ولكن من الحق أيضا أن هذين الشاعرين يتلاقيان في كثير أو قليل من فنهما الإبداعي مع شعراء آخرين، مثل ڤيلون، هايني، سونبرن، إدجار ألن بو، توماس هود ، وشلي. أما بودلير فلا نظير لصوره الشعرية بين شعراء عصره، ولا مشبه لفنه بين فنونهم إطلاقا.
إن قراءة بودلير تمنحك لحظات سعيدة بين التسامي والطموح إلى المثل الأعلى، وفي المنثور والمنظوم من شعره موسيقى طلقة متوفرة كانتباهات الضمير، رفافة رفيف التأملات الخاطفة على هوامش الصور العابرة، وهي بعد ذات إيقاع نفاذ يساير - بغير ما وزن أو قافية - خطرات النفس الغنائية.
فليس من توافق المذاهب الشعرية أو المزاج الفني أن نقرن بودلير بڤيرلين ورامبو في كلمتنا هذه؛ فإن الخلاف شديد بين الأول وصاحبيه، إلا من حيث ما أفادوا به الأدب الفرنسي من الطرافة والابتداع، والخصب.
والثراء، ونفاذ النظرة، وما شغلوا به زعماء الإبداعية من التوفر على نقدهم ودراستهم، ثم هذه المدرسة الرمزية العظيمة، التي ظلت أظهر سمات الأدب الفرنسي من منتصف القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا.
وإذا لم يصب بودلير حظه من التقدير والحفاوة بأدبه في مستهل حياته الأدبية، وإذا لم يضعه بعض النقاد في صف الممتازين من الشعراء العالميين، فلا يرجع ذلك إلى قيمة فنه ومميزات أدبه، ولكنه يرجع إلى عوامل كثيرة، أخصها ما أحاط بما كان ينشره من شعر في مجلة العالمين، ثم تلك الضجة التي أعقبت نشر ديوانه «أزهار الشر
Les Fleurs Du Mal » وما تردد من أصدائها في الأوساط الثقافية فاعتبر رجلا ساقطا مخربا زنديقا.
ويقول الأستاذ «ألكوك
Alcock » في مقدمة عنه رفعها إلى الأكاديميه فرنسيز إن التنويه ببودلير كان مقرونا بتدهور الفن، وإن هذه الفكرة قد حركت زمنا طويلا النقاد في الجزر البريطانية، ولازمت نشاطهم في غير مواربة، ولم يكن ذلك بدافع من حكمة الوطنية، وإنما يرجع إلى اضطراب الفكرة المطوفة دائما بعالم الفن، ولعل من عوامل خموله ، أن فنه ظل غريبا عن الأدب الأوروبي، حتى في الوقت الذي اتصل فيه رامبو وڤيرلين بالنقاد الإنجليز أمثال أرثر سيمونس وجورج مور وغيرهما ممن نقلوا شعرهما إلى الإنجليزية، فأثار الانتباه والإعجاب من حيث التفكير واللغة والموسيقى، كما كانت حياة التشرد
Vagabondage
التي انفرد بها ڤيرلين من عوامل الإغراء والفتنة لأحاديث المجلات والأندية الأدبية في إنجلترا المتفتحة للجديد.
Page inconnue