتوا يدعون؛ فتحت قهوتهم أبوابها، وتربع رضوان الشاعر على الأريكة يلعب بأوتار الرباب، وجرت البوظة أنهارا، وانعقدت في سماء الحجرات سحب الحشيش، ورقصت تمر حنة حتى انحل وسطها. ولم يبالوا بأن يكشفوا عن قاتل قدرة، وصور لقاء الجبلاوي بجبل في هالات من نور الخيال. وكانت تلك الأيام بالنسبة لجبل وشفيقة أطيب الأيام. وقد قال لها: ما أجمل أن ندعو البلقيطي للإقامة معنا!
فقالت وهي تعاني متاعب المخاض الوشيك: نعم كي يستقبل حفيده ببركته.
فقال الرجل ممتنا: أنت قدم السعد يا شفيقة، وستجد سيدة زوجا كفؤا من آل حمدان. - قل آل جبل كما يقولون، فإنك خير من عرف هذا الحي.
فقال باسما: بل أدهم خيرنا جميعا، كم تمنى حياة النعيم حيث لا عمل للإنسان إلا الغناء، وسوف يتحقق لنا حلمه الكبير!
وتراءى دعبس وهو سكران يرقص في جمع من آل جبل، فلما رأى جبل مقبلا لوح بنبوته جذلا وقال له: إنك لا تبغي الفتونة، سأكون أنا الفتوة.
فصاح به ليسمع الجميع: لا فتونة في آل حمدان، ولكن ينبغي أن يكونوا جميعا فتوات على من يطمع فيهم.
ومضى الرجل إلى القهوة فتبعه الجميع وهم يترنحون من السكر. وكان جبل سعيدا فقال لهم: إنكم أحب أهل الحارة إلى جدكم، فأنتم سادة الحارة دون منازع، ولذلك ينبغي أن يسود بينكم الحب والعدل والاحترام، ولن ترتكب جريمة في حيكم أبدا.
وترامى الطبل والغناء من بيوت آل حمدان، وأشرقت أنوار الأفراح في حيهم، على حين غرقت الحارة في ظلمتها المألوفة، وتجمع صغارها عند مشارف حي آل حمدان يتفرجون من بعيد. وإذا برجال من أهل الحارة يفدون على القهوة بوجوههم الكالحة. استقبلوا بالمجاملة ودعوا إلى الجلوس وقدم لهم الشاي. وحدس جبل أنهم لم يجيئوا لخالص التهنئة. وصدق حدسه إذ قال له زناتي وكان أكبرهم سنا: يا جبل، إننا أبناء حارة واحدة، وجد واحد، وأنت اليوم سيد الحارة ورجلها الأقوى، وأن يسود العدل الأحياء جميعا خير من أن يسود حي حمدان وحده.
لم يتكلم جبل، وبدا الفتور في وجه آل جبل. ولكن الرجل قال بعزم: بيدك أن تجري العدل في الحارة كلها.
لم يهتم جبل بأهل الحارة من أول الأمر، ولم يكن أحد من آله يهتم بهم. بل إنهم شعروا بالاستعلاء عليهم حتى في أيام محنتهم. وقال جبل برقة: وصاني جدي بأهلي. - ولكنه جد الجميع يا جبل.
فقال حمدان: في هذا الكلام موضع للنظر.
وتفرس في الوجوه ليتابع أثر قوله، فرأى انقباضها يشتد فاستطرد: أما علاقتنا به فقد أكدها بنفسه في لقاء الخلاء!
وبدا زناتي لحظة وكأنه يود أن يقول: «في هذا الكلام موضع للنظر» ولكن غلبه الانكسار فقال مسائلا جبل: أيرضيك ما نحن فيه من فقر وذل؟
فقال جبل دون حماس: كلا، ولكن لا شأن لنا بذلك.
فتساءل الرجل في إصرار: وكيف لا يكون لكم شأن بذلك؟
وساءل جبل نفسه بأي حق يكلمه ذلك الرجل على هذا النحو؟ لكنه لم يغضب، وجد بنفسه جانبا يكاد أن يعطف على الرجل، غير أن جانبا آخر منه استنكر أن يخوض متاعب جديدة من أجل الآخرين. ومن هم هؤلاء الآخرون؟ وجاء الجواب على لسان دعبس حين صاح بالرجل: أنسيتم ما كنتم تعاملوننا به يوم محنتنا؟
فغض الرجل من بصره مليا ثم قال: من ذا الذي كان يستطيع أن يجهر برأي أو يعلن عاطفة في أيام الفتوات؟ وهل كان الفتوات يعفون عن أحد يعامل الناس بغير ما يرتضون؟
فزم دعبس شفتيه في استعلاء واستنكار وقال: كنتم وما زلتم تحسدوننا على مكانتنا في الحارة، ولعلكم سبقتم الفتوات إلى ذلك!
فأحنى زناتي رأسه في قنوط وقال: سامحك الله يا دعبس!
فصاح دعبس دون رحمة: اشكروا رجلنا؛ لأنه لم يقبل أن يوجه لكم يد الانتقام!
وتوزعت الأفكار المتضاربة جبل فلاذ بالصمت. أشفق من أن يمد يد العون. ولم يرتح إلى الجهر بالرفض. ووجد الرجال أنفسهم حيال تأنيب قارع من دعبس، ونظرات باردة تعكسها أعين الآخرين، وصمت لا أمل فيه عند جبل، فنهضوا خائبين، وذهبوا من حيث أتوا. وصبر دعبس حتى اختفوا ثم حرك قبضة يمناه في بذاءة وهتف: إلى حيث ألقت يا أولاد الخنازير.
فصاح جبل: الشماتة ليست من شيم السادة!
43
كان يوما مشهودا يوم تسلم جبل حصة آله من الوقف. واتخذ في حوش الربع - ربع النصر - مجلسه ودعا إليه آل حمدان. وأحصى ما في كل أسرة من أنفس ووزع الأموال بالتساوي فيما بينهم، وحتى شخصه لم يخصه بامتياز. ولعل حمدان لم يرتح إلى هذه العدالة كل الارتياح، ولكنه عبر عن مشاعره بطريقة غير مباشرة فخاطب جبل قائلا: ليس العدل أن تظلم نفسك يا جبل!
فقطب جبل قائلا: أخذت نصيب اثنين، أنا وشفيقة. - ولكنك رئيس هذا الحي.
فقال جبل بصوت سمعه الجميع: ما ينبغي لرئيس القوم أن يسرقهم.
وبدا دعبس وهو ينتظر نتيجة المحاورة في قلق، ثم قال: جبل غير حمدان، وحمدان غير دعبس، ودعبس غير كعبلها!
فقال جبل معارضا في غضب: تريد أن تجعل من الأسرة الواحدة سادة وخدما!
ولكن دعبس تشبث برأيه وقال: فينا صاحب القهوة والبائع الجوال والمتسول، فكيف تسوي بين هؤلاء؟! وأنا كنت أول من خرج على الحصار حتى تعرضت لمطاردة قدرة، وأول من لاقاك في غربتك، وأول من تحمس لرأيك بعد ذلك والقوم مترددون!
اشتد الغضب بجبل فصاح به: مادح نفسه كذاب، والله إن أمثالك ليستحقون الظلم الذي حاق بهم.
وأراد دعبس مواصلة الجدل، ولكنه تبين في عيني جبل غضبا من نار فتراجع، وغادر المجلس دون أن ينبس. وقصد عند المساء غرزة عتريس الأعمش، وجلس في حلقة الجالسين يدخن مجترا همومه. وأراد أن يتسلى فدعا كعبلها إلى المقامرة، فلعبا السيجة، ولم تكد تمضي نصف ساعة حتى خسر نصيبه من ريع الوقف! وضحك عتريس وهو يغير ماء الجوزة وقال: يا سوء بختك يا دعبس! الفقر مكتوب عليك ولو على رغم إرادة الواقف!
فغمغم دعبس بحقد وقد طير الخسران السطل من مخه: ليس بهذه السهولة تضيع الثروات!
فأخذ عتريس نفسا من الجوزة؛ ليضبط كمية المياه بها ثم قال: لكنها ضاعت يا ابن والدي!
كان كعبلها يسوي الأوراق المالية بعناية، ثم رفع يده بها؛ ليدسها في صدره، لكن دعبس منعه بيد وأشار بالأخرى إشارة خاصة أن يرد النقود! وقطب كعبلها وقال: لم تعد نقودك ولا حق لك فيها!
فصاح دعبس: دع النقود يا ابن الزبالة!
ونظر عتريس نحوهما بقلق وقال: لا تتشاجرا في بيتي.
فصاح دعبس وهو يشد على يد كعبلها: لن يسرقني ابن الزانية! - اترك يدي يا دعبس، أنا لم أسرقك. - يعني ربحتها في تجارة؟ - لماذا قامرت؟
فلطمه بشدة وهو يقول: نقودي، قبل أن أكسر عظامك.
ونتش كعبلها يده فجأة؛ فثار غضب دعبس لحد الجنون وضربه بسبابته في عينه اليمنى.
صرخ كعبلها صرخة عالية، وانتفض واقفا، ثم غطى عينيه بكفيه تاركا الأوراق تتهاوى إلى حجر دعبس، وترنح من الألم، ثم سقط وراح يتلوى ويئن أنينا موجعا. والتف حوله الجالسون، على حين جمع دعبس النقود وأعادها إلى صدره. وإذا بعتريس يقترب منه قائلا في هلع: صفيت عينه!
فارتاع دعبس مليا، ثم وقف فجأة وغادر المكان.
وقف جبل في حوش النصر في جمع من رجال آل حمدان، والغضب يتفجر من عينيه وشدقيه، وجلس كعبلها القرفصاء وقد شد على عينه رباطا محكما، على حين وقف دعبس يتلقى ثورة جبل في صمت وخذلان. وأراد حمدان أن يهدئ من ثورة جبل، فقال بلين: سيرد دعبس النقود إلى كعبلها.
فصاح جبل بأعلى صوته: فليرد إليه بصره أولا.
فبكى كعبلها وقال الشاعر رضوان متأوها: ليت في الإمكان رد البصر.
فقال جبل وقد أظلم وجهه كالسماء الراعدة البارقة: ولكن في الإمكان أن تؤخذ عين بعين!
وحملق دعبس في وجه جبل متوجسا، وأعطى حمدان النقود وهو يقول: كنت فاقد العقل من الغضب، وما قصدت إيذاءه.
فتفرس جبل في وجهه بحنق طويلا، ثم قال بصوت رهيب: عين بعين والبادئ أظلم.
تبودلت نظرات الحيرة. لم ير جبل أغضب منه اليوم. وقد برهنت الأحداث على قوة غضبه، كغضبته يوم ركل بيت النعيم، وكغضبته يوم قتل قدرة. حقا إنه لشديد الغضب، وإذا غضب لم يردعه عن هدفه رادع. وهم حمدان بالكلام ولكنه بادره قائلا: إن الواقف لم يؤثركم بحبه ليعتدي بعضكم على بعض، فإما حياة تقوم على النظام، وإما فوضى لن تبقي منكم على أحد؛ لذلك أصر على تصفية عينك يا دعبس.
وركب الرعب دعبس فصاح: لن تمسني يد ولو قاتلتكم جميعا.
فانقض عليه جبل كالثور الهائج وضربه بجماع يده في وجهه ضربة هائلة سقط على أثرها دون حراك. وأقامه وهو فاقد الوعي، واحتضنه من الخلف شادا ذراعيه حول جسمه، والتفت نحو كعبلها قائلا بلهجة آمرة: قم فخذ حقك.
وقام كعبلها ولكنه وقف مترددا، على حين تعالى الصراخ من مسكن دعبس. وحدج جبل كعبلها بنظرة قاسية وصاح به: تقدم قبل أن أدفنك حيا.
واتجه كعبلها نحو دعبس، وبسبابته ضرب عينه اليمنى حتى انفقأت عينه على مرأى من الجميع. واشتد الصراخ من بيت دعبس، وبكى بعض أصدقاء دعبس، مثل: عتريس وعلي فوانيس، فصاح بهم جبل: يا لكم من جبناء وأشرار! والله ما كرهتم الفتونة إلا لأنها كانت عليكم، وما إن يأنس أحدكم في نفسه قوة حتى يبادر إلى الظلم والعدوان، وما للشياطين المستترة في أعماقكم إلا الضرب بلا رحمة ولا هوادة، فإما النظام وإما الهلاك.
وترك دعبس بين أيدي أصحابه وذهب. وكان لذلك الحادث في النفوس أثر وأي أثر. كان جبل من قبل رئيسا محبوبا، وكان آله يظنونه فتوة لا يريد أن يتخذ لنفسه اسم الفتونة أو شعارها، فأصبح من بعده مخوفا مرهوبا، وتهامس أناس بقسوته وظلمه ولكن هؤلاء وجدوا دائما من يرد عليهم قولهم ويذكر بالوجه الآخر لقسوته، وهو الرحمة بالمعتدى عليهم، والرغبة الصادقة في إقامة نظام يضمن العدل والنظام والإخاء في آل حمدان. ووجد هذا الرأي الأخير كل يوم ما يسنده في فعال الرجل وأقواله حتى آنس إليه من استوحش، وآمن من خاف، ومال من جفا، وحرص الجميع على النظام فلم يجاوز حدوده أحد. وسادت الاستقامة والأمانة في أيامه، فلبث بينهم رمزا للعدالة والنظام، حتى غادر الدنيا دون أن يحيد عن مسلكه قيد أنملة. •••
هذه قصة جبل.
كان أول من ثار على الظلم في حارتنا. وأول من حظي بلقيا الواقف بعد اعتزاله. وقد بلغ من القوة درجة لم ينازعه فيها منازع. ومع ذلك تعفف عن الفتونة والبلطجة والإثراء عن سبيل الإتاوة وتجارة المخدرات، ولبث بين آله مثالا للعدل والقوة والنظام. أجل لم يهتم بالآخرين من أبناء حارتنا. ولعله كان يضمر لهم احتقارا وازدراء كسائر أهله. لكنه لم يعتد على أحد منهم ولا تعرض له بسوء، وضرب للجميع مثالا جديرا بالاحتذاء.
ولولا أن آفة حارتنا النسيان ما انتكس بها مثال طيب.
لكن آفة حارتنا النسيان.
رفاعة
44
أوشك الفجر أن يطلع، وأوى إلى المضاجع كل حي في الحارة حتى الفتوات والكلاب والقطط. واستقر الظلام بالأركان كأنه لن يبرح أبدا. وفي رعاية الصمت الشامل فتح باب ربع النصر بحي آل جبل في حذر شديد، فتسلل منه شبحان، سارا في سكون نحو البيت الكبير، ثم تابعا سوره العالي إلى الخلاء. نقلا خطواتهما في حذر، وجعلا يتلفتان وراءهما من حين إلى حين؛ ليطمئنا إلى أن أحدا لا يتبعهما، وأوغلا في الخلاء مهتدين بنور النجوم المتناثرة، حتى تبينا صخرة هند كقطعة من ظلام أشد كثافة مما حوله. كانا رجلا في أواسط العمر وامرأة شابة حبلى، وكلاهما يحمل بقجة مكتظة. وعند الصخرة تنهدت المرأة وقالت بإعياء: عم شافعي، تعبت.
فتوقف الرجل عن المسير وهو يقول في غيظ: استريحي، ربنا يتعب المتعب!
وضعت المرأة البقجة على الأرض وجلست عليها مفرجة ما بين فخذيها لتريح بطنها المنداحة، ووقف الرجل لحظة ينظر فيما حوله، ثم جلس على بقجة أيضا. وهبت عليهما نسائم معبقة بأنفاس الفجر الرطيبة، لكن المرأة لم تغفل عما يشغلها فتساءلت: أين سألد يا ترى؟
فقال شافعي ساخطا: أي مكان يا عبدة خير من حارتنا اللعينة.
ورفع عينيه إلى شبح الجبل الممتد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب وقال: سنذهب إلى سوق المقطم؛ إليه قصد جبل أيام محنته، وسأفتح دكان نجارة وأعمل كما كنت أعمل في الحارة، لي يدان تدران الذهب، ومعي نقود للبدء لا بأس بها.
شدت المرأة خمارها حول رأسها ومنكبيها وقالت بحزن: سنعيش في غربة كمن لا أهل له، ونحن من آل جبل أسياد الحارة!
فبصق الرجل متأففا وقال محنقا: أسياد الحارة؟! ما نحن إلا عبيد أذلاء يا عبدة، ذهب جبل وعهده الحلو، وجاء زنفل، أجحمه الله، فتوتنا وهو علينا لا لنا، يلتهم أرزاقنا ويفتك بمن يشكو.
لم تنكر عبدة شيئا من قوله. كأنها ما زالت تعيش في أيام المرارة وليالي الأحزان، لكنها حين ضمنت الابتعاد عن مكاره الحارة؛ حن قلبها إلى ذكرياتها الطيبة فقالت متحسرة: لا توجد حارة كحارتنا لولا أشرارها، أين تجد بيتا كبيت جدنا؟ أو جيرانا كجيراننا؟ أين تسمع حكايات أدهم وجبل وصخرة هند؟ ألا لعنة الله على الأشرار!
فقال الرجل بصوت مرير: والنبابيت تهوى لأتفه سبب، وأصحاب الوجوه المستكبرة يختالون بيننا كالقضاء والقدر!
وذكر زنفل اللعين وكيف أخذ بتلابيبه، وهزه بعنف حتى كاد يقتلع ضلوعه، ثم مرغه في التراب أمام الخلق، لا لشيء إلا لأنه جعل مرة من الوقف حديثه! وضرب الأرض بقدمه واستطرد قائلا: المجرم الملعون خطف وليد سيدهم بياع لحمة الرأس، ثم لم يسمع عن الوليد بعد ذلك أبدا، لم تأخذه رحمة بطفل في شهره الأول، وتتساءلين أين سألد، ستلدين بين أناس لا يقتلون الأطفال.
فتنهدت عبدة وقالت برقة، كأنما لتخفف من مضمون حديثها: ليتك رضيت بما رضي به الآخرون!
فقطب غاضبا وراء قناع الظلمة وقال: ماذا جنيت يا عبدة؟ لا شيء، كنت أتساءل أين جبل، وعهد جبل؟ أين القوة العادلة؟ ماذا أرجع آل جبل إلى الفاقة والذل؟ فحطم المجرم الملعون دكاني وضربني وكاد يفتك بي لولا الجيران، ولو بقينا ببيتنا حتى تلدي لانقض على الوليد كما فعل بوليد سيدهم.
فهزت رأسها في حزن وقالت: آه لو صبرت يا معلم شافعي! ألم تسمعهم يقولون إن الجبلاوي لا بد أن يخرج يوما من عزلته لينقذ أحفاده من الظلم والهوان؟
فنفخ المعلم شافعي طويلا وقال بسخرية: هكذا يقولون! طالما سمعتهم مذ كنت غلاما، لكن الحقيقة أن جدنا في البيت اعتزل، وأن ناظر وقفه بريع الوقف استأثر، إلا ما يهبه للفتوات نظير حمايته. وزنفل فتوة آل جبل يتسلم نصيبهم ليدفنه في بطنه، كأن جبل لم يظهر في هذه الحارة، وكأنه لم يأخذ عين صديقه دعبس بعين المسكين كعبلها.
وسكتت المرأة لتسبح في أمواج الظلام، سيطلع عليها الصباح بين قوم غرباء؛ سيكون الغرباء جيرانها الجدد، وتستقبل أيديهم وليدها، وينمو الوليد في أرض غريبة كغصن مقطوع من شجرة. وما كانت إلا قانعة في آل جبل تحمل الطعام إلى زوجها في الدكان. وتجلس في الليل وراء النافذة لتسمع رباب عم جواد الشاعر الضرير. ما أحلى الرباب وما أحلى قصة جبل! ليلة التقى الجبلاوي في الظلام فقال له ألا تخف، حياه بالعطف والتأييد حتى انتصر، وعاد إلى حارته مجبور الخاطر، وما أحلى العودة بعد الاغتراب!
وكان شافعي يقلب وجهه في السماء، في النجوم الساهرة، ويرنو إلى طلائع الضياء فوق الجبل كسحابة بيضاء في أفق سماء مكفهرة. وقال محذرا: ينبغي أن نسير كي نبلغ السوق قبيل الشروق. - ما زلت في حاجة إلى الراحة. - الله يتعب المتعب!
ما أجمل الحياة لولا وجود زنفل! الحياة عامرة بالخيرات والهواء النقي والسماء المرصعة بالنجوم والمشاعر الطيبة، ولكن فيها أيضا ناظر الوقف؛ إيهاب، والفتوات؛ بيومي وجابر وحندوسة وخالد وبطيخة وزنفل. وفي الإمكان أن يصير كل ربع كالبيت الكبير وأن ينقلب الأنين ألحانا، ولكن المساكين ما زالوا يتمنون المحال كما تمناه أدهم من قبل. ومن هم المساكين؟ إنهم أقفية متورمة من الصفع، وأدبار ملتهبة من الركل، وأعين يرعاها الذباب، ورءوس يعشش فيها القمل. - لماذا نسينا الجبلاوي؟
غمغمت المرأة: الله يعلم بحاله.
فصاح الرجل في حسرة وغضب: يا جبلاوي!
فردد الصدى صوته. وقام وهو يقول: توكلي على الله.
قامت عبدة، تناول كفها في يده، وسارا نحو الجنوب، نحو سوق المقطم.
45
قالت عبدة بفرح تألق في عينيها وثغرها: ها هي ذي حارتنا، وها نحن أولاء نعود إليها بعد غربة، فالحمد الله رب العالمين.
فابتسم عم شافعي وهو يجفف جبينه بكم عباءته وقال برزانة: حقا ما أبهج العودة!
وكان رفاعة يصغي إلى والديه، ووجهه الصافي الجميل يعكس دهشة ممزوجة بالحزن. فقال كالمحتج: وهل ينسى سوق المقطم وجيرانه؟!
ابتسمت الأم وهي تحبك طرف الملاءة حول شعرها الذي وخطه المشيب. أدركت أن الفتى يحن إلى مولده كما تحن هي إلى مولدها، وأنه بما جبل عليه من رقة ومودة لا يستطيع أن يسلو الصداقات. وأجابته: الأشياء الطيبة لا تنسى أبدا، ولكن هذه هي حارتك الأصلية، هنا أهلك، سادة الحارة، ستحبهم وسيحبونك، ما أجمل حي آل جبل بعد وفاة زنفل!
فهتف عم شافعي محذرا: لن يكون خنفس خيرا من زنفل. - لكن خنفس لا يضمر لك عداوة. - عداوات الفتوات تنشأ بسرعة نشوء الطين عقب المطر.
فقالت عبدة برجاء: لا تفكر هكذا يا معلم، عدنا لنعيش في سلام، ستفتح الدكان وسيجيء الرزق. ولا تنس أنك عشت تحت سيطرة فتوة بسوق المقطم، ففي كل مكان فتوة يخضع له الناس.
واصلت الأسرة مسيرها نحو الحارة، يتقدمها عم شافعي حاملا جوالا، وتبعته عبدة ورفاعة حاملا بقجة ضخمة. وبدا رفاعة بقامته الطويلة وعوده النحيل ووجهه الوضاء فتى جذاب المنظر ينضح بالوداعة والرقة، غريبا في الأرض التي يسير فوقها. وتأملت عيناه ما حوله في شغف حتى انجذبتا إلى البيت الكبير الذي يقف عند رأس الحارة منفردا، ورءوس الأشجار تهتز من فوق سوره. رنا إليه طويلا ثم تساءل: بيت جدنا ؟
فقالت عبدة بابتهاج: نعم، أرأيت ما حدثتك عنه؟ فيه جدك، صاحب هذه الأرض كلها وما عليها، الخير خيره والفضل فضله، ولولا عزلته لملأ الحارة نورا.
وأكمل عم شافعي ساخرا: وباسمه ينهب ناظر الوقف إيهاب حارتنا، ويعتدي الفتوات علينا.
تقدموا نحو الحارة محاذين للسور الجنوبي للبيت الكبير. لم ترتد عينا رفاعة عن البيت المغلق. ثم تراءى لهم بيت ناظر الوقف إيهاب وبوابه المقتعد أريكة عند بابه المفتوح. وفي مقابله قام بيت فتوة الحارة بيومي الذي وقفت أمامه عربة كارو محملة بمقاطف الأرز وسلال الفاكهة، وقد مضى الخدم يحملونها للداخل تباعا. وبدت الحارة ملعبا للغلمان الحفاة، على حين افترشت أسر الأرض أو الحصر أمام مداخل البيوت لينقوا الفول أو يخرطوا الملوخية. وتبودلت أحاديث ونكات، وزجر ونهر، وتعالت ضحكات وصرخات. مالت أسرة عم شافعي إلى حي آل جبل فصادفها في عرض الطريق شيخ ضرير، يتلمس طريقه بعصاه على مهل، فأنزل عم شافعي الجوال من فوق ظهره ومضى نحوه منبسط الأسارير، حتى وقف أمامه وهو يهتف: عم جواد الشاعر، السلام عليكم!
توقف الشاعر وهو يرهف أذنيه في انتباه، ثم هز رأسه في حيرة قائلا: وعليكم السلام! صوت غير غريب علي! - أنسيت صاحبك شافعي النجار؟
فتهلل وجه الرجل وصاح: عم شافعي ورب السموات!
وفتح ذراعيه فتعانق الرجلان بشوق وحنان حتى تطلعت إليهما أنظار القريبين وحاكى عناقهما غلامان عابثان. وقال جواد وهو يشد على يد صاحبه: هجرتنا عشرين عاما أو يزيد، يا له من عمر، وكيف زوجك؟
فقالت عبدة: بخير يا عم جواد سألت عنك العافية، وها هو ذا ابننا رفاعة: قبل يد عمك الشاعر.
واقترب رفاعة من الشاعر مبتهجا فتناول يده فلثمها، وربت الرجل كتفه، وتحسس رأسه في استطلاع، وقسمات وجهه، وقال: بديع بديع، ما أشبهك بجدك!
فنور الثناء وجه عبدة، وضحك عم شافعي قائلا: لو رأيت جسده النحيل ما قلت ذلك. - حسبه ما أخذ، إن الجبلاوي لا يتكرر. ماذا يعمل الفتى؟ - علمته النجارة، لكنه ابن وحيد مدلل، يمكث في دكاني قليلا ويهيم على وجهه في الخلاء والجبل أكثر الوقت.
فقال الشاعر باسما: لا يستقر الرجل حتى يتزوج، وأين كنت يا معلم شافعي؟ - في سوق المقطم.
فضحك الرجل ضحكة عالية وقال: كما فعل جبل، لكنه عاد حاويا وتعود نجارا كما ذهبت. على أي حال مات عدوك ولكن الخلف كالسلف.
فقالت عبدة بسرعة: كلهم كذلك، وما نطمع في شيء إلا أن نعيش كما يعيش المسالمون!
وعرف رجال شافعي فهرعوا إليه، ودار العناق وارتفعت الأصوات، وعاد رفاعة يتفحص ما حوله باهتمام وشغف، وأنفاس قومه تتردد من حوله، فتخفف كثيرا من وحشة القلب التي غشيته مذ فارق سوق المقطم. ومضت عيناه في التجول حتى وقفتا عند نافذة في الربع الأول، تطل منها فتاة راحت تحملق في وجهه باهتمام، فلما التقت عيناهما رفعت ناظريها إلى الأفق. ولمح ذلك رجل من أصحاب والده فهمس قائلا: عيشة بنت خنفس، نظرة إليها تسبب مذبحة!
فتورد وجه رفاعة وقالت أمه: ليس هو من هؤلاء الشبان، ولكنه يرى حارته لأول مرة.
ومن الربع الأول خرج رجل في متانة الثور، يرفل في جلباب فضفاض، وينطلق من فوق فيه شارب متحرش في وجه كثير الندوب والبقع فتهامس الناس: «خنفس .. خنفس!» وأخذ جواد عم شافعي من يده واتجه به نحو الربع وهو يقول: سلام الله على فتوة آل جبل، إليك أخانا المعلم شافعي النجار، عاد إلى حارته بعد غربة عشرين عاما!
ألقى خنفس نظرة جامدة على وجه شافعي، متجاهلا يده الممدودة مليا، ثم مد له يده دون أن يلين وجهه، ثم تمتم في برود: أهلا.
وتأمله رفاعة بامتعاض، فهمست أمه في أذنه أن يذهب للسلام عليه.
وذهب رفاعة متضايقا فمد له يده، وقال عم شافعي: ابني رفاعة.
ونظر خنفس إلى رفاعة نظرة استنكار وازدراء، أولها الحاضرون بأنها احتقار لرقته غير المألوفة في الحارة. وصافحه بعدم اكتراث ثم التفت إلى أبيه متسائلا: ترى هل نسيت في غربتك سنة الحياة في حارتنا؟
فأدرك شافعي ما يرمي إليه، وقال مداريا ضيقه: نحن في الخدمة دائما يا معلم.
فتفرس في وجهه بريبة وسأله: لماذا هاجرت من حارتك؟
فصمت شافعي ريثما يجد جوابا مناسبا، فقال خنفس: هربا من زنفل؟
فقال جواد الشاعر مبادرا: لم يكن ذلك لخطأ لا يغتفر.
فقال خنفس لشافعي محذرا: لن تجد مني مهربا عند الغضب.
فقالت عبدة برجاء: ستجدنا يا معلم من أطيب الناس.
ومضى شافعي وأسرته وسط الأصحاب إلى دهليز ربع النصر؛ ليتسلم مسكنا خاليا دله عليه عم جواد. وتراءت في نافذة مطلة على الدهليز فتاة حسناء ذات جمال وقح، وقفت تمشط شعرها أمام زجاج النافذة، فلما رأت القادمين تساءلت في دلال: من القادم كالعريس في الزفة؟
فتضاحك كثيرون، وقال رجل: جار لك جديد يا ياسمينة سيقيم في الدهليز أمامك.
فهتفت ضاحكة: ربنا يزيد في الرجال!
ومرت عيناها بعبدة دون اكتراث، لكنها وقفت على رفاعة باهتمام وإعجاب. ودهش رفاعة لنظرتها أكثر من دهشته لنظرة عيشة بنت خنفس. وتبع والديه إلى باب المسكن المقابل لمسكن ياسمينة على الجانب الآخر للدهليز، وصوت ياسمينة يغني:
آه من جماله يامه!
46
فتح عم شافعي دكان النجارة عند مدخل ربع النصر. ومع الصباح خرجت عبدة تتسوق، ومضى عم شافعي وابنه رفاعة إلى الدكان. وجلسا على عتبة الدكان ينتظران الرزق. وكان في حوزة الرجل مال يكفيه شهرا أو يزيد فلم يطرقه القلق، فراح ينظر إلى الدهليز المسقوف بالمساكن، المفضي إلى الحوش الكبير ويقول: هذا هو الدهليز المبارك الذي أغرق فيه جبل أعداءنا.
فتأمله رفاعة بعينين حالمتين وثغر باسم، فعاد الرجل يقول: وفي هذه البقعة أقام أدهم كوخه وحدثت الأحداث، وفيها بارك الجبلاوي ابنه وعفا عنه.
فازداد الثغر الجميل ابتساما وأغرقت العينان في الحلم. الذكريات الجميلة كلها ولدت في هذا المكان. لولا الزمن لبقيت آثار أقدام الجبلاوي وأدهم، ولردد الهواء أنفاسهم. ومن هذه النوافذ انصبت المياه على الفتوات في الحفرة، من نافذة ياسمينة انصبت المياه على الأعداء. اليوم لا ينصب منها إلا نظرات مرعبة، ويعبث الزمان بكل جليل، أما جبل فانتظر داخل الحوش بين رجال ضعفاء، لكنه انتصر. - انتصر جبل يا أبي ولكن ما جدوى النصر؟
فتنهد الرجل قائلا: تعاهدنا على ألا نفكر في ذلك، أرأيت خنفس؟
وعلا صوت غنج مناديا: يا عم يا نجار.
فتبادل الأب وابنه نظرة إنكار، ونهض الأب رافعا رأسه فرأى ياسمينة تطل من النافذة وضفيرتاها الطويلتان تتدليان وتتأرجحان، فهتف: يا نعم.
فقالت بصوت متهالك من العبث: ابعث صبيك ليأخذ ترابيزة لإصلاحها.
عاد الرجل إلى مجلسه وهو يقول لابنه: «توكل على الله». ووجد رفاعة باب المسكن مفتوحا في انتظاره فغمغم قائلا: «إحم»، فأذنت له بالدخول فدخل. وجدها في جلباب بني ذي كلفة بيضاء حول الطوق وفوق نهضة النهدين، وحافية وعارية الساقين وجدها أيضا. ولبثت صامتة مليا كأنما لتمتحن أثر منظرها في نفسه، فلما رأت صفاء عينيه لا يتغير أشارت إلى ترابيزة صغيرة قائمة على ثلاث أرجل في ركن الصالة وقالت: الرجل الرابعة تحت الكنبة، ركبها وحياتك وادهن الترابيزة من جديد.
فقال بصوت ذي موقع عذب: في الخدمة يا ست. - والثمن؟ - سأسأل أبي.
فشهقت متسائلة: وأنت؟ ألا تعرف الثمن؟ - هو الذي يخاطب فيه.
فتفرست في وجهه بقوة وسألته: ومن يصلحها؟ - أنا، ولكن بإشرافه ومعاونته.
فضحكت دون مبالاة وقالت: بطيخة؛ أصغر فتواتنا دونك في السن، لكنه يستطيع أن يدوخ زفة برمتها، وأنت لا تستطيع أن تركب رجل ترابيزة بمفردك؟!
فقال رفاعة بصوت من يروم إنهاء الكلام: المهم أنها ستعود إليك كأحسن ما يكون.
وتناول الرجل الرابعة من تحت الكنبة، وحمل الترابيزة على كتفه واتجه نحو الباب قائلا: فتك بعافية.
ولما وضعها أمام أبيه في الدكان قال الرجل بامتعاض وهو يتفحص الترابيزة: أقول الحق إني كنت أفضل أن يجيء أول رزق من ناحية أنظف.
فقال رفاعة في سذاجة: ليست قذرة بحال يا أبي، لكنها وحيدة فيما يبدو. - ليس أخطر من امرأة وحيدة! - لعلها في حاجة إلى هداية!
فقال عم شافعي ساخرا: حرفتنا النجارة لا الهداية، هات الغرا.
وعند المساء ذهب عم شافعي ورفاعة إلى قهوة جبل. كان الشاعر جواد متربعا على أريكته يحسو قهوته. وجلس شلضم صاحب القهوة عند المدخل، على حين احتل خنفس مكان الصدارة وسط هالة من المعجبين. وقصد شافعي وابنه إلى الفتوة ليؤديا إليه تحية الخضوع ثم اتخذا مكانا خاليا جنب شلضم. وما لبث أن تناول عم شافعي الجوزة، وقدم لابنه قدح قرفة بالبندق. وبدا جو القهوة ناعسا، تنعقد في سمائه سحب الدخان، وتنتشر في هوائه الساكن روائح المعسل والنعناع والقرنفل. أما الوجوه ذات الشوارب المستنفرة فلاحت شاحبة ثقيلة الأجفان، وتلاقى السعال والنحنحة بالضحكات الغليظة والنكات الفاجرة، وترامى من بطن الحارة هتاف غلمان يترنمون:
يا ولاد حارتنا .. توت توت
انتو نصارى .. ولا يهود
تاكلوا إيه .. ناكل عجوة
تشربوا إيه .. نشرب قهوة.
وكانت عند مدخل القهوة هرة تتربص، فانقضت نحو أسفل أريكة، وندت وسوسة، ثم ظهرت راكضة نحو الحارة قابضة بأسنانها على فأرة. ورد رفاعة عن فيه قدح القرنفل متقززا، ورفع عينيه فوقعتا على خنفس وهو يبصق، وصاح خنفس مخاطبا الشاعر جواد: متي تبدأ يا رأس الدواهي؟
فابتسم جواد وهو يهز رأسه، ثم تناول الرباب، وبعث من أوتارها أنغام الافتتاح. وبدأ بتحية للناظر إيهاب، فتحية ثانية لبيومي فتوة الحارة، والثالثة توجهت إلى خليفة جبل الفتوة خنفس، ومضى يقول: «وجلس أدهم في إدارة الوقف يستقبل مستأجري الأحكار الجدد، وكان ينظر في الدفتر حينما جاءه صوت الرجل الأخير يقول معلنا عن اسمه: إدريس الجبلاوي.
فرفع أدهم رأسه في فزع فرأى أخاه واقفا أمامه ...»
وواصل الشاعر الحكاية في جو من الإنصات، وتابعه رفاعة بشغف. هذا هو الشاعر وهذه هي الحكايات. كم سمع أمه وهي تقول: «حارتنا حارة الحكايات»! وحقا كانت هذه الحكايات جديرة بالحب. لعل فيها عزاء عن ملاعب سوق المقطم وخلواته، وراحة لقلبه المحترق بهيام غامض، غامض كهذا البيت الكبير المغلق، لا أثر فيه لحياة إلا رءوس أشجار الجميز والتوت والنخيل. وأي دليل على حياة الجبلاوي إلا الأشجار والحكايات؟ وأي دليل على أنه حفيده سوى الشبه الذي لمسه الشاعر جواد بيديه؟ وكان الليل يتقدم، وعم شافعي يدخن جوزة ثالثة، واختفت من الحارة نداءات الباعة وهتافات الغلمان، ولم يعد يبقى سوى أنغام الرباب ودقة دربكة آتية من بعيد، وصراخ امرأة ينهال عليها زوجها ضربا. أما أدهم فقد جره إدريس إلى مصيره؛ إلى الخلاء تتبعه أميمة الباكية. كما خرجت أمي من الحارة وأنا في بطنها أضطرب. اللعنة على الفتوات، وعلى القطط حين تلفظ الفئران أنفاسها بين أسنانها، وعلى كل نظرة ساخرة أو ضحكة باردة، وعلى من يستقبل أخاه العائد بقوله: لا مهرب مني عند الغضب، وعلى صانعي الرعب وخالقي النفاق. أما أدهم فلم يبق له إلا الخلاء، وها هو ذا الشاعر يغني أغنية من أغاني إدريس المخمور. ومال إلى أذن أبيه وقال: أريد أن أزور المقاهي الأخرى.
فقال عم شافعي متعجبا: قهوتنا خير قهوة في الحارة. - ماذا يقول الشعراء هنالك؟ - الحكايات نفسها ولكنك تسمعها هنالك وكأنها غير الحكايات.
وترامى التهامس إلى شلضم فمال نحو رفاعة قائلا: ليس أحد أكذب من أهل حارتنا، والشعراء أكذب الكاذبين، ستسمع في القهوة التالية أن جبل قال: إنه ابن الحارة، ووالله ما قال إلا أنه ابن حمدان.
فقال عم شافعي: الشاعر يريد إرضاء السامعين بأي ثمن.
فقال شلضم همسا: بل يريد إرضاء الفتوة!
وغادر الأب والابن القهوة عند منتصف الليل، وكانت الظلمة كثيفة تكاد أن تتجسد، وهناك أصوات رجال كأنما تصدر عن لا شيء، وسيجارة تتوهج في يد غير مرئية كأنها نجم تهاوى نحو الأرض. وتساءل الأب: أعجبتك الحكاية؟ - نعم، ما أجمل الحكايات!
فضحك الأب قائلا: عم جواد يحبك، ماذا قال لك في الاستراحة؟ - دعاني إلى زيارته في بيته. - ما أسرع أن تحب، ولكنك صبي بطيء التعلم.
فقال معتذرا: لدي عمر كامل للنجارة، ولكن يهمني الآن أن أزور المقاهي جميعا.
وتلمسا طريقهما إلى الدهليز فترامت إليهما من بيت ياسمينة ضجة مخمورة، وصوت يغني: يا بو الطاقية الشبيكة قل مين شغلها لك، شبكت قلبي إلهي ينشغل بالك. فهمس رفاعة في أذن أبيه: ليست وحيدة كما ظننت.
فتنهد الأب قائلا: ما أكثر ما ضيعت من عمر في الخلوات!
وراحا يرقيان في السلم على مهل وحذر، وإذا برفاعة يقول: أبي، سأزور عم جواد الشاعر .
47
طرق رفاعة باب جواد الشاعر بالربع الثالث بحي جبل. وكان يتصاعد من الحوش سباب حاد تتبادله نسوة ممن اجتمعن للغسل والطهي؛ فأطل من فوق درابزين الطرقة المستديرة المشرفة على فناء الربع. وكانت المعركة الأساسية تدور بين امرأتين، وقفت أولاهما وراء طشت غسيل تلوح بيدين مغطاتين برغوة الصابون، ووقفت الأخرى عند مدخل الدهليز مشمرة عن ساعديها ترد السب بأفظع منه وترقص وسطها استهزاء. أما النساء الأخريات فانقسمن إلى فرقتين، وتلاطمت الأصوات حتى تجاوبت جدران الربع بالشتائم المقذعة والقذف العاهر. وسرعان ما جفل مما يرى ويسمع فتحول عن موقفه إلى باب الشاعر متقززا. حتى النساء، حتى القطط، ودعك من الفتوات. في كل يد مخلب وفي كل لسان سم، وفي القلوب الخوف والضغائن. أما الهواء النقي ففي خلاء المقطم أو في البيت الكبير حيث ينعم الواقف بالسلام وحده! وفتح الباب عن وجه الضرير المستطلع، فحياه، فابتسمت أسارير الرجل، وأوسع له وهو يقول: أهلا بابن أخي.
وتلقى رفاعة أول ما دخل شذى بخور نافذ كأنه أنفاس ملاك. ومضى وراء الرجل إلى حجرة صغيرة مربعة، اصطفت بأضلاعها الشلت، وانبسطت فوق أرضها حصيرة مزركشة، وبدا جوها خلف خصاص النوافذ المغلقة في سمرة الأصيل، وقد زين سقفها حول الفانوس المدلى بصور العصافير والحمام. تربع الشاعر على شلتة فجلس رفاعة إلى جانبه، وقال الرجل: كنا نعد القهوة.
ونادى زوجته فجاءت امرأة حاملة صينية القهوة فقال جواد: تعالي يا أم بخاطرها، هذا رفاعة ابن عم شافعي.
فجلست المرأة إلى جانب زوجها من الناحية الأخرى، وراحت تصب القهوة في الفناجيل وهي تقول: أهلا بك يا بني.
بدت في منتصف الحلقة السادسة، مستقيمة العود، قوية البنية، تلفت النظر إليها بعينين نافذتين ووشم فوق الذقن. وأشار جواد ناحية الضيف وقال: إنه سميع يا أم بخاطرها، شغوف بالحكايات، وبمثله يتحمس الشاعر ويرضى، أما الآخرون فسرعان ما يغلبهم نعاس المنزول والحشيش.
فقالت المرأة بدعابة: حكاياتك جديدة عليه، معادة عليهم.
فقال الشاعر بغيظ: هذا صوت عفريت من عفاريتك .. (ثم موجها الخطاب إلى رفاعة) .. الولية كودية زار.
فتطلع رفاعة نحو المرأة باهتمام، فالتقت أعينهما وهي تمد له يدها بفنجان القهوة. كم كانت تجذبه دقة الزار في سوق المقطم! وكان قلبه يتابعها راقصا، فيقف في الطريق رافعا رأسه نحو النوافذ، متطلعا إلى البخور السابح في الفضاء والرءوس المترنحة. وسأله الشاعر: ألم تعرف في غربتك شيئا عن حارتنا؟ - حدثني أبي عنها كما حدثتني أمي، ولكن قلبي كان هنالك، فلم أكترث كثيرا للوقف ومشاكله، وعجبت من كثرة ضحاياه، فملت إلى رأي أمي في إيثارها الحب والسلام.
فتساءل جواد وهو يهز رأسه في حزن: وكيف يتسنى للحب والسلام أن يعيشا بين الفقر ونبابيت الفتوات!
فلم يجبه رفاعة؛ لا لأنه لم يكن ثمة جواب، ولكن لأن عينيه رأتا لأول مرة صورة غريبة فوق الجدار الأيمن للحجرة؛ صورة مرسومة بالزيت على الجدار كالصور التي تزين جدران المقاهي، وتمثل رجلا هائلا تبدو إلى جانبه ربوع الحارة ضئيلة كلعب الأطفال؛ فتساءل الشاب: من صاحب هذه الصورة؟
فأجابت أم بخاطرها: الجبلاوي. - هل رآه أحد؟
فقال جواد: كلا، لم يره أحد من جيلنا، حتى جبل لم يتبينه في ظلمة الخلاء، ولكن المبيض رسمه على مثال ما يرد من أوصافه في الحكايات.
فتساءل رفاعة متنهدا: لماذا أغلق أبوابه في وجه أحفاده؟ - يقولون الكبر، من يدري كيف تمضي به الأيام! والله لو فتح أبوابه ما بقي أحد من أهل حارتنا في داره القذرة. - ألا تستطيع أن ...
ولكن أم بخاطرها قاطعته قائلة: لا تشغل به نفسك، فإن أهل حارتنا إذا بدءوا بالكلام عن الواقف جرهم الكلام إلى الوقف ثم تقع المصائب أشكالا وألوانا.
فهز رأسه في حيرة متسائلا: وكيف لا تشغل النفس بمثل هذا الجد العزيز؟! - لنفعل مثله، فإنه لا يشغل بنا نفسه.
فرفع رفاعة بصره إلى الصورة ثم قال: لكنه قابل جبل وكلمه. - نعم، ولما مات جبل جاء زنفل ثم خنفس، وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا.
فضحك جواد وقال لامرأته: إن الحارة في حاجة إلى من يخلصها من شياطينها كما تخلصين الممسوسين من عفاريتهم.
فابتسم رفاعة وقال: يا عمتي إن العفاريت حقا هم أولئك الناس، لو رأيت كيف كانت مقابلة خنفس لأبي! - لا شأن لي بأولئك، عفاريتي الآخرون يذعنون لي كما كانت الثعابين تذعن لجبل، وعندي لهم جميع ما يحبون من بخور سوداني وتعاويذ حبشية وأغان سلطانية.
فسألها رفاعة باهتمام: ومن أين أتتك هذه القدرة على العفاريت؟
فحدجته بنظرة حذرة وقالت: هي حرفتي كما أن النجارة حرفة أبيك، جاءتني من وهاب المنن!
فأفرغ رفاعة ثمالة الفنجان في فيه وهم بالكلام، غير أن صوت عم شافعي تصاعد من الحارة صائحا: يا رفاعة، يا ولد يا كسول.
فقام رفاعة إلى النافذة ففتحها وأطل منها حتى التقت عيناه بعيني أبيه وهتف: أمهلني نصف ساعة يا أبي.
فرفع الرجل منكبيه فيما يشبه اليأس ورجع إلى دكانه. وعندما أخذ رفاعة يغلق النافذة رأى عيشة في موقفها بالنافذة كما رآها أول مرة، ترنو إليه باهتمام، خيل إليه أنها ابتسمت، أو أن عينيها تكلمتا، وتردد لحظة، لكنه أغلق النافذة وعاد إلى مجلسه. وإذا بجواد يضحك قائلا: أبوك يريد لك النجارة، ولكن فيم ترغب أنت؟
فتفكر رفاعة مليا ثم قال: علي أن أكون نجارا كأبي، ولكني أحب الحكايات، وهذه الأسرار حول العفاريت، فحدثيني عنها يا عمتي.
فابتسمت المرأة وبدت كأنها سمحت بأن تهبه «قليلا» من علمها فقالت: لكل إنسان عفريت هو سيده، ولكن ليس كل عفريت بشر يجب أن يخرج. - وكيف نميز بين هذا وذاك؟ - عمله يدل عليه، أنت مثلا ولد طيب فما يستحق سيدك إلا الجميل، وليس هكذا عفاريت بيومي وخنفس وبطيخة!
فقال ببراءة: وعفريت ياسمينة هل يجب أن يخرج؟
فضحكت أم بخاطرها وقالت: جارتكم؟ لكن رجال جبل يريدونها كما هي.
فقال باهتمام جدي: أريد أن أعرف هذه الأشياء فلا تبخلي علي.
فقال جواد: من ذا الذي يبخل على الابن الطيب؟
وقالت أم بخاطرها: جميل أن تلازمني كلما سمح الوقت، ولكن على شرط ألا يغضب أبوك، وسيتساءل الناس: ما لهذا الولد الطيب والعفاريت؟! ولكن اعلم أن لا داء للناس إلا العفاريت.
وكان رفاعة يستمع وهو يرنو إلى صورة الجبلاوي.
48
النجارة مهنته ومستقبله، لا مهرب منها فيما يبدو. إن تكن نفسه لا ترتاح إليها فأي شيء ترتاح إليه نفسه؟ إنها أفضل من السعي الكادح وراء عربات اليد، أو من حمل المقاطف والسلال. أما المهن الأخرى كالبلطجة والفتونة فما أبغضها وأمقتها! أم بخاطرها أثارت خياله كما لم يثره شيء من قبل اللهم إلا صورة الواقف المرسومة على جدار الحجرة في بيت جواد الشاعر. وحض أباه يوما على رسم صورة مثلها في بيتهم أو في الدكان، فقال له الرجل: نحن أولى بنفقاتها، وهي خيال، وما قيمة الخيال؟ فما كان منه إلا أن قال له: بودي لو أراه! فضحك الرجل ضحكة عالية، وقال له معاتبا: أليس الأفضل أن ترى عملك؟! لن أعيش لك إلى الأبد، وعليك أن تتأهب ليوم تحمل فيه وحدك أعباء أمك وزوجك وأطفالك.
لكنه لم يكن يفكر في شيء كما كان يفكر فيما تقول أو تفعل أم بخاطرها. بدت له أحاديثها عن العفاريت غاية في الأهمية، ولم تزايل وعيه حتى في الأوقات السعيدة التي تردد فيها على مقاهي الحارة واحدة بعد أخرى. حتى الحكايات نفسها لم ترسب في نفسه كما رسبت أحاديث أم بخاطرها. لكل إنسان عفريت هو سيده، وكما يكون السيد يكون العبد .. هكذا تردد أم بخاطرها. وكم من ليلة قضاها في حضرة الست، يتابع دقات الزار ويشهد ترويض العفاريت! ومن المرضى من يساق إلى البيت في حال خمول وإعياء، ومنهم من يحمل مقيدا في الأغلال اتقاء لشره. ويحرق البخور المناسب؛ إذ لكل حال بخورها، وتدق الدقة المطلوبة؛ إذ لكل عفريت دقة يطلبها، ثم تحدث الأعاجيب.
إذن عرفنا أن لكل عفريت دواءه، ولكن ما دواء ناظر الوقف وفتواته؟! هؤلاء الأشرار يسخرون من الزار ولعله لم يخلق إلا لهم! القتل هو الوسيلة إلى الخلاص منهم، أما العفريت فيستكين بالبخور الزكي والنغمة الطيبة. كيف يؤخذ العفريت الشرير بالجميل الطيب؟! ألا ما أجل نتعلمه من الزار والعفاريت! وقال لأم بخاطرها إنه يرغب من أعماق قلبه في تلقي أسرار الزار، فسألته: أتطمع في المال الكثير؟ فأجابها بأنه في تطهير الحارة يرغب لا في المال الكثير. وضحكت المرأة قائلة: إنه أول رجل يرغب في هذا العمل، فماذا استهواه فيه؟ فأكد قائلا: إن أحكم ما في عملك أنك تهزمين الشر بالطيب الجميل. ولما مضت تبيح له أسرارها طاب نفسا.
وإعرابا عن مسرته كان يصعد إلى سطح الربع في نشوة الفجر ليشهد يقظة النور، ولكن البيت الكبير يستأثر بلبه دون النجوم والسكون وصياح الديكة، ويرنو إلى البيت الراقد بين الأشجار طويلا، ثم يتساءل: أين أنت يا جدي؟ لماذا لا تظهر ولو لحظة! لماذا لا تخرج ولو مرة؟ لماذا لا تتكلم ولو كلمة؟ ألا تدري أن كلمة منك تغير حارتنا من حال إلى حال؟ أم يرضيك ما يجري بها؟ وما أجمل الأشجار حول بيتك! إني أحبها لأنك تحبها، وأنظر إليها لألتقي نظراتك المطبوعة عليها.
وكلما أفضى بخواطره إلى أبيه سمع عتابا وقال له: «وعملك يا كسلان؟! إن أمثالك من الشبان يجوبون الأحياء سعيا وراء الرزق أو يهزون الحارة إذا رفعوا النبابيت!»
ويوما كانت الأسرة مجتمعة عقب الغداء إذا بعبدة تقول لزوجها باسمة: قل له يا معلم.
أدرك رفاعة أنه المقصود بالكلام، فنظر إلى أبيه مستطلعا لكن الرجل خاطب زوجته قائلا: حدثيه أنت بما عندك أولا.
فنظرت عبدة إلى ابنها بإعجاب وقالت: خبر سعيد يا رفاعة، زارتني ست زكية زوجة فتوتنا خنفس! ورددت لها الزيارة بطبيعة الحال فاستقبلتني بحفاوة وقدمت إلي ابنتها عيشة، بنت جميلة كالقمر، ثم زارتني مرة أخرى ومعها عيشة.
ولحظ عم شافعي ابنه بطرف خفي، وهو يرفع فنجال القهوة إلى فيه؛ ليرى أثر الحكاية في نفسه، ثم هز رأسه هزة من قدر الصعوبة التي تنتظره، وقال بتفخيم: هذا شرف لم يحظ بمثله بيت في حي آل جبل، تصور أن زوجة خنفس وابنته تزوران بيتنا هذا!
رفع رفاعة عينيه إلى أمه حائرا فقالت بحماس: ما أفخم مسكنهم، المقاعد الوثيرة، السجاد الفاخر، حتى الستائر تنسدل فوق النوافذ والأبواب.
فقال رفاعة ممتعضا : كل هذا الخير من أموال آل جبل المغتصبة!
فدارى عم شافعي ابتسامة وهو يقول: تعاهدنا على ألا نتكلم في هذا الموضوع.
قالت عبدة باهتمام: فلنذكر فقط أن خنفس سيد آل جبل وأن صداقة أهله دعاء مستجاب.
فقال رفاعة في ضجر: مباركة عليك هذه الصداقة!
فتبادلت الأم مع زوجها نظرة ذات معنى، قالت على أثرها: إن مجيء عيشة مع أمها حدث له معنى!
فتساءل رفاعة وهو يشعر بانقباض: ما معناه يا أمي؟
فضحك شافعي وهو يلوح بيده يائسا وقال مخاطبا عبدة: كان ينبغي أن نقص عليه كيف تم زواجنا!
فهتف رفاعة بضيق: كلا! كلا يا أبي! - ماذا تعني؟ وما لك تبدو كالعذراء؟
وقالت عبدة بإغراء ورجاء: أنت الذي بيدك أن تدخلنا نظارة وقف آل جبل، سيرحبون بك إذا تقدمت، حتى خنفس سيرحب بك؛ إذ لولا ثقة المرأة في مكانتها عنده ما أقدمت على تلك الخطوة، أمامك جاه ستحسدك الحارة عليه من أولها إلى آخرها.
وقال الأب ضاحكا: من يدري فلعلنا نراك يوما ناظرا لوقف جبل أو ترى أنت أحد أبنائك فيه. - أنت الذي تقول ذلك يا أبي؟! أنسيت لماذا هاجرت من الحارة منذ عشرين عاما؟
فرمش عم شافعي في شيء من الارتباك وقال: نحن نعيش اليوم كما يعيش غيرنا، فلا يجوز أن نهمل انتهاز فرصة تجيء بنفسها إلينا.
وتمتم رفاعة، وكأنه يحادث نفسه: كيف أصهر إلى عفريت وأنا لا هم لي اليوم إلا مطاردة العفاريت؟!
فصاح شافعي محتدا: ما طمعت يوما في أن أجعل منك أكثر من نجار، ولكن الحظ يعرض عليك درجة مرموقة في حارتنا، ولكنك تريد أن تكون كودية زار، يا للعار! أي عين أصابتك؟ قل إنك ستتزوجها ودعنا من الهزل! - لن أتزوجها يا أبي.
فقال شافعي دون مبالاة: سأزور خنفس؛ لأطلب القرب منه.
فهتف رفاعة بحرارة: لا تفعل يا أبي!
فسأله أبوه في جزع: خبرني ما شأنك يا ولد؟!
وتوسلت عبدة إلى زوجها قائلة: لا تشتد عليه، أنت أعلم بحاله. - يا سوء ما أعلم! حارتنا تعيرنا برقته. - ترفق به حتى يفكر في الأمر. - أقرانه آباء، والأرض تهتز عند وقع أقدامهم.
وحدجه بنظرة مغيظة ثم استطرد محتدا: لماذا يهرب الدم من وجهك؟ إنك من صلب رجال!
وتنهد رفاعة. الصدر منقبض لحد البكاء. وشائج الأبوة يمزقها الغضب. والبيت يقسو حينا فيرتد سجنا كئيبا. ومرادك ليس في هذا المكان ولا بين هؤلاء الناس. وقال بصوت مبحوح: لا تعذبني يا أبي. - أنت الذي تعذبني، كما عذبتني منذ ولدت.
وأحنى رفاعة رأسه حتى اختفى وجهه عن والديه، وأخفض الرجل من صوته وسكن ما استطاع غضبه، ثم سأله: هل تخاف الزواج؟ ألا تحب أن تتزوج؟ صارحني بما في نفسك، أم أذهب إلى أم بخاطرها فلعلها تعرف عنك ما لا نعرف!
فهتف بحدة: كلا!
وقام فجأة فغادر الحجرة.
49
ونزل عم شافعي ليفتح الدكان فلم يجد رفاعة هناك كما توقع. لكنه لم يناد عليه وقال لنفسه: إنه من الحكمة أن يتظاهر بالبرود لغيابه. ومضى النهار يزحف رويدا وضوء الشمس ينحسر عن أرض الحارة، والنشارة تتكاثف حول قدمي شافعي دون أن يظهر رفاعة. وأتى المساء فأغلق الرجل الدكان وهو في غاية من الضيق والغضب. وقصد كعادته قهوة شلضم واتخذ مجلسه، ولما رأى جواد الشاعر قادما وحده تولاه العجب وسأله: إذن أين رفاعة؟
فأجابه الرجل وهو يتلمس طريقه إلى أريكته: لم أره منذ أمس.
فقال شافعي بقلق: لم أره منذ تركنا بعد الغداء.
رفع جواد حاجبيه الأشيبين ثم تساءل وهو يتربع على الأريكة ويضع الرباب إلى جانبه: هل وقع بينكما شيء؟
ولم يجبه شافعي، وقام فجأة فغادر القهوة. وتعجب شلضم لقلق شافعي وقال ساخرا: هذه طراوة لم تعرفها حارتنا مذ أقام إدريس كوخه في الخلاء. كنت أتغيب في صغري عن الحارة أياما فلا يسأل عني أحد، وعند عودتي يصيح بي أبي الله يرحمه: «ما الذي عاد بك يا ابن اللئيمة؟»
فعلق خنفس على كلامه من صدر القهوة قائلا: أصله لم يكن على يقين من أنك ابنه.
وضجت القهوة بالضحك، وهنأ كثيرون خنفس على جميل دعابته! أما عم شافعي فمضى إلى بيته وسأل عبدة: هل عاد رفاعة؟ فاستحوذ القلق على المرأة، وقالت: إنها كانت تظنه بالدكان كعادته. واشتد قلقها حين أخبرها أنه لم يذهب كذلك إلى بيت جواد الشاعر، وراحت المرأة تتساءل في قلق: إذن أين ذهب؟
وترامى إليهما صوت ياسمينة وهي تزعق منادية على بياع تين، فنظرت عبدة إلى شافعي نظرة مريبة، فهز الرجل رأسه برما وأطلق ضحكة جافة مقتضبة ساخرة، ولكن المرأة قالت: فتاة مثلها تحل العقد!
وذهب الرجل إلى بيت ياسمينة مدفوعا باليأس وحده. طرق الباب ففتحت ياسمينة بنفسها، ولما عرفته تراجع رأسها في دهش مقرون بالظفر وقالت: أنت؟! ياما تحت الساهي دواهي!
فغض الرجل بصره أمام شفافية قميصها وقال بانكسار: رفاعة عندك؟
فازدادت دهشة وقالت: رفاعة! لمه؟
فعلا الرجل الارتباك؟ فأشارت إلى الداخل وهي تقول: ابحث عنه بنفسك.
لكن الرجل استدار ليذهب فسألته ساخرة: هل أدركه البلوغ اليوم؟
وسمعها تخاطب شخصا في الداخل قائلة: في هذا الزمان الفتى يخشى عليه أكثر من الفتاة.
ووجد عم شافعي عبدة تنتظره في الدهليز، فقالت له: سنذهب معا إلى سوق المقطم.
فصاح الرجل بغضب: الله يتعبه، أهذا جزائي بعد يوم عمل شاق؟!
واستقلا عربة كارو إلى سوق المقطم، وسألا عنه عند جيرانهما الأقدمين، وعند المعارف فلم يعثرا له على أثر. أجل كان يتغيب ساعات في العصاري أو الأصائل في الخلوات أو الجبل، ولكن لا يتصور أحد أن يلبث حتى هذه الساعة من الليل في الخلاء. وعادا إلى الحارة كما ذهبا ولكن على حال من الجزع أشد. ولاكت الألسن اختفاءه وبخاصة بعد أن مضت عليه أيام. صار دعابة في القهوة وبيت ياسمينة وفي حي آل جبل تندر الجميع بفزع والديه. ولعل أم بخاطرها وعم جواد كانا الوحيدين اللذين شاركا والديه في حزنهما. وقال عم جواد: «أين ذهب الفتى؟ ليس هو من أولئك الشبان، لو كان على شاكلتهم ما جزعنا!» وصاح بطيخة مرة وهو سكران: «جدع تايه يا أولاد الحلال»، كأنما ينادي على طفل تائه، فضحكت الحارة وراح الغلمان يرددونها. ومرضت عبدة من الحزن. وعمل شافعي في دكانه بعقل شارد وعينين محمرتين من الأرق. أما زكية زوجة خنفس فقد انقطعت عن زيارة عبدة وتجاهلتها في الطريق. ويوما كان شافعي مكبا على نشر قطعة من الخشب إذ صاحت به ياسمينة وهي عائدة من مشوار: عم شافعي .. انظر.
وجدها تشير إلى نهاية الحارة عند الخلاء، فغادر الدكان والمنشار في يده؛ ليرى ما تشير إليه فرأى ابنه رفاعة يتقدم نحو الربع في استحياء. وترك الرجل المنشار أمام الدكان وهرع نحو ابنه وهو يتفحصه بدهشة، ثم قبض على عضديه هاتفا: رفاعة! أين كنت؟ ألا تدري ما يعني غيابك لنا؟ لأمك المسكينة التي تكاد أن تموت جزعا؟
ولم ينبس الشاب، ووضح للأب هزاله فسأله: هل كنت مريضا؟
فأجاب في ارتباك: كلا، دعني أر أمي.
واقتربت ياسمينة منهما وسألت الشاب في ارتياب: ولكن أين كنت؟
فلم ينظر نحوها. وتجمع حوله الغلمان، فسار به أبوه إلى البيت. وسرعان ما تبعهما عم جواد وأم بخاطرها. ولما رأته أمه وثبت من الفراش وضمته إلى صدرها، وهي تقول بصوت ضعيف: سامحك الله .. كيف هانت عليك أمك؟
فتناول راحتها بين يديه وأجلسها على الفراش وجلس إلى جانبها وهو يقول: إني آسف!
فرفع أبوه وجها متجهما نقيض الارتياح الساري في أعماقه كالغمامة السوداء المظلة لوجه القمر وقال بعتاب: ليس الأمر إلا أننا قصدنا إسعادك!
فتساءلت عبدة بعينين مغرورقتين: توهمت أننا نجبرك على الزواج؟!
فقال بحزن: إني متعب.
فسأله أكثر من صوت: أين كنت؟
فتنهد قائلا: ضقت بحياتي فذهبت إلى الخلاء، شعرت برغبة في الوحدة والخلاء. ولم أكن أتركه إلا لشراء الطعام.
فضرب الأب جبهته بيده وصاح: ما هكذا يفعل العقلاء!
وإذا بأم بخاطرها تقول في إشفاق: دعوه، أنا خبيرة بهذه الأحوال، ولا يصح أن يفرض على مثله شيء يأباه.
فقالت عبدة وهي تشد على يده: كانت سعادته أملنا، ولكن ما قدر كان، كم ضمرت يا بني!
وتساءل عم شافعي في غيظ: دلوني على شيء كهذا حصل من قبل في حارتنا!
فقالت أم بخاطرها في لوم: ليس حاله بالغريب علي يا عم شافعي، صدقني، إنه شاب نادر المثال!
فغمغم عم شافعي في حزن: صرنا أحدوثة في الحارة.
فقالت أم بخاطرها غاضبة: ليس في الحارة كلها فتى مثله.
فقال عم شافعي: هذا موضع الأسى.
فصاحت أم بخاطرها: وحد الله يا رجل، أنت لا تدري ماذا تقول ولا تفهم ما يقال.
50
أصبح للدكان منظر يوحي بالنشاط والنجاح. فعند طرف الطاولة وقف عم شافعي ينشر الخشب، وعند طرفها الآخر قبض رفاعة على القدوم وراح يدق المسامير، أما أسفل الطاولة فبدا إناء الغراء مغروسا في ركام النشارة حتى منتصفه. وأسندت إلى الجدران ضلفات نوافذ ومصاريع أبواب، يتوسطها صف عمودي من الصناديق الجديدة بلون الخشب الباهت المصقول لا ينقصها إلا الدهان. وامتلأ الجو برائحة خشبية وأصوات النشر والدق والحك وقرقرة الجوز يدخنها أربعة زبائن جلسوا عند مدخل الدكان يتحادثون. وقال حجازي مخاطبا عم شافعي: سأجرب مهارتك في هذه الكنبة، وإن شاء الله سيكون العمل القادم جهاز البنت (ثم مخاطبا أصحابه) .. وأعود فأقول لكم: إننا نعيش في أيام لو عاد إليها جبل لجن.
فهزوا رءوسهم في أسى وهم يدخنون، أما برهوم التربي فسأل عم شافعي باسما: لماذا لا تريد أن تصنع لي تابوتا؟ أليس كل شيء بثمنه؟
فكف عم شافعي يده عن المنشار لحظة وقال ضاحكا: يفتح الله، وجود التابوت في الدكان يهرب الزبائن.
فقال فرحات مؤمنا على قوله: صدقت، قطع الموت وسيرته.
فعاد حجازي يقول: عيبكم أنكم تخافون الموت أكثر مما ينبغي: لذلك سيطر عليكم خنفس، وتسلطن بيومي، وصادر إيهاب أرزاقكم. - وأنت ألا تخاف الموت مثلنا؟
فبصق ثم قال: العيب عيبنا جميعا، كان جبل قويا، وبالقوة والعنف استخلص لنا حقنا الذي أضاعه الجبن.
وإذا برفاعة يتوقف عن الدق فيخرج المسامير من فيه ويقول: أراد جبل استخلاص حقنا بالحسنى، ولم يعمد إلى القوة إلا دفاعا عن نفسه.
فضحك حجازي استهزاء وقال متسائلا: خبرني يا بني هل تستطيع دق المسامير إلا بالقوة؟
فقال رفاعة باهتمام جدي: ليس الإنسان كالخشب يا معلم .
وحدجه أبوه بنظرة فعاد إلى عمله. واستطرد حجازي قائلا: الحق أن جبل كان فتوة من أشد الفتوات الذين عرفتهم حارتنا، وكم حث آل جبل على الفتونة.
فقال فرحات مصححا: أراد منهم أن يكونوا فتوات على الحارة لا على آل جبل. - وما هم اليوم إلا فئران أو أرانب.
وتساءل عم شافعي وهو يجفف أنفه بظهر يده: وأي الألوان تفضل يا عم حجازي؟ - اختر لونا لا يتوسخ بسرعة، فهذا أضمن للنظافة.
وواصل حديثه للأصحاب فقال: ويوم فقأ دعبس عين كعبلها فقأ جبل عينه، فبالجبروت أقام العدل!
وتنهد رفاعة بصوت مسموع وقال: لا يعوزنا الجبروت، كل ساعة من نهار أو ليل نرى أناسا يضربون ويجرحون ويقتلون، حتى النساء ينشبن الأظافر حتى تسيل الدماء، ولكن أين العدل؟ ألا ما أقبح هذا كله!
ووجم الجميع لحظة ثم قال حنورة، وكان يتكلم لأول مرة: هذا المعلم الصغير يحتقر حارتنا! إنه رقيق أكثر من اللازم وأنت السبب يا معلم شافعي. - أنا؟! - نعم، إنه شاب مدلع.
والتفت حجازي نحو رفاعة وقال ضاحكا: خير من هذا أن تجد لنفسك عروسا!
وتعالى الضحك، فقطب عم شافعي، وتورد وجه رفاعة، وعاد حجازي يقول مؤكدا: القوة .. القوة، بغيرها لا يسود العدل!
فقال رفاعة بإصرار على رغم نظرات أبيه إليه: الحق أن حارتنا في حاجة إلى الرحمة.
فضحك برهوم التربي قائلا: أتريد أن تخرب بيتي؟
وضجوا بالضحك، وأعقب ذلك نوبات سعال، حتى قال حجازي وقد صارت عيناه في لون الغرا: قديما ذهب جبل إلى الأفندي يسأله العدل والرحمة، فأرسل إليه زقلط ورجاله، ولولا النبابيت - لا الرحمة - لهلك جبل وآله.
وهتف عم شافعي محذرا: يا هوه! للحيطان آذان، ولو سمعوكم ما وجدتم من يسمي عليكم.
فقال حنورة: صدق الرجل، ما أنتم إلا حشاشون لا خير فيكم، ولو مر أمامكم الآن خنفس لسجدتم بين يديه.
ثم قال وهو يلتفت نحو رفاعة: لا تؤاخذنا يا بني، فليس على الحشاش حرج، ألم تجرب الحشيش يا رفاعة؟
فقال عم شافعي ضاحكا: لا يميل إلى مجالسه، وإن زاد على نفسين لهث أو نام.
فقال فرحات: ما ألطف هذا الشاب، يظنه البعض كودية زار لملازمته لأم بخاطرها، ويظنه آخرون شاعرا لتعلقه بالحكايات.
فقال حجازي ضاحكا: ويكره مجالس الحشيش كما يكره الزواج!
ونادى برهوم صبي القهوة ليأخذ الجوز، ثم قاموا مسلمين فانفض المجلس. وترك عم شافعي المنشار لينظر إلى ابنه في عتاب، ثم قال: لا تحشر نفسك في أحاديث أولئك الناس.
وجاء غلمان ليلعبوا أمام الدكان فدار رفاعة حول الطاولة حتى وقف أمام أبيه، ثم تناول يده وتراجع به إلى ركن الدكان بعيدا عن الآذان. بدا منفعلا قلقا لكن تطبقت شفتاه في تصميم، وشع من عينيه نور عجيب حتى تساءلت عينا الرجل. وإذا برفاعة يقول: لن أستطيع السكوت بعد اليوم.
فتضايق الأب. يا له من متعب هذا الابن العزيز؛ ينفق وقته الغالي في بيت أم بخاطرها، ويخلو الساعات الطوال إلى نفسه عند صخرة هند، وإذا مكث في الدكان ساعة أثار المشاكل بمناقشاته! - هل تجد تعبا؟
فقال بهدوء غريب حل محل القلق: لا يجوز أن أخفي عليك ما في نفسي. - ماذا عندك؟
فاقترب منه أكثر وقال: أمس عقب خروجي من بيت الشاعر عند منتصف الليل شعرت برغبة في الانطلاق فقصدت الخلاء، مشيت في الظلام حتى تعبت، ثم اخترت مكانا أسفل سور البيت الكبير المشرف على الخلاء فجلست مسندا ظهري إلى السور.
فبدا الاهتمام في عيني الرجل، وحثه بنظرة على متابعة الحديث فقال: سمعت صوتا غريبا يتكلم، كأنما كان يحدث نفسه في الظلام، فدهمني شعور مشرق بأنه صوت جدنا الجبلاوي.
فحملق الرجل في وجه ابنه وتمتم في ذهول: صوت الجبلاوي؟! ما الذي حملك على هذا الظن؟
فقال رفاعة بحرارة: ليس ظنا يا أبي، سيجيئك الدليل. وقد قمت حال سماعي الصوت فاستدرت نحو البيت وتراجعت إلى الوراء؛ لأتمكن من رؤيته ولكني لم أر إلا ظلاما. - الحمد لله! - صبرا يا أبي، سمعت الصوت وهو يقول: «أما جبل فقد قام بمهمته وكان عند حسن الظن به، ولكن الأمور ارتدت إلى أقبح مما كانت عليه»!
شعر شافعي بصدره يحترق وتفصد جبينه عرقا، وقال بصوت متهدج: ما أكثر الذين جلسوا مجلسك تحت السور فلم يسمعوا شيئا. - لكني أنا سمعت يا أبي. - لعله أحد كان راقدا في الظلام!
فهز رأسه بعزم وقال: بل جاء الصوت من البيت! - كيف عرفت هذا؟ - هتفت قائلا: «يا جدي، جبل مات، وخلفه آخرون، فمد إلينا يدك!»
فقال شافعي باضطراب: الله أسأل ألا يكون أحد سمعك.
فقال رفاعة بعينين مضيئتين: جدي سمعني، وجاءني صوته قائلا: «ما أقبح أن يطالب شاب جده العجوز بالعمل، والابن الحبيب من يعمل ...» فسألته: «وما حيلتي حيال أولئك الفتوات أنا الضعيف؟» فأجابني: «الضعيف هو الغبي الذي لا يعرف سر قوته وأنا لا أحب الأغبياء».
فتساءل عم شافعي في فزع: أتظن أن هذا الكلام دار بينك وبين الجبلاوي؟ - نعم ورب السموات!
فند عن الرجل أنين، وقال متوجعا: يا للأوهام خلاقة المصائب! - صدقني يا أبي، ليس فيما أقول شك.
فقال الرجل متحسرا: لا تقطع أملي في أن نجد فيه شكا.
فقال رفاعة بوجه يتألق نشوة كالنغمة الحلوة: وأعرف الآن ما يراد مني.
فضرب الرجل جبينه بغيظ وصاح متسائلا: وهل أيضا يراد منك شيء؟ - نعم، إني ضعيف ولكني لست غبيا، والابن الحبيب من يعمل!
فهتف شافعي وهو يشعر كأن المنشار ينشر صدره: سيكون عملك أسود، وسوف تهلك وتجرنا معك إلى الهلاك!
فقال رفاعة باسما: إنهم لا يقتلون إلا من يتطلع إلى الوقف! - وهل تتطلع إلى شيء غير الوقف؟
فقال رفاعة بصوت مليء بالثقة: كان أدهم ينشد الحياة الصافية الغناء، كذلك جبل وهو لم يطالب بحقه في الوقف إلا سعيا وراء الحياة الصافية الغناء، لكن غلب عليه الظن بأن هذه الحياة لن تتيسر لأحد إلا إذا توزع الوقف على الجميع فنال كل حقه واستثمره حتى يغنيه عن الكد فتخلص له الحياة الصافية الغناء، ولكن ما أتفه الوقف إن أمكن بلوغ هذه الحياة بدونه! وهو أمر ممكن لمن يشاء، وبوسعنا أن نغنى منذ الساعة!
فتنهد عم شافعي في شيء من الارتياح، وتساءل: هل قال لك جدك ذلك؟ - قال: إنه لا يحب الغباء، وقال: إن الغبي هو الذي لا يعرف سر قوته، وإني آخر من يدعو إلى قتال في سبيل الوقف. الوقف لا شيء يا أبي، وسعادة الحياة الغناء هي كل شيء، ولا يحول بيننا وبين السعادة إلا العفاريت الكامنة في أعماقنا، ولم يكن عبثا أن أشغف بطب العفاريت وأن أحسنه، لعلها إرادة رب السموات هي التي دفعتني إليه.
ارتاح شافعي بعد عذاب، ولكن بعد أن استنفد العذاب قواه، فانحط على منشاره، مادا ساقيه، مسندا ظهره إلى ضلفة نافذة منتظرة دورها في الإصلاح، ثم ساءل ابنه في شيء من السخرية: وكيف لم نبلغ الحياة الغناء وفينا أم بخاطرها من قبل أن تولد أنت؟
فقال رفاعة بالصوت المليء بالثقة: لأنها تنتظر حتى يجيء إليها المرضى الموسرون ولا تذهب بنفسها إلى المساكين.
فنظر عم شافعي في أركان دكانه وقال بارتياب: انظر إلى إقبال الرزق علينا فماذا يخبئ لنا الغد من تحت رأسك؟
فقال رفاعة بابتهاج: كل خير يا أبي، إن شفاء المرضى لن يقلق إلا العفاريت.
وتوهج ضياء في الدكان منبعث من مرآة صوان قرب الباب، عاكسا شعاع الشمس المائلة.
51
وانتقل القلق ليلا إلى بيت عم شافعي. ومع أن الحديث تناهى إلى عبدة في إطار من الطمأنينة، ومع أنها لم تعلم سوى أن رفاعة سمع صوت جده وهو يتكلم وأنه قرر بعد ذلك أن يزور المساكين ليطرد عنهم العفاريت، إلا أن القلق اجتاح نفسها ولبثت تقلب وجوه العواقب. كان رفاعة في الخارج، وكان في أقصى الحارة - بعيدا عن حي آل جبل - عرس تترامى منه أصوات طبل وزمر وزغاريد. وأرادت المرأة أن تواجه الحقيقة فقالت بحزن: رفاعة لا يكذب.
فقال شافعي بامتعاض: ولكن الأوهام قد تخدعه، كلنا عرضة لذلك. - وماذا ترى فيما سمع؟ - كيف لي بأن أجزم؟! - لا محال في الأمر ما دام جدنا حيا. - الويل لنا لو عرف الخبر.
فقالت برجاء: فلنكتم الخبر ولنحمد الله على أنه ركز اهتمامه بالنفوس لا بالوقف، وما دام لا يؤذي أحدا فلن يؤذيه أحد.
فقال شافعي بفتور: ما أكثر الذين يؤذون في حارتنا دون أن يؤذوا أحدا!
واختفت أنغام العرس وراء ضجة انفجرت في الدهليز. وأطلا من النافذة فرأيا الدهليز مزدحما بالرجال، وتبينا على ضوء مصباح في يد أحدهم وجوه حجازي وبرهوم وفرحات وحنورة وآخرين، وكان كل لسان يتكلم أو يصرخ فاختلطت الأصوات وعمت الضوضاء. وعلا صوت هاتفا: «شرف آل جبل في الميزان، ولن نسمح لأحد بتلويثه».
وهمست عبدة في أذن زوجها وهي ترتعد: سر ابننا انكشف!
فتراجع عم شافعي عن النافذة متأوها وهو يقول: لم يكذبني قلبي قط.
واندفع الرجل خارج بيته غير مبال بالخطر فتبعته زوجه على الأثر. وشق الرجل في الزحام سبيلا متسائلا بصوت مرتفع: رفاعة .. أين أنت يا رفاعة؟
ولم ير الرجل ابنه في مجال ضوء المصباح، ولم يسمع صوته، ولكن حجازي اقترب منه وسأله بصوت مرتفع ليسمعه على رغم الضوضاء: هل تاه ابنك مرة أخرى؟
وصاح به فرحات: تعال اسمع ما يقال وانظر كيف يعبث العابثون بآل جبل على آخر الزمان!
فهتفت عبدة جزعا: وحدوا الله، والمسامح كريم.
فتعالت أصوات الغضب، يهتف بعضها: «هذه المرأة مجنونة!»، ويهتف آخرون: «إنها لا تعرف معنى الشرف!» وامتلأ قلب شافعي رعبا وسأل حجازي مستعطفا: أين الولد؟
فشق حجازي سبيله حتى الباب وصاح بأعلى صوته: يا رفاعة .. تعال يا ولد كلم عم شافعي.
فاختلط الأمر على عم شافعي الذي كان يظن ابنه مقبوضا عليه في ركن الدهليز، وإذا برفاعة يظهر في مجال الضوء فيجذبه أبوه من ذراعه ويتقهقر به إلى موقف عبدة. وسرعان ما تراءى فانوس في يد شلضم يسير به بين يدي خنفس الذي تقبض وجهه حنقا وتجهما. واتجهت الأنظار نحو الفتوة وساد الصمت. وتساءل خنفس بصوت غليظ: ماذا وراءكم؟
فأجابه أكثر من صوت في آن: ياسمينة لوثتنا!
فقال خنفس: فليتكلم الشاهد منكم!
فتقدم زيتونة - سائق عربة كارو - حتى وقف أمام خنفس وقال: منذ قليل رأيتها خارجة من باب بيت بيومي الخلفي، تبعتها إلى هنا ثم سألتها عما كانت تفعله في بيت الفتوة فتبين لي سكرها. كانت رائحة الخمر تخرج من فيها فتملأ الدهليز، أفلتت مني وأغلقت على نفسها الباب. والآن سلوا أنفسكم عما يمكن أن تفعله امرأة سكرانة في بيت فتوة.
استرخت أعصاب شافعي وعبدة من ناحية، وتوترت أعصاب خنفس من ناحية أخرى. أدرك الرجل أن فتونته تتعرض لامتحان قاس؛ فلو تهاون في معاقبة ياسمينة سيفقد كرامته أمام آل جبل، ولو ترك الغاضبين ليعتدوا عليها فسيدفع بنفسه إلى موقف التحدي أمام بيومي فتوة الحارة كلها. ما العمل؟ وكان رجال جبل يتوافدون من الربوع، ويحتشدون في الحوش، وفي الحارة أمام ربع النصر فازداد مركز خنفس حرجا. وتتابعت الأصوات في غضب: اطردوها من حي آل جبل. - يجب أن تجلد قبل طردها. - اقتلوها قتلا.
وترامت صرخة ياسمينة التي كانت تنصت في الظلام وراء النافذة. وأحدقت الأعين بخنفس لكن رفاعة سمع وهو يسأل أباه: أليس الأولى بهم يا أبي أن يصبوا غضبهم على بيومي المعتدي؟
وغضب كثيرون من بينهم زيتونة الذي أجابه قائلا: هي التي ذهبت إلى بيته بنفسها.
وصاح به آخر: وإذا لم يكن عندك كرامة فمن الخير أن تسكت.
وزجره أبوه بنظرة، لكن رفاعة قال بإصرار: لم يفعل بيومي إلا مثلما تفعلون.
فصرخ فيه زيتونة بجنون: هي من آل جبل؛ فليست للآخرين. - هذا الولد سفيه وبلا كرامة.
فلكزه عم شافعي كي يسكت، على حين صاح برهوم: الكلمة الآن للمعلم!
وغلى الغيظ في قلب خنفس حتى كاد أن يختنق. وصرخت ياسمينة صرخات استغاثة. وانتشر الغضب فاتجهت الأنظار نحو بيت الفتاة وتوثب فيها الهجوم. وتتابعت صرخات ياسمينة حتى تقطع قلب رفاعة ولم يعد في وسعه الاحتمال، فأفلت من يد أبيه وشق طريقه إلى بيت ياسمينة وهتف برجاء: رحمة بضعفها وذعرها.
فصاح به زيتونة: أنت مرة!
وناداه شافعي بحرارة لكنه لم يبال وأجاب زيتونة: الله يسامحك. (ثم للجميع) ارحموها وافعلوا بي ما تشاءون، ألا تحرك الاستغاثات قلوبكم؟!
فعاد زيتونة يصيح: لا تلتفتوا لهذا الرقيع. (ثم مخاطبا خنفس): الكلمة كلمتك يا معلم!
فتساءل رفاعة: هل يرضيكم أن أتزوج منها؟
فاختلط صراخ الغضب بصيحات الاستهزاء، وقال زيتونة: لا يهمنا إلا أن تنال جزاءها.
فاستقتل رفاعة قائلا: سيكون العقاب من شأني أنا. - بل هو من شأن الجميع.
ووجد خنفس في اقتراح رفاعة منقذا له من ورطته. لم يكن في قلبه مقتنعا به، ولكن لم يكن عنده خير منه. وغالى في تجهمه مداريا ضعفه، وقال: الولد ارتبط أمامنا بزواجها فله ما يطلب.
زاغ بصر زيتونة وأعماه الغضب فصاح: ضيع الجبن الشرف!
وإذا بقبضة خنفس تحطم أرنبة أنفه، فتراجع مولولا والدم يسيل من منخريه بغزارة. وأدرك الجميع أن خنفس سيغطي على موقفه الضعيف بإرهاب من يخالفه. وقلب عينيه في الوجوه التي كشف ضوء الفانوس عن خوفها فلم تند من أحد منهم حركة عطف على محطم الأنف. بل وبخ فرحات زيتونة قائلا: «عيبك في لسانك.» وقال برهوم لخنفس «لولاك ما اهتدينا إلى حل!» وقال له حنورة: «زعلك بالدنيا يا معلم.» وأخذوا في التفرق فلم يبق في النهاية إلا خنفس وشلضم وشافعي وعبدة ورفاعة. ومضى عم شافعي إلى خنفس ليحييه فمد له يده ولكن الآخر استشاط غضبا وضرب يده بظاهر كفه فتأوه الرجل مقهقرا. وهرع إليه ابنه وزوجته على حين غادر خنفس الدهليز وهو يسب الرجال والنساء وآل جبل بل وجبل نفسه. ونسي عم شافعي في ألمه الورطة التي عثر فيها ابنه. ونقع الرجل يده في ماء ساخن وراحت عبدة تدلكها وهي تقول: ترى هل أوغرت زكية صدر زوجها علينا؟!
فقال عم شافعي متوجعا: نسي الجبان أن ابننا الأحمق هو الذي أنقذه من نبوت بيومي!
52
كان رفاعة معقد آمال والديه فشد ما خابت الآمال؛ بزواجه من ياسمينة سينتهي الشاب إلى لا شيء، أما الأسرة فصارت مضغة للأفواه ولما يتم الزواج. وبكت عبدة خفية حتى أضر بها البكاء، وتجهم وجه شافعي إذ تجهمته الدنيا، لكنهما حيال الشاب انطويا على نفسيهما وتجنبا المغاضبة. ولعل ياسمينة هونت من الخطب بسلوكها عقب المظاهرة، إذ هرعت إلى بيت عم شافعي وجثت أمام الرجل وزوجه باكية وسكبت على قدميهما بعض ما فاض به قلبها من الامتنان، ثم أعلنت في حرارة وجد توبتها. ولم يكن من الممكن العدول عن الزواج بعد أن ارتبط به الشاب جهارا أمام آل جبل، فسلم عم شافعي وزوجه بالأمر ووطنا النفس على تقبله. وتنازع قلبي الوالدين رغبتان، واحدة تود أن ترعى التقاليد في الاحتفال بعرس رفاعة وموكب زفته، والأخرى ترى الاقتصار على حفل بيتي حتى لا يتعرض الموكب لسخرية آل جبل الذين باتوا يعرضون بالزواج في كل ناد. وقالت عبدة في حسرة معربة عن عواطفها المكبوتة: طالما منيت نفسي برؤية زفة رفاعة، ابني الوحيد، وهي تجوب الأحياء!
فقال عم شافعي بامتعاض: لن يرضى بالاشتراك فيها أحد من آل جبل.
فقطبت عبدة قائلة: العودة إلى سوق المقطم خير من البقاء بين أناس لا يحبوننا!
فقال رفاعة وهو يمد ساقيه تحت النافذة المفتوحة متشمسا: لن نغادر الحارة يا أمي.
فصاح شافعي بحدة: ليتنا لم نعد! (ثم مخاطبا ابنه) .. ألم تكن حزينا يوم عدنا؟
فابتسم رفاعة قائلا: اليوم غير الأمس. إذا ذهبنا فمن ذا الذي يخلص آل جبل من العفاريت؟
فقال شافعي محتدا: فلتركبهم العفاريت إلى الأبد!
ثم بعد تردد: أنت نفسك ستجيء إلى بيتنا ب...
وقاطعه رفاعة: لن أجيء إلى بيتنا بأحد، سأذهب أنا إلى المسكن الآخر.
فهتفت الأم: لا يعني أبوك ذلك! - لكني أعنيه يا أمي، ليس البيت الجديد بالبعيد، وفي وسعنا أن نتصافح كل صباح من النافذة!
وعلى رغم أحزان عم شافعي قرر الاحتفال بيوم الزفاف ولو في أضيق الحدود. أقام الزينات بالدهليز وفوق بابي المسكنين، وجاء بمغن وطباخ. ودعا جميع المعارف والأصدقاء، ولكن لم يلب الدعوة إلا عم جواد وأم بخاطرها وعم حجازي وأسرته وبعض الفقراء الذين حرصوا على الطعام. وكان رفاعة أول فتى يتزوج بلا زفة. وانتقلت الأسرة عبر الدهليز إلى بيت العروس. وغنى المطرب بفتور لقلة المدعوين. وفي أثناء تناول الطعام أثنى جواد الشاعر على شهامة رفاعة وخلقه وقال: إنه فتى ذكي حكيم صافي السريرة، ولكنه في حارة لا تقيم لغير البلطجة والنبابيت وزنا. وإذا بغلمان يقفون أمام الربع ويغنون معا: «يا رفاعة يا وش القملة مين قال لك تعمل دي العملة»، ويختمون بالتهليل والعربدة. ونظر رفاعة في الأرض على حين اصفر وجه شافعي، وغضب عم حجازي وقال: الكلاب أولاد الكلاب!
ولكن عم جواد قال: ما أكثر القاذورات في حارتنا ولكن الطيب لا ينسى فيها أبدا. كم من فتوة استكبر فيها؟ لكنها لا تذكر بالجميل إلا أدهم وجبل.
ثم حث المطرب على الغناء؛ ليغطي غناؤه على الأصوات المعربدة. ومضى الحفل في مغالبة للوجوم حتى انصرف الجميع. ولم يبق في البيت إلا رفاعة وياسمينة. بدت الفتاة في ثوب العرس آية في الجمال، وإلى جانبها جلس رفاعة في جلباب حريري مهفهف، وعلى الرأس لاسة مزركشة، وفي القدمين مركوب فاقع الاصفرار. جلسا على كنبة، يقابلها في الناحية الأخرى الفراش المورد. وقد لاحت في مرآة الصوان صورة الطست والإبريق تحت الفراش. والظاهر أنها كانت تتوقع من جانبه هجوما، أو في الأقل تمهيدا للهجوم المنتظر، ولكنه لبث يردد البصر بين الفانوس المدلى من السقف والحصيرة الملونة.
ولما طال الانتظار أرادت أن تبدد كثافة الصمت المخيم فقالت برقة: لن أنسى فضلك؛ إني مدينة لك بحياتي.
فنظر نحوها في مودة، وقال بصوت من لا يود الرجوع إلى هذا الحديث: كلنا مدينون بحياتنا لغيرنا.
ما أطيبه! ليلة الحادث أبى أن يبيح لها يديه تقبلهما، وهو الآن لا يود تذكيره بالجميل الذي صنع. ليس كمثل طيبته إلا صبره. لكن فيم يفكر يا ترى؟ هل ساءه أن تدفعه طيبته إلى الزواج من مثلها؟ - لست شريرة بالدرجة التي يظنها الناس، أما هم فقد أحبوني واحتقروني لشيء واحد.
فقال مواسيا: أعرف ذلك، ما أكثر الأخطاء بحارتنا!
فقالت بحنق: يفاخرون دائما بأنهم من صلب أدهم، وفي الوقت نفسه يباهون بالكبائر!
فقال في يقين: ما دام التخلص من العفاريت ميسورا فما أقربنا من السعادة!
ولم تدرك مرماه ولكنها استشعرت فجأة مدى السخرية التي تحيط بها في مجلسها، فقالت ضاحكة: ما أعجبه من حديث في ليلة الزفاف !
ورفعت رأسها في شيء من الكبرياء، فبدا أنها تناست حال الامتنان، وأزاحت عن منكبيها الوشاح، ونظرت نحوه نظرة مفعمة بالدلال، فقال برجاء: ستكونين أول من يسعد في حارتنا.
فقالت ياسمينة: حقا؟! عندي شراب! - شربت قليلا مع العشاء، وفيه الكفاية.
فتفكرت قليلا في حيرة، ثم قالت: عندي حشيش طيب! - جربته فوجدتني لا أطيقه.
فقالت في ارتياع: أبوك حشاش قارح، رأيته مرة خارجا من غرزة شلضم وهو لا يميز بين الليل والنهار!
فابتسم دون أن ينبس، فردت عنه طرفها في انكسار، وتميزت غيظا، وقامت فمضت حتى الباب ثم استدارت عائدة حتى وقفت تحت الفانوس. وشف ثوبها الرقيق عن جسدها البارع. وجعلت تنظر في عينيه الهادئتين حتى داخلها اليأس. وتساءلت: لماذا أنقذتني؟ - لا أطيق أن يتعذب إنسان.
فغلبها الغيظ، وقالت في حدة: من أجل هذا تزوجتني، من أجل هذا وحده؟!
فقال برجاء: لا تعودي إلى أيام الغضب!
فعضت شفتها فيما يشبه الندم، وقالت بصوت منخفض: ظننتك أحببتني.
فقال في صدق وبساطة: إني أحبك يا ياسمينة.
فلاح التعجب في عينيها وغمغمت: حقا؟! - نعم، ما من مخلوق في حارتنا إلا وأحبه!
فتنهدت في خيبة، ورمقته بريبة قائلة: فهمتك، ستبقى إلى جانبي أشهرا ثم تطلقني.
فاتسعت عيناه وتمتم: لا تعودي إلى الأفكار الماضية! - حيرتني! ماذا عندك لي؟ - السعادة الحقيقية.
فقالت بامتعاض: عرفتها أحيانا من قبل أن أراك! - لا سعادة بلا كرامة!
فقالت وهي تضحك على رغمها: ولكننا لا نسعد بالكرامة وحدها.
فقال بصوت حزين: لم يعرف أحد من حينا السعادة الحقيقية.
اتجهت بخطوات ثقيلة نحو الفراش، وجلست على حافته في فتور. ورنا إليها بحنان وقال: إنك كجميع أهل حينا لا تفكرين إلا في الوقف الضائع!
فلاح في وجهها السخط وقالت: ربنا يقدرني على حل ألغازك. - ستحل نفسها بنفسها عندما تتخلصين من عفريتك.
فهتفت بحدة: إني راضية عن نفسي كما هي.
فقال رفاعة بأسى: هكذا يقول خنفس والآخرون!
ونفخت في ضيق وتساءلت: هل نتكلم على هذا النحو حتى الصباح؟ - نامي، أسعد الله أحلامك!
وتزحزحت إلى الوراء ثم استلقت على ظهرها، ورددت عينيها بين الفراغ جنبها وبين عينيه، فقال: خذي راحتك، سأنام أنا على الكنبة.
وانتابتها نوبة ضحك، لكنها لم تستسلم لها طويلا، وقالت ساخرة: أخاف أن تزورنا أمك غدا؛ لتحذرك من الإفراط!
ونظرت نحوه لتتشفى برؤية الخجل في وجهه ولكنه طالعها بعينين هادئتين صافيتين، وقال: أود أن أخلصك من عفريتك!
فصاحت غاضبة: دع أعمال النساء للنساء.
وأدارت وجهها للحائط. وكان صدرها يحترق غيظا وقلقا. وقام رفاعة إلى الفانوس وأخفض ذبالته ثم نفخه فانطفأ وساد الظلام.
53
وشهدت الأيام التالية للزواج حركة دائبة في حياة رفاعة؛ انقطع عن الدكان أو كاد، ولولا حب أبيه وعطفه لما وجد ما يمسك به حياته، ومضى يدعو من يصادفه من آل جبل إلى أن يثق به كي يخلصه من عفريته، فيحقق بذلك سعادة صافية لم يحلم بها من قبل. وتهامس آل جبل بأن رفاعة بن شافعي قد خف عقله وأمسى من زمرة المجذوبين، وعلل البعض ذلك بما عرف عنه من غرابة أطوار، كما علله آخرون بزواجه من امرأة مثل ياسمينة. ودارت الأحاديث عن ذلك في القهوة والبيوت وحول عربات اليد وفي الغرز. وشد ما دهشت أم بخاطرها حين مال رفاعة على أذنها وقال برقته المعهودة: هلا سمحت لي بأن أطهرك؟
فضربت المرأة صدرها بيدها وقالت: من أدراك بأن علي عفريتا شريرا؟! أهذا هو رأيك عن المرأة التي أحبتك كابنها؟!
فقال جادا: أنا لا أعرض خدماتي إلا على الذين أحبهم وأحترمهم، وأنت مصدر خير وبركة ولكنك لا تخلين من طمع يحملك على الاتجار بالمرضى، فلو تخلصت من سيدك لوهبت الخير بلا ثمن!
ولم تتمالك المرأة نفسها من الضحك وهي تقول: أتود خراب بيتي؟! الله يسامحك يا رفاعة.
وتناقل الناس حديث أم بخاطرها ضاحكين، حتى عم شافعي ضحك ضحكة بلا مسرة. ولكن رفاعة قال له: أنت نفسك يا أبي في حاجة إلي، ومن البر أن أبدأ بك.
فهز الرجل رأسه في كمد، وراح يدق المسامير بين يديه بقوة وشت بانفعاله، ثم قال: ربنا يصبرني.
وحاول الشاب إقناعه فتساءل الرجل متألما: أما كفاك أن جعلتنا أحدوثة الحي؟!
وانزوى رفاعة في ركن الدكان مكتئبا فرمقه الرجل بريبة وسأله: أحقا دعوت زوجك إلى ما تدعونا إليه؟
فقال بأسف: وهي مثلكم لا ترغب في السعادة.
ومضى رفاعة إلى غرزة شلضم في الخرابة وراء القهوة فوجد حول المجمرة شلضم وحجازي وبرهوم وفرحات وحنورة وزيتونة. تطلعوا إليه بغرابة وقال شلضم: أهلا بابن عم شافعي، ترى هل أقنعك الزواج بفائدة الغرز؟!
فوضع رفاعة على الطبلية لفة كنافة وقال وهو يتخذ مجلسه: جئتكم بهذه تحية للمجلس.
فقال شلضم وهو يدير الجوزة: مرحبا بالكرم.
لكن برهوم ضحك فجأة وقال بلا هوادة: وسوف يعرض علينا بعد ذلك أن يقيم لنا حفلة زار ليطهرنا من العفاريت!
وهتف زيتونة حانقا بصوته الأخنف وهو يلتهمه بنظرة حاقدة: على زوجتك عفريت اسمه بيومي فخلصها منه إن استطعت.
وبهت الرجال ووضح في وجوههم الحرج فقال زيتونة وهو يشير إلى أنفه المحطم: بسببه فقدت أنفي.
وبدا أن رفاعة لم يغضب، فنظر فرحات نحوه بأسى وقال: أبوك رجل طيب ونجار ماهر، ولكنك بسلوكك هذا تجر عليه المتاعب والسخرية. لم يكد الرجل يفيق من زواجك حتى هجرت دكانه لتخلص الناس من العفاريت! شفاك الله يا بني. - لست مريضا ولكني أود لكم السعادة.
فشد زيتونة نفسا طويلا وهو يرمقه بقسوة ثم نفث الدخان متسائلا: ومن أخبرك بأننا غير سعداء؟!
فقال الشاب: أراد جدنا لنا غير ما نحن عليه.
فقال فرحات ضاحكا: دع جدك في حاله، من أدراك أنه لم ينسنا؟!
وحدجه زيتونة بنظرة حانقة حاقدة ولكن حجازي لكزه قائلا في تحذير: ينبغي أن تحترم المجلس، فلا تفكر في الاعتداء!
وأراد الرجل أن يغير الجو فهز رأسه وأشار إلى أصحابه إشارة خاصة فراحوا يغنون:
مركب حبيبي في الميه جاية،
راخية شعورها على المية.
وغادر المكان وبعضهم ينظر نحوه في رثاء. وعاد إلى بيته بفؤاد كسير فاستقبلته ياسمينة بابتسامة هادئة. وكانت تلومه أول الأمر على سلوكه الذي جعل منه - ومنها بالتالي - نادرة. لكنها كفت عن لومه يائسة. وصبرت على تلك الحياة التي لم تدر على أي وجه ستنتهي، بل وعاملته بلطف ورقة. ودق الباب، وإذا بالقادم خنفس فتوة آل جبل. دخل الرجل دون استئذان فقام له رفاعة مرحبا فقبض الفتوة على منكبه بيد شديدة كأنها فكا كلب غاضب. وسأله دون مقدمات: ماذا قلت عن الواقف في غرزة شلضم؟
ارتاعت ياسمينة حتى هرب دمها، لكن رفاعة قال بهدوء على الرغم من أنه بدا كعصفور بين مخالب نسر: قلت: إن جدنا يود لنا السعادة!
فهزه هزة عنيفة وسأله: من أدراك بذلك؟ - ورد ذلك ضمن أقواله لجبل.
فازدادت يده شدة على منكبه وقال: إنه كلم جبل عن الوقف.
فقال رفاعة وقد أنهكه تحمل الألم: لا يعنيني الوقف في شيء. السعادة التي لم أستطع أن أحققها بعد لأحد شيء غير الوقف، وغير الخمر، وغير الحشيش. قلت ذلك في كل مكان بحي جبل، وسمعني الجميع وأنا أقوله.
فهزه مرة أخرى وقال: كان أبوك عاصيا ثم تاب، احذر أن تعيد سيرته وإلا هرستك كما تهرس البقة!
ودفعه فهوى على ظهره فوق الكنبة، ثم ذهب. وهرعت ياسمينة إليه لتواسيه وتدلك منكبه الذي مال عليه رأسه من الوجع. وبدا في شبه غيبوبة، وغمغم كأنما يحادث نفسه. - إنه صوت جدي الذي سمعته.
ونظرت في وجهه بإشفاق وذعر، وتساءلت: هل ضاع عقله حقا؟! ولم تعد عليه ما قال وساورها قلق لم تشعر به من قبل. ويوما غادر الربع فاعترضت سبيله امرأة من غير آل جبل، وقالت له باستعطاف: صباح الخير يا معلم رفاعة.
ودهش لرنة الاحترام في صوتها وللقب الذي قرنته باسمه فسألها: ماذا تريدين؟
فقالت بضراعة: لي ابن ممسوس أرجو أن تخلصه!
وكان كآل جبل جميعا يحتقر أهل الحارة، فاستنكف أن يضع نفسه في خدمة المرأة فيضاعف من ازدراء آله له، فقال لها: ألا توجد كودية في الحارة؟
فقالت المرأة بصوت باك: بلي ولكني امرأة فقيرة.
ورق لها قلبه كما أسره لجوءها إليه هو الذي لم يلق من آله إلا الهزء والاحتقار. ونظر إليها في تصميم وهو يقول: إني طوع أمرك.
54
كانت ياسمينة تطل من النافذة على الحارة متسلية بالمنظر الجديد. وكان في أسفل الربع غلمان يلعبون، وبائعة دوم تنادي، على حين أمسك بطيخة بتلابيب رجل وراح يضرب وجهه بكفه والآخر يستعطفه دون جدوى. وسألها رفاعة وهو جالس على الكنبة يقص أظافر قدميه: هل يعجبك بيتنا الجديد؟
فالتفتت نحوه قائلة: هنا تحتنا الحارة، أما هنالك فلم نكن نرى إلا الدهليز المعتم.
فقال رفاعة بأسى: ليت الدهليز بقي لنا، إنه دهليز مبارك؛ إذ فيه تقرر النصر لجبل على أعدائه، ولكن لم يكن في الإمكان مواصلة الإقامة بين أناس يستهزئون بنا في كل خطوة. أما هنا فالفقراء طيبون، والطيب هو السيد لا آل جبل.
فقالت ياسمينة باستهانة: وأنا كرهتهم مذ عزموا على طردي.
فسألها باسما: لماذا إذن تقولين للجيران إنك من آل جبل!
فضحكت ضحكة كشفت عن أسنانها اللؤلؤية وقالت في مباهاة: ليعلموا أني فوقهم جميعا.
فوضع المقص على الكنبة وطرح ساقيه على الحصيرة وهو يقول: ستكونين أجمل وأفضل عندما تقهرين الغرور. ليس آل جبل بخير حارتنا، خير الناس أطيبهم، وكنت مخطئا مثلك فخصصت آل جبل باهتمامي، ولكن السعادة لا يستحقها إلا من ينشدها مخلصا. انظري إلى الطيبين كيف يقبلون علي وكيف يبرءون من العفاريت!
فقالت باحتجاج: لكن كل أحد هنا يعمل بأجر إلا أنت! - لولاي ما وجد الفقراء من يشفيهم، إنهم يقدرون الشفاء لكنهم لا يملكون ثمنه، وأنا ما عرفت الأصدقاء حتى عرفتهم.
وأمسكت عن الجدل بوجه ممتعض فقال رفاعة: آه لو تذعنين لي كما يذعنون! إذن لخلصتك مما يعكر صفو الحياة.
فتساءلت غاضبة: أتجدني مزعجة لهذا الحد؟ - من الناس من يعشق عفريتا وهو لا يدري.
فهتفت بحدة: ما أبغض هذا الحديث إلي!
فقال باسما: إنك من آل جبل، وكلهم أبى أن يسلم لدوائي، حتى أبي نفسه!
وعندما دق الباب أدركا أن زبونا جديدا قد قدم فتهيأ رفاعة لاستقباله.
والحق أن رفاعة لم يلق من عمره أسعد من هذه الأيام. كان يدعى في الحي الجديد بالمعلم رفاعة، وكانوا يدعونه بها في إخلاص ومحبة. وعرف بأنه يخلص من العفاريت ويهب الصحة والسعادة لوجه الله وحده. وهذا سلوك نقي لم يعرف عن أحد قبله، فلذلك أحبه الفقراء كما لم يحبوا أحدا قط. وطبيعي أن بطيخة فتوة الحي الجديد لم يحبه، لسلوكه الطيب من ناحية، ولأنه لم يكن من القادرين على أداء أي إتاوة من ناحية أخرى، ولكنه في الوقت نفسه لم يجد مسوغا للاعتداء عليه. أما الذين برئوا على يديه فكان لكل منهم قصة يرددها. فأم داود كانت إذا ركبتها النوبة العصبية عضت وليدها، وهي اليوم مثال للهدوء والاتزان. وسنارة الذي لم يكن له من هواية إلا الشجار والنقار أصبح وديعا حليما كأنه تحية سلام. وطلبة النشال تاب توبة صادقة واشتغل صبي مبيض نحاس. وعويس تزوج بعد الذي كان.
واصطفى رفاعة من مرضاه أربعة وهم زكي وحسين وعلي وكريم، اصطفاهم لصداقته فصاروا إخوة. لم يعرف أحد منهم الصداقة ولا الحب قبل أن يعرفه. كان زكي برمجيا، وكان حسين مدمن أفيون لا يفيق، وعلي يتدرب على الفتونة، وكريم قوادا، فانقلبوا رجالا ذوي قلوب كبيرة. وكانوا يجتمعون عند صخرة هند حيث الخلاء والهواء النقي، فيتبادلون أحاديث المودة والصفاء، ويتطلعون إلى طبيبهم بأعين تفيض بالحب والإخلاص، ويحلمون جميعا بسعادة ستظل الحارة بأجنحتها البيضاء. ويوما تساءل رفاعة وهم بمجلسهم ينظرون إلى حمرة الشفق في هدوء المغيب: لماذا نحن سعداء؟
فأجاب حسين بحماس: أنت .. أنت سر سعادتنا.
فابتسم ابتسامة شكر وقال: بل لأننا تخلصنا من العفاريت فتطهرنا من الحقد والطمع والكراهية وسائر الشرور التي تفتك بأهل حارتنا.
فقال علي مؤمنا على قوله: سعداء بالرغم من أننا فقراء ضعفاء لا حظ لنا في الوقف أو الفتونة.
فهز رفاعة رأسه أسفا وقال: كم يتعذب الناس من أجل الوقف الضائع والقوة العمياء فالعنوا معي الوقف والفتونة!
فاستبقوا إلى لعنهما، وتناول علي طوبة فرماها بأقصى قوته صوب الجبل. وعاد رفاعة يقول: ومذ قال الشعراء إن الجبلاوي حث جبل على أن يجعل من ربوع آل جبل بيوتا تضارع البيت الكبير في جلاله وجماله، طمح الناس إلى قوة الجبلاوي وجاهه، وتناسوا مزاياه الأخريات؛ لذلك لم يستطع جبل أن يغير النفوس بنيله حقهم في الوقف، ولما رحل عن الدنيا انقلب الأقوياء مغتصبين والضعفاء حاقدين وأطبق الشقاء على الجميع، أما أنا فأفتح أبواب السعادة بلا وقف ولا قوة ولا جاه.
وهوى كريم بوجهه إليه فقبله، فمضى يقول: وغدا عندما يلمس الأقوياء سعادة الضعفاء؛ سيدركون أن قوتهم وجاههم وأموالهم المغتصبة لا شيء.
وصدرت عن الأصدقاء كلمات الثناء والحب، وحمل الهواء غناء راع في أقصى الخلاء.
وتجلى في السماء نجم واحد. ونظر رفاعة في وجوه الأصحاب وقال: ولكني لا أكفي وحدي لعلاج أهل حارتنا، آن لكم أن تعملوا بأنفسكم، وأن تتعلموا الأسرار؛ لتخلصوا المرضى من العفاريت.
فبدت الغبطة في الوجوه وهتف زكي: ذلك أعز أمانينا.
فابتسم إليهم قائلا: ستكونون مفاتيح السعادة في حارتنا.
ولما عادوا إلى حيهم وجدوه يضيء بأنوار عرس في أحد الربوع. ورأى كثيرون رفاعة فأقبلوا عليه مصافحين. وتغيظ بطيخة فقام من مجلسه بالقهوة وهو يسب ويلعن، ويصفع هذا وذاك، ثم تحول إلى رفاعة متسائلا في قحة: ماذا ترى في نفسك يا ولد؟
فقال رفاعة برقة: صديق المساكين يا معلم.
فصاح الرجل: إذن امش كما يمشي المساكين لا كعريس الزفة، أنسيت أنك طريد حي وزوج ياسمينة وكودية زار؟!
وبصق في تحرش. وتباعد الناس. وساد الوجوم. لكن زغاريد الفرح غطت على كل شيء.
55
وقف بيومي فتوة الحارة وراء باب حديقته الخلفي الذي يفتح على الخلاء. كان الليل في أوله وكان الرجل ينتظر وهو يتنصت. وعندما طرق أصبع الباب بخفة فتح الباب؛ فتسللت إلى داخل الحديقة امرأة كأنها بملاءتها ونقابها قطعة من الليل. تناول يديها وسار بها في مماشي الحديقة متجنبا الاقتراب من البيت حتى بلغ المنظرة فدفع الباب ودخل، وهي في أثره. وأشعل شمعة فأقامها على حافة نافذة، فبدت المنظرة في شبه مغيب، والكنبات مصطفة بأضلعها، وفي الوسط صينية كبيرة محملة بالجوزة ولوازمها في دائرة من الشلت. ونزعت المرأة عنها ملاءتها والنقاب ، فضمها بيومي إليه بقوة نفذت إلى عظامها حتى رمقته بنظرة استرحام. وتخلصت منه برشاقة فضحك ضحكة خافتة وجلس على شلتة. وراح يعبث بأصبعه في رماد المجمرة حتى تكشف عن جمر يومض. وجلست إلى جانبه وقبلت أذنه ثم أشارت إلى المجمرة وهي تقول: كدت أنسى رائحته.
فراح يمطر خدها وعنقها بالقبل، ثم قال وهو يرمي قطعة في حجرها: هذا الصنف لا يدخنه في حارتنا إلا الناظر والعبد لله!
وترامى من الحارة صوت معركة تحتدم، سب وارتطام عصي، وتحطم زجاج، ووقع أقدام جارية، وصوات امرأة، ثم نباح كلب .. ولاح تساؤل منزعج في عيني المرأة، ولكن الرجل راح يقطع الصنف في غير مبالاة، فقالت المرأة: كم يشق علي المجيء! فلكي آمن العيون أسير من الحارة إلى الجمالية، ومن الجمالية إلى الدراسة، ومن الدراسة إلى الخلاء حتى بابك الخلفي.
فمال نحوها دون أن تكف أصابعه عن العمل وتشمم إبطها في تلذذ وقال: لن أبالي أن أزورك في بيتك.
فابتسمت قائلة: لو فعلت ما تعرض لك أحد من الجبناء، حتى بطيخة سيفرش لك الرمل، ثم يصبون غضبهم علي وحدي.
وعبثت بشاربه الغليظ وقالت في دعابة: لكنك تسللت إلى المنظرة في بيتك خوفا من زوجتك.
فترك القطعة وطوقها بذراعه فضمها إليه بعنف حتى أنت، ثم همست: اللهم احفظنا من عشق الفتوات!
فأطلقها وهو يرفع رأسه ويبرز صدره كالديك الرومي وقال: لا يوجد إلا فتوة واحد، أما الآخرون فصبيانه.
فلاعبت شعر صدره المحسور عنه طوق جلبابه وقالت: فتوة على الناس لا علي أنا.
فقرصها في صدرها بخفة وقال: أنت تاج رأس الفتوة.
ومد يده إلى ما وراء الصينية فتناول إبريقا وهو يقول: بوظة عجيبة!
فقالت آسفة: لها رائحة قوية قد يشمها زوجي العزيز!
فتجرع من الإبريق حتى روي، ومضى يرص الحجر وهو يقول مقطبا: يا له من زوج! لمحته مرات وهو يهيم على وجهه كالمجنون، أول كودية زار من جنس الرجال في هذه الحارة العجيبة!
فتابعته وهو يدخن وقالت: إني مدينة له بحياتي، لذلك أتصبر على معاشرته ، ولا ضرر منه؛ إذ ليس أيسر من خداعه.
وقدم إليها الجوزة فالتقمت فوهتها بشوق وشدت أنفاسا بشراهة ثم زفرت الدخان مغمضة العينين ثملة الحواس. وراح بدوره يدخن، فيأخذ أنفاسا متقطعة وبين كل نفس وآخر يتكلم قائلا: تتركينه .. يعبث .. بك .. عبث .. الأطفال ...
فهزت منكبيها هازئة وقالت: لا عمل لزوجي في هذه الدنيا إلا تخليص الفقراء من العفاريت! - وأنت ألا تخلصينه من شيء؟ - مظلومة وحياتك! نظرة واحدة إلى وجهه تغني عن الكلام. - ولا مرة كل شهر! - ولا كل سنة، إنه مشغول عن زوجته بعفاريت الناس! - فلتركبه العفاريت! وأي فائدة يجنيها من وراء ذلك؟
فهزت رأسها في حيرة وقالت: لا يجني شيئا، ولولا أبوه لهلكنا جوعا، وهو يعتقد بأنه مكلف بإسعاد الفقراء وتطهيرهم. - ومن الذي كلفه؟ - يقول إن هذا ما يريده الواقف لأبنائه.
وتجلى الاهتمام في عيني بيومي الضيقتين فوضع الجوزة في الكوز وسألها: أقال إن الواقف يريد ذلك؟ - نعم. - ومن أدراه بما يريد الواقف؟
وشعرت المرأة بضيق وانزعاج، وخافت أن يفسد الجو، أو أن تحدث أمور خطيرة، فقالت: هكذا يؤول أقواله التي يتغنى بها الشعراء.
ومضى يرص حجرا جديدا وهو يقول: حارة بنت كلب، وحي آل جبل أنجسها، فيهم ظهر أكبر دجال، وينشرون الأخبار الغريبة عن الوقف والشروط العشرة، كأن الواقف جدهم وحدهم؛ وبالأمس جاء دجالهم جبل بكذبة سرق بها الوقف، واليوم يؤول هذا المعتوه كلاما لا يقبل التأويل، وسيزعم أنه سمعه من الجبلاوي نفسه.
فقالت بقلق: إنه لا ينشد سوى تخليص الفقراء من العفاريت.
فشخر الفتوة هازئا ثم تساءل: ومن يدرينا فلعل في الوقف عفريتا!
ثم بصوت ارتفع لدرجة لا تتفق وسرية الاجتماع: الواقف ميت أو في حكم ذلك يا أولاد الكلب.
وانزعجت ياسمينة، خافت أن تفلت الفرصة المتاحة وأن يتعكر الجو، ومدت يدها إلى الفستان لتنزعه رويدا. وانبسطت أسارير الرجل بعد تجهم، ورنا إليها بعينين متوثبتين.
56
بدا الناظر في عباءته ضئيلا. وكان الاهتمام بارزا في وجهه الأبيض المستدير بروز الذبول الذي اعتور جفنيه والشيخوخة المبكرة الواضحة في نظرة عينيه وفي التجاعيد المرسومة تحتهما من أثر التهالك في الشهوات. أما وجه بيومي الممتلئ فلم يش بالارتياح الباطني الذي سرى فيه نتيجة لقلق سيده؛ ذلك القلق الذي يدل على خطورة الأنباء التي نقلها إليه، فيدل بالتالي على خطورة الدور الذي يؤديه للناظر وللوقف. كان يقول للناظر: على رغمي أزعجك بهذه الأخبار، ولكن لم يكن في وسعي أن أتصرف من دون الرجوع إليك في أمر يتعلق بالوقف، ومن ناحية أخرى فهذا المشاغب المعتوه من آل جبل، وعلينا عهد بألا يتعدى أحد منا على أحد منهم إلا بعد إذنك.
وتساءل الناظر إيهاب بوجه مكفهر: وهل زعم حقا أنه اتصل بالواقف؟ - تأكد لدي ذلك من أكثر من مصدر. إن مرضاه يؤمنون بذلك ولو أنهم يتكتمون الأمر بحرص شديد. - لعله مجنون، كما كان جبل دجالا، ولكن هذه الحارة القذرة تحب المجانين والدجالين. ماذا يريد آل جبل بعدما نهبوا الوقف بلا حق؟ لماذا لا يتصل الواقف بأحد غيرهم؟ لماذا لا يتصل بي وأنا أقرب الناس إليه؟ إنه قعيد حجرته، ولا يفتح باب بيته إلا عندما تحمل إليه حوائجه، لا يراه أحد ولا يرى هو إلا جاريته، ولكن ما أيسر أن يقابله آل جبل أو أن يسمعوه!
فقال بيومي بحنق: لن يرتاح لهم بال حتى يستولوا على الوقف كله.
فاصفر وجه الناظر غضبا، وتوثب لإصدار الأوامر، ولكنه تراجع متسائلا: أقال عن الوقف شيئا، أم قصر نشاطه على إخراج العفاريت؟
فقال بيومي بحنق: مثل جبل كان نشاطه مقصورا على إخراج الثعابين.
ثم في تهكم: ما للواقف والعفاريت؟!
فوقف إيهاب، وهو يقول بحدة: لا أريد أن تصيبني اللعنة التي أصابت الأفندي.
ودعا بيومي جابر وحندوسة وخالد وبطيخة إلى غرزته وقال لهم: إن عليهم أن يجدوا علاجا لجنون رفاعة بن شافعي النجار.
وتساءل بطيخة في انزعاج: أمن أجل هذا دعوتنا يا معلم؟
فهز بيومي رأسه بالإيجاب فضرب بطيخة كفا على كف وهتف: يا هوه! فتوات الحارة تجتمع من أجل مخلوق لا هو ذكر ولا هو أنثى؟!
فرماه بيومي بنظرة ازدراء وقال : مارس نشاطه تحت سمعك وبصرك فلم تدرك له خطرا، وطبعا لم تسمع عن مزاعمه عن الاتصال بالواقف.
وتبادلوا نظرات نارية من خلال الدخان المنتشر وقال بطيخة بذهول: ابن الهرمة! ما للواقف والعفاريت؟! هل كان جدنا كودية زار؟
وشرعوا في الضحك ولكن سرعان ما عدلوا عنه لتجهم بيومي الذي قال: أنت شمام يا بطيخة، الفتوة يسكر ويحشش ولكن لا يليق به الشم!
فقال بطيخة مدافعا عن نفسه: يا معلم أنا في زفة عنتر كنت الهدف لنبابيت عشرين رجلا، فغطى الدم وجهي وعنقي ولكن نبوتي لم يسقط من يدي.
وهنا قال حندوسة في رجاء: فلندع له الأمر يعالجه بما يرى، وإلا فقد هيبته، وليته يجد طريقة غير الاعتداء على المعتوه، فإن الاعتداء على مثله مهين للفتوة!
ونامت الحارة ولا أحد يدري بما بيت في غرزة بيومي. وفي صباح اليوم التالي غادر رفاعة الربع فرأى بطيخة في طريقه فحياه قائلا: صباح الخير يا معلم بطيخة.
فرماه الرجل بنظرة مقت وصاح: صباح القطران يا ابن القديمة، عد إلى بيتك ولا تخرج منه وإلا كسرت رأسك.
فتساءل رفاعة في دهش: ماذا أغضب فتوتنا؟
فصاح مزمجرا: أنت تكلم الآن بطيخة لا الواقف، فاذهب بلا تردد.
وهم رفاعة بالكلام فلطمه الفتوة لطمة دفعته إلى جدار الربع مترنحا. ورأت امرأة الموقعة فصوتت حتى ملأ صواتها الحارة، وتبعها نسوة أخريات. وارتفعت أصوات استغاثة من أجل رفاعة. وفي لمح البصر جرى نحو المكان كثيرون، من بينهم زكي وعلي وحسين وكريم، ثم جاء عم شافعي، كما جاء جواد الشاعر متلمسا طريقه بعصاه، وما لبث أن ازدحم الموقع بمحبي رفاعة من الرجال والنساء. ودهش بطيخة الذي لم يتوقع شيئا مما حدث، ورفع يده وهوى بها على وجه رفاعة، فتلقاها هذا دون دفاع ولكن الواقفين تصايحوا في انزعاج، واعتراهم انفعال شديد، فتوسل البعض إلى بطيخة أن يتركه، وعدد آخرون حسنات رفاعة ومزاياه، وتساءل كثيرون عن أسباب الاعتداء، وتعالت احتجاجات، فاستشاط بطيخة غضبا وصاح: أنسيتم من أكون؟!
والحق أن حب المتجمعين لرفاعة الذي دفعهم بغير وعي إلى التجمع هو الذي شجعهم على الرد على إنذار بطيخة، فقال أحد الواقفين في الصف الأول: فتوتنا وتاج رأسنا، وما جئنا إلا لنسألك العفو عن الرجل الطيب.
وصاح رجل من وسط المظاهرة متشجعا بالزحام وبمكانه فيه: فتوتنا على العين والرأس، ولكن ماذا فعل رفاعة؟
وصاح ثالث في آخر المظاهرة مطمئنا إلى تواريه عن متناول عين الفتوة: رفاعة بريء والويل لمن يمد له يدا بسوء!
وثار غضب بطيخة فرفع نبوته فوق رأسه وهو يصيح: يا نسوان، سأجعلكم عبرة.
وإذا بصوات النساء يرتفع من الأركان حتى انقلب الحي مأتما، وقذفت الأفواه الغاضبة بالإنذارات الدموية، وأخذ الطوب يتساقط أمام بطيخة ليمنعه من التقدم. ووجد الرجل نفسه في مركز حرج لم يقع له ولا في الكابوس. كان الموت أهون عليه من الاستنجاد بأحد من الفتوات، وكان الهجوم يهدد بالقضاء عليه تحت وابل الطوب، وكان في السكوت الإجهاز على فتونته. وتطاير الشرر من عينيه، واستمر تساقط الطوب، وتمادى القوم في تحديهم، ولم يكن حدث شيء كهذا لأحد من الفتوات من قبل.
واندفع رفاعة فجأة حتى وقف أمام بطيخة، ولوح للناس بيديه حتى ساد السكوت، وهتف بصوت قوي: لم يخطئ فتوتنا وأنا الملوم!
لاحت نظرات الإنكار في الوجوه، ولكن أحدا لم ينبس بكلمة فقال رفاعة: تفرقوا قبل أن تتعرضوا لغضبه.
وفهم الناس أنه يريد أن ينقذ كرامة الفتوة حلا للأزمة فتفرقوا، وتبعهم آخرون وهم في حيرة من الأمر، ثم سارع الباقون بالتفرق خشية أن ينفرد بطيخة بأحد منهم، فأقفر الحي.
57
اشتد التوتر بالحارة بعد تلك الواقعة. وكان أخوف ما يخاف الناظر أن تعتقد الحارة بأن في تضامنها قوة تكفل لها الصمود أمام الفتوات؛ لذلك وجب - في نظره - القضاء على رفاعة ومن تحدثهم أنفسهم بالوقوف إلى جانبه، على أن يتم ذلك بالاتفاق مع خنفس فتوة آل جبل تجنبا لنشوب عراك شامل في الحارة. وقال الناظر لبيومي: «ليس رفاعة بالدرجة التي تظنها من الضعف، فوراءه محبون استطاعوا إنقاذه على رغم أنف الفتوة، فماذا يكون من أمره لو تعلقت به الحارة كما تعلق به حيه؟ هنالك سيدع العفاريت جانبا ويجاهر بأن الوقف غايته!» وصب بيومي غضبه على بطيخة، فهزه من منكبيه بعنف وقال له: «تركنا الأمر لك وحدك، فماذا فعلت يا شين الفتوات؟!» وعض بطيخة على نواجذه بحنق وقال: «سأريحكم منه ولو بقتله!» فصاح به بيومي: «خير ما تفعل أن تختفي من الحارة إلى الأبد!»
وأرسل إلى خنفس من يدعوه إلى مقابلته. ولكن عم شافعي اعترض سبيل خنفس وهو في حال من الفزع لم تسبق له من قبل. وكان قد حاول إقناع ابنه بالعودة إلى الدكان والإقلاع عن العمل الذي يجر عليه المتاعب، ولكنه فشل في مسعاه وعاد خائبا. ولما علم باستدعاء خنفس إلى مقابلة بيومي اعترض سبيله وقال له: «يا معلم خنفس، أنت فتوتنا وحامينا، وإنهم يطلبونك لتتخلى عن رفاعة فلا تتخل عنه، تعهد لهم بما يشاءون ولكن لا تتخل عنه، مرني فأهجر الحارة مصطحبا إياه ولو بالقوة ولكن لا تتخل عنه!» فقال خنفس في حذر واحتياط: «إني أعلم الناس بما يجب علي وبما تقتضيه مصالح آل جبل.» والحق أن خنفس توجس خيفة من ناحية رفاعة منذ علم بوقعة بطيخة، وقال لنفسه إنه هو الذي ينبغي له أن يحذر لا الناظر ولا بيومي.
ومضى إلى بيت بيومي فاجتمع به في المنظرة. وصارحه الفتوة بأنه دعاه بصفته فتوة آل جبل؛ ليتفقا على رأي في مشكلة رفاعة. قال: لا تستهن بشأنه فإن الأحداث تقطع بخطورة أثره.
ووافق خنفس على ذلك ولكنه قال برجاء: أرجو ألا يعتدى عليه أمامي.
فقال بيومي: نحن رجال يا معلم، ومصالحنا واحدة، ولا نعتدي على أحد في بيوتنا، وسيجيء هذا الولد الآن لأستجوبه على مسمع منك.
وجاء رفاعة بوجهه المشرق فحيا الرجلين، وجلس حيث أشار له بيومي أن يجلس على شلتة أمامهما. وتفرس بيومي في وجهه الجميل المطمئن وهو يعجب كيف أمسى هذا الطفل الوديع مصدرا للقلاقل المفزعة. وسأله بصوت غليظ: لماذا هجرت حيك وأهلك؟
فقال ببساطة: لم يستجب لي منهم أحد! - ماذا كنت تريد منهم؟ - أن أخلصهم من العفاريت التي تفسد عليهم سعادتهم!
فوشى صوت بيومي بغيظه وهو يسأله: وهل أنت مسئول عن سعادة الناس؟
فقال رفاعة بصراحة وبراءة: نعم .. ما دمت قادرا على تحقيقها.
فتجهم وجه بيومي وهو يقول: سمعوك وأنت تحتقر الجاه والقوة؟ - لكي أبرهن لهم على أن السعادة ليست فيما يتوهمون ولكن فيما أفعل.
فتساءل خنفس غاضبا: أليس في ذلك تحقير لأصحاب القوة والجاه؟
فقال دون أن يضطرب لغضب الرجل: كلا يا معلم، ولكن فيه تنبيها بأن السعادة غير ما يملكون من قوة وجاه.
وتفحصه بيومي بنظرة نافذة وهو يسأله: وسمعوك أيضا وأنت تؤكد أن ذلك ما يريده لهم الواقف.
فتجلى الاهتمام في العينين الصافيتين وقال: هم يقولون ذلك! - وماذا تقول أنت؟
فقال بعد تردد لأول مرة: على قدر فهمي أتكلم.
فقال خنفس متهكما: المصائب تجيء من العقل الزنخ.
وقال بيومي وهو يضيق عينيه: لكنهم يقولون إنك تعيد عليهم ما سمعته من الجبلاوي نفسه!
فبدت الحيرة في عينيه، وتردد للمرة الثانية، ثم قال: هكذا فهمت أقواله لأدهم ولجبل!
فصاح خنفس غاضبا: أقواله لجبل لا تحتمل التأويل.
واشتد الحنق ببيومي، وقال لنفسه: «كلكم كذابون، وجبل أول كذاب فيكم يا لصوص!» وقال: أنت تقول إنك سمعت الجبلاوي، وتقول هذا ما يريده الجبلاوي، وليس لأحد أن يتكلم باسم الجبلاوي إلا ناظر وقفه ووريثه، ولو أراد الجبلاوي أن يقول شيئا لقاله له، هو الأمين على وقفه ومنفذ شروطه العشرة. يا معتوه كيف تحقر القوة والجاه والثراء باسم الجبلاوي وهي مزاياه وصفاته؟!
فنمت الأسارير الصافية عن ألم وقال: إني أخاطب أهل حارتنا لا الجبلاوي، هم الذين تركبهم العفاريت، وهم الذين تعذبهم المطالب.
فصاح به بيومي: ما أنت إلا عاجز عن القوة والجاه؛ فلذلك تلعنهما، ولترفع مكانتك الحقيرة في نظر الأغبياء من أهل حارتنا فوق مكانة السادة، وعندما تجدهم طوع يديك تنهب بهم القوة والجاه!
فاتسعت عينا رفاعة دهشة وتساؤلا: لا غاية لي إلا سعادة أهل حارتنا.
فصاح بيومي: يا ابن الماكرة، أنت توهم الناس بأنهم مرضى، بأننا جميعا مرضى، فلا صحيح غيرك في هذه الحارة! - لماذا تكرهون السعادة وهي بين أيديكم؟ - يا ابن الماكرة! ملعونة السعادة التي تجيء من مثلك!
فتساءل رفاعة متنهدا: لماذا يكرهني أناس وأنا ما كرهت أحدا قط؟!
فصرخ فيه بيومي: لا تخدعنا بما تخدع به الأغبياء، وأقلع عن خداعك، وافهم أن أمري لا يخالف، واحمد الله على أنك في بيتي وإلا ما خرجت سالما.
وقف رفاعة يائسا، فحياهما وانصرف. وقال خنفس: دعه لي.
لكن بيومي قال: للمعتوه محبون كثيرون، ونحن لا نريد مذبحة.
58
خرج رفاعة من بيت بيومي قاصدا بيته. كانت السماء متلفعة بأردية الخريف وفي الجو نسيم معتدل. وازدحمت الحارة حول مقاطف الليمون كأنما تحتفل بموسم التخليل، وترامت الأحاديث والضحكات، على حين اشتبك غلمان في معركة يتقاذفون بالتراب. وتلقى رفاعة تحيات كثيرين وأصابه رشاش تراب، فمضى إلى بيته وهو ينفضه عن كتفه ولاسته. ووجد زكي وعلي وحسين وكريم في انتظاره فتعانقوا كما يتعانقون عند كل لقاء، ثم قص عليهم - وعلى زوجته التي انضمت إلى المجلس - ما دار بينه وبين بيومي وخنفس. تابعوه باهتمام وقلق، فلما فرغ من قصته تجهمت الوجوه. وساءلت ياسمينة نفسها: ترى عم يتمخض هذا الموقف الدقيق؟ وأليس هناك حل يقي الرجل الطيب من الهلاك دون أن يهدد سعادتها؟ وبدا التساؤل في الأعين جميعا، أما رفاعة فأسند رأسه إلى الحائط في شيء من الإعياء. وقالت ياسمينة: لا يجوز الاستهانة بأمر بيومي.
وكان علي أحدهم طبعا فقال: لرفاعة أصدقاء هزموا بطيخة فاختفى من الحارة.
فقالت ياسمينة مقطبة: بطيخة لا بيومي! إذا تحديتم بيومي فقل عليكم السلام!
فالتفت حسين إلى رفاعة قائلا: فلنستمع أولا إلى المعلم!
فقال رفاعة وهو شبه مغمض العينين: لا تفكروا في العراك، فإن الذي يشقى لإسعاد الناس لا يهون عليه سفك دمائهم.
وتهلل وجه ياسمينة. كانت تكره فكرة الترمل خشية أن تحدق بها الأعين، فلا تجد منفذا إلى رجلها الرهيب، وقالت: خير ما تفعل أن ترحم نفسك من ذلك العناء.
فقال زكي محتجا: لن نترك هذا العمل ولكن نترك الحارة.
فخفق قلب ياسمينة جزعا لتخيل البعد عن حارة رجلها، وقالت بحدة: لن نعيش غرباء ضائعين بعيدا عن حارتنا.
وتركزت الأعين في وجه رفاعة فاعتدل رأسه رويدا وقال: لا أحب أن أهجر حارتنا.
وهنا دق الباب دقات متتابعة في لهفة فذهبت ياسمينة تفتحه، وسمع الجالسون صوتي عم شافعي وعبدة وهما يسألان عن ابنهما. وقام رفاعة فتلقى والديه بالعناق. وجلسوا وشافعي وزوجته يلهثان، ووجهاهما ينطقان بما يحملان من أنباء مزعجة. وسرعان ما قال الأب: يا بني، تخلى عنك خنفس، فحياتك في خطر، وأخبرني أصحابي بأن أعوان الفتوات يحومون حول بيتك.
وجففت عبدة عينين حمراوين وقالت: ليتنا ما عدنا إلى هذه الحارة التي تباع فيها الأرواح بلا ثمن!
فقال علي متحمسا: لا تخافي يا سيدتي، فحينا كله أصدقاء يحبوننا.
وقال رفاعة متأوها: ماذا فعلنا مما نستحق عليه العقاب؟!
فهتف عم شافعي جزعا: أنت من حي آل جبل المكروه لديهم، وكم توجس قلبي خيفة منذ جاء ذكر الواقف على لسانك!
فقال رفاعة متعجبا: بالأمس حاربوا جبل لمطالبته بالوقف، واليوم يحاربونني لاحتقاري الوقف!
فلوح شافعي بيده جزعا وقال: قل فيهم ما تشاء فلن يغير هذا منهم شيئا، ولكن اعلم أنك هالك إن غادرت بيتك، ولست آمن عليك إن بقيت فيه.
تسرب الخوف إلى قلب كريم أول ما تسرب لكنه داراه بإرادة قوية وقال مخاطبا رفاعة: إنهم يتربصون لك في الخارج، وإذا لبثت هنا فسيجيئون إليك. هؤلاء هم فتوات حارتنا كما عرفناهم، فلنهرب إلى بيتي من فوق الأسطح وهناك نفكر فيما ينبغي عمله.
فصاح شافعي: ومن هناك تهربون من الحارة ليلا.
فتأوه رفاعة متسائلا: وأترك بنائي يتهدم؟
فتوسلت إليه أمه باكية: افعل ما يشير به عليك وارحم أمك!
فقال الأب محتدا: واستأنف عملك فيما وراء الخلاء إذا شئت.
وقام كريم في اهتمام وقال: فلنتدبر أمرنا، سيبقى المعلم شافعي وحرمه قليلا ثم يذهبان إلى ربع النصر كأنهما راجعان بعد زيارة عادية، وتخرج ست ياسمينة إلى الجمالية كأنما لتتسوق، وعند عودتها تتسلل إلى مسكني وهذا أيسر لها من الهرب عبر الأسطح.
ارتاح شافعي إلى الخطة فقال كريم: لا ينبغي أن نضيع دقيقة سدى، سأذهب لأستكشف الأسطح.
وغادر الحجرة. وقام شافعي آخذا رفاعة في يده. وأمرت عبدة ياسمينة بأن تجمع الثياب في بقجة.
وأخذت ياسمينة في جمع الثياب القليلة بصدر مختنق وقلب مكلوم، وثورة من الحنق في باطنها تتجمع. وأقبلت عبدة على ابنها تقبله وترقيه بأعين باكية. ومضى رفاعة يفكر في حاله بقلب حزين. كم أحب الناس بكل قلبه! وكم شقي لإسعادهم! وكيف يعاني من بغضائهم وهل يسلم الجبلاوي بالفشل؟! ورجع كريم وهو يقول لرفاعة وصحبه: اتبعوني.
وقالت عبدة وهي تفحم في البكاء: سنلحق بك ولو بعد حين.
وقال له شافعي وهو يضغط على مخارج الدمع: فلتصحبك السلامة يا رفاعة.
عانق رفاعة والديه ثم التفت إلى ياسمينة قائلا: احبكي الملاءة والبرقع كي لا يعرفك أحد.
ثم وهو يميل إلى أذنها: لا أطيق أن تمتد لك يد بسوء.
59
غادرت ياسمينة الربع ملتفة في السواد وكلمات عبدة تتردد في أذنيها حين قالت لها وهي تودعها: «مع السلامة يا بنتي، ربنا يحفظك ويصونك، رفاعة عهدتك، سأدعو لكما في النهار والليل.» كانت طلائع الليل تزحف، وفوانيس المقاهي تشتعل، والغلمان يلعبون حول الأنوار المنبعثة من مصابيح عربات اليد، على حين احتدم عراك القطط والكلاب - كشأنه في ذلك الوقت من اليوم - حول أكوام الزبالة.
مضت ياسمينة نحو الجمالية وليس في قلبها العاشق مكان للرحمة. لم يساورها التردد ولكن ملأها الخوف فخيل إليها أن أعينا كثيرة ترقبها. ولم تشعر بشيء من الاطمئنان حتى عرجت من الدراسة إلى الخلاء، لكنها لم تجد الاطمئنان الحقيقي إلا في المنظرة بين يدي بيومي. ولما نزعت النقاب عن وجهها تفحصها باهتمام وتساءل: خائفة؟
فأجابت وهي تلهث: نعم. - كلا، الجبن ليس من صفاتك، خبريني ماذا وراءك؟
قالت بصوت لا يكاد يسمع: هربوا من فوق الأسطح إلى بيت كريم، وسيغادرون الحارة عند الفجر.
فغمغم بيومي ساخرا: عند الفجر يا أولاد الهرمة! - أقنعوه بالذهاب، فلماذا لا تدعه يذهب؟
فابتسم ساخرا وقال: قديما ذهب جبل ثم عاد، هذه الحشرات لا تستحق الحياة.
فقالت وهي شاردة اللب: إنه ينكر الحياة، ولكنه لا يستحق الموت.
فتقلص فوه اشمئزازا وقال: في الحارة كفايتها من المجانين.
فنظرت إليه في استعطاف ثم غضت بصرها وهمست وكأنما تحدث نفسها: أنقذني يوما من الهلاك.
فضحك في سخرية غليظة وقال: وها أنت ذي تسلمينه للهلاك، واحدة بواحدة والبادي أظلم!
فشعرت بقلق موجع كالمرض، ورمقته بعتاب وهي تقول: فعلت ما فعلت؛ لأنك أغلى من حياتي.
فربت خدها برقة وقال: سيخلو لنا الجو، وإذا ضايقتك الظروف فلك في هذا البيت مكان.
فارتفعت روحها من هبوطها درجات وقالت: لو عرضوا علي بيت الواقف من دونك ما قبلته. - أنت بنت مخلصة.
وشكتها «مخلصة» فعاودها القلق الذي هو كالمرض. وتساءلت: ترى هل يسخر منها الرجل؟ ولم يكن ثمة وقت لمزيد من الكلام فقامت وقام ليودعها، حتى تسللت من الباب الخلفي. ووجدت زوجها وأصحابه في انتظارها، فجلست إلى جانب زوجها وهي تقول لرفاعة: بيتنا مراقب، ومن الحكمة أن أمك تركت المصباح مشتعلا وراء النافذة، وسيكون الهرب ميسورا عند الفجر.
فقال لها زكي وهو يلحظ رفاعة في حزن: لكنه حزين، أليس المرضى في كل مكان؟ وأليسوا هم في حاجة كذلك إلى الشفاء؟
فقال رفاعة: تشتد الحاجة إلى الدواء حيث يستفحل المرض.
ونظرت ياسمينة نحوه في رثاء. وقالت لنفسها: إن من الظلم قتله. وتمنت لو كان فيه جانب واحد يستحق العقاب. وذكرت أنه الوحيد في هذه الدنيا الذي أحسن إليها وأن جزاءه على ذلك سيكون القتل. ولعنت في سرها هذه الأفكار وقالت: ليفعل الخير من يجد في حياته الخير. ولما رأته يبادلها النظر قالت كالمشفقة: حياتك أغلى من حارتنا اللعينة.
فقال رفاعة باسما: هذا ما يقوله لسانك غير أني أقرأ الحزن في عينيك!
وارتعدت. وقالت لنفسها: يا ويلي لو كانت قدرته على قراءة العين كقدرته على إخراج العفاريت. وقالت له: ليس ما بي حزنا ولكنه الخوف عليك!
وقام كريم وهو يقول: سأعد العشاء.
ورجع حاملا الطبلية فدعاهم إلى الجلوس فجلسوا حولها. وكان العشاء مكونا من الخبز والجبن والمش والخيار والفجل، وثمة إبريق من البوظة. وملأ كريم الأكواب وهو يقول: ليلتنا تحتاج إلى التدفئة والتشجيع.
وشربوا، ثم قال رفاعة باسما: الخمر توقظ العفاريت ولكنها تنعش من تخلص من عفريته. ونظر نحو ياسمينة إلى جانبه فأدركت مغزى نظرته وقالت: ستخلصني من عفريتي غدا إن مد الله في العمر.
فتهلل وجه رفاعة سرورا، وتبادل الأصدقاء التهاني، ومضوا يتناولون العشاء. قطعت الأرغفة، وتلاقت الأيدي فوق الأطباق، وبدوا وكأنهم تناسوا الموت المحيط بهم، وإذا برفاعة يقول: أراد صاحب الوقف لأبنائه أن يكونوا مثله، ولكنهم أبوا إلا أن يكونوا مثل العفاريت. إنهم أغبياء، وهو لا يحب الغباء كما قال لي.
فهز كريم رأسه أسفا، وبلع لقمته ثم قال: لو كان على شيء من قوته الأولى لسارت الأمور كما يشاء.
فقال علي حانقا: لو .. لو .. لو، ماذا أفدنا من لو! علينا أن نعمل.
فقال رفاعة بقوة: ما قصرنا قط، حاربنا العفاريت دون هوادة، وكلما ترك عفريت فراغا ملأه الحب، وليس وراء ذلك من غاية.
فقال زكي متحسرا: ولو تركونا نعمل؛ لملأنا الحارة صحة وحبا وسلاما.
فقال علي معترضا: إني أعجب كيف نفكر في الهرب على كثرة ما لنا من أصدقاء!
فقال رفاعة باسما: إن عرق عفريتك ما زال لاصقا بجوفك، فلا تنس أن غايتنا الشفاء لا القتل، ولخير للإنسان أن يقتل من أن يقتل.
والتفت رفاعة إلى ياسمينة فجأة وقال: إنك لا تأكلين ولا تصغين!
فتقلص قلبها خوفا، بيد أنها تغلبت على انفعالها وقالت: إني أعجب لكم كيف تتحادثون في مرح كأنكم في عرس! - ستألفين البهجة عندما تتخلصين من عفريتك غدا.
ثم نظر إلى إخوانه وقال: بعضكم يخجل من المسالمة، فنحن أبناء حارة لا تحترم إلا الفتونة، ولكن الفتونة ليست مقصورة على الإرهاب، فمصارعة العفاريت أشق عشرات المرات من الاعتداء على الضعفاء أو منازلة الفتوات.
فهز علي رأسه أسفا وقال: وكان جزاء الإحسان هذا الموقف التعيس الذي وجدنا أنفسنا فيه!
فقال رفاعة بيقين: لن تنتهي المعركة كما يتوهمون، ولسنا ضعفاء كما يتصورون! إنما نقلنا المعركة من ميدان إلى ميدان، وميداننا يتطلب شجاعة أسمى وقوة أشد.
وواصلوا العشاء وهم يفكرون فيما سمعوا. وبدا لأعينهم هادئا مطمئنا قويا بقدر ما بدا جميلا وديعا. وفي فترة الصمت تجلى صوت شاعر الحي وهو يحكي قائلا: «ومرة جلس أدهم في حارة الوطاويط عند الظهر ليستريح فنعس. واستيقظ على حركة فرأى غلمانا يسرقون عربته فنهض مهددا. ورآه غلام فنبه أقرانه بصفير ودفع العربة، ليشغله بها عن مطاردتهم فاندلق الخيار على الأرض على حين تفرق الغلمان مسرعين كالجراد. وغضب أدهم غضبا شديدا حتى قذف فوه المهذب بسيل من أقذع الشتائم، ثم انكب على الأرض يجمع الخيار الذي لوث بالطين. وتضاعف غضبه دون أن يجد له متنفسا فراح يقول بتأثر وانفعال: «لماذا كان غضبك كالنار تحرق بلا رحمة؟ لماذا كانت كبرياؤك أحب إليك من لحمك ودمك؟ وكيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نداس بالأقدام كالحشرات؟ والعفو واللين والتسامح ما شأنها في بيتك الكبير أيها الجبار؟» وقبض على يد العربة وهم بدفعها بعيدا عن الحارة اللعينة وإذا بصوت يقول متهكما: بكم الخيار يا عم؟
رأى إدريس واقفا يبتسم ابتسامة ساخرة ...»
وإذا بصوت امرأة يرتفع مغطيا على صوت الشاعر وهي تصرخ: «ولد تائه يا أولاد الحلال»!
60
مضى الوقت والإخوان في سمر وياسمينة في عذاب. أراد حسين أن يلقي على الحارة نظرة، ولكن كريم اعترضه لئلا يلمحه أحد فيشك في الأمر. وتساءل زكي: ترى هل هاجموا بيت رفاعة؟ فقال رفاعة: إنهم لا يسمعون إلا نواح الرباب وتهليل الغلمان. كانت الحارة تحيا حياتها فليس ثمة ما يشي بجريمة تدبر. ودارت بياسمينة دوامة الفكر حتى خافت أن تفضحها عيناها. وتمنت أن ينتهي عذابها على أي وجه وبأي ثمن، وتمنت أن تملأ جوفها بالخمر حتى تذهل عما حولها. وقالت لنفسها إنها ليست أول امرأة في حياة بيومي ولن تكون أخراهن، وإنه حول أكوام الزبالة تكثر الكلاب الضالة، ولكن فلينته هذا العذاب بأي ثمن.
وبتقدم الوقت أخذ الصمت يبتلع الضوضاء رويدا رويدا، فسكتت أصوات الأطفال ونداءات الباعة، ولم يبق إلا نواح الرباب. ودهمتها كراهية مفاجئة لهؤلاء الرجال، لا لشيء إلا لأنهم على نحو ما يعذبونها. وتساءل كريم: هل أعد المجمرة؟
فقال رفاعة بحزم: نحن في حاجة إلى وعينا!
ظننت أننا به نستعين على تحمل الوقت. - أنت خائف أكثر مما ينبغي.
فنفى التهمة عن نفسه قائلا: يبدو أن لا داعي هناك للخوف!
أجل لم يقع حادث ولم يهاجم بيت رفاعة. وسكتت الأنغام وذهب الشعراء. وترامت أصوات الأبواب وهي تغلق، وأحاديث العائدين إلى البيوت، وضحكات وسعلات، ثم ساد الصمت. واستمر الانتظار والترقب حتى صاح أول ديك. وقام زكي إلى النافذة ينظر إلى الطريق ثم التفت إليهم قائلا: صمت وخلاء، الحارة كما كانت يوم طرد إليها إدريس.
فقال كريم: آن لنا أن نذهب.
وركب الجزع ياسمينة فتساءلت في نفسها: ماذا يكون من أمرها لو تأخر بيومي عن موعده أو لو عدل عنه؟ وقام الرجال وكل يحمل بقجته. وقال حسين: الوداع يا حارتنا الجهنمية!
سار علي في المقدمة. ودفع برقة رفاعة ياسمينة أمامه وتبعها واضعا يده على منكبها كأنما يخشى أن يفقدها في الظلام، ثم جاء كريم فحسين ثم زكي. تسللوا من باب الشقة واحدا في أثر آخر، ورقوا في السلم مهتدين بالدرابزين في الظلمة الحالكة. وبدا السطح أرق ظلمة على الرغم من أنه لم يبد في السماء نجم واحد. ونضحت سحابة بنور القمر المتواري خلفها فسجلت لوحتها ركض السحب.
وقال علي: أسوار الأسطح شبه متلاصقة وسنساعد الست إن لزم الأمر.
تتابعوا داخلين. ولما دخل زكي - وهو آخرهم - أحس حركة وراءه فالتفت نحو باب السطح فرأى أربعة أشباح، فتساءل مذعورا: من هناك؟
تسمر الجميع والتفتوا. وجاء صوت بيومي وهو يقول: قفوا يا أولاد الزنى.
وانتشر عن يمينه وعن يساره جابر وخالد وحندوسة. وندت عن ياسمينة آهة. وأفلتت من يد رفاعة ثم جرت نحو باب السطح فلم يعترضها أحد من الفتوات، حتى قال علي مخاطبا رفاعة في ذهول: خانتك المرأة.
وفي لحظة أحاطوا بهم. وراح بيومي يتفحصهم عن قرب واحدا بعد آخر متسائلا: أين كودية الزار؟
حتى تبينه فقبض على منكبه بيد من حديد وهو يسأله متهكما: أين أنت ذاهب يا نديم العفاريت؟
فقال رفاعة في وجوم: ضايقكم وجودنا فآثرنا الرحيل.
فأطلق ضحكة قصيرة ساخرة ثم التفت إلى كريم وقال: وأنت هل أجدى إخفاؤك لهم في بيتك؟
فازدرد كريم ريقه الجاف وقال وفرائصه ترتعد: لم أكن أعلم بشيء مما بينك وبينهم!
فلطمه بيده الأخرى على وجهه فسقط على الأرض، ولكن سرعان ما وثب قائما وركض في رعب نحو سطح الربع الملاصق. وفجأة جرى وراءه حسين وزكي. وانقض حندوسة على علي فركله في بطنه فتهاوى على الأرض وهو يئن من أعماقه. وفي الوقت ذاته هم جابر وخالد باللحاق بالهاربين ولكن بيومي قال باستهانة: لا خوف من هؤلاء فلن ينبس أحدهم بكلمة وإلا هلك.
وقال رفاعة وقد انحنى رأسه نحو قبضة بيومي لشدة ضغطها: لم يفعلوا شيئا يستحق العقاب.
فهوى بيومي بكفه على وجهه وهو يقول متهكما: خبرني ألم يسمعوا الجبلاوي كما سمعته؟
ثم دفعه أمامه وهو يقول: سر أمامي ولا تفتح فاك.
سار مستسلما للمقادير. هبط السلم المظلم محاذرا ووقع الأقدام الثقيلة يتبعه. وغشيه الظلام والحيرة والشر الذي يتهدده فلم يكد يفكر فيمن هرب ولا فيمن خان. وران عليه حزن شامل عميق فغطى حتى على مخاوفه. وخيل إليه أن ذلك الظلام سيمسي صفة الدنيا الملازمة. وانتهوا إلى الحارة فقطعوا الحي الذي لم يبق فيه مريض بفضله وتقدمهم حندوسة نحو حي آل جبل فمروا تحت ربع النصر المغلق حتى خيل إليه أنه يسمع تردد أنفاس والديه. وساءل نفسه لحظة عنهما، فخيل إليه أنه يسمع نحيب عبدة في الليل الصامت، ولكن سرعان ما استرده الظلام والحيرة والشر الذي يتهدده. وبدا حي آل جبل هياكل أشباح عمالقة غارقة في الظلام، ما أشد الظلام وما أعمق النوم! أما وقع أقدام الجلادين في الظلمة الحالكة وأطيط نعالهم فكأنه ضحكات شياطين تعبث في الليل. ومضى حندوسة نحو الخلاء بحذاء سور البيت الكبير فرفع رفاعة عينيه إلى البيت لكنه رآه مظلما كالسماء. ولاح شبح في نهاية السور فتساءل حندوسة: المعلم خنفس؟
فأجابه الرجل: نعم.
وانضم إلى الرجال دون كلام. وظلت عينا رفاعة مرفوعتين نحو البيت. ترى هل يدري جده بحاله؟ إن كلمة منه تستطيع أن تنقذه من مخالب هؤلاء الجبارين وترد عنه كيدهم، إنه قادر على أن يسمعهم صوته كما أسمعه إياه في هذا المكان. وجبل وجد نفسه في مأزق مثل مأزقه ثم نجا وانتصر. لكنه جاوز السور دون أن يسمع شيئا سوى وقع أقدام الجبارين وتردد أنفاسهم. وأوغلوا في الخلاء فثقلت خطواتهم فوق الرمال. وشعر رفاعة بالغربة في الخلاء وذكر أن المرأة خانته وأن الأصحاب لاذوا بالفرار. أراد أن يلتفت إلى الوراء صوب البيت ولكن يد بيومي دفعته في ظهره بغتة فسقط على وجهه. ورفع بيومي نبوته وهتف: معلم خنفس؟
فرفع الرجل نبوته قائلا: معك إلى النهاية يا معلم.
وتساءل رفاعة في يأس: لماذا تبغون قتلي؟
فهوى بيومي بنبوته على رأسه بشدة فصرخ رفاعة صرخة عالية وهتف من أعماقه: «يا جبلاوي»!
وفي اللحظة التالية كان نبوت خنفس يصيب عنقه، واستبقت النبابيت.
وساد صمت لم تسمع خلاله إلا حشرجة.
وأخذت الأيدي تحفر الأرض بقوة في الظلام.
61
غادر القتلة المكان متجهين نحو الحارة، فسرعان ما ذابوا في الظلام. وإذا بأربعة أشباح تنهض قائمة من موضع غير بعيد من موقع الجريمة. وندت عنهم تنهدات وأصوات بكاء مكتوم حتى صاح أحدهم: يا جبناء، أمسكتم بي وكتمتم أنفاسي فقتل دون دفاع.
فقال له آخر: لو أطعناك لهلكنا جميعا دون أن ننقذه.
فعاد علي يقول غاضبا: يا جبناء! ما أنتم إلا جبناء.
فقال كريم بصوت باك: لا تضيعوا الوقت في الكلام، أمامنا عمل شاق يجب أن ننجزه قبل الصباح.
ورفع حسين رأسه إلى السماء يقلب فيها عينيه الدامعتين وتمتم بجزع: الفجر قريب فلنسرع.
فهتف زكي متأوها: يا له من وقت قصير كالحلم لكننا فقدنا فيه أعز من عرفنا في الحياة!
واتجه علي نحو موقع الجريمة وهو يصر على أسنانه مغمغما: يا جبناء!
فمضوا خلفه، ثم جلسوا جميعا على ركبهم في هيئة نصف دائرة وراحوا يتحسسون الأرض مفتشين.
وبغتة صرخ كريم كالملدوغ: هنا!
وتشمم يده وهو يقول: إن هذا هو دمه!
وفي الوقت ذاته صاح زكي: وهذا الموضع الهش مدفنه.
وتجمعوا حوله وأخذوا يزيلون الرمال براحاتهم. لم يكن في الأرض من هو أتعس منهم، لضياع العزيز، ولموقف العجز الذي وقفوه عند مصرعه. واعترت كريم لحظة جنون فقال في بلاهة: لعلنا نجده حيا!
فقال علي بازدراء ويداه لا تكفان عن العمل: اسمعوا أوهام الجبناء!
وامتلأت خياشيمهم برائحة التراب والدم. وترامى من ناحية الجبل عواء. وهتف علي بإشفاق: تمهلوا، فهذا جسده.
فانخلعت قلوبهم، ورقت أيديهم، وتلمسوا أطراف ثوبه بجزع، ثم ارتفعت أصواتهم بالبكاء، وتعاونوا على استخلاص الجثة من الرمال وقاموا بها في رفق، وكان صياح الديكة يترامى من الحارات والأزقة. وحث البعض على الإسراع، ولكن لفتهم علي إلى وجوب ردم الحفرة، فخلع كريم جلبابه وفرشه على الأرض فطرحوا الجثة عليه، وتعاونوا مرة أخرى على ردم الحفرة. وخلع حسين جلبابه فغطى به الجثة ثم حملوها، وساروا نحو باب النصر. وأخذ الظلام يخف فوق الجبل ويشف عن السحاب، وتساقط الندى فوق الجباه والدموع. وكان حسين يدلهم على طريق مقبرته حتى بلغوها. وانهمكوا في فتح القبر صامتين، والضياء ينتشر رويدا، حتى تراءى للأعين الجثمان المسجى، وأيديهم الملطخة بالدم، وأعينهم المحمرة من البكاء. وحملوا الجثة وهبطوا بها إلى جوف القبر. وقفوا حولها خاشعين وهم يضغطون جفونهم ليزيلوا الدموع التي تحول دون رؤيتها. وهمس كريم والعبرات تخنقه: كانت حياتك حلما قصيرا، لكنها ملأت قلوبنا بالحب والنقاء. وما كنا نتصور أن تغادرنا بهذه السرعة فضلا عن أن تقتل بيد أحد من الناس؛ أحد من أبناء حارتنا الجاحدة التي داويتها وأحببتها؛ حارتنا التي أبت إلا أن تقتل الحب والرحمة والشفاء ممثلة في شخصك فقضت على نفسها باللعنة حتى آخر الزمن.
وتساءل زكي منتحبا: لماذا يذهب الطيبون؟! لماذا يبقى المجرمون؟!
وتأوه حسين قائلا: لولا حبك الباقي في قلوبنا لمقتنا الناس إلى الأبد!
عند ذاك قال علي: لن يرتاح لنا بال حتى نكفر عن جبننا.
وعندما غادروا المقبرة متجهين نحو الخلاء، كان النور يصبغ الآفاق بمثل ذوب الورد الأحمر.
62
لم يعد أحد من الصحاب الأربعة يظهر في حارة الجبلاوي. وظن ذووهم أنهم غادروا الحارة خفية وراء رفاعة اتقاء لتحرش الفتوات. وعاش الرفاق في أطراف الخلاء في حال نفسية متوترة، يصارعون بكل قواهم وطأة الألم وحز الندم. كان فراق رفاعة أشد من الذبح على قلوبهم، وكان تخليهم عنه معذبا قاتلا. لم يبق لهم من أمل في الحياة إلا أن يتحدوا موته بإحياء رسالته، وأن ينزلوا العقاب بقاتليه كما صمم علي. أجل لم يكن في وسعهم العودة إلى الحارة، ولكن كان في مأمولهم أن يقابلوا من يشاءون خارجها. وذات صباح استيقظ ربع النصر على صوات عبدة؛ فهرع الجيران إليها يستطلعون الخبر فصاحت بصوت مبحوح: قتل ابني رفاعة.
ووجم الجيران وتطلعوا إلى عم شافعي الذي كان يجفف عينيه فقال الرجل: قتله الفتوات في الخلاء.
وعادت عبدة تنوح هاتفة: ابني الذي لم يؤذ أحدا في دنياه.
فتساءل البعض: وهل علم بذلك فتوتنا خنفس؟
فقال شافعي غاضبا: كان خنفس ضمن القاتلين.
وقالت عبدة باكية: وخانته ياسمينة فدلت بيومي عليه!
فلاح الاستنكار في الوجوه وقال صوت: لذلك فهي تقيم في بيته بعد أن هجرته زوجته.
وانتشر الخبر في حي آل جبل، فجاء خنفس إلى بيت شافعي وصاح به: أجننت يا رجل؟ ماذا قلت عني؟
فوقف شافعي أمامه دون مبالاة وقال بشدة: إنك اشتركت في قتله وأنت فتوته وحاميه!
فتظاهر خنفس بالغضب وصاح: أنت مجنون يا شافعي، لا تدري عما تقول شيئا، ولن أبقى حتى لا أضطر إلى تأديبك.
وغادر الربع وهو يرغي ويزبد. وانتقل الخبر إلى حي رفاعة الذي أقام فيه عقب مغادرته لحي آل جبل فذهل الناس له، وارتفعت الأصوات بالسخط والبكاء، ولكن الفتوات خرجوا إلى الحارة يقطعونها ذهابا وإيابا، النبابيت في أيديهم والشر يتقد في نظراتهم. ثم سرى نبأ يقول: إن الرمال غربي صخرة هند وجدت ملطخة بدم رفاعة. وذهب عم شافعي وخاصة أصحابه للبحث عن الجثة هنالك، ففتشوا وحفروا ولكنهم لم يعثروا على شيء. ولغط الناس بالخبر وتبلبلت الأفكار وتوقع كثيرون أن تحدث في الحارة أمور. وراح الناس في حي رفاعة يتساءلون: ماذا فعل رفاعة حتى يقضى عليه بالقتل؟ وقال آل جبل: رفاعة قتل وياسمينة مقيمة في بيت بيومي. وتسلل الفتوات بليل إلى المكان الذي قتل فيه رفاعة، وحفروا مدفنه على ضوء مشعل، ولكنهم لم يعثروا للجثة على أثر. وتساءل بيومي: هل أخذها شافعي؟
ولكن خنفس أجابه: كلا، لم يعثر على شيء كما أخبرتني العيون.
فضرب بيومي الأرض بقدمه وصاح: إنهم أصحابه، لقد أخطأنا بتركهم يفلتون، وها هم أولاء يحاربوننا من وراء وراء.
وعند عودتهم مال خنفس على أذن بيومي وهمس قائلا: إن احتفاظ المعلم بياسمينة لمما يسبب لنا المتاعب.
فقال بيومي ساخطا: بل اعترف أنك فتوة ضعيف في حيك!
وودعه خنفس ساخطا. واشتد التوتر بحيي جبل ورفاعة، وتكرر اعتداء الفتوات على الساخطين. وساد الإرهاب في الحارة حتى كره أهلها الخروج إليها إلا لضرورة. وفي ليلة من الليالي - وكان بيومي في قهوة شلضم - تسلل أهل زوجته إلى بيته بقصد الاعتداء على ياسمينة، فشعرت بهم، وفرت بجلبابها إلى الخلاء وهم يطاردونها. وظلت تعدو في الظلام كالمجنونة، حتى بعد أن كف المطاردون عن مطاردتها. وظلت تعدو حتى أوشكت أنفاسها أن تنقطع فاضطرت إلى التوقف وهي تلهث بعنف وقد طرحت رأسها إلى الوراء وأغمضت عينيها. ولبثت كذلك حتى استردت أنفاسها. ونظرت وراءها فلم تر شيئا، ولكنها جفلت من فكرة العودة إلى الحارة ليلا. ونظرت أمامها فرأت عن بعد نورا ضئيلا لعله ينبعث من كوخ فسارت نحوه آملة أن تجد عنده مأوى يؤويها حتى الصباح. وطال بها المسير قبل أن تبلغه. وكان كما ظنت كوخا، فاقتربت من بابه وهي تنادي أهله. وبغتة وجدت نفسها أمام أصدقاء زوجها الحميمين: علي وزكي وحسين وكريم.
63
تسمرت ياسمينة بالأرض وهي تقلب في وجوههم بصرا زائغا. تراءوا لها كجدار يعترض مطاردا في كابوس. كانوا يحدقون فيها باشمئزاز، وبدا الاشمئزاز في عيني علي في إطار حديدي من القسوة. وهتفت بلا وعي: إني بريئة، ورب السموات بريئة، ذهبت معكم حتى هاجمونا فهربت كما هربتم!
وكلحت الوجوه. وتساءل علي حانقا: ومن أدراك بأننا هربنا؟
فقالت بصوت متهدج: لولا الهرب ما بقيتم على قيد الحياة؛ لكني بريئة، وما فعلت شيئا إلا أني هربت!
فقال علي وهو يعض أسنانه: هربت إلى سيدك بيومي. - أبدا، دعوني أذهب .. أنا بريئة.
فصاح بها علي: ستذهبين إلى جوف الأرض!
فهمت بالهرب لكنه وثب عليها فقبض على منكبيها بشدة فصرخت: أعتقني إكراما له، فإنه لم يكن يحب القتل ولا القاتلين!
فقبض على عنقها بيديه، حتى قال كريم جزعا: انتظر حتى نفكر في الأمر.
فصاح به: اصمتوا يا جبناء!
وشد على عنقها بكل ما يعتلج في صدره من حنق وحقد وألم وندم. حاولت التخلص من قبضته عبثا، قبضت على ساعديه، ركلته، هزت رأسها، كان كل مجهود عبثا ضائعا فخارت قواها، وجحظت عيناها، ثم نفث أنفها دما، وارتج جسدها بعنف، وسكتت إلى الأبد، وتركها فسقطت جثة تحت قدميه.
وفي صباح اليوم التالي وجدت جثة ياسمينة ملقاة أمام بيت بيومي. وانتشر الخبر كغبار الخماسين فجرى الناس نساء ورجالا نحو بيت الفتوة. وارتفعت الضوضاء، واختلطت التعليقات، ودارى الجميع مشاعرهم الحقيقية. وفتح باب بيت بيومي، واندفع منه الرجل كالثور الهائج، وراح يضرب بنبوته كل من يصادفه فركض الجميع في فزع، ولاذوا بالدور والمقاهي، ووقف الرجل في الحارة الخالية يسب ويلعن ويهدد ويتوعد، ويضرب الهواء والجدران وأديم الأرض.
وفي اليوم نفسه هجر عم شافعي وزوجته الحارة، وبدا أن أي أثر لرفاعة قد اختفى.
ولكن ثمة أشياء كانت تذكر به على الدوام، كبيت عم شافعي بربع النصر ودكان النجارة ومسكن رفاعة في الحي الذي أطلقوا عليه دار الشفاء، ومصرعه غربي صخرة هند، وفوق كل أولئك أصحابه المخلصون الذين واصلوا اتصالاتهم بمحبيه، ولقنوهم أسرار علمه بتخليص الأنفس من العفاريت ليزاولوها في مداواة المرضى، اقتنعوا أنهم بذلك يعيدون رفاعة إلى الحياة. أما علي فلم يكن ليهدأ له بال حتى يقضي على المجرمين. وقد قال له حسين معاتبا: إنك لست من رفاعة في شيء!
فقال علي بقوة: إني أعرف رفاعة أكثر مما تعرفونه، قضى حياته القصيرة في قتال عنيف مع العفاريت.
فقال كريم: إنك تريد العودة إلى الفتونة وما كان أبغضها إليه.
فهتف علي بحماس: كان فتوة ولا كل الفتوات ولكن خدعتكم رقته.
وتوثب كل فريق للعمل على رأيه بإيمان صادق. وتناقلت الحارة قصة رفاعة على حقيقتها التي كان الأكثرون يجهلونها، وتنوقل أيضا أن جثته ظلت ملقاة في الخلاء حتى حملها الجبلاوي بنفسه فواراها التراب في حديقته الغناء. وكادت الأحداث الخطيرة تتلاشى عند ذلك لولا أن اختفى الفتوة حندوسة اختفاء مريبا. وإذا بجثته تكتشف ذات صباح ملقاة مشوهة أمام بيت الناظر إيهاب. وتزلزل بيت الناظر كما تزلزل بيت بيومي. ومرت بالحارة فترة رهيبة من الرعب. انصب الاعتداء كالمطر على كل من له صلة أو شبهة صلة برفاعة أو بأحد من رجاله. انهالت النبابيت على الرءوس، وهرست الأقدام البطون، وحفرت اللكمات الصدور، وألهبت الأيدي الأقفية، حتى حبس نفسه في الدور من حبس، وهجر الحارة من هجر، وقتل في الخلاء من استهان بالخطر، فضجت الحارة بالصوات والعويل، وغشيها السواد والظلام، وفاحت منها رائحة الدم.
ومن عجب أن ذلك كله لم يقض على عمل العاملين؛ فقد قتل الفتوة خالد وهو خارج من بيت بيومي قبيل الفجر. واشتد خطر الإرهاب حتى بلغ الجنون. لكن حارتنا استيقظت في الهزيع الأخير من الليل على حريق هائل التهم بيت الفتوة جابر وأهلك أسرته. وصاح بيومي: إن مجانين رفاعة منتشرون كالبق، والله ليقتلن ولو في بيوتهم!
ذاع في الحارة أن البيوت ستهاجم بليل فركب الفزع الناس حتى جنوا. وخرجوا من الربوع في ثورة هوجاء يحملون العصي والمقاعد وأغطية الحلل والسكاكين والقباقيب والطوب. وصمم بيومي على أن يضرب قبل أن يستفحل الأمر فرفع نبوته وخرج من بيته في هالة من الأعوان.
وظهر علي لأول مرة ومعه رجال أشداء على رأس الثائرين. وما إن رأى بيومي قادما حتى أمر بقذف الطوب فأرسل الهائجون أسراب الطوب كالجراد فانصبت على بيومي ورجاله وتفجرت الدماء. وهجم بيومي بجنون وهو يصرخ كالوحش ولكن حجرا أصاب أعلى رأسه فتوقف على رغم الغضب ورغم القوة ورغم الفتونة، ثم ترنح وسقط مقنعا بدمه؛ وسرعان ما فر الأعوان، واكتسحت أمواج الغاضبين بيت الفتوة حتى ترامت أصوات الكسر والتحطيم إلى مثوى الناظر في بيته. واستطار الشر، وانقض العقاب على من بقي من الفتوات وأعوانهم، وخربت بيوتهم، واستفحل الخطر، وأوشك أن يفلت الزمام. عند ذاك أرسل الناظر في طلب علي فذهب علي لمقابلته. وكف رجال علي عن الانتقام والتخريب انتظارا لما تسفر عنه المقابلة فهدأت الأحوال وسكنت الخواطر.
وتمخضت المقابلة عن عهد جديد في الحارة. فقد اعترف بالرفاعيين كحي جديد مثل حي آل جبل فيما له من حقوق وامتيازات، ونصب علي ناظرا على وقفهم، بمعنى فتوة لهم، يتسلم نصيبهم في الوقف ويوزعه عليهم على أساس المساواة الشاملة. وعاد إلى الحي الجديد جميع المهاجرين الذين فروا من الحارة في فترات الإرهاب، وعلى رأسهم عم شافعي وزوجته وزكي وحسين وكريم. وحظي رفاعة في موته بما لم يكن ليحلم به في حياته من التكريم والإجلال والحب حتى سار قصة باهرة يرددها كل لسان، وتتغنى بها الرباب، وبخاصة رفع الجبلاوي لجثته ودفنها في حديقته الغناء. وقد أجمع الرفاعيون على ذلك، كما أجمعوا على الولاء والتقديس لوالديه. لكنهم اختلفوا فيما عدا ذلك فأصر كريم وحسين وزكي على أن رسالة رفاعة يجب أن تقتصر على مداواة المرضى واحتقار الجاه والقوة، فساروا ومن تبعهم في الحياة مساره، وغالى منهم قوم فتجنبوا الزواج حبا في محاكاته واستعادة لسيرته. أما علي فتمسك بكافة حقوقه في الوقف وتزوج ودعا إلى تجديد حي رفاعة. وقال في ذلك: إن رفاعة لم يكره الوقف لذاته ولكن ليبرهن على أن السعادة الحقة متاحة بدونه، وليقضي على الشرور التي يستثيرها الطمع، فإذا وزع الريع بالعدل، ووجه للبناء والخير، فهو الخير كل الخير.
وعلى أي حال استبشر الناس خيرا، واستقبلوا الحياة بوجوه مشرقة، وقالوا بثقة واطمئنان إن اليوم خير من الأمس، وإن الغد خير من اليوم.
فلماذا كانت آفة حارتنا النسيان؟!
قاسم
64
لم يكد شيء يتغير في الحارة. الأقدام ما زالت عارية تطبع آثارها الغليظة على التراب. والذباب ما زال يلهو بين الزبالة والأعين. والوجوه ما زالت ذابلة مهزولة، والثياب مرقعة، والشتائم تتبادل كالتحيات، والنفاق يصم الآذان. والبيت الكبير ما زال قابعا وراء أسواره غارقا في الصمت والذكريات، وإلى اليمين بيت الناظر، وإلى اليسار بيت الفتوة، ثم يجيء حي آل جبل، ويليه حي آل رفاعة في وسط الحارة. أما بقية الحارة وهي الناحية المنحدرة إلى الجمالية فكانت مقام من لا صفة لهم ولا نسب، أو الجرابيع كما كانوا يدعونهم، وهم أتعس أهل الحارة وأضيعهم.
وفي هذا العهد ولي النظارة السيد رفعت، وكان كسابقيه من النظار. وكان فتوتها لهيطة وهو رجل قصير دقيق لا يوحي مظهره بالقوة، لكنه ينقلب عند المعركة لسانا من نار في سرعته وحدته وتدميره، وقد نال الفتونة بعد سلسلة من المعارك سالت خلالها الدماء في جميع الأحياء. أما فتوة آل جبل فكان يدعي جلطة، وما زال حيه معتدا بنفسه مباهيا بقرابته للواقف وبأنه خير حي، وأن رجلهم جبل كان أول وآخر من كلمه الجبلاوي وفضله، ولذلك قل أن أحبهم أحد. وكان حجاج فتوة آل رفاعة، لكنه لم يحتذ مثال علي في نظارته، وإنما سار على درب خنفس وجلطة وغيرهما من المغتصبين. كان يستأثر بالريع ويضرب المتذمرين ويحث آله على اتباع سنة رفاعة في احتقار الجاه والثراء!
وحتى الجرابيع كان لهم فتوتهم، ويدعى سوارس، لكنه لم يكن طبعا بناظر وقف. على هذا النحو استقرت الأوضاع، وأكد حملة النبابيت وشعراء الرباب أنه نظام عادل، جرت به شروط الواقف العشرة وسهر على تنفيذه ورعايته الناظر والفتوات.
وفي حي الجرابيع عرف عم زكريا بياع البطاطة بالطيبة، وامتاز بين الناس بقرابته البعيدة للمعلم سوارس فتوة الحي. كان يطوف بأحياء الحارة سائقا عربته مناديا على البطاطة، وفي وسط العربة تقوم الفرن نافثة دخانا معبقا برائحة شهية، تجذب غلمان رفاعة وجبل، كما تجذب الغلمان بالجمالية والعطوف والدراسة وكفر الزغاري وبيت القاضي. وكانت فترة غير قصيرة من حياة عم زكريا الزوجية قد مضت دون أن يرزق بمولود، ولكن آنس وحشته في تلك الفترة صغير يتيم هو قاسم - ابن شقيق زكريا - عقب وفاة والديه ولم يجد الرجل في الصغير عبئا يئوده؛ إذ إن الحياة وخصوصا في هذا الحي من الحارة لم تكن تعلو كثيرا عن حياة الكلاب والقطط والذباب التي تعثر على رزقها في النفايات وأكوام الزبالة. وأحب زكريا قاسم كما كان يحب أباه من قبل، ولما حملت زوجته عقب انضمام الصغير للأسرة تفاءل به خيرا وازداد عليه عطفا، ولم يقل عطفه عندما رزق بابنه حسن.
ونشأ قاسم شبه وحيد، إذ كان اليوم يمضي وعمه بعيد عن الحارة وزوجة عمه مشغولة بدارها ووليدها. ثم اتسع عالمه بنموه فأخذ يلعب في حوش الربع أو في الحارة، وصادق أقرانه في حيه وحيي رفاعة وجبل، وذهب إلى الخلاء فلعب حول صخرة هند، وشرق في الصحراء وغرب، ورقي في الجبل. وكان يتطلع مع الصغار إلى البيت الكبير مفاخرا بجده ومقام جده، ولكنه لم يكن يجد ما يقوله إذا تكلم البعض عن جبل والبعض الآخر عن رفاعة، كما لم يكن يجد ما يفعله إذا انقلب الكلام تشاتما وتماسكا وعراكا.
وكم نظر إلى بيت الناظر بدهش وإعجاب! وكم رمق الثمار فوق الأشجار برغبة واشتهاء! ويوما رأى البواب ناعسا فتسلل إلى الحديقة بخفة، دون أن يرى أحدا أو يراه أحد، وراح يقطع المماشي في بهجة وسرور، ويلتقط ثمار الجوافة من فوق الحشائش ويأكلها بلذة، حتى وجد نفسه أمام الفسقية، وعلقت عيناه بعمود الماء المتصاعد من النافورة؛ استخفه الفرح فخلع جلبابه ونزل إلى الماء ومضى يخوض فيه ويضرب سطحه بيديه ويدلك به جسده وقد ذهل عما حوله. وما يدري إلا وصوت حاد يصيح بغضب: «يا عثمان يا ابن الكلب، تعال يا أعمى يا ابن الأعمى». التفت رأسه نحو مصدر الصوت فرأى على السلاملك رجلا متلفعا بعباءة حمراء، يشير نحوه بأصبعه المرتجف، والغضب يشتعل في وجهه، فاندفع نحو حافة الفسقية وصعد إلى أرض الحديقة مرتكزا على مرفقيه، وعند ذاك لمح البواب قادما مهرولا، فجرى نحو عريشة الياسمين الملاصقة للسور، ناسيا جلبابه حيث خلعه، وركض نحو الباب، فمرق إلى الحارة. عدا بكل قواه، ورآه أطفال فتبعوه مهللين، فنبحت كلاب، ثم خرج عثمان البواب إلى الحارة وراح يجري وراءه حتى أدركه في منتصف حيه، فقبض على ذراعه وتوقف وهو يلهث، وعلا صراخ قاسم حتى ملأ الحي. وسرعان ما جاءت زوجة عمه حاملة وليدها، وخرج المعلم سوارس من القهوة. دهشت زوجة عمه لمنظره، وأمسكت بيده وهي تقول للبواب: وحد الله يا عم عثمان، أرعبت الولد، ماذا فعل؟ وأين جلبابه؟
فصاح البواب في تكبر: رآه حضرة الناظر وهو يستحم في الفسقية. هذا العفريت يجب جلده، دخل الملعون وأنا نائم، لماذا لا تريحوننا من عفاريتكم؟!
فقالت المرأة برجاء: السماح يا عم عثمان، الولد يتيم، وحقك علي!
واستنقذته من يده قائلة: سأضربه عنك، ولكن وحياة شيبتك إلا ما أعدت له جلبابه الوحيد!
فلوح البواب بيده متسخطا وولاها ظهره راجعا وهو يقول: بسبب هذه الحشرة لعنت وسببت، أولاد عفاريت وحارة بنت كلب!
وعادت المرأة إلى الربع، متوركة حسن، جارة قاسم من يده وهو يشهق باكيا.
65
وقال عم زكريا لقاسم وهو يرمقه بإعجاب: لم تعد طفلا يا قاسم، فأنت تقارب العاشرة وآن لك أن تعمل!
فالتمعت عينا قاسم السوداوان ابتهاجا وقال: طالما رجوتك أن تأخذني معك يا عمي.
فضحك الرجل قائلا: كان غرضك اللعب لا العمل، أما اليوم فأنت ولد عاقل وتستطيع أن تعاونني.
فهرع الغلام إلى العربة محاولا دفعها لكن عم زكريا منعه، وقالت زوجة عمه: حاسب أن تنزلق البطاطة فنموت جوعا.
وقبض زكريا على يدي العربة وهو يقول له: سر أمام العربة وناد: «بطاطة العمدة .. بطاطة الفرن». وخذ بالك من كل ما أقول أو أعمل، وستصعد بالبطاطة إلى الزبائن بالأدوار العليا، وعلى العموم فتح عينيك.
فقال قاسم وهو ينظر إلى العربة بحسرة: لكني قادر على دفعها!
وساق الرجل العربة وهو يقول: افعل كما أمرتك ولا تكن عنيدا، كان أبوك ألطف الناس.
انحدرت العربة نحو الجمالية وقاسم يصيح بصوت رفيع كالصفير: «بطاطة العمدة، بطاطة الفرن». لم يكن كمثل فرحه شيء، وهو ينطلق إلى الأحياء الغريبة ويعمل كالرجال. ولما بلغت العربة حارة الوطاويط نظر قاسم فيما حوله وقال لعمه: هنا اعترض إدريس سبيل أدهم!
فهز زكريا رأسه بلا اكتراث، فعاد الغلام يقول ضاحكا: كان أدهم يسوق عربته مثلك يا عمي.
ومضت العربة في تجوالها اليومي، من الحسين إلى بيت القاضي، ومن بيت القاضي إلى الدراسة، وقاسم يتطلع بدهش إلى العابرين والدكاكين والجوامع حتى انتهت إلى ميدان صغير قال العم: إنه سوق المقطم، فتأمله الغلام بإعجاب وقال: أهذا سوق المقطم حقا؟! إلى هنا هرب جبل، وهنا ولد رفاعة.
فقال زكريا بلا حماس: نعم، لا لنا في هذا ولا ذاك!
فقال قاسم: لكننا جميعا أولاد الجبلاوي، فلماذا لا نكون مثلهم؟
ضحك الرجل وقال ساخرا: على الأقل جميعنا في الفقر سواء!
ووجه الرجل عربته نحو أطراف السوق المشرفة على الخلاء، وبخاصة نحو كوخ من الصفائح على هيئة دكان لبيع المسابح والبخور والأحجبة، جلس أمامه على فروة عجوز ذو لحية بيضاء.
أوقف زكريا العربة أمام الكوخ وصافح العجوز بحرارة، فقال الرجل: عندي اليوم كفايتي من البطاطة.
فجلس زكريا إلى جانبه وهو يقول: مجالستك خير عندي من الربح.
ونظر العجوز نحو الغلام مستطلعا فصاح به زكريا: تعال يا قاسم وقبل يد المعلم يحيى.
فاقترب الغلام من العجوز وتناول يده المعروقة فلثمها في أدب. وراح يحيى يداعب قصة قاسم ويتأمل وجهه الوسيم ثم تساءل: من الغلام يا زكريا؟
فقال زكريا وهو يمد ساقيه في الشمس: ابن المرحوم أخي.
فأجلسه إلى جانبه على الفروة وهو يسأله: هل تذكر أباك يا بني؟
فهز قاسم رأسه قائلا: كلا يا عمي. - كان أبوك صديقا لي، وكان لطيفا.
ورفع قاسم عينيه إلى البضائع يتأمل ألوانها، فمد يحيى يده إلى رف قريب وتناول حجابا، ثم علقه بعنق الغلام وهو يقول: احتفظ به فيحفظك من كل سوء.
وإذا بعم زكريا يقول لقاسم: المعلم يحيى كان من حارتنا، ومن حي آل رفاعة.
فنظر قاسم إلى يحيى وتساءل: لماذا تركت حارتنا يا عمي؟
فأجاب زكريا قائلا: غضب عليه فتوة آل رفاعة منذ عهد بعيد فآثر الهجرة.
فقال قاسم بدهش: فعلت كما فعل عم شافعي والد رفاعة.
فضحك يحيى عن فم فارغ طويلا ثم قال: أعرفت ذلك يا غلام؟ ما أعرف أولاد حارتنا بالحكايات، فما بالهم لا يعتبرون!
وجاء صبي قهوة حاملا صينية شاي فوضعها أمام يحيى ثم رجع وأخرج يحيى من صدره لفافة صغيرة وجعل يفكها قائلا برضا: لدي شيء ثمين، مفعوله أكيد حتى الصباح.
فقال زكريا باهتمام: دعنا نجربه.
فقال يحيى ضاحكا: ما سمعتك تقول لا قط. - كيف أرفض النعمة يا يحيى؟!
وتقاسما القطعة، وراحا يلوكانها، وقاسم يتابعهما بشغف حتى أضحك عمه. وأخذ العجوز يحسو الشاي، ويسأل قاسم: هل تحلم بالفتونة كأهل حارتنا؟
فقال قاسم مبتسما: نعم.
فقهقه زكريا وقال كالمعتذر: اعذره يا معلم يحيى فأنت تعلم أنه في حارتنا إما أن يكون الرجل فتوة وإما أن يعد قفاه للصفع.
فقال يحيى متأوها: ليرحمك الله يا رفاعة، كيف نبت في حارتنا الجهنمية؟! - لذلك كانت نهايته كما تعلم.
فقال يحيى مقطبا: رفاعة لم يمت يوم مصرعه، ولكنه مات يوم انقلب خليفته فتوة!
فسأله قاسم باهتمام: أين دفن يا عمي؟ أهله يقولون: إن جدنا دفنه في حديقته، ويقول آل جبل: إن جثته ضاعت في الخلاء.
ثم صاح يحيى غاضبا: الملاعين الأشقياء، ما زالوا يحقدون عليه حتى اليوم!
ثم مستدركا في تساؤل: خبرني يا قاسم هل تحب رفاعة؟
فنظر الغلام نحو عمه في حذر ولكنه قال ببساطة: نعم يا عمي، أحبه كثيرا. - أيهما أحب إليك: أأن تكون مثله أم أن تكون فتوة؟
فرفع إليه عينين تمتزج فيهما الحيرة والابتسام، وتحركت شفتاه للكلام ولكنه لم ينبس، فقال زكريا مقهقها: فلتقنع مثلي ببيع البطاطة!
وساد الصمت بينهم على حين قامت ضجة في السوق حول حمار طرح أرضا فمال بالكارو المربوطة به، وأخذت الراكبات يثبن منها، أما السائق فقد انهال على الحمار ضربا. ونهض زكريا وهو يقول: أمامنا مشوار طويل، سلام عليكم يا معلم.
فقال يحيى: أحضر الغلام معك كلما جئت.
وصافح قاسم وهو يداعب قصته قائلا: ما أظرفك!
66
لم يكن في الخلاء من مكان يستظل به من وقدة الشمس الغاضبة إلا صخرة هند. هنالك اقتعد قاسم الأرض ولا أنيس له إلا الغنم. بدا في جلباب أزرق نظيف - نظيف بالقدر المتاح لراع - متلفع الرأس بلاسة غليظة وقاية من الشمس، ومنتعلا مركوبا قديما باليا تهتكت أطرافه. وكان يخلو إلى نفسه حينا ويراقب النعاج والخرفان والمعز والجداء حينا آخر، وعصاه مطروحة إلى جانبه. ولاح المقطم من مجلسه القريب عاليا ضخما متجهما، كأنه المخلوق الوحيد تحت القبة الصافية الذي يتحدى غضبة الشمس في عناد وإصرار، كما ترامى الخلاء حتى الآفاق مشمولا بصمت ثقيل وهواء ساخن. وكان إذا أضنته أفكاره وأحلامه ونوازع شبابه الفائر سرح الطرف في الغنم ملاحظا لهوها وعبثها، وتخاصمها وتواددها، ونشاطها وكسلها، وبخاصة البهم والحملان منها التي تستدر عطفه ومحبته. وكانت أعينها الكحلاوات تعجبه وتهز فؤاده بنظراتها كأنما تخاطبه، وكان بدوره يخاطبها فيقارن بين ما تلقى في رعايته من عطف وما يلقى أولاد حارته تحت غطرسة الفتوات من هوان. ولم تهمه نظرة الاستعلاء التي يلقيها أهل الحارة على الرعاة؛ إذ آمن من بادئ الأمر بأن الراعي خير من البلطجي والبرمجي والمتسول. وفضلا عن ذلك فقد أحب الخلاء والهواء النقي وأنس إلى المقطم وصخرة هند وقبة السماء ذات الأطوار العجيبة. إلا أن الرعي كان يقوده دائما إلى المعلم يحيى! وتساءل المعلم يحيى أول ما رآه راعيا: من بائع بطاطة إلى راعي غنم؟!
فقال قاسم دون حرج: ولم لا يا معلم؟! إنه عمل يحسدني عليه مئات من التعساء في حينا! - ولماذا تركك عمك؟ - ابن عمي حسن كبر وهو أحق بمرافقة عمي في تجواله، ورعي الغنم خير من التسول!
ولم يكن يوم يمر دون أن يزور معلمه؛ كان يحبه ويسعد بأحاديثه، ووجد فيه رجلا محيطا بأخبار حارته، حاضرها وماضيها، ويعرف ما يتغنى به شعراء الرباب وأكثر، ويعرف أيضا ما يتجاهلونه أحيانا. وكان يقول ليحيى: «إني أرعى أغناما من كل حي، عندي غنم لجبل وأخرى لرفاعة وثالثة للموسرين من حينا، ومن عجب أنها جميعا ترعى في إخاء لا ينعم بمثله أصحابها القساة من أولاد حارتنا!» وقال له أيضا: «كان همام راعيا. ومن الذين يحتقرون الرعاة؟! إنهم متسولون وعاطلون وتعساء، وهم في الوقت نفسه يحترمون الفتوات، وما الفتوات إلا لصوص فجرة وسفاكو دماء! سامحكم الله يا أولاد حارتنا!» ومرة قال له في دعابة: إني فقير قانع، لم تمتد يدي بالأذى لإنسان، حتى غنمي لا تلقى مني إلا المودة، أفلا ترى أنني مثل رفاعة؟
فرمقه الرجل باستنكار وقال: رفاعة؟! أنت مثل رفاعة؟! رفاعة قضى عمره في تخليص إخوانه من العفاريت كي تخلص لهم السعادة!
ثم ضحك العجوز واستدرك قائلا: وأنت شاب مولع بالنساء، ترصد عند المغيب فتيات الخلاء!
فابتسم قاسم متسائلا: وهل في ذلك من عيب يا معلمي؟ - أنت وشأنك، ولكن لا تقل إنك مثل رفاعة!
فتأمل قوله مليا ثم قال: وجبل ألم يكن كرفاعة من أبناء حارتنا الطيبين؟ كان كذلك يا معلمي، وقد أحب وتزوج واستخلص حق آله في الوقف ووزعه بالعدل.
فقال يحيى بحدة: لكنه جعل من الوقف غايته!
فتفكر الشاب قليلا ثم قال بصراحة: بل حسن المعاشرة والعدل والنظام أيضا كانت غاياته.
فتساءل يحيى في استياء: إذن فأنت تفضل جبل على رفاعة؟
فامتلأت العينان السوداوان بالحيرة، وتردد طويلا، ثم قال: كلاهما كان رجلا طيبا، وما أقل الطيبين في حارتنا! أدهم وهمام وجبل ورفاعة، أولئك هم كل حظنا من الطيبة، أما الفتوات فما أكثرهم!
فقال يحيى في أسى: وأدهم مات كمدا، وهمام قتل، ورفاعة قتل!
أولئك هم الطيبون حقا من أهل الحارة. سيرة عطرة ونهاية مؤسفة. هكذا كان يناجي نفسه وهو جالس في ظل الصخرة الكبيرة. وانبعثت من صدره رغبة حارة في أن يكون مثلهم. أما الفتوات فما أقبح فعالهم. وداخله حزن غامض وساوره قلق. وقال لنفسه ليهدهد خاطره: كم شهدت هذه الصخرة من أحداث وأناس، كغرام قدري وهند، ومقتل همام، ولقاء جبل والجبلاوي، وحديث رفاعة وجده، ولكن أين الأحداث؟ وأين الأناس؟ إن الذكرى الطيبة تبقى وهي أثمن من قطعان المعز والضأن! وشهدت أيضا جدنا العظيم وهو يجوب هذه الآفاق وحده، يمتلك ما يشاء ويرهب الأشقياء. ترى كيف حاله في عزلته؟
هل ما زال يعقل أم خرف؟ وهل يذهب ويجيء أم أقعده الكبر؟ وهل يدري بما يقع حوله أم عن كل شيء ذهل؟ وهل يذكر أحفاده أم نسي نفسه؟
وعند الأصيل نهض ثم تمطى متثائبا. وتناول عصاه وهو يصفر صفيرا منغما، ثم لوح بعصاه ونعق بالغنم فمضت تتجمع وتتحرك قافلتها نحو العمران. وبدأ يشعر بالجوع ولم يكن تناول في نهاره إلا سردينة ورغيفا، ولكن عشاء طيبا ينتظره في بيت عمه. وحث السير حتى بدا له أول ما بدا من بعيد البيت الكبير بأسواره العالية ونوافذه المغلقة ورءوس أشجاره. ترى ما شكل الحديقة التي يتغنى بها الشعراء والتي مات أدهم حسرة عليها؟ ولدى اقترابه من الحارة ترامت إلى مسامعه الضوضاء. ومضى بحذاء السور الكبير إلى الداخل والمغيب يضفي على الجو سمرته. وشق طريقه بين جماعات من الغلمان يلعبون ويتقاذفون بالطين، وملأت أذنيه نداءات الباعة وأحاديث النساء وسخريات الساخرين وشتائمهم، واستغاثات المجذوبين وجرس عربة الناظر، على حين أفعم أنفه برائحة المعسل النافذة، والزبالة العطنة، والتقلية المثيرة. وعرج إلى الربوع بحي آل جبل يعيد إليها أغنامها، كذلك فعل بحي آل رفاعة، فلم يبق لديه إلا نعجة واحدة، تملكها ست قمر، السيدة الوحيدة التي تملك مالا في حي الجرابيع. وكانت تقيم في بيت مكون من دور واحد ذي حوش متوسط تتوسطه نخلة وفي ركنه الأقصى شجرة جوافة. ودخل الحوش سائقا أمامه «نعمة»، فصادف في طريقه الجارية سكينة بشعرها المفلفل الذي وخطه المشيب، فحياها فردت تحيته بابتسامة وسألته بصوت نحاسي: كيف حال نعمة؟
فأعرب لها عن إعجابه بالنعجة، وتركها لها، ومضى في سبيله، وإذا بصاحبة البيت والنعجة تدخل الحوش عائدة من الحارة. بدت أمامه في ملاءة لف حوت جسمها المليء، وطالعته من برقعها عينان سوداوان ينديان بالحنان. تنحى جانبا وهو يغض بصره فقالت له برقة مهذبة: مساء الخير. - مساء الخير يا ستي.
وتمهلت المرأة في سيرها وهي تتفحص نعمة، ثم نظرت نحوه، وقالت: نعمة تسمن يوما بعد يوم والفضل لك!
فقال متأثرا من نظرتها الحنونة قبل كلماتها الطيبة: الفضل للمولى ولرعايتك.
والتفتت ست قمر نحو سكينة وقالت: أحضري له عشاء!
فرفع يديه بالشكر إلى رأسه وقال: خيرك سابق يا ستي.
وفاز بنظرة أخرى وهو يحييها مودعا، ثم ذهب. ذهب شديد التأثر برقتها وعطفها، كحاله كلما أسعده الحظ بلقائها. وذلك عطف لم يعرف مثله إلا فيما يسمع أحيانا عن عطف الأمهات الذي لم يجربه. ولو امتد العمر بأمه لكانت اليوم في مثل عمر هذه السيدة الأربعينية. وكم بدا هذا العطف عجيبا في حارته التي تتباهى بالقوة والعنف. وليس أعجب منه إلا جمالها المحتشم وما ينفخه في روحه من بهجة غامرة. ليست كذلك مغامرات الخلاء المحرقة، بجوعها الملتهب الأعمى وشبعها الخامد المكتئب.
وهرول نحو دار عمه ملقيا عصاه على كتفه، لا يكاد يرى ما بين يديه من شدة انفعاله. وجد أسرة عمه مجتمعة في الشرفة المطلة على حوش الربع تنتظره. جلس مع ثلاثتهم حول الطبلية وقد أعد عليها عشاء من طعمية وكراث وبطيخ. وكان حسن في السادسة عشرة من عمره، طويل القامة، متين البناء حتى حلم عم زكريا بأن يراه يوما فتوة الجرابيع. ولما انتهى العشاء رفعت المرأة الطبلية وغادر عم زكريا الربع، ولبث الصديقان في الشرفة حتى ترامى إليهما صوت من الحوش ينادي: يا قاسم.
فقام الشابان وقاسم يجيبه: نحن قادمان يا صادق.
وتلقاهما صادق ببشر متألق، وكان مقاربا لقاسم في سنه وطوله ولكنه أنحل منه عودا. وكان يعمل مساعدا لمبيض النحاس في أول دكان بحي الجرابيع فيما يلي الجمالية. مضى الأصدقاء إلى قهوة دنجل، وطالعهم لدى دخولهم الشاعر طازة متربعا على أريكته في الصدر، على حين جلس سوارس على كثب من مجلس دنجل عند المدخل، فاتجهوا نحو الفتوة وصافحوه في خضوع على رغم ما يعتز به قاسم وحسن من قرابته. واتخذوا مجلسهم على أريكة واحدة وسرعان ما جاء لهم صبي القهوة بطلباتهم المألوفة. وكان قاسم مغرما بالجوزة والشاي المنعنع. وإذا بسوارس يتفحص قاسم بنظرة ازدراء وتساءل بغلظة: ما لك يا ولد متأنقا كالبنت؟
فتورد وجه قاسم حياء وقال في نبرة المعتذر: ليس في النظافة ما يعيب يا معلم!
فقطب في استياء وقال: لكنها في مثل سنك قلة أدب!
وساد الصمت في القهوة كأن روادها وأدواتها وجدرانها تنصت لكلمات الفتوة. ولحظ صادق صاحبه بعطف لما يعلم عن رقة مشاعره. أما حسن فأخفى وجهه في قدح الزنجبيل حتى لا يكتشف فيه الفتوة الغضب. وتناول طازة الرباب، فانبعثت من أوتارها الأنغام، وتتابعت التحيات لرفعت الناظر ولهيطة الفتوة وسوارس سيد الحي، ومضى الشاعر يقول: «وخيل إلى أدهم أنه يسمع وقع أقدام؛ أقدام بطيئة وثقيلة استثارت ذكريات غامضة كرائحة زكية مؤثرة تستعصي على الإدراك والتحديد. حول وجهه نحو مدخل الكوخ فرأى الباب يفتح، ثم رآه يمتلئ بشيء كجسم هائل؛ حملق في دهش، وأحد بصره في أمل يكتنفه يأس، وندت عنه آهة عميقة، وغمغم متسائلا: أبي؟!
وخيل إليه أنه يسمع الصوت القديم وهو يقول: مساء الخير يا أدهم.
فاغرورقت عيناه، وهم بالقيام فلم يستطع ووجد غبطة وبهجة لم يجدهما منذ أكثر من عشرين عاما.»
67
قالت سكينة الجارية: انتظر يا قاسم، عندي شيء لك.
فوقف قاسم حيث ربط النعجة بجذع النخلة، وقف ينتظر الجارية التي ذهبت إلى الداخل، وكان قلبه يخفق، وحدثته نفسه بأن الخير الذي وعد به صوت الجارية إنما يجيء من خير أنبل في قلب صاحبة الدار. ووجد تشوفا عميقا إلى أن يرى نظرتها أو يسمع صوتها؛ ليبرد بالبهجة جسده الذي احترق في الخلاء طيلة النهار. وعادت سكينة بلفافة فأعطته إياها وهي تقول: فطيرة بالهنا والشفا!
فتلقاها بيديه قائلا: اشكري عني السيدة الكريمة.
فجاءه صوتها من وراء النافذة وهي تقول برقة: الشكر للمولى يا ابن الطيبين.
فرفع بالشكر يده من دون بصره ومضى. وردد قولها: «يا ابن الطيبين» في سعادة مخدرة. لم يسمع راعي الغنم قولا كهذا من قبل. ومن قائلته؟ السيدة المحترمة في حيه البائس! وألقى نظرة ودية على الحارة المسربلة بالمغيب، وقال لنفسه: «على رغم تعاسة حارتنا فهي لا تخلو من أشياء تستطيع إذا شاءت أن تبعث السعادة في القلوب المتعبة!» وانتبه من حلمه منزعجا على صوت يصرخ: «نقودي .. نقودي سرقت»! رأى رجلا معمما يهرول في جلباب أبيض فضفاض نحو داخل الحارة قادما من أول حيهم. وتحولت الحارة نحو الرجل الصارخ، فجرى نحوه الصغار، واشرأبت أعناق الباعة والجالسين بالأبواب، وأطلت الرءوس من النوافذ، وارتفعت أوجه من تحت الأرض خلال كوات البدرومات، وخرج رواد المقاهي، وأحيط بالرجل من كل ناحية. ورأى قاسم رجلا قريبا منه، يحك ظهره بعود خشبي من طوق جلبابه، ويتابع المنظر بعينين كليلتين، فسأله عن الرجل قائلا: من الرجل؟
فأجاب ويده لا تمسك عن الحك: منجد كان يعمل في بيت الناظر!
واتجه نحو الرجل سوارس؛ فتوة الجرابيع، وحجاج؛ فتوة آل رفاعة، وجلطة؛ فتوة آل جبل، وسرعان ما أمروا الناس بالابتعاد فتراجعوا خطوات بلا تردد. وقالت امرأة من نافذة ربع في حي آل رفاعة: عين أصابت الرجل!
فقالت امرأة أخرى من نافذة بأول ربوع آل جبل: صدقت، ما من أحد إلا وحسده على ربحه المنتظر من تنجيد فرش الناظر، اللهم اكفنا شر العين.
فقالت امرأة ثالثة واقفة أمام باب بيت وهي تفلي رأس غلام: وكان يا عيني يضحك وهو خارج من بيت الناظر، لم يكن يدري أنه سيصرخ ويبكي، قطعت الفلوس وقرفها!
وكان الرجل يصيح بأعلى صوته: سرق كل ما كان معي من نقود، أجرة عمل أسبوع، وأخرى كانت في جيبي، نقود البيت والدكان والأولاد، عشرون جنيها وقروش، الله يخرب بيت أولاد الحرام!
وقال جلطة فتوة آل جبل: هس، الكل يسكت، اسكتوا يا غنم، سمعة الحارة في الميزان، وأي عيب في النهاية سيلبس الفتوات؟!
فقال حجاج فتوة رفاعة: وربك لن يقع عيب، ولكن من أدرانا أنه فقد نقوده في حارتنا؟
فهتف المنجد بصوت مبحوح: علي الطلاق ما سرقت إلا في حارتكم، تسلمتها من بواب حضرة الناظر، وتحسست صدري في آخر الحارة فلم أجد لها أثرا.
وارتفعت الأصوات فصاح حجاج: اسكتوا يا مواشي! واسمع يا رجل، أين عرفت أن نقودك ضاعت؟
فأشار الرجل إلى آخر حي الجرابيع وقال: أمام دكان مبيض النحاس، لكني والحق يقال لم يقترب مني أحد هناك.
فقال سوارس: إذن سرق قبل أن يدخل حينا!
فقال حجاج فتوة رفاعة: كنت في القهوة حين مروره فلم أر أحدا في حينا يقترب منه.
فصاح جلطة بحنق: ليس في آل جبل لص، إنهم أسياد هذه الحارة!
فأجابه حجاج غاضبا: حاسب يا معلم جلطة، عيب قولك أسياد الحارة! - لا ينكر ذلك إلا مكابر!
فصاح حجاج بصوت كالرعد: لا توقظ عفاريتي! ملعون دين قلة الذوق.
فصاح جلطة بنفس القوة: ألف لعنة، ألف لعنة على قلة الذوق التي لا توجد في حينا!
وهنا قال المنجد بصوت باك: يا رجال! نقودي فقدت في حارتكم، كلكم أسياد على العين والرأس، لكن أين نقودي؟ يا خراب بيتك يا فنجري!
فقال حجاج بتحد: عليكم بالتفتيش، فلنفتش كل جيب، كل رجل، كل امرأة، كل ولد، كل ركن.
فقال جلطة بازدراء: فتشوا، وستسود وجوه غير وجوهنا!
فقال حجاج: خرج الرجل من بيت الناظر فمر أول ما مر بحي آل جبل، فلنبدأ بالتفتيش في حي آل جبل!
فشخر جلطة وقال: لن يكون هذا وجلطة حي، يا حجاج اذكر من تكون أنت ومن أكون أنا؟ - يا جلطة، إن ندوب الطعنات في جسدي أكثر من شعره! - أما أنا فلا مكان للشعر في جسدي! - اللهم أبعدك يا شيطان! - إلي يا شياطين الأرض جميعا!
وعاد فنجري يصيح: يا هوه، نقودي، ألا يسيئكم أن يقال: إني سرقت في حارتكم؟!
وغضبت امرأة فصاحت به: غور يا وجه البومة، ستهلك الحارة بسببك!
وإذا بصوت يتساءل: ولماذا لا تكون النقود قد سرقت في حي الجرابيع وأكثرهم لصوص وشحاذون؟
فصاح سوارس: لصوصنا لا يسرقون في حارتنا! - ومن أدرانا بذلك؟
فقال سوارس بعينين محمرتين من الغضب: لا حاجة بنا إلى مزيد من قلة الأدب، سيكشف التفتيش عن اللص، وإلا فقولوا على حارتنا السلام!
ونادى أكثر من صوت: ابدءوا بحي الجرابيع!
فصاح سوارس: أي خروج عن الترتيب الطبيعي للتفتيش سيلقى نبوتي في وجهه.
ورفع سوارس نبوته فانحاز إليه رجاله، وفعل حجاج مثله، وتراجع جلطة إلى حيه وفعل مثلهما، فلاذ المنجد بباب الربع وهو يبكي، وكان الليل على وشك الهبوط. وتوقع الجميع أن تبدأ معركة دامية. وإذا بقاسم يندفع إلى وسط الحارة، ويصيح بأعلى صوته: انتظروا، لن يكشف الدم عن النقود المفقودة، وسيقال في الجمالية والدراسة والعطوف إن داخل حارة الجبلاوي مسروقا ولو احتمى بناظرها وفتواتها!
فتساءل أحد رجال جبل: ماذا يريد راعي الغنم؟
فقال قاسم بسماحة: عندي حيلة ترد بها النقود إلى صاحبها دون عراك!
فجرى المنجد نحوه هاتفا: «أنا في عرض دينك!» فقال قاسم يخاطب الجميع: سترد النقود إلى صاحبها دون أن يفتضح أمر السارق.
وساد الصمت، وتركزت الأعين في قاسم باهتمام شديد، فعاد يقول: فلننتظر حتى يستحكم الظلام وهو قريب. لن تضاء شمعة واحدة في الحارة، ثم نسير جميعا من أول الحارة إلى آخرها كي لا تنحصر الشبهة في حي دون آخر، وفي أثناء ذلك سيجد حائز النقود فرصة للتخلص منها في الظلام من غير أن يفتضح أمره، فنعثر على النقود وتنجو الحارة من شر العراك.
وشد المنجد على ذراع قاسم في ضراعة يائس وهتف: «نعم الحل! اقبلوه جبرا لخاطري.» وصاح صوت: «حل معقول يا جدعان!» وصاح آخر: «هذه فرصة للسارق كي ينجو وينجي الحارة.» وزغردت امرأة طويلا. ونقل الناس أعينهم بين الفتوات الثلاثة وهم بين الرجاء والخوف. وأبى أي فتوة أن يكون البادئ بإعلان القبول علوا واستكبارا، فلبث أهل الحارة يتساءلون: هل يغلب العقل أو تتلاطم النبابيت وتسيل الدماء. وإذا بصوت يعرفه الجميع يصيح: هوه!
فانجذبت الرءوس نحو مصدره، حيث وقف لهيطة فتوة الحارة غير بعيد من بيته. وساد الصمت، وقد تعلقت بما سيقول القلوب جميعا. وقال الرجل بازدراء: اقبلوا الحل يا غجر، لولا غباوتكم ما كان منقذكم راعي غنم.
وسرت في القوم همهمة ارتياح، وتعالت زغاريد؛ فاشتد خفقان قلب قاسم، ولحظ دار قمر وهو موقن بأن عينيها السوداوين تراقبانه من وراء أحد الشباكين المطلين على الحارة، فداخله زهو سعيد، وشعر بلذة فوز كبير لا عهد له به. وبدا الجميع وهم يترقبون الظلام، فينظرون إلى السماء تارة وينظرون صوب الخلاء تارة أخرى، وتابعوا هبوطه درجة فدرجة؛ ومضت المعالم تتوارى والوجوه تختفي والناس ينقلبون أشباحا. أما الممران حول البيت الكبير المفضيان إلى الخلاء فقد أغلقتهما الظلمة. ودبت الحركة بين الأشباح فمشوا نحو البيت الكبير ثم قطعوا الحارة مهرولين حتى الجمالية، ثم تفرقوا كل إلى حيه. عند ذاك صاح لهيطة بصوته الآمر: نوروا!
وكان أول ما لاح من نور في دار قمر بحي الجرابيع، ثم أضيئت مصابيح عربات اليد، ثم كلوبات المقاهي، فعادت الحارة إلى الوجود. وراح قوم يتفحصون الأرض على ضوء كلوب، حتى تعالى صوت قائلا: ها هي ذي المحفظة!
وجري فنجري من فوره نحو الضوء فتناول المحفظة، وعد نقوده، ثم هرول لا يلوي على شيء نحو الجمالية مخلفا وراءه ضجة عالية من الضحكات والزغاريد. ووجد قاسم نفسه محط الأنظار، ومركز استقبال للتهاني والمزاح، ومحور تعليقات شتى تساقطت عليه كالورد. وعندما ذهب قاسم وحسن وصادق إلى قهوة الجرابيع ذلك المساء استقبله سوارس بابتسامة ترحيب وقال: جوزة على الحساب لقاسم.
68
مورد الوجه، متألق النظرات، صافي القسمات، مبتهج القلب، دخل حوش قمر ليأخذ النعجة وهو يقول: «يا ساتر.» وراح يفك رباط النعجة في بئر السلم، وإذا بصرير باب الحريم يسمع، وهو يفتح وصوت الست تقول: صباح الخير.
فقال بفؤاده ولسانه: صبحك المولى بالسعادة يا ستي. - صنعت أمس خيرا كبيرا لحارتنا.
فقال وروحه ترقص طربا: الله هو الهادي.
فقالت في نغم وشى بإعجابها: علمتنا أن الحكمة أجل من الفتونة.
وعطفك أجل من الحكمة، هكذا قال لنفسه، ثم قال لها: ربنا يكرمك.
فنم صوتها عن ابتسامة وهي تقول: رأيناك ترعى أولاد الحارة كما ترعى الغنم، صحبتك السلامة.
ذهب بنعمة، وكلما مر بربع انضم إلى قافلته ماعز أو ماعزة أو جدي أو تيس. وكان يلقى بالترحاب، حتى الفتوات ردوا عليه تحياته وكانوا يتجاهلونها من قبل. واخترق الممر الملاصق لسور البيت الكبير وراء طابور طويل من الأغنام في طريقه إلى الخلاء. واستقبل شمسا لافحة تتربع فوق الجبل، وجوا يزفر أنفاسا حارة في الصباح المشرق. وتراءى عند سفح الجبل بعض الرعاة، ومر رجل مهلهل الثياب ينفخ في ناي، وانطلقت في القبة الصافية حدآت مدومة. وفي كل نسمة استنشق صفاء نقيا، وخال الجبل الضخم يحوي كنوزا من الآمال الواعدة. وسرح الطرف في الخلاء بارتياح عجيب حتى استخفه طرب جواد فراح يغني:
يا حلو يا زين يا صعيدي،
اسمك منجوش على إيدي.
وجالت عيناه بين صخرة قدري وهند وبين البقاع التي جرت بها مصارع همام ورفاعة، ولقاء الجبلاوي وجبل! هنا الشمس والجبل والرمال والمجد والحب والموت، وقلب يبزغ فيه الحب لكنه يتساءل عن معنى هذا كله، ما مضى منه وما هو آت، عن الحارة ذات الأحياء المتخاصمة والفتوات المتنابذين، عن الحكايات التي تروى في كل مقهى على شكل.
وقبيل الظهيرة ساق أغنامه نحو سوق المقطم ثم مضى إلى كوخ المعلم يحيى وجلس. وهتف به العجوز: ما هذا الذي يقال عما فعلت أمس بحارتنا؟!
ودارى قاسم حياءه باحتساء الشاي، فعاد المعلم يقول: كان الأفضل أن تتركهم يتطاحنون حتى يهلكوا جميعا.
فقال دون أن يرفع عينيه: ما تقول هذا إلا بلسانك.
فقال يحيى محذرا: تجنب المعجبين خشية أن تستفز الفتوات. - وهل يستفز الفتوات أمثالي؟
فتنهد العجوز قائلا: ومن كان يتصور أن يغدر غادر برفاعة؟
فقال قاسم بدهشة: وما وجه التشابه بين رفاعة العظيم وبيني أنا؟
وعندما هم بالعودة ودعه العجوز قائلا: احتفظ دائما بحجابي.
وعند العصر كان يجلس في الظل الممدود وراء صخرة هند، وإذا به يسمع صوت سكينة وهي تنادي: «نعمة » فوثب قائما ودار حول الصخرة فرأى الجارية واقفة عند رأس النعجة تداعب ذقنها. حياها بابتسامة فقالت بصوتها النحاسي: أنا ذاهبة في مشوار في الدراسة فمررت من هنا اختصارا للطريق.
فقال قاسم: لكنه طريق شديد الحرارة.
فقالت ضاحكة: لذلك سأستريح قليلا في ظل الصخرة.
وجلسا متقاربين في الظل حيث ترك عصاه. وقالت سكينة: عندما شهدت صنيعك بالأمس آمنت بأن أمك دعت لك من قلبها قبل وفاتها.
فتساءل مبتسما: وأنت ألا تدعين لي؟
فقالت وهي تداري نظرة ماكرة: لمثلك يدعي ببنت الحلال!
فقال ضاحكا: ومن ذا الذي يرضى براعي غنم؟! - الحظ يصنع العجائب، وأنت اليوم بمنزلة الفتوات من دون حاجة إلى سفك دماء! - أقسم إن لسانك أحلى من الشهد!
فرمقته بنظرة من عينيها الذابلتين وقالت: هل أدلك على طريق عجيب؟
فتولاه انفعال طارئ وهو يقول: نعم.
فقالت بصراحة زنجية: جرب بختك واخطب سيدة حينا!
وبدا كل شيء غير نفسه. وتساءل: من تعنين يا سكينة؟ - لا تتجاهل ما أعني، فليس في حينا إلا سيدة واحدة. - ست قمر؟! - من دون غيرها؟
فقال بصوت متهدج: كان زوجها من الأكابر، ولست إلا راعي غنم! - لكن الحظ إذا ضحك ضحك معه كل شيء حتى الفقر.
وتساءل وكأنما يسائل نفسه: ألا يغضبها طلبي؟
قامت سكينة وهي تقول: لا يدري أحد متى ترضى النساء ومتى تغضب، فتوكل على الله.
ثم وهي تمضي: فتك بعافية.
رفع رأسه نحو السماء وأغمض عينيه كأنما دهمه نعاس.
69
حملق عم زكريا في وجه قاسم بذهول؛ ومثله فعلت زوجته، ومثلهما فعل حسن، وهم يستريحون في الدهليز أمام شقتهم عقب العشاء. وقال العم: قل كلاما غير هذا الكلام، عرفتك مثال العقل والكرامة على رغم فقرك، وعلى رغم فقرنا، فماذا انتاب عقلك؟
وتجلى في عيني زوجة عمه نهم الاستطلاع فقال قاسم: لدي ما شجعني، فجاريتها هي التي فتحت لي الباب! - جاريتها؟!
ندت الكلمة عن زوجة عمه وصرخت عيناها بطلب المزيد. أما العم فانطلقت من فيه ضحكة مقتضبة أكدت حيرته، ثم قال في ارتياب: لعلك أسأت فهمها!
فقال قاسم بهدوء يغطي به على انفعاله: كلا يا عمي.
فهتفت زوجة عمه: فهمت! إذا قالت الجارية فقد قالت السيدة!
وقال حسن مدفوعا بحبه لابن عمه الذي لا يخفى على أحد: وقاسم رجل ولا كل الرجال!
فهز عم زكريا رأسه وغمغم: «بطاطة العمدة .. بطاطة الفرن». ثم قال: لكنك لا تملك مليما.
فقالت زوجته: إنه يرعى نعجتها فهي لا تجهل ذلك .. (ثم وهي تضحك) انذر يا قاسم ألا تذبح نعجة في حياتك إكراما لنعمة!
وقال حسن في تفكير: عم عويس البقال هو عم ست قمر، أغنى رجل في حينا، سيكون نسيبنا، كما كان سوارس قريبنا، ما أجمل ذلك!
فقالت أمه: ست قمر على قرابة مع أمينة هانم حرم الناظر. كان المرحوم زوجها قريبا للهانم.
فقال قاسم بقلق: هذا مما يزيد الأمر عسرا!
وإذا بعم زكريا يقول بحماس طارئ كأنما قدر ما يعود عليه من رفعة بالنسب المرتقب: تكلم كما تكلمت يوم واقعة المنجد، إنك شجاع حكيم، وسنذهب معا إلى السيدة؛ لنفاتحها في الأمر ثم نكلم عويس؛ إذ إننا لو بدأنا بعويس لأرسلنا إلى مستشفى المجاذيب!
وجرت الأمور كما رسم عم زكريا؛ لذلك جلس عم عويس في حجرة الاستقبال بدار قمر ينتظر مجيئها وهو يعبث بشاربه الغزير مداراة لاضطراب خاطره. وجاءت قمر في ثوب محتشم مغطاة الرأس بمنديل بني فصافحته بأدب وجلست وفي عينيها نظرة جمعت بين الهدوء والتصميم. قال عويس: حيرتني يا بنتي! بالأمس رفضت يد عم مرسى وكيل أعمالي بحجة أنه غير كفء لك، واليوم ترضين براعي غنم؟!
فأجابت ووجهها يتورد حياء: عمي، إنه رجل فقير حقا ولكن ليس من أحد في حينا إلا ويشهد له ولأهله بالطيبة!
فقال عم عويس مقطبا: نعم ولكن على نحو ما نشهد لخادم بالأمانة أو النظافة، والكفاءة في الزواج شيء آخر.
فقالت قمر بأدب: دلني يا عمى على رجل مهذب مثله في حارتنا، دلني ولو على رجل واحد لا يباهي بعمل من أعمال البلطجة أو الخسة أو الوحشية؟!
وكاد الرجل أن ينفجر غاضبا لولا تذكره بأنه لا يخاطب ابنة أخيه فحسب ولكن المرأة التي تسهم في تجارته بمال غير قليل، لذلك قال برجاء: قمر، لو شئت زوجتك من أي فتوة في الحارة، لهيطة نفسه يودك لو قبلت أن تقاسميه مع زوجاته. - لا أحب هؤلاء الفتوات! ولا هذا النوع من الرجال. كان أبي رجلا طيبا مثلك، وكم قاسى من عنتهم حتى أورثني كراهتهم، أما قاسم فهو رجل مهذب، لا ينقصه إلا المال وعندي منه الكفاية.
فتنهد عويس، ثم نظر إليها طويلا، ثم قال برجاء أخير: إني مبلغك رسالة أمينة هانم حرم حضرة الناظر، قالت لي: قل لقمر أن تعقل، وأنها مقدمة على غلطة ستجعل منا أحدوثة الحارة.
فقالت قمر بحدة: أنا لا تهمني أوامر الهانم، ويبدو للأسف أنها لا تعرف من هم الذين تجعلهم فعالهم أحدوثة في الحارة. - يا بنت أخي إنها تود لك الكرامة. - يا عمي لا تصدق أنها تهتم بنا أو حتى تذكرنا، ومنذ وفاة المرحوم من عشرة أعوام لم أجر لها على خاطر.
فتردد الرجل مليا في حرج ظاهر، ثم قال في تأفف: إنها تقول أيضا: إنه ليس من العقل أن تتزوج امرأة من رجل غير كفء لها وبخاصة إذا كان لظرف ما يتردد على بيتها!
فانطلقت قمر واقفة بوجه مصفر من الغضب وهتفت: قطع لسانها، لقد ولدت ونشأت وتزوجت وترملت في هذه الحارة، الكل يعرفني، وسيرتي كالعطر على كل لسان. - طبعا يا بنتي طبعا! ليس الأمر إلا أنها تشير إلى ما قد يقال. - عمي، دعنا من الهانم فلا يجيء منها إلا وجع الدماغ، إني أخبرك وأنت عمي بأنني قبلت الزواج من قاسم، وسيكون ذلك برضاك وحضورك!
وصمت عويس متفكرا. لم يكن في الوسع منعها، ولا من الهين إغضابها للحد الذي تسحب عنده أموالها من تجارته. وراح ينظر بين قدميه في ارتباك وحزن. وفتح فاه ليقول شيئا ولكن لم تخرج منه غير غمغمة مبهمة. ولبثت قمر تنظر إليه في ثبات وصبر.
70
وهب عم زكريا ابن أخيه بضعة جنيهات - اقترض أكثرها - ليصلح بها شأنه قبل الزواج. وقال العم: لو كنت قادرا لغطيتك بالمال يا قاسم، كان أبوك أخا كريما، ولا أنسى فضله علي يوم زواجي.
وابتاع قاسم جلبابا، وثيابا داخلية، ولاسة مزركشة ومركوبا فاقع الاصفرار، وعصا خيزران، وحق نشوق. وذهب في أعقاب الفجر إلى الحمام، فاستسلم للبخار، وغاص في المغطس، ثم مضى إلى المدلك، ثم استحم، ثم تبخر، ثم تمدد في الخلوة يحتسي الشاي ويحلم بالهناء.
أما قمر فتكفلت بالفرح؛ أعدت سطح الدار لاستقبال المدعوات، ودعت عالمة معروفة واستأجرت أمهر طاه في المنطقة. وأقيم في الحوش سرادق للمدعوين والمطرب. وجاء أهل قاسم وأصحابه ورجال الحي وعلى رأسهم المعلم سوارس. ودارت أقداح البوظة وعشرون جوزة حتى غامت الكلوبات بالدخان وسطعت رائحة الحشيش المفتخر. وتجاوبت الأركان بالزغاريد والتهليل والقهقهة. وراح عم زكريا يقول في فخفخة من دارت الخمر برأسه: نحن أسرة كريمة أصلها عريق!
فكتم عم عويس غيظه وهو يجلس بين سوارس وزكريا وقال باقتضاب: حسبكم قرابتكم للمعلم سوارس!
فصاح زكريا بقوة: المعلم سوارس ألف مرة!
فحيا التخت سوارس من فوره، حتى جاء الرجل بابتسامة ولوح بيده. وكان الفتوة فيما مضى يضجر من تمسح زكريا بقرابته البعيدة منه، ولكنه أخذ يغير من مشاعره منذ علم بزواج قاسم من قمر، بل قرر فيما بينه وبين نفسه ألا يعتق قاسم من الإتاوة. وعاد زكريا يقول: وقاسم شاب محبوب، من في حارتنا لا يحبه؟
وكأنما قرأ شيئا من الاستياء في نظرة سوارس فأردف يقول: لولا حكمته يوم السرقة ما وجدت رءوس رفاعة وجبل من يدفع عنها نبوت فتوتنا سوارس!
وانبسطت أسارير سوارس وصدق عويس على قول زكريا قائلا: صدقت ورب السموات والأرض.
وغنى المطرب: زمان الوصل قرب بالتهاني.
وازداد قاسم اضطرابا، ففطن صادق إلى حاله كشأنه دائما فقدم إليه قدحا جديدا من الشراب وما زال به حتى أفرغه في جوفه حتى الثمالة، وكانت الجوزة ما تزال في يده. وأفرط حسن في الشراب حتى تراقصت تهاويل السرادق أمام عينيه. ولاحظ عم عويس ذلك فخاطب عم زكريا قائلا: حسن يشرب أكثر مما يليق بسنه.
فوقف زكريا والقدح بيده وقال لابنه وكأنما ينصحه: يا حسن لا تشرب هكذا!
وترجم «هكذا» بإفراغ القدح في جوفه في ضجة من الضحك والانبساط فتلوى الغيظ في باطن عويس حتى قال لنفسه: «لولا حماقة ابنة أخي لكلفك ما شربت الليلة جميع ما تملك!»
وعند منتصف الليل دعي قاسم للزفة، فقصد المدعوون قهوة دنجل، وعلى رأسهم سوارس سيد الزفة وحاميها. كان الحي خارج الدار مكتظا بالغلمان والمتسولين والقطط التي تجمعت تلبية لرائحة المطبخ. وجلس قاسم بين حسن وصادق فحياهم دنجل قائلا لصبيه: يا ليلة الهنا، جوزة دنجل يا ولد للجدعان.
ثم إن كل موسر قدم جوزة على حسابه للجميع.
أما صادق فأخرج من صدره بلبوعة في حجم البلية أدارها بين أصبعيه تحت ضوء الكلوب وقال في أذن قاسم: معجونة بالهريسة ولها مفعول يا سلام!
فتناولها قاسم وأودعها فاه باسما وقد احمرت عيناه السوداوان من الشراب فعاد صادق يقول:
امضغ ثم استحلب!
وجاء المنشدون يتقدمهم حاملو المزامير والطبول، فوقف سوارس وقال بصوت آمر: لنبدأ الزفة.
تقدم كعبورة الزفة، في جلباب على اللحم، يرقص حافيا ومركزا على قمة رأسه نبوتا. وخلفه سار المنشدون، فسوارس، ثم موكب العريس بين صاحبيه، وأحاط بالجميع حملة المشاعل. وراح المنشد يغني بصوت مليح:
الأولة آه من عيني دي،
والتانية آه من إيدي دي،
والتالتة آه من رجلي دي،
أصل اللي شبكتني مع المحبوب عيني دي،
لما سلمت عليه سلمت بإيدي دي،
وادي اللي ودتني للمحبوب رجلي دي.
وتعالت الآهات من الأفواه المخمورة المخدرة والموكب يشق طريقه إلى الجمالية، فبيت القاضي، فالحسين ثم الدراسة، والليل ينطوي في غفلة من السعداء. وعادت الزفة كما ذهبت في بهجة وانشراح فكانت أول زفة في الحارة تمر بسلام، فلا نبوت ارتفع ولا دم سال. وبلغ الطرب من زكريا منتهاه فتناول عصاه وراح يرقص. لعب بالعصا وتمايل في اختيال، وهز الرأس مرة والصدر أخرى كما هز الوسط. وصور بحركاته المرنة هيئة القتال وهيئة الوصال. ثم دار حول نفسه مؤذنا بحسن الختام بين التهليل والتصفيق.
عند ذاك انتقل قاسم إلى الحريم. رأى قمر جالسة عند ملتقى صفين من المدعوات، فاتجه نحوها يخوض أمواجا من الزغاريد. وتناول يدها فقامت، ثم سارا معا تتقدمهما راقصة كأنما تلقي عليهما الدرس الأخير، حتى احتوتهما حجرة العرس. وبإغلاق باب الحجرة انفصلا انفصالا كليا عن العالم الخارجي الذي سارع إليه الصمت عدا تهامس خفيف أو وقع أقدام. وفي لمحة عين مر قاسم بالفراش الوردي والأريكة الوثيرة والسجادة المنمنمة، أشياء لم تقع له في خيال، ثم استقر بصره على المرأة التي جلست تنزع الزينة عن رأسها. بدت فخيمة مليئة بضة مليحة ذات بهاء. كانت الجدران تنظر إليه متلألئة بالضياء، وكان يرى كل شيء من خلال اضطراب وجيشان وهناء زاد عن حده. اقترب منها بجلبابه الحريري وجسده ينفث حرارة خمرية ممزوجة بسطول حتى وقف أمامها ينظر من عل وهي غاضة البصر فيما يشبه الانتظار. وتناول وجهها بين راحتيه ثم هم بأن يقول شيئا لكنه فيما بدا عدل. وانحنى حتى اضطربت خصلات شعرها تحت أنفاسه، ثم لثم الجبين والخدين.
وسرت إلى أنفه رائحة بخور تسربت من عقب الباب، وترامى إلى سمعه صوت سكينة وهي تتلو رقية مبهمة.
71
أيام وليال مرت في محبة ومودة وراحة بال، فما أعذب السعادة في هذه الدنيا! لم يكن ليغادر الدار إلا استحياء أن يقال: إنه لا يغادر - منذ تزوج - الدار. ارتوى قلبه من أفانين المسرة حتى ثمل، وحظي بكل ما تمناه من الحنو والعطف والرعاية. كان يهوى النظافة فرأى منظرا مهندما، ووجد جوا معبقا بالبخور، وامرأة لا تطالعه إلا آخذة زينتها، مشرقة الوجه، بادية الود. وقالت له يوما وهما جالسان جنبا إلى جنب في حجرة الجلوس: أراك كالحمل الوديع، لا تطلب ولا تأمر ولا تزجر، وجميع ما في الدار ملك يديك!
فداعب خصلة من شعرها المصبوغ بالحناء وقال: بلغت حالا لا يطلب عندها شيء!
فشدت على يده بقوة وقالت: حدثني قلبي من بادئ الأمر بأنك خير الرجال في حينا لكنك لأدبك تبدو أحيانا كالغريب في دارك ، ألا تدري أن ذلك يؤلمني؟ - إنك تخاطبين رجلا نقله حظه السعيد من الرمال المحرقة إلى جنة هذا البيت السعيد.
فتظاهرت بالجد وإن غلبها الابتسام وقالت: لا تظن أنك ستلقى راحة في بيتي، ستحل اليوم أو غدا محل عمي في إدارة أملاكي، فهل تستثقل ذلك يا ترى؟
فضحك قائلا: إنه اللهو بالقياس إلى رعي الغنم.
وتولى إدارة أملاكها الموزعة بين حي الجرابيع والجمالية. وكانت معاملة السكان الشرسين تتطلب لباقة لكن مرونته عالجت الأمور بخير ما يمكن أن تعالج به. ولم يكن العمل يشغل من وقته إلا أياما كل شهر، وفيما عدا ذلك وجد فراغا لم يألفه من قبل. ولعل أكبر نصر أحرزه في حياته الجديدة كان اكتسابه لثقة عويس عم زوجته. أولاه من بادئ الأمر احتراما وعناية، وتطوع لمعاونته في بعض أعماله، حتى أنس الرجل إليه، وبادله ودا بود واحتراما باحترام. ولم يملك الرجل إلا أن قال له يوما في صراحة: حقا إن بعض الظن إثم! ألا تدري أنني كنت أظنك من برمجية حارتنا؟ وأنك ستستغل عاطفة ابنة أخي لتبتز أموالها فتبعثرها في ملذاتك أو تتزوج بها امرأة أخرى؟! ولكنك أثبت أنك رجل أمين حكيم، وأنها أحسنت الاختيار.
وفي قهوة دنجل كان صادق يضحك في سرور ويقول له: قدم لنا جوزة على الحساب كما ينبغي للأعيان أمثالك!
وكان حسن يقول له: لماذا لا تذهب بنا إلى الحانة؟
لكنه أجابهما جادا: لا مال لي إلا ما أستحقه نظير إدارة أملاك زوجتي أو مقابل خدمات أؤديها لعم عويس.
فتعجب صادق ثم قال ناصحا: المرأة المحبة لعبة في يد الرجل!
فقال قاسم غاضبا: إلا إذا كان الرجل محبا مثلها!
ثم وهو يحدجه بنظرة عتاب: أنت يا صادق كأهل حارتنا لا يرون في الحب إلا وسيلة للاستغلال!
فابتسم صادق في حياء وقال كالمعتذر: هكذا يفكر الضعفاء! لست في قوة حسن، ولا حتى في مثل قوتك أنت، فلا مطمع لي بحال في الفتونة، وفي حارتنا إما أن تكون ضاربا، وإما أن تكون مضروبا!
فغير قاسم من حدة نبرته كأنما قبل عذره وقال: يا لها من حارة عجيبة! صدقت يا صادق، إن حال حارتنا يبعث على الأسى!
فقال حسن باسما: آه لو كانت كما يشعر الناس نحوها في الخارج!
فقال صادق مصدقا لقوله: يقولون حارة الجبلاوي! حارة الفتوات المجدع!
فلاحت الكآبة في وجه قاسم، واختلس نظرة إلى مجلس سوارس في أول القهوة ليطمئن إلى أنهم بمنجاة من سمعه، وقال: كأنهم لا يسمعون عن تعاستنا! - الناس يعبدون القوة، حتى ضحاياها!
فتفكر قاسم مليا ثم قال: العبرة بالقوة التي تصنع الخير، كقوة جبل وقوة رفاعة، لا قوة البلطجية والمجرمين!
وكان الشاعر طازة يواصل حكايته قائلا: «وهتف به أدهم: احمل أخاك!
فقال قدري بصوت كالأنين: لا أستطيع. - إنك استطعت أن تقتله. - لا أستطيع يا أبي. - لا تقل «أبي» قاتل أخيه لا أب له، ولا أم له، ولا أخ له. - لا أستطيع.
فشد قبضته عليه وقال: على القاتل أن يحمل ضحيته.»
ثم تناول الشاعر الرباب وأخذ في الإنشاد. وعند ذاك قال صادق مخاطبا قاسم: اليوم أنت تحيا الحياة التي كان بها يحلم أدهم!
فبان الاحتجاج في وجه قاسم وقال: لكن يصادفني عند كل خطوة سبب من أسباب الكدر وتنغيص الصفو، وأدهم لم يحلم بالفراغ والرزق الموفور إلا باعتبارهما طريق السعادة الصافية.
ولاذ ثلاثتهم بالصمت مليا حتى قال حسن في براءة: هذه السعادة الصافية لا يمكن أن توجد أبدا! - فلاحت في عيني قاسم نظرة حالمة وقال: إلا إذا توافرت أسبابها للجميع!
وفكر في الأمر، في أنه يحظى بالمال والفراغ، ولكن تعاسة الآخرين تفسد عليه سعادته. وها هو ذا يؤدي الإتاوة لسوارس صاغرا. لذلك يود أن يشغل بالعمل فراغه، كأنما ليهرب من نفسه، أو يهرب من حارته القاسية. ولعل أدهم لو نال ما تمنى وهو على مثل حاله هذه لضاق بالسعادة ذرعا، ولتاقت للعمل نفسه.
وفي تلك الأيام طرأت أعراض غريبة على قمر، فقالت سكينة: إنها أعراض الوحم. ولم تكد قمر تصدق، كان أملها في الحبل حلما من الأحلام، لذلك استخفها الفرح، وامتلأ قلب قاسم بالغبطة حتى أذاع الخبر في كل ركن له فيه حبيب، فعلم به بيت عمه ودكان مبيض النحاس وبقالة عم عويس وكوخ المعلم يحيى. وغالت قمر في العناية بنفسها حتى قالت لقاسم بلهجة ذات معنى: ينبغي أن أتجنب أي مشقة.
فقال وهو يبتسم ابتسامة المدرك لما تعني: على سكينة أن تحمل عنك أعباء البيت، وعلي أن أتجمل بالصبر!
فقبلته قائلة في جذل الأطفال: أود أن أقبل الأرض شكرا!
وانطلق إلى الخلاء ليزور المعلم يحيى لكنه توقف عند صخرة هند، فمضى إلى ظلها وجلس. ورأى على مرمى البصر راعيا يرعى غنما فامتلأ قلبه بالعطف وتمنى لو يقول له: لا يسعد الإنسان بالفتونة وحدها، بل لا يسعد الإنسان بالفتونة إطلاقا. لكن أليس الأجدر أن يقول ذلك للفتوات من أمثال لهيطة وسوارس؟ ما أعطفه على أولاد حارته الذين يحلمون بالسعادة عبثا ثم سرعان ما تلقي الأيام بأحلامهم مع النفايات في أكوام الزبالة. لماذا لا ينعم بالسعادة المتاحة ويغمض العين عما حوله؟ لعل هذا التساؤل حير يوما جبل كما حير يوما آخر رفاعة. كان في وسعهما أن ينعما بالراحة ويخلدا إلى السكينة والسلام، فما سر هذا العذاب الذي يطاردنا؟ كان يتأمل وهو ينظر إلى السماء فوق الجبل، سماء صافية ما عدا قطعا صغيرة من السحب متفرقة كأوراق الورد الأبيض. وخفض رأسه فيما يشبه الإعياء فوقع بصره على شيء يتحرك، وضح أنها عقرب تسرع نحو جحر. ورفع عصاه بسرعة وهوى بها عليها فهرسها. وتفرس فيها مليا بتقزز، ثم قام ليواصل رحلته.
72
استقبل بيت قاسم حياة جديدة، شارك في فرحتها فقراء الحي، وسميت إحسان كأمه التي لم يرها. وبمولدها ألف البيت ألوانا جديدة من البكاء والقذارة والأرق، ولكنه ازداد بها غبطة ورضا. لكن لماذا يبدو الأب أحيانا شارد اللب والنظرة كأن هموما تتناوبه؟ شد ما ساورها لذلك القلق حتى سألته مرة: أليست الصحة على ما يرام؟ - بلي. - لكنك لست كعادتك!
فقال وهو يغض البصر: المولى أدرى بحالي.
تساءلت بعد تردد: هل بدا لك منا ما تكره؟
فقال بقوة: ليس هناك أحب إلي منك ولا حتى العزيزة الصغيرة!
فتنهدت قائلة: لعلها عين!
فقال باسما: لعلها!
فرقته وبخرته وهي تدعو له من صميم قلبها. واستيقظت ذات ليلة على بكاء إحسان فلم تجده إلى جانبها. ظنت لأول وهلة أنه لم يرجع بعد من سهرته في القهوة، ولكن لما كفت الصغيرة عن البكاء تنبهت المرأة إلى أن الحارة غارقة في صمت عميق لا يستحكم بها عادة إلا بعد إغلاق المقاهي بفترة غير قصيرة، فداخلها ارتياب، فقامت إلى النافذة وأطلت منها فرأت ظلاما شاملا يلف حارة مستغرقة في النوم. وعادت إلى الصغيرة التي عاودت البكاء فألقمتها ثديها، وراحت تتساءل: عما أخره إلى هذا الوقت لأول مرة في حياتهما المشتركة. ونامت إحسان فغادرت الفراش إلى النافذة مرة أخرى. ولما لم تسمع نأمة، خرجت إلى الصالة فأيقظت سكينة. وجلست الجارية كالمسطولة، ثم هبت واقفة في جزع، فأخبرتها سيدتها بما دفعها إلى الائتناس بها. وقررت الجارية من فورها أن تذهب إلى عم زكريا لتسأل عن سيدها. وساءلت قمر نفسها عما يبقيه في بيت عمه حتى هذا الوقت، فجاء الجواب قاطعا للأمل، ولكنها مع ذلك لم تمنعها من الذهاب، ربما جريا وراء غير المنتظر، أو في الأقل استعانة بالعم على حيرتها. ولما ذهبت سكينة جعلت تتساءل مرة أخرى عما أخره: ألذلك سبب بما طرأ على مزاجه من تغير؟ أله علاقة بنزهاته في الخلاء التي يقوم بها في الأصائل والأماسي؟
واستيقظ عم زكريا وحسن منزعجين على نداء سكينة. وقال حسن: إن قاسم لم يشاركه سهرته الليلة. وسأل عم زكريا متى غادر ابن أخيه بيته؟ فأجابت سكينة بأن ذلك كان قبيل العصر. وغادر ثلاثتهم الربع، ومضى حسن إلى الربع المجاور ثم عاد ومعه صادق الذي قال في نبرة قلقة: الفجر يوشك أن يطلع! ترى أين ذهب؟
فقال حسن: لعل النوم غلبه عند الصخرة.
وأمر عم زكريا الجارية أن تعود إلى سيدتها؛ لتخبرها بأنهم ذاهبون للبحث عنه في مظانه. ومضى ثلاثتهم صوب الخلاء. واستشعروا رطوبة ليل الخريف فحبكوا اللاسات فوق رءوسهم. وساروا على هدى هلال آخر الشهر وقد تجلى في رقعة مرصعة بالنجوم انحسرت عنها سماء متشحة بالسحب. وصاح حسن بصوت شق الفضاء كالشهاب: «قاسم .. يا قاسم!» فارتد إليه الصدى من جانب المقطم مكررا النداء. وحثوا السير حتى بلغوا صخرة هند، فداروا حولها متفحصين المكان ولكنهم لم يعثروا له على أثر. وتساءل عم زكريا بصوت غليظ: أين ذهب؟ لا هو من أهل المجون ولا من ذوي العداوات!
فتمتم حسن في حيرة: ولا من سبب آخر يدعوه للهرب!
وتذكر صادق أن الخلاء لا يخلو من قطاع طرق فغاص قلبه في صدره دون أن ينبس. وإذا بزكريا يتساءل في فتور: أيكون عند المعلم يحيى؟
وهتف الشابان معا فيما يشبه استغاثة يائس: المعلم يحيى؟!
لكن زكريا تساءل في نكد: وماذا دعاه للبقاء عنده؟
ومضوا نحو أطراف الخلاء صامتين، تتناوبهم الأفكار السود. وترامى إلى مسامعهم من بعيد صياح الديكة، لكن الظلام لم يخف لتكاثف السحب. وند عن صادق صوت كالزفرة وهو يقول: «أين أنت يا قاسم!» وبدت الرحلة عقيما لكنهم واصلوا السير حتى وقفوا أمام كوخ يحيى الغارق في النوم. وتقدم زكريا يدق الباب بقبضته حتى جاءه صوت المعلم وهو يتساءل: من بالباب؟
وفتح الباب فبدا شبحه متوكئا على عصاه، فقال زكريا بأسف: عدم المؤاخذة، جئنا نسأل عن قاسم.
فقال المعلم بهدوء: زيارة متوقعة!
فأحيا قوله نفوسهم لأول وهلة، لكن سرعان ما ارتد إليهم القلق فتساءل زكريا: عندك أخبار عنه؟ - هو نائم في الداخل! - بخير؟ - إن شاء الله!
ثم مردفا في بساطة مقصودة: هو الآن بخير، لكن بعض جيراني كانوا قادمين من العطوف فعثروا عليه عند صخرة هند وهو مغمى عليه، فحملوه إلي، فرششت على وجهه عطرا حتى أفاق، لكنه بدا متعبا فتركته لينام، وما لبث أن استغرق في النوم.
فقال زكريا معاتبا: ليتك أبلغتنا الخبر!
فقال بالهدوء نفسه: جاءوا به عند منتصف الليل فلم أجد من أرسله إليك!
فقال صادق في قلق: إنه مريض بلا شك.
فقال العجوز: سيصحو على أحسن حال.
فقال حسن: فلنوقظه لنطمئن عليه.
ولكن يحيى قال بحزم: بل علينا أن ننتظر حتى يستيقظ بنفسه.
73
كان جالسا في الفراش، مسند الظهر إلى وسادة، ساحبا الغطاء عليه حتى أعلى الصدر، تعكس عيناه نظرة متفكرة. وكانت قمر متربعة عند قدميه، حاملة على صدرها إحسان، وهذه تحرك يديها الصغيرتين دون توقف، وتصدر أصواتا رقيقة غريبة لا يدري أحد عن سرها شيئا. وتصاعد من مبخرة في وسط الحجرة خيط بخور، يتلوى، ثم ينكسر، ثم ينتشر، نافثا أريجا كأنما يبوح بسر لطيف. ومد الرجل يده إلى خوان قرب الفراش فتناول قدح كراوية، واحتسى منه قليلا قليلا، ثم أعاده وليس به إلا ثمالة، والمرأة تناغي الطفلة وتداعبها، ولكن نظراتها القلقة المسترقة إلى زوجها دلت على أن مناغاتها ومداعباتها ليست إلا مداراة لمشاعرها. وأخيرا سألته: كيف أنت الآن؟
فاتجه رأسه بحركة عفوية نحو باب الحجرة المغلق، ثم أعاده إليها، وقال بهدوء: ليس ما بي مرض!
فتجلت في عينيها نظرة حائرة وقالت: يسرني أن أسمع هذا، ولكن خبرني بالله عما بك!
فبدا كالمتردد قليلا، ثم قال: لا أدري! كلا فليس هذا ما ينبغي أن يقال، إني أدري كل شيء، ولكن .. الحق إني أخشى أن تكون أيام الراحة قد ولت.
وبكت إحسان فجأة، فألقمتها ثديها في عجلة، ثم نظرت إليه مستطلعة في قلق، وتساءلت: لماذا؟
تنهد، وأشار إلى صدره قائلا: لدي هنا سر كبير، أكبر من أن أحمله وحدي!
فازدادت المرأة قلقا وقالت بلهفة: خبرني عنه يا قاسم.
اعتدل في جلسته قليلا، وعكست عيناه جدا وتصميما وقال: سأبوح به لأول مرة. أنت أول شخص يسمعه، لكن ينبغي أن تصدقيني، فما أقول إلا الحق. ليلة أمس حدث شيء عجيب، هنالك تحت صخرة هند، وأنا وحدي في الليل والخلاء.
وازدرد ريقه وهي تستحثه بنظرة حارة، ثم قال: كنت جالسا أتابع سير الهلال الذي سرعان ما وارته السحب، وساد الظلام حتى فكرت في القيام، وإذا بصوت قريب يقول بغتة: «مساء الخير يا قاسم.» فارتعدت من وقع المفاجأة التي لم يسبقها صوت أو حركة. ورفعت رأسي فرأيت شبح رجل واقفا على بعد خطوة من مجلسي، لم أتبين وجهه ولكني ميزت لاسته البيضاء والعباءة التي يتلفع بها، وقلت له وأنا أداري غيظي: «مساء الخير! من أنت؟» فأجابني، ولكن بم تظنينه أجاب؟
فحركت قمر رأسها في جزع وقالت: تكلم فلم يعد لي صبر! - قال لي: «أنا قنديل!» فعجبت لشأنه وقلت له: «لا تؤاخذني فأنا ...» فقاطعني قائلا: «أنا قنديل خادم الجبلاوي!»
وهتفت المرأة: ماذا قال الرجل؟! - قال أنا قنديل خادم الجبلاوي.
وكان الثدي قد أفلت من ثغر إحسان في أثناء اضطراب الأم فتقلص وجهها إيذانا بالبكاء ولكن المرأة أعادته إليها، ثم قالت بوجه شاحب: قنديل خادم الواقف؟! لا يدري أحد عن خدم الواقف شيئا. حضرة الناظر هو الذي يتولى بنفسه إعداد لوازم البيت الكبير، ثم يحملها خدمه إلى البيت الكبير ليتسلمها بعض خدم الواقف في الحديقة. - نعم، هذا ما تعرفه حارتنا، لكنه قال لي ذلك! - وهل صدقته؟ - وقفت من فوري، تأدبا من ناحية واستعدادا للدفاع عن نفسي إن لزم الأمر من ناحية أخرى، وقلت له متسائلا: من أدراني أنك صادق فيما تقول؟ فقال لي بهدوء مطمئن: «اتبعني إذا شئت حتى تراني وأنا أدخل البيت الكبير.» فاطمأن قلبي، وقلت لنفسي فلأصدقه حتى يتبين لي أمره، ولم أخف عنه فرحي بلقياه، وسألته عن جدنا، كيف حاله؟ وماذا يفعل؟
فقاطعه صوت قمر قائلا في ذهول: كل ذلك دار بينك وبينه؟! - نعم، بالله أنصتي، قال لي: إن جدنا بخير. ولم يزد على ذلك شيئا. فسألته: هل يدري بما يجري في حارتنا؟ فأجاب بأنه يعلم كل شيء، وبأن المقيم في البيت الكبير يستطيع أن يطلع على كل صغيرة وكبيرة مما يقع في حارتنا، وأنه لذلك أرسله إلي. - إليك أنت؟!
فقطب قاسم فيما يشبه الاستياء وقال: هكذا قال. وند عني ما يفصح عن دهشتي ولكنه لم يبال بي، وقال: «لعله اختارك لحكمتك يوم السرقة ولأمانتك في بيتك. وهو يبلغك بأن جميع أولاد الحارة أحفاده على السواء، وأن الوقف ميراثهم على قدم المساواة، وأن الفتونة شر يجب أن يذهب، وأن الحارة يجب أن تصير امتدادا للبيت الكبير.» وساد الصمت، وكأنما فقدت القدرة على النطق، ولمحت عيناي المتطلعتان إلى هامته السحب وهي تنحسر عن الهلال في رقعة صافية، فسألت بأدب: «ولماذا يبلغني ذلك؟» فأجاب: «لكي تحققه بنفسك!» - أنت؟!
بذلك هتفت قمر، فقال قاسم بصوت متهدج: هكذا قال. وهممت بأن أستوضحه، ولكنه حياني وذهب، فتبعته حتى خيل إلي أنني رأيته يصعد إلى أعلى السور المشرف على الخلاء على سلم خارق الطول أو شيء شبيه بذلك، فوقفت ذاهلا. ثم عدت إلى مكاني السابق وفي نيتي أن أقصد المعلم يحيى، لكني غبت عن الوجود، ولم أعد إلى رشدي إلا في كوخ المعلم.
وعاد الصمت يغشى الحجرة وقمر لا تحول عن وجهه عينيها الذاهلتين. وتسلل النوم إلى أجفان إحسان، وهي ترضع فمال رأسها إلى أسفل من فوق ساعد أمها فأرقدتها برفق على الفراش، وعادت تنظر إلى زوجها بعين قلقة ووجه شاحب. وارتفع من الحارة صوت سوارس الأجش وهو يسب رجلا، وصراخ الرجل وتأوهاته التي وشت بما ينهال عليه من ضرب أو صفع، ثم صوت سوارس مرة أخرى وهو يبتعد منذرا متوعدا، وصوت الرجل وهو يرتفع في نبرة حنق ويأس هاتفا: «يا جبلاوي!» وساءل قاسم نفسه المرهقة بنظرات زوجته: ترى ماذا تظن بي؟ وحادثت المرأة نفسها: إنه صادق، لم يكذبني قط، فلماذا يختلق هذه الحكاية؟ وهو أمين لم يطمع في مالي مع ما في ذلك من أمان، فكيف يطمع في مال الوقف على ما في ذلك من خطر؟! وترى هل ولت أيام الراحة حقا؟ وقالت: أنا أول من أفضيت إليه بسرك؟
فأحنى رأسه بالإيجاب، فعادت تقول: قاسم، حياتنا واحدة، وأنا لا تهمني نفسي بقدر ما تهمني أنت، وسرك هذا شيء خطير، وعواقبه لا تخفى عليك، ولكن أعمل ذاكرتك جيدا وخبرني أكان واقعا ما رأيت أم لعله كان حلما؟
فقال بتصميم وفي شيء من الامتعاض: كان واقعا ملموسا ولم يكن حلما! - وجدوك مغمى عليك؟! - كان ذلك بعد اللقاء!
فقالت بإشفاق: ربما اختلط الأمر عليك!
فتنهد في عذاب لم تدر به وقال: لم يختلط شيء علي، كان اللقاء واضحا كالنهار المشمس!
فترددت قليلا ثم تساءلت: من يدرينا أنه حقا خادم الواقف ورسوله إليك؟ ولماذا لا يكون مسطولا من مساطيل حارتنا وما أكثرهم؟!
فقال في نبرة عناد: رأيته وهو يصعد إلى سور البيت الكبير.
فتنهدت قائلة: ليس في حارتنا سلم يمكن أن يصل إلى نصف ارتفاع السور! - لكني رأيته!
بدت كفأر في مصيدة، لكنها أبت أن تستسلم.
فتساءلت: ألم تكن تعاطيت الكيف؟
فتجهم وجهه حزنا وقال: أنت لا تصدقينني يا قمر وأنا لا أطالبك بتصديقي.
فارتاعت المرأة وقالت: ليس بي شيء إلا أنني أخاف عليك، وأنت تعلم ما أعني، أخاف عليك وعلى بيتنا وابنتنا وسعادتنا، وإني أسائل نفسي: لماذا قصدك أنت بالذات؟ ولماذا لا يحقق إرادته بنفسه وهو صاحب الوقف وسيد الجميع؟
فتساءل بدوره: ولماذا قصد جبل ورفاعة؟
اتسعت عيناها، وتقلص ركن فمها كالطفل الموشك على البكاء، وغضت بصرها في جفول، فقال: أنت لا تصدقينني وأنا لا أطالبك بتصديقي.
فأجهشت في البكاء، واسترسلت فيه كأنما لتهرب من أفكارها. فمال قاسم نحوها، ثم مد يده إلى يدها فجذبها نحوه، وسألها في رقة: لماذا تبكين؟
فنظرت إليه خلال دموعها، وقالت وهي تشهق شهقات متقطعة: لأنني أصدقك، نعم أصدقك، وأخشى أن تكون أيام الراحة قد ولت.
ثم في صوت خافت مشفق: ماذا أنت فاعل؟
74
شحن جو الحجرة بالقلق والتوتر. بدا عم زكريا مفكرا مقطبا، وراح عم عويس يعبث بشاربه، وكأن حسن كان يحادث نفسه، أما صادق فلم يحول ناظريه عن وجه صديقه قاسم، على حين انزوت قمر في ركن حجرة الاستقبال وهي تدعو الله أن يهدي الجميع إلى السداد والرشاد. وكانت فناجيل القهوة قد فرغت وأخذت ذبابتان تحومان حولها، فنادت قمر سكينة لتأخذ الصينية، فجاءت الجارية وحملتها ثم ذهبت وأغلقت الباب وراءها كما كان. وقال عويس وهو ينفخ: يا له من سر يهد الأعصاب هدا!
وعوى كلب في الحارة كأنما أصيب بطوبة أو عصا، وارتفع صوت بياع ينادي مترنما بالبلح، وامرأة عجوز هتفت في أسى: «يا رب خلصنا من عيشتنا!» والتفت زكريا إلى عويس قائلا: يا معلم عويس، إنك أكبرنا مقاما وجاها، فصارحنا برأيك!
فنقل الرجل عينيه بين زكريا وقاسم وقال: أقول الحق إن قاسم رجل ولا كل الرجال، ولكن حديثه أدار رأسي!
فقال صادق بعد توثب طويل للكلام: إنه رجل صادق، أتحدى أي مخلوق أن يذكرنا بكذبة صدرت عنه، فهو عندي مصدق، وأقسم لكم على ذلك بتربة أمي!
وقال حسن بحماس: وأنا كذلك. وسيجدني دائما إلى جانبه.
وابتسم قاسم لأول مرة في امتنان، وهو يرمق جسم ابن عمه القوي بإعجاب، لكن زكريا ألقى على ابنه نظرة انتقاد وقال: ليس الأمر لعبا، فكروا في حياتنا وسلامتنا.
فأمن عويس على قوله بإحناءة من رأسه وقال: صدقت، لم يسمع أحد من قبل مثل ما سمعنا اليوم.
فقال قاسم: بل سمعوا مثله وأكثر عن جبل ورفاعة!
فدهش عويس وحدجه بإنكار متسائلا: أتظن أنك مثل جبل ورفاعة؟
وغض قاسم بصره متألما وقمر تراقبه بإشفاق، ثم قالت: عمي! من يدري كيف تقع هذه الأمور؟!
فعاد الرجل يعبث بشاربه، وقال زكريا: وأي خير في أن يظن نفسه كجبل أو رفاعة؟ قتل رفاعة شر قتلة، وكاد جبل أن يقتل لولا انضمام أهله إليه، ومن لك أنت يا قاسم؟ أنسيت أنهم يدعون حينا بحي الجرابيع، وأن أكثره ما بين متسول وتعيس؟
فقال صادق بقوة: لا تنسوا أن الجبلاوي اختاره من دون الجميع بمن فيهم الفتوات، ولا أظنه يتخلى عنه عند الشدة!
فقال زكريا ممتعضا: هكذا قيل عن رفاعة في أيامه، ولقد قتل رفاعة على بعد أذرع من بيت الجبلاوي!
وقالت قمر محذرة: لا ترفعوا أصواتكم!
واسترق عويس إلى قاسم النظر وهو يفكر. ما أعجب ما يسمع وما يقال. هذا الراعي الذي جعلت منه ابنة أخي سيدا! أقر له بالصدق والأمانة، ولكن هل يكفي هذا ليجعل منه جبل أو رفاعة؟! وهل يجيء الرجال الكبار بهذه البساطة؟ وماذا يحدث لو صدقت الأحلام ! وقال عويس: يبدو أن قاسم لا يتأثر بتحذيراتنا، ترى ماذا يريد الفتى؟ هل عز عليه أن يبقى حينا وحده الذي لا نصيب له في الوقف؟ أتريد يا قاسم أن تكون فتوة وناظرا لحينا؟
فبان الاحتداد في وجه قاسم وقال: لم يبلغني بذلك، وإنما قال: إن جميع أولاد الحارة أحفاده، وإن الوقف لهم على قدم المساواة، وإن الفتونة شر!
برق الحماس في عيني صادق وحسن، وذهل عويس، أما زكريا فتساءل: أتعرف ماذا يعني هذا؟
فقال عويس بغضب: قل له! - أن تتحدى قوة الناظر ونبابيت لهيطة وجلطة وحجاج وسوارس!
فامتقع وجه قمر، أما قاسم فقال بهدوء كالحزن: هو ذلك!
فندت عن عويس ضحكة انعكس صداها استياء في وجوه قاسم وصادق وحسن، ولم يحفل زكريا بذلك ومضى يقول: سيقضى علينا جميعا بالهلاك، سنوطأ بالأقدام كالنمل، ولن يصدقك أحد. إنهم لم يصدقوا من قابل الواقف ولا من سمع صوته وحاوره، فكيف يصدقون من أرسل إليه خادما من خدمه؟
وقال عويس بنبرة جديدة: دعونا مما تقول الحكايات، لم يشهد أحد لقاء الجبلاوي وجبل، ولا الجبلاوي ورفاعة، تلك الأخبار تروى عادة ولكن لم يشهدها أحد، غير أنها عادت بالخير على أصحابها، فصار لحي آل جبل كيانه المحترم، كذلك حي آل رفاعة، ومن حق حينا أن يكون مثلهما، لم لا؟ كلنا من صلب ذلك الرجل المعتكف في بيته الكبير، ولكن علينا أن نأخذ الأمر بالحكمة والحذر، فاهتم يا قاسم بحيك، دعك من الأحفاد والمساواة وما هو خير وما هو شر، ومن اليسير أن نضم سوارس إلينا وهو قريبك، ويمكن الاتفاق معه على أن يترك لنا نصيبا في الريع.
وقطب قاسم غاضبا، وقال: يا معلم عويس، أنت في واد ونحن في واد. أنا لا أروم مساومة ولا نصيبا في الريع ولكني عقدت العزم على تحقيق إرادة جدنا كما أبلغتها.
وتأوه زكريا قائلا: يا ساتر يا رب!
لم يزل قاسم مقطبا، ذكر أشجانه وخلواته وأحاديث معلمه يحيى، وكيف جاءه الفرج على يد خادم لم يعرفه من قبل، وكيف تلوح الخطوب في الأفق، وكيف أن زكريا لا يفكر إلا في السلامة وأن عويس لا يفكر إلا في الريع، وكيف أن الحياة لن تطيب إلا بمواجهة الأفق المليء بالخطوب. وتنهد قائلا: عمي، كان يجب أن أبدأ بمشاورتكم ولكني لن أطالبكم بشيء!
فشد صادق على يده قائلا: إني معك.
وكور حسن قبضته قائلا: وأنا معك، في الخير والشر معك.
فقال زكريا في ضجر: لا تغتر بكلام العيال! عندما ترتفع النبابيت تمتلئ الجحور بأمثالكم، وفي سبيل من تعرض نفسك للهلاك؟ ليس في حارتنا إلا حيوان أو حشرة، ولديك من الأسباب ما يضمن لك حياة رغيدة طيبة فاعقل وتمتع بحياتك.
وساءل قاسم نفسه: ماذا يقول الرجل؟ كأنما يستمع لبعض هواتف نفسه عندما تقول له، ابنتك، زوجتك، بيتك، نفسك. لكنك اخترت كما اختير جبل ورفاعة، فليكن جوابك كما كان جوابهما. قال: فكرت يا عمي طويلا ثم اخترت سبيلي.
فضرب عويس كفا بكف وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله!
وقال عويس محذرا: سيقتلك الأقوياء ويهزأ بك الضعفاء!
وقلبت قمر عينيها بين عمها وبين عم زوجها في حيرة، مشفقة من خذلان زوجها، وفي الوقت نفسه خائفة عليه عواقب التمادي في رأيه. وقالت مخاطبة عمها: عمي، أنت سيد الأعيان، وبوسعك أن تؤيده بنفوذك!
فسألها عويس مستهجنا: فيم تطمعين يا قمر؟ لك مال وابنة وزوج فماذا يعنيك وزع الوقف على الجميع أم استأثر به الفتوات؟ إننا نعد الطامح إلى الفتونة مجنونا، فما بالك بمن يطمح إلى نظارة الحارة جميعا؟!
فهب قاسم واقفا في تألم شديد وقال: لست طامحا إلى شيء من هذا، إنما أريد الخير الذي أراده جدنا.
فاسترضاه عويس بابتسامة متكلفة وقال: أين هو جدنا؟ فليخرج إلى الحارة ولو محمولا على أعناق خدمه، ثم فليحقق شروط وقفه كما يشاء. أتحسب أن أحدا في الحارة مهما بلغت قوته يستطيع إذا تكلم الواقف أن يرفع نحوه عينا أو أصبعا؟
وقال زكريا مكملا: وهل هو إذا وثب الفتوات لذبحنا سيحرك ساكنا أو يكترث لما يصيبنا؟
فقال قاسم في وجوم شديد : لن أطالب أحدا بتصديقي أو بتأييدي.
فقام زكريا إليه ووضع يده على منكبه بعطف وقال: يا قاسم، أصابتك عين، أنا أعلم بهذه الشرور. طالما تحدثوا عن عقلك وسعيد حظك، حتى أصابتك العين. استعذ من الشيطان بالله، واعلم أنك اليوم من وجهاء حينا وبوسعك إذا شئت أن تتاجر ببعض مال زوجتك فتحظى بالثراء الوفير، فأقلع عما في رأسك وارض بما وهبك الله من خير ونعمة.
فأطرق قاسم محزونا، ثم رفع رأسه إلى عمه، وقال بتصميم عجيب: لن أقلع عما في رأسي ولو ملكت الوقف كله وحدي.
75
ماذا أنت فاعل؟ وحتام تفكر وتنتظر؟ وماذا تنتظر؟ وما دام القريب لم يصدقك فمن ذا الذي يصدقك؟ وما فائدة الحزن؟ وما جدوى الانفراد تحت صخرة هند؟ النجوم لا تجيب ولا الظلام، ولا يجيب القمر، كأنك تأمل في لقيا الخادم مرة أخرى، ولكن أي جديد عنده ترتقب؟ وتجوس في الظلام حول البقعة التي قيل إن جدك قابل فيها جبل، وتقف طويلا وراء السور الكبير في الموضع الذي قيل إنه خاطب عنده رفاعة. لكن لا شخصه رأيت ولا صوته سمعت ولا خادمه رجع. ماذا أنت فاعل؟ سيطاردك هذا السؤال كما تطارد الشمس في الخلاء راعي الغنم، وسيقتلعك دواما من راحة البال ومن طيبات النعم. وجبل كان مثلك وحيدا لكنه انتصر، ورفاعة عرف سبيله ومضى فيه حتى قتل ثم انتصر؛ ماذا أنت فاعل؟
وقالت له قمر معاتبة: شد ما تهمل طفلتك الجميلة! تبكي فلا ترحمها، وتلعب فلا تلاعبها!
فابتسم إلى الوجه الصغير مستروحا نسمة منه لسعير فكره، وغمغم: ما ألطفها! - حتى الساعة التي تجالسنا فيها تغيب عنا كأننا لم نعد من أهل دنياك.
فاقترب منها على الكنبة التي تجمعهما ولثم خدها، ثم قبل وجه الطفلة في أكثر من موضع وقال: ألا ترين أنني بحاجة إلى عطفك؟ - ولك قلبي كله بما فيه من عطف وحب ومودة، ولكن ينبغي أن ترحم نفسك.
وناولته الطفلة فاحتضنها وراح يهدهدها برفق وحنان مصغيا إلى أنغامها السماوية. وبغتة قال: إذا نصرني المولى فلن أحرم النساء من ريع الوقف.
فقالت قمر بدهشة: لكن الوقف للذكور دون الإناث.
فرنا إلى العينين السوداوين في وجه الصغيرة وقال: قال جدي على لسان خادمه: إن الوقف للجميع، والنساء نصف كيان حارتنا، ومن عجب أن حارتنا لا تحترم النساء، ولكنها ستحترمهن يوم تحترم معاني العدالة والرحمة.
وتجلى الحب والإشفاق في عيني قمر. وقالت لنفسها: إنه يذكر النصر، فأين منا هذا النصر؟ وكم ودت أن تنصحه بما فيه الأمن والسلامة ولكن خانتها شجاعتها. وساءلت نفسها عما يخبئ لهم الغد. ترى أيكون لها حظ شفيقة زوجة جبل، أم تصاب بما أصيبت به عبدة أم رفاعة؟! واقشعر بدنها فنظرت بعيدا حتى لا يقرأ في عينيها ما يريبه.
وعندما جاءه صادق وحسن ليذهبوا جميعا إلى القهوة عرض عليهما أن يزوروا المعلم يحيى ليقدمهما إليه. ولما بلغوا كوخه وجدوه يدخن الجوزة ورائحة الحشيش الغنائية عابقة بالجو. وقدم إليه صاحبيه، وجلسوا جميعا في دهليز الكوخ والبدر من كوة يلوح كأنه السعادة. وكان يحيى ينظر إلى وجوه الثلاثة بعجب وكأنه يتساءل: أهؤلاء حقا هم الذين سيقلبون الحارة رأسا على عقب؟! ومضى يعيد على مسامع قاسم ما سبق أن ردده له، قال: احذر أن يعلم أحد بسرك قبل أن تستعد.
ودارت الجوزة دورة مليحة، وكان ضوء القمر النافذ من الكوة يتوج رأس قاسم وينطرح على الكتف من صادق، على حين توهجت جمرات الموقد في ظلمة الدهليز. وتساءل قاسم: وكيف أستعد؟
فضحك العجوز قائلا في دعابة: ليس من حق من اختاره الجبلاوي أن يستعين برأي عجوز مثلي!
وأخلى الصمت لقرقرة الجوزة حتى قطعه العجوز قائلا: لديك عمك وعم زوجتك؛ أما عمك فلا فائدة منه ولا ضرر، وأما الآخر فبوسعك أن تكسبه إلى جانبك لو منيته بشيء! - بماذا أمنيه؟ - عده بنظارة الجرابيع!
فقال صادق بإخلاص: لن يميز أحد بشيء من ريع الوقف، هو ميراث الجميع على قدم المساواة كما قال الجبلاوي.
فضحك يحيى قائلا: ما أعجب جدنا، كان قوة في جبل، ورحمة في رفاعة، واليوم له شأن آخر!
فقال قاسم : إنه صاحب الوقف، ومن حقه أن يغير ويبدل في الشروط العشرة! - لكن مهمتك شاقة يا بني، إنها تخص الحارة كلها لا حيا من الأحياء. - هكذا أراد الواقف.
وسعل يحيى سعالا متواصلا تركه كالقتيل فتطوع حسن لخدمة الجوزة محله. ومد الرجل ساقيه وهو يتنهد بعمق. ثم تساءل: ترى أتعمد إلى القوة كجبل أم تؤثر الحب كرفاعة؟
فجاست يد قاسم خلال لاسته، ثم قال: القوة عند الضرورة والحب في جميع الأحوال.
فهز يحيى رأسه، وجعل يبتسم، ثم قال: لا عيب فيك إلا اهتمامك بالوقف، سوف يسوقك ذلك إلى متاعب لا حصر لها. - كيف يعيش الناس بغير الوقف؟
فقال العجوز في مباهاة: كما عاش رفاعة.
فقال قاسم بجد وأدب: عاش بمعونة أبيه ومحبيه، وخلف أصدقاء لم يستطع أحدهم أن يحذو حذوه، والحق أن حارتنا التعيسة في حاجة إلى النظافة والكرامة. - ألا يجيء ذلك إلا بالوقف؟ - بلى يا معلم، بالوقف وبالقضاء على الفتونة، هنالك تتحقق الكرامة التي أهداها جبل إلى حيه، والحب الذي دعا إليه رفاعة، بل والسعادة التي حلم بها أدهم.
فضحك يحيى متسائلا: ماذا أبقيت لمن يجيء بعدك؟
فتفكر مليا، ثم قال: إذا نصرني المولى فلن تجد الحارة حاجة إلى أحد بعدي.
ودارت الجوزة كملاك في حلم، وغنى الماء في القنينة، وتثاءب يحيى تثاؤب الانسجام، ثم تساءل: ماذا يبقى لأحدكم إذا وزع الريع بالتساوي؟
فقال صادق: إنما نريد الوقف لنستغله وبذلك تصير الحارة امتدادا للبيت الكبير! - وماذا أعددتم من عمل؟
واختفى ضياء القمر وراء سحابة عابرة فساد الدهليز الظلام، ولكن لم تمض دقيقة حتى انهل الضياء. ونظر يحيى إلى جسم حسن المفتول وتساءل: هل يستطيع ابن عمك أن يهزم الفتوات؟
وإذا بقاسم يقول: إني أفكر جادا في مشاورة محام شرعي!
فصاح يحيى: أي محام يقبل أن يتحدى الناظر رفعت وفتواته؟
واختلط ذهول الكيف بوجوم الفكر. ورجع الأصدقاء الثلاثة فيما يشبه القنوط. وعانى قاسم في خلواته مر العذاب، وركبه الهم والكدر حتى قالت له قمر ذات يوم: ما ينبغي أن نهتم بسعادة الناس إلى حد إشقاء أنفسنا!
فقال بحدة: ينبغي أن أكون عند حسن الظن الذي وضع في. - ماذا أنت فاعل؟ لماذا لا تتزحزح عن حافة الهاوية؟ هاوية اليأس المليئة بالصمت والركود، مقبرة الأحلام المغطاة بالرماد، ذئب الذكريات الجميلة والأنغام المطربة، طارحة الغد في كفن الأمس.
لكنه دعا يوما صادق وحسن إليه وقال لهما: آن لنا أن نبدأ!
فتهلل وجهاهما وقال حسن: هات ما عندك.
فقال بصوت دبت فيه الحياة: انتهيت من تفكيري إلى قرار، وهو أن ننشئ ناديا للرياضة البدنية!
وعقدت الدهشة لسانيهما فابتسم وهو يقول: سنجعله في حوش بيتي، والرياضة هواية منتشرة في أكثر الأحياء. - وما علاقة ذلك بعملنا؟
وتساءل صادق بدوره: ناد لرفع الأثقال مثلا! ما علاقة ذلك بالوقف؟!
فقال قاسم وعيناه تبرقان: سيجيء إلينا الشبان، حبا في القوة واللعب، وسيقع الاختيار على من هم أهل للثقة والاستعداد.
فاتسعت الأعين، وهتف حسن: سنكون عصبة وأي عصبة! - نعم، وسيجيء إلينا شبان من جبل وآخرون من رفاعة.
وشملتهم فرحة غناء، وبدا قاسم في مشيته وكأنه يرقص.
76
جلس قاسم لصق النافذة بحيث يشاهد الحارة في يوم العيد. وما أبهج العيد في حارتنا!
لقد رش السقاءون الأرض بالقرب، وزينت أعناق الحمير وأذيالها بالورود الاصطناعية، ورقص الفراغ بالألوان الفاقعة يرتديها الصغار وتنطلق بها البالونات، وركزت في عربات اليد الأعلام الصغيرة، واختلط الصياح والهتاف والتهليل بأصوات الزمامير، وتمايلت العربات الكارو بالراقصات والراقصين، وأغلقت الدكاكين واكتظت المقاهي والحانات والغرز. وعند كل ركن بزغت البشاشة، وقال قائل: «كل عام وأنتم بخير». وجلس قاسم في ثوب جديد وإحسان واقفة في حجره متأبطة راحتيه، تجوس بيديها الصغيرتين في قسماته أو تنشب أظافرها في خديه. وارتفع صوت تحت النافذة يغني:
أصل اللي شبكتني مع المحبوب عيني دي.
فذكر لتوه زفته السعيدة حتى رق قلبه. وهو رجل يحب الغناء والطرب. وكم تمنى أدهم أن يتفرغ للغناء في الحديقة الغناء. وماذا يغني الرجل في العيد؟ أصل اللي شبكتني مع المحبوب عيني دي؟ صدق الرجل. فمنذ ارتفعت عيناه في الظلام إلى قنديل سلب قلبه وعقله وإرادته. وها هو ذا حوش بيته يستحيل ناديا لتقوية الأبدان وتطهير الأرواح. وهو مثلهم يرفع الأثقال ويتعلم التحطيب، وصادق امتلأت عضلات ذراعيه كما امتلأت من قبل - بفضل عمله في تبييض النحاس - عضلات ساقيه. أما حسن فيا له من مارد عملاق! والآخرون ما أبهر حماستهم! وكان صادق حكيما يوم نصحه بدعوة المتعطلين والمتسولين إلى ناديه، وسرعان ما تحمسوا لألعابه كما تحمسوا لأقواله. أجل إنهم قلة ولكنهم لطموحهم إذا وزنوا بأضعاف أضعافهم رجحوا بهم. وهتفت إحسان: «آد .. آد ..» فقبلها كثيرا، وكان طرف جلبابه الجديد مبتلا تحتها. وترامى إليه من المطبخ دق الهاون وصوتا قمر وسكينة ومواء القطة. ومرت عربة كارو تحت الشباك وهي تنشد مصفقة:
الفاتحة للعسكري قلع الطربوش وعمل ولي.
وابتسم قاسم فتذكر ليلة غنى المعلم يحيى هذه الأنشودة وهو في تمام السطول. آه لو تستقيم الأمور فلا يبقى لك إلا الغناء يا حارتنا! غدا يمتلئ النادي بالأعوان الأقوياء والصادقين. غدا أتحدى بهم الناظر والفتوات وجميع العقبات. كي لا يبقى في الحارة إلا جد رحيم وأحفاد بررة، ويمحق الفقر والقذارة والتسول والطغيان، وتختفي الحشرات والذباب والنبابيت، وتسود الطمأنينة في ظل الحدائق والغناء.
واستيقظ من أحلامه على صوت قمر وهي تنهر سكينة في غضبة داهمة. أنصت متعجبا ثم نادى زوجته، وسرعان ما فتح الباب وجاءت قمر وهي تدفع الجارية أمامها وتقول: انظر إلى هذه المرأة! ولدت في بيتنا كما ولدت أمها من قبل، ولا تتعفف عن التجسس علينا!
فنظر إلى سكينة بإنكار حتى هتفت بصوتها النحاسي: لست خائنة يا سيدي ولكن ستي لا ترحم!
وقالت قمر وفي عينيها فزع أخفقت في مداراته: رأيتها تبتسم وتقول لي: «سيجيء العيد القادم إن شاء الله وسيدي قاسم سيد الحارة كلها كما كان جبل في حي حمدان!» .. سلها عما تعني بذلك؟
وقطب قاسم مهتما، وسألها: ماذا تعنين يا سكينة؟
فقالت الجارية بجرأة غير غريبة عليها: أعني ما قلت؛ لست خادمة كالخادمات، أعمل اليوم هنا وغدا هناك؛ إني ربيبة هذا البيت، وما كان يجوز أن يخفى عني سر.
فتبادل الرجل نظرة سريعة مع زوجته، وأشار إلى الطفلة فجاءت وتلقتها منه، وأمر الجارية أن تجلس فجلست عند قدميه وهي تقول: أيصح أن يعلم بسرك غرباء عن البيت وأظل أجهله أنا؟! - أي سر تقصدين؟
فقالت الجارية بنفس الجرأة: حديث قنديل إليك عند صخرة هند!
ندت عن قمر آهة، ولكن قاسم أشار إلى الجارية أن تستمر فقالت: كما حدث لجبل ورفاعة من قبل، لست دونهما يا سيدي. أنت سيد، حتى على عهد الرعي كنت سيدا، وكنت الوسيط الذي جمع بينكما، ألا تذكر؟ كان يجب أن أعلم قبل الآخرين، كيف تأمن الغرباء ولا تأمن جاريتك؟! سامحكما الله، لكني أدعو لك بالنصر، نعم أدعو لك بالنصر على الناظر والفتوات، من ذا الذي لا يدعو لك بذلك؟!
فصاحت قمر وهي تهدهد الطفلة بحركة عصبية: ما كان يجوز أن تتجسسي علينا، وسيظل العيب لاصقا بذقنك.
فقالت سكينة في حرارة صادقة: لم أقصد التجسس وربي شهيد، ولكن نفذ إلي من الباب كلام لم يسعني إلا متابعته، وما كان في وسع إنسان أن يغلق أذنيه دونه، إن ما يقطع قلبي يا ستي هو أنك لا تطمئنين إلي، لست خائنة، أنت آخر من أخون، ولحساب من أخونك؟ سامحك الله يا ستي.
كان قاسم يتفحصها بعناية، بعينيه وبقلبه، فلما انتهت قال بهدوء: أنت مخلصة يا سكينة، لا شك في إخلاصك.
فحدجته بنظرة مستطلعة مؤملة، وتمتمت: عشت يا سيدي، أنا والله كذلك.
فقال بصوت خفيض: أنا أعرف المخلصين، ولن تنبت الخيانة في بيتي كما نبتت في بيت أخي رفاعة. يا قمر .. هذه المرأة مخلصة مثلك فلا تسيئي إليها بالظن، هي منا كما نحن منها، ولن أنسى أنها كانت رسول السعادة إلي.
فقالت قمر بصوت نم عن بعض الارتياح: لكنها استرقت السمع!
فقال قاسم باسما: لم تسترق السمع، ولكن الصوت نفذ إليها بمشيئة المولى، كما سمع رفاعة صوت جده دون تدبير منه. مباركة أنت يا سكينة!
فخطفت الجارية يده وانهالت عليها لثما وتقبيلا وهي تقول: روحي فداؤك يا سيدي ، والله لتنتصرن على أعدائك وأعدائنا حتى تسود الحارة كلها. - ليست السيادة مطلبنا يا سكينة!
فبسطت يديها داعية: اللهم حقق مطالبه! - آمين!
ثم نظر إليها باسما وهو يقول: وستكونين رسولي إذا احتجت إلى رسول، وبذلك تشتركين في عملنا!
فتهلل وجه المرأة بشرا، ونطقت عيناها بالعزة، فأردف قائلا: إذا أذنت الأقدار بأن يوزع الوقف كما نريد فلن تحرم منه امرأة، سيدة كانت أم خادمة!
عقدت الدهشة لسان المرأة، فعاد يقول: قال الواقف: إن الوقف للجميع، وأنت يا سكينة حفيدة الواقف مثل قمر سواء بسواء.
واكتسى وجه المرأة بالبهجة ورنت إلى سيدها بامتنان. وترامت من الحارة أنغام مزمار راقصة. وصاح صائح: «لهيطة .. ألف مرة». فتحول قاسم نحو الطريق فرأى موكب الفتوات وهم يخطرون على الجياد المزينة، والناس تستقبلهم بالهتاف والإتاوات، ثم مضوا نحو الخلاء؛ ليتنافسوا كعادتهم في الأعياد في مضمار السباق والتحطيب .. وما إن اختفى موكبهم حتى ظهر عجرمة في الحارة وهو يترنح سكرا. ابتسم قاسم لدى ظهور الشاب الذي يعد من أصدق شباب النادي، وتابعه بعينيه حتى وقف في مركز الوسط من حي الجرابيع وصاح: أنا جدع!
فهبط عليه صوت ساخر من أول ربع في حي آل رفاعة قائلا: يا زين الجرابيع!
فرفع عجرمة نحو النافذة عينين حمراوين وصاح بصوت مخمور: جاء دورنا يا غجر!
والتف حوله غلمان وسكارى ومساطيل في ضجة عالية من الغناء والزغاريد والطبل والزمر، وإذا بصوت يصيح: اسمعوا .. جاء دور الجرابيع .. ألا تريدون أن تسمعوا؟!
فهتف عجرمة وهو يترنح: جد واحد للجميع، وقف واحد للجميع. والسلام على الفتونة.
ثم غاب في الزحام. وسرعان ما وثب قاسم واقفا فتناول عباءته، وغادر الحجرة مسرعا وهو يقول: الله يلعن الخمرة وزمانها!
77 - تجنبوا الظهور بين الناس وأنتم سكارى.
قال قاسم ذلك جادا مقطبا وهو جالس تحت صخرة هند يقلب عينيه في وجوه أصحابه المقربين من أعضاء النادي: صادق وحسن وعجرمة وشعبان وأبو فصادة وحمروش. كان الجبل يلوح من ورائهم شامخا وهو يتلقى طلائع الليل الهابطة، ولم يكن في الخلاء إلا راعي غنم يقف معتمدا على عصاه في أقصى الجنوب. وبدا عجرمة مطرقا أسيفا وهو يقول: ليتني مت قبل ذلك.
فقال قاسم في فتور: من الأخطاء ما لا يجدي معه الاعتذار، المهم عندي الآن أن أعرف مدى أثر هذيانك في أعدائنا!
قال صادق: من المؤكد أنه سمع على نطاق واسع.
وقال حسن متجهما: لمست ذلك بنفسي في قهوة جبل حيث دعاني صديق من آل جبل إلى مجالسته، فسمعت رجلا يحكي بصوت مرتفع ما كان من أمر عجرمة. أجل كان يحكي وهو يضحك هازئا، ولكني لا أستبعد أن تثير حكايته ريبة في بعض النفوس، كما أخشى انتقالها من فم إلى فم حتى تبلغ أحد الفتوات.
فقال عجرمة متنهدا: لا تبالغ يا حسن.
فقال صادق: المبالغة خير من التهاون وإلا أخذنا من حيث لا نتوقع!
فقال عجرمة: أقسمنا ألا نخاف الموت!
فقال صادق محتدا: كما أقسمنا أن نحفظ السر!
فقال قاسم: وإذا هلكنا اليوم تبددت الآمال الكبار.
واشتد الوجوم مع الظلام الزاحف حتى عاد قاسم إلى الكلام قائلا: ينبغي أن نتدبر الأمر.
فقال حسن: فلندبر أمرنا على افتراض أسوأ الاحتمالات.
فقال قاسم بصوت كئيب: هذا معناه القتال.
وتحركت الرءوس تتبادل النظرات في الظلام، ومن فوقها انبثقت النجوم تباعا، وهب هواء يطوي في تضاعيفه بقايا من حر النهار كالنوايا السيئة. ثم قال حمروش: سنقاتل حتى الموت.
فقال قاسم ممتعضا: ويستمر الحال كما كان!
فقال صادق: ما أسرع ما يقضون علينا!
فقال أبو فصادة مخاطبا قاسم: من حسن الحظ أن هناك أسباب قربى تجمع بينك وبين سوارس، كما تجمع بين حرمك وحرم الناظر، وفضلا عن هذا وذاك كان لهيطة من أصدقاء أبيك في شبابه.
فقال قاسم بفتور: ربما أجل هذا القضاء، ولكنه لن يمنع وقوعه.
فسأل صادق برجاء: ألا تذكر أنك فكرت يوما في الالتجاء إلى محام شرعي؟ - وقيل لنا إنه لن يجرؤ محام على تحدي الناظر والفتوات.
فقال عجرمة محاولا التخفف من ذنبه: هناك محام في بيت القاضي معروف بالجرأة.
ولكن صادق عاد يقول متراجعا: أخشى ما أخشاه أن نجهر بالعداوة عن طريق القضية وتكون مخاوفنا من عواقب كلام عجرمة سابقة لأوانها.
فقال عجرمة: فلنشاور المحامي في الأمر، ولنتفق معه على تأجيل رفع الدعوى حتى تدفعنا الضرورة إلى ذلك، وسنجد من يواليها منا ولو من خارج الحارة.
ووافق قاسم والآخرون على هذا الرأي كإجراء احتياطي. وقاموا من فورهم فذهبوا إلى مكتب الشنافيري المحامي الشرعي ببيت القاضي. وقابلهم الشيخ فشرح له قاسم قضيتهم، وأخبره عن نيتهم في تأجيل رفع الدعوى إلى حين، على أن يستعد هو للأمر بدراسة الموضوع والتأهب لاتخاذ الإجراءات كافة. وعلى خلاف ظن أكثرهم قبل المحامي القضية، وقبض مقدم الأتعاب، فانصرفوا من لدنه مغتبطين. وتفرقوا، فعاد الصحاب إلى الحارة ومضى قاسم إلى المعلم يحيى. وجالسه في دهليز الكوخ يدخنان ويتبادلان الرأي. وبدا المعلم آسفا على ما وقع ووصى قاسم باليقظة والحذر.
وعاد قاسم بعد ذلك إلى داره، ولما فتحت له قمر رأى في وجهها ما أزعجه فسألها عما وراءها فقالت: أرسل حضرة الناظر في طلبك!
فخفق قلب قاسم، وتساءل: متى؟ - آخر مرة منذ عشر دقائق! - آخر مرة؟! - أرسل إليك ثلاث مرات في ظرف ساعة.
واغرورقت عيناها وهي تتكلم، فقال: ليس هذا ما أنتظره منك.
فانتحبت قائلة: لا تذهب!
فقال وهو يتظاهر بالهدوء: الذهاب آمن من التخلف، ولا تنسي أن هؤلاء اللصوص لا يعتدون على أحد في بيوتهم.
وبكت إحسان في الداخل فهرعت إليها سكينة، وقالت قمر: أجل ذهابك حتى أقابل أمينة هانم.
فقال بحزم: هذا لا يليق بنا. سأذهب من فوري، ولا داعي للخوف فلا أحد منهم يعرف عني شيئا.
فتشبثت به قائلة: دعاك أنت لا عجرمة، أخشى أن يكون بعضهم قد وشى بك.
فتخلص منها برفق وهو يقول: قلت لك منذ اللحظة الأولى إن أيام الراحة ولت، وجميعنا يعلم بأننا سنواجه الشر عاجلا أو آجلا، فلا تجزعي هكذا، وابقي بخير حتى أرجع.
78
عاد البواب من داخل بيت الناظر وقال لقاسم في فتور وجفاء: ادخل.
ومضى أمامه فتبعه قاسم باذلا جهده للسيطرة على مشاعره ، وسطعته رائحة الحديقة الزكية دون أن يلتفت إليها، حتى وجد نفسه أمام مدخل البهو. وتنحى البواب عن طريقه فدخل ثابت الجنان بدرجة لم يكتشفها في نفسه من قبل. ونظر أمامه فرأى في أقصى البهو الناظر جالسا على ديوان، وكان هناك شخصان، يجلس أحدهما على مقعد إلى يمين الناظر والآخر إلى يساره، لكنه لم يتبينهما أو يعن بالالتفات إلى أحدهما، واقترب من مجلس الناظر حتى وقف على بعد أذرع منه، فرفع يده بالتحية وقال بأدب: مساء الخير يا حضرة الناظر.
ولمح دون قصد الجالس إلى يمينه فإذا به لهيطة، ولحظ الآخر لكن عينيه حملقتا فيه بلا وعي منه، وتلقى صدمة كادت أن تهيضه. لم يكن الرجل إلا الشيخ الشنافيري المحامي الشرعي! أدرك خطورة الموقف، إن سره انكشف، إن المحامي النذل خان الأمانة، وإنه وقع. التحم في قلبه اليأس بالغيظ والغضب. وعرف أنه لن ينجيه المكر أو الدهاء فصمم على الصمود والتحدي. ولم يكن في الوسع أن يتراجع خطوة، فكان عليه أن يتقدم أو يثبت على الأقل. وقد ذكر موقفه هذا فيما تبع من أيام، وكان يؤرخ به مولد شخص جديد في ذاته لم يكن يتصور وجوده. وانتزعه من دوامته صوت الناظر الجاف وهو يتساءل: أنت قاسم؟
فأجاب بصوت طبيعي: نعم يا سيدي.
فسأله دون أن يأذن له بالجلوس: هل أدهشك وجود الأستاذ؟
فأجاب بنفس النبرة: كلا يا سيدي.
فتساءل بازدراء: أأنت راعي الغنم؟ - انقطعت عن رعي الغنم منذ أكثر من عامين. - وماذا تعمل الآن؟ - وكيلا لزوجتي في أملاكها.
فندت عن الناظر هزة رأس ساخرة، ثم أشار إلى المحامي آذنا له بالكلام فقال الشيخ مخاطبا قاسم: لعلك تعجب من موقفي باعتباري محاميك، ولكن لحضرة الناظر مكانة تعلو على هذه الاعتبارات جميعا. وسيفسح تصرفي لك مجالا للتوبة وهو خير من التورط في عداوة كانت ستؤدي بك إلى الهلاك. وقد أذن لي حضرة الناظر في أن أخبرك بأنني تشفعت لك عنده بالعفو إذا أعلنت التوبة، فأرجو أن تقدر حسن نيتي، وهاك مقدم الأتعاب أرده إليك.
فرمقه قاسم بنظرة قاسية وتساءل: لماذا لم تنصحني بالحق وأنا في مكتبك؟
فأخذ المحامي بجرأته، ولكن الناظر أسعفه بقوله: أنت هنا لتسأل لا لتسأل!
ونهض المحامي مستأذنا بالانصراف، ثم مضى وهو يحبك جبته مداراة لارتباكه. وعند ذاك تفحص الناظر قاسم بنظرة قاسية وقال بنبرة كالسب: كيف سولت لك نفسك الشروع في رفع دعوى علي؟
وجد نفسه محاصرا، فإما القتال وإما القتل، ولكنه لم يدر ماذا يقول؟ فقال الآخر: انطق، خبرني عما وراءك، هل أنت مجنون؟
فقال قاسم في وجوم: أنا عاقل بحمد الله. - لا يبدو هذا مؤكدا، لماذا أقدمت على فعلتك المنكرة؟ لم تعد فقيرا مذ رضيتك المجنونة زوجا لها، فماذا أردت من فعلتك؟
فزمجر قاسم كأنما ليأمن الغضب وقال: لا أريد شيئا لنفسي.
فنظر الناظر نحو لهيطة كأنما يشهده على غرائب ما يسمع، ثم أعاد عينيه إلى قاسم فيما يشبه الثورة، وصاح: إذن لماذا فعلت ما فعلت؟!
فأجاب قاسم: ما أردت إلا العدل.
فضيق الرجل عينيه في حقد وتساءل: أتحسب أن علاقة زوجتك بالهانم قادرة على حمايتك؟
فغض بصره وهو يقول: كلا يا سيدي! - هل أنت فتوة قادر على تحدي فتوات الحارة جميعا؟ - كلا يا سيدي.
فصرخ الرجل: قل إنك مجنون وأرحني. - أنا عاقل والحمد لله. - لماذا شرعت في رفع دعوى علي؟ - أردت العدل. - لمن؟
فارتسم التفكير في عينيه وهو يقول: للجميع.
فتفرس في وجهه مرتابا في عقله، وتساءل: وما شأنك أنت؟
فقال قاسم وكأنه ثمل بشجاعته: بذلك تتحقق شروط الواقف!
فصرخ الناظر: أنت يا جربوع تتكلم عن شروط الواقف؟!
فقال قاسم بهدوء: إنه جدنا جميعا.
فهب الناظر واقفا في غضب وهوى بشعر منشته على وجه قاسم بأقصى قوته وصاح: جدنا؟! ليس فيكم من يعرف أباه، ولكنكم تقولون بكل وقاحة جدنا، يا لصوص يا جرابيع يا سفلة، إنما تتمادى في وقاحتك استنادا إلى حماية هذا البيت لك ولزوجتك، ولكن كلب البيت يفقد حمايته إذا عض يد المحسنين إليه.
ووقف لهيطة ليسكن من ثورة الناظر فقال: عد إلى مجلسك مطمئنا فلا يصح أن تكدر صفوك ذبابة.
فجلس رفعت وشفتاه ترتعشان من الغضب، وصاح: حتى الجرابيع يطمعون في الوقف ويقولون بكل وقاحة جدنا.
وعاد لهيطة إلى مجلسه وهو يقول: الظاهر أن ما تناقله الناس عن الجرابيع صحيح، ومن سوء حظ حارتنا أنهم يسعون إلى الهلاك بأقدامهم.
والتفت إلى قاسم وقال: كان أبوك من أعواني الأوائل فلا ترغمني على قتلك.
فصاح الناظر: إنه يستحق ما هو أفظع من القتل جزاء فعلته، ولولا الهانم لكان الساعة في الهالكين!
وواصل لهيطة استجواب قاسم قائلا: أصغ إلي يا بني، وخبرني عمن وراءك؟
فتساءل قاسم وهو ما زال يستشعر الألم عند موقع المنشة من وجهه: من تقصد يا سيدي؟ - من دفعك إلى رفع الدعوى؟ - لا أحد سوى نفسي. - كنت راعي غنم ثم ابتسم لك الحظ، ففيم تطمع أكثر من ذلك؟ - العدل، العدل يا معلم.
فصر الناظر على أسنانه وهتف: العدل؟! يا كلاب يا أراذل، هذه كلمة السر عندكم إذا اعتزمتم النهب والسرقة.
ثم ملتفتا نحو لهيطة: قرره حتى يقر!
فعاد لهيطة يقول بصوت تتجمع في نبراته نذر الوعيد: خبرني عمن وراءك!
فقال قاسم بتحد خفي: جدنا! - جدنا؟! - نعم، اطلع على شروط وقفه وستعلم أنه هو الذي دفعني.
وهب رفعت واقفا مرة أخرى وهو يصيح: أبعده عن وجهي .. ارمه خارجا.
وقام لهيطة فأخذ قاسم من ذراعه، ومضى به نحو الباب، وشد على ذراعه بقبضة من حديد تحملها الآخر متصبرا، ثم همس في أذنه: اعقل إكراما لنفسك، ولا تضطرني إلى أن أشرب من دمك.
79
دخل قاسم داره فوجد بها زكريا وعويس وحسن وصادق وعجرمة وشعبان وأبو فصادة وحمروش. تطلعوا إليه في إشفاق وصمت، ولما جلس إلى جانب زوجته قال عويس: ألم أنصحك؟
فقالت قمر في عتاب: مهلا يا عمي حتى يستريح.
فهتف الرجل: شر المتاعب ما تجيء صاحبها من نفسه!
وجعل زكريا يتفحص وجه قاسم بعناية ثم قال: أهانوك يا ابن أخي، إني أعرفك كما أعرف نفسي، ما كان أغناك عن هذا كله!
وقال عويس: لولا أمينة هانم ما رجعت إلينا سالما.
وقلب قاسم عينيه في وجوه صحبه وقال: خاننا المحامي اللئيم!
فتصلبت وجوههم، وتبادلوا النظرات في انزعاج، فسبقهم عويس إلى الكلام قائلا: انفضوا بسلام، وليحمد كل منكم الله على نجاته.
وسأله حسن: ما قولك يا ابن عمى؟
فتفكر قاسم قليلا ثم قال: لا أخفي عنكم أن الموت يتهددنا، وأني أعفي من معاونتي من يشاء.
فقال زكريا: فلينته الأمر عند هذا الحد.
فقال قاسم بهدوء وتصميم: لن أتخلى عن الأمر مهما تكن العواقب، ولن أكون دون جبل أو رفاعة برا بجدي وأهل حارتنا.
فقام عويس غاضبا وغادر حجرة الجلوس وهو يقول: هذا الرجل مجنون، وكان الله في عونك يا بنت أخي.
أما صادق فوثب إلى قاسم وقبل جبينه وهو يقول: رددت إلي روحي بما قلت.
وقال حسن متحمسا: الناس في حارتنا يقتلون بسبب مليم، وبلا سبب، فلماذا نخاف الموت عندما نجد له سببا حقا؟!
وارتفع صوت سوارس من الحارة مناديا زكريا فأطل الرجل من النافذة ودعاه إلى الدخول، وما لبث أن دخل الحجرة وجلس وهو مقطب متجهم. ثم نظر إلى قاسم وقال: لم أكن أدري أن في حينا فتوة سواي.
فقال زكريا مشفقا: ليس الأمر كما قيل لك. - ما قيل لي أدهى وأمر!
فقال زكريا متأوها: عبث الشيطان بعقول أولادنا.
فقال سوارس بجفاء: أسمعني لهيطة كلاما ثقيلا بسبب ابن أخيك، كنت أحسبه فتى عاقلا، فإذا بجنونه يفوق كل جنون. اسمعوا جيدا، إذا تهاونت معكم جاء لهيطة ليؤدبكم بنفسه، ولكني لن أسمح لأحد بأن يعرض كرامتي للمهانة، فالزموا حدودكم، والويل لمن تحدثه نفسه بالعناد.
وراح سوارس يراقب أعوان قاسم فلم يسمح لأحد منهم بالاقتراب من بيته، وفي سبيل ذلك أهان صادق ولكم أبو فصادة، وطلب إلى زكريا أن ينصح قاسم بالتزام داره حتى تنسى الزوبعة؛ ووجد قاسم نفسه سجينا في بيته، لا يزوره أحد سوى ابن عمه حسن. ولكن ما من قوة تستطيع أن تسجن الأخبار في الحارة؛ فقد تسللت إلى حيي رفاعة وجبل همسات عما يضطرب في حي الجرابيع، عن دعوى كادت أن ترفع على الناظر، وعن مزاعم خاصة بالشروط العشرة، بل عن اتصال وقع بين قنديل خادم الجبلاوي وبين قاسم. وثارت النفوس بشتى الانفعالات، وتطايرت التهم والسخريات. وقال حسن يوما لقاسم: الحارة تتهامس بالخبر، وفي كل غرزة لا حديث إلا عنك.
فرفع قاسم إليه وجها غائما بالهم والفكر كشأنه في الأيام الأخيرة وقال: انقلبنا سجناء، والأيام تمر بلا عمل.
فقالت قمر بإشفاق: لا يطالب مخلوق بما فوق طاقة البشر.
وقال حسن: إخواننا على أشد ما يكون من الحماس.
فسأله قاسم: أحق أن آل جبل وآل رفاعة يرمونني بالكذب والجنون؟!
فغض حسن بصره متألما وقال: الجبن أفسد الرجال!
فهز قاسم رأسه في حيرة وتساءل: لماذا يكذبني آل جبل وآل رفاعة ومنهم من قابله الجبلاوي أو حادثه؟ لماذا يكذبونني وهم أولى الناس بتصديقي وتأييدي؟! - إن داء حارتنا الجبن ولذلك فهم ينافقون فتواتهم!
وارتفع من الطريق صوت سوارس كالخوار، وهو يسب ويلعن فأطلت الأسرة من الشباك فرأوا سوارس ممسكا بتلابيب شعبان وهو يصرخ فيه: ماذا جاء بك هنا يا ابن الزانية؟
وعبثا حاول الشاب التخلص من قبضته، وإذا بسوارس يقبض على عنقه بيسراه وينهال باليمني ضربا على وجهه ورأسه. وغضب قاسم غضبا شديدا فتراجع عن الشباك وهرع نحو الباب غير مبال بتوسلات قمر. وفي أقل من دقيقة كان يقف أمام سوارس ويقول له بحزم وتصميم: اتركه يا معلم سوارس.
فلم يكف الرجل عن تكييل الضربات لفريسته وصاح بقاسم: احترم نفسك وإلا أبكيت عليك عدوك!
وقبض قاسم على يده الضاربة وشد عليها بقوة هاتفا بغضب: لن أدعك تقتله، وافعل ما تشاء.
وترك سوارس شعبان فانهار على الأرض في غيبوبة، وخطف مقطف تراب من فوق رأس امرأة عابرة وألبسه رأس قاسم. وهم حسن بالوثوب عليه لولا أن طوقه زكريا بذراعه في الوقت المناسب الذي وصل فيه. ورفع قاسم المقطف عن رأسه فبدا وجهه كالمختنق وانسال التراب على رأسه وثوبه حتى غطاه، وسرعان ما تملكته نوبة سعال. وصرخت قمر وصوتت سكينة، وجاء عويس مهرولا، وانطلق النساء والرجال والصغار من الأبواب نحو الموقعة فعلا اللغط والضوضاء. وكان زكريا يشد على ذراع ابنه حسن بكل قواه وينظر في عينيه الجاحظتين بتوسل وتحذير. واقترب عويس من سوارس قائلا: امسح العيب في وجهي أنا يا معلم سوارس.
وهتف أكثر من صوت: «شفاعة لله يا معلم!» .. حتى صرخ سوارس قائلا: هذا قريب وذاك شفيع، وبين هذا وذاك ضاع سوارس وانقلب مرة بعدما كان فتوة!
فصاح زكريا: أستغفر الله يا معلم، أنت سيدنا وتاج رأسنا.
ومضى سوارس إلى القهوة، فرفع رجال شعبان، وراح حسن ينفض التراب عن وجه قاسم وثوبه، واستطاع المتجمعون - بعد اختفاء سوارس - أن يعبروا عن أسفهم.
80
وفي مساء ذلك اليوم ضج أحد الربوع بحي الجرابيع بالصوات ينعى ميتا. أطلقته حنجرة متهالكة وسرعان ما رددته عشرات الحناجر في الربوع. وأطل قاسم من النافذة فسأل فطين بياع اللب فأجابه الرجل: «تعيش أنت، شعبان مات!» وغادر الرجل داره فزعا فقصد ربع شعبان على مبعدة ربعين من داره. وهنالك وجد الحوش مظلما ومكتظا بسكان الشقق التحتانية الذين راحوا يتبادلون كلمات الرثاء والحزن والسخط، على حين تجاوبت دهاليز الأدوار الفوقانية بالصوات. وسمع امرأة تقول بعنف: لم يمت ولكن قتله سوارس. - إلهي يخرب بيتك يا سوارس!
فاعترضت ثالثة تقول: ما قتله إلا قاسم! يفتري الأكاذيب ورجالنا تقتل.
فانقبض قلب قاسم حزنا، وشق طريقه في الظلام حتى صعد إلى أول دور حيث توجد شقة القتيل. ورأى على ضوء سراج مثبت في حائط الدهليز أمام الشقة أصحابه حسن وصادق وعجرمة وأبو فصادة وحمروش وآخرين، فأقبل صادق نحوه وهو يبكي فعانقه دون أن ينبس. وقال حسن وقد بدا وجهه مروعا تحت الضوء الشاحب: لن يذهب دمه هدرا.
واقترب عجرمة من قاسم وهمس في أذنه: زوجته في حالة سيئة حتى إنها حملتنا مقتله.
فهمس قاسم له: كان الله في عونها.
وقال حسن في نبرة انتقامية: القاتل لا بد أن يقتل.
فقال أبو فصادة بغيظ: من ذا الذي يشهد عليه في حارتنا؟
فقال حسن: لكننا نستطيع أن نقتل كالآخرين.
فلكزه قاسم ليسكته وقال: من الحكمة ألا تسيروا في جنازته ولكننا سنجتمع في القرافة.
واتجه قاسم نحو شقة الفقيد فاعترضه صادق ليمنعه ولكنه نحاه جانبا ودخل. ونادى زوجته فجاءت متعجبة تطالعه بعينين دامعتين، ثم تحجرت نظراتها وسألته: ماذا تريد؟
فقال بحزن: جئت أعزيك.
فقالت بحدة: أنت قتلته، ما كان أغنانا عن الوقف، وأحوجنا إليه هو!
فقال برقة: ربنا يصبرك، ويهلك المجرمين، ونحن أهلك كلما احتجت إلى أهلك، ولن يضيع دمه.
رمقته شزرا واستدارت راجعة. وبرجوعها انفجر النواح والعويل، فغادر المسكن كئيبا مغتما.
وعندما طلع الصباح رأى الناس سوارس جالسا عند مدخل قهوة دنجل يقلب في المارين وجها مدموغا بالتحدي والإجرام. وحياه الناس مضاعفين له التودد مداراة لسخطهم. وتجنبوا الاشتراك في العزاء فلبثوا في دكاكينهم أو وراء عرباتهم أو فوق التراب. وخرج النعش محمولا عند الضحى واقتصر المشيعون على الأهل والأقارب، ولكن قاسم انضم إليهم غير مبال بنظرات الفتوة المحرقة. وغضب صهر القتيل فقال لقاسم محتدا: تقتل القتيل وتمشي في جنازته؟!
فلاذ بالصمت والصبر حتى سأله آخر بخشونة: لماذا جئت؟
فقال بإصرار: لأقاتل كما قاتل صديقي - رحمه الله - كان شجاعا، ولستم كما كان، وتعرفون القاتل وتصبون غضبكم علي.
فوجم أكثرهم. وتجمهرت النساء وراء الرجال، حافيات يهرولن بالسواد، يحثون التراب فوق رءوسهن ويلطمن الخدود. واخترقت الجنازة الجمالية نحو باب النصر. ولما تمت مراسم الدفن تفرق المشيعون إلا قاسم، فقد تباطأ في السير حتى تخلف عنهم، ورجع إلى القبر فوجد أصحابه في الانتظار. واغرورقت عيناه بالدمع فأجهشوا جميعا بالبكاء. وجفف عينيه براحته وقال: من يرد السلامة فليذهب.
فقال حمروش: لو كنا نريد السلامة ما وجدتنا حولك.
فقال وهو يطرح يده على شاهد القبر: عز علي فقده. كان شجاعا متحمسا، وذهب غدرا ونحن في أشد الحاجة إليه.
فقال صادق: قتله فتوة غادر، وسوف يبقى منا بعض ليشهدوا مصرع آخر فتوة في حارتنا.
فقال حمروش: ولكن لا ينبغي أن نضيع غدرا كما ضاع فقيدنا، فكروا في الغد وكيف نحقق النصر؟! وكيف نجتمع لتبادل الرأي؟
فقال قاسم: لم يكن لي من أنيس في سجني إلا التفكير في هذا، واهتديت إلى رأي، ليس باليسير ولكن لا محيد عنه.
فاستطلعوه متسائلين فأردف: اهجروا حارتنا، فليدبر كل شأنه وليهاجر. سنهاجر كما هاجر جبل قديما وكما هاجر المعلم يحيى بالأمس، ولنقم نادينا في مكان آمن بالخلاء حتى يشتد ساعدنا ويكثر عددنا.
فهتف صادق: نعم الرأي. - لن نطهر حارتنا من الفتونة إلا بالقوة، ولن نحقق شروط الواقف إلا بالقوة، ولن يسود العدل والرحمة والسلام إلا بالقوة، وستكون قوتنا أول قوة عادلة غير باغية.
استمعوا بقلوب واعية. وتطلعوا إلى قاسم، وإلى القبر وراء ظهره، فخيل إليهم أن شعبان يشاركهم الاستماع ويباركه. وقال عجرمة متأثرا: نعم فبالقوة تحل المشاكل، القوة العادلة غير الباغية، كان شعبان يقصدك عندما اعترضه سوارس. لو كنا معه لاعترض الفتوة قوة لا يسهل قهرها، لعنة الله على الخوف والتفرق.
استروح قاسم لأول مرة نسمة ارتياح وابتهاج فقال: لقد وضع جدنا ثقته بين أيدينا وهو عن يقين يؤمن بأن في أبنائه من هم أهل لحملها.
81
ورجع قاسم إلى بيته عند منتصف الليل، لكنه وجد قمر مستيقظة تنتظره. وبالغت أكثر من عادتها في العناية به والحنو عليه، وكان يؤلمه بقاؤها مستيقظة حتى تلك الساعة، ثم تبين له ذبول في عينيها واحمرار يخلفه البكاء كما تخلف الشمس الشفق، فتساءل في كآبة: هل كنت تبكين؟
لم تجبه، كأنما شغلت عنه بكوب اللبن الدافئ الذي تعده له، فعاد يقول: موت شعبان أحزننا جميعا - رحمه الله.
فبادرته قائلة: بكيت على شعبان قبل ذلك، لكنني كنت أبكي كلما تذكرت اعتداء الرجل عليك، أنت آخر رجل يستحق أن يهال التراب على رأسه ووجهه.
فقال محزونا: ما أخف هذا بالقياس إلى ما أصاب صاحبنا المسكين!
فجلست إلى جانبه وهي تقدم له الكوب وتمتمت: وكم يضايقني ما يقال عنك!
فابتسم متظاهرا بالاستهانة ورفع الكوب إلى فيه، فأردفت مغيظة: إن جلطة يؤكد لآل جبل أنك طامع في الوقف لتستأثر به وحدك، وهكذا يقول حجاج في آل رفاعة ، ويشيعان عنك أنك تنتقص من جبل ورفاعة.
فقال دون أن يخفي ضيقه: أعرف ذلك، كما أعرف أنه لولاك لما كنت حتى اليوم حيا.
فربتت كتفه بحنان. وإذا بها تتذكر الأيام الماضية لغير ما سبب؛ أيام لم تكن لأحاديثهما نهاية ولا لسعادتهما غاية، وأفراح الليالي المضيئة بعد مولد إحسان. هي اليوم لا تملك منه شيئا ولا يملك هو من نفسه شيئا، حتى آلام المرض التي تنتابها أحيانا تخفيها عنه؛ إنه لا يفكر في نفسه فكيف تشغله بنفسها؟ وهي تخجل أن تثقل عليه حتى لا تعين أعداءه بغير قصد عليه. من ذا الذي يطمئنها عليه وأيام العمر تولي كما ولت أيام الراحة؟ سامحك الله يا حارتنا. وعاد قاسم يقول: لا يغيب عني الأمل ولو في الظلام، وما أكثر الأصدقاء الصادقين وإن بدوت وحيدا! تحدى أحدهم سوارس، فمن كان يجرؤ على ذلك من قبل، والآخرون مثله، والشجاعة أخطر ما يلزم حارتنا كي لا تقضي العمر تحت الأقدام، فلا تنصحيني بالسلامة، إن الذي قتل، قتل وهو في طريقه إلى داري، وأنت لا ترضين لزوجك بمذلة الجبن.
ابتسمت قمر وهي تسترد الكوب فارغا، وقالت: إن زوجات الفتوات يزغردن عند المعارك وهي شر، فكيف أرضى بأن أكون دونهن للخير؟
وأدرك أن حزنها أخطر مما تبديه فربت خدها بحب وقال معزيا: أنت كل شيء لي في دنياي، أنت خير رفيق في الحياة.
فابتسمت استدعاء للسكينة التي يجب أن تسبق النوم.
وعجب عم شنطح مبيض النحاس من اختفاء صادق، وكان سعى إليه في داره فلم يجد له ولا لأحد من ذويه أثرا. وعبد الفتاح الفسخاني كذلك لم يجد لعامله عجرمة أثرا في الحارة. ولم يعد أبو فصادة إلى مقلى حمدون ولم ينذره بغيابه. وأين حمروش؟ قال حسونة الفران: إنه اختفى كأن نيران الفرن التهمته. وآخرون ذهبوا بلا عودة. وانتشر الخبر في حي الجرابيع وامتدت منه أصداء إلى بقية الحارة حتى قال الناس في حيي جبل ورفاعة هازئين: إن الجرابيع يهاجرون وإن سوارس لن يجد مع الأيام من يحصل منه الإتاوة. واستدعى سوارس زكريا إلى قهوة دنجل وقال له منذرا: ابن أخيك خير من يدلنا على سر الهاربين.
فقال زكريا: يا معلم سوارس لا تظلمه، مضت أيام وأسابيع وأشهر والرجل لا يغادر داره.
فقال الفتوة مزمجرا: ألاعيب أطفال، لكني استدعيتك لأحذرك مما قد يصيب ابن أخيك. - قاسم من دمك، ولا تشمت بنا العدو! - هو عدو نفسه وعدوي، إنه يتوهم نفسه جبل هذا الزمان، وهذه اللعنة هي أقرب سبيل إلى باب النصر.
فقال زكريا في جزع: حلمك يا معلم سوارس، نحن جميعا في حمايتك!
ولما رجع زكريا إلى مسكنه صادف حسن راجعا من بيت قاسم فأفرغ فيه الحنق الذي ملأه به سوارس، غير أن حسن قاطعه قائلا: صبرك يا أبي، قمر مريضة، مريضة جدا يا أبي.
وعلمت الحارة بمرض قمر حتى بيت الناظر. ولازمها قاسم وهو في غاية من الكآبة والحزن. وكان يهز رأسه في حيرة ويقول: في لحظة واحدة ترقدين بلا حول!
فقالت المرأة بصوت ضعيف: كنت أخفي عنك حالي رحمة بقلبك المثقل بالمتاعب.
فقال في حزن شديد: كان ينبغي أن أشاركك آلامك من أول الأمر.
فانفرجت شفتاها الشاحبتان عن ابتسامة كالزهرة الذابلة في عود ناضب، وقالت: ستعود الصحة إلى سابق عهدها.
بذلك دعا قلبه. لكن ما هذا الغيم يغشى العين؟ وما هذا الجفاف يسري في الوجه؟ وما تلك القدرة على إخفاء الألم؟ ذلك كله من أجلك أنت. يا إلهي احفظها برحمتك. وأبقها لي، واعطف على بكاء الطفلة الذي لا ينقطع! - سماحك معي جعلني لا أسامح نفسي.
فابتسمت مرة أخرى فيما يشبه العتاب. وجيء بأم سالم لتبخرها، وأم عطية لتعد لها بعض المعاجين، وإبراهيم الحلاق ليحجنها، ولكن أم إحسان استعصت فيما بدا على الشفاء. وقال لها قاسم: وددت لو أفتديك من ألمك.
فأجابت بصوت واهن كالصمت: لا أصابك سوء.
ثم مردفة: ... يا أحب الناس إلى قلبي.
وقال لنفسه: «لمنظرها تسود الدنيا في عيني!»، وقالت هي: العاقل مثلك آخر من يعز عليه العزاء.
وجاء زائرون وزائرات، ولكنه ضاق بالمكان ففر إلى سطح البيت. كانت أصوات النساء ترتفع من نوافذ الربوع، واللعنات تختلط بنداءات الباعة في الطريق، وبكاء طفل حسبه لأول وهلة صوت إحسان حتى رأى صاحبه وهو يتمرغ في تراب سطح مجاور. وكان الظلام يهبط وئيدا، وسرب من الحمام يعود إلى برجه، ونجمة وحيدة تومض في الأفق. وتساءل عن معنى النظرة الغريبة التي تلوح في عيني قمر، كأنها لا ترى، وعن اهتزازات جانب فمها غير الإرادية، وعن الزرقة التي تصبغ شفتيها، وعن شعوره البالغ بالانقباض! ولبث ساعات ثم نزل، فقابل سكينة في الصالة حاملة إحسان بين يديها فقالت له همسا: ادخل على مهل كي لا توقظها.
واستلقى على الكنبة المواجهة للفراش في ضوء خافت ينبعث من مصباح فوق أرضية الشباك. ولم يكن ثمة صوت في الحي إلا نواح الرباب، ثم تلاه طاطا الشاعر قائلا: «فقال الجد بهدوء: رأيت أن أعطيك فرصة لم تتح لأحد ممن في الخارج، وهي أن تعيش في هذا البيت، وأن تتزوج به، وأن تبدأ حياة جديدة فيه.
فتتابعت دقات قلب همام في نشوة من الأفراح، وقال: الشكر لك على نعمتك. - إنك تستحقها.
واختلج نظر الشاب بين جده وبين السجادة، ثم تساءل في إشفاق: وأسرتي؟
فقال الجبلاوي في عتاب: قلت ما أريد بوضوح.
فقال همام باستعطاف: إنهم يستحقون رحمتك وعفوك!»
وندت عن النائمة حركة لا تخلو من عنف فوثب من فوق الكنبة إليها. رأى في عينيها بريقا جديدا حل محل الغيم، فسألها عما بها فهتفت بصوت قوي: إحسان! أين إحسان؟!
غادر الحجرة مسرعا، ثم عاد وفي أثره سكينة حاملة الصغيرة النائمة. وأشارت قمر نحو إحسان فقربتها سكينة إليها حتى لثمت خدها، على حين جلس قاسم على حافة الفراش. ومالت عيناها إليه، ثم همست: ما بي أعظم!
فمال نحوها متسائلا: ماذا تعنين؟ - آلمتك كثيرا ولكن ما بي أعظم.
فعض شفته ثم قال: قمر، أنا حزين لأني عاجز عن تخفيف ألمك!
فقالت بإشفاق: أخاف عليك من بعدي.
فقال في حزن شديد: لا تتحدثي عني. - قاسم، ارحل، الحق بأصحابك، سيقتلونك إن بقيت. - نرحل معا.
فقالت بمشقة: ليس الطريق واحدا. - لا تريدين أن ترحميني كما عودتني. - آه، كان ذلك في الأيام الماضية!
وبدت كأنها تقاوم ضغطا شديدا فلوحت بيدها. واشتد ميله نحوها حتى امتلأ بأنفاسها. وتلوت، وامتدت رقبتها كالمستغيثة، وانطلق صدرها في عنف، وزفر حشرجة قاسية، فصاحت سكينة: أجلسها، تريد أن تجلس.
فأحاطها بذراعيه ليجلسها ولكن ندت عنها شهقة كأنها وداع أبكم، وانهار رأسها على صدره. وهرولت سكينة بالطفلة إلى الخارج.
ومن الخارج دوى صواتها يمزق الصمت.
82
وفي الصباح ازدحم بيت قاسم والطريق أمامه بالمعزين. إن لصلات القربى في الحارة احتراما متأصلا لا تحظى بجزء منه شتى الفضائل مجتمعة. فلم يكن بد من أن يجيء سوارس معزيا، وما أسرع أن أقبل وراءه الجرابيع! ولم يكن بد من أن يجيء الناظر رفعت معزيا فتبعه على الأثر لهيطة وجلطة وحجاج، وما أسرع أن أقبل وراءهم كل من هب ودب، فانتظمت الجنازة جموعا غفيرة لم تشهد لها الحارة مثيلا من قبل إلا في جنازات الفتوات. وتحلى قاسم بصبر الرجل الحكيم على رغم آلامه الدفينة. وحتى في ساعة الدفن بكت جميع حواسه وجوارحه إلا عينيه. وانصرف المعزون حتى لم يبق في المدفن إلا قاسم وزكريا وعويس وحسن، وعند ذاك ربت زكريا عضد قاسم وقال بأسى: شد حيلك يا ابن أخي، كان الله في عونك.
فانحنى عوده قليلا وهو يزفر من الأعماق، وغمغم: قلبي دفن في التراب يا عمي.
فتقلص وجه حسن تأثرا، وساد صمت المدفن كأشد ما يكون الصمت. وانتقل زكريا خطوة وهو يقول: آن لنا أن نذهب.
لكن قاسم تشبث بموقفه وهو يقول في استياء: ما الذي جاء بهم؟
ففطن زكريا إلى من يعني بقوله فقال: لهم الشكر على أي حال.
فتشجع عويس قائلا: ابدأ معهم من جديد، فهذه الخطوة منهم تتطلب منك خطوات، ومن حسن الحظ أن ما يقال عنك خارج حينا لا يؤخذ مأخذ الجد!
فآثر أن يغوص في الصمت والحزن على مجادلته. وإذا بجماعة تقبل على رأسها صادق وكأنما كانوا يرصدون اختفاء المعزين. كانوا كثرة وليس فيهم غريب فعانقوا قاسم حتى دمعت عيناه. وقلب عويس عينيه فيهم بامتعاض ولكن أحدا لم يأبه له، وقال صادق مخاطبا قاسم: لم يعد ثمة ما يبقيك في الحارة.
لكن زكريا قال معترضا في حدة: ابنته وداره وأملاكه هناك.
وقال قاسم بلهجة ذات مغزى: كان بقائي في الحارة ضروريا فبفضله ازددتهم مع الأيام عددا!
ونظر إلى الوجوه المتطلعة إليه كأنما يستشهد بكثرتها على صدق قوله. فأكثرهم ممن أغراهم بالهجرة واللحاق بأصحابه حينما كان يتسلل من داره كل ليلة عقب نوم الحارة فيقصد من يأنس فيهم مودة وحسن استعداد للاقتناع بكلامه. وسأله عجرمة: هل يطول بنا الانتظار؟ - حتى يتجمع عندكم عدد كاف.
وانتحى به صادق جانبا فقبله وهمس له: قلبي يتقطع حزنا لك، فإني أدرى الناس بقسوة فجيعتك.
فعاوده التأثر، وهمس: صدقت، ما أقسى الألم!
ورمقه بإشفاق ثم قال: عجل باللحاق بنا فإنك اليوم وحيد. - كل شيء رهن بوقته.
وقال عويس بصوت مرتفع: ينبغي أن نعود.
وتعانق الصحاب مودعين، وعاد قاسم ورفاقه. ومضت الأيام وهو في داره وحيد كئيب حتى خافت عليه سكينة عواقب الحزن. ولكنه واصل جولاته الليلية الخفية بهمة لا تعرف الوهن. ومضى عدد المختفين في النمو وأخذ الناس يتساءلون حيارى. واشتدت السخرية بحي الجرابيع وفتوتهم في بقية الحارة، وقالوا: إن نوبة سوارس في الهرب ستجيء اليوم أو غدا. وقال له عمه زكريا ذات يوم محذرا: هذه حال تدعو إلى أشد القلق، وتخشى عواقبها.
ولكن لم يكن من الانتظار بد. وكانت أياما مليئة بالعمل والخطر، وكانت إحسان البسمة الوحيدة في وجهه المتجهم. وكانت تتعلم الوقوف معتمدة على أطراف المقاعد ثم تتطلع إليه بوجهها الصافي وتحدثه بلغة العصافير والبلابل. وكان ينعم النظر في وجهها بحنان ويقول لنفسه: ستكون طفلة جميلة ولكن الأهم عندي أن تكون كأمها طيبة وحنانا. وسره أن تطالعه بعينيها السوداوين في وجه قمر المستدير لتظل رمزا باقيا للعلاقة المحبوبة التي مزقها الدهر. وترى هل يمتد به العمر حتى يراها عروسا في الحسان أو كتب عليها ألا تجني من دار مولدها إلا أليم الذكريات؟
ويوما طرق باب الدار طارق فذهبت سكينة تتساءل: من القادم؟ فجاءها صوت يافع قائلا: افتحي يا سكينة.
فتحت الباب فرأت فتاة في الثانية عشرة أو تزيد، ملفوفة على غير المألوف في ملاءة وعلى الوجه حجاب. دهشت سكينة وسألتها عما تريد، ولكنها سارعت إلى حجرة قاسم وهي تقول بلهوجة: مساء الخير يا عمي!
ونزعت النقاب فبدا وجه بدري قمحي بديع القسمات، يقطر خفة، فقال قاسم متعجبا: أهلا بك، اجلسي، أهلا وسهلا.
قالت وهي تجلس على حافة الكنبة: أنا بدرية، وأرسلني إليك أخي صادق.
فقال قاسم باهتمام: صادق! - نعم.
ورنا إليها مستطلعا، ثم قال: ماذا دفعه إلى هذه المخاطرة؟
فقالت باهتمام زادها ملاحة: لا يمكن أن يعرفني أحد في الملاءة.
وأدرك أن جسمها أكبر من سنها فهز رأسه كالمطمئن فأردفت في مزيد من الاهتمام: إنه يقول لك أن غادر الحارة فورا، فإن لهيطة وجلطة وحجاج وسوارس تآمروا على قتلك الليلة.
قطب كالمنزعج على حين شهقت سكينة، وسألها: كيف علم بذلك؟ - أخبره المعلم يحيى. - ولكن كيف عرف يحيى ذلك؟ - أفشى سكران السر في حانة كان بها صديق للمعلم يحيى. هذا ما قاله أخي.
وجعل ينظر إليها صامتا حتى قامت وأخذت تحبك الملاءة حول جسدها الغض، فقام بدوره وهو يقول: أشكرك يا بدرية، تخفي جيدا، وبلغي تحياتي إلى أخيك، واذهبي بسلام.
فأسدلت النقاب على وجهها وتساءلت: ماذا أقول له؟
خبريه بأننا سنلتقي قبل الصباح.
فصافحته ثم ذهبت.
83
اصفر وجه سكينة ونطق بعينيها الذعر، وهتفت قائلة: فلنغادر البيت دون إبطاء.
وتوثبت للتحرك فقال لها: لفي إحسان وأخفيها في شملتك واخرجي كأنك ذاهبة لبعض شأنك ثم اقصدي مدفن المرحومة وانتظري هنالك. - وأنت يا سيدي؟! - سألحق بك في الوقت المناسب.
فترددت عيناها بين الحيرة والجزع فقال بنبرة مطمئنة: سيذهب بكما حسن إلى المكان الذي سنقيم فيه.
وفي ثوان تأهبت للرحيل فلثم إحسان مرات، ثم قالت له المرأة وهي تمضي نحو الباب: استودعتك الحي الذي لا يموت.
ووقف وراء الخصاص يراقب الطريق فرأى الجارية وهي تسير نحو الجمالية حتى غيبها المنعطف. وجعل قلبه يخفق وهو يرنو إلى ثنية ذراعها حول الحمل الثمين. وأجال بصره في الحي فرأى رجالا من أعوان الفتوات، بعضهم يجلس بقهوة دنجل والبعض يتسكع هنا وهناك، وتكاد معالمهم تذوب في الظلام الزاحف. الدلائل تقطع بأنهم يتأهبون. ولكن هل يتربصون به حتى يخرج لجولته الليلية إن كان سرها انكشف لهم؟ أو سيطبقون على داره في آخر الليل؟ إنهم ينتشرون منذ الآن على سبيل الحيطة أن يكون سر مؤامرتهم انكشف. وها هم أولاء يدبون في الظلام كالحشرات تفوح من أنفاسهم رائحة الجريمة، فهل يلقى مصير جبل أو مصير رفاعة؟ هكذا وجد رفاعة نفسه في ليلة من الليالي المظلمة. وتوارى في داره بقلب مفعم بالنوايا الطيبة وأسفل الدار تدب أقدام غليظة تنضح جلود أصحابها بشهوة الدم. متى تكفين عن سفك الدماء يا حارتنا التعيسة؟ ومضى يتمشى في الحجرة ذهابا وجيئة حتى طرق الباب وترامى إليه صوت حسن وهو يناديه. وجاء حسن بجسمه الضخم وعيناه تعكسان نظرة قلقة، فقال: في الحي حركة غريبة .. مريبة!
فسأله دون اكتراث ظاهر لملاحظته: هل عاد عمي من تجواله؟ - كلا، لكني أقول: إنه توجد في حينا حركة مريبة، انظر من شيش الشباك! - رأيت ما أزعجك وعرفت ما وراءه. حذرني صادق في الوقت المناسب بإرسال أخته الصغيرة إلي، وإذا صدقت رسالته فالفتوات سيحاولون قتلي الليلة، لذلك هربت إحسان مع سكينة وهما ينتظرانك في مدفن المرحومة، فاذهب إليهما وسيروا جميعا إلى مقر إخواننا. - وأنت؟ - سوف أهرب بدوري وألحق بكم.
فقال حسن بعزم: لن أتركك وحدك!
فقال برجاء لم يخل من استياء: افعل ما قلت لك دون تردد، سأهرب بالحيلة لا بالقوة، ولن تنفعني قوتك إذا ألجأتنا الظروف إلى المقاومة، ولكن ذهابك سيحمي ابنتي، ويمكنك أن تضع بعض رجالنا على رءوس الطرق من الجمالية حتى الجبل لعلهم يهبون إلى مساعدتي إن احتجت لهم عند الهرب.
أذعن حسن لإرادته، فصافحه بقوة وقال: ليس كمثل عقلك شيء، فلعلك أعددت للأمر عدته.
فأجابه بابتسامة مطمئنة، وذهب حسن بوجه عابس. ولم يمض طويل وقت حتى جاء عم زكريا وهو يلهث، فأيقن أنه عائد من عند المعلم يحيى بالخبر، فبادره قائلا: أرسل إلي صادق بالخبر.
فقال الرجل باضطراب ظاهر: علمت به منذ قليل لدى مروري بالمعلم فخشيت ألا يكون بلغك.
فأجلسه قاسم وهو يقول كالمعتذر: اعف عما أسبب لك من متاعب. - كنت أتوقع هذا من زمن، ووجدت من سوارس تغيرا في المعاملة فرحت أكذب نفسي، ورأيت اليوم الشياطين منتشرين كالجراد، وأنت وحيد ويتعذر عليك الهرب.
فاشتد عوده في تصميم وهو يقول: سأحاول، وإذا فشلت فهناك في الجبل رجال لا يغلبون.
فقال زكريا في ضجر: ما قيمة هذا كله بالنسبة لحياتك أو طفلتك!
فقال قاسم معاتبا: إني أعجب كيف لم تكن على رأس أعواني!
فقال وكأنه لم يسمع قوله: تعال معي إلى سوارس نساومه ونتعهد له بما يشاء!
فضحك قاسم ضحكة مقتضبة، سخرت من اقتراح عمه دون كلام. والتفت زكريا إلى الشيش يطالع من خلاله الطريق فبدا مظلما مخيفا. وانتبه على صوت قاسم وهو يتساءل: لماذا اختاروا الليلة بالذات؟
فأجاب زكريا: أول أمس جهر رجل من جبل بأن قضيتك كانت لخير الجميع، وقيل مثل ذلك عن رجل من رفاعة، فلعل ذلك ما دفعهم إلى التعجيل.
فتهلل وجه قاسم وقال: أرأيت يا عمي؟ أنا عدو الناظر والفتوات ولكني صديق حارتنا، وسيعلم الجميع ذلك. - فكر الآن فيما ينتظرك.
فقال قاسم باهتمام: إليك خطتي، سأهرب عبر الأسطح حتى بيتك تاركا مصباحي مضاء للتضليل. - قد يراك أحد. - لن أشرع في الهرب حتى تخلو الأسطح من السمار. - وإذا سبقوا بالهجوم على دارك؟ - لن يقع هذا حتى تنام الحارة. - قد يبلغ بهم الاستهتار حدا لا تتصوره.
فقال باسما: في هذه الحال أموت، ومن ذا يدفع الأجل؟
فرفع الرجل إليه وجها ينطق بالرجاء، لكنه طالع ابتسامة هادئة ثابتة كأنها التصميم مجسدا فقال يائسا: قد يفتشون داري. - من حسن الحظ أنهم لا يعلمون بتسرب مؤامرتهم إلينا، ولذلك سأسبقهم إلى الهرب إن شاء الله.
وتبادلا نظرة طويلة، أفصح من الدمع، ثم تعانقا. ولما وجد نفسه وحيدا تغلب على تأثره واقترب من النافذة يراقب الطريق. بدا الحي في حياته المألوفة. فالصغار يلعبون حول مصابيح العربات، والقهوة تعج بالسمار، والأسطح تضج بأحاديث النساء؛ وسعال المدخنين يتخلله الفحش والسباب، ونواح الرباب يرتفع، وهذا سوارس رابض على عتبة القهوة، ورسل الموت تحتل الأركان. يا سلالة الخيانة ويا لصوص البشر، منذ أطلق إدريس ضحكته الباردة وأنتم تتوارثون الجريمة وتغرقون الحارة في بحر من الظلمات؛ ألم يئن للطير الحبيس أن ينطلق؟
ومضى الوقت وئيدا ثقيلا، ولكنه حمل ليل السمار إلى غايته. صمتت الأسطح، وخلا الطريق من العربات والصغار، وأقفرت المقاهي، وعلت إلى حين أصوات الأشباح العائدة، ورجع من الجمالية السكارى وهم يهلوسون، حتى الغرز أطفأت المجامر، ولم يبق في الظلام إلا ندامى الموت. وقال لنفسه: «حان وقت العمل!» وسارع إلى السلم فرقاه إلى السطح. ومضى إلى السور الفاصل بين سطحه والسطح الملاصق فعبره دون عناء وهم بالجري، وإذا بشبح يعترضه قائلا: «قف!» فأدرك أن الأسطح محتلة بالقتلة وأن حصاره أحكم مما قدر. واستدار ليرجع ولكن الآخر وثب نحوه وأحاطه بذراعين قويتين؛ واستدعى قوته التي ضاعفها الخوف، وفاجأه بضربة في بطنه ففك حصار ذراعيه، وثنى بركلة في بطنه أيضا فسقط وهو يشهق ثم لم يقم. وجاءت سعلة مكتومة من السطح الثالث أو الرابع جعلته يعدل عن التقدم فتراجع مضطربا إلى سطحه. وقف عند السلم يتنصت فسمع وقع أقدام صاعدة! وتكتل الصاعدون أمام باب شقته. وخبطوا الباب خبطة شديدة فانفتح وهو يكاد يقتلع، ثم تدافعوا إلى الداخل. وهبط مسرعا دون أن يضيع ثانية حتى انتهى إلى الحوش. وسارع إلى الباب. ولمح خارج الدار شبحا يتحرك فانقض عليه قابضا على عنقه، ثم نطحه برأسه، وطعن بطنه بركبته، ودفعه فاستلقى على ظهره دون حراك. واندفع نحو الجمالية وضربات قلبه تتلاحق. الآن تبين لهم خلو الدار، ولعل بعضهم يصعد إلى السطح؛ ليعثر على صاحبهم الملقى، ولعل الآخرين يهبطون في أعقابه. مر بربع عمه دون أن يتوقف، ولما اقترب من نهاية الحارة أطلق ساقيه. وعند اتصال الحارة بالجمالية وثب شبح في طريقه وصاح بصوت كالرعد لينبه الآخرين: «قف يا ابن اللئيمة!» ورفع نبوته قبل أن يحيد قاسم عن طريقه. ولكن شبحا آخر ظهر من زاوية المنعطف وضرب الشبح الأول بهراوته على رأسه فهوى صارخا ثم قال لقاسم: فلنجر بكل ما فينا من قوة.
وانطلق قاسم وحسن يجريان في الظلام دون مبالاة بما قد يعترضهما من حجر أو نقرة.
84
عند مدخل حارة الوطاويط انضم صادق إليهما، وعند نهايتها وجدوا عجرمة وأبو فصادة وحمروش حول عربة كارو ذات أربع عجلات، فاستقلوها مبادرين وانطلق الجواد بهم يلهبه سوط الحوذي. انطلقت العربة بسرعة على رغم الظلام، محدثة في سكون الليل صوتا مزعجا كالفرقعة المتواصلة، وهم يتلفتون إلى الوراء من خشية وتوجس. وقال صادق جلبا للطمأنينة: سيجرون نحو باب النصر ظنا بأنك تلوذ بالخلاء حول المقابر.
فقال قاسم بارتياب: لكنهم يعلمون أنكم لا تقيمون عند المقابر.
غير أن سرعة العربة بدت حاسمة، وبفضلها غلب شعور بأنهم يبتعدون حقا عن الخطر. وعاد قاسم يقول في شيء من الارتياح: أحسنتم التنظيم والتدبير، وشكرا لك يا صادق فلولا تحذيرك لكنت الساعة في الهالكين.
فشد صادق على يده في صمت. وتواصل اندفاع العربة حتى لاح سوق المقطم على ضوء النجوم، يلفه الظلام والوحشة عدا نور مصباح ينبعث من كوخ المعلم يحيى. وعن حذر أوقفوا العربة وسط الميدان، ثم تركوها متجهين نحو الكوخ. وما لبث أن جاءهم صوت المعلم متسائلا عن القادمين فأجابه قاسم، فارتفع صوته مرة أخرى بالحمد. وتعانق الرجلان عناقا حارا، وقال له قاسم: إني مدين لك بالحياة.
فقال العجوز ضاحكا: إنها المصادفة وحدها؛ لكنها وقعت لتنقذ رجلا هو أول من يستحق الحياة، أسرعوا إلى الجبل، فالجبل خير حصن لكم.
وشد قاسم على يده، ونظر على ضوء المصباح إلى وجهه في مودة وامتنان، فعاد العجوز يقول: اليوم أنت كرفاعة أو كجبل، وسوف أعود إلى حارتنا عندما يقيض لك النصر.
ابتعدوا عن الكوخ شرقا يوغلون في الخلاء نحو الجبل، وتقدمهم صادق إذ كان أخبرهم بالطريق. وكانت ثمة رقة تمازج الظلام مبشرة بالفجر. والسماء تقطر ندى رطيبا. وترامى من بعيد صياح الديكة كصرخة المخاض لمولد يوم جديد. وبلغوا السفح فساروا بحذائه نحو الجنوب حتى عثروا على الممر الضيق الذي يصعد إلى مقامهم الجديد فوق الجبل. وصعدوا وراء صادق في طابور فردا فردا لضيق الممشى. وقال صادق لقاسم: أعددنا لك دارا وسط ديارنا، وفيها الآن تنام إحسان.
فقال عجرمة: بيوتنا من الصفائح والخيش.
فقال حسن في مرح: ليست أسوأ كثيرا من بيوتنا في الحارة!
فقال قاسم: حسبنا ألا نجد بيننا ناظرا أو فتوة.
وهبطت إليهم أصوات فقال صادق: حارتنا الجديدة مستيقظة تنتظرك.
ورفعوا الرءوس فرأوا خيوط الضياء الأولى تطارد فلول الظلام. وصاح صادق بأعلى صوته: «هوه» فأطلت رءوس رجال ونساء، وتعالى الهتاف والزغاريد، وانطلقت الحناجر تنشد:
يا محني ديل العصفورة.
فاستخف قاسم الابتهاج وقال بإكبار: ما أكثرهم!
فقال صادق بفخار: حارة جديدة فوق الجبل، سكانها يتزايدون مع الأيام، وقد انضم إلينا بإرشاد المعلم يحيى جميع المهاجرين من حارتنا.
وقال حمروش: لا يتعبنا إلا أننا نسعى إلى أرزاقنا في الأحياء البعيدة خشية أن يعثر علينا أحد من حارتنا.
ولما صعد قاسم إلى السطح تلقاه الرجال بالعناق، وصافحته النساء، وارتفعت الأصوات بالتحيات والتهليل والتكبير، وكانت سكينة بين المستقبلين فأخبرته بأن إحسان نائمة في الكوخ الذي أعد لهم دارا. وساروا جميعا نحو الحارة الجديدة التي أقيمت على هيئة مربع من الأكواخ فوق مسطح من الجبل، وهم يهللون وينشدون، وقد ابتهج الأفق بالنور المتدفق كأنه بحيرة من الورد الأبيض. وهتف رجل: أهلا بفتوتنا قاسم.
فتغير وجه قاسم وصاح مغضبا: ألا لعنة الله على الفتوات جميعا، فلا سلام ولا أمان حيث يوجدون.
وتطلعت إليه الوجوه الجديدة فقال: سنرفع النبابيت كما رفعها جبل، ولكن في سبيل الرحمة التي نادى بها رفاعة، ثم نستغل الوقف لخير الجميع حتى نحقق حلم أدهم. هذه هي مهمتنا لا الفتونة.
ودفعه حسن برفق نحو الكوخ الذي أعد له وهو يقول مخاطبا الجميع: مضى الليل دون أن يغمض له جفن فدعوه الآن ليأخذ بعض حقه من الراحة.
استلقى قاسم على خيشة جنب ابنته وسرعان ما استغرق في النوم. واستيقظ فيما بين الظهيرة والعصر برأس مثقل وجسد متعب. وجاءته سكينة بإحسان فوضعها في حجره وراح يلثمها في حنان. وقدمت له المرأة كوز ماء وهي تقول: هذا الماء يحمل إلينا من الحنفية العمومية كما كانت تحمله زوجة جبل!
فابتسم الرجل، وكان يحب كل ما يربطه بذكريات جبل أو رفاعة. وألقى نظرة على داره الجديدة فرأى جدرانا مغطاة بالخيش ولا شيء بعد ذلك، فضم إحسان إلى صدره بحنان أكثر. ونهض قائما فأعطى سكينة ابنته وغادر الكوخ؛ ليجد صادق وحسن في انتظاره، فجلس بينهما وهم يتبادلون تحية الصباح. وألقى نظرة على الحارة فلم تقع عينه إلا على امرأة أو طفل، فقال صادق موضحا: ذهب الرجال إلى السيدة وزينهم سعيا وراء الأرزاق وتخلفنا نحن حتى نطمئن عليك.
وتابعت عيناه النسوة العاملات في الطهي أو الغسل أمام الأكواخ، والأطفال اللاهين هنا وهناك، ثم تساءل: ترى هل هن راضيات؟
فقال صادق: إنهن يحلمن بامتلاك الوقف والنعيم الذي تهنأ به أمينة هانم حرم الناظر!
فابتسم ابتسامة عريضة ثم ردد بصره بينهما في بطء وتساءل: ماذا يدور في رأسيكما عن الخطوة التالية؟
فرفع حسن رأسه فوق منكبيه العريضين وقال: نحن على بينة مما نريد. - ولكن كيف؟ - ننتهز غفلة ثم نهجم.
لكن صادق قال معترضا: بل نصبر حتى نضم إلينا أكبر عدد من أهل حارتنا، ثم نهجم فنضمن النصر من ناحية وقلة الضحايا من ناحية أخرى.
فهتف قاسم وأساريره تنبسط: أحسنت!
وشملتهم طمأنينة حالمة، وإذا بصوت يقول في استحياء: الطعام!
فرفع قاسم عينيه فرأى بدرية حاملة إناء فول وأرغفة وهي ترنو إليه بعينين باسمتين فما ملك إلا أن ابتسم قائلا: أهلا برسول الحياة إلي!
فوضعت الإناء بين يديه وهي تقول: أطال الله عمرك!
وذهبت إلى كوخ صادق فيما يلي كوخه. وداخلت نفسه رقة ورضا فتناول طعامه بشهية . وفي أثناء ذلك قال: لدي قدر من المال لا بأس به سينفعنا عند الحاجة.
ثم مردفا بعد قليل: علينا أن نقتاد كل من نأنس فيه استعدادا إلى مشاركتنا من أهل حارتنا، وما أكثر المظلومين الذين يتمنون لنا النصر ولا يقعدهم إلا الخوف!
وما لبث أن ذهب الرجلان إلى حيث سبقهما الآخرون فوجد نفسه وحده. وقام فمضى يتجول في المكان كأنما يتفقده. مر بأطفال لاعبين فلم يلتفت إليه أحد منهم. أما النساء فكن يحيينه بالدعاء. واستوقفت نظره عجوز بالغة في الكبر، ذات رأس مكلل بالبياض الناصع، وعينين تغشاهما سحابة الهرم، وذقن متقلقل كأنها تزدرد لحييها، فاقترب منها محييا فردت التحية بالدعاء فسألها: من أمي؟
فأجابت بصوت كخشخشة الأوراق الجافة: أم حمروش. - أهلا بأمنا جميعا، كيف هان عليك أن تهجري حارتنا؟ - أطيب المكان ما يوجد فيه ابني.
ثم كالمستدركة: والبعد عن الفتوات غنيمة.
ثم تشجعت بابتسامته فقالت: رأيت رفاعة وأنا شابة!
فسألها باهتمام: حقا؟ - نعم وحياتك، كان لطيفا جميلا، ولكن لم يجر لي في خاطر أنه سيكون عنوان حي وحكاية من حكايات الرباب.
فسألها باهتمام متزايد: ألم تقصديه كالآخرين؟ - كلا، لم يكن يدري بنا في حينا أحد، ولا كنا ندري بأنفسنا، ولولاك ما جرى ذكر للجرابيع على لسان.
وتفحصها بغرابة. وتساءل: ترى كيف يكون جدنا اليوم؟! لكنه ظل يبتسم لها برقة فدعت له طويلا حتى ذهب. وواصل المشي حتى وقف عند رأس الممشى على حافة الجبل. ألقى نظرة على الخلاء أسفل ثم مد البصر نحو الأفق. تراءت على البعد القباب والأسطح، كأنها ملامح متباعدة في كائن واحد. وقال: إنه ما ينبغي أن تكون إلا شيئا واحدا. وهذا الشيء ما أصغره من عل! فلا معنى للناظر رفعت ولا للفتوة لهيطة. ولا فرق هنا بين رفعت وعمه زكريا. ومن العسير أن تهتدي من موقفك إلى الحارة المثيرة للمتاعب، لولا بيت الواقف الذي يبدو أنه يميز من أي موقع. بيت جدنا بسوره العجيب وأشجاره العالية. لكنه طعن في السن وخفت خشيته كهذه الشمس المائلة نحو الأفق. أين أنت؟ وكيف أنت؟ ولم تبدو وكأنك لم تعد أنت؟ المزيفون لوصيتك على بعد أذرع من منزلك. وهؤلاء النسوة والصغار المبعدون في الجبل أليسوا أقرب الناس إلى قلبك؟ ستعود إلى مكانتك عندما تنفذ شروط وقفيتك دون اغتيال ناظر أو اعتداء فتوة، كعودة الشمس غدا إلى كبد السماء. ولولاك ما كان لنا أب أو حارة أو وقف أو أمل.
وأيقظه من تهويمته صوت عذب يقول: القهوة يا معلم قاسم.
التفت وراءه فرأى بدرية باسطة راحتها بالفنجال فتناوله قائلا: لم التعب؟ - تعبك راحة يا سيدي.
وترحم على قمر، وراح يحسو القهوة في رفق، وبين الحسوة والحسوة تلتقي عيناهما في ابتسامة. ما ألذ القهوة عند طرف الجبل فوق الخلاء! - ما عمرك يا بدرية؟
فثنت شفتيها داخل فيها ثم غمغمت: لا أدري. - لكنك تدرين بما جاء بنا إلى الجبل؟
فترددت في استحياء ثم قالت: أنت! - أنا؟! - تريد أن تضرب الناظر والفتوات وتجعل الوقف لنا، هذا ما يقول أبي.
فابتسم. وانتبه إلى أنه أتى على ما في الفنجال لكنه سها عن رده، فرده إليها وهو يقول: ليت عندي من الشكر بعض ما تستحقين.
فاستدارت باسمة موردة وجرت، فتمتم قائلا: تصحبك السلامة.
85
وكان وقت الأصيل هو وقت التحطيب فينبري الرجال لممارسة التمرينات الشاقة بالنبابيت. ويبدأ ذلك عقب عودتهم بنقود قليلة وطعام بسيط بعد يوم شاق كادح ينقضي سعيا وراء الرزق، هكذا يعودون نساء ورجالا. وكان قاسم أول المتبارين. وكم سره أن يرى حماسة رجاله وتوثبهم لليوم العصيب! أشداء بين الرجال ولكنهم يكنون له من الحب ما لم تعرفه حارتهم الممزقة بالبغضاء. وترتفع النبابيت وتتهاوى وتتلاقى في ارتطامات شديدة، ويتفرج الغلمان ويقلدون، على حين تخلد النساء إلى الراحة أو يعددن العشاء. وصف الأكواخ يمتد طولا بما ينضم إلى الحارة الجديدة من رجال جدد. وأثبت صادق وحسن وأبو فصادة أنهم صيادون مهرة. كانوا يرصدون رجالا من الحارة في مظانهم ولا يزالون بهم حتى يقنعوهم بالانضمام إليهم، فيهجروا الحارة خفية وراء آمال لم تشتعل من قبل في صدورهم . وكان صادق يقول لقاسم: لا أضمن مع هذا النشاط ألا يهتدي أعداؤنا إلى مقرنا.
فيقول له: لا سبيل إلينا إلا خلال الممر الضيق، وسيكون الهلاك نصيبهم إذا جاءوا منه.
وكانت إحسان هي سعادته الباقية، حين يلاعبها وحين يهدهدها وحين يناغيها، لكنها لم تكن كذلك حين تذكره بالراحلة فتطبق عليه الوحشة وتلفحه أنفاس الحنين. تلك التي خطفت من بين يديه في أول الطريق، فتركته فريسة للوحشة كلما خلا إلى نفسه، وأحيانا للندم كما حدث عند حافة الجبل يوم القهوة، أو يوم النظرة الرقيقة كنسمة العصاري.
وذات ليلة حرن النوم أمام عينيه فوقع صيدا معذبا للوحشة والأرق في ظلمة الكوخ، فقام من فراشه وانطلق خارجا. ومضى في الساحة بين الأكواخ تحت النجوم الساهرة يستقبل هواء منعشا؛ هواء الصيف عند منتصف الليل فوق الجبل. وإذا بصوت يناديه ثم تساءل صاحبه: إلى أين أنت ذاهب في هذه الساعة من الليل؟
فالتفت وراءه فرأى صادق وهو يقترب منه، فسأله: ألم تنم بعد؟ - لمحتك وأنا راقد أمام الكوخ، وأنت أطيب عندي من النوم.
وسارا جنبا إلى جنب حتى حافة الجبل. فوقفا هنالك وقاسم يقول: الوحدة أحيانا لا تطاق.
فقال صادق ضاحكا: تبا لها في جميع الأحيان.
ومدا البصر نحو الأفق فبدت الدنيا سماء متلألئة فوق أرض غارقة في الظلام. وعاد صادق يقول: أكثر رجالك أزواج أو ذوو أهل فهم لا يعرفون الوحشة.
فتساءل قاسم كالمستنكر: ماذا تعني؟ - مثلك لا يستغني عن امرأة.
واشتد الاحتجاج في صوته بقدر ما استشعر في قول الرجل من صدق، فتساءل: أتزوج بعد قمر؟!
فقال الرجل بإيمان: لو استطاعت أن تسمعك صوتها لأعادت على مسمعك رأيي.
واضطرب قاسم وجاش بالانفعال صدره، وقال وكأنه يخاطب نفسه: كأنها الخيانة بعد الحب والرعاية! - ما أغنى الأموات عن إخلاصنا!
ماذا يعني الرجل الطيب؟ يقرر الصدق أم يبرر الهوى؟ ولكن للحقيقة طعما مرا في بعض الأحوال. وأنت نفسك لا تواجه نفسك بالصراحة التي واجهت بها الأوضاع في حارتك. والذي سوى هذه الأمور في عالمك هو الذي سوى هذه النجوم في السماء. والحق الذي لا مرية فيه أن قلبك يخفق كما خفق أول مرة. وتنهد بصوت مسموع فقال صادق: أنت أول من يحتاج إلى أنيس.
ولما رجع إلى كوخه لمح سكينة واقفة عند الباب فتطلعت إليه كالمتسائلة وهي تقول بقلق: لمحتك خارجا حين كنت أظنك في عز النوم!
فقال دون تمهيد لشدة ضغط أفكاره على رأسه: انظري إلى صادق كيف يحضني على الزواج؟!
فقالت سكينة كأنما تتلقف فرصة من السماء: وددت أن أسبقه! - أنت؟! - نعم يا سيدي، شد ما يحز في قلبي أن أراك جالسا وحدك مستسلما للوحشة والفكر.
فأشار بيده إلى الأكواخ النائمة وقال: جميع هؤلاء معي. - نعم ولكن لا أحد لك في دارك وأنا عجوز، رجل فوق الأرض ورجل في القبر.
وشعر بأن تلبثه دليل تقبل لما تريد، ولكنه مع ذلك لم يدخل إلى كوخه وقال في نبرة رثاء: لن أجد زوجة مثلها! - هذا حق، ولكن توجد بنات يبشرن بالسعد!
وتبادلا نظرة خلال الظلام، أردفت بهنيهة صمت، ثم تمتمت الجارية: بدرية! ما ألطفها من فتاة!
فقال بدهشة تعدل خفقة قلبه: البنت الصغيرة؟!
فقالت وهي تداري ابتسامة ماكرة: ما أنضجها وهي تقدم الطعام أو القهوة!
فتحول عنها وهو يقول: يا شيطانة! لعنة الله على سلالتك!
وكان للخبر رنة فرح في حارة الجبل جميعا؛ كاد صادق أن يرقص. وزغردت أمه حتى أسمعت الخلاء، وانهالت التهاني على قاسم. واحتفلت الحارة بالزفاف دون استدعاء لأحد من المحترفين، فرقصت نساء من بينهن أم بدرية. وغنى أبو فصادة بصوت مليح:
أنا كنت صياد سمك
وصيد السمك غية.
وسارت الزفة حول الأكواخ مستضيئة بأنوار السموات. وانتقلت سكينة بإحسان إلى كوخ حسن على حين خلا كوخ قاسم للعروسين.
86
لذ له حقا أن يراقب - من مجلسه على الفروة أمام الكوخ - بدرية وهي تعجن. هي صغيرة بلا جدال ولكن أي امرأة تفوقها في النشاط وتدبير الشئون؟! وتمطت من جهد، وبظهر راحتها رفعت ما تهدل من شعرها فوق الجبين، فبدت فاتنة غازية لسويداء القلب. ونم تورد وجهها عن إحساسها بمتابعة عينيه حتى توقفت في دلال، فضحك بسرور ومال نحوها فتناول ضفيرتها وقبلها مرارا ثم عاد إلى جلسته. وكان سعيدا خالي البال كشأنه في الأويقات التي يعتزل فيها أصدقاءه وأفكاره، وعلى بعد يسير مضت إحسان تتنقل من موضع إلى موضع على مرمى النظر من سكينة الرابضة فوق حجر. وتعالت ضجة عند رأس الممر. رأى صادق وحسن وبعض الأصدقاء قادمين نحوه حول رجل عرف فيه خردة الزبال من حي رفاعة فوقف من فوره لاستقبالهم على حين زغردت نساء كما يفعلن كلما انضم إلى الجبل رجل جديد من أهل الحارة. وعانقه والرجل يقول: إني معكم، وجئت معي بنبوت!
فقال له هاشا باشا: أهلا بك يا خردة، نحن لا نفرق بين حي وحي، فالحارة حارتنا، والوقف للجميع.
فضحك الرفاعي قائلا: يتساءلون عن مكانكم ويتوقعون من ناحيتكم شرا، ولكن قلوبا كثيرة تتمنى لك النصر.
وألقى نظرة على ما حوله فشملت الأكواخ والناس ثم قال بإعجاب: كل هؤلاء معك؟!
وقال صادق: جاء خردة بخبر مهم.
فحدجه قاسم بنظرة متسائلة فقال خردة: اليوم يتزوج سوارس للمرة الخامسة. وستسير زفته هذه الليلة.
فقال حسن بحماس: هذه فرصة لا تتكرر للقضاء عليه.
وتحمس الرجال. وقال صادق: سنهجم يوما على الحارة، فكلما تخلصنا من فتوة جاء الهجوم أيسر عناء وأضمن نتيجة.
وتفكر قاسم مليا ثم قال: سنهاجم الزفة. كما يفعل الفتوات، ولكن اذكروا دائما أننا نهاجم للقضاء على الفتونة.
وقبيل منتصف الليل تجمع الرجال عند حافة الجبل، ثم مضوا يهبطون رجلا رجلا وراء قاسم وأيديهم قابضة على نبابيتهم. كانت السماء صافية، والبدر يحتل منها الكبد، ونوره يضفي على الدنيا وشي الأحلام. وانتهوا إلى الخلاء فاتجهوا ناحية الشمال من وراء سوق المقطم ثم ساروا بحذاء الجبل حتى لا يضلوا الطريق. ولما اقتربوا من صخرة هند أقبل نحوهم شبح رجل كان يتحسس لهم الأخبار فقال لقاسم: ستسير الزفة نحو باب النصر.
وتعجب قاسم قائلا: لكن زفاتنا تسير عادة نحو الجمالية.
فقال خردة: لعلهم يبتعدون عن الأماكن التي يظنون مقامكم قريبا منها!
وفكر قاسم بسرعة ثم قال: سيذهب صادق وبعض الرجال إلى ما وراء بوابة الفتوح، ويمضي عجرمة وآخرون إلى خلاء باب النصر، وسأنتظر أنا وحسن وبقية الرجال وراء باب النصر، وعندما أدعوكم إلى الهجوم اهجموا.
وبدأ الرجال ينقسمون جماعات، وقبل أن يهموا بالرحيل قال: ركزوا الضرب على سوارس وأعوانه، أما الآخرون فسيكونون إخوانكم غدا.
ومضت كل جماعة في طريقها وأوغل هو وحسن ومن معهما شمالا بحذاء الجبل، ثم عدلوا إلى اليسار في طريق القرافة حتى كمنوا وراء البوابة. وكان هو ورجاله يحاصرون الطريق، فصادق يتربص يمينا، وعجرمة يتوثب يسارا، وهو يكمن وراء البوابة. وقال حسن: ستتجمع الزفة في قهوة الفلكي.
فقال قاسم: علينا أن نهاجمها قبل الوصول إلى القهوة كي لا نعتدي على قوم لا شأن لنا بهم.
ولبثوا في الظلام ينتظرون وقد توترت منهم الأعصاب. وبغتة قال حسن: شد ما أذكر مقتل شعبان.
فقال قاسم: للفتوات ضحايا لا يحصيهم العد.
وأرسل صادق صفيرا وتبعه عجرمة فاشتدت عزيمتهم وقال حسن: إذا هلك سوارس تسارع أهل حينا إلينا، وإذا جاء الآخرون للقضاء علينا أهلكناهم في الممر.
هذه الأحلام مثل ضوء القمر. وما هي إلا ساعة حتى يتقرر النصر لهم أو تتبخر الآمال مع أرواحهم المهدرة. وخيل له أنه يرى شبح قنديل، وأنه يسمع نبرة قمر، وكأن دهرا مضى مذ كان يرعى الغنم. وشدت قبضته على نبوته وقال لنفسه: لا يمكن أن ننهزم. وسمع حسن وهو يسأله: ألا تسمع؟
وأرهف السمع قليلا حتى التقط أصداء من أنغام فقال: استعدوا، الزفة قادمة!
وأخذت الأصوات تقترب، وتتضح، ثم ترامى الزمر والطبل، وتعالت الآهات، وأطبق التهليل. ثم على ضوء المشاعل بدت الزفة وهي تتقدم، وتراءى سوارس للعين وسط هالة من الراقصين اللاعبين بالنبابيت. وتساءل حسن: أصفر لعجرمة؟
فقال قاسم بثبات: عندما تصل طليعة الزفة إلى وكالة الثوم.
واستمر تقدم الزفة، واشتد الرقص واللعب. وأخذ راقص بنشوة الرقص فجعل يثب في الهواء ثم يدور أمام الزفة في سرعة رشيقة راسما دائرة متموجة، والنبوت يدور مرتكزا على راحته المرفوعة فوق رأسه كالمروحة، ومضى يتقدم خطوة عقب كل دورة حتى جاوز وكالة الثوم والزفة من ورائه تتقدم في بطء شديد حتى بلغ رأسها الوكالة. عند ذاك صفر حسن ثلاثا؛ فهبط عجرمة ورجاله من عطفة الطماعين وانقضوا على مؤخرة الزفة تسبقهم نبابيتهم فاجتاح الاضطراب صفوفها وارتفع صراخ الغضب والخوف. وصفر حسن ثلاثا مرة أخرى؛ فاندفع صادق ورجاله من السماكين على وسط الزفة من الناحية الأخرى قبل أن تفيق من الهجمة الأولى. وفي الحال هجم قاسم ورجاله من تحت البوابة على مقدمة الزفة هجمة رجل واحد.
استرد سوارس ورجاله أنفاسهم من شرك المفاجأة فرفعوا النبابيت واشتبكوا في معركة مريرة. وتطاير كثيرون من المسالمين فلاذوا بالحواري والأزقة. واشتد ارتطام النبابيت. وسالت الدماء من الأوجه والرءوس. وتحطمت كلوبات وتناثر الورد فطحنته الأقدام. وانطلق الصوات من النوافذ وأغلقت المقاهي أبوابها. وضرب سوارس بقسوة، وبخفة، فانطلق نبوته كالمجنون، مرة في هذه الناحية ومرة في تلك. واشتد الضرب وتكاثف الحقد كقطع الليل. ووجد سوارس نفسه بغتة أمام صادق فصرخ: يا ابن النجسة!
ووجه إليه ضربة فتلاقت مع ضربة وجهها صادق الذي ارتج وترنح. ورفع سوارس نبوته وهوى به مرة أخرى عليه فتلقاه بنبوته المرتكز على قبضته، غير أنه سقط على ركبتيه من شدة الصدمة. وهم بتوجيه الضربة الثالثة والقاضية، لكنه لمح حسن منقضا عليه كالوحش لإنقاذ صاحبه فتحول نحوه وهو يطفح بالغضب صائحا: وأنت أيضا يا ابن زكريا! يا ابن الزانية.
وأطلق نحوه ضربة هائلة، لو لم يتفاد منها بوثبة جانبية لهلك، ثم طعن سوارس في أثناء وثوبه برأس نبوته فأصاب عنقه. عطلت الطعنة سوارس لحظات عن تسديد الضربة التالية، فسيطر حسن على توازنه ووجه ضربة شديدة بقوته الخارقة فأصابت جبهة سوارس، وفجرت نافورة من الدم، وسرعان ما تراخت قبضته عن نبوته فهوى، وتراجع خطوات مترنحة، ثم سقط على ظهره دون حراك، وعلا على أصوات النبابيت المتلاطمة صياح رجل: سوارس قتل!
فأدركه عجرمة بضربة نبوت فوق أنفه فصرخ، وتراجع فعثر بطريح فسقط. وقويت عزيمة رجال قاسم فاشتدت ضرباتهم، وتخاذل رجال سوارس، وهالتهم كثرة الساقطين من رجالهم فتقهقروا، ثم أسلموا أرجلهم للفرار. وأخذ رجال قاسم في التجمع حوله وهم يلهثون، البعض تسيل دماؤهم، والبعض يحملون جرحاهم. ونظروا صوب الأرض على ضوء الفوانيس الصادر من شراعات أبواب المقاهي أجسادا مطروحة، منها ما لقي حتفه، ومنها ما راح في غيبوبة. ووقف حمروش فوق ظل سوارس وهتف: ليطمئن جثمانك يا شعبان!
فجذبه قاسم إلى جانبه وقال: يوم النصر قريب، يوم يلقى بقية الفتوات نفس المصير، يوم نصبح سادة حارتنا وأصحاب وقفنا وأحفادا بررة لجدنا.
وعند عودتهم إلى الجبل استقبلتهم النساء بالزغاريد، وجرت مع الهواء أنباء النصر. وآوى قاسم إلى كوخه وبدرية تقول له: عليك غبار كثير ودم، يجب أن تستحم قبل النوم.
ولما استلقى عقب الاستحمام تأوه من الألم. وأتت له بطعام وانتظرت أن يجلس ليتناوله، ولكن استولت عليه حال بين اليقظة والمنام. وشعر بارتياح كأنه السعادة ولكن شابه إحساس قلق كأنه الحزن، وقالت بدرية: تناول طعامك.
فنظر إليها بعينين مثقلتين حالمتين وقال: ستشهدين النصر قريبا يا قمر.
وانتبه إلى هفوة اللسان على أثر وقوعها، ورأى تغير وجه بدرية، فجلس في فراشه الأرضي وقال في تودد وارتباك: ما أشهى طعامك!
لكنها نفرت من توادده متجهمة فتناول قطعة من الطعمية قائلا: جاء دوري لأدعوك للطعام!
فولت عنه وجهها وتمتمت: كانت طاعنة في السن ولا جمال لها!
فتقوضت قامته المنتصبة في كآبة كأنه تهدم وقال في عتاب وحزن شديدين: لا تذكريها بسوء، فمثلها لا ينبغي أن يذكر إلا بالرحمة.
فارتد إليه رأسها متوثبا لكنها رأت على صفحة وجهه حزنا مخيما، فلاذت بالصمت.
87
رجع المغلوبون يركبهم الخزي. ابتعدوا ما استطاعوا عن الأنوار المنبعثة من بيت سوارس حيث يتألق الجو ببهجة الفرح والطرب، وانحجز كل رجل في ربعه. وإذا بالأنباء السود تنتشر كالحريق، فتعالى الصوات في مساكن كثيرة وانطفأ العرس كأنما أهيل عليه التراب. انطلقت الحناجر تنعى سوارس، ثم تنعى من قتل معه من رجاله. وامتد المصاب فشمل رجالا من الرفاعية وآخرين من آل جبل ممن اشتركوا في الزفة. ومن المجرم المعتدي؟ قاسم، قاسم الغنام، قاسم الذي كان ينبغي أن يظل متسولا مدى عمره لولا قمر! وشهد رجل بأنه تبع عصابة قاسم في عودتها حتى اهتدى إلى ملجئها فوق المقطم. وتساءل كثيرون: هل يعتصم بالجبل حتي يقضي على رجال الحارة؟ واستيقظ النائمون وخرجوا إلى الحارة والربوع تتجاوب بالصوات. وصرخ أحد رجال جبل في غضب: اقتلوا الجرابيع.
لكن جلطة أوقفه صائحا: لا ذنب لهم، قتل فتوتهم، وعدد وافر من رجالهم. - أحرقوا المقطم! - هاتوا جثة قاسم؛ لتأكلها الكلاب. - علي الطلاق لأشربن من دمه. - الجربوع اللئيم الجبان. - يحسب أن الجبل سيحميه! - لن يحميه إلا القبر. - كان يأخذ المليم من يدي ويبوس التراب. - ويظهر بيننا بمظهر اللطيف الودود ثم يغدر بنا فيقتل الرجال.
وفي اليوم التالي: بدت الحارة في مأتم شامل. وفي اليوم الثاني: اجتمع الفتوات في بيت الناظر رفعت الذي ركبه الغضب والحنق حتى قال لهم في تهكم مر: لنحبس أنفسنا في حارتنا كي نأمن الموت.
وكان لهيطة أشدهم حرجا، لكنه أراد أن يهون من الخطب تخففا من مسئوليته فقال: ما هي إلا معركة بين فتوة وبعض رجال حيه!
فقال جلطة معترضا: قتل من حينا رجل وجرح ثلاثة.
وقال حجاج: وقتل منا رجل.
فقال رفعت بمكر مخاطبا لهيطة: اللطمة لاصقة بسمعتك يا فتوة الحارة!
فامتقع وجه الرجل غضبا وقال: راعي غنم! والله لقد هزلت!
ولم يخف الناظر قلقه فقال: راعي غنم؟! فليكن، لكنه أصبح ذا خطر. استخففنا بهذيانه زمنا وأغمضنا عنه العين إكراما لزوجته فاستفحل شره، وقد تمسكن حتى تمكن فقضى على فتوته وأعوانه، وهو الآن معتصم بالجبل ولن تقف أطماعه عند حد.
وتبادلوا النظرات في غضب فواصل الناظر حديثه قائلا وهو يلوح للناس بإغراء: هذه هي مصيبة حارتنا، لا ينبغي أن نتجاهل ذلك، إنه يعد الناس بالوقف، ومع أن الوقف لا يكفي أصحابه إلا أن أحدا لا يصدق ذلك، المتسولون لا يصدقون ذلك وما أكثرهم، حارتنا حارة المتسولين! وهو يعد بالقضاء على الفتونة فيطرب لذلك الجبناء وما أكثرهم! حارتنا حارة الجبناء، وستجدون أهلها دائما مع الغالب، ففي القعود هلاكنا.
فهتف لهيطة: حوله مجموعة من الفئران وما أيسر إبادتهم!
فتساءل حجاج: لكنهم يعتصمون بالجبل؟!
فقال جلطة: نراقب الجبل حتى نجد إليهم منفذا.
فقال رفعت بتحريض: اعملوا ففي القعود كما قلت هلاكنا.
واشتد الغضب بلهيطة فقال للناظر بلهجة ذات مغزى: أتذكر يا سيدي أنني دبرت قتله في حياة زوجته فعارضت الهانم.
فحول الناظر عينيه عن الأعين المحدقة وقال في شبه اعتذار: لن يجدينا تذكر الأخطاء.
ثم مردفا بعد هنيهة صمت: وهذه العلاقات تراعى في حارتنا منذ القدم!
وتعالت ضجة في الخارج غير مألوفة كأنما تنذر بشر مستجد، وكانت الأعصاب متوترة، فنادى الناظر البواب وسأله عما هنالك فقال الرجل: يقولون إن الغنام انضم إلى قاسم سائقا معه جميع أغنام الحارة!
فوقف لهيطة ثائرا وهو يصيح: الكلب .. حارة كلاب، الويل له!
وتساءل الناظر: من أي حي هذا الغنام؟
فقال البواب: من حي الجرابيع، ويدعى زقلة.
88 - أهلا بك يا زقلة.
وعانقه قاسم فقال الغنام بحماس: لم أكن ضدك قط، وكان قلبي معك دائما، ولولا الخوف لكنت بين أوائل المنضمين إليك، وما إن سمعت بمقتل سوارس أجحمه الله حتى سارعت إليك سائقا أمامي أغنام أعدائك!
وألقى قاسم نظرة على مجمع الأغنام في الساحة بين الأكواخ حيث التف حولها النساء وارتفع ضوضاء الحبور، ثم ضحك قائلا: هي حلال لنا لقاء ما نهبوا من أموالنا في الحارة.
وفي أثناء النهار انضم إلى قاسم أفراد من الحارة بكثرة لم تعهد من قبل فاشتدت العزائم ورسخت الآمال. لكن قاسم استيقظ في الصباح الباكر لليوم التالي على ضجة غريبة فغادر كوخه من فوره فرأى رجاله قادمين نحو كوخه في عجلة واضطراب، وقال له صادق: جاءت الحارة للانتقام وهم مجتمعون أسفل الممر.
وقال خردة: كنت أول ذاهب للعمل فرأيتهم وأنا على مبعدة خطوات من الخلاء فرجعت مسرعا، وطاردني بعضهم فأصابوني بحجر في ظهري، وجعلت أنادي صادق وحسن حتى جاء جماعة من إخواننا إلى رأس الممر فانتبهوا إلى الخطر ورموا المهاجمين بالأحجار حتى تراجعوا.
ونظر قاسم نحو رأس الممر فرأى حسن وبعض الرجال واقفين عنده بأيد قابضة على الأحجار فقال: نستطيع أن نصدهم هناك بعشرة رجال.
فقال حمروش: إن الصعود على هذه الحال انتحار فليصعدوا إذا شاءوا.
وتجمع الرجال والنساء حول قاسم حتى خلت الأكواخ. جاء الرجال بالنبابيت والنساء بمقاطف طوب أعدت لذلك اليوم. وانطلق أول شعاع للشمس من سماء صافية. وتساءل قاسم: أما من مسلك آخر إلى المدينة؟
فقال صادق واجما: يوجد مسلك في الجنوب على مسيرة ساعتين في الجبل.
وقال عجرمة: لا أظن أن لدينا من الماء ما يكفينا أكثر من يومين.
فسرت فيهم همهمة قلق وبخاصة النساء فقال قاسم: لقد جاءوا للانتقام لا للحصار، وإذا حاصرونا عمدنا إلى المسلك الآخر لفك الحصار.
ومضى الرجل يفكر وهو يحافظ على هدوء وجهه الذي تتطلع إليه الأبصار. لو حاصروهم لوجدوا أكبر المشقة في إحضار المياه من المسلك الجنوبي. ولو هجم برجاله عليهم فهل يضمن الانتصار على رجال فيهم لهيطة وجلطة وحجاج؟ وأي مصير يخبئه مغيب هذا اليوم لهم؟ ورجع إلى كوخه ثم عاد قابضا على نبوته ثم سار إلى حسن ورجاله عند رأس الممر، فقال له حسن: لا يجرؤ أحد منهم على الاقتراب.
ودنا قاسم من حافة الجبل فرأى أعداءه متجمعين على هيئة هلال في الخلاء بعيدا عن مرمى الحجر. هاله عددهم لكنه لم يستطع أن يميز الفتوات بينهم. ومد بصره خلال الفضاء حتى استقر على البيت الكبير، بيت الجبلاوي، الغارق في صمته كأنه لا يبالي بصراع الأبناء من أجله. ما أحوجهم إلى قوته الخارقة التي دانت لها هذه البقاع في الزمن الخالي! ولعل القلق لم يكن ليساوره لولا ذكرى مصرع رفاعة على كثب من بيت جده. ووجد دافعا من أعماقه يدعوه إلى أن يصيح بأعلى صوته قائلا: «يا جبلاوي!»، كما يفعل أهل حارته في أحوال شتى، لكن جذب سمعه أصوات النساء المقتربة فاستدار ناظرا حوله فرأى الرجال منتشرين على حافة الجبل ينظرون إلى أعدائهم، والنساء متجهات إلى المواقع نفسها فصاح بهن أن يرجعن، وشدد في الصياح لدى ترددهن، وأمرهن بأن يعددن الطعام وأن يزاولن مألوف الأعمال، وما زال بهن حتى صدعن بأمره. فاقترب منه صادق قائلا: أحسنت، فإن أخوف ما أخاف علينا تأثير اسم لهيطة.
فقال حسن: ليس أمامنا إلا أن نضرب!
ولوح بنبوته مردفا: سيتعذر علينا التجوال سعيا وراء أرزاقنا بعد أن عرفوا مكمننا، فليس أمامنا إلا أن نهجم.
فأدار قاسم رأسه مادا البصر نحو البيت الكبير وقال: بالصواب نطقت، ما قولك يا صادق؟ - ننتظر حتى يجيء الليل.
فقال حسن: سيضر بنا الانتظار، ولن ينفعنا الليل في عراك.
وتساءل قاسم: ترى ما هي خطتهم؟
فقال صادق: أن يجبرونا على النزول إليهم.
وتفكر قاسم مليا ثم قال: إذا قتل لهيطة ضمنا النصر.
وردد عينيه بين الرجلين ثم أردف: إذا سقط تقاتل جلطة وحجاج على الفتونة.
ومضت الشمس في الارتفاع فتوهج الحصى وانتشرت نذر الحر. وتساءل حسن: خبراني ما العمل؟
فبدا تساؤله كالحصار ولكن لم يطل بأحد التردد، فقد انطلق صراخ امرأة من ناحية الساحة، وتلته على الفور صرخات، وتميز الصوت وهو يصيح: هوجمنا من الناحية الأخرى!
وارتد الرجال عن الحافة فانطلقوا نحو الساحة فيما يلي الجنوب. أوصى قاسم المدافعين عن الممر بمزيد من الانتباه. أمر خردة أن يدعو النساء القادرات إلى الانضمام إلى المدافعين عن الممر. جرى بين صادق وحسن نحو الساحة حتى توسط رجاله. لاح للجميع لهيطة وهو يقود عصابة كبيرة من الرجال قادمين من جنوب الجبل. قال قاسم بحنق: شاغلنا برجاله حتى يقوم برحلته حول الجبل ثم يجيئنا من مسلك الجنوب.
فصاح حسن وجسمه العملاق ينتفخ بالتوثب: جاء بقدميه إلى موته!
فقال قاسم: يجب أن ننتصر وسننتصر.
وامتد رجاله من حوله كذراعين قويتين. ومضى القادمون يقتربون، بنبابيت مرفوعة، كأنهم دغل من الأشواك. ودخلوا في مجال الأبصار فقال صادق: ليس فيهم جلطة ولا حجاج!
وأدرك قاسم أن جلطة وحجاج على رأس المحاصرين أسفل الجبل، وحدس أنهما سيهاجمان الممر مهما كلفهما ذلك من مشقة، لكنه لم يفض بوساوسه إلى أحد. وتقدم خطوات وهو يلوح بنبوته فشد الرجال على نبابيتهم. وجاء الصوت الغليظ، صوت لهيطة وهو يصيح: لن تدفنوا في قبر يا أولاد الزواني.
واندفع قاسم مهاجما فاندفع حوله الرجال، وأقبل الآخرون كالصخور المنقذفة حتى اصطكت النبابيت واختلطت الزمجرة وارتفع الزئير. وفي الوقت ذاته انهال الطوب من المدافعات عن رأس الممر على هجوم من أسفل الجبل بدأ. لكن كل رجل من رجال قاسم مع آخر من العدو اشتبك. تضارب قاسم ودنجل بعنف ومكر. وهوى نبوت لهيطة على ترقوة حمروش فانكسر. والتحم صادق وزينهم في هجمات متتابعة. ودك حسن بنبوته الغضبان فسكت. وضرب لهيطة زقلة في رقبته فانقلب، وتمكن قاسم من إصابة دنجل في أذنه فصرخ وتراجع ثم اندلق. وحمل زينهم على صادق حملة شديدة لكن هذا بادره بطعنة في بطنه فخذلته يداه فثنى بطعنة أخرى فجندله. وتغلب خردة على الحفناوي ولكن لهيطة شل ذراعه قبل أن يهنأ بنصرته. ووجه حسن ضربة إلى لهيطة لكنه زاغ عنها برشاقة ورفع نبوته ليهوي به على الشاب غير أن قاسم عاجله بضربة تلقاها بنبوته، وجاء أبو فصادة كالريح ليقذفه بالضربة الثالثة لكن لهيطة نطحه برأسه في أنفه فحطمه. بدا لهيطة كأنه قوة لا تغلب.
واشتد القتال. تلاطمت النبابيت بلا هوادة. واندفعت سيول الشتائم واللعنات. وانبثقت الدماء تحت أشعة الشمس المحرقة. وتوالت الإصابات فخر الرجال تباعا من الفريقين. واحترق لهيطة غضبا للمقاومة المستبسلة التي لم يتوقعها فتضاعفت هجماته وضرباته وقسوته. ومن الناحية الأخرى أمر قاسم حسن وعجرمة بأن يتحينا الفرصة للهجوم معه على لهيطة حتى يهدموا الحصن الذي يلوذ به المهاجمون. وإذا بامرأة من المدافعات عن الممر تجيء وهي تصرخ محذرة: إنهم يصعدون تحت ألواح العجين!
ففزعت قلوب رجال الجبل، وصاح لهيطة: لن تدفنوا في قبر يا أولاد الزواني!
فصاح قاسم في رجاله: انتصروا قبل أن يصعد المجرمون.
واندفع نحو لهيطة بجناحين من حسن وعجرمة، فاستقبله الفتوة بضربة شديدة تلقاها بنبوته، وأراد عجرمة أن يعاجله بضربة ولكن العفش أصاب ذقنه فانبطح على وجهه. ووثب حسن أمامه وهمه يتبادلان ضربتين، ورمى حسن بنفسه عليه فالتحما في صراع مميت. وارتفع صراخ النساء عند رأس الممر وأخذ بعضهن يلذن بالفرار، وتحرج الموقف. وسارع قاسم بإرسال صادق وبضعة رجال إلى حافة الجبل، ثم انقض على لهيطة لكن اعترضه زحلفة فاشتبكا في قتال عنيف. ودفع حسن لهيطة بكل قوته فتراجع خطوة، فبصق على عينه وهو يهدر، ثم ركله فأصاب ركبته، وبسرعة خاطفة هجم عليه متقوسا فنطح بطنه كأنه ثور غاضب فاختل توازن الجبار ووقع على ظهره فبرك الآخر فوقه وأطبق بنبوته على رقبته بكلتا يديه وضغط بكل قواه. وأقبل رجال للدفاع عن فتوتهم فتصدى لهم قاسم وبعض رجاله. واصطكت قدما لهيطة، وجحظت عيناه، واحتقن بالدم وجهه، وأخذ يختنق. وبغتة وثب حسن واقفا فوق غريمه الخائر القوة وهوى على رأسه بنبوته بضربة شرسة حانقة فتحطمت جمجمته وانتهى. وصرخ حسن بصوت كالرعد: لهيطة قتل، فتوتكم قتل، انظروا إلى جثته!
وأحدث مقتل لهيطة غير المتوقع أثرا عنيفا، فاشتدت عزائم ووهنت عزائم، واندفع الأمل واليأس في قتال مرير. وانضم حسن إلى قاسم في صراعه فلم تخب له ضربة. وشهد الميدان رجالا تتوثب ثم تثب، ونبابيت ترتفع ثم تنقض. وثار الغبار وانتشر ثم أطبق على المتعاركين كليل دموي. وقذفت الصدور بجيشات وصيحات ولعنات وصرخات متأوهة وزمجرات متوعدة. وبين كل آونة وأخرى يترنح رجل ثم يسقط، أو يتراجع ثم يفر، وانتشر المنطرحون على الأرض والتمعت الدماء تحت أشعة الشمس.
وانتحى قاسم جانبا فأرسل بصره نحو رأس الممر الذي أقلقه أمره فرأى صادق ورجاله يصبون الطوب بالمقاطف في توتر شديد دل على اقتراب الخطر المتصاعد. وسمع النساء. وبينهن زوجته، وهن يصرخن كالمستغيثات. وشاهد بعض رجال صادق وهم يقبضون على النبابيت استعدادا للقاء المصرين على الصعود تحت وابل الطوب. قدر خطورة الأمر فمضى من فوره إلى جثة لهيطة التي ابتعد عنها القتال لتقهقر رجال الحارة، وراح يسحبها وراءه نحو رأس الممر. ونادي حسن فجاءه مسرعا فتعاونا على حمل الجثة، وسارا بها حتى أول الممر، وقذفا بها معا فتهاوت ثم تدحرجت حتى وقفت تحت أرجل الصاعدين تحت الألواح. ووقع اضطراب واضح. وجلجل صوت حجاج وهو يصرخ في غضب: اصعدوا، تقدموا، الويل للمجرمين!
فصاح قاسم متهكما، في ضبط نفس عجيب: تقدموا، هذه جثة فتوتكم، وورائي جثث رجالكم الآخرين، تقدموا فنحن في انتظاركم!
وأشار إلى الرجال والنساء فانهال الطوب كالمطر حتى توقفت طليعة المهاجمين وأخذوا في التراجع البطيء على رغم دفع حجاج وجلطة لهم، وترامت إلى قاسم همهمة تحرش واحتجاج وتذمر فصاح قاسم: يا جلطة، يا حجاج، أقدما ولا تهربا!
فارتفع إليه صوت جلطة كأنه نبرة الكراهية وهو يصيح: انزلوا إن كنتم رجالا! انزلوا يا نسوان يا أولاد العواهر!
وصاح حجاج وهو واقف وسط الموجة المرتدة من الرجال: لا عشت إن لم أشرب من دمك يا أقذر من رعى الغنم!
فتناول قاسم حجرا وقذف به بكل قوته. وتواصل انهمار الأحجار. وأسرعت الموجة المرتدة حتى أوشكت أن تنقلب جريا. وإذا بحسن يجيء فيقول وهو يمسح عن جبهته دما سائلا: انتهى القتال، وفر الأحياء منهم نحو الجنوب.
فهتف قاسم: ادع الرجال لنتبعهم!
لكن صادق قال له: إن الدم يسيل من أسنانك وذقنك!
فمسح فمه وذقنه براحته وبسطها فرآها حمراء قانية. وقال حسن بأسف: قتل منا ثمانية، وأصيب الأحياء بجروح بالغة فلن يستطيعوا حراكا.
ونظر إلى أسفل من خلال الأحجار المتهاوية فرأى أعداءه يركضون في نهاية الممر. فقال صادق: لو أتموا رحلتهم ما وجدوا مقاتلا يصمد لهم.
ثم لثم ذقن قاسم الدامي وأردف بامتنان: أنقذنا عقلك!
وأمر قاسم رجلين بالبقاء عند رأس الممر للحراسة، وأرسل آخرين في أعقاب الهاربين لاستطلاع الأنباء، ثم عاد بين صادق وحسن وهم ينقلون خطوات ثقالا في إعياء وكلال نحو الساحة التي لم يبق فوق أديمها إلا جثث القتلى. كانت مذبحة وأي مذبحة! قتل من رجاله ثمانية ومن أعدائه عشرة غير لهيطة. ولم يسلم من رجاله الأحياء أحد من كسر أو جرح، وقد آووا إلى الأكواخ فأخذت النساء في تضميد جراحهم، على حين ضجت أكواخ الضحايا بالبكاء والصوات. وجاءت بدرية في لهف ودعتهم إلى الكوخ لتغسل جروحهم، ثم جاءت سكينة حاملة إحسان وهي تبكي بكاء صارخا. وكانت الشمس تقذف بنيرانها من كبد السماء، والحدآت والغربان تدور مدومة وهابطة في الفضاء، والجو يفوح برائحة الدم والتراب. ولم تكف إحسان عن البكاء ولكن لم يعرها أحد التفاتا، وحتى حسن العملاق بدا وكأنه يترنح. وتمتم صادق بصوت حزين: ليرحم الله قتلانا!
فقال قاسم: ليرحم الله القتلى والأحياء على السواء.
وأخذت حسن صحوة ابتهاج طارئة فقال: سننتصر عما قريب فتودع حارتنا عهد الدم والإرهاب.
فقال قاسم: سحقا لعهد الإرهاب والدم!
89
لم تشهد الحارة كارثة كهذه من قبل. رجع الرجال صامتين ذاهلين ذابلين غاضين الأبصار كأنما شدت جفونهم إلى أديم الأرض. ووجدوا أنباء الهزيمة قد سبقتهم إلى الحارة وأن الربوع ترتج باللطم والعويل. وانتشر الخبر في الحارات والأزقة وباتت سمعة الحارة الرهيبة أحدوثة تلوكها ألسنة التشفي. وتبين أن حي الجرابيع بأسره قد غادر الحارة خوفا من الانتقام فخلت الدور والدكاكين، ولم يشك أحد في أنهم سينضمون حتما إلى ابن حيهم المنتصر فيزداد بهم عددا وقوة. وخيم الحزن على الحارة المكللة بالحداد، لكن أنفاس الحارة قطرت حقدا ومقتا ورغبة في الانتقام.
وإذا برجال من جبل يتساءلون عن فتونة الحارة ولمن تكون؟ وإذا بالسؤال نفسه يتردد على ألسنة في حي رفاعة، فانتشر سوء الظن انتشار التراب في العاصفة. وعلم الناظر رفعت بما تهجس به الخواطر فدعا حجاج وجلطة إلى مقابلته. وذهب الرجلان وحول كل منهما رجاله الأشداء حتى غص بهم بهو الناظر، واحتل كل فريق جناحا من البهو، فكأنه لم يعد يأمن الاختلاط بجيرانه، وقد أدرك الناظر مغزى ذلك فازداد غما على غم، وقال: تعلمون أن كارثة حلت بنا، لكننا لم نمت، ولم يقض علينا، ولم يزل في وسع سواعدنا أن تحقق لنا النصر على شرط أن نحافظ على وحدتنا، وإلا فقولوا علينا السلام.
فقال رجل من جبل: ستكون الضربة الأخيرة لنا، وما شدة إلا وبعدها الفرج.
وقال حجاج: لولا اعتصامهم بالجبل لهلكوا عن آخرهم.
وقال ثالث: لاقاهم لهيطة بعد رحلة طويلة شاقة تبرك بعدها الجمال.
فقال الناظر بامتعاض: حدثوني عن وحدتكم ما شأنها؟
فقال جلطة: نحن بفضل الله إخوان، وسنظل كذلك. - هذا قولك، لكن مجيئكم بعددكم الوفير هذا ينم على الارتياب الذي يفرق بين قلوبكم!
فقال حجاج: بل دعت إلى ذلك رغبة الجميع في الانتقام!
فوقف الناظر متوتر الأعصاب وقال مقلبا عينيه في الوجوه الكالحة: كونوا صريحين، إنكم تنظرون بعضكم إلى بعض بعين، وتنظرون بالأخرى إلى فتونة الحارة، إلى مكان لهيطة الخالي. ولن تعرف الحارة الأمان ما دامت هذه الحال، وأخشى ما أخشاه أن تتدخل النبابيت في الأمر فتهلكوا جميعا ويأكلكم قاسم لقمة سائغة!
فارتفعت أصوات كثيرة تقول في نفس واحد: نعوذ بالله من ذلك.
فقال الناظر بصوت قوي واضح: لم يعد بالحارة إلا حيا جبل ورفاعة، فليكن عليهما فتوتان، ولا ضرورة للفتوة الواحد، ولنتعاهد على ذلك، ولنكن يدا واحدة على الخارجين.
وانقضت ثواني صمت رهيبة ثم رددت أصوات في فتور: نعم .. نعم.
وقال جلطة: سنرضى بذلك على الرغم من أننا سادة الأحياء منذ القدم.
فقال حجاج محتجا: ليكن القبول بلا من، لا سادة هنا ولا خدم وبخاصة بعد ذهاب الجرابيع، ومن ذا ينكر أن رفاعة كان أنبل من عرفت حارتنا؟
فهتف جلطة محتدا حانقا: حجاج! أنا عارف قلبك.
وهم رفاعي بالكلام ولكن الناظر صرخ غاضبا: خبروني .. هل عزمتم على أن تكونوا رجالا أو لا؟! إن أي نبأ يطير عن ضعفكم سيعقبه زحف الجرابيع من الجبل كالذئاب. خبروني: هل تستطيعون أن تقفوا صفا واحدا، أو أرى لنفسي وجهة أخرى؟
فصاح أفراد من هنا ومن هناك: هس، عيب يا رجال، حارتنا على وشك أن تفقد كل شيء.
وتطلعت إليه الوجوه في تسليم، فقال: ما زلتم متفوقين في العدد والقوة، ولكن لا تهاجموا الجبل مرة أخرى.
وارتسم التساؤل على الوجوه فأردف قائلا: سنحبسهم فوق الجبل، سنتربص لهم أمام المسلكين المفضيين للجبل، فإما يموتون جوعا، وإما يضطرون إلى النزول إليكم فتقضون عليهم.
فقال جلطة: نعم الرأي ، به أشرت على لهيطة - رحمه الله - ولكنه اعتد الحصار جبنا وأبى إلا أن يهاجم.
وقال حجاج: هو الرأي، ولكن ينبغي تأجيل تنفيذه حتى يرتاح الرجال.
وطلب الناظر إليهم أن يتعاهدوا على الإخاء والتعاون، فتصافحوا ورددوا الأقسام. وبدا لكل ذي عينين فيما تبع ذلك من أيام أن جلطة وحجاج يشتدان في معاملة أتباعهما لتغطية آثار الهزيمة التي لحقتهما. وأذاعا في الحارة أنه لولا حماقة لهيطة لقضي على قاسم بلا مشقة، ولكن إصراره على صعود الجبل أنهك رجاله فذهب بقوتهم وشجاعتهم، ولاقاهم عدوهم وهم على أسوأ حال. وصدق الناس ما قيل لهم، ومن أبدى شيئا من الارتياب سب ولعن وضرب. أما فتونة الحارة فلم يكن يسمح لأحد بالخوض فيها، على الأقل في الجهر، ولكن كثيرين - من الرفاعية والجبلية على السواء - جعلوا يتساءلون في الغرز عمن سيخلف لهيطة بعد النصر.
وتولد في الحارة على رغم التعاهد والأقسام جو خفي من الريبة، فاحتاط كل فتوة لنفسه فلم يكن ينأى عن مركزه إلا وسط جماعة من أعوانه. لكن الاستعداد ليوم الانتقام لم يتوقف لحظة واحدة. واتفقوا فيما بينهم على أن يعسكر جلطة ورجاله أمام مسلك المقطم عند السوق، وأن يعسكر حجاج ورجاله أمام مسلك القلعة. وسوف يلازمون أماكنهم ولو بقوا عمرا، وستسرح النساء للبيع والشراء ويجئنهم بالطعام. وعند مساء اليوم السابق ليوم الخروج تجمعوا في شتى الغرز، وجاءوا بقدور البوظة والنبيذ، وراحوا يحششون ويسكرون حتى ساعة متأخرة من الليل. وودع الأعوان حجاج أمام ربعه بحي رفاعة وهو في نهاية من الانبساط والسلطنة. ودفع الباب ومضى في الدهليز وهو يدندن:
الأولة آه ...
لكنه لم يتمها؛ انقض عليه شبح من ورائه، فسد فاه بيد، وطعن بسكين قلبه بالأخرى. انتفض الجسم بقوة بين يديه فلم يتركه خشية أن يحدث سقوطه صوتا. وأنامه برفق على الأرض لا حراك به في الظلام الدامس.
90
استيقظت الحارة في باكر الصباح على ضجة صارخة مفزعة. فتحت النوافذ وأطلت الرءوس، وسرعان ما اتجهت نحو الربع الذي يقيم فيه حجاج فتوة آل رفاعة، حيث تجمهر جمع غفير واختلط اللغط بالصراخ والعويل. وامتلأ دهليز الربع بالرجال والنساء، وكثر التساؤل والتعليق، وأنذرت الأعين المحمرة بالبكاء بكل شر خطير. وهرع إلى الربع الرفاعية من كل ربع ودار وجحر. وما لبث أن جاء جلطة ورجاله فأوسع الناس لهم حتى انتهوا إلى الدهليز، وصاح جلطة: مصيبة ولا كل المصائب، ليتني كنت فداك يا حجاج.
كف الباكون عن البكاء، والصارخون عن الصراخ، والحانقون عن التساؤل، ولكنه لم يسمع كلمة مجاملة واحدة. فعاد يقول: مكيدة دنيئة! ليس الغدر من شيم الفتوات، لكن قاسم راعي غنم متسول لا فتوة، ولن يهنأ لي بال حتى أرمي بجثته إلى الكلاب.
وصاحت امرأة في حدة ملتاعة: مباركة عليك فتونة الحارة يا جلطة.
وتقلصت سحنته بالغضب، فوجم القريبون منه وسرت الدمدمة فيما وراء ذلك، وصاح بغلظة: فلتغلق النسوان أفواههن في هذا اليوم الأغبر!
فعادت المرأة تقول: ليفهم كل ذي عقل!
وصوتت فهاج الصوات، وانتظر جلطة حتى هدأت العاصفة وقال: مكيدة ماكرة دبرت بليل للإيقاع بيننا.
فهتفت امرأة أخرى: مكيدة؟! قاسم وجرابيعه في الجبل، وحجاج قتل في حارته بين قومه وجيرانه الطامعين في الفتونة!
فصاح جلطة: مرة مجنونة، ومجنون كل من يتقبل ظنها، وإذا تماديتم فسيقتل بعضنا بعضا كما دبر قاسم.
وإذا بقلة تهوي فتتحطم عند قدمي جلطة، فتراجع هو ورجاله وهو يقول: عرف ابن الزانية كيف يفسد بيننا.
ومضى من توه نحو بيت الناظر. واشتد اللغط عقب ذهابه. وإذا برجلين - رفاعي وجبلي- يتشابكان في شجار عنيف، وتبعتهما على الأثر امرأتان. وتضارب غلمان من الحيين. واستعرت معارك قذف وسب من النوافذ. وشاع الاضطراب في الحارة حتى تجمهر في كل حي رجاله وارتفعت النبابيت. وخرج الناظر من بيته بين خدم ورجال، فسار حتى توسط الحيين وصاح بأعلى صوته: اعقلوا .. الغضب سيعميكم عن عدوكم الحقيقي، قاتل المعلم حجاج!
فصاح أحد الرفاعية: من أدراك بذلك؟ وأي جربوع يتجرأ على دخول الحارة؟
فصاح رفعت: كيف يقتلون حجاج اليوم وهم في أشد الحاجة إليه؟ - سل المجرمين ولا تسلنا نحن. - الرفاعية لا يخضعون لفتوة من جبل! - سيدفعون ثمن دمه غاليا.
فعاد الناظر يصيح: لا تطيعوا المكيدة وإلا رأيتم قاسم زاحفا عليكم كالوباء. - فليأت قاسم إذا شاء، ولكن لن يكون جلطة فتوة علينا.
فقال الناظر وهو يضرب كفا بكف: انتهينا وسيدركنا الخراب.
فتعالت الأصوات: الخراب خير من جلطة.
وقذفت طوبة من حي رفاعة فاستقرت بين الرجال في حي جبل. وأجاب حي جبل بالمثل. ورجع الناظر مسرعا. وإذا بالطوب ينهمر من الجانبين، وسرعان ما اشتبك الحيان في معركة دامية. واشتد الضرب في قسوة بالغة. وامتدت المعركة إلى بعض الأسطح حيث تبادل نساء من الحيين قذف الطوب والحصى والتراب والأخشاب. وتواصل الاشتباك فترة طويلة على الرغم من أن الرفاعية كانوا يقاتلون بغير فتوتهم، ولكن كثر صرعاهم أمام ضربات جلطة التي لا تخيب. وإذا بأصوات نساء تنطلق من النوافذ في ضوضاء غير متميزة ضاعت في ضوضاء المعركة. غير أن النساء بدون وهن يشرن بأيديهن في فزع تارة نحو طرف الحارة الشرقي وطورا نحو الطرف الآخر. والتفت أناس إلى حيث تشير النساء. رأوا قاسم أمام البيت الكبير، يتقدم في عصبة من رجاله تسبقهم نبابيتهم. ورأوا في الطرف الآخر حسن يتقدم في عصبة أخرى. ضج المكان بصيحات التحذير وتتابعت الأحداث في سرعة خاطفة. أمسكت الأيدي عن الضرب كأنما شلت. وبدافع عفوي تكتلوا وتداخلوا، الضارب منهم والمضروب، وانقسموا فرقتين لمواجهة القادمين. وصاح جلطة بحنق: قلت إنها مكيدة فلم تصدقوا!
استعدوا للقتال وهم من الجهد واليأس على أسوأ حال. لكن قاسم توقف فجأة عن التقدم، ومثله فعل حسن كأنهما ينفذان خطة واحدة. وصاح قاسم بأعلى صوته: لا نريد أذى لأحد، لا غالب ولا مغلوب، أبناء حارة واحدة وجد واحد، والوقف للجميع.
فصاح جلطة: مكيدة جديدة!
فقال قاسم غاضبا: لا تدفعهم إلى القتال دفاعا عن فتونتك، دافع عنها وحدك إذا شئت!
وصرخ جلطة: اهجموا!
وانقض على مجموعة قاسم. تبعه رجال. وانقض آخرون على حسن ورجاله. تردد كثيرون، تسلل الجرحى إلى الربوع، وكذلك المنهكون، ثم تبعهم المترددون؛ لم يبق إلا جلطة وعصابته. ولكنهم خاضوا معركة شديدة على رغم ذلك واستماتوا في الدفاع. تضاربوا بالنبابيت والرءوس والأقدام والأيدي. وركز جلطة هجومه على قاسم بحقد أعمى. تبادلا ضربات عنيفة، ثم مضى قاسم يتلقى ضربات خصمه بنبوته في خفة وحذر، لكن رجال قاسم أطبقوا بكثرتهم على عصابة جلطة حتى غابت تحت عشرات النبابيت، وانقض حسن وصادق على جلطة وهو مشتبك مع قاسم، فضرب صادق نبوته وهوى حسن بنبوته على رأسه، مرة وثانية وثالثة، فسقط النبوت من يده واندفع يجري كالثور الذبيح ثم انكب على وجهه كمصراع بوابة.
انتهت المعركة. سكتت أصوات النبابيت وصرخات الرجال. وقف المنتصرون وهم يلهثون ويمسحون الدماء عن الوجوه والرءوس والمعاصم، لكن ثغورهم افترت على رغم ذلك عن ابتسامة الفوز والسلام. كان العويل يترامى من النوافذ، ورجال جلطة مبعثرين على الأرض، والشمس ساطعة ترسل أشعة حامية. وخاطب صادق قاسم قائلا في ثقة وطمأنينة: انتصرت، نصرك الله. إن جدنا لا يخطئ في اختياره، ولن تسمع حارتنا العويل بعد اليوم.
فابتسم قاسم ابتسامة هادئة، ثم استدار في عزم موجها بصره نحو بيت الناظر فاتجهت الرءوس إليه ...
91
سار قاسم على رأس رجاله إلى بيت الناظر فوجدوا الباب والنوافذ مغلقة، والصمت والكآبة يخيمان عليه. وطرق حسن الباب بقوة، ولكن أحدا لم يرد، وتجمع نفر من الرجال وراحوا يدفعون الباب بشدة حتى انفتح على مصراعيه. ودخل الرجل، ورجاله وراءه. فلم يعثروا للبواب على أثر ولا لأحد من الخدم. وتسارعوا إلى البهو، فبقية الحجرات، ثم الأدوار الثلاثة، فتبين لهم أن الناظر وأهله وخدمه قد غادروا البيت هاربين. والحق أن قاسم لم يأسف على ذلك؛ إذ كان في أعماقه راغبا عن الفتك بالناظر إكراما لزوجته التي لولاها لقضي عليه من أول الأمر، ولكن حسن والآخرين غضبوا غضبا شديدا لنجاة الرجل الذي أذاق الحارة الفقر والهوان طوال عهده بها.
وهكذا تم النصر لقاسم وأصبح رجل الحارة دون منازع. وتولى شئون النظارة إذ إنه كان لا بد للوقف من ناظر. وعاد الجرابيع إلى حيهم، وعاد معهم كل من هاجر من الحارة خوفا من الفتوات وعلى رأسهم المعلم يحيى. ومضت أربعون يوما في هدوء فالتأمت الجراح وسكنت النفوس واطمأنت القلوب.
ويوما وقف قاسم أمام البيت الكبير ودعا إليه أهل الحارة رجالا ونساء من جميع الأحياء فمضوا إليه في لهفة وتطلع وقلوبهم تخفق بشتى الخواطر. واكتظ بهم المكان واختلط جرابيعهم بآل جبل وآل رفاعة. وبدا قاسم باسما متواضعا رقيقا مهيبا معا فأشار إلى أعلى، إلى البيت الكبير وقال: هنا يقيم الجبلاوي، جدنا جميعا، لا تمييز في الانتساب إليه بين حي وحي، أو فرد وفرد، أو رجل وامرأة.
تهللت الوجوه في دهشة وبشر وبخاصة وجوه الذين توقعوا أن يسمعوا مقالة رجل ملك وانتصر.
وأردف قاسم قائلا: وحولكم وقفه، وسيكون لكم جميعا على السواء كما وعد أدهم حين قال له: «سيكون الوقف لذريتك»، وعلينا أن نحسن استغلاله حتى يكفي الجميع ويفيض، فنحيا كما تمنى أدهم أن يحيا، في رزق موفور وطمأنينة شاملة وسعادة صافية غناء.
وتبادل الناس النظرات كأنهم في حلم. فواصل قاسم كلامه قائلا: لقد ذهب الناظر إلى غير رجعة، واختفى الفتوات، لن يوجد في حارتنا بعد اليوم فتوة، لن تؤدوا إتاوة لجبار، أو تخضعوا لعربيد متوحش، فتمضي حياتكم في سلام ورحمة ومحبة.
وقلب عينيه في الوجوه المستبشرة وقال: وبيدكم أنتم ألا يعود الحال كما كان. راقبوا ناظركم، فإذا خان اعزلوه، وإذا نزع أحدكم إلى القوة اضربوه، وإذا ادعى فرد أو حي سيادة أدبوه. بهذا وحده تضمنون ألا ينقلب الحال إلى ما كان، وربنا معكم.
في ذلك اليوم تعزى قوم عن موتاهم، وآخرون عن هزيمتهم، ونظر الجميع إلى الغد كأنما ينظرون إلى بزوغ البدر في ليلة من ليالي الربيع. ووزع قاسم الريع على الجميع بالعدل بعد الاحتفاظ بقدر للتجديد والإنشاء. أجل كان نصيب الفرد ضئيلا ولكن إحساسه بالعدل والكرامة فاق كل حد. ومضى عهده في تجديد وبناء وسلام. ولم تنعم حارتنا قبله بمثل ما نعمت به في أيامه من الوحدة والألفة والسعادة. أجل كان ثمة آحاد في آل جبل يضمرون غير ما يظهرون ويتهامسون فيما بينهم : «أنكون من جبل ويحكمنا جربوع من الجرابيع؟!» ومثلهم وجد في آل رفاعة. بل لم يخل الجرابيع من نفر أخذتهم العزة والزهو. ولكن صوتا لم يرتفع لتعكير الصفو في عهده. ورأى الجرابيع فيه طرازا من الرجال لم يوجد مثله من قبل ولن يوجد مثله من بعد. جمع بين القوة والرقة، والحكمة والبساطة، والمهابة والمحبة، والسيادة والتواضع، والنظارة والأمانة، وإلى ذلك كله كان ظريفا بشوشا أنيقا، وحشاشا يلذ مجلسه، وعشيرا تطيب مودته، فضلا عن ذوقه الجميل وحبه الغناء والنكتة. لم يتغير من شأنه شيء اللهم إلا أنه توسع في حياته الزوجية كأنما جرى فيها مجراه في تجديد الوقف وتنميته. فعلى حبه بدرية تزوج حسناء من آل جبل وأخرى من آل رفاعة، وتعشق امرأة من الجرابيع ثم تزوج منها أيضا. وقال أناس في ذلك: إنه يبحث عن شيء افتقده مذ فقد زوجته الأولى قمر. وقال عمه زكريا: إنه يريد أن يوثق أسبابه بأحياء الحارة جميعا. لكن حارتنا لم تكن بحاجة إلى تفسير أو تعليل لما حدث، بل الحق إنها إذا كانت أعجبت به لأخلاقه مرة فقد أعجبت به لحيويته وحبه النسوان مرات. وإن حب النسوان في حارتنا مقدرة يتيه بها الرجال ويزدهون، ومنزلة تعدل في درجاتها الفتونة في زمانها أو تزيد.
ومهما يكن من أمر فإن حارتنا لم تشعر قبله بالسيادة حقا، وبأن أمرها قد آل إلى نفسها دون ناظر يستغل أو فتوة يستذل؛ ولا عرفت قبله ما عرفت أيامه من الإخاء والمودة والسلام.
وقال كثيرون: إنه إذا كانت آفة حارتنا النسيان، فقد آن لها أن تبرأ من هذه الآفة، وإنها ستبرأ منها إلى الأبد.
هكذا قالوا ...
هكذا قالوا: يا حارتنا!
عرفة
92
المتأمل لحال حارتنا لا يصدق ما تقول الرباب في القهوات. من جبل؟! ومن رفاعة؟! ومن قاسم؟! وأين الآثار التي تدل عليهم خارج نطاق القهوات. أما العين فلا ترى إلا حارة غارقة في الظلمات وربابا تتغنى بالأحلام. وكيف آل بنا الأمر إلى هذه الحال؟ أين قاسم والحارة الواحدة والوقف المبذول لخير الجميع ؟ وماذا جاء بهذا الناظر الجشع وهؤلاء الفتوات المجانين؟ ستسمع حول الجوزة الدائرة في الغرز، بين الحسرات والضحكات، أن صادق خلف قاسم على النظارة فسار سيرته. وأن قوما رأوا أن حسن أحق منه بالنظارة؛ لقرابته من قاسم ولأنه الرجل الذي قتل الفتوات. وأنهم حرضوا حسن على رفع نبوته الذي لا يقاوم فأبى أن يعود بالحارة إلى عهد الفتونة. لكن الحارة كانت قد انقسمت على نفسها، ومضى أناس في آل جبل وآل رفاعة يجاهرون بما كانوا يضمرون.
ولما رحل صادق عن الدنيا أسفرت الرغبات المكبوتة عن وجهها الشائه ونظراتها العدوانية. واستيقظت النبابيت بعد رقاد، وسال الدم في كل حي على حدة، وبين كل حي وآخر، حتى قتل الناظر نفسه في إحدى المعارك. وأفلت الزمام ووئد الأمن والسلام، فلم يجد الناس بدا من إعادة آخر ذرية الناظر رفعت إلى النظارة التي يتقاتل الطامعون عليها.
هكذا عاد الناظر قدري إلى النظارة. وانقلبت الأحياء إلى عصبيتها القديمة، وإذا كل حي يسيطر عليه فتوة، ثم دارت المعارك على فتونة الحارة حتي فاز بها سعد الله، فاحتل بيت الفتوة وصار الفتوة الأول، واستأثر يوسف بآل جبل، وعجاج بآل رفاعة، والسنطوري بآل قاسم. ووزع الناظر الريع بالأمانة أول الأمر فاستمرت حركة التعمير والتجديد. وسرعان ما لعب الطمع بقلب الناظر، والفتوات من بعده كما كان المتوقع، فارتدوا إلى النظام القديم، أي أن الناظر يستأثر بنصف الريع ويوزع نصفه الآخر على الفتوات الأربعة الذين استأثروا به من دون المستحقين، ولم يقفوا عند ذلك بل جاوزوه بكل وقاحة إلى فرض الإتاوات على أتباعهم المساكين. وتعطلت حركة الإنشاء حتى توقف البناء في بيوت لم يشيد منها إلا نصفها أو ربعها. وبدا وكأن شيئا من القديم لم يتغير إلا أن حي الجرابيع أصبح حي آل قاسم، يرأسه فتوة كالفتوات الآخرين، وتقوم على جانبيه الربوع مكان الأكواخ، والخرائب.
أما أهل الحارة فانقلبوا إلى ما كانوا عليه في الزمان الأسود، بلا كرامة ولا سيادة، تنهكهم الفاقة وتتهددهم النبابيت وتنهال عليهم الصفعات. وانتشرت القذارة والذباب والقمل ، وكثر المتسولون والمشعوذون وذوو العاهات. ولم يعد جبل ورفاعة وقاسم إلا أسماء، وأغاني ينشدها شعراء المقاهي المسطولون. وتباهى كل فريق برجله الذي لم يبق منه شيء، وتنافسوا في ذلك إلى حد الشجار والعراك. وذاعت شعارات المساطيل، فيقول أحدهم وهو داخل إلى الغرزة: «ما فيها فائدة!» يعني الدنيا لا الغرزة. ويقول آخر: «هناك نهاية واحدة هي الموت، فلنمت بيد الله خير من أن نموت بنبوت فتوة، وأحسن ما نفعل سكرة أو تحشيشة!» وكانوا يتغنون بمواويل حزينة، ينسجونها من خيوط الخيبة والفقر والذل، أو يترنمون بأغنيات فاحشة داعرة يقذفونها في آذان النساء والرجال الباحثين عن السلوى والعزاء ولو في خرابة مظلمة. وعندما يشتد الكرب بأحدهم يقول: «المكتوب مكتوب، لا جبل أجدى ولا رفاعة ولا قاسم، حظنا من الدنيا الذباب ومن الآخرة التراب.»
ومن عجب أن تبقى حارتنا بعد ذلك كله الأثيرة بين الحواري، يشير إليها الرجل من جيراننا ويقول في إكبار: «حارة الجبلاوي!» ونقبع في أركانها ساهمين واجمين كأننا بتنا قانعين بالذكريات العزيزة الماضية، أو أننا نجتر الإصغاء إلى هاتف في أعماقنا يهمس بصوت خافت: «ليس من المستحيل أن يقع في الغد ما وقع بالأمس، فتتحقق مرة أخرى أحلام الرباب وتختفي من دنيانا الظلمات.»
93
في يوم من الأيام، قبيل العصر، رأت الحارة فتى غريبا قادما من ناحية الخلاء، يتبعه آخر كالقزم. كان يرتدي جلبابا ترابي اللون على اللحم، ويشد على وسطه حزاما شطر جلبابه شطرين انداح أعلاهما وتدلى وامتلأ بأشياء فيه، وانتعل مركوبا باهتا متهتكا. أما رأسه فبدا عاريا مشعث الشعر غزيره. وكان أسمر اللون، مستدير العينين، حاد البصر، تلوح في محجريه نظرة قلقة نافذة، وفي حركاته ثقة واعتداد. وقف قليلا أمام البيت الكبير ثم تقدم على مهل يتبعه صاحبه. وتطلعت نحوه الأبصار وكأنما تتساءل: «غريب في حارتنا؟! يا للوقاحة!» قرأ ذلك في أعين الباعة وأصحاب الدكاكين والجالسين في القهوات والمطلات من النوافذ، بل في أعين الكلاب والقطط، حتى خيل إليه أن الذباب نفسه سيتجنبه ازدراء واحتجاجا. والتفت نحوه الغلمان في تحرش ، واقترب بعضهم منه، وأخذ الآخرون يملئون النبال أو يبحثون في الأرض عن طوبة، فابتسم لهم متوددا، ودس يده في عبه فأخرج شوية نعناع وراح يوزعه عليهم فأقبلوا نحوه فرحين، ومضوا يمصون النعناع وهم يرمقونه بإعجاب. وقال لهم والابتسامة لا تفارق وجهه: أما من بدروم خال للإيجار؟ هيا يا رجال، من يدلني منكم عليه فله قرطاس نعناع.
وسألته امرأة كانت مقتعدة الأرض أمام أحد الربوع: يا ألف مصيبة عليك، من أنت حتى تسكن في حارتنا؟
فضحك الرجل وقال: محسوبك عرفة، من أولاد حارتكم كالآخرين، وهو عائد بعد غيبة طويلة.
فدققت المرأة فيه النظر وتساءلت: ابن من يا روح أمك؟
فبالغ في الضحك توددا وقال: خالدة الذكر جحشة، ألا تعرفينها يا ست النساء؟ - جحشة؟ نبين زين؟! - بعينها ولحمها.
وقالت امرأة مستندة إلى جدار، كانت تتابع الحديث وهي تفلي رأس غلام: كنت تتبع أمك في تلك الأيام وأنت غلام، ما زلت أذكرك، وتغير كل شيء فيك إلا عينيك.
فقالت المرأة الأولى: أي والله، وأين أمك؟ ماتت! الله يرحمها، ياما قعدت قدام مقطفها سائلة عن الغيب، أوشوش «الدكر» وترمي هي بالودع وتتكلم، الله يرحمك يا جحشة!
فقال بارتياح: الله يطول عمرك، ستدلينني أنت على بدروم خال بإذن الله.
فحدجته المرأة بنظر أعمش وسألته: وماذا عاد بك بعد الغيبة الطويلة؟
فقال محاكيا لهجة الحكماء: مصير الحي إلى حارته وأهله.
فأشارت المرأة إلى ربع في حي رفاعة وقالت: عندك هناك بدروم، خلا مذ ماتت ساكنته حرقا الله يرحمها، ألا يخيفك ذلك؟
فضحكت امرأة مطلة من نافذة وقالت: هذا رجل تخاف منه العفاريت.
فرفع رأسه متظاهرا بالضحك والانبساط وقال: يا حارتنا يا حلوة، ما أرق ظرف أهلك! الآن أعرف لماذا نصحتني أمي عند الوفاة بالعودة إليك!
ثم نظر إلى المرأة القاعدة وقال: الموت حق علينا يا زبونة المرحومة أمي، سواء جاء من حرق أو غرق أو عفريت أو نبوت.
وحياها ومضى نحو الربع الذي أشارت إليه. وأصبح محط أنظار كثيرين، فقال رجل ساخرا: عرفنا أمه، فمن ذا يعرف أباه؟
فقالت عجوز: ربنا أمر بالستر!
فقال ثالث: يمكنه أن يدعي أنه ابن رجل من جبل أو رفاعة أو قاسم، كما يشاء أو تشاء مصلحته، الله يرحم أمه!
فهمس صاحبه في أذنه ساخطا: لماذا عدت بنا إلى هذه الحارة؟
فقال عرفة والابتسامة ما زالت في شفتيه: في كل مكان أسمع هذا الكلام، وهذه حارتنا على أي حال، وهي الحارة الوحيدة التي يمكننا الإقامة بها. حسبنا تخبطا في الأسواق ونوما في الخلاء والخرابات. ثم إن هؤلاء الناس طيبون على رغم قذارة ألسنتهم، أغبياء على رغم نبابيتهم، فهنا يسهل علينا كسب رزقنا، تذكر هذا يا حنش!
فهز حنش منكبيه الضيقين كأنما يقول: «الأمر لله». واعترضهما رجل مسطول فسأل عرفة: ماذا نسميك؟ - عرفة. - ولقبك؟ - عرفة بن جحشة!
فضج الواقفون بالضحك مسرورين بهوانه، فعاد المسطول يقول: طالما سألنا أنفسنا في ذلك الزمان حينما حملت أمك: ترى من يكون أبوك؟ فهل خبرتك بالحقيقة؟
فقال عرفة مداريا ألمه بمزيد من الضحك: ماتت هي نفسها قبل أن تعرفه!
ومضى وهم يضحكون. وسرى نبأ عودته في الأحياء. وقبل أن يتسلم البدروم جاء صبي قهوة الرفاعية وقال له: المعلم عجاج فتوة حينا يطلبك.
ذهب إلى القهوة على مبعدة قريبة من الربع. استرعى نظره أول ما اقترب منها الصور المنقوشة على الجدار الأوسط فوق أريكة الشاعر. كانت تبدأ من أسفل بصورة لعجاج ممتطيا جواده، وفوقها صورة للناظر قدري بشاربه الفخيم وعباءته الأنيقة، ثم فوقهما صورة لجثة رفاعة بين يدي الجبلاوي وهو يرفعها من الحفرة ليأخذها إلى بيته. تأمل ذلك المنظر باهتمام ولكن بسرعة، ثم دخل القهوة فرأى عجاج يجلس على أريكة تتوسط الجناح الأيمن، ومن حوله يجلس الأتباع والأعوان.
مضى عرفة إليه حتى مثل بين يديه فرمقه الفتوة بنظرة ازدراء طويلة كأنما ينومه بعينيه قبل أن ينقض عليه. وقال عرفة رافعا يديه إلى رأسه: التحيات المباركات على فتوتنا، من نحتمي بحماه ونسعد بجواره.
فلاحت السخرية في العينين الضيقتين وقال: كلام حلو يا ابن القديمة، ولكنه عملة لا نعترف بها وحدها!
فقال عرفة باسما: ستجيء العملة الأخرى في أقرب وقت إن شاء المولى. - عندنا متسولون أكثر من الحاجة!
فقال عرفة بكبرياء ضاحك: لست متسولا يا معلم ولكني ساحر اعترفت بفضله الملايين!
وتبادل الجلاس النظرات فقطب عجاج متسائلا: ماذا تعني يا ابن المجنونة؟
فدس عرفة يده في عبه وأخرج حقا صغيرا دقيقا في حجم النبقة وتقدم في خضوع من المعلم ومد به يده فتناوله المعلم بعدم اكتراث، وفتحه، فرأى مادة قاتمة، ثم رفع إليه عينيه متسائلا، فقال عرفة في ثقة لا حد لها: قمحة منه على فنجال شاي قبل «لا مؤاخذة» بساعتين، وبعدها فإما ترضى عن محسوبك عرفة، وإما تطرده من الحارة مشفوعا باللعنات.
اشرأبت الأعناق باهتمام شديد لأول مرة، وحتى عجاج لم يستطع أن يخفي اهتمامه، لكنه تساءل في استهانة مصطنعة: أهذا هو سحرك؟ - عندي أيضا البخور النادر، الوصفات العجيبة، الطب والدواء، الأحجبة، ويعرف قدري حقا عند المرض والعقم والضعف.
فقال عجاج فيما يشبه الوعيد: الله .. الله .. فلنبشر بالإتاوات!
فانقبض قلب عرفة، لكن وجهه زاد انبساطا وهو يقول: كل ما أملك تحت أمرك يا معلم.
فضحك الفتوة بغتة وقال: لكنك لم تخبرنا من أبوك!
فقال دون أن يزايله المرح: لعلك به أعلم!
وضجت القهوة بالضحك. وتلاقت التعليقات الساخرة في شراريب الدخان السابحة في الجو. ولما ابتعد عرفة عن القهوة قال لنفسه حانقا: «من يدري من يكون أبوه حقا؟ ولا أنت يا عجاج، آه يا أولاد الكلب!» وتفقد هو وحنش البدروم في ارتياح، ومضى يقول: أوسع مما كنت أتوقع، مناسب جدا يا حنش، فهذه الحجرة صالحة للمقابلات، والتي بالداخل للنوم، والأخيرة للعمل.
فسأله حنش بقلق: ترى في أي حجرة احترقت المرأة؟
فضحك عرفة ضحكة عالية رنت بين الجدران الخالية وقال: أتخاف من العفاريت يا حنش؟ إننا نتعامل معهم كما كان جبل يتعامل مع الثعابين.
ونظر فيما حوله بارتياح وقال: ليس عندنا إلا نافذة واحدة في الحجرة المطلة على الطريق، سنرى الطريق من تحت من خلال النافذة ذات القضبان الحديدية، فلهذه المقبرة ميزة جليلة وهي أنها لا يمكن أن تسرق. - قد تنهب! - قد!
ثم وهو يتنهد: كل ما عندي فيه فوائد للناس، لكني لم ألق في حياتي إلا الإساءة.
فقال حنش: سيعوضك النجاح عن كل ما نالك من أذى، أو ما نال المرحومة أمك من قبل.
94
في أوقات الفراغ كان يحلو له أن يجلس على كنبة قديمة؛ ليتفرج على ما يجري من النافذة المطلة على أرض الحارة. جلس مسند الجبين إلى قضبان النافذة فبدت الأرض على مستوى بصره بكل ما يدب عليها من أقدام وعجلات وكلاب وقطط وحشرات وأطفال، أما الوجوه والصدور فلم يكن ليراها إلا بتخفيض قامته ورفع رأسه. ووقف أمامه طفل عار وهو يلعب بفأر ميت، ثم مر عجوز ضرير يحمل على يسراه صينية خشبية حملت لبا وفولا وحلوى وذبابا ويتوكأ بيمناه على عصا غليظة، وكان صوت عويل يترامى من شباك بدروم قريب، ومعركة تدور بين رجلين حتى تدفق الدم من وجهيهما. وابتسم للطفل العاري وسأله برقة: ما اسمك يا شاطر؟
فأجاب: أونة. - قصدك حسونة، هل يعجبك هذا الفأر الميت يا حسونة؟ - فرماه به. ولولا أن حجزه قضيب لأصاب وجهه، وجرى الصغير كقارب يتمايل. والتفت نحو حنش وكان يهوم عند قدميه وقال: في كل شبر من هذه الحارة تجد دليلا على وجود الفتوات، ولكنك لن تجد دليلا واحدا على وجود أناس مثل جبل أو رفاعة أو قاسم.
فقال حنش وهو يتثاءب: نحن نرى أمثال سعد الله ويوسف وعجاج والسنطوري، ولكننا نسمع فقط عن أمثال: جبل ورفاعة وقاسم. - لكنهم وجدوا، أليس كذلك؟
فأشار حنش إلى أرض الحجرة بأصبعه وقال: ربعنا رفاعي، كل سكانه رفاعية، أي رجال رفاعة الذي تؤكد الرباب كل مساء أنه عاش ومات في سبيل الحب والسعادة، ومع ذلك فنحن نغير ريقنا كل صباح على سبابهم ومشاجراتهم. هكذا هم نساء ورجالا.
فلوى عرفة شفتيه امتعاضا وقال: لكنهم وجدوا، أليس كذلك؟
فواصل حنش كلامه قائلا: السباب أهون ما يقع في حي رفاعة، أما المعارك فأجارك الله منها. أمس فقط فقد ساكن عينه.
وقف عرفة محتدا وقال: حارة عجيبة! الله يرحمك يا أمي، انظر إلينا مثلا، الكل ينتفع بنا ولا أحد يحترمنا! - إنهم لا يحترمون أحدا.
فصر على أسنانه وقال: إلا الفتوات!
فقال حنش ضاحكا: حسبك أنك الوحيد في هذه الحارة الذي يتعامل معه الجميع من جبلية ورفاعية وقاسمية. - عليهم اللعنة جميعا.
وصمت مليا وعيناه تلمعان في ضوء البدروم الخافت ثم قال: كل واحد منهم يفاخر برجله بغباء وعمى، يفاخرون برجال لم يبق منهم إلا أسماؤهم، ولا يحاولون قط أن يجاوزوا الفخر الكاذب بخطوة واحدة! أولاد كلب جبناء.
وكان أول من قصده من زبائن امرأة من آل رفاعة، في الأسبوع الأول من استقراره في مسكنه، وإذا بها تسأله بصوت خفيض: كيف يمكن التخلص من امرأة دون أن يدري أحد؟
فارتاع الرجل، ونظر إليها باستغراب، ثم قال: لست لذلك يا ستي، إذا أردت أدوية للجسد أو للروح فأنا خادمك!
فتساءلت بإنكار: ألست ساحرا؟
فقال بوضوح: في كل ما فيه فائدة للناس، أما القتل فله أناس آخرون؟ - لعلك خائف؟! لكننا سنكون شريكين سرهما واحد.
فقال برقة تطوي سخرية: لم يكن رفاعة كذلك!
فهتفت: رفاعة؟! عليه الرحمة، نحن في حارة لا تجدي فيها الرحمة، ولو كانت تجدي ما هلك رفاعة نفسه!
وتركته يائسة، لكنه لم يندم. إن رفاعة نفسه - أول الطيبين - لم يظفر بالسلامة في هذه الحارة، فكيف يأمل فيها من يبدأ عمله بالجريمة؟! وأمه! كم لاقت من آلام دون أن تتعرض لأحد بأذى. فليكن على خير صلة بالناس جميعا كما يجدر بكل تاجر لبق. ومضى يتردد على جميع المقاهي فيجد في كل قهوة زبونا يعرفه. واستمع إلى قصص الرباب في جميع الأحياء حتى اختلطت في رأسه وكان يدور بها ذلك الرأس. وكان أول زبون جاءه من حي قاسم رجلا طاعنا في السن فقال له همسا وهو يبتسم: سمعنا عن الهدية التي أتحفت بها عجاج فتوة رفاعة.
فتفرس في وجهه المجعد باسما، فقال الرجل: أتحفنا بما عندك ولا تدهش، في وحياتك رمق!
وتبادلا ابتسامة كالسر، فقال العجوز متشجعا: أنت قاسمي، أليس كذلك؟ هكذا يعتبرك أهل حينا.
فسأله عرفة ساخرا: هل يعرفون أبي عندكم؟!
فقال الرجل بجد واهتمام: القاسمي يعرف بسيماه! لذلك فأنت قاسمي. نحن الذين رفعنا الحارة إلى قمة العدالة والسعادة، ولكنها وا أسفاه حارة مشئومة.
ثم تذكر الرجل الغرض الذي جاء من أجله فقال برقة: الهدية من فضلك.
وذهب الرجل وهو يقرب الحق من عينه العمشاء، وقد دبت في مشيته المتهالكة صحوة نشاط وأمل. وكان آخر من زاره شخصا غير متوقع. كان يجلس في حجرة الاستقبال على شلتة أمامها مبخرة تنفث دخانا رقيقا ساحرا حين دخل عليه حنش بين يدي نوبي عجوز وهو يقول: عم يونس بواب حضرة الناظر.
فانتفض عرفة واقفا ومد له يديه مرحبا وهو يقول: أهلا .. أهلا، زارنا النبي .. تفضل يا مولانا!
جلسا متجاورين، وقال البواب بصراحة معهودة: الهانم، نظيرة هانم حرم الناظر، تحلم أحلاما مزعجة سيئة حتى قل نومها.
بدا الاهتمام في عيني عرفة، ودق قلبه دقة الأمل والطموح، لكنه قال ببساطة: حال عارضة تمر بسلام. - لكن الهانم منزعجة وقد أرسلتني إليك لتجد لها شيئا مناسبا.
شعر عرفة بسعادة وسيادة لم يعرفهما طوال حياة التشرد التي ألفها في ظل أمه الراحلة وقال: الأفضل أن أحادثها بنفسي!
فقال البواب بحدة: محال! لن تجيء إليك ولن تدخل إليها!
وغالب عرفة اليأس مستميتا في الدفاع عن فرصته الذهبية فقال: يلزمني منديلها أو شيء من طرفها!
وأحنى البواب رأسه المعمم وقام ليذهب. وعندما بلغا باب البدروم تلكأ البواب قليلا، ثم مال على أذن عرفة قائلا في همس: سمعنا عن هديتك لعجاج فتوة رفاعة!
ولما ذهب البواب بالهدية ضحك عرفة وحنش طويلا، وتساءل الأخير: لمن أخذ الهدية يا ترى؟ لنفسه أم للناظر أم للهانم؟
وهتف عرفة ساخرا: يا حارة الهدايا والنبابيت!
ومضى إلى النافذة ينظر إلى الحارة في الليل. بدا الجدار المواجه لعينيه مفضضا بضوء القمر، وتعالت زفرات الصراصير، وارتفع صوت الشاعر من قهوة الحي وهو يقول: «وتساءل أدهم: متى تقر بأنه لم تعد تربطنا صلة؟
فقال إدريس: لترحمنا السماء، ألست أخي؟ هذه رابطة ليس في الإمكان فصمها. - إدريس، كفاك ما فعلت بي! - الحزن قبيح، ولكن كلينا مصاب، أنت فقدت همام وقدري وأنا فقدت هند، أصبح للجبلاوي العظيم حفيدة عاهرة وحفيد قاتل!
فعلا صوت أدهم وهو يهدر: إذا لم يكن جزاؤك من جنس عملك فعلى الدنيا العفاء!»
وتحول عرفة عن النافذة في سأم. متى تكف حارتنا عن حكي الحكايات؟ ومتى يكون على الدنيا العفاء؟ وأمي رددت يوما هذا القول: «إذا لم يكن الجزاء من جنس العمل فعلى الدنيا العفاء». أمي المسكينة ساكنة الخلاء. لكن ماذا أفدت من الحكايات يا حارتنا؟
95
كان عرفة وحنش يعملان بهمة في حجرة البدروم الخلفية على ضوء مصباح غازي مثبت في الجدار. لم تكن الحجرة تصلح للحياة العادية لرطوبتها وظلامها ولموقعها آخر البدروم فجعل عرفة منها مقرا لعمله. وبدت على أرضها وفي أركانها مجموعات من أوراق الأحجبة، والأتربة والجير، ونباتات وتوابل، وحيوانات وحشرات مجففة كالفئران والضفادع والعقارب، وأكوام من قطع الزجاج، وقوارير، ومياه في صفائح، وسوائل غريبة ذات رائحة نفاذة، وفحم، وكانون، وقد ركبت على الجدران رفوف حملت بأنواع شتى من الأوعية والآنية والأكياس. وكان عرفة منهمكا في خلط بعض المواد وعجنها في وعاء من الفخار كبير، وكان العرق يتصبب من جبينه فيجففه بكم جلبابه من حين لآخر. هذا وحنش رابض عن كثب، يراقبه باهتمام، استعدادا لتلبية أي إشارة تصدر منه، وكأنما أراد أن يعزيه أو يتودد إليه فقال: هذا التعب لا يبذل جزءا منه أكبر عامل في هذه الحارة المنكودة، وفي سبيل أي جزاء يبذل؟ ملاليم أو قرش على خير الفروض!
فقال عرفة بارتياح: رحم الله أمي! لا يعرف فضلها سواي، ويوم سلمتني لذلك الساحر العجيب الذي يقرأ لك جميع ما يجول في خاطرك تغيرت حياتي تغيرا كليا، فلولاها لكنت على خير ظن نشالا أو متسولا.
فأصر حنش على أسفه قائلا: ملاليم! - النقود تكثر بالصبر، لا تيئس من ذلك. ليست الفتونة هي السبيل الوحيد إلى الثروة، ولا تنس المنزلة السامية التي أتمتع بها، فإن من يقصدني إنما يعتمد كل الاعتماد علي ويضع سعادته أمانة بين يدي، وليس هذا بالشيء القليل. ولا تنس أيضا لذة السحر نفسه؛ لذة استخراج مادة مفيدة من مواد قذرة، لذة الشفاء حين يأتمر بأمرك، وهنالك القوى المجهولة التي تتشوف للاتصال بها وامتلاكها إن استطعت.
ونظر حنش إلى الكانون وقال منقطعا فجأة عن تيار صاحبه: الأوفق أن أوقد الكانون في دهليز المنور وإلا اختنقنا. - أوقده في جهنم، ولكن لا تخرجني عن أفكاري! إن أي مغفل ممن يحسبون أنفسهم معلمين في هذه الحارة لا يستطيع أن يدرك خطورة الأشياء التي تصنع في هذه الحجرة المعتمة القذرة ذات الروائح الغريبة. أدركوا فائدة «الهدية» ولكن ليست الهدية كل شيء. إن أعاجيب لا يحيط بها الخيال يمكن أن تخرج من هذه الحجرة. المجانين لا يدركون قيمة عرفة الحقيقية، لعلهم يعرفونها يوما ما، وعند ذاك يجب أن يترحموا على أمي لا أن يعرضوا بها كما يفعلون. - وكان حنش قد قام نصف قومة فعاد يجلس القرفصاء وهو يقول بامتعاض: كل هذا الجمال قد تطيح به عصا فتوة أحمق.
فقال عرفة بحدة: نحن لا نؤذي أحدا وندفع الإتاوة؛ فكيف نتعرض للأذى يا ابن جلجل؟
فضحك حنش قائلا: وما كان ذنب رفاعة؟
فحدجه بنظرة غاضبة وقال: لماذا تقرفني بهذه الأفكار؟ - أنت تأمل أن تثري وهنا لا يثري إلا الفتوات، وتأمل أن تصير قويا وهنا لا يسمح بالقوة إلا للفتوات، فاعمل حسابك يا أخ!
وصمت عرفة حتى يتأكد من حسن تقديره في الخلط بين المواد، ثم نظر إلى حنش فرأى سحنته ما زالت محتفظة بصورة التحذير، فضحك قائلا: حذرتني أمي من قبلك، شكرا يا حنش يا ابن جلجل، لكني عدت إلى الحارة وفي رأسي خطة! - يبدو أنه لم يعد يهمك إلا السحر.
فقال عرفة في جذل كالنشوة: السحر شيء عجيب حقا، لا حد لقوته، ولا يدري أحد أين يقف، وقد تبدو النبابيت نفسها لمن يملكه لعب أطفال، تعلم يا حنش ولا تكن غبيا، تصور لو كان جميع أولاد حارتنا سحرة؟ - لو كانوا جميعهم سحرة لماتوا جوعا!
فضحك عرفة ضحكة كشفت عن أسنان حادة وقال: لا تكن غبيا يا حنش واسأل نفسك: ماذا كان يمكن أن يصنعوا! والله كانت الأعاجيب تخرج من حارتنا في غزارة السباب والشتائم. - نعم، على شرط ألا يموتوا جوعا قبل ذلك! - نعم، ولن يموتوا ما داموا في غير ...
لكنه سكت قبل أن يتم قوله، ومضى يفكر في اهتمام حتى كفت يداه عن العمل، ثم رجع يقول: شاعر آل قاسم يقول إن قاسم أراد استغلال الوقف حتى يجد كل حاجته فيستغنى عن العمل ويفرغ للسعادة الغناء التي حلم بها أدهم. - ذلك قول قاسم!
فقال وعيناه تلمعان بشدة: ولكن الغناء ليس هو الهدف الأخير! تصور أن يمضي العمر في فراغ وغناء؟ هو حلم جميل لكنه مضحك يا حنش، الأجمل حقا أن نستغني عن العمل لنصنع الأعاجيب.
هز حنش رأسه الكبير - الذي يبدو منغرسا في جسده دون رقبة تذكر - محتجا على حديث لا معنى له، ثم استرد لهجة العمل الجدية وهو يقول: دعني الآن أوقد الكانون تحت المنور. - افعل، وضع نفسك فوق اللهب فما تستحق إلا الحرق.
وغادر عرفة غرفة العمل بعد ساعة فمضى إلى الكنبة وجلس ينظر من النافذة إلى الخارج. اقتحمت أذنيه ضجة الحياة بعد صمت؛ فتلاقت فيهما نداءات الباعة وأحاديث النساء المتبادلة ونكات صارخة ومختارات من الشتائم، تصاحب تيار الرائحين والغادين الذي لا ينقطع. وإذا به يلاحظ أن شيئا جديدا اتخذ مكانه عند الجدار المواجه لنافذته. قهوة متنقلة مكونة من قفص مغطى بملاءة قديمة صفت غليه علب البن والشاي والقرفة، وموقد وكنكات وفناجيل وأكواب وملاعق، وقد جلس عجوز على الأرض يروح على الموقد ليسخن ماء، على حين وقفت وراء القفص فتاة في ربيع العمر وهي تنادي بصوت دافئ: «قهوة مزاج يا جدع!» كانت القهوة تقع عند ملتقى القاسمية بالرفاعية، وبدا أن أكثر زبائنها من أصحاب عربات اليد والمساكين. وجعل عرفة يطيل النظر إلى الفتاة من بين القضبان. هذا الوجه الأسمر المتلفع بخمار أسود ما ألطفه! وهذا الجلباب البني الغامق الذي يغطيها من العنق حتى القدمين ويتجرجر منه طرف على الأرض إذا مشت بطلب أو عادت بقدح فارغ، هذا الجلباب حشمة وأدب! وهذه القامة الرشيقة، والعينان العسليتان ما أجملهما لولا احمرار أشفار يسراهما لرمد أو قذارة! هي ابنة العجوز كما يشهد الوجهان، ويبدو أنه أنجبها في سن متأخرة كما يقع كثيرا في حارتنا. ودون تردد صاح بها: يا شابة .. فنجال شاي وحياتك.
فامتدت إليه عيناها، وبسرعة ملأت قدحا من إبريق مدفون حتى منتصفه في الرماد، ومضت به إليه عبر الطريق فتسلمه وهو يقول باسما: عاشت يدك، كم ثمنه؟ - نكلة. - غال! ولكن لا يغلو لك ثمن!
فقالت باحتجاج: في القهوة الكبيرة بتعريفة، وهو لا يمتاز عما في يدك بشيء.
وذهبت دون انتظار لكلام، فراح يحسوه قبل أن يبرد ودون أن يحول عينيه عنها. ما أسعد أن يملك فتاة بهذا الشباب! لا عيب فيها إلا حمرة عينها وما أسهل أن يداويها، ولكن الأمر يحتاج إلى قدر من النقود لم يوجد بعد. والبدروم جاهز وما على حنش إلا أن ينام في الدهليز أو في حجرة الاستقبال إذا شاء على شرط أن يفليها من البق أولا بأول. وانتبه على همهمة غريبة، ورأى الناس ينظرون نحو أعلى الحارة ويقول البعض منهم: «السنطوري .. السنطوري» فنظر بميل على قدر ما سمحت به القضبان له فرأى الفتوة قادما في هالة من الأعوان. ولما مر بالقهوة المتنقلة وقع بصره على الفتاة فسأل رجلا من رجاله: من الفتاة؟ - عواطف بنت عم شكرون.
فلعب الرجل حاجبيه في ارتياح ومضى نحو حيه. وشعر عرفة بضيق وقلق. لوح للفتاة بالقدح الفارغ فجاءته في خفة فأخذته وتناولت من يده النكلة. وعند ذاك سألها وهو يشير بذقنه إلى الناحية التي ذهب إليها السنطوري: ألم يضايقك شيء؟
فقالت ضاحكة وهي تستدير لتذهب: سأستعين بك عند اللزوم، فهل تعين؟
فحزت في نفسه سخريتها؛ سخرية حزينة لا متحدية فتضاعف ضيقة. وهنا سمع صوت حنش وهو يناديه فوثب إلى أرض الحجرة واندفع إلى الداخل.
96
تكاثر زبائن عرفة مع الأيام، لكن قلبه لم يفرح بزبون كما فرح بعواطف يوم رآها مقبلة عليه في حجرة الاستقبال. نسي مهابة المعلم التي يرتديها أمام زبائنه فوقف مرحبا بها، ثم أجلسها على شلتة أمامه وتربع في مجلسه والدنيا لا تسعه من السرور. حياها بنظرة شاملة لكنها سرعان ما وقفت على عينها اليسرى التي كادت تختفي وراء ورم ملتهب، فقال محتجا: أهملتها يا شابة، كانت حمراء منذ أول يوم رأيتك.
فقالت كالمعتذرة: اكتفيت بغسلها بالماء الساخن، والمشغول بالعمل مثلي ينسى. - لا يجوز أن تنسي صحتك، وبخاصة إذا تعلق الأمر بعضو عزيز مثل عينك الجميلة!
ابتسمت متأثرة بالثناء على حين كان هو يمد يده إلى رف خلفه ليجيء بكوز، ثم أخرج منه لفافة صغيرة وقال وهو يشير إليها: صري ما فيها في منديل، وحطيه فوق بخار ماء يغلي، ثم اربطيه على عينك ليلة بعد أخرى حتى تعود عينك إلى جمال أختها.
تناولت اللفافة، وأخرجت كيسا من جيبها وهي تسأله بعينها اليمنى عن الثمن. فقال ضاحكا: لا عليك من هذا، فنحن جيران وبيننا صداقة! - لكنك تدفع ثمن ما تشرب من شاي.
فقال متهربا: إني أدفع في الواقع لأبيك، هذا الرجل الوقور. كم أود أن أعرفه، وكم أسفت على اضطراره للعمل حتى هذه السن المتأخرة!
فقالت في مباهاة: لكن صحته جيدة، وهو يأبى أن يقعد في البيت، غير أن طول عمره من دواعي حزنه في الحياة؛ إذ إنه كان ممن شهدوا الأحداث على عهد قاسم.
فتجلى الاهتمام في وجه عرفة وسألها: حقا؟! أكان من أعوانه؟ - كلا، لكنه ذاق السعادة في أيامه وما زال يتحسر عليها. - أريد أن أعرفه وأن أستمع إليه.
فبادرته قائلة: لا تجره إلى هذا الحديث، فإني أود أن ينساه إلى الأبد حرصا على سلامته. كان مرة في خمارة يشارب بعض أصحابه، ولما سكر وقف بينهم يطالب بأعلى صوته بأن تعود الحياة إلى ما كانت عليه أيام قاسم، وما إن عاد إلى حارتنا حتى وجد السنطوري أمامه فانهال عليه ضربا وصفعا ولم يتركه حتى أغمي عليه.
تفكر عرفة في امتعاض شديد ثم لحظ عواطف بمكر وقال: لا أمان لأحد مع وجود هؤلاء الفتوات!
فرمقته بنظرة خاطفة كأنما تتساءل عما وراء مقصده الظاهر، وقالت: صدقت، لا أمان لأحد معهم.
وتريث وهو يعض شفتيه كالمتردد، ثم قال: رأيت السنطوري وهو ينظر إليك نظرة كلها وقاحة.
فدارت ابتسامة بحركة من رأسها إلى أسفل، وقالت: ربنا يأخذه.
لكن عرفة تساءل في ارتياب: أليس مما يسر الفتاة أن يعجب بها فتوة مثله؟ - إنه زوج لأربع!
فغاص قلبه في أعماقه، وتساءل: وإذا كان عنده متسع؟
فقالت بحدة: كرهته منذ اعتدى على أبي، وهكذا جميع الفتوات لا قلوب لهم، يأخذون الإتاوة وكأنهم لاستكبارهم هم الذين يعطون.
فانتعش بالارتياح وقال بحماس: أحسنت يا عواطف! كما أحسن قاسم من قبل يوم قضى عليهم، لكنهم يعودون مثل بعض الدمامل الغامضة. - لذلك يتحسر أبي على أيام قاسم.
فهز رأسه في غير اكتراث طارئ وقال: ويوجد غيره من يتحسرون على أيام جبل ورفاعة، لكن الماضي لا يعود.
فقالت في استياء مليح: تقول ذلك؛ لأنك لم تشهد قاسم مثل أبي. - وهل شهدته أنت؟ - أبي قال لي. - وأمي قالت لي، ولكن ما جدوى ذلك؟ إنه لا يخلصنا من الفتوات، وأمي نفسها كانت ضحية لهم، وها هم أولاء يعرضون بها بعد موتها. - حقا؟!
فقال بوجه متجهم كأنه قدح ماء صاف تعكر فجأة بإثارة رواسبه: لذلك أخشى عليك يا عواطف. الفتوات يهددون الرزق والعرض والحب والسلام. أصارحك بأنني اقتنعت منذ رأيت الوحش يتطلع إليك بوجوب القضاء عليهم.
فقالت عواطف باهتمام: يقولون إنه في وصية جدنا الواقف ... - أين جدنا؟!
فقالت ببساطة: في البيت الكبير.
فقال بهدوء وبوجه لا ينم عن السرور: نعم أبوك يحدث عن قاسم، وقاسم حدث عن جدنا، هكذا نسمع، ولكنا لا نرى إلا قدري وسعد الله وعجاج والسنطوري ويوسف. نحن في حاجة إلى قوة تخلصنا من العذاب، فماذا تجدي الذكريات!
وانتبه إلى أن مجرى الحديث كاد يفسد عليه اللقاء، فقال وهو يعدل عن السيكا إلى الصبا: الحارة في حاجة إلى قوة كما أنا في حاجة إليك!
فحدجته بنظرة استنكار، فابتسم في جرأة بدت غير غريبة عن عينيه الجارحتين، وقال بجدية؛ ليتحاشى غضبة متوثبة في حاجبيها: شابة طيبة مجتهدة جميلة، تنسى في غمرة العمل عينها حتى تورمت، ثم تجيئني وهي تظن أنها في حاجة إلي فتتضح لها الحقيقة، وهي أنني أنا الذي في حاجة إليها.
قالت وهي تهم بالقيام: آن لي أن أنصرف. - بغير غضب من فضلك، واذكري أنني لم أصرح بجديد، فلا شك في أنك استشففت إعجابي بك طوال الأيام الماضية إذ إن نظراتي تذهب وتجيء ما بين نافذتي وقهوتك. إن أعزب مثلي لا يمكن أن يعيش وحده إلى الأبد، وإن بيته المشحون بالعمل في حاجة للرعاية، وإن أرباحه تفيض عن حاجته فلا بد أن يشاركه فيها إنسان.
غادرت الحجرة. وقف في نهاية الدهليز ليودعها. وكأنها لم ترض أن تذهب دون تحية فقالت: فتك بعافية.
ولبث مكانه وهو يترنم بصوت مهموس:
خدك المياس يا بدري،
واملأ لي الكاس من بدري،
أنت أحلى الناس في نظري.
ثم مضى في فتوة ونشاط إلى حجرة العمل فوجد حنش منهمكا في واجباته، فسأله: ماذا عندك؟
فعرض أمامه زجاجة وهو يقول: معبأة ومحكمة الإغلاق، لكن ينبغي أن تجرب في الخلاء.
فتناولها عرفة وراح يمتحن سدادتها، ثم قال: نعم، في الخلاء وإلا افتضح أمرنا.
فقال حنش بقلق: الرزق بدأ يجيء والحياة تبتسم، فلا تفرط فيما وهبك الله من سعادة.
أخذ حنش يضيق بالحياة بعد أن حلت في عينيه. ابتسم عرفة عند هذا الخاطر. ونظر إلى حنش مليا ثم قال: كانت أمك كما كانت أمي. - نعم، ولكنها توسلت إليك ألا تفكر في الانتقام. - كان رأيك غير ما تبدي الآن! - سنقتل قبل أن ننتقم.
فضحك عرفة وقال: لا أخفي عنك أنني كففت عن التفكير في الانتقام من زمن.
فتهلل وجه حنش وهو يقول: هات الزجاجة لنفرغها يا أخي.
لكن عرفة شدد قبضته على الزجاجة وهو يقول: بل سنجربها حتى تبلغ الكمال .
فقطب حنش في استياء احتجاجا على الهزء به، فأردف عرفة قائلا: أنا أعني ما أقول يا حنش، ثق بأنني عدلت عن الانتقام، لا إذعانا لتوسلات أمنا، وإنما لاقتناعي بوجوب القضاء على الفتوات بصرف النظر عن انتقامنا.
فقال حنش محتدا: بسبب حبك لهذه الفتاة.
فضحك عرفة حتى بان حلقه وقال: حب الفتاة، حب الحياة، أسمه بما تشاء .. كان قاسم على حق! - ما لك أنت وقاسم؟! كان قاسم يحقق رغبة جده!
فمط بوزه وقال: من يدري؟! حارتنا تحكي الحكايات، أما نحن فنقوم بأعمال حاسمة في هذه الحجرة لا شك فيها، وأين الأمان في حياتنا؟ سيجيء عجاج غدا لينهب رزقنا، وإذا قدمت يدا للزواج من عواطف اعترضني نبوت السنطوري، وهذا حال كل رجل في حارتنا حتى المتسول. فما يكدر صفوي هو ما يكدر صفو حارتي، وما يؤمنني هو ما يؤمنها. حقا ما أنا بفتوة، ولا برجل من رجال الجبلاوي، ولكني أملك الأعاجيب في هذه الحجرة، ومنها قوة لم يحز عشرها جبل ورفاعة وقاسم مجتمعين. ورفع الزجاجة بيده متخذا هيئة المتوثب للقذف بها، ثم أعادها إلى حنش قائلا: سنجربها الليلة بالجبل .. ابسط وجهك واستعد حماسك.
وغادر حجرة العمل إلى النافذة، وتقرفص فوق الكنبة مرسلا ناظريه إلى القهوة المتنقلة. وكان الليل يهبط رويدا، وصوتها يعلو مناديا بالقهوة والشاي، وتجنبت النظر إلى نافذته فدل التجنب على خطوره ببالها. وومض بالابتسام فمها مثل ذلك النجم. وابتسم عرفة، كيانه كله ابتسم، وفاض من قلبه الرضا حتى أقسم ليمشطن شعره كل صباح. وترامت من الجمالية ضجة أقوام يطاردون لصا، ثم انبعثت من القهوة أنغام الرباب، وترامى صوت الشاعر مفتتحا ليلته بقوله:
الأولة آه .. سي قدري ناظرنا
والثانية آه .. سعد الله فتوتنا
والثالثة آه .. عجاج فتوة حتتنا.
فانتزع من حلمه بلا رحمة. وقال بملل وتمرد: «ستبدأ الحكايات، متى تنتهي هذه الحكايات؟ وماذا أفاد الاستماع إليها طوال الليالي؟ سيغني الشاعر وتستيقظ الغرز يا حارة الحسرات!»
97
وطرأ على حياة عم شكرون اضطراب غامض. كان يتكلم أحيانا بصوت مرتفع جدا كأنه يخطب فيقولون بعطف: «الكبر .. إنه الكبر!»
وكان يغضب شديد الغضب لأتفه سبب أو لغير ما سبب فيقولون: «الكبر»، وكان يصمت طويلا حتى حين تتطلب الحال الكلام فيقولون: «الكبر!» وكان يقول أقوالا تعد في الحارة كفرا فيقولون في إشفاق: «الكبر .. اللهم احفظنا!» وكان عرفة يراقبه كثيرا من خلال القضبان في عطف واهتمام. ومضى يراقبه ذات يوم وهو يقول لنفسه: رجل مهيب على رغم أسماله البالية وقذارته، وعلى صفحة وجهه الناحلة نقشت النكسة التي عدت على الحارة عقب أيام قاسم؛ إذ إنه من سوء حظه أنه عاصر قاسم، فنعم بأيام العدل والأمان، ونال نصيبه كاملا من ريع الوقف، ورأى الأبنية تشيد باسم الوقف ثم تتوقف بأمر قدري. وبالجملة هو رجل بائس طال به العمر أكثر مما ينبغي! ورأى عواطف قادمة بوجه لا تشوبه شائبة بعد أن شفيت عينها فتحول عن الرجل إليها وهتف باسما: الشاي يا أهل النظر!
وجاءته بالقدح فقال قبل أن يتناوله من يدها ليضمن بقاءها: مبارك عليك الشفاء يا وردة حارتنا.
فقالت باسمة: الفضل لله ولك.
وتناول القدح متعمدا أن تمس أنامله أناملها، فرجعت ومرح مشيتها ينبئ عن القبول والرضا. ما أجدر أن يخطو الخطوة الحاسمة! وهو رجل لا تعوزه الجرأة، غير أنه يجب أن يعمل للسنطوري ألف حساب. الحق على عم شكرون الذي جاء بفتاته إلى طريق السنطوري! لكنه مسكين أعياه التجوال وراء عربته حتى عجز عن الاستمرار ففتح هذه القهوة المشئومة.
وترامت من بعيد ضجة وهتاف فتطلعت الرءوس نحو الجمالية، وما لبث أن ظهرت عربة كارو حملت النساء المغنيات المصفقات في وسطهن عروس عائدة من الحمام، فجرى الغلمان نحو العربة مهللين وتعلقوا بأطرافها وهي صاعدة نحو حي آل جبل، واضطرم الجو حينا بالزغاريد والتهاني والهمسات الفاحشة. ووقف عم شكرون كالغاضب وصاح بصوت كالرعد: اضرب .. اضرب!
فهرعت إليه عواطف وأجلسته وهي تربت ظهره في أسى وحنان. وتساءل عرفة: ترى هل يحلم الرجل أو يهلوس؟ ما ألعن الكبر! كيف إذن يعيش جدنا الجبلاوي؟ وجعل ينظر إلى الرجل حتى سكن ثم سأله برقة: يا عم شكرون هل رأيت الجبلاوي؟
فأجابه دون أن ينظر إليه: يا مغفل، ألا تدري أنه اعتكف في بيته من قبل أيام جبل!
فضحك عرفة، كما ابتسمت عواطف، وقال بصوت باسم: ربنا يمد في عمرك يا عم شكرون.
فصاح شكرون: دعاء كان له قيمة حقا عندما كان العمر له قيمة.
وجاءته عواطف لتأخذ القدح فقالت له همسا: دعه في حاله، إنه لا ينام من الليل ساعة!
فقال باهتمام حار: قلبي عندك يا عواطف.
ثم بسرعة قبل أن تهم بالسير: أود أن أحدثه في أمرنا.
فحذرته بأصبعها وذهبت. وراح يتسلى برؤية صغار يلعبون «وطي البصلة». وبغتة ظهر السنطوري قادما من حي آل قاسم فتراجع رأسه عن القضبان بحركة غريزية. ماذا جاء به؟ من حسن حظه أنه أقام في حي آل رفاعة فأصبح له من عجاج حام؛ عجاج الغارق في «هداياه». اقترب الفتوة حتى وقف أمام قهوة شكرون، وتفحص وجه عواطف وهو يقول: واحد سادة.
لعلعت ضحكة امرأة في نافذة وتساءلت أخرى: أي شيء حمل فتوة قاسم على طلب السادة من قهوة المتسولين؟!
بدا السنطوري غير مكترث لشيء. قدمت عواطف له الفنجال فتلوى قلب عرفة في صدره. وانتظر الفتوة حتى تذهب حرارة المشروب وهو يبتسم إلى الفتاة ابتسامة وقحة كشفت عن أسنانه المذهبة. وتوعده عرفة في نفسه بضربه بجبل المقطم. ورشف السنطوري رشفة وقال: تسلم يدك الجميلة.
وخافت أن تبتسم كما خافت أن تقطب على حين تطلع شكرون إليهما بارتياع. ثم أعطاها الفتوة قطعة من ذات الخمسة القروش فدست يدها في جيبها لإحضار الفكة ولكنه لم ينتظر ولم يبد أنه يطالب بشيء، وعاد إلى قهوة القاسمية. وحارت عواطف في أمرها فقال لها عرفة بصوت منخفض: لا تذهبي إليه.
فتساءلت: وباقي النقود؟
فنهض عم شكرون على رغم ضعفه وأخذ الباقي وذهب إلى المقهى. وبعد قليل عاد العجوز إلى مجلسه. وما لبث أن أغرق في الضحك حتى اقتربت منه ابنته وقالت برجاء: كفاك ضحكا!
ونهض قائما مرة أخرى. وقف مستقبلا بيت الواقف في نهاية الحارة، وصاح: يا جبلاوي .. يا جبلاوي!
والتفتت نحوه الأعين من النوافذ وأبواب الربوع والمقاهي والبدرومات، وهرع نحوه الغلمان، حتى الكلاب رمقته بأعينها .. وعاد شكرون يصيح: يا جبلاوي، حتى متى تلازم الصمت والاختفاء؟! وصاياك مهملة وأموالك مضيعة، أنت في الواقع تسرق كما يسرق أحفادك يا جبلاوي!
وهتف الصغار «هيه»، وقهقه كثيرون. أما العجوز فاستدرك صارخا: يا جبلاوي ألا تسمعني؟ ألا تدري بما حل بنا؟ لماذا عاقبت إدريس وكان خيرا ألف مرة من فتوات حارتنا؟! يا جبلاوي!
خرج عند ذلك السنطوري من المقهى وهو يصيح به: يا مخرف احتشم.
فالتفت نحوه غاضبا وهتف: عليك اللعنة يا وغد الأوغاد!
همس كثيرون في إشفاق: «ضاع الرجل!» واتجه السنطوري نحوه وقد أعماه الغضب وضربه على رأسه بقبضته. ترنح الرجل وكاد يهوي لولا أن أدركته عواطف. ورآها السنطوري فرجع إلى مجلسه.
وقالت الفتاة باكية: لنعد إلى البيت يا أبي.
وانضم إليها عرفة في مساندته، ولكن العجوز حاول في ضعف أن يبعدهما عنه. وثقلت أنفاسه على حين ساد الأقربين وجوم. وقالت امرأة من نافذة: الحق عليك يا عواطف، فالأحسن أنه كان يبقى في البيت.
فقالت عواطف وهي ما زالت تبكي: ما لي حيلة.
وراح شكرون يقول بصوت ضعيف: يا جبلاوي .. يا جبلاوي!
98
وقبيل الفجر شق صوات مولول السكون، ثم عرف الناس أن شكرون قد مات. كانت حادثة غير غريبة على الحارة. وقالت بطانة السنطوري: «الله يجحمه، عاش قليل الأدب، وقلة الأدب كانت السبب في موته.» وقال عرفة لحنش: قتل شكرون، كما يقتل كثيرون في حارتنا، والقتلة لا يبالون بإخفاء جرائمهم، ولا يتجرأ أحد على الشكوى أو يجد شاهدا واحدا!
فقال حنش بتقزز: يا للمصيبة! لماذا جئنا إلى هنا؟! - إنها حارتنا. - أمنا غادرتها منكسرة الخاطر، حارة ملعونة هي ومن عليها.
فقال بإصرار: لكنها حارتنا. - كأننا نكفر عن ذنوب لم نجنها. - التسليم هو أكبر الذنوب جميعا.
فقال حنش بيأس: خابت تجربة الزجاجة في الجبل! - لكنها ستنجح في المرة القادمة.
ولما حمل نعش شكرون لم يكن وراءه إلا عواطف وعرفة، هكذا بدا أمام الربع. وعجب الجميع من اشتراك عرفة الساحر في الجنازة، وتهامسوا بجرأته العجيبة .. ذلك الساحر المجنون.
وكان الأعجب من ذلك أن السنطوري انضم إلى الجنازة عندما توسطت حي آل قاسم. بأي جرأة وقحة فعل؟! لكنه فعل بلا حياء وقال لعواطف: البقية في حياتك يا عواطف!
وأدرك عرفة أن الرجل يمهد بذلك لطلبه القادم. والمهم أن حال الجنازة تغير في غمضة عين إذ تسارع إليها الجيران والمعارف الذين منعهم الخوف حتى ملأت الطريق. وعاد السنطوري يقول: البقية في حياتك يا عواطف!
فنظرت إليه في تحد وقالت: تقتل القتيل وتمشي في جنازته؟!
فقال السنطوري بصوت سمعه كثيرون: قيل مثل هذا لقاسم من قبل.
وتعالت أصوات كثيرة وهي تقول: وحدي الله، الآجال بيد الله وحده!
فصاحت به عواطف: قتل أبي بضربة يدك!
فقال السنطوري: الله يسامحك يا عواطف، لو كنت ضربته ضربة حقيقية لقتل في الحال، والحق إني ما ضربته ولكن هوشته والكل يشهدون بذلك.
واستبقت الحناجر قائلة: هوشه! ما لمسته يده، والله ما لمسه، وليأكل الدود عيوننا إن كنا كاذبين.
فهتفت عواطف: ربنا المنتقم!
فقال السنطوري بحلم ضرب مثلا عهدا طويلا: الله يسامحك يا عواطف.
ومال عرفة على أذن عواطف وقال فيما يشبه الهمس: خلي الجنازة تسير بسلام.
وما يدري عرفة إلا ورجل من أعوان السنطوري يدعى العضاض يهوي بكفه على وجهه ويصيح به: يا ابن المهبولة، ما أدخلك أنت بينها وبين المعلم؟!
التفت عرفة نحوه في ذهول فتلقى ضربة أشد من الأولى، وآخر صفعه، وثالث بصق على وجهه، ورابع أخذ بتلابيبه، وخامس دفعه بقوة فسقط على ظهره، وسادس قال له وهو يركله: ستدفن في القرافة إذا ذهبت إليها.
لبث مطروحا على الأرض في ذهول، وتجمع، وقام في ألم غير يسير وراح ينفض التراب عن جلبابه ووجهه. وكان جمع من الصغار قد التفوا حوله وراحوا يهتفون: «العجل وقع .. هاتوا السكين» رجع إلى البدروم وهو يعرج وقد جن جنون غضبه. ونظر حنش إليه بأسى وقال: قلت لك لا تذهب!
فصرخ في حنق أهوج: اسكت، الويل لهم.
فقال له بلين وحزم معا: اصرف النظر عن هذه البنت وإلا فعلينا السلام.
فصمت مليا وهو ينظر إلى الأرض مفكرا، ثم رفع وجها مكفهرا بالإصرار المخيف وقال: ستراني متزوجا بها أقرب مما تتصور! - هذا هو الجنون بعينه. - وسوف يرأس عجاج الزفة. - إنك تبلل ثيابك بالكحول وترمي بنفسك في النار. - وسأعاود تجربة الزجاجة الليلة في الخلاء.
ولزم داره لا يبرحها أياما، ولكن صلته بعواطف لم تنقطع عن طريق النافذة ذات القضبان. ثم قابلها خفية عقب انقضاء أيام الحداد في دهليز ربعها وقال لها في صراحة: يحسن بنا أن نتزوج في الحال.
ولم تفجأ الفتاة بطلبه ولكنها قالت في حزن: ستسبب موافقتي لك من المتاعب ما لا تحتمل.
فقال بثقة: قبل عجاج أن يشرف حفلنا، ولذلك معنى لا يخفى عليك.
واتخذت الخطوات في تكتم شديد حتى تم كل شيء. وعلمت الحارة دون سابق إنذار أن عواطف ابنة شكرون تزوجت من عرفة الساحر، وانتقلت إلى داره، وأن عجاج فتوة آل رفاعة قد شهد الزواج. ذهل كثيرون وتساءل آخرون: كيف تم ذلك؟ كيف تجرأ عرفة عليه؟ وكيف أقنع عجاج بمباركته؟ أما أهل الخبرة فقد قالوا: يا داهية دقي.
99
واجتمع السنطوري بأعوانه في قهوة آل قاسم، وعلم عجاج بذلك فاجتمع بأعوانه في قهوة آل رفاعة. ودرت الحارة بالاجتماعين فتوتر جوها، وسرعان ما خلا الموقع بين القاسمية والرفاعية من الباعة والمتسولين والأطفال وأغلقت الدكاكين والنوافذ. وخرج السنطوري برجاله إلى الحارة فخرج عجاج برجاله كذلك. واحتدم الشر حتى فاحت رائحته الكريهة فلم يبق على اندلاع اللهيب إلا لمسة. وصاح رجل طيب من فوق السطح: ماذا أغضب رجالنا؟ فكروا قبل أن تجري الدماء.
فصاح عجاج من خلال صمت الرهبة وهو ينظر إلى السنطوري: لسنا غاضبين ولا داعي عندنا للغضب.
فقال السنطوري بغلظة: أنت خرجت على حدود الزمالة يا معلم، ولا يمكن أن يقرك فتوة على ما فعلت. - وما الذي فعلت؟
فقال السنطوري وكأن الكلام يخرج من فمه وعينيه معا: حميت رجلا وهو يتحداني. - ما فعل الرجل إلا أن تزوج بنتا وحيدة بعد وفاة أبيها، وأنا أشهد زواج كل رفاعي.
فقال السنطوري بازدراء: ما هو برفاعي، ولا يعرف أحد أباه، ولا هو نفسه، وقد تكون أنت أباه وقد أكونه أنا، أو أي متسول في الحارة. - لكنه يقيم اليوم في حيي. - ليس ذلك إلا لأنه وجد بدروما خاليا! - ولو!
فصرخ السنطوري بصوت مدو: أعرفت أنك خرجت على حدود الزمالة؟
فصاح به عجاج: لا تصرخ يا معلم، الأمر لا يستوجب أن نتنافر كالديوك! - لعله يستوجب.
فقال عجاج بنبرة كأنها أمر بالاستعداد: اللهم طولك يا روح! - عجاج .. انتبه لنفسك! - ملعون أبو القفا. - ملعون أبوك!
وارتفعت النبابيت لولا أن أدركها صوت كالخوار يصيح بلهجة آمرة: عيب يا رجال.
اتجهت الرءوس نحو مصدره، فرأوا المعلم سعد الله فتوة الحارة وهو يشق طريقه بين الرفاعية حتى وقف في المنطقة بين الحيين وهو يقول: نزلوا النبابيت.
فهبطت النبابيت كرءوس المصلين، ونظر سعد الله مرة إلى السنطوري وأخرى إلى عجاج وقال: لا أحب الآن أن أسمع كلام أحد. تفرقوا بسلام، مذبحة من أجل مرة؟ يا خسارة الرجولة!
تفرق الرجال في سكون، ورجع سعد الله صوب داره.
وكان عرفة وعواطف داخل البدروم لا يصدقان أن الليلة ستمر بسلام، كانا يتابعان ما يدور في الخارج بقلبين واجفين ووجهين ممتقعين، ولم يبتل لهما حلق حتى سمعا صوت سعد الله بنبرته الآمرة التي لا ترد. تنهدت عواطف من الأعماق وقالت: ما أقسى هذه الحياة!
وأراد عرفة أن يبث في نفسها شيئا من الطمأنينة فقال وهو يشير إلى رأسه: أنا أعمل بهذا، هكذا كان جبل، وهكذا كان قاسم الماكر الداهية!
فازدردت ريقها بمشقة وقالت: ترى هل تدوم السلامة؟
ضمها إلى صدره في مرح ظاهري وقال: ليت كل زوجين يسعدان مثلنا.
فطرحت رأسها على كتفه ريثما تسترد أنفاسها وهمست قائلة: ترى هل تنتهي المسألة عند ذلك؟
فنفخ قائلا في صراحة: أي فتوة لا يؤمن جانبه.
فرفعت رأسها وهي تقول: أعرف ذلك، وبي جرح لن يلتئم حتى أراه صريعا.
وعرف من تعني، ونظر في عينيها بتفكير وقال: الانتقام في مثل حالتك واجب ولكنه لا يؤدي إلى نتيجة حاسمة.
إن سلامتنا مهددة لا لأن السنطوري يود البطش بنا، ولكن لأن سلامة حارتنا كلها مهددة ببطش الفتوات، ولو تغلبنا على السنطوري فمن يضمن لنا ألا يتحرش بنا عجاج غدا أو يوسف بعد غد؟ فإما أمن للجميع وإما لا أمن لأحد.
فابتسمت في فتور متسائلة: أتريد أن تكون كجبل أو رفاعة أو قاسم؟
فقبل شعر رأسها وهو يتشمم رائحته القرنفلية دون أن يجيب، فعادت تقول: أولئك كلفوا بالعمل من قبل جدنا الواقف.
فقال بضجر: جدنا الواقف؟! كل مغلوب على أمره يصيح كما صاح المرحوم أبوك: «يا جبلاوي!» ولكن هل سمعت عن أحفاد مثلنا لا يرون جدهم وهم يعيشون حول بيته المغلق؟ وهل سمعت عن واقف يعبث العابثون بوقفه على هذا النحو وهو لا يحرك ساكنا؟
فقالت ببساطة: إنه الكبر!
فقال بارتياب: لم أسمع عن معمر عاش طول هذا العمر. - يقال: إنه يوجد رجل في سوق المقطم جاوز المائة والخمسين من العمر. ربك قادر على كل شيء.
فصمت مليا، ثم غمغم قائلا: كذلك السحر فهو قادر على كل شيء!
فضحكت من غروره وهي تنقر بأصبعها على صدره وقالت: سحرك قادر على مداواة العين. - وعلى أشياء لا تحصى!
فتنهدت قائلة: يا لنا من مساطيل! نتسلى بالأحاديث كأننا لا يتهددنا شيء!
لم يأبه لمقاطعتها فواصل حديثه قائلا: وقد يتمكن يوما من القضاء على الفتوات أنفسهم، وتشييد المباني، وتوفير الرزق لأولاد حارتنا كافة.
فتساءلت ضاحكة: هل يمكن أن يحدث ذلك قبل قيام القيامة؟
فرقت عيناه الحادتان بنظرة حالمة وقال: آه لو كنا جميعا سحرة! - لو!
ثم أردفت قائلة: في زمن قصير حقق قاسم العدالة بغير سحرك! - وسرعان ما ولت. أما السحر فأثره لا يزول، لا تستخفي بالسحر يا عسلية العينين. إنه لا يقل عن حبنا خطورة، ويخلق مثله حياة جديدة، ولكنه لن يؤتى أثره الحق إلا إذا كان أكثرنا سحرة!
فتساءلت في دعابة: وكيف يتأتى ذلك؟
ففكر طويلا قبل أن يجيب قائلا: إذا تحققت العدالة، إذا نفذت شروط الواقف، إذا استغنى أكثرنا عن الكد وتوفروا على السحر. - أتريدها حارة من السحرة!
وضحكت ضحكة لطيفة واستدركت قائلة: وما السبيل إلى تنفيذ الشروط العشرة وجدنا قعيد الفراش، ويبدو أنه ما عاد بوسعه أن يكلف أحدا من أحفاده بعمل!
فنظر إليها نظرة غريبة وتساءل: لماذا لا نذهب نحن إليه؟
فضحكت مرة أخرى وقالت: هل تستطيع أن تدخل بيت الناظر؟ - كلا، ولكن ربما استطعت دخول البيت الكبير.
فضربت يده وهي تقول: كفاك مزاحا حتى نطمئن على حياتنا أولا!
فابتسم ابتسامة غامضة وقال: لو كنت أحب المزاح ما عدت إلى حارتنا.
فأفزعها شيء في نبرته، فحدجته بدهشة وهتفت: أنت تعني ما تقول.
فطالعها بنظرة صامتة فعادت تقول: تصور أن يقبضوا عليك في البيت الكبير!
فقال بهدوء: ما العجب في وجود حفيد في بيت جده؟! - قل إنك تمزح. رباه! ما لك تنظر جادا هكذا؟! شيء عجيب، لماذا تريد أن تذهب إليه؟ - ألا تستحق مقابلته المخاطرة؟ - كلمة ندت عن لسانك فكيف انقلبت حقيقة مرعبة؟!
فربت راحتها ليهدئ خاطرها وقال: مذ عدت إلى حارتنا وأنا أفكر وحدي في أشياء لا تخطر ببال.
فتساءلت بتوسل: لم لا نعيش في حالنا؟ - يا ليت! إنهم لا يتركوننا نعيش في حالنا، ولا بد للإنسان من أن يؤمن حياته. - إذن نهرب من الحارة.
فقال بإصرار: لا أهرب وفي يدي السحر!
وجذبها برقة حتى ألصقها بنفسه، وجعل يربت منكبها وهو يهمس في أذنها: سنجد للكلام فرصا كثيرة؛ أما الآن فليطمئن قلبك.
100
ترى جن الرجل أم أعماه الغرور؟ هكذا جعلت عواطف تتساءل وهي تراقب عرفة في عمله وتفكيره. ومن ناحيتها هي لم يكن يكدر صفو أيامها السعيدة إلا رغبتها في الانتقام من السنطوري قاتل أبيها، والانتقام في الحارة تقليد مقدس من قديم الزمان. وحتى هذا التقليد المقدس يمكن أن تتناساه ولو على مضض إكراما للحياة السعيدة التي وهبها إياها الزواج. لكن عرفة كان يؤمن بأن الانتقام من السنطوري ما هو إلا جزء من عمل كبير آلى على نفسه - كما خيل إليها - القيام به ولم تفهمه. أيحسب أنه أحد الرجال الذين تتغنى بهم الرباب؟ لكن الجبلاوي لم يعهد إليه بشيء، وهو لا يبدو كبير الثقة بالجبلاوي ولا بما تحكي الرباب. ومن المؤكد أنه بات يعطي السحر من جهده ووقته أضعاف أضعاف ما يتطلبه الرزق. وإذا فكر جاوز تفكيره شخصه وأسرته إلى مسائل عامة لا يعنى بها أحد، كالحارة والفتونة والنظارة والوقف والريع والسحر. وكان يحلم أحلاما عريضة عن السحر والمستقبل مع أنه كان الرجل الوحيد في الحارة الذي لم يقبل على الحشيش لحاجة عمله في الحجرة الخلفية إلى اليقظة والانتباه.
ولكن كل هذا هان إلى جانب رغبته الجنونية في التسلل إلى البيت الكبير. - لماذا يا رجلي؟ - لأسأله المشورة فيما ينبغي أن تسير عليه الحارة. - أنت تعلم بما ينبغي أن تسير عليه الحارة، وكلنا نعلم، فما الضرورة إلى تعريض نفسك للهلاك؟ - أريد معرفة شروط الوقف العشرة. - ليست العبرة في المعرفة ولكن في العمل، فماذا تستطيع أن تفعل؟ - الحق إني أريد أن أطلع على الكتاب الذي طرد بسببه أدهم إن صدقت الحكايات. - وماذا يهمك في ذلك الكتاب؟ - لا أدري ما الذي يجعلني أومن أنه كتاب سحر، وأعمال الجبلاوي في الخلاء لا يفسرها إلا السحر لا العضلات والنبوت كما يتصورون. - وما الداعي إلى هذه المخاطر وأنت سعيد ورزقك موفور بغيرها؟ - لا تظني أن السنطوري نسينا .. كلما خرجت كدت أتعثر في نظرات رجاله الحانقة. - حسبك السحر ودع البيت الكبير جانبا. - هناك الكتاب .. كتاب السحر الأول .. سر قوة الجبلاوي الذي ضن به حتى على ابنه. - قد لا يكون شيئا مما تتصور. وقد يكون، والأمر يستحق المخاطرة.
وإذا به يخطو خطوة حاسمة في طريق الصراحة فقال لها: هكذا أنا يا عواطف، ما العمل؟ لست إلا ابنا حقيرا لامرأة تعيسة وأب مجهول، والكل يعرف هذا ويتندر به، ولكن لم يعد لي من هم في الدنيا إلا البيت الكبير، وليس غريبا على مجهول الأب أن يتطلع بكل قوته إلى جده. وحجرتي الخلفية علمتني ألا أومن بشيء إلا إذا رأيته بعيني وجربته بيدي، فلا محيد عن الوصول إلى داخل البيت الكبير، وقد أجد القوة التي أنشدها وقد لا أجد شيئا على الإطلاق، ولكني سأبلغ برا هو على أي حال خير من الحيرة التي أكابدها. ولست أول من اختار المتاعب في حارتنا، كان بوسع جبل أن يبقى في وظيفته عند الناظر، وكان بوسع رفاعة أن يصير نجار الحارة الأول، وكان في وسع قاسم أن يهنأ بقمر وأملاكها وأن يعيش عيشة الأعيان، ولكنهم اختاروا الطريق الآخر.
فقال حنش بأسى: ما أكثر الذين يجرون نحو الهلاك بأرجلهم في حارتنا!
فقال عرفة بحدة: قليل منهم من عنده لذلك أسباب وجيهة.
غير أن حنش لم يتخلف عن معاونة أخيه. تبعه كظله في الهزيع الأخير من الليل إلى الخلاء. ولما يئست عواطف من مقاومته رفعت يديها بالدعاء له. كانت ليلة مظلمة ظهر الهلال في أولها ساعة ثم اختفى. سار الأخوان بلصق الجدران حتى بلغا السور الخلفي للبيت الكبير فيما يلي الخلاء. وقال حنش همسا: كان رفاعة يقف في مكاننا عندما ترامى إليه صوت الجبلاوي.
فقال عرفة وهو ينظر فيما حوله مدققا: هكذا تقول الرباب، وسوف أعرف حقيقة كل شيء.
فأشار حنش إلى الخلاء وقال برهبة: وفي هذا الخلاء كلم الجبلاوي بنفسه جبل وأرسل خادمه إلى قاسم.
فقال عرفة بامتعاض:
وفيه أيضا قتل رفاعة واغتصبت أمنا وضربت ولم يحرك جدك ساكنا!
وحط حنش مقطفا به أدوات حفر على الأرض، ثم شرعا في حفر الأرض تحت السور ورفع الأتربة بالمقطف. عملا بجد وعزم حتى امتلأ صدراهما برائحة ترابية. وتبين أن حنش لم يكن دون عرفة حماسا، كأنما كانت الرغبة نفسها تدفعه وإن غلبه الخوف. ولم يكن رأس عرفة يعلو فوق الأرض إلا بشبر حين قال من جوف الحفرة: حسبنا هذا، الليلة.
ثم وثب إلى سطح الأرض معتمدا على راحتيه ثم قال: علينا أن نسد الفوهة باللوح الخشبي ثم نغطيها بالتراب حتى لا ينكشف أمرها.
ثم رجعا مسرعين والفجر في أعقابهما. كان يفكر في الغد؛ الغد العجيب، حين يسير في البيت الكبير المجهول. ومن يدري فلعله يلقى الجبلاوي ولعله يحادثه، فيستوضحه عما مضى وعما هو راهن وعن شروط وقفه وسر كتابه. ذلك الحلم الذي لا يتحقق إلا بين سحابات الدخان الذي تنفثه الجوز. ومن يدري فربما وجده وقد كبر وخرف وفقد ذاكرته، أو مات من زمن بعيد دون أن يدري أحد إلا الناظر، ولن يقطع في هذه الأمور إلا المغامرة.
وفي البدروم وجد عواطف لا تزال ساهرة تنتظر، فلما رأته حدجته بنظرة عتاب ناعسة وغمغمت: كأنك راجع من مقبرة!
فقال بمرح يداري به قلقه: ما أحلاك!
وارتمى إلى جانبها، فقالت: لو كنت عندك شيئا لما استهنت برأيي.
فقال مداعبا: ستغيرين رأيك عندما تشهدين ما يحدث غدا. - لي في السعادة فرصة وفي الهلاك ألف!
فضحك عرفة ثم قال: لو رأيت الأعين الحاقدة لأيقنت أن ما ننعم به من سلام ما هو إلا خيال.
ومزق سكون الفجر صوات حاد، وتبعه عويل، فعبست عواطف وتمتمت: فأل غير حسن!
فهز منكبيه باستهانة، ثم قال: لا تلوميني يا عواطف وأنت مسئولة بعض الشيء عما أنا فيه. - أنا؟!
فقال جادا: عدت إلى الحارة مدفوعا برغبة خفية إلى الانتقام لأمي. ولما وقع الاعتداء على أبيك تأصلت تلك الرغبة في الانتقام من جميع الفتوات، ولكن حبي لك أضاف إليها جديدا كاد يطمس على الأصل، وهو أن أقضي على الفتوات لا للانتقام، ولكن ليهنأ الناس بالحياة، وما قصدت بيت جدنا إلا لأحصل على سر قوته.
ورنت إليه بنظرة طويلة قرأ فيها بوضوح على ضوء الذبالة الإشفاق الأليم من أن تفقده كما فقدت أباها، فابتسم إليها مشجعا متوددا، وكان العويل يستفحل في الخارج.
101
شد حنش على يد عرفة مودعا والأخير في أعماق الحفرة. وانبطح عرفة على وجهه وراح يزحف خلال الممر المعبق برائحة الأرض، وما زال في زحفه حتى برز رأسه من أرض الحديقة داخل البيت الكبير، استقبل أنفه شذا عجيبا كأنه خلاصة الخلاصات من الورد والياسمين والحناء مذابة في ندى الفجر. أسكره الشذا على رغم شعوره البالغ بالخطورة، ها هو ذا يتشمم الحديقة التي مات أدهم حسرة عليها. ما يبدو منها إلا ظلام ضارب تحت الأنجم الساهرة. وعليها صمت رهيب يند عنه من آن لآن هسيس الأوراق المستجيبة للنسائم. ووجد الأرض طرية رطيبة فبيت في نيته أن يخلع نعليه عند تسلله إلى البيت كي لا يطبع على الأرض آثاره. ترى أين ينام البواب والبستاني وغيرهما من سائر الخدم؟ وزحف على أربع في حذر شديد أن يحدث صوتا متجها نحو البناء الذي بدا شبح هيكله متربعا في الظلام. ولاقى في رحلته نحو البيت من الارتياع ما لم يلاق في حياته على إيلافه خوض الظلمات والمبيت في الخلاء والخرائب.
ومضى يزحف لصق الجدار حتى مست يده أولى درجات السلم المفضي إلى السلاملك إن صدقت الرباب. هنا دفع الجبلاوي بإدريس ليطرده خارجا. ذلك كان مصير إدريس جزاء تحديه لأمر أبيه، فما عسى أن يفعل الجبلاوي بمن يقتحم عليه داره ليسرق سر قوته؟ ولكن مهلا فإن أحدا لا يمكن أن يتوقع تسلل لص إلى البيت الذي ظل آمنا مدرعا بمهابته طيلة الأعوام الماضية. دار زاحفا حول الدرابزين ثم أخذ يرقى في الدرج على يديه وركبتيه حتى بسطة السلاملك. وخلع نعليه وتأبطهما ثم زحف نحو الباب الجانبي الذي تقول الرباب إنه يفضي إلى المخدع.
وبغتة سمع سعلة! سعلة قادمة من الحديقة. فلبد أسفل الباب مرسلا ناظريه نحو الحديقة، فرأى شبحا يقترب من السلاملك. كتم أنفاسه لأنه خيل إليه أن اضطراب قلبه سيسمع مدويا. وأخذ الشبح يقترب ومضى يرقى في الدرج. لعله الجبلاوي نفسه. ولعله يضبطه متلبسا بجريمته كما ضبط أدهم من قبل في الساعة نفسها على وجه التقريب. وبلغ الشبح بسطة السلاملك على بعد ذراعين من مكمنه. لكنه مضى إلى الجانب الآخر من السلاملك، ورقد على شيء يشبه الفراش! خف التوتر مخلفا وراءه إعياء. ولعل الشبح لم يكن إلا خادما ذهب لقضاء حاجة ثم عاد إلى مرقده وها هو ذا يعلو شخيره. استرد شيئا من جرأته فرفع يده متحسسا موضع الأكرة حتى عثر عليها، وأدارها بهوادة، ومضى يدفع الباب برفق حتى انفرج عن فتحة تسعه ثم زحف داخلا ورد الباب وراءه. وجد نفسه في ظلمة حالكة، فأجال يده أمامه حتى مس أولى درجات السلم، وجعل يصعد في خفة الهواء.
انتهى إلى ردهة طويلة مضاءة بمصباح في كوة الجدار. وكانت تنعطف يمينا إلى الداخل، وتمتد يسارا بعرض البيت، ويتوسطها باب المخدع مغلقا. عند ذاك المنعطف وقفت أميمة، ومن موقفه انطلق أدهم، وها هو ذا ينطلق وراء الشيء نفسه. تراكمت على صدره الرهبة، فنادى إرادته وجرأته، وكان من السخرية أن يرجع. قد يظهر خادم في أي لحظة، وقد يفيق من جنونه على يد تقبض على كتفه، فما أجدره بأن يسرع!
سار على أطراف أصابعه نحو الباب. أدار المقبض اللامع فدار مع يده، ودفع الباب فانفتح برفق، ثم تسلل رادا الباب وراءه. أسند ظهره إلى الباب في ظلام لا يرى فيه شيئا، وتنفس بحذر وكأنما يضن بأنفاسه. وعبثا حاول أن يرى شيئا. وبعد قليل شم رائحة بخور زكية أفعمت قلبه قلقا وحزنا غريبا لم يدر له من سبب، ولم يعد يشك في أنه في مخدع الجبلاوي. متى يألف الظلمة؟ وكيف يلم نفسه المبعثرة؟ ومن وقف موقفه هذا من قبل؟ وكيف يشعر بأنه سينهار إلى الحضيض إذا لم يستمسك بكل ما أوتي من قوة وعزم وجرأة؟! وتوعد نفسه بالهلاك إذا لم يحسب لكل حركة حسابها الدقيق. وتذكر السحب في جريانها الذي يرسم لها أشكالا غريبة بطريقة عفوية فيرسم جبلا كما يرسم قبرا. ومس الجدار بأصبعه فاتخذ منه مرشدا وسار بحذائه متقوسا حتى لمس كتفه مقعدا.
لكن حركة مفاجئة ندت من ركن الحجرة البعيد تصلبت لها شرايينه. لبد وراء المقعد متجه العينين نحو الباب الذي دخل منه. وسمع وقع أقدام خفيفة وحفيف ثوب. وتوقع أن يغمر الظلماء نور وأن يرى الجبلاوي واقفا حياله. سيسجد عند قدميه مستعطفا ويقول له: إني حفيدك، لا أب لي، ولا هدف إلا الخير ، فافعل بي ما تشاء. رأى على رغم الظلمة شبحا يقترب من الباب. ورأى الباب وهو يفتح برفق ونور الردهة الخارجية يتسرب إلى ما وراءه. وخرج الشبح تاركا الباب مواربا واتجه يمنة فتبينه على ضوء المصباح الخارجي؛ امرأة عجوز سوداء نحيلة الوجه طويلة بصورة لا يمكن أن تنسى. ترى أهي خادم؟ وهل يمكن أن تكون هذه الحجرة من جناح الخدم؟ ونظر من جانب المقعد إلى المكان ليراه على الضوء الباهت المتسلل من الباب، فميز أشباح المقاعد والكنب، وتراءى له في الصدر رسم فراش كبير ذي عمد وناموسية، يليه عند قدميه فراش صغير لعله هو الذي غادرته العجوز. لن يكون هذا الفراش الفخم إلا للجبلاوي. إنه نائم الآن هناك غير دار بجريمته. كم يود أن يلقي نظرة عليه ولو من بعيد لولا هذا الباب الموارب الذي ينذر بعودة الذاهبة.
ونظر إلى يساره فلمح رسم باب الخلوة مغلقا على سره الرهيب. هكذا تطلع إليه أدهم في القديم فله الرحمة. وزحف وراء المقاعد متناسيا الجبلاوي نفسه حتى صار أسفل الباب الصغير. لم يستطع مقاومة الإغراء فرفع يده حتى دس أصبعه في ثقب المفتاح ثم ضغط إلى أسفل جاذبا إياه إليه فأطاع. وسرعان ما رده وقلبه يرتجف انفعالا وإحساسا بالفوز. وإذا بالضوء الضئيل يختفي وتغرق الحجرة مرة أخرى في الظلام. وسمع مرة أخرى كذلك وقع الأقدام الخفيفة، ثم طقطقة فراش وشت باستلقاء العائدة، ثم ساد الصمت. وانتظر متصبرا حتى تنام العجوز. ومضى يمعن النظر نحو الفراش الكبير ولكنه لم ير شيئا. واقتنع بأنه من الجنون أن يحاول الاتصال بجده، إذ قبل ذلك ستستيقظ العجوز وتملأ الدنيا صراخا ثم يكون الوداع. ولكن حسبه الكتاب الخطير بما يتضمن من شروط الوقف وآيات السحر التي سيطر بها جده على الخلاء والناس في زمانه الأول. إن أحدا قبله لم يتصور أن الكتاب كتاب سحر لأن أحدا قبله لم يمارس السحر.
وعاد يرفع يده ويدس أصبعه ويجذب الباب، ثم تسلل زاحفا ورده وراءه. وقف في حذر وهو يتنفس في عمق ليريح شيئا ما أعصابه المرهقة. لماذا ضن الجبلاوي على أبنائه بسر كتابه؟ حتى أحبهم إلى قلبه أدهم! هنالك سر بلا ريب وسينكشف السر بعد ثوان، بعد إشعال شمعة. وقديما أشعل أدهم الشمعة، وها هو ذا مجهول الأب يشعلها مرة أخرى في الموقف نفسه، وسوف تغني الرباب بهذا إلى الأبد. أشعل الشمعة فرأى عينين تنظران إليه. على رغم ذهوله أدرك أن العينين لعجوز أسود يرقد على فراش في مواجهة الداخل. وعلى رغم ذهوله ورعبه تبين له أن العجوز يجاهد للخروج من الغيبوبة الفاصلة بين النوم واليقظة التي ربما كان أحدثها صوت حك عود الثقاب، وبحركة غير إرادية ولا شعورية انقض عليه فأطبق بيمناه على رقبته وشد بكل قوة أعصابه. تحرك العجوز بعنف وقبض على يده فضربه بقدمه في بطنه وضاعف من قوة الضغط على عنقه. وسقطت الشمعة من يسراه فانطفأت وساد الظلام. وفي الظلام تحرك العجوز حركة أخيرة من أعماقه ثم همد لكن يده المجنونة لم تكف عن الضغط حتى تراخت أصابعها.
وتراجع لاهثا حتى التصق ظهره بالباب. ومرت الثواني وهو في جحيم من العذاب الصامت، وشعر بقواه تخور وبأن الزمن بات أثقل من الذنوب. سيقع على الأرض أو فوق جثة ضحيته إذا لم يتغلب على ضعفه. وناداه الهرب كقوة لا قبل له بها. لن يستطيع أن يتخطى الجثة إلى الكتاب الأثري؛ الكتاب المشئوم. ولا شجاعة عنده ليشعل الشمعة من جديد؛ العمى أحب إليه من ذلك. وشعر بألم في ساعديه لعله من أثر أظافر الرجل عند المقاومة اليائسة. وارتعد جسده لتلك الفكرة. كانت جريمة أدهم العصيان، أما جريمته هو فالقتل؛ قتل رجل لا يعرفه ولا يعرف لمصرعه على يده سببا. وهو قد جاء سعيا وراء قوة يناضل بها المجرمين فانقلب وهو لا يدري مجرما. واتجه رأسه في الظلام إلى الركن الذي ظن الكتاب معلقا به. ودفع الباب ثم تسلل وهو يرده وراءه. وزحف بحذاء الجدار إلى الباب. وتريث وراء المقعد الأخير. لا يرى في هذا البيت إلا الخدم فأين سيده؟ ستحول هذه الجريمة بينهما إلى الأبد. وشعر بالخيبة والفشل حتى أعمق أعماقه.
وفتح الباب برفق فأعشى النور عينيه وخيل إليه أنه ينقض عليه في ضوضاء صاخبة ووميض صارخ. أغلق الباب ومضى على أطراف أصابعه. وهبط السلم في ظلمة حالكة. وعبر السلاملك إلى الحديقة وقد قل من الإعياء والحزن حذره. وإذا بالنائم في السلاملك يستيقظ متسائلا: «من؟!» فلبد عرفة لصق الجدار أسفل السلاملك وقد أمده الفزع بقوة. ونادى الصوت كرة أخرى فأجابت قطة بموائها. لبث في مكمنه وهو يخشى أن يساق إلى جريمة جديدة.
ولما استقر الصمت زحف على أرض الحديقة الخلفية حتى السور، وراح يتحسس موضع الثغرة حتى عثر عليها. ودخلها زحفا كما جاء، ولما بلغ النهاية أو كاد ارتطم بقدم! وإذا بالقدم تركله في رأسه بسرعة فاقت خاطره.
102
وثب على صاحب القدم فاشتبكا في صراع لم يدم طويلا، إذ ندت عن الآخر صيحة غضب كشفت عن شخصه لعرفة فهتف في ذهول: حنش؟!
تعاونا على الخروج معا إلى سطح الأرض وقال حنش: طالت غيبتك فدخلت لأتنسم الأخبار.
فقال عرفة وهو يتنفس بمشقة: أخطأت كعادتك ولكن هلم بنا.
عادا إلى الحارة المستغرقة في النوم. ولما رأته عواطف هتفت: اغتسل .. رباه .. ما هذا الدم يسيل من يدك وعنقك!
فارتعد لكنه لم يجب. ومضى ليغتسل وسرعان ما أغمي عليه. وأفاق بعد قليل وبمساعدة عواطف وحنش. جلس على الكنبة بينهما وهو يشعر بأن النوم بات أبعد عنه من الجبلاوي. ولم يعد يتحمل عبء سره وحده فقص عليهما ما وقع له في رحلته العجيبة. وانتهى والأعين تحملق فيه برعب ويأس. وهمست عواطف: كنت ضد الفكرة من أول الأمر.
غير أن حنش قصد أن يخفف من وقع الكارثة فقال: ليس في الإمكان تجنب مثل هذه الجريمة!
فقال عرفة بحزن: لكنها أبشع من جرائم السنطوري وسائر الفتوات!
فقال حنش: هيهات أن تتجه الظنون إليك. - لكني قتلت عجوزا لا ذنب له، ومن يدري؟! فلعله الخادم الذي أرسله الجبلاوي إلى قاسم!
وغشيتهم فترة صمت قاتمة كالسهاد المرير حتى قالت عواطف : ألا يحسن بنا أن ننام؟
فقال عرفة: ناما أنتما، أما أنا فلا نوم لي الليلة.
وانحط الصمت مرة أخرى فوق رءوسهم. وإذا بحنش يسأله: ألم تلمح الجبلاوي أو تسمع صوته؟
فهز رأسه في ضيق قائلا: كلا! - لكنك رأيت في الظلام فراشه! - كما نرى بيته!
فقال حنش في حسرة: ظننت غيابك انقضى في محادثته! - ما أسهل الخيال خارج البيت!
فقالت عواطف بقلق: أنت تبدو كالمحموم، ومن الأفضل أن تنام. - ومن أين يجيء النوم؟
لكنه شعر بصدق قولها فيما ينتابه من حرارة وذهول. وعاد حنش يقول بحسرة: كنت على بعد ذراع من الوصية لكنك لم تنظر فيها!
وتقلص وجهه من الألم فقال حنش: يا لها من رحلة شاقة وخاسرة! - نعم!
ثم بنبرة جديدة حادة: لكنها علمتني أنه لا ينبغي أن نعتمد على شيء سوى السحر الذي بين أيدينا! ألا ترى أنني غامرت برحلة جنونية جريا وراء فكرة ربما كانت أبعد ما يكون عن ظني؟! - نعم، لم يقل غيرك أحد إن كتابه المشهور كتاب سحر.
فقال عرفة وقد بدا أكثر من قبل أنه يكابد حال اضطراب في العقل والنفس: تجربة الزجاجة ستنجح أقرب مما تتصور، وستكون جد نافعة إذا احتجنا للدفاع عن النفس!
وأنذر الصمت المخيف بالعودة، فقال حنش: ليتك عرفت من السحر ما يمكنك من الوصول إلى البيت الكبير وصاحبه دون تلك المغامرة!
فقال عرفة بحماس: السحر لا نهاية له، ليس بين يدي منه اليوم إلا بعض الأدوية ومشروع زجاجة للدفاع أو الهجوم، أما ما يمكن أن يوجد فلا يحيط به خيال.
فقالت عواطف في ضجر: ما كان ينبغي أن تفكر إطلاقا في تلك المغامرة، جدنا من دنيا ونحن من دنيا أخرى، وما كنت لتفيد شيئا من محادثته لو وقعت، ولعله نسي الوقف والنظار والفتوات والأحفاد والحارة!
وغضب عرفة بلا سبب ظاهر، ولكن حالته الطارئة كانت تبرر كل غريب، وقال بحدة: هذه الحارة المغرورة الجاهلة! ماذا تدري من الأمر؟ لا شيء. ليس لديها إلا الحكايات والرباب، وهيهات أن تعمل بما تسمع. ويظنون حارتهم قلب الدنيا، وما هي إلا مأوى البلطجية والمتسولين، وكانت في البدء مرتعا قفرا للحشرات، حتى حل بها أكبر قاطع طريق رهيب وهو جدكم الواقف!
وأجفل حنش، على حين بللت عواطف خرقة وهمت بوضعها على جبينه، ولكنه أبعد يدها بحدة وقال: أنا عندي ما ليس عند أحد، ولا الجبلاوي نفسه، عندي السحر، وهو يستطيع أن يحقق لحارتنا ما عجز عنه جبل ورفاعة وقاسم مجتمعين.
قالت عواطف بتوسل: متى تنام؟ - عندما تخمد النار المشتعلة في رأسي.
فتمتم حنش بإشفاق: أوشك الصبح أن يطلع.
فهتف عرفة: فليطلع، ولن يطلع حتى يقضي السحر على الفتوات، ويطهر النفوس من عفاريتها، ويجلب من الخير ما يعجز الوقف عن جزء منه، ويصير هو الغناء المنشود الذي كان أدهم يحلم به.
وتنهد من أعماقه، ثم طرح رأسه على الجدار في إعياء، فأملت عواطف أن يجيء النوم عقب ذلك. وإذا بصوت يجلجل في السكون بقوة هزت النفوس. وتبعته أصوات صراخ وعويل. وثب عرفة قائما وهو يقول برعب: جثة الخادم اكتشفت!
فقالت عواطف من حلق جاف: من أدراك أن الأصوات قادمة من البيت الكبير؟
وجرى عرفة إلى الخارج فتبعاه على الأثر. وقفوا أمام الربع برءوس متجهة نحو البيت الكبير.
كانت آخر الظلمة ترق وتشف عن أمارات الصباح. وفتحت نوافذ وأطلت رءوس، واتجهت جميعا نحو البيت الكبير. وجاء رجل من أقصى الحارة مهرولا نحو الجمالية فلما مر بهم سأله عرفة: ماذا جرى يا عم؟
فأجابه دون توقف: لله الأمر، من بعد العمر الطويل مات الجبلاوي!
103
انقلب ثلاثتهم إلى البدروم، وعرفة لا تكاد قدماه تحملانه، فانحط على الكنبة وهو يقول: الرجل الذي قتلته كان خادما أسود تعيس المنظر، وكان نائما في الخلوة.
لم ينبس أحد منهما، ودفنا نظريهما في الأرض متحاشيين عينيه الزائغتين، فقال بحدة: أراكما لا تصدقان! أقسم لكما إنني لم أقترب من فراشه.
فتردد حنش مليا لكنه شعر بأن الكلام خير على أي حال من تركه للصمت فقال بحذر: لعلك لم تتبين وجهه من شدة المفاجأة؟
فهتف بيأس: أبدا ، أنت لم تكن معي!
فهمست عواطف بخوف: أخفت من صوتك.
وغادرهما مهرولا إلى الحجرة الخلفية، وقعد في الظلام وهو يرتجف من الاضطراب. أي جنون دفعه إلى تلك الرحلة المشئومة؟! أجل كانت رحلة مشئومة. إن الأرض تميد به وتنفث من جوفها الأحزان. ولم يعد له من أمل إلا هذه الحجرة العجيبة.
وأشرق أول شعاع للشمس، فإذا الناس جميعا مجتمعون في الحارة حول البيت. وتسربت الأخبار وشاعت، وبخاصة عقب زيارة الناظر للبيت زورة قصيرة ثم عودته إلى بيته. وتناقل الناس أن لصوصا سطوا على البيت الكبير من خلال نفق حفروه تحت السور الخلفي، فقتلوا خادما أمينا، ولما علم الجبلاوي بالخبر تأثر تأثرا لم تحتمله صحته الواهية في تلك الذروة من العمر ففاضت روحه. وثار الغضب بالنفوس حتى غطى دخانه الأسود على الدموع والصراخ. وهتف عرفة لما بلغته الأنباء بزوجه وحنش: ها هي ذي الأنباء تصدقني!
ثم ذكر من توه أنه على أي حال تسبب في موته، فلاذ بصمت الخجل والألم. ولم تجد عواطف ما تقوله فغمغمت: فليرحمه الله!
وقال حنش: لم يمت ناقص عمر!
فقال عرفة بنبرة الرباب الحزينة: لكني أنا سبب موته! أنا من دون أحفاده جميعا حتى الأشرار منهم وما أكثرهم!
فبكت عواطف وهي تقول: ذهبت بنفس لا تشوبها شائبة سوء.
وإذا بحنش يتساءل في قلق: ألا يمكن أن يستدل علينا؟
فهتفت عواطف: فلنهرب!
فأشار إليها عرفة حانقا وهو يقول: وبذلك نقدم أسطع دليل على جريمتنا!
وترامت من الطريق المحتشد أصوات متلاطمة: يجب قتل الجاني قبل دفن الرجل! - يا ألعن جيل في حارتنا، حتى كبار الأشرار احترموا هذا البيت طيلة ماضينا، وحتى إدريس نفسه، علينا اللعنة إلى يوم القيامة. - ليس القتلة من حارتنا، من ذا يتصور ذلك؟! - سوف يعرف كل شيء. - علينا اللعنة إلى يوم القيامة.
واشتد اللطم والندب، حتى انهارت أعصاب حنش فقال: وكيف نبقى في الحارة بعد اليوم؟!
واقترح آل جبل أن يدفن الجبلاوي في مقبرة جبل؛ لاعتقادهم من ناحية أنهم أقرب نسبا إليه من الآخرين، ولأنهم كرهوا أن يدفن في المقبرة التي تضم إدريس فيما تضم من رفات أسرة الواقف من ناحية أخرى. وطالب آل رفاعة أن يدفن في القبر الذي دفن فيه رفاعة بيديه! وقال آل قاسم: إن قاسم خير أحفاد الواقف وإن قبره هو أليق قبر بجثمان الجد العظيم. وكادت أن تقع فتنة في الحارة ولما يدفن الرجل. لكن الناظر قدري أعلن أن الجبلاوي سيدفن في المسجد الذي أقيم في مكان حجرة الوقف القديمة بالبيت الكبير. ولاقى هذا الحل ارتياحا عاما ملحوظا وإن أسف أهل الحارة على حرمانهم من مشاهدة جنازة الجد كما حرموا من قبل من مشاهدة الرجل في حياته. وتهامس آل رفاعة فرحين بأن الجبلاوي سيدفن في القبر الذي دفن فيه رفاعة بيديه. لكن أحدا غيرهم لم يكن يصدق تلك الحكاية القديمة، وراحوا يسخرون منهم حتى ثار عجاج فتوتهم وأوشك أن يلتحم في معركة بالسنطوري. وعند ذاك تصدى سعد الله للجميع وصاح منذرا: سأكسر رأس أي مكابر يحاول النيل من احترام هذا اليوم الحزين!
ولم يشهد الغسل إلا خدمه المقربون. وهم الذين كفنوه وأودعوه نعشه. وحملوا النعش إلى البهو الكبير الذي شهد أخطر أحداث الأسرة كعهده بالنظارة إلى أدهم وثورة إدريس عليه. ثم دعا للصلاة عليه الناظر ورءوس جبل ورفاعة وقاسم. وورى بعد ذلك في قبره والشمس تميل نحو الغروب. وفي المساء أم السرادق جميع أولاد الحارة. وذهب إليه عرفة وحنش فيمن ذهب من آل رفاعة. وبدا وجه عرفة الذي لم يذق طعم النوم منذ ارتكب جريمته كوجه ميت. ولم يكن للناس من حديث إلا أمجاد الجبلاوي، قاهر الخلاء وسيد الرجال ورمز القوة والشجاعة، صاحب الوقف والحارة والأب الأول للأجيال المتعاقبة. وبدا عرفة حزينا ولكن ما كان يدور بنفسه لم يخطر لأحد على بال. ذلك الذي اقتحم البيت غير مبال بجلاله. الذي لم يتأكد من وجود جده إلا عند موته! الذي شذ عن الجميع ولوث يديه إلى الأبد.
وتساءل كيف يمكن التكفير عن هذه الجريمة؟ إن مآثر جبل ورفاعة وقاسم مجتمعة لا تكفي . القضاء على الناظر والفتوات وإنقاذ الحارة من شرورهم لا يكفي. تعريض النفس لكل مهلكة لا يكفي. تعليم كل فرد السحر وفنونه وفوائده لا يكفي. شيء واحد يكفي، هو أن يبلغ من السحر الدرجة التي تمكنه من إعادة الحياة إلى الجبلاوي! الجبلاوي الذي قتله أسهل من رؤيته. فلتهبه الأيام القوة حتى يضمد الجرح النازف في قلبه. وهؤلاء الفتوات ذوو الدموع الكاذبة. ولكن آه ثم آه! لم يأثم أحدهم كما أثم. وكان الفتوات يجلسون واجمين، يركبهم الخزي والهوان. ستقول الحواري: إن الجبلاوي قتل في بيته ومن حوله الفتوات الكبار يحششون؛ لذلك تتوعد نظراتهم بالانتقام، الويل والموت يطلان من عيونهم!
وعندما عاد عرفة إلى البدروم في آخر الليل جذب عواطف إليه وسألها في استغاثة يائسة: عواطف، صارحيني برأيك، هل ترينني مجرما؟
فقالت برقة: أنت رجل طيب، أنت أطيب من صادفت في حياتي، ولكنك أتعسهم حظا!
فأغمض عينيه وهو يقول: لم يتجرع أحد قبلي الألم كما تجرعته. - نعم .. أعرف ذلك.
وقبلته بشفتين باردتين وهمست: أخشى أن تحل بنا اللعنة.
فحول عنها وجهه، وقال حنش: لست مطمئنا، سيكتشف أمرنا اليوم أو غدا. لا أتصور أن يعرف كل شيء عن الجبلاوي، أصله، وقفه، سيرته في أبنائه، اتصالاته بجبل ورفاعة وقاسم، وأن يجهل فقط موته!
فنفخ عرفة في ضيق وسأله: هل عندك حل غير الهرب؟
فلزم حنش الصمت، فعاد الآخر يقول: أما أنا فعندي خطة، غير أني أود أن أطمئن إلى نفسي قبل الشروع في تنفيذها، إذ لا أستطيع أن أعمل إن كنت مجرما.
فقال حنش بفتور: إنك بريء.
فقال بحدة: سأعمل يا حنش، لا تخف علينا، فإن الحارة ستشغل عن الجريمة الكبرى بالأحداث، ستقع عجائب، وستكون ذروة العجائب أن تعود الحياة إلى الجبلاوي.
تأوهت عواطف، أما حنش فقال مقطبا: هل جننت؟
فقال بصوت المحموم: إن كلمة من جدنا كانت تدفع الطيبين من أحفاده إلى العمل حتى الموت، موته أقوى من كلماته. إنه يوجب على الابن الطيب أن يفعل كل شيء، أن يحل محله، أن يكونه، أفهمت ؟!
104
تأهب عرفة لمغادرة البدروم بعد أن سكت آخر صوت في الحارة. أوصلته عواطف حتى الدهليز محمرة العينين من البكاء، وكانت تقول في تسليم من لا حيلة له: فلتحرسك العناية.
أما حنش فتساءل في إصرار: لم لا أصحبك؟!
فقال عرفة: الهرب أيسر على واحد منه على اثنين.
فقال له ناصحا وهو يربت ظهره: لا تستعمل الزجاجة إلا عند اليأس.
فأومأ برأسه موافقا وذهب. ألقى نظرة على الحارة الغارقة في الظلام ثم مضى نحو الجمالية. ودار دورة كبيرة شملت حارة الوطاويط والدراسة والخلاء فيما وراء البيت الكبير، حتى انتهى إلى سور بيت سعد الله المشرف على الخلاء من ناحية الشمال. واتجه نحو موضع في منتصف السور، وتحسس الأرض حتى عثر على حجر فأزاحه ثم غاص في الممر الذي دأب على حفره - هو وحنش - ليلة بعد أخرى. زحف على بطنه حتى نهايته، ثم عالج بيديه القشرة الرقيقة التي تسده ونفذ منها إلى حديقة بيت الفتوة. كمن وراء السور وألقى نظرة على المكان فرأى في البيت نافذة مغلقة تنضح بضوء خافت، أما الحديقة فقد غشيها النوم والظلام إلا نور نافذة المنظرة الساهرة. ومن المنظرة ترامت بين آونة وأخرى عربدات الساهرين وضحكاتهم الغليظة. استل من صدره خنجرا ولبث متوثبا والوقت يمر أثقل من الهموم. لكن الغرزة انفضت عقب وصوله بنصف ساعة. فتح بابها وخرج الرجال تباعا نحو الباب الخارجي المفضي إلى الحارة والبواب يتقدم بفانوس في يده. وأغلق الباب وعاد البواب متقدما سعد الله نحو السلاملك. تناول عرفة من الأرض حجرا بيسراه، وتسلل متقوسا والخنجر بيمناه ثم كمن وراء نخلة حتى هم سعد الله بارتقاء أول درجة من درجات السلم، فانقض عليه وأغمد خنجره في ظهره فوق القلب. ندت عن الرجل صرخة ثم تقوض بناؤه.
التفت البواب مذعورا لكن الحجر أصاب الفانوس فأطفأه وحطمه، ثم جرى عرفة مسرعا جهة السور الذي جاء منه. وصرخ البواب صرخة مدوية. وسرعان ما تدافعت أقدام وتلاطمت أصوات في الداخل وفي آخر الحديقة. وعثر عرفة في جريه بقائم كأنه أصل شجرة مقطوعة، فسقط على وجهه وهو يحس بألم يهرسه في ساقه وكوعه، لكنه تغلب على ألمه وقطع بقية المسافة إلى النفق زحفا. وارتفعت الأصوات واشتد وقع الأقدام. رمى بنفسه في النفق وزحف بسرعة حتى خرج إلى الخلاء، ونهض وهو يئن ثم اندفع شرقا.
وقبل أن يدور مع سور البيت الكبير التفت وراءه فرأى أشباحا تندفع نحوه وسمع صوتا يصيح: «من هنا؟!» فضاعف من سرعته على رغم ألمه حتى بلغ نهاية السور الخلفي للبيت الكبير. وعندما عبر الفراغ الذي يفصل بين البيت الكبير وبيت الناظر لمح أضواء كالمشاعل وسمع ضجة فاندفع في الخلاء متسمتا سوق المقطم. وشعر بأن الألم سيقهره عاجلا أو آجلا، وبأن أقدام المطاردين تقترب وأصواتهم تتعالى صارخة في السكون «امسك .. حلق!» عند ذاك أخرج الزجاجة من عبه، الزجاجة التي قضى الشهور في تجربتها. ثم توقف عن الجري واستقبل القادمين بوجهه، وأحد بصره حتى تراءت له أشباحهم ثم قذف الزجاجة عليهم. وما هي إلا ثانية حتى دوى انفجار لم تعرفه أذن من قبل. وتتابعت صرخات وتأوهات. وواصل جريه وقد كفت الأقدام عن مطاردته. وعند حافة الخلاء ارتمى على الأرض وهو يلهث ويئن.
لبث في ألم وعجز وحيدا تحت النجوم. ونظر وراءه فلم ير إلا ظلاما وصمتا. وجعل يمسح الدم السائل على ساقه بيده ثم جففها في الرمال. وشعر بأنه ينبغي أن يذهب مهما كلفه الأمر، فقام معتمدا على يديه، وسار متمهلا نحو الدراسة. وفي أول الدراسة رأى شبحا قادما فنظر نحوه بحذر وخوف، ولكن القادم مر به دون أن يلتفت إليه فتنهد في ارتياح. ومضى راجعا في نفس الدورة التي جاء بها. ولما اقترب من حارة الجبلاوي ترامت إلى أذنه ضجة حارة غير مألوفة في ذلك الهزيع من الليل. خليط من الأصوات الهادرة والبكاء والصرخات الغاضبة ونذر شر تتطاير في الظلام. تردد مليا ثم تقدم ملتصقا بالجدران. وألقى نظرة من عين واحدة عند ركن الحارة فرأى خلقا كثيرا متجمعا في الآخر فيما بين بيتي الناظر وسعد الله على حين بدا حي قاسم خاليا مظلما. وتسلل بحذاء الجدار حتى غيبه الربع.
ارتمى بين عواطف وحنش، ثم كشف عن ساقه الدامية فارتاعت عواطف وذهبت مسرعة لتعود بطبق القلة المملوء بالماء، وراحت تغسل الجرح وهو يعض على أسنانه حتى لا تفلت منه صرخة ألم. وساعدها حنش وهو يقول بقلق: الغضب يشتعل في الخارج كالنار.
فسأله عرفة بوجه متقبض: ماذا قالوا عن الانفجار؟ - وصف الذين كانوا يطاردونك ما وقع فلم يصدقهم أحد، لكنهم وقفوا ذاهلين أمام الجراح التي أصابت الوجوه والأعناق، وكادت حكاية الانفجار تغطي على مقتل سعد الله!
فقال عرفة: قتل فتوة الحارة، وغدا يبدأ التناحر بين الفتوات على مكانه!
ثم نظر إلى زوجته المنهمكة في تضميد جراحه برقة وقال: عهد الفتوات موشك على الزوال، وأولهم قاتل أبيك!
لكنها لم تجب. وظلت عينا حنش تومضان في قلق. ثم أسند عرفة رأسه إلى يده من شدة الألم.
105
في باكر الصباح طرق طارق باب البدروم، ولما فتحته عواطف رأت أمامها عم يونس بواب بيت الناظر، فحيته برقة ودعته إلى الدخول لكنه قال وهو ثابت في مكانه: حضرة الناظر يطلب عم عرفة إلى مقابلته لاستشارة عاجلة!
ذهبت عواطف لإبلاغ عرفة دون أن تجد للدعوة العالية السرور الخليق بها في غير الظروف التي تعانيها.
ومضت فترة قصيرة ثم جاء عرفة مرتديا خير ملابسه، جلبابا أبيض ولاسة منقطة ومركوبا نظيفا، غير أنه كان يتوكأ على عصا لعرج طارئ غير خاف، فرفع يده تحية وقال: تحت الأمر.
فسار البواب وهو يتبعه. وكانت الكآبة تغشى الحارة من أولها إلى آخرها، فالأعين قلقة كأنما تتساءل في خوف عما سيجيء به الغد من الكوارث، وأعوان الفتوات تجمعوا في المقاهي يتشاورون، على حين تتابع العويل والنواح في بيت سعد الله. ودخل بيت الناظر وراء البواب، فسارا في الممر المسقوف بعريشة الياسمين حتى بلغا السلاملك. وتخيل أوجه الشبه بين هذا البيت والبيت الكبير فوجدها كثيرة حتى ظن أن لا اختلاف إلا في الدرجة، وقال لنفسه بحنق: «تقلدونه فيما ينفعكم لا فيما ينفع الناس ؟!» وسبقه البواب ليستأذن له ثم عاد ليشير إليه بالدخول فمضى إلى البهو الكبير حيث رأى الناظر قدري جالسا في انتظاره في أقصى المكان. وقف على بعد ذراع منه وهو ينحني احتراما حتى تقوس ظهره. وبدا لعينيه من أول لمحة طويل القامة قوي البنيان ممتلئ الوجه باللحم والدم، ولما ابتسم إليه ردا على تحيته افتر فمه عن أسنان صفر قذرة لا تناسب بهاء منظره بحال. وأشار إليه أن يجلس إلى جانبه على ديوانه، لكن عرفة اتجه إلى أقرب مقعد وهو يقول: عفوا يا حضرة الناظر!
لكن الناظر أصر على دعوته فأشار إلى الديوان قائلا بلطف وأمر معا: هنا .. اجلس هنا.
فلم يجد بدا من الجلوس إلى جانبه في أقصى الديوان وهو يقول لنفسه: لا شك في أنها حالة سرية! وتأكد ظنه حينما رأى البواب وهو يغلق باب البهو! ولبث صامتا في حال خضوع والناظر يرمقه بهدوء، ثم قال الناظر في نبرة هادئة كالمناجاة: عرفة! لم قتلت سعد الله؟
تجمد البصر تحت البصر، وسابت المفاصل، ودار كل شيء، وانقلب المستقبل ماضيا. ورأى الرجل ينظر إليه بعين الواثق فلم يشك في أنه عرف كل شيء كالقضاء والقدر. ثم لم يمهله فقال بشيء من الحدة: لا ترتعب! لماذا تقتلون إذا كنتم هكذا ترتعبون؟ تمالك مشاعرك لتستطيع أن تجيبني، وخبرني صراحة لم قتلت سعد الله؟
وكره الصمت فقال وهو لا يدري ما يقول: سيدي .. أنا!
فقال الناظر بحدة: يا ابن الحقيرة أحسبتني أهذي؟! أو أنني أتكلم دون دليل؟ أجبني .. لماذا قتلته؟
وهو يتمزق من الحيرة واليأس جالت عيناه في أرجاء البهو بحركة لا معنى لها، فقال الناظر بصوت بارد كالموت: لا مهرب يا عرفة! وفي الخارج أناس لو علموا بأمرك لمزقوك بأسنانهم ولشربوا دمك.
وكان النواح يشتد في بيت الفتوة، أما آماله فقد ووريت في التراب. وفتح فمه دون أن يقول شيئا.
فقال الناظر بقسوة: الصمت مهرب في متناول اليد، سأدفع بك إلى الوحوش في الخارج وأقول لهم هاكم قاتل سعد الله، وإن شئت أقول لهم هاكم قاتل الجبلاوي!
هتف بصوت مبحوح: الجبلاوي؟! - حافر الأنفاق وراء الأسوار الخلفية! نجوت في المرة الأولى ووقعت في الأخرى، لكن لماذا تقتل يا عرفة؟
وقال في يأس بلا قصد ولا معنى: بريء يا حضرة الناظر، أنا بريء!
فقال في تهكم: إذا أعلنت تهمتك فلن يطالبني أحد بدليل. في حارتنا الإشاعة حقيقة، والحقيقة حكم، والحكم هو الإعدام، ولكن خبرني عما دفعك إلى اقتحام البيت الكبير؟ ثم قتل سعد الله؟
هذا الرجل يعرف كل شيء. كيف؟ لا يدري لكنه يعرف كل شيء. وإلا فلماذا صب عليه اتهامه دون أهل الحارة جميعا؟ - هل كنت تقصد السرقة؟
غض بصره في يأس لكنه لم يتكلم فهتف الناظر في غضب: انطق يا ابن الأفاعي! - سيدي. - لماذا تسعى إلى السرقة وأنت أفضل حالا من كثيرين؟
فقال بنبرة الاعتراف اليائسة: النفس أمارة بالسوء!
ضحك الناظر بظفر، أما عرفة فساءل نفسه في حيرة: عما جعل الرجل يؤجل الفتك به إلى الآن! بل لم لم يفض بسره إلى أحد الفتوات بدلا من استدعائه على ذلك النحو الغريب؟ وتركه الناظر لنفسه كأنما يعذبه، ثم قال: يا لك من رجل خطير! - أنا رجل مسكين. - أيعد في المساكين من يحوز سلاحا كسلاحك الذي هزئ بالنبابيت؟
لا يبكي ميت على فقد بصره. هذا الرجل هو الساحر حقا لا هو، وجعل الناظر يتلذذ بيأسه مليا ثم قال: انضم أحد خدمي إلى مطارديك، وكان متأخرا عنهم فلم يصبه سلاحك، ثم تبعك وحده في هدوء فلم يشعرك بمطاردته الخفية، ثم عرفك عند الدراسة فلم يهاجمك خوفا على نفسه من مفاجآتك، وسارع إلي فأخبرني.
فقال عرفة بلا وعي: ألا يمكن أن يخبر أحدا غيرك؟
فقال مبتسما: إنه خادم أمين.
ثم بنبرة ذات معنى: الآن حدثني عن سلاحك.
أخذت الغيوم تتكشف لناظريه. الرجل يطمع فيما هو أثمن من حياته! لكن يأسه كان محبطا. وأين المفر؟ قال بصوت منخفض: هو أبسط مما يتصور الناس!
فقست نظرته وتجهم وجهه وقال: في وسعي أن أفتش بيتك الآن، لكنني أتحاشى لفت الأنظار إليك، ألا تفهم؟
وسكت مليا ثم أردف: لن تهلك ما دمت تطيعني!
كان يتكلم ونذر الوعيد تتطاير من عينيه، فقال عرفة وقد طفحت باليأس روحه: ستجدني رهن مشيئتك. - بدأت تفهم يا ساحر حارتنا، لو كان مقصدي قتلك، لكنت الساعة في بطون الكلاب.
ثم تنحنح وواصل حديثه قائلا: دعنا من الجبلاوي وسعد الله وحدثني عن سلاحك، ما هو؟
فقال بدهاء: زجاجة سحرية!
فحدجه بنظرة ارتياب وقال: أفصح!
فقال وهو يسترد شيئا من الطمأنينة لأول مرة: لغة السحر لا يتكلمها إلا أهلها. - ألا تفصح حتى ولو وعدتك بالسلامة؟
فضحك باطنه ولكنه قال بجد ظاهر: ما قلت إلا الحق.
فنظر الرجل إلى الأرض قليلا ثم رفع رأسه متسائلا: ألديك منها كثير؟ - ليس لدي منها شيء الساعة!
فعض الناظر على أسنانه هاتفا: يا ابن الأفاعي!
فقال عرفة ببساطة: فتش بيتي لترى صدقي بعينيك. - أتستطيع أن تصنع مثلها؟
فقال بثقة: بكل تأكيد.
فشبك ذراعيه على صدره من شدة الانفعال، وقال: أريد منها كثيرا.
فقال عرفة: سيكون لك منها ما تشاء.
وتبادلا نظرة تفاهم لأول مرة، وإذا بعرفة يقول بجرأة: سيدي يريد الاستغناء عن الفتوات الملاعين.
فومضت بعيني الرجل نظرة غريبة وسأله: صارحني بما دفعك إلى اقتحام البيت الكبير؟
فقال عرفة ببساطة: لا شيء إلا حب الاستطلاع، وقد ساءني مقتل الخادم الأمين عن غير قصد مني.
فحدجه بنظرة ارتياب وقال: تسببت في موت الرجل الكبير!
فقال عرفة بحزن: شد ما يتقطع قلبي حزنا لذلك!
فهز الناظر منكبيه قائلا: ليتنا نحيا مثله!
يا لك من منافق أثيم! لا شيء يهمك إلا الوقف! وقال: أمد الله في عمرك.
فعاد يسأله بارتياب: ألم تذهب إلا جريا وراء الاستطلاع؟ - بلى. - ولماذا قتلت سعد الله؟
فقال بصراحة: لأني مثلك أود القضاء على جميع الفتوات.
فابتسم الرجل وقال: إنهم شر مستحكم!
لكنك في الحق تبغضهم لما يأخذون من أموال الوقف، لا لشرهم. - بالحق نطقت يا سيدي.
فقال بإغراء: ستثري فوق ما كنت تحلم.
فقال عرفة بمكر: ولا غاية لي إلا ذلك.
فقال الناظر بارتياح: لا ترهق نفسك بالعمل نظير الملاليم، تفرغ لسحرك في حمايتي، وسيكون لك كل ما تشتهيه نفسك!
106
جلس ثلاثتهم على الكنبة، عرفة يقص ما حدث له وعواطف وحنش يتابعانه بانتباه وانفعال وفزع، حتى ختم عرفة حديثه المثير بقوله: لا اختيار لنا. إن جنازة سعد الله لم تخرج بعد، فإما القبول وإما الإبادة.
فقالت عواطف: وإما الهرب. - لا مهرب من عيونه التي تحيط بنا. - لن نكون في كنفه آمنين.
تجاهل قولها كما يود أن يتجاهل أفكاره وتحول إلى حنش قائلا: ما لك لا تتكلم؟
فقال حنش بجد وحزن: عدنا إلى هذه الحارة يوم عدنا بآمال بسيطة محدودة، أنت وحدك المسئول عن التغير الذي وقع بعد ذلك، عن تعلقنا بالآمال الكبيرة، وكنت أعارض طموحك بادئ الأمر، ولكني عاونتك دون تردد، وأخذت أقتنع بأرائك رويدا رويدا، حتى لم يعد لي من أمل إلا أمل حارتنا في الخلاص والكمال. واليوم تفاجئنا بخطة جديدة سنصبح بعدها آلة رهيبة لاستذلال حارتنا؛ آلة لا يمكن أن تقاوم ولا أن تبيد وإن جاز أن يقاتل فتوة أو يقتل.
وقالت عواطف: ولا أمان لنا بعد ذلك، فقد ينال منك ما يريد ثم يتخلص منك بحيلة كما يدبر الآن للفتوات.
كان مقتنعا في أعماقه بما يقولان ولا يكف عن التفكير فيه، لكنه قال وكأنما يحاور نفسه: سأجعله دائما في حاجة إلى سحري!
فقالت عواطف: ستكون على خير الأحوال فتوته الجديد.
فقال حنش مؤيدا: نعم، فتوة سلاحه زجاجة بدلا من النبوت، واذكر مشاعره نحو الفتوات لتعرف ما ستكون عليه نحوك.
واحتد عرفة غضبا فقال: ما شاء الله، كأنني الطامع وأنتما الزاهدان! إنما أنا الإيمان الذي أصبحتما به تؤمنان، وما سهرت الليالي في الحجرة الخلفية وما عرضت نفسي للموت مرتين إلا لخير حارتنا. فإذا كنتما ترفضان ما فرض علينا دون اختيار فأشيرا علي ما يجب فعله.
ونظر إليهما بتحد غاضب فلم ينبس منهما أحد. وكان الألم يعتصره والدنيا تبدو كابوسا خانقا لعينيه. ودهمه شعور غريب بأن ما يعانيه ما هو إلا انتقام لتهجمه القاسي على جده، فازداد ألما وحزنا. وهمست عواطف بتوسل يائس: الهرب!
فتساءل بحدة وحنق: وكيف الهرب؟! - لا أدري! لكنه لن يكون أصعب عليك من التسلل إلى بيت الجبلاوي!
فنفخ يائسا وقال بهدوء كالرثاء: الناظر الآن بانتظارنا، عيونه حولنا، كيف ندبر الهرب؟
وكان صمت، يا له من صمت، كصمت القبر الذي يضم الجبلاوي، فقال بتشف: لا أريد أن أتحمل الهزيمة وحدي.
فتأوه حنش قائلا كالمعتذر: لا خيار لنا.
ثم بحرقة: قد يلد المستقبل فرصة للنجاة.
فقال عرفة بلب شارد: من يدري؟!
ومضى إلى الحجرة الخلفية وحنش في إثره. وأخذا يعبئان بعض القوارير بقطع من الزجاج والرمل وغيرها. وإذا به يقول: ينبغي أن نتفق على رموز للدلالة على خطوات أعمالنا السحرية. وأن نسجل صورها في كراسة أمينة سرية حتى لا يتعرض جهدنا للضياع أو يكون موتي نذير النهاية لهذه التجارب. ومن ناحية أخرى أرجو أن يكون لديك الاستعداد لتعلم السحر، فما ندري شيئا عما يخبئه القدر لنا!
وواصلا عملهما بهمة عالية. وحانت من عرفة التفاتة إلى صاحبه فرآه متجهما فلم يخف عليه سره، لكنه قال مداراة للموقف الغريب: ستقضي هذه القوارير على الفتوات!
فقال حنش فيما يشبه الهمس: لا لحسابنا ولا لحساب حارتنا.
فقال دون أن تكف يداه عن العمل: ماذا علمتك رباب الشاعر؟ وجد في الماضي رجال أمثال جبل ورفاعة وقاسم، فماذا يمنع أن يجيء أمثالهم في المستقبل؟
فقال حنش متنهدا: كدت أحسبك في بعض الأوقات أحدهم.
فضحك عرفة ضحكة جافة مقتضبة وتساءل: وهل عدلت بك عن ذلك هزيمتي؟
فلم يجب، فعاد الآخر يقول: لن أكون مثلهم في ناحية واحدة على الأقل، وهي أنهم كانوا ذوي أتباع من أولاد حارتنا، أما أنا فلا يفهمني أحد.
ثم وهو يضحك: كان في وسع قاسم أن يكتسب تابعا قويا بكلمة حلوة، أما أنا فتلزمني أعوام وأعوام حتى أستطيع أن أدرب رجلا على عملي وأجعل منه تابعا.
وفرغ من تعبئة زجاجة فأحكم سدادتها وعرضها أمام ضوء المصباح في إعجاب، ثم قال: هي اليوم ترعب الأفئدة وتدمي الوجوه بالجراح، وغدا قد تقتل قتيلا، قلت لك: إنه ليس للسحر من نهاية!
107
من فتوة حارتنا؟ مضى الناس يتساءلون عنه مذ رقد سعد الله في قبره. وأخذ كل فريق يزكي رجله. فآل جبل قالوا: إن يوسف أقوى فتوات الحارة وأوثقهم نسبا بالجبلاوي. وقال آل رفاعة: إنهم حي أنبل من عرفته الحارة في تاريخها، الرجل الذي دفنه الجبلاوي في بيته وبيديه. وقال آل قاسم: إنهم هم الذين لم يستغلوا النصر لصالح حيهم، ولكن لصالح الجميع فكانت الحارة على عهد رجلهم وحدة لا تتجزأ يسودها العدل والأخوة. وكالعادة بدأت الخلافات همسا في الغرز، ثم تطايرت في الجو فثار الغبار وتحفزت النفوس لشر المهالك ولم يعد فتوة يسير بمفرده، وإذا سهر في قهوة أو غرزة أحاط به الأتباع مدججين بالنبابيت. وراح كل شاعر يدعو بالرباب إلى فتوة حيه. وتجهم أصحاب الدكاكين والباعة وكدر التشاؤم وجوههم. وتناسى الناس موت الجبلاوي ومقتل سعد الله بما ركبهم من هم وتوجس الخوف، وحق لأم نبوية بياعة النابت أن تقول بأعلى صوت: قطعت العيشة ويا بخت من كان الموت نصيبه.
وذات مساء ترامى صوت من فوق سطح بحي آل جبل وهو يصيح: يا أولاد حارتنا، اسمعوا واجعلوا العقل حكما بيننا وبينكم، حي آل جبل أقدم أحياء الحارة، وجبل أول رجالها الكرام، فلا مذلة لأحد إذا ارتضيتم يوسف فتوة لحارتكم.
فتعالت أصوات الاستهزاء من حيي آل رفاعة وآل قاسم، مصحوبة بقذائف السب واللعن، وما لبث أن تجمع الصغار أمام الربوع وراحوا ينشدون:
يا يوسف يا وش القملة،
مين قالك تعمل دي العملة.
واشتدت القلوب غلظة وسوادا. ولم يؤجل وقوع الكارثة إلا أن التناحر كان يقوم بين ثلاث قوى متضادة معا، وأنه كان لا بد من أن يتحد حيان أو أن ينسحب من التنافس حي مختارا.
ووقعت أحداث بعيدا عن الحارة ذاتها. فقد التقى بائعان في بيت القاضي، أحدهما من آل جبل والآخر من آل قاسم، فاشتبكا في معركة حامية فقد فيها القاسمي أسنانه والجبلي عينا. وفي حمام السلطان نشبت معركة أخرى بين نسوة من آل جبل وآل رفاعة وآل قاسم وهن عرايا في المغطس؛ فانغرست الأظافر في الخدود والأسنان في السواعد والبطون والأيدي في الضفائر، وتتطايرت الأكواز وأحجار الحك وألياف التدليك وقطع الصابون.
وانجلت المعركة عن إغماء امرأتين وإجهاض ثالثة وبض أجساد لا حصر لها بالدم. وعند ظهيرة اليوم نفسه، عقب عودة المتعاركات تباعا إلى الحارة، استؤنفت المعركة من جديد من فوق الأسطح، واستعمل فيها الطوب والسباب الفاحش، وسرعان ما امتلأت سماء الحارة بالقذائف وارتفع صراخها إلى السحاب.
وإذا برسول من قبل الناظر يتسلل خفية إلى يوسف فتوة آل جبل ويدعوه إلى مقابلة الناظر. وحرص الفتوة على أن يقابل الناظر دون أن يدري به أحد. واستقبله الناظر بلطف وطلب إليه أن يعمل على تهدئة الخواطر في حيه وبخاصة أن ذلك الحي هو التالي موقعه لبيت الناظر. وعندما صافحه مودعا قال له: إنه يتمنى أن يستقبله في المرة الآتية وهو فتوة الحارة كلها! وخرج الرجل من بيت الناظر ثملا بتأييده الصريح له، وآمن بأن الفتونة باتت في متناول يديه. وما لبث أن ألزم حيه بالنظام. وتهامس الناس في حيه بما يدخره الغد لهم من سيادة وجاه. وتسربت من حيهم الأنباء إلى بقية الحارة فهاجت الخواطر.
ولم تمض أيام بعد ذلك حتى تقابل عجاج والسنطوري سرا فاتفقا فيما بينهما على القضاء على يوسف من ناحية، ثم على الاقتراع على الفتونة بعد النصر من ناحية أخرى. وعند فجر اليوم التالي تجمع الرجال من آل قاسم وآل رفاعة فهاجموا حي آل جبل، فدارت معركة شديدة، لكن يوسف وكثرة من أتباعه قتلوا وهرب الباقون، وأذعن آل جبل للقوة يائسين. وحدد العصر لإجراء القرعة المتفق عليها. وعند العصر هرع القاسمية والرفاعية رجالا ونساء إلى رأس الحارة أمام البيت الكبير، وامتدت جموعهم جنوبا حتى بيت الناظر وشمالا حتى بيت الفتوة الذي سيصبح ملكا للفائز بالقرعة. وجاء السنطوري وعصابته كما جاء عجاج وعصابته فتبادلوا تحيات السلام والتعاهد. وتعانق عجاج والسنطوري أمام الجميع، وقال عجاج بصوت سمعه جميع المتطلعين: أنا وأنت أخوان، وسنبقى أخوين في جميع الأحوال.
فقال السنطوري بحماس: على الدوام يا سيد الجدعان!
وقف الحيان متقابلين، يفصل بينهما فراغ أمام مدخل البيت الكبير. وجاء رجلان - أحدهما من آل قاسم والآخر من آل رفاعة - بمقطف مليء بالقراطيس فوضعاه وسط الفراغ ثم تقهقر كل إلى قومه. وأعلن على الجميع أن القادوم هو رمز عجاج وأن الساطور هو رمز السنطوري، وأنه وضعت نماذج مصغرة منهما في القراطيس مناصفة. وجيء بغلام ليأخذ - وهو معصوب العينين - من المقطف قرطاسا. مد الغلام يده في صمت متوتر ثم استردها بقرطاس. فتحه وهو لا يزال معصوب العينين وتناول ما فيه ورفع به يده فهتف القاسمية: الساطور .. الساطور.
مد السنطوري إلى عجاج يده فتناولها الآخر وشد عليها باسما. وتعالى هتاف حار: يعيش السنطوري فتوة حارتنا.
ومن صفوف الرفاعية تقدم رجل إلى السنطوري مفتوح الذراعين، ففتح له السنطوري ذراعيه ليعانقه، لكن الآخر طعنه بسكين في قلبه بمنتهى القوة والسرعة. سقط السنطوري على وجهه قتيلا. سيطر الذهول لحظة ثم انفجر الصياح والوعيد والغضب. وتلاقى الحيان في معركة دامية قاسية. لكن لم يكن هناك في القاسمية من يستطيع الوقوف أمام عجاج، فسرعان ما نفذت إلى قلوبهم الهزيمة، وسقط من سقط، وجرى من جرى، ولم يجئ المساء حتى كانت الفتونة قد تقررت لعجاج. وبينما ضج حي قاسم بالعويل، انطلقت الزغاريد من حي رفاعة، وراحوا يرقصون في الطريق حول فتوتهم - فتوة الحارة - عجاج. وإذا بصوت يرتفع فوق الزغاريد صائحا: هس، اسمعوا! اسمعوا يا غنم!
تطلعوا في عجب إلى مصدر الصوت فرأوا يونس بواب الناظر يسير بين يدي الناظر نفسه الذي جعل يتقدم في هالة من خدمه. مضى عجاج نحو موكب الناظر وهو يقول: محسوبك عجاج فتوة الحارة وخادمكم!
حدجه الناظر بنظرة ازدراء وقال في الصمت الرهيب الذي غشي الحارة جميعا: يا عجاج، لا أريد في الحارة فتوة ولا فتونة!
ذهل رجال آل رفاعة، وماتت على شفاههم بسمات الظفر والطرب، وتساءل عجاج في دهشة: ماذا يقصد حضرة الناظر ؟!
فقال الناظر بقوة ووضوح: لا نريد فتونة ولا فتوة، دعوا الحارة تعيش في أمان.
فهتف عجاج ساخرا: أمان؟!
فسدد الناظر نحوه نظرة قاسية، لكن الآخر تساءل في تحد: ومن ذا يحميك أنت؟!
وإذا بالقوارير تنهال من أيدي الخدم على عجاج وأعوانه، ودوي الانفجارات يزلزل الجدران، وشظايا الزجاج والرمال تصيب الوجوه والأطراف وتفجر الدماء. وانقض الفزع على النفوس كما تنقض الحدآت على الفراخ، فطاشت العقول وسابت المفاصل. وسقط عجاج وأعوانه فأجهز الخدم عليهم. وتعالى الصوات في حي آل رفاعة، وزغاريد الشماتة في حيي آل جبل وآل قاسم. وتوسط يونس الحارة داعيا الجميع إلى الإنصات حتى ساد الصمت، ثم صاح قائلا: يا أولاد حارتنا، جاءكم السعد والأمان بفضل حضرة الناظر أطال الله بقاءه، فلا فتوة يذلكم أو يغتال أموالكم بعد اليوم.
وارتفعت أصوات الهتاف إلى السماء.
108
انتقل عرفة وأسرته بليل من بدروم حي الرفاعية إلى بيت الفتوة على يمين البيت الكبير، بذلك أمر الناظر وليس لأمره رد. وجدوا أنفسهم في مأوى كالحلم. وراحوا يطوفون بالحديقة الغناء والمنظرة الأنيقة، والسلاملك، والبهو، إلى غرف النوم والجلوس والسفرة في الدور الثاني والسطح وما يزدحم بجدرانه وأركانه من بيوت الدجاج وبلاليص الأرانب وأعشاش الحمام. ارتدوا لأول مرة ملابس فاخرة وتنفسوا هواء نقيا، وتشمموا روائح زكية. وراح عرفة يقول: صورة صغرى من البيت الكبير ولكن بلا أسرار!
فتساءل حنش: وسحرك؟ ألا يعد من الأسرار؟
ولاح الذهول في عيني عواطف وهي تقول: لا يحلم أحد بشيء كهذا.
وتغير الثلاثة منظرا ولونا ورائحة. ولكن لم يكد المقام يستقر بهم حتى جاءهم جمع من الرجال ومن النساء، قال أولهم: إنه البواب، وثانيهم: الطاهي، وثالثهم: البستاني، ورابعهم مربي الطيور والأخريات للدار، فعجب عرفة لهم وسألهم: من أذن لكم بالمجيء؟
فقال البواب إنابة عنهم: حضرة الناظر.
وسرعان ما دعي عرفة إلى مقابلة الناظر فذهب من فوره. ولما جلسا جنبا إلى جنب فوق الإيوان بالبهو قال قدري: سنتقابل كثيرا يا عرفة فلا يزعجك استدعائي لك.
الحق قد أقلقه المكان والمجلس والرجل لكنه قال ببشاشة: سيدي الخير والبركة! - سحرك أصل الخير كله، ترى هل أعجبتك الدار؟
فقال عرفة في حياء: هي فوق الأحلام، وبخاصة أحلام قوم فقراء مثلنا، واليوم جاءنا الخدم أشكالا وألوانا!
فتفرس الناظر في وجهه وهو يقول: هم من رجالي أرسلتهم إليك ليخدموك وليحموك! - يحمونني؟!
فقال قدري وهو يضحك: نعم، ألا تعلم أن الحارة لا حديث لها إلا انتقالك إلى بيت الفتوة؟ ويقولون فيما بينهم: هو هو صاحب القوارير السحرية. وأهل الفتوات موتورون كما تعلم، والآخرون يموتون حسدا؛ لذلك كله فأنت في خطر محيط، ونصيحتي إليك ألا تأمن أحدا أو تسير بمفردك أو تبتعد عن دارك!
تجهم وجهه. ما هو إلا سجين يحيط به الغضب والمقت. واستدرك قدري قائلا: لكن لا تخف فإن رجالي حولك، واستمتع بالحياة ما شئت في بيتك وفي بيتي. ماذا تخسر؟ وما وراء ذلك إلا الخلاء والخرائب؟ ولا تنس أن أهل حارتنا يقولون: إن سعد الله قتل بالسلاح الذي قتل به عجاج، وإن الوسيلة التي تسلل منها القاتل إلى بيت سعد الله هي نفس الوسيلة التي تسلل منها إلى البيت الكبير من قبل، فقاتل عجاج وسعد الله والجبلاوي شخص واحد هو عرفة الساحر.
فهتف عرفة متشنجا: هذه لعنة مسلطة على رأسي.
فقال الناظر في هدوء: لا تخف ما دمت في كنفي ومن حولك خدمي.
أيها اللئيم الذي أوقعني في سجنه، ما أردت السحر إلا للقضاء عليك لا لخدمتك، واليوم يمقتني من أحبهم وأود خلاصهم، ولعلي أقتل بيد أحدهم. وقال برجاء: وزع أنصبة الفتوات على الناس يرضوا عنك وعنا!
فضحك قدري هازئا ثم تساءل: ولم إذن كان القضاء على الفتوات؟
وأردف وهو يتفحصه بقسوة: إنك تتلمس سبيلا إلى رضاهم؟! دعك من هذا، وتعود مثلي على مقت الآخرين لك، ولا تنس أن ملاذك الحق هو رضاي عنك.
فقال في قنوط: كنت وما زلت في خدمتك!
ورفع الناظر رأسه نحو السقف كأنما يتسلى بتأمل زخارفه، ثم أعاد رأسه إليه قائلا: أرجو ألا يلهيك متاع الحياة الجديدة عن سحرك!
فهز رأسه بالإيجاب فقال الرجل: وأن تكثر ما استطعت من القوارير السحرية!
فقال عرفة بحذر: لسنا بحاجة إلى أكثر مما لدينا منها.
فدارى الآخر حنقه بابتسامة وقال: أليس من الحكمة أن ندخر منها عددا موفورا؟
لم يجب. ودهمه يأس. وتساءل هل جاء دوره هكذا سريعا؟ وسأله بغتة: سيدي الناظر، إذا كان مقامي يضايقك فاسمح لي بالذهاب إلى غير عودة.
فتظاهر الرجل بالانزعاج وتساءل: ماذا قلت يا رجل؟
فقال وهو يواجهه بنظرة صريحة: أنا أعلم أن حياتي رهن بحاجتك إلي.
فضحك الرجل ضحكة لا مرح فيها ثم قال: لا تظنني أستهين بذكائك، وأعترف لك بسلامة تفكيرك، لكن كيف توهمت أن حاجتي إليك تقف عند القوارير؟ أليس في وسع سحرك أن يصنع أعاجيب أخرى؟
لكن عرفة واصل حديثه الأول قائلا بجفاء: رجالك هم الذين أذاعوا سر ما قدمت لك من خدمات، لست أشك في ذلك، لكن يجب أن تذكر كذلك أن حياتك في حاجة إلي.
قطب الناظر متوعدا لكن عرفة قال دون تردد: أنت اليوم لا فتوة لك، ولا قوة عندك إلا بالقوارير، وما لديك منها لا يغني عنك شيئا، فإذا مت أنا اليوم تبعتني غدا أو بعد غد.
مال الناظر عليه كالوحش فجأة فطوق عنقه بيديه وشد عليه حتى ارتعد جسمه. لكنه سرعان ما خفف من قبضتيه، ثم سحبهما، ثم ابتسم ابتسامة مقيتة وقال: انظر ما كانت ستدفعني إليه سلاطة لسانك! بينما لا توجد لدينا دواع للخصومة، وفي وسعنا أن نستمتع بالنصر وبالحياة في سلام.
تنفس عرفة بعمق ليسترد روحه المذعورة، على حين واصل الآخر حديثه قائلا: لا تخف على حياتك مني، فسأحرص عليها حرصي على الحياة نفسها. تمتع بالدنيا ولا تنس سحرك الذي يجب أن نجني أزاهر ثماره، واعلم بأن من يغدر منا بصاحبه فقد غدر بنفسه!
تجهم وجها عواطف وحنش وهو يعيد على مسامعهما ذلك الحديث في البيت الجديد. وبدا أن ثلاثتهم تعوزهم الطمأنينة الحقة في ظل حياتهم الجديدة. لكنهم تناسوا أسباب قلقهم عند العشاء حول مائدة حفلت بما لذ وطاب من طعام شهي ونبيذ معتق. ولأول مرة ارتفع صوت عرفة وهو يضحك واهتز جذع حنش وهو يقهقه. ومضيا في حياتهما كما شاءت الظروف. كانا يعملان معا في حجرة وراء البهو أعداها للسحر. ودأب عرفة على تسجيل الرموز التي اصطلحا عليها في كراسة لم يعلم بها سواهما أحد. ومرة قال له حنش في أثناء العمل: يا لنا من سجناء!
فقال له محذرا: اخفض من صوتك فإن للحيطان آذانا.
مد حنش بصره نحو الباب في حقد ثم عاد يقول فيما يشبه الهمس: أليس من الممكن أن تصنع سلاحا جديدا نقضي به عليه من حيث لا يدري؟
فقال عرفة بامتعاض: لن يتاح لنا أن نجربه سرا بين هؤلاء الخدم، فهو لن يخفى عليه شيء من أمورنا. وإذا قضينا عليه قضى علينا الموتورون من أهل حارتنا قبل أن ندافع عن أنفسنا حيالهم! - لماذا تعمل إذن بهذا الجد كله؟
فتنهد قائلا: لأنه ليس لي إلا أن أعمل.
وكان يذهب عند الأصيل إلى بيت الناظر فيجالسه ويشاربه، ثم يعود ليلا إلى داره فيجد أن حنش قد هيأ له في الحديقة أو المشربية غرزة صغيرة فيحششان معا. ولم يكن معدودا في الحشاشين من قبل، ولكن التيار جرفه. وطارده الملل. وحتى عواطف أخذت تتلقن تلك الأشياء. كان عليهم أن ينسوا الملل والخوف واليأس وإحساسا محزنا بالذنب، كما كان عليهم أن ينسوا آمال الماضي العريضة. وعلى رغم ذلك فقد كان للرجلين عمل.
أما عواطف، فما كان لها من عمل. كانت تأكل حتى تتخم، وتنام حتى تمل الرقاد، وتقضي الساعات الطويلة في الحديقة مستمتعة بشتى ألوان جمالها. وذكرت أنها باتت تنعم بالحياة التي تحسر عليها أدهم. ما أثقلها من حياة! وكيف تعد مطلبا تذهب النفس حسرات عليه! لعلها كانت تكون كذلك لو لم تكن سجنا ولم يكن ما يحيط بها عداوة وبغضاء. لكنها ستلبث سجنا مطوقا بالكراهية، ولا مهرب منه إلا حول المجمرة! ومرة تأخر عرفة في بيت الناظر فخطر لها أن تنتظره في الحديقة. وتقدمت قافلة الليل وراء حادي القمر وهي جالسة تصغي إلى أنغام الغصون ونقيق الضفادع.
وانتبهت إلى صوت الباب وهو يفتح فاستعدت للقاء القادم، غير أن حفيف ثوب قادما من ناحية البدروم لفت إليه سمعها، ثم رأت من موقفها شبح خادمة على ضوء القمر مضت نحو الباب دون أن تدري بها. وتقدم عرفة كالمترنح فانتحت الخادمة ناحية الجدار الممتد من السلاملك فلحق بها، ثم رأتهما يلتحمان وقد أخفاهما ظل الجدار من ضوء القمر.
109
انفجرت عواطف كما ينبغي لامرأة من حارة الجبلاوي. انقضت على الكائن المتلاحم كاللبؤة فهوت بقبضتها على رأس عرفة فتراجع ذاهلا مترنحا حتى اختل توازنه فوقع، ثم أنشبت أظافرها في عنق الخادمة وانهالت على رأسها نطحا حتى مزق صراخها سكون الليل. وقام عرفة من سقطته لكنه لم يجرؤ على الدنو من المعركة. وجاء حنش مهرولا وفي أعقابه عدد من الخدم، فلما عرف الموقف على حقيقته صرف الخدم، وخلص بين المرأتين بكياسة ولباقة حتى استطاع أن يعود بعواطف إلى البيت وهي تقذف بسيل من السباب والشتائم واللعنات. ومضى عرفة مترنحا إلى المشربية المطلة على الخلاء وارتمى على شلتته وحيدا في الغرزة، ثم مد ساقيه وأسند رأسه إلى جدار وهو في شبه غيبوبة. ولحق به حنش بعد فترة قصيرة فاتخذ مجلسه أمامه حول المجمرة صامتا، ورمقه بنظرة سريعة ثم عاد ينظر إلى الأرض حتى قطع الصمت قائلا: كان لا بد للفضيحة أن تقع.
فرفع إليه عينين خجلتين وقال ممعنا في الهرب: أشعل النار!
ولبثا في المشربية حتى قبيل الصباح. وذهبت الخادمة فحلت محلها أخرى. وبدا لعواطف أن ذلك الجو المحيط بها يغري بزلة بعد أخرى. وأخذت تؤول كل حركة تصدر عن زوجها تأويلا سيئا يتناسب مع ارتيابها حتى انقلبت الحياة جحيما. وفقدت العزاء الوحيد الذي كانت تتسلى به في سجنها المليء بالمخاوف. فلا البيت بيتها ولا الزوج زوجها. سجن بالنهار وماخور بالليل. وأين عرفة الذي أحبته؟ عرفة الذي تحدى بالزواج منها السنطوري، والذي عرض نفسه للهلاك مرات في سبيل الحارة حتى ظنته رجلا من رجال الرباب، ما هو اليوم إلا وغد، مثل قدري ومثلما كان سعد الله. والحياة إلى جانبه عذاب مشتعل وخوف مؤرق.
وعاد عرفة ليلة من بيت الناظر فلم يجد لعواطف أثرا. وشهد البواب بأنه رآها تغادر البيت أول الليل ثم لم تعد. وتساءل عرفة ورائحة الخمر تتطاير مع أنفاسه: أين ذهبت يا ترى؟
فقال حنش بإشفاق: إن تكن في الحارة فهي عند جارتها القديمة أم زنفل بائعة المفتقة.
فقال عرفة غاضبا: المرأة لا تؤخذ باللين، هذه حكمة أهل حارتنا، فلأهملها حتى تعود بنفسها ذليلة!
لكنها لم ترجع، وانقضت عشرة أيام، فقرر عرفة أن يذهب ليلا إلى أم زنفل متوخيا ألا يشعر بذهابه أحد. وفي الميعاد المضروب تسلل من البيت متبوعا بحنش. وما كادا يقطعان خطوات حتى سمعا أقداما تتبعهما فالتفتا وراءهما فرأيا خادمين من خدم البيت، فقال عرفة لهما: ارجعا إلى البيت.
فأجابه أحدهما: نحن نحرسك بأمر حضرة الناظر.
تميز غيظا لكنه لم يعقب. وساروا نحو ربع قديم في حي قاسم، وصعدوا إلى طابقه الأخير حيث توجد حجرة أم زنفل. طرق عرفة الباب مرات حتى فتح عن عواطف نفسها بوجه يعلوه النعاس. تبينت وجهه على ضوء مصباح صغير بيدها فقطبت متراجعة، فتبعها رادا وراءه الباب. واستيقظت أم زنفل في ركن الحجرة وراحت تنظر بذهول نحو القادم. أما عواطف فقالت بحدة: ماذا جاء بك؟ ماذا تريد؟ ارجع إلى بيتك المبارك عليك.
وهمست أم زنفل بانزعاج وهي تحدق في وجهه: عرفة الساحر!
وقال عرفة لزوجته دون أن يلقي بالا إلى المرأة المنزعجة: اعقلي وتعالي معي.
فقالت بالحدة نفسها: لن أعود إلى سجنك، ولن أفرط في راحة البال التي أجدها في هذه الحجرة. - لكنك زوجتي.
فارتفع صوتها وهي تقول: زوجاتك هناك بالخير والبركة!
وقالت أم زنفل في نبرة احتجاج: اتركها لنومها وعد في الصباح.
فرماها بنظرة قاسية دون أن يوجه لها كلمة واحدة، ثم نظر إلى زوجته قائلا: كل رجل وله زلة!
فهتفت: أنت نفسك زلة ولا كل الزلات.
فمال نحوها قليلا وقال محركا ألحان الرقة في أوتار صوته: عواطف، أنا لا يمكن أن أستغني عنك. - لكني أنا استغنيت!
فتساءل بامتعاض: تبيعينني لغلطة أفلتت وأنا سكران؟
فهتفت بتشنج: لا تعتذر بالسكر، حياتك كلها أخطاء، وستحتاج إلى عشرات الأعذار لتبررها، ولن أجني من ورائها إلا المتاعب والعذاب. - هي على أي حال أفضل من الحياة في هذه الحجرة!
فابتسمت ابتسامة مريرة ساخرة وتساءلت: من يدري؟ خبرني كيف تركك السجانون لتجيء إلي؟ - عواطف!
فقالت بإصرار: لن أعود إلى بيت لا عمل لي فيه إلا التثاؤب ومعاشرة عشيقات زوجي الساحر العظيم.
وعبثا حاول أن يثنيها عن إصرارها. قابلت لينه بالعناد، وغضبه بالغضب، وسبه بالسب، فارتد عنها يائسا، ثم غادر المكان متبوعا بصاحبه والخادمين. وسأله حنش: ماذا أنت فاعل؟
فقال بامتعاض وفتور: ما نفعله كل يوم.
وسأله قدري الناظر: هل من جديد عن زوجك؟
فأجاب وهو يتخذ مجلسه إلى جانبه: عنيدة كالبغل - ربنا يحفظ مقامك!
فقال الناظر باستهانة: لا تشغل بالك بامرأة عندك خير منها!
وجعل يتفحص عرفة باهتمام، ثم سأله: هل تعرف امرأتك شيئا من أسرار عملك؟
فبادره عرفة بنظرة مريبة ثم قال: السحر لا يعرفه إلا ساحر! - أخشى أن ... - لا تخش شيئا لا ظل له من الوجود.
وامتد الصمت ثواني، فعاد يقول في جزع: لن تمتد لها يد بسوء وأنا على قيد الحياة!
فكظم الناظر غيظه، وابتسم، وأشار إلى الكأسين المترعتين داعيا وهو يقول: من قال إن يدا ستمتد إليها بسوء؟!
110
ولما توثقت الألفة بين قدري وعرفة، جعل يدعوه إلى سهراته الخاصة التي تبدأ عادة عند منتصف الليل. شهد عرفة سهرة عجيبة في البهو الكبير، حفلت بكل ما لذ وطاب من مأكل ومشرب، ورقصت فيها نساء جميلات وهن عرايا حتى كاد عرفة أن يجن من الشراب والمنظر. في تلك السهرة رأى عرفة الناظر يعربد بلا حدود، مثل وحش مجنون. ودعاه إلى سهرة في الحديقة، في خميلة يحدق بها مجرى ماء مضاء الوجه بنور القمر. وكان بين أيديهما فاكهة ونبيذ، وأمامهما مليحتان: إحداهما لخدمة المجمرة، والأخرى لخدمة الجوزة. وهب نسيم الليل يحمل عرف الأزهار ونغم عود وأصواتا تغني:
يا عود قرنفل في الجنينة منعنع
يعجب الجدعان الحشاشة المجدع.
كانت ليلة بدرية يلوح قمرها مكتملا إذا مال غصن التوت الريان مع النسيم، أو يبدو أعينا من الضياء خلال شبكة من الأغصان والأوراق إذا رجع الغصن إلى مستقره. وسرت من يد المليحة والجوزة نشوة إلى رأس عرفة فدار مع الأفلاك، وقال: رحم الله أدهم.
فقال الناظر باسما: ورحم الله إدريس، ماذا ذكرك به؟ - مجلسنا هذا! - كان أدهم يحب الأحلام، ولا يعرف منها إلا ما أدخله الجبلاوي في رأسه.
ثم وهو يضحك: الجبلاوي الذي أرحته أنت من عذاب الكبر!
انقبض قلب عرفة وانطفأت نشوته فغمغم محزونا: لم أقتل في حياتي إلا فتوة مجرما. - وخادم الجبلاوي؟ - على رغمي قتلته.
فقال قدري هازئا: أنت جبان يا عرفة.
فهرب إلى القمر ينظر إليه خلال الغصون تاركا الغرزة لأنغام العود. ثم جعل يسترق النظر إلى يد المليحة وهي ترص الحجر. وإذا بالناظر يهتف به: أين أنت يا ابن المذهول؟!
فالتفت نحوه باسما وهو يسأل: أتسهر وحدك يا حضرة الناظر؟ - لا أحد هنا يليق بمساهرتي. - وحتى أنا لا سمير لي إلا حنش!
فقال قدري باستهانة: عند درجة من السطول لا يهمك أن تكون وحدك.
تردد عرفة قليلا ثم تساءل: ألسنا في سجن يا حضرة الناظر؟
فقال الآخر بحدة: ماذا تريد ما دمنا مطوقين بأناس يمقتوننا؟!
وذكر كلمات عواطف وكيف فضلت مسكن أم زنفل على بيته، فقال متنهدا: يا لها من لعنة! - احذر أن تفسد علينا صفونا.
فتناول الجوزة وهو يقول: لتصف الحياة إلى الأبد.
فضحك قدري قائلا: إلى الأبد؟ حسبنا أن نضمن نفحة من نفحات الشباب مدى عمرنا بفضل سحرك!
فملأ صدره من عبير الحديقة المتطيب بنداوة الليل العميق ثم قال: من حسن الحظ أن عرفة لا يخلو من فوائد!
ترك الناظر الجوزة ليد المليحة وهو يزفر دخانا كثيفا بدا مفضضا في ضوء القمر ثم قال بحسرة: لم يدركنا الهرم؟ ألذ الطعام نأكله وأبهج الشراب نشربه وأطيب العيش نهنأ به، لكن المشيب يزحف في أوانه لا يرده شيء كأنه الشمس أو القمر. - لكن أقراص عرفة تحيل برودة الشيخوخة حرارة! - ثمة شيء تقف أمامه عاجزا! - ما هو يا سيدي؟
بدا الناظر حزينا في ضوء القمر، وتساءل: ما أبغض الأشياء إلى قلبك؟
لعله السجن الذي وضع فيه، لعلها الكراهية المحدقة به، لعله الهدف الذي تنكب عنه، لكنه قال: ضياع الشباب! - كلا، لا خوف عليك من ذلك. - كيف وزوجي غاضبة؟ - سيجدن دائما سببا أو آخر للغضب.
واشتد هبوب النسيم مرة فارتفع حفيف الغصون وتوهجت الجمرات في المجمرة. وتساءل قدري: لماذا نموت يا عرفة؟
فرمقه بكآبة ولم ينبس فأردف الآخر: حتى الجبلاوي مات.
كأن إبرة انغرزت في قلبه، لكنه قال: كلنا أموات وأبناء أموات.
فقال في ضجر: لست في حاجة إلى تذكيري بما قلت. - ليطل عمرك يا سيدي. - طال أو قصر فالنهاية هي تلك الحفرة التي تعشقها الديدان.
فقال عرفة برقة: لا تدع الأفكار تكدر صفوك. - إنها لا تفارقني. الموت .. الموت .. دائما الموت، يجيء في أي لحظة، ولأتفه الأسباب، أو بلا سبب على الإطلاق، أين الجبلاوي؟ أين الذين تتغنى بأعمالهم الرباب؟ هذا قضاء ما كان ينبغي أن يكون.
ولحظه عرفة فرأى وجهه شاحبا وعينيه تنطقان بالفزع، فبدا التناقض صارخا بين حاله وبين مجلسه، فداخله قلق وقال برقة: المهم أن تكون الحياة كما ينبغي.
فلوح بيده غاضبا وقال بحدة نعت الصفو نعيا: الحياة كما ينبغي وأحسن، لا ينقصها شيء، حتى الشباب تعيده الأقراص، ولكن ما جدوى ذلك كله والموت يتبعنا كالظل؟ كيف أنساه وهو يذكرني بنفسه كل ساعة؟
سر لعذابه، لكنه سرعان ما سخر من مشاعره، وتابع يد الحسناء بشوق وحنان، وتساءل في سره: من ذا يضمن لي أن أرى القمر ليلة أخرى؟ ثم قال: لعلنا في حاجة إلى مزيد من الشراب! - سنفيق في الصباح.
وجد نحوه ازدراء. وظن أن ثمة فرصة متاحة فأراد أن يخطفها فقال: لولا حسد المحرومين من حولنا لتغير مذاق الحياة في أفواهنا!
فضحك الناظر ضحكة ساخرة وقال: قول بالعجائز أجدر! هبنا استطعنا أن نرفع حياة أهل حارتنا إلى مستوى حياتنا فهل يقلع الموت عن اصطيادنا؟
فهز عرفة رأسه في تسليم حتى خفت حدة الرجل، ثم قال: الموت يكثر حيث يكثر الفقر والتعاسة وسوء الحال. - وحيث لا يوجد منها شيء يا أحمق.
فقال وهو يبتسم: نعم، لأنه معد مثل بعض الأمراض!
فضحك الناظر قائلا: هذا أغرب رأي تدافع به عن عجزك.
فقال متشجعا بضحكة: نحن لا ندري عنه شيئا فلعله أن يكون كذلك، وإذا حسنت أحوال الناس قل شره؛ فازدادت الحياة قيمة وشعر كل سعيد بضرورة مكافحته حرصا على الحياة السعيدة المتاحة. - ولن يجدي ذلك فتيلا. - بل سيجمع الناس السحرة ليتوفروا لمقاومة الموت، بل سيعمل بالسحر كل قادر، هنالك يهدد الموت الموت.
وندت عن الناظر ضحكة عالية، ثم أغمض عينيه مستسلما للحلم. وتناول عرفة الجوزة وشد نفسا طويلا حتى اشتعل الحجر. وعاد العود بعد انقطاع يترنم وغنى الصوت الحنون «طول يا ليل» فقال قدري: أنت حشاش يا عرفة لا ساحر.
فقال عرفة ببساطة: بذلك نقتل الموت. - لم لا تعمل أنت وحدك؟ - إني أعمل كل يوم، ولكن ما أعجزني وحدي أمامه!
واستمع الناظر إلى الغناء مليا دون حماس ثم سأله: آه لو تنجح يا عرفة! أي شيء تفعله لو نجحت؟!
فقال وكأنما أفلت منه القول: أرد إلى الحياة الجبلاوي.
فلوى الرجل شفتيه بفتور وقال: هذا شأن يعنيك بصفتك قاتله!
فقطب عرفة متألما وغمغم بصوت غير مسموع: آه لو تنجح يا عرفة!
111
وعند الفجر غادر عرفة بيت الناظر. كان من السطل في عالم مسحور غائم المسموعات والمرئيات ولا تكاد تحمله قدماه. مضى ناحية بيته في حارة غارقة في النوم مفروشة الأديم بضوء القمر. وعند منتصف المسافة بين بيت الناظر وبيته - أمام باب البيت الكبير - اعترضه شبح لم يدر من أين أتى، وقال له فيما يشبه الهمس: صباح الخير يا معلم عرفة!
دهمه خوف لعله من المفاجأة انبعث، لكن تابعيه انقضا على الشبح وأمسكا به. وتفرس فيه فوضح لعينيه على رغم ذهولهما أنه شبح امرأة سوداء مرتدية جلبابا أسود يلفها من العنق حتى القدمين. أمر خادميه أن يتركاها فتركاها ثم سألها: ما لك يا ولية؟
فقالت بصوت أكد أنها سوداء: أريد أن أحدثك على انفراد. - لمه؟ - مكروبة تشكو إليك كربها!
فقال بضجر وهو يهم بالذهاب: الله يحنن عليك.
فقالت بضراعة نافذة: وحياة جدك الغالي إلا ما سمحت لي.
فحدجها بنظرة غاضبة لكنه لم يحول عن وجهها عينيه! تساءل: أين؟ ومتى رأى ذلك الوجه؟! وإذا بقلبه يخفق خفقة أطارت السطل من رأسه. هذا الوجه الذي رآه على عتبة حجرة الجبلاوي وهو مختف وراء المقعد في الليلة المشئومة! وهذه هي خادمة الجبلاوي التي كانت تشاركه حجرته! وركبه خوف تخلخلت له مفاصله فحملق في وجهها فزعا. وسأله أحد الخادمين: نطردها؟
فخاطبهما قائلا: اذهبا إلى باب البيت وانتظرا.
انتظر حتى ذهبا، فخلا لهما المكان أمام البيت الكبير، وراح يتفرس في وجهها الأسود الناحل وجبينها الضيق العالي وذقنها المدبب والتجاعيد المحدقة بفيها وجبينها. وقال يطمئن نفسه: إنها من المؤكد لم تره تلك الليلة، ولكن أين كانت منذ وفاة الجبلاوي؟ وماذا جاء بها؟! وسألها: نعم يا ستي؟
فقالت بهدوء: لا شكوى لي، وإنما أردت أن أخلو إليك لأنفذ وصية! - أي وصية؟!
فمال رأسها نحوه قليلا وهي تقول: كنت خادمة الجبلاوي وقد مات بين يدي! - أنت؟! - نعم أنا فصدقني.
ولم يكن في حاجة إلى دليل فسألها بصوت مضطرب: كيف مات جدنا؟
فقالت المرأة بنبرة حزينة: اشتد به التأثر عقب اكتشاف جثة خادمه، وبغتة احتضر فسارعت إليه لأسند ظهره المختلج! ذلك الجبار الذي دان له الخلاء!
زفر عرفة بصوت حار كدر سكون الليل، وانخفض رأسه في حزن كأنما يداريه عن ضوء القمر، وإذا بالمرأة ترجع إلى حديثها الأول قائلة: جئتك تنفيذا لوصيته.
فرفع رأسه إليها مرتعشا، متسائلا: ماذا عندك؟ تكلمي.
فقالت بصوت هادئ كنور القمر: قال لي قبل صعود السر الإلهي: «اذهبي إلى عرفة الساحر وأبلغيه عني أن جده مات وهو راض عنه.»
فانتفض عرفة كالملدوغ وهتف بها: يا دجالة! ماذا تمكرين؟! - سيدي، حفظتك العناية. - خبريني أي لعبة تلعبين؟
فقالت ببراءة: لا شيء غير ما قلت، والله شهيد.
فسألها بارتياب: ماذا تعرفين عن القاتل؟ - لا أدري شيئا يا سيدي، منذ وفاة سيدي وأنا طريحة الفراش، وأول ما فعلت بعد شفائي أن قصدتك. - ماذا قال لك؟ - اذهبي إلى عرفة الساحر وأبلغيه عني أن جده مات وهو راض عنه.
فقال عرفة بتحد: كاذبة! أنت تعرفين يا ماكرة أنني ... (ثم مغيرا نبرته) كيف عرفت بمكاني؟! - سألت عنك أول ما جئت، فقالوا لي: إنك عند الناظر فلبثت أنتظر. - ألم يقولوا لك إنني قاتل الجبلاوي؟!
فقالت بارتياع: ما قتل الجبلاوي أحد! وما كان في وسع أحد أن يقتله. - بل قتله الذي قتل خادمه.
فهتفت بغضب: كذب وافتراء، لقد مات الرجل بين يدي.
وجد عرفة رغبة في البكاء لكنه لم يسفح دمعة واحدة، ورنا إلى المرأة بطرف منكسر، فقالت ببساطة: فوتك بعافية.
فسألها بصوت غليظ متحشرج كأنه صوت ضميره المعذب: أتقسمين على أنك صادقة فيما قلت؟
فقالت بوضوح: أقسم بربي وهو شهيد.
ومضت وألوان الفجر تخضب الأفق فأتبعها ناظريه حتى اختفت ثم ذهب. وفي حجرة نومه سقط مغشيا عليه. وأفاق بعد دقائق فوجد نفسه متعبا لحد الموت فنام، لكن نومه لم يستمر أكثر من ساعتين ثم أيقظه القلق الباطني. ونادى حنش فجاءه الرجل، فقص عليه قصة المرأة والآخر يحملق في وجهه كالمنزعج، فلما فرغ من قصته ضحك حنش قائلا: هنيئا لك سطل الأمس.
فغضب عرفة وهتف به: لم يكن ما رأيت سطلا، ولكن حقيقة لا شك فيها.
فقال حنش برجاء: نم، أنت في حاجة إلى نوم عميق. - ألا تصدقني؟ - كلا طبعا، وإذا نمت كما أود واستيقظت بعد حين فلن تعود إلى هذه القصة. - ولم لا تصدقني؟
فضحك قائلا: كنت في النافذة وأنت تغادر بيت الناظر فرأيتك وأنت تقطع عرض الحارة نحو بيتك. وقفت قليلا أمام باب البيت الكبير ثم واصلت السير يتبعك خادماك!
فوثب عرفة واقفا وهو يقول بظفر: إلي بالخادمين.
فأشار حنش إليه محذرا ثم قال : كلا، وإلا شكا في عقلك.
فقال بإصرار: سأستشهد بهما على مسمع منك.
فقال حنش متوسلا: لم يبق لنا إلا شيء من الكرامة حيال الخدم فلا تبدده.
فلاحت في عيني عرفة نظرة جنونية، وراح يقول ذاهلا: لست مجنونا، وليس هو بالسطل! مات الجبلاوي وهو عني راض.
فقال حنش بعطف: فليكن، ولكن لا تدع أحدا من الخدم. - إذا وقعت كارثة فستقع أول ما تقع فوق رأسك.
فقال بحلم: لا سمح الله، فلندع المرأة لتحدثنا بنفسها، أين ذهبت؟
فقطب متذكرا، ثم قال بإشفاق: نسيت أن أسألها عن مسكنها! - لو كان حقيقة ما رأيت لما تركتها تذهب!
فهتف عرفة بإصرار: كان حقيقة، لست مجنونا، وقد مات الجبلاوي وهو عني راض.
فقال حنش بعطف: لا تجهد نفسك فأنت في حاجة إلى الراحة.
واقترب منه فربت رأسه، وبحنو دفعه نحو الفراش، وما زال به حتى أرقده. أغمض الرجل عينيه إعياء، وما لبث أن نام نوما عميقا.
112
قال عرفة بهدوء وتصميم: قررت أن أهرب.
فدهش حنش دهشة فوق ما يطيق حتى توقفت يداه عن العمل. ونظر بحذر فيما حوله، وعلى الرغم من أن حجرة العمل كانت مغلقة فإنه بدا خائفا. ولم يكترث عرفة لدهشته، ولم تكف يداه عن العمل، وراح يقول: هذا السجن لم يعد يمدني إلا بأفكار الموت، وكأن الطرب والشراب والراقصات ليست إلا ألحان الموت، وكأنني أشم رائحة القبور في أصص الأزهار.
فقال حنش بقلق: لكن الموت نفسه ينتظرنا في الحارة. - سنهرب بعيدا عن الحارة.
ثم وهو ينظر في عيني حنش: وسنعود يوما لننتصر. - إذا استطعنا الهرب! - اطمأن لنا الأوغاد فلن يعجزنا الهرب.
وواصلا العمل مليا في صمت، ثم تساءل عرفة: أليس هذا ما كنت تود؟!
فتمتم حنش في حياء: كدت أنسى .. ولكن خبرني ما الذي دعاك اليوم إلى هذا القرار؟
ابتسم عرفة وهو يقول: إن جدي أعلن رضاءه عني على رغم اقتحامي بيته وقتلي خادمه.
فعاودت الدهشة وجه حنش وهو يتساءل: أتغامر بحياتك لحلم رأيته في السطل؟ - سمه بما تشاء، لكني واثق من أنه مات وهو عني راض. لم يغضبه الاقتحام ولا القتل، لكن لو اطلع على حياتي الراهنة لما وسعته الدنيا غضبا.
ثم بصوت خافت: لذلك نبهني بلطف إلى سابق رضاه!
فقال حنش وهو يهز رأسه عجبا: لم يكن من عادتك أن تتحدث عن جدنا باحترام. - كان ذلك في الزمان الأول وأنا كثير الارتياب، أما وقد مات فحق للميت الاحترام. - الله يرحمه. - وهيهات أن أنسى أنني المتسبب في موته؛ لذلك فعلي أن أعيده إلى الحياة إذا استطعت، وإن تيسر لي النجاح فلن نعرف الموت.
فرمقه حنش بأسى وقال: لم يسعفك السحر حتى اليوم إلا بأقراص منشطة وقارورة مهلكة! - نحن نعرف من أين يبدأ السحر؟ لكن لا نستطيع أن نتخيل أين ينتهي؟
وأجال بصره في الحجرة قائلا: سنتلف كل شيء إلا الكراسة يا حنش، فهي كنز للأسرار، وسأجعلها فوق صدري، ولن نجد الهرب عسيرا كما تتوهم.
ومضى عرفة كعادته مساء إلى بيت الناظر. وقبيل الفجر عاد إلى بيته. وجد حنش مستيقظا في انتظاره فلبثا في حجرة النوم ساعة حتى يطمئنا إلى نوم الخدم. وتسللا معا إلى السلاملك في خفة وحذر. وكان شخير الخادم النائم في شرفة السلاملك يتصاعد في انتظام، فهبطا السلم، واتجها نحو الباب. ومال حنش إلى فراش البواب فرفع بيده هراوة وهوى بها عليه لكنها أصابت جسما قطنيا فارغا وأحدثت صوتا مزعجا في سكون الليل. ثبت لهما أن البواب ليس في فراشه. وخافا أن يكون الصوت قد أيقظ أحدا فلبثا وراء الباب بقلب خافق. ورفع عرفة المزلاج وفتح الباب على مهل ثم خرج وحنش في أثره. وردا الباب وسارا لصق الجدران نحو ربع أم زنفل يخترقان ظلمة صامتة. واعترضهما في منتصف الحارة كلب رابض فوقف مستطلعا، وجرى نحوهما متشمما، وتبعهما خطوات ثم توقف وهو يتثاءب. ولما بلغا مدخل الربع قال عرفة همسا: ستنتظرني هنا، وإذا رابك شيء فصفر لي واهرب إلى سوق المقطم.
دخل عرفة الربع فاجتاز الدهليز إلى السلم ورقي فيه حتى غرفة أم زنفل، ونقر على الباب حتى سمع صوت زوجته وهي تسأل عن الطارق فقال بسرعة وحرارة: أنا عرفة، افتحي يا عواطف.
ففتحت الباب فطالعه وجهها الشاحب من أثر النوم على ضوء مصباح صغير بيدها. قال مباشرة: اتبعيني، سنهرب معا.
وقفت تنظر إليه في ذهول على حين ظهرت وراء كتفها أم زنفل، فقال: سنهرب من الحارة، سنعود كما كنا، أسرعي.
ترددت قليلا، ثم قالت بنبرة لم تخل من غيظ: ما الذي ذكرك بي؟
فقال بلهفة ولهوجة: دعي الملام لحينه فللدقيقة الآن ثمنها!
وإذا بصفير حنش ينطلق وضجة تترامى فهتف في فزع: الكلاب! ضاعت الفرصة يا عواطف.
وثب إلى رأس السلم فرأى في فناء الربع أضواء وأشباحا فارتد يائسا، وقالت عواطف: ادخل.
فقالت أم زنفل بخشونة دفاعا عن نفسها: لا تدخل. - وما فائدة الدخول؟
وأشار إلى نافذة صغيرة بدهليز المسكن وسأل زوجته بسرعة: علام تطل؟ - المنور.
فاستخرج الكراسة من فوق صدره واندفع نحو النافذة منحيا عن سبيله أم زنفل، ثم رمى بها. وغادر المسكن مسرعا فأغلق الباب وراءه. وصعد درجات السلم القليلة المؤدية إلى السطح وثبا. أطل من فوق السور على الحارة فرآها تعج بالأشباح والمشاعل. وترامت إلى أذنيه ضجة الصاعدين إليه. وجرى إلى السور الملاصق للربع المجاور من ناحية الجمالية فرأى أشباحا تسبقه إليه وراء حامل مشعل. ارتد إلى السور الآخر الملاصق لأحد ربوع الرفاعية فرأى من خلال باب سطحه أنوار مشاعل قادمة! وتملكه يأس خانق. وخيل إليه أنه سمع صراخ أم زنفل. ترى هل اقتحموا مسكنها؟ هل قبضوا على عواطف؟ وإذا بصوت عند باب السطح يصيح به: سلم نفسك يا عرفة!
وقف مستسلما دون أن ينبس بكلمة. لم يتقدم منه أحد لكن الصوت قال: إذا رميت بزجاجة انهالت عليك الزجاجات!
فقال: لا شيء معي.
انقضوا عليه فطوقوه. ورأى بينهم يونس بواب الناظر الذي اقترب منه وصاح به: يا مجرم .. يا لئيم .. يا كافرا بالنعمة.
وفي الحارة رأى رجلين يسوقان أمامهما عواطف فقال بتوسل حار: دعوها فلا شأن لها بي.
لكن لطمة الموت هوت على صدغه فأسكتته.
113
أمام الناظر الغاضب وقف عرفة وعواطف مقيدي اليدين إلى ظهريهما. انهال الناظر لطما على وجه عرفة حتى كلت يداه وصاح به: كنت تنادمني وأنت مبيت الغدر يا ابن الزانية!
فقالت عواطف بأعين دامعة: ما جاءني إلا ليصالحني! - فبصق الناظر على وجهها وصاح: اخرسي يا مجرمة.
فقال عرفة: إنها بريئة ولا ضلع لها في شيء. - بل شريكتك في قتل الجبلاوي وسائر جرائمك.
ثم وهو يهدر: أردت الهرب وسأهربك من الدنيا كلها.
ونادى رجاله فجاءوا بجوالين. دفعوا عواطف؛ فسقطت على وجهها فسرعان ما قيدوا قدميها وأدخلوها في الجوال وهي تصرخ ثم ربطوا فوهته ربطا محكما. وصاح عرفة بانفعال جنوني: اقتلنا كما تشاء، سيقتلك الحاقدون غدا.
فضحك الناظر ضحكة باردة وقال: عندي من القوارير ما يحمينا إلى الأبد.
فصاح عرفة: حنش هرب، بكل الأسرار هرب، وسوف يعود يوما بقوة لا تقاوم فيخلص الحارة من شرك.
فركله في بطنه فسقط يتلوى. وانقض عليه الرجال ففعلوا به ما فعلوه بزوجته ثم حملوا الجوالين خارجا، ومضوا بهما نحو الخلاء. وما لبثت عواطف أن أغمي عليها، ولكن بقي هو يعاني العذاب. إلى أين يسيرون بهما؟ وماذا أعدوا لهما من ألوان الموت؟ أيقتلونهما ضربا بالنبابيت؟ بالأحجار؟ بالنار؟ أم رميا من فوق الجبل؟ يا لهذه الدقائق الأخيرة من الحياة المشحونة بأفظع الآلام! حتى السحر لا يستطيع أن يجد لهذا المأزق الخانق مخرجا. إن رأسه المتورم من لطمات الناظر يرقد أسفل الجوال فيكاد أن يختنق. ولم يعد له من أمل في الراحة إلا بالموت. سيموت وتموت الآمال، وربما عاش طويلا ذو القهقهة الباردة. وسيشمت به الذين ود لهم الخلاص. ولن يدري أحد ماذا سيفعل حنش. والرجال الذين يحملونه إلى الموت صامتون، لا تند عن أحدهم كلمة، فليس ثمة إلا الظلام، وليس وراء الظلام إلا الموت، وخوفا من هذا الموت انطوى تحت جناح الناظر فخسر كل شيء وجاء الموت. الموت الذي يقتل الحياة بالخوف حتى قبل أن يجيء. لو رد إلى الحياة لصاح بكل رجل: لا تخف .. الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة. ولستم يا أهل حارتنا أحياء ولن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت.
وقال رجل من القتلة: هنا!
فقال آخر من القتلة معترضا: هناك الأرض طرية.
ارتعد قلبه على الرغم من أنه لم يفهم للكلام معنى، لكنها كانت لغة الموت على أي حال. واشتد به العذاب المتوقع حتى أوشك أن يصيح بهم أن اقتلوني، ولكنه لم يفعل. وفجأة هوى الجوال إلى الأرض فشهق وارتطم رأسه بالأرض فهصر الألم عنقه وعموده الفقري. وانتظر بعد لحظة وأخرى انقضاض النبابيت أو ما هو أفظع. ولعن الحياة كلها من أجل الشر حليف الموت. وسمع يونس وهو يقول: احفروا بسرعة حتى نعود قبل الصبح.
لم يحفرون القبر قبل القتل؟ وخيل إليه أنه يحمل المقطم فوق صدره. وسمع أنينا ما لبث أن ميز فيه نبرة عواطف فندت عن جسده المقيد حركة عنيفة. ثم ملأت دقات الحفر أذنيه! فعجب من غلظة أكباد الرجال. وإذا بيونس يقول: سيلقى بكما إلى قعر الحفرة ثم يهال عليكما التراب دون أن يمسكما إنسان بسوء!
فصرخت عواطف على رغم إعيائها، وهتفت أعماقه بلغة لم يدرها أحد. ورفعتهما أيد شديدة، ثم رمت بهما إلى قعر الحفرة، فانهال التراب، وارتفع الغبار في الغسق.
114
انتشر خبر عرفة في الحارة. لم يعرف أحد أسباب مصرعه الحقيقية، ولكن بالتخمين عرفوا أنه أغضب سيده فدفعه هذا إلى مصيره المحتوم. وذاع حينا ما أن عرفة قتل بنفس السلاح السحري الذي قتل به سعد الله والجبلاوي. وفرح الجميع لقتله على رغم مقتهم للناظر، وكثر الشامتون من أهل الفتوات وأنصارهم، فرحوا لمقتل الرجل الذي قتل جدهم المبارك وأعطى ناظرهم الظالم سلاحا رهيبا يستذلهم به إلى الأبد! وبدا المستقبل قاتما أو أشد قتامة مما كان بعد أن تركزت السلطة في يد واحدة قاسية، واختفى الأمل في أن ينشب بين الرجلين نزاع فيفضي إلى إضعافهما معا ولجوء أحدهما إلى أهل الحارة. وبدا أنه لم يبق لهم إلا الخضوع، وأن يعتبروا الوقف وشروطه وكلمات جبل ورفاعة وقاسم أحلاما ضائعة قد تصلح ألحانا للرباب لا للمعاملة في هذه الحياة.
ويوما اعترض رجل أم زنفل وهي ذاهبة إلى الدراسة فحياها قائلا: مساء الخير يا أم زنفل.
فرمقته بنظرة متفحصة فما عتمت أن قالت بدهشة: حنش؟!
فاقترب منها باسما ثم سألها: ألم يترك المرحوم شيئا في مسكنك ليلة القبض عليه؟
فقالت بلهجة من يقصد دفع الشبهة عن نفسه: لم يترك شيئا! رأيته يرمي بأوراق إلى المنور، فتسللت إليه في نهار اليوم التالي فعثرت بين القاذورات على كراسة لا فايدة منها ولا عايدة فتركتها ورجعت.
التمعت عينا حنش بنور عجيب وقال برجاء: مدي لي يدك حتى أعثر على الكراسة.
فأجفلت العجوز وهي تهتف: ابعدوا عني، لولا رحمة ربنا لهلكت في المرة الماضية.
فأودع يدها قطعة من النقود حتى سكن فزعها، وواعدها آخر الليل حين تنام العيون. وفي الموعد المضروب تسلل بإرشادها إلى أسفل المنور. وأشعل شمعة، وجلس القرفصاء بين أكوام الزبالة وراح يفتش على كراسة عرفة. فرز الأكوام ورقة ورقة وخرقة خرقة، وتخللت أصابعه الرماد والتراب وبقايا المعسل وفتات الأطعمة المنتنة، لكنه لم يعثر على ضالته. وصعد إلى أم زنفل فقال لها بيأس غاضب: لم أجد شيئا.
فهتفت المرأة ساخطة: لا شأن لي بكم! إنكم تجيئون ثم تتبعكم المصائب. - حلمك يا أمي! - لم تترك لنا الأيام حلما ولا عقلا، خبرني ماذا يهمك في تلك الكراسة؟
فتردد حنش قليلا ثم قال: إنها كراسة عرفة. - عرفة! الله يسامحه. قتل الجبلاوي، ثم أعطى الناظر سحره وذهب.
فقال حنش بحزن: كان من أولاد حارتنا الطيبين لكن الحظ خانه، كان يريد لكم ما أراد جبل وعرفة وقاسم، بل وأحسن مما أرادوا.
فحدجته المرأة بنظرة ارتياب، ثم قالت بغية التخلص منه: لعل الزبال أخذ الزبالة التي تركت الكراسة فيها، ففتش عنها في مستوقد الصالحية.
وذهب حنش إلى مستوقد الصالحية وسأل عن زبال حارة الجبلاوي، ثم سأله عن زبالة الحارة، فسأله الرجل: تبحث عن شيء ضائع! ما هو؟ - كراسة!
فلاحت في عين الزبال نظرة مريبة، لكنه قال وهو يشير إلى ركن في الحجرة الملاصقة للحمام: أنت وحظك، فإما تجدها عندك وإما تكون في النار.
ومضى حنش يفتش في الزبالة بصبر وأمل. لم يبق له من أمل في الحياة إلا تلك الكراسة. هي أمله وأمل الحارة. قتل عرفة السيئ الحظ مغلوبا على أمره، لم يترك وراءه إلا الشر وسوء السمعة، فهذه الكراسة جديرة بإصلاح أخطائه والقضاء على أعدائه وبعث الآمال في الحارة المتجهمة. وإذا بالزبال يسأله: ألم تعثر على مطلوبك؟ - أمهلني ربنا يكرمك.
فهرش الرجل إبطيه متسائلا: ما أهمية الكراسة؟
فقال حنش دفعا للقلق الذي انتابه: فيها حسابات المحل وستراها بنفسك!
وواصل بحثه على رغم تزايد مخاوفه، حتى سمع صوتا غير غريب عنه يقول: أين قدرة الفول يا متولي؟
ارتعدت فرائصه لدى سماع صوت عم شنكل بياع الفول بالحارة. لم يلتفت نحوه ولكنه تساءل في جزع: ترى هل لمحه الرجل؟ وهل يحسن به أن يهرب؟ وزادت سرعة يديه في التفتيش حتى بدا كالأرنب الذي يحفر مأوى له.
وعاد عم شنكل إلى الحارة ليقول لكل من يصادفه: إنه رأى حنش رفيق عرفة في مستوقد الصالحية مكبا على التفتيش في الزبالة عن كراسة كما أخبره الزبال. وما إن بلغ الخبر بيت الناظر حتى ذهبت قوة من الخدم إلى المستوقد، ولكنها لم تجد لحنش أثرا. ولما سئل الزبال قال: إنه ذهب لبعض شأنه، ولما عاد كان حنش قد ذهب، ولم يدر إن كان عثر على ضالته أم لا.
ولا يدري أحد كيف أخذ الناس يتهامسون فيما بينهم بأن الكراسة التي أخذها حنش ما هي إلا كراسة السحر التي أودعها عرفة أسرار فنونه وأسلحته، وأنها ضاعت في أثناء محاولته الهرب فحملت في الزبالة إلى مستوقد الصالحية حيث عثر عليها حنش.
وانتشرت الأخبار من غرزة إلى غرزة بأن حنش سيتم ما بدأه عرفة ثم يعود إلى الحارة؛ لينتقم من الناظر شر انتقام. وأكدت الأقوال والظنون أن الناظر وعد من يجيء بحنش حيا أو ميتا بمكافأة كبيرة كما أعلن ذلك رجاله في المقاهي والغرز. فلم يعد أحد يشك في الدور المنتظر أن يلعبه حنش في حياتهم. وارتفعت في الأنفس موجة استبشار وتفاؤل قذفت بعيدا بزبد القنوط والخنوع. وامتلأت القلوب عطفا على حنش في مهجره المجهول، بل امتد العطف إلى ذكرى عرفة نفسه. وتمنى الناس لو يتعاونون مع حنش في موقفه من الناظر لعلهم يحرزون بانتصاره عليه نصرا لهم ولحارتهم، وضمانا لحياة خير وعدالة وسلام. وصمموا على التعاون ما وجدوا إليه سبيلا باعتباره السبيل الوحيد إلى الخلاص، إذا كان من المسلم به أنه لا يمكن التغلب على القوة السحرية التي يحوزها الناظر إلا بقوة مثلها مما قد يعدها حنش.
ونمى إلى علم الناظر ما الناس يتهامسون به فأوحى إلى شعراء المقاهي أن يتغنوا بقصة الجبلاوي، وبخاصة مقتله بيد عرفة، وكيف أن الناظر اضطر إلى مهادنته ومصادقته خوفا من سحره حتى تمكن منه فقتله انتقاما للجد الكبير.
ومن عجب أن تلقى الناس أكاذيب الرباب بفتور وسخرية، وبلغ بهم العناد أن قالوا: «لا شأن لنا بالماضي، ولا أمل لنا إلا في سحر عرفة، ولو خيرنا بين الجبلاوي والسحر لاخترنا السحر.»
ويوما بعد يوم مضت حقيقة عرفة تتكشف للناس. لعلها تسربت من ربع أم زنفل التي علمت بالكثير عنه من عواطف على عهد إقامتها عندها. ولعلها جاءت عن طريق حنش نفسه فيما كان يعرض للبعض عند مقابلته في الأماكن النائية. المهم أن الناس عرفوا الرجل، وما كان ينشده من وراء سحره للحارة من حياة عجيبة كالأحلام الساحرة. ووقعت الحقيقة من أنفسهم موقع العجب فأكبروا ذكراه ورفعوا اسمه حتى فوق أسماء جبل ورفاعة وقاسم. وقال أناس: إنه لا يمكن أن يكون قاتل الجبلاوي كما ظنوا. وقال آخرون: إنه رجل الحارة الأول والأخير ولو كان قاتل الجبلاوي. وتنافسوا فيه حتى ادعاه كل حي لنفسه.
وحدث أن أخذ بعض الشبان من حارتنا يختفون تباعا، وقيل في تفسير اختفائهم: إنهم اهتدوا إلى مكان حنش فانضموا إليه، وإنه يعلمهم السحر استعدادا ليوم الخلاص الموعود. واستحوذ الخوف على الناظر ورجاله، فبثوا العيون في الأركان، وفتشوا المساكن والدكاكين، وفرضوا أقسى العقوبات على أتفه الهفوات، وانهالوا بالعصي للنظرة أو النكتة أو الضحكة، حتى باتت الحارة في جو قاتم من الخوف والحقد والإرهاب. لكن الناس تحملوا البغي في جلد، ولاذوا بالصبر، واستمسكوا بالأمل، وكانوا كلما أضر بهم العسف قالوا: لا بد للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرين في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب.
Page inconnue