إهداء
الجزء الأول: دراسات أدبية
1 - پول ڤيرلين
2 - شارل بودلير
3 - في الأدب الإنجليزي الحديث
الجزء الثاني: قصائد مترجمة
4 - القبرة
5 - الشاعر وكتابه
6 - عودة الملاح
7 - أغنية القطيع
8 - بيت الراعي
الجزء الثالث: زكريات أوروبية
9 - الليلة الأولى
10 - في ميدان إسدرا
11 - يوم في ڤرساي
12 - فتاة برن
13 - باريس
14 - من مراجع الكتاب
إهداء
الجزء الأول: دراسات أدبية
1 - پول ڤيرلين
2 - شارل بودلير
3 - في الأدب الإنجليزي الحديث
الجزء الثاني: قصائد مترجمة
4 - القبرة
5 - الشاعر وكتابه
6 - عودة الملاح
7 - أغنية القطيع
8 - بيت الراعي
الجزء الثالث: زكريات أوروبية
9 - الليلة الأولى
10 - في ميدان إسدرا
11 - يوم في ڤرساي
12 - فتاة برن
13 - باريس
14 - من مراجع الكتاب
أرواح شاردة
أرواح شاردة
تأليف
علي محمود طه
إهداء
إلى تلك الزهرة الأفريقية النادية تحت ثلوج الغرب
هذه الأرواح الشاردة في تيه المرح والعذاب والحب
علي محمود طه
الجزء
دراسات أدبية
الفصل الأول
پول ڤيرلين
كان فتى حالما، رقيق البدن، بارز الجبهة، عميق النظرة، مرح النفس، قذفت به الحياة إلى معتركها غمرا، لم تكشف له تجاربه المحدودة عن طبائع الناس، ولم يهيئه طبعه الرقيق ومزاجه الحاد لمكابدة شظف العيش وضنك الحال؛ وإن هيأته روحه ليكون حيث هو الآن من نباهة الذكر وسمو المنزلة وخلود الأثر.
ولو قد عرف «البارناسيون»
1
ما ناطته السماء بمستقبل هذا الصبي الشاعر، وهو يختلف إليهم من حين إلى حين، ولو قد تبين جماعة «مالارمي» ما تنطق به مخايل هذا الشاب العابث في أبهاء الحي اللاتيني؛ لحموه أحداث الزمن، ولما تركوه غرضا للفاقة والتشريد والعذاب، ولضنوا بصاحب هذه النفس الشاعرة الموهوبة والعبقرية المبدعة الفذة، ألا يجد وهو في مستهل حياته قوت يومه، ثم لفزعوا إلى القدر فما صرف أمه عن العناية به صغيرا، فشب مطلق العنان يرتاد المواخير ويدمن الخمر، ثم لما غادر زوجه وأمه وولده هائما بين باريس ولندن وبروكسل، ليعود إلى وطنه ضحية اتهام قاس ينال من رجولته، ويلقي على نجمه المتوقد سحابة من الزراية والامتهان، ثم لما ارتفعت من حوله صيحات العار تلاحقه من مكان إلى مكان فغلقت في وجهه أبواب الرزق، وسدت على ذلك الهارب المسكين منافذ الرجاء والطمأنينة ، فمضى يستنبت الأرض في الريف البعيد في كثير من اليأس والعناء، وهو ذلك الروح المرح الذي لم يخلق لغير الشعر والغناء، ثم لما تحالف هذا الشر كله على ذلك الضعيف المكدود، فاستبد به المرض، فقضى غريبا وحيدا، منبوذا إلا من امرأة بائسة مثله، ساهمته حبه الأخير وشقاءه الأخير، فلفظ في ظل قربها وعطفها نفسه الأخير.
حقا!! لقد كانت حياة ڤيرلين فاجعة محزنة؛ فمن الحان إلى السجن إلى الماخور إلى الهيام في الطرقات إلى ملاجئ البر.
هذا هو الشاعر الخالد الذي كان أرخم صوت غنائي صدح به الشعر الفرنسي في القرن الذي أنجب هيجو، لامارتين، جوتيه، موسيه، بودلير، رامبو، جول لافورج، مالارمي وغيرهم.
ستيفان مالارمي
إن في حياة هذا المتشرد الكبير ضروبا من العبث وألوانا من الألم، ولكنه العبث الذي تستقيم به حياة الفنان البوهيمي، والذي يتيح للأدب في كل جيل فنونا شتى من الإجادة والإبداع، ولكنه الألم الذي يفرض العذاب على القلوب الشاعرة فينطقها بالنغمات الفريدة الساحرة، ويصل ما بينها وبين السماء، فتشرب من روعة اللانهاية وصفائها، وتمنح البشرية الوضيعة المعذبة لحظات من السعادة والسمو.
ولد پول ڤيرلين في مدينة «متز» من ولايات فرنسا الشمالية، في الثلاثين من شهر مارس عام 1844، أي بعد مولد بودلير الشاعر بثلاثة وعشرين عاما، وكان أبوه ضابطا ممتازا في الجيش الفرنسي، وعندما بلغ السابعة من عمره رحلت به عائلته إلى باريس، فألحقته بمدرسة خاصة، ثم بمعهد «ليسي بونابرت» حيث أظهر ڤيرلين على حداثته تفوقا مشهودا في اللغتين اليونانية واللاتينية وفي علوم البلاغة والأدب، فمنح جائزتها مع درجة شرف ثم استمر في دراسته قليلا من الزمن حتى ظفر بوظيفة حاسب في إحدى دوائر باريس المالية.
ولكن حياة ڤيرلين الشاعر تبدأ عام 1866؛ ففي الثانية والعشرين من عمره أخرج أول مجموعة شعرية عنوانها «قصائد عابسة» “Poèmes Saturniens” ، وبعد ثلاث سنوات نشر مجموعته الثانية «أعياد مرحة» “Fètes Galantes” ، فأصاب ڤيرلين من تينك المجموعتين حظا كبيرا من الشهرة والتقدير كشاعر غنائي نابغ، كما أصاب حظا من التعاسة والشقاء، وكانت الأيام قد مهدت لهذه المتناقضات؛ فقبل نشر ديوانه الأول بعام مات والده، وعاش الشاعر الصغير في رعاية أمه فدللته، وأعانته على عبث الشباب ونزقه بما كانت تمده به من المال، فانغمس الفتى في شهواته، وانطلق يعب من ملذات الحياة كيفما اشتهت نفسه الظامئة وشبابه المضطرم.
ثم أعانته الأقدار بعد ذلك على الحياة التي بدأ يشغف بها ويستمرئها، حياة الشرود والهيام، فصادف جماعة من الشعراء البوهيميين الذين كانوا يجتمعون كل مساء في مطعم «ريفولي» بالحي اللاتيني فما لبث أن مال إليهم واندمج في عشيرتهم، كانوا يجتمعون فيتناولون الأدب والفن بالدراسة والنقد، ويتجادلون في شئون الشعر، وكان لڤيرلين من هذه الجماعة حظ كبير من الخير، فصقلت محاوراتهم طبعه، وأظهرته على ألوان مختلفة من الجمال والخيال، ولكن كان له إلى جانب هذا الخير حظ كبير من الشر؛ لفقد حببت إليه عشرتهم احتساء الخمر أولا، وإدمانها ثانيا، وكان ڤيرلين رقيق البدن، عصبي المزاج، حاد الطبع، وكان الخمر سمه القاتل!
وصار ڤيرلين بعد ذلك من المترددين على صالون «لويس كافير دي ريكارد» فاتصل بالبارناسيين “Parnassians”
جماعة «ليكونت دي ليل»، ولقيت شاعريته المبدعة هوى وتقديرا من الشعراء والنقاد النابهين في الأوساط الأدبية العالية، الذين تضمهم هذه الجماعة، أمثال جوزي ماريا، سوللي برودوم، فرنسوى كوبيه وكاتول منيدي وغيرهم، ولعل هؤلاء خير ما صادفه الشاعر في حياته الأدبية، فقد أثبت اتصاله بهم شخصيته كشاعر مرموق الحاضر مرجو المستقبل، كما أصبح فيهم بعد ذلك ظاهر الشخصية نابه الشأن.
لي كونت دي ليل
كان هذا في الفترة ما بين عام 1866 وعام 1869 أو ما بين ظهور ديوانيه الأول والثاني.
وفي ربيع عام 1869 قابل فتاة تدعى ماتيلد موت
Mathild Mautè
أخت أحد أصدقائه، فتحابا من النظرة الأولى، وزاد شغف ڤيرلين بفتاته كما استمرأت ماتيلد مطارحاته الغرامية، ففكرا في الزواج، ولم يكن أمره مستطاعا فقد كانت ماتيلد فتاة صغيرة، وكانت حداثة سنها تحول دون الزواج، وأخيرا ظفرا بهذه السعادة، ولم يكن ثمة من سعادة يحلم بها ڤيرلين بعد ذلك، فقد كان مدلها يستغرقه الحب، وكان يرى في الزواج رابطة مقدسة، كما كان يرى فيه منقذا له من نقائصه، مطهرا لكل آثامه ، ولكن هذا الحلم الجميل لم يتحقق!
فقد بدأت الحرب السبعينية بين فرنسا وألمانيا، وكان البروسيون يطوقون باريس؛ فتطوع ڤيرلين في جيش المواطنين المدافعين عن مدينتهم، وهكذا فارق الشاعر زوجه بعد شهور قليلة من زواجهما، وعاشت الشابة الصغيرة في بعض غرف شارع «الكردينال ليموان» تنتظر زوجها الشاب.
ووضعت الحرب أوزارها، وعاد ڤيرلين إلى باريس، ولكنه كان قد تغير، كان لا يزال على عهده من الحب لزوجته، ولكنه عاد سيرته الأولى، مستغرقا في حمأة نقائصه، عاد ڤيرلين إلى باريس ولكنه فقد وظيفته الأولى، وكان الإسراف قد أودى بأمه إلى الفاقة والعوز، فاضطر ڤيرلين أن يغادر باريس، صحبة أمه وزوجه إلى «شارڤيل» لا ليشاركوا والدي «ماتيلد» غرفتهما الوحيدة فحسب، بل ليعيشوا أيضا عالة عليهما.
ولم يكن هذا كل ما أعدته الأقدار لڤيرلين في «شارفيل»، فقد بدأت أخطر دقائق حياته من الاقتراب، وكانت النكبة التي لوثت حياة هذا الشاعر المسكين، في خطاب تلقاه من شاعر يدعى «آرثر رامبو»
Arthur Rimbaud
ضمنه إعجابه الذي لا حد له بأشعار ڤيرلين كما ضمنه شيئا من أشعاره.
رامبو في طفولته
ووجد ڤيرلين في هذا الخطاب رجلا يرفعه إلى مصاف العبقريين، كما وجد في هذا الرجل شاعرا مبدعا، في شعره قوة جديدة وصوت جديد وخيال جديد؛ فاندفع ڤيرلين يدعو صاحبه إلى «شارڤيل» دون روية أو إمعان، وحل رامبو ضيفا على هذا الخليط المزدحم، يشاركهم نومهم ويقظتهم، ويساهمهم زادهم وشرابهم، وكان رامبو شابا في السابعة عشرة من عمره ولكنه كان مخلوقا غريبا حقا!! كان مديد القامة، قذر الثياب، وكان عاطلا أيضا، وكان مخبره أحط من مظهره، كان شريرا بكل ما في كلمة الشر من المعاني، وكان رجلا سكيرا، فظا كثير اللجاج، محبا للمشاكسة، فلم تستطع ماتيلد وأمها صبرا على هذا الضيف وسرعان ما تخلصا منه.
ولكن رامبو وجد مأوى آخر، واستطاع أن يتصل بالكثير من الشعراء أصدقاء ڤيرلين، فسرعان ما أثر فيهم وتسلط عليهم، ومن ثم وقع ڤيرلين روحا وعقلا تحت سلطان هذا الساحر، أما ما انتهى إليه أمر هذه العلاقة بين الشاعرين فقد اختلف في اكتناه أسراره الكتاب والمؤرخون، وإن أجمعوا على أنها العلاقة الشاذة التي يتأثم بها اثنان من جنس واحد، وهو اتهام لم يفرغ النقاد من تحقيقه حتى اليوم، أما الذي لا سبيل إلى الشك فيه فهي النتائج المحزنة التي انحسرت عنها مأساة هذه العلاقة، ولا ندحة من أن نمسها مسا رفيقا؛ فقد جعلت حياة ماتيلد مع ڤيرلين أمرا مستحيلا فدفعته إلى هجرها، ثم ساقته وصاحبه رامبو إلى إنجلترا، ثم إلى بروكسل ثم أورثته إدمان الخمر، فبالغ في نشوته إلى حد نال من صحته وأوهن أعصابه، وأوقعه في جنون التخيل والتوهم “Pasomania” ، ثم استمرت المأساة في عملها فدفعت الشاعرين إلى الخصام الشديد، ثم رفعت يد ڤيرلين بالنار يطلقها على صاحبه مرات، فإذا صاحبه جريح، وإذا ڤيرلين رهين سجن «مونز» ثم تخلص المأساة من رامبو لتتصل بحياة ڤيرلين وحده، فيخرج من السجن بعد عامين ويعود إلى فرنسا، ثم يحصل على وظيفة مدرس بأحد المعاهد ليفقدها بعد زمن قصير، ثم يضيق به الحال فيذهب بأمه إلى «إردن» مؤثرا فلاحة الأرض، ولكنه لا يصيب حظا من النجاح، فيغادر فرنسا كلها ويعود إلى إنكلترا للمرة الثانية، ثم يحن إلى وطنه فيرجع إليه عام 1878 ويظفر بمنصب أستاذ في كلية «رتل»
Rethal
ومنها إلى باريس، وإذا بالمتشرد الكبير يظهر مرة أخرى في الحي اللاتيني، ويتصل بأصدقائه القدماء من الشعراء الرمزيين رواد هذا الحي، ثم يبتسم له الحظ قليلا فينشر مجموعة جديدة من شعره وكتابا آخر في تصوير بعض الشخصيات الأدبية، فيصيب من ورائهما بعض المال وكثيرا من الشهرة والمجد، ثم يعبس الحظ له إلى الأبد، فيتخطف الموت أمه عام 1886 ويقع ڤيرلين تحت وطأة المرض هيكلا محطما، ولكنه رغم هذا لم يقلع عن إدمانه الخمر؛ ثم تذهب به المأساة الكبرى إلى نهاية الشوط، فتأبى ماتيلد الصفح عنه وترفض لقاءه، وتستأثر وحدها بطفلهما الوحيد، وهكذا يقف ڤيرلين حيال العالم وحده، ثم تعبر به عشر سنوات أخرى وهو يضرب في هذا التيه الغامر والعذاب المطلق حتى يصادف «أوچيني كرانتس» فيؤلف بينهما البؤس ويصدح بلبل الحب فوق طلل هذا القلب المهدم الحزين، فينتعش قليلا ولا يكاد يخفق للحياة الجديدة ، حتى تتألب عليه الأمراض فيعجز عن مقاومتها، فيصرعه الموت، وبذلك تنتهي حياته أو مأساته المفجعة عام 1896.
كان ڤيرلين شاعرا غنائيا محبوبا، وقد ظهر ميله إلى الشعر أيام دراسته الأولى فأظهر في قرضه مقدرة ونبوغا لا يتكافأ معهما عمره الصغير، أما ديوانه الأول «قصائد عابسة» فقد كانت عملا فنيا رائعا، وكان كله شعرا غنائيا تضطرد فيه الموسيقى اضطرادا عجيبا، تجد في بعضه الأناقة والجمال، وفي بعضه الآخر العظمة والرقة، ولعل أجمل قصائده قصيدته في الخريف، أترجمها شعرا وإن كانت الترجمة تفقدها أجل ما فيها وهو الموسيقى.
تنهدات الرياح
رتيبة النواح
تجرح قلبي بها
قيثارة الخريف
وثم صوت عابر
من السنين الغوابر
يهتف بي فأصغي
للهاتف المطيف
ويستفيض خيالي
بالذكريات الخوالي
أنشدها فأبكي
بالمدمع الذريف
وعند ذات تحملني
وريقة من فنن
قد ذبلت وانطلقت
في العاصف الشفيف
وما كاد ديوانه الثاني «أعياد مرحة» يظهر في المكتبات، حتى أقبل عليه الأدباء، وكان حظه عظيما من الناقد الكبير «سنت بيف» فبدأ يكتب عن ڤيرلين الشاعر كاكتشاف جديد، وذخيرة نفيسة في الشعر الفرنسي، كما كتب عنه الكاتب الكبير «فرنسوى كوبيه» فوصفه بأنه خلق شعرا يمتاز بطابعه الفردي، ويسترعي أرق اهتزازات العصب الإنساني، وأن قوافيه وأوزانه تجمع بين الحرية والترسل في أسلوب كله قوة وكله عذوبة، واستعارات رائعة وموسيقى فريدة.
سنت بيف
والحق أن ديوانه الثاني «أعياد مرحة» كان له من عنوانه نصيب عظيم، فكانت قصائده أكثر احتفالا بالبهجة، وهكذا تكون روح الشاعر، فغناؤها يترجم دائما عن شعوره بالحياة وتأثره بأفراحها وأتراحها، فهي في ديوانه الأول يغشاها الاضطراب، وهي في ديوانه الثالث
Romances sans Parole
الذي نظمه في السجن، تتجاوب بأصداء الألم الذي تضطرب به روح الطائر الحبيس وهي في ديوانه الثاني مرحة تصدح بالفرح وتغرد بالأمل الجميل، وكما أنطق البؤس ڤيرلين كذلك أنطقه الحب، ولم يكن غرام ماتيلد عبثا محضا، فقد ألهم ڤيرلين أرق أشعاره وأعذب أغانيه، وكشف عن جوهر روحه الصافية وإبداع عقله، فمن العيون الضاحكة، ومن الشعر الأشقر المتموج، ومن هذا الصوت الرخيم، استمد ڤيرلين ألوان خياله المتلألئة، ومرح قوافيه، وروعة أنغامه، ولعلك تحس هذا كله في هذه القصيدة:
هذا هو القمر الفضي يملأ الغابة نورا
وثم صوت ساحر يهتف تحت كل فرع ومن ذؤابة كل غصن «يا محبوبتي»
هذا هو الغدير الرقراق كصفحة المرآة
يسبح فيه خيال الصفصافة السوداء حيث تئن الريح
ألا فلنحلم يا حبيبتي فتلك ساعتنا
فالكون يلفه السكون ويهفو به الحنان
كأنما تسلسل اللانهاية المشرقة ألوانها
ألا إنها الساعة المنتظرة!!
وليست أشعار ڤيرلين كلها بهذه البساطة، نعم إن منها ما يعد من الأغاني الشعبية، ولكنه أيضا كان شاعرا رمزيا عميقا، ومن الواضح أن ڤيرلين تأثر ببودلير إلى حد ما، فقد أسلفنا القول إن بودلير سبقه بثلاثة وعشرين عاما، ولعل الجانب الرمزي في بودلير هو الذي استهوى ڤيرلين، ولعله الجانب الشهواني، بيد أن الفرق بين الرجلين كان بعيدا جدا، فهما يختلفان في الطبع وفي النظرة إلى المرأة، فقد كان لڤيرلين طبع لين، ونفس رقيقة رغم مزاجه الحاد، ثم إنه كان يحب المرأة حبا أقرب إلى الروحانية منه إلى الشهوة المجردة ولم تفسد المرأة حياته ولكنه الذي أفسد حياتها، ولكن بودلير كان شهوانيا إلى حد بعيد، وكان ذا فلسفة خاصة، فقد رمى القدر في أحضانه بنسوة يستمرئن متعة الجسد، فراح ينشد من وراء فلسفته «حواء» أخرى لا تتصل بطريدة الجنة، لقد كان بودلير ضحية المرأة أما ڤيرلين فكان ضحية الخمر!!
إن أهمية شعر ڤيرلين في موسيقاه، تلك التي وصفها النقاد بالموسيقى الموزارية نسبة لموزار الموسيقي الألماني العظيم، فڤيرلين من هذه الناحية من طائفة ڤيلون وهايني وإدجار ألن پو، ولكنه زاد عليهم تلك اللغة البارعة التي استحدثها في شعره، فهي لغة لها أهمية موسيقاه، لقد سكب فيها كل ما اضطرم به قلبه من الألم والحماسة والحب والقوة، وكل ما اضطرب بين جوانحه من الأحلام والكآبة والمرح، ويجدر بي القول قبل أن أختم هذه الدراسة: إن ڤيرلين لم يعش خامل الذكر في جيله، ولا منكور الأثر، فقد رأى بعينه تألق نجمه في عالم الأدب، وشهد أشعاره مترجمة إلى غير لغة واحدة، وسمع أغاريده تملأ أفواه الشعب الفرنسي، كما سمع الكثير من إعجاب أعظم كتاب جيله شأنا وأخطرهم رأيا، وكان الاعتراف بمكانته من المدرسة الرمزية الحديثة أمرا مسلما به، ولكن أملا واحدا من آماله الكثيرة الضائعة لم يتحقق، فأضاف إلى عذابه الروحي وشقائه المادي شقاء آخر وعذابا جديدا ظل يحز في قلبه حتى وقف عن ضرباته؛ فقد دفعه بؤسه وعار علاقته برامبو أن يخلص منهما ويمحوهما بترشيح نفسه «للأكاديمي فرنسيز» ويشير بعض النقاد إلى أسباب أخرى ترجع إلى غروره في أيامه الأخيرة واعتداده بنفسه، ولكن من المحقق أنه كان يطمح إلى الظفر بقوة الاحترام وإلى مكافأة الأكاديمية الضئيلة لينعم بالراحة بين دنان الخمر، وكان يرى في تحقيق هذا الأمل مجدا خطيرا يتوج حياته بالخلود، وقد وصف النقاد ذلك بأنه «كوميديا خطيرة» كما عابوا عليه طموحه لذلك «القبر المزخرف البغيض الذي يئد القريحة ويطفئ النبوغ»، ولكن الزمن حقق بعد مماته ما عجز عنه في حياته فرفعه إلى مصاف العبقريين وكتب اسمه في ثبت الخالدين.
وحسبنا أن نختم هذا الفصل بهذه الآية لأناتول فرانس نتوج بها سيرة ڤيرلين قال:
أناتول فرانس
إنه شيخ متعب من الشرود والهيام في الطرقات مدى ثلاثين عاما! إن منظره يكلم النفس ويصدم النظر، إنه يجمع بين الشراسة والوداعة؛ سقراطي بالفطرة، أو خير من ذلك، حيوان غابة، مخلوق خرافي، نصفه حيوان ونصفه إنسان، نصفه وحش ضار ونصفه إله، هائل كقوة طبيعية غير خاضعة لشريعة ما، فهو شبيه ڤيلون ونده وضريبه:
إنما ولدان شريران!!
رزقضا التعبير وأوتيا البيان،
فباحا بأجمل ما في الدنيا من الأشياء والأحلام!!
الفصل الثاني
شارل بودلير
CHARLES BAUDELAIRE
لم يظفر الشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر بمثل هذه الألوان الفريدة الرائعة التي استحدثها بودلير وڤيرلين ورامبو.
فمن الحق أن رامبو كان قوة جديدة، وصوتا جديدا، وخيالا جديدا.
ومن الحق أن ڤيرلين استحدث لغة شعرية لا عهد بها للأدب الفرنسي، وموسيقى غريبة النغم، كلها سحر وكلها روعة.
ولكن من الحق أيضا أن هذين الشاعرين يتلاقيان في كثير أو قليل من فنهما الإبداعي مع شعراء آخرين، مثل ڤيلون، هايني، سونبرن، إدجار ألن بو، توماس هود ، وشلي. أما بودلير فلا نظير لصوره الشعرية بين شعراء عصره، ولا مشبه لفنه بين فنونهم إطلاقا.
إن قراءة بودلير تمنحك لحظات سعيدة بين التسامي والطموح إلى المثل الأعلى، وفي المنثور والمنظوم من شعره موسيقى طلقة متوفرة كانتباهات الضمير، رفافة رفيف التأملات الخاطفة على هوامش الصور العابرة، وهي بعد ذات إيقاع نفاذ يساير - بغير ما وزن أو قافية - خطرات النفس الغنائية.
فليس من توافق المذاهب الشعرية أو المزاج الفني أن نقرن بودلير بڤيرلين ورامبو في كلمتنا هذه؛ فإن الخلاف شديد بين الأول وصاحبيه، إلا من حيث ما أفادوا به الأدب الفرنسي من الطرافة والابتداع، والخصب.
والثراء، ونفاذ النظرة، وما شغلوا به زعماء الإبداعية من التوفر على نقدهم ودراستهم، ثم هذه المدرسة الرمزية العظيمة، التي ظلت أظهر سمات الأدب الفرنسي من منتصف القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا.
وإذا لم يصب بودلير حظه من التقدير والحفاوة بأدبه في مستهل حياته الأدبية، وإذا لم يضعه بعض النقاد في صف الممتازين من الشعراء العالميين، فلا يرجع ذلك إلى قيمة فنه ومميزات أدبه، ولكنه يرجع إلى عوامل كثيرة، أخصها ما أحاط بما كان ينشره من شعر في مجلة العالمين، ثم تلك الضجة التي أعقبت نشر ديوانه «أزهار الشر
Les Fleurs Du Mal » وما تردد من أصدائها في الأوساط الثقافية فاعتبر رجلا ساقطا مخربا زنديقا.
ويقول الأستاذ «ألكوك
Alcock » في مقدمة عنه رفعها إلى الأكاديميه فرنسيز إن التنويه ببودلير كان مقرونا بتدهور الفن، وإن هذه الفكرة قد حركت زمنا طويلا النقاد في الجزر البريطانية، ولازمت نشاطهم في غير مواربة، ولم يكن ذلك بدافع من حكمة الوطنية، وإنما يرجع إلى اضطراب الفكرة المطوفة دائما بعالم الفن، ولعل من عوامل خموله ، أن فنه ظل غريبا عن الأدب الأوروبي، حتى في الوقت الذي اتصل فيه رامبو وڤيرلين بالنقاد الإنجليز أمثال أرثر سيمونس وجورج مور وغيرهما ممن نقلوا شعرهما إلى الإنجليزية، فأثار الانتباه والإعجاب من حيث التفكير واللغة والموسيقى، كما كانت حياة التشرد
Vagabondage
التي انفرد بها ڤيرلين من عوامل الإغراء والفتنة لأحاديث المجلات والأندية الأدبية في إنجلترا المتفتحة للجديد.
ومن غير شك فإن بودلير لم يكن مخربا ولا ساقطا بالمعنى الذي نفهمه من روح السقوط والتخريب، فقد يكون شهوانيا متطرفا خلع عذاره وانهمك في عبادة جديدة قوامها التحليل النفسي؛ ليقيم على الميراث المحزن الذي آل إليه من المرض أو على منوال حياته التي يرثى لها، هذا إلى جانب ما اجتمع لنا من دراستنا في علم النفس “Psychology”
وعلم وظائف الأعضاء “Physiologity”
وثقافة كاتب أخلاقي “Moraslist” .
ونستطيع أن نلمس آثار هذه الثقافات مجتمعة في الصور الشعرية الشاذة التي تمثل الألم والشهوة وتجسد الشر وتنطق الرعب والموت وتهتاج الحس، ثم هذه المشاهد البشعة التي صور فيها الجثث المتحللة وما تفرضه الحياة على جسم الكائن الحي، ثم هذا الإطناب في الجرأة التي تناول بها موضوعاته الشعرية، ولكن عنف عبارته الذي كان من مصادر شقائه في حياته، وهذه الألفاظ النارية التي لم يكن يملك التعبير بغيرها عن اضطراب روحه وثورة نفسه، قد دفعت به إلى حيث لا عذر له، فانظره في موقف من صبية حسناء يغمر ضوء القمر جسمها، فهو لا يتكلم عن الحب بمعناه، ولا عن الجمال بمعناه، وإنما يتخذ من هذا الموقف معرضا لمنطقه الخاص، حين يتكلم عن المرأة، ويعرض للمرأة، ويرى النقاد أن كل ما أسبغه على القمر وضوئه من أوصاف ينصب على المرأة ويصور طبائعها، فهي فاتنة ومفسدة كضوئه المتقلب؛ وهي في تحايلها وإغرائها ودهاء ضعفها ناعمة رخية، تنفذ إلى عقول الرجال وقلوبهم لتنفث سمومها كهذا الضوء أيضا، اسمعه وهو يقول: «ومن ثم شعشع السندس ملء عينيك، وشاع الشحوب الرائع في أديم خديك، أجل فعندما تطلعت إليه انداحت حدقتاك بصورة غريبة، فطوق تحرك بذراعيه المترققتين في حنان بالغ أورثك الحنين إلى الدموع.
وما هي إلا فورة من نشوة فياضة حتى غمر مخدعك بجو مشع من ضوئه الذعاف، ذلك الضوء الخالد الذي هتف من سبحات تفكيره قائلا:
ألا فلترتسم عليك قبلتي إلى الأبد.
وليكن لك مثل فتنتي وجمالي، ولتحبي كل ما أحب وكل ما يحبني من ماء وسحاب وليل وسكون، من البحر الزبرجدي المترامي من الماء المنطلق السيال المتعدد الأوضاع والأشكال، من المكان الذي لن تطرقيه، من العاشق الذي لن تعرفيه، من الزهور التي لم تنبتها الطبيعة، ومن العطور الفواحة المسكرة، ومن القطط المستلقية في تراخ ذات الأصوات العذبة الحاكية لتنهدات النساء.
أجل ولتكوني فتنة عشاقي، وموضع الإجلال من سماري وندمائي، ولتستوي ملكة على عرش من أفئدة الرجال ذوي العيون الخضر، الذين تحويهم أحضاني كل ليلة، هؤلاء الذين يفتنهم البحر، البحر المتنائي الأطراف ذو اللجة المصطخبة الخضراء، والمكان الذي لن يغشوه، والمرأة التي لن يهتدوا إليها، وأزهار الشر المتوقدة كمجامر كاهن مجهول، والعطور المثيرة المستبدة بالغرائز، والوحوش الضارية التي ترمز شهواتها المشبوبة إلى حماقة هؤلاء المساكين.
والآن ... أيتها الصبية اللعينة العزيزة المشوبة، ذلك ما يدفعني لأن أجثو على قدميك متلمسا فيك صورة الإلهة المروعة، ربة الأرباب القاضية، ظئر السموم لكل صرعي القمر من بني البشر ...
وقد انفرد بودلير من - غير شك - بصور كلها رعب وفزع، وأسلوب عنيف، وتعبيرات توصف بالقبح أحيانا، ولكن الرجل كان صادقا، بل إن معجزته هي تلك الصور والأساليب الشاذة العنيفة؛ وفي هذه التوافه التي أقامها من ذات كلماته يبدو لنا الفن أعظم ما يكون طرافة وإبداعا وأدق وأصدق، لا من حيث التعبير فقط، بل من حيث الفكرة أو الحس الذي نقل عنه أو تأثر به.
وكان هذا الشذوذ الذي تفرد به في زمانه يتمثل في إلهة جمال سوداء “Black Venus” ، أحبها وآثرها على سميتها البيضاء، امرأة ذات جسد معتل سقيم ملأت البثور أديمه يتخلع في ثوب مهلهل خلق؛ ولقد تقرب منها بودلير تقرب العابد، وكان يرى فيها فتنة ونعمة ساعة يوسد رأسه المثقل بخيالات الأفيون بين نهديها الطوديين، مواريا وجهه في حلكتهما عن آفاق النور.
ومن هذا الجسد الحالك، ومن أزهار الشر السوداء، استمد بودلير هذه الأفكار القاتمة المضطربة، وصاغ هذه الأشعار المثالية التي وصفها «جوتييه» بأنها تلمع كالرخام الأسود.
وإلى نشأة بودلير ترتد هذه الميول الشاذة؛ فقد كان على شيء من الثراء الملحوظ الذي يتيح للشاعر أن يكرس أوقاته للشعر والفن، ولكن ذلك طوح به إلى عالم من الرغبات المجهولة التي تنطلق أحلامها وترتسم أطيافها في دخان ذلك النبات الشرقي، وعطر المناطق الحارة في جزائر المحيط الهندي، حيث ينمو هذا النبات، ويضوع طيبه، وتسطع المجامر ببخوره الفواح ونكهته المخدرة، وكانت رحلة بودلير إلى تلك الجزائر في مطلع شاعريته وصباه الأول، فعاد منها وهو القائل: «إن روحي تسبح في دخان تلك العطور كما تسبح أرواح الرجال في أنغام الموسيقى».
ويقول بعض الرواة إنه تمنى لو ينقع جسده في عصير هذا النبات وعطره المسكر!
ومن هذه العوالم الغريبة المحوطة بالأسرار جاء بودلير بفنه الغريب الذي طغى على فنون أخرى من الأدب الفرنسي؛ فقد ولد بودلير في باريس عام 1821 وتوفي عام 1867، وفي عام 1840 كان هناك جيل من الشعراء الأفذاذ الذين أثرت مذاهبهم الشعرية في اتجاهات الأدب الأوروبي، وكان هذا الجيل يتمثل في لامرتين، موسيه، ڤيني.
ألفونس دي لا مرتين
ففي ذلك الوقت الذي كانت تلمع فيه أسماء هؤلاء الأعلام، وتخطف بلمعانها الأنظار، كان بودلير صبيا في التاسعة عشرة من عمره يقرض الشعر، وكان ليكونت دي ليل زعيم البارناسيين في العشرين من عمره، ولم يكن مالارمي معلم الرمزية قد ولد بعد، وكان الجيل يصغي إلى هذه الأصوات العذبة الشجية المرتلة كأناشيد السماء في تأملات لامرتين وفي قصائه: الخريف، ونبغ الغابة، والبحيرة، التي ترجمناها شعرا في ديوان الملاح التائه، وكان الجيل مأخوذا بهذه الروح الشادية الحائرة الوالهة التي تفيض من ليالي موسيه ومن قصائده: في التذكار، وفينسيا وغيرها، وكانت قصائد ألفرد دي ڤيني في سيمثا
Symètha ، وباريس، وبيت الراعي التي ترجمناها في غير هذا المكان، قد رفعت إلى عالم الشعر مثاليات من الرمزية الرقيقة والمعاني الدقيقة والأخيلة الفاتنة والموسيقى العالية.
ألفرد دي موسيه
فهذا الجيل الذي تأثر وأعجب وفتن بهذه الصور المشرقة السمحة الوادعة هو الذي عاد فأعجب بالصور البودليرية التي تشب بأوار الجسد، وتفوح بأزهار الشر، وتلمع كالرخام الأسود!
وهذا سر بودلير وفنه الذي يقف به وحده في تاريخ الشعر الحديث.
ففي مدى سنتين من عام 1855 كان اسمه حديث الخاصة والعامة، وكانت محاكمته على بعض قصائد ديوانه «أزهار الشر» قد مهدت لهذه الشهرة.
لقد كان لدى بودلير ورع الإنساني ورقة الخير، ولكنه أراد تحويل الطبيعة التي لا تتحول. فلم يجد ثمة من محبة للكمال البشري أو النبل الفطري.
وهنا يقول أرثر:
وهناك أزمنة في التاريخ، عندما يخبو لهب الصباح المضيء، وتخمد وقدة الظهيرة القائظة، فإن المأساة لا تذهب بعيدة عنا، ولا تمضي عائثة في الأرض، وحينما ينطلق مرتفعا كرم الروح الأصيل، وترتد عيون الرجال في أغوار النفوس، وفي ظلال الأشباح الغامضة، وفي الندامة والسخرية، والتشاؤم والألم، فعند هذه قد يصل الفن إلى أمثل صوره، وقد لا يكون من ندحة عن اكتساح النمط الكلاسيكي بعنف، والسمو إلى صناعة رفيعة، وقالب متجاوب بالأحاسيس؛ ليكون مع بعض إيضاح بسيط تعبيرا صادقا متماثلا بالأمانة والحماسة.
ولكن بودلير وضع نفسه بيده في موقف الاتهام، وليس من رحمة ولا شفقة، ولم تكن هزة الاتهام لتنفذ من سياج شخصيته المتحركة دائما في رحاب حياته، وإن تركت حياته بعد ذلك حلقات غير متصلة، وكانت قسوة محاكمته - وقد بلغت أقصاها - واحدة من أسباب عزلته الأبدية.
فالذين قرأوا لبودلير ولم يقفوا على تلك العوامل التي اكتنفت طريق حياته، لا بد وأن يجرفهم تيار اتهامه القاسي.
وأرى من العبث الدفاع عن بودلير كما أن من السخرية القول إنه لم يكن واقعا في الخطيئة أو متصلا بها اتصال هؤلاء الذين لا تشعرهم الطبيعة بفضيلة الإيمان، فقد قضى حياته مخلصا لمناسك شهواته، وفي ذلك يقول أرثر سيمونس:
إن في شعر بودلير إحاطة واسعة عميقة لتمرد الشعور واهتياج الحس وضلال الميل الجنسي، فيها شيء عجيب يفخم من صوت الرذيلة المكتنفة بالرعب، وفيها شيء عجيب آخر عن حماسته في عبادة شهواته!.
لقد عاش وحيدا ومات وحيدا، يحوطه الغموض، معترفا بخطاياه التي لم يقل عنها كل الحقيقة، متفانيا في شهواته، وفي الماخور، منسكه الأثيم.
ويقول بعض النقاد إن بودلير كان ضحية المرأة، ويقول آخرون إنه كان ضحية الأفيون والحشيش، ولكن الذي لا مراء فيه أن هذا الشاعر المسكين كان يحب المرأة ولكنها لم تكن تحبه، وأنه كان ينشد الحظوة عند النساء ولكنه كان سيئ الحظ لديهن، وهذا ما دفع به إلى تحديهن بالشر والكنود حتى أصبح يرى في الشيطان المثل الأعلى للجمال! بل إن هذا ما دفع به إلى هذه المواخير التي تنضح بشهوات الأجساد البشرية وإلى هذه الأوكار المظلمة التي يتهالك فيها المتعبون الذين يسترقون أنفاسهم من عطر هذا النبات الشرقي!
ولقد كان الرجل ألصق بالحياة، وأعظم اجتواء بنارها، وأبصر عينا بدنسها، فلا غزو - وقد آثر الصدق والأمانة - إن عبر لنا عن شعوره بالواقع وإن أفرط في ذلك كنتيجة لتأثره السريع، ولكن بودلير الذي يبدو إباحيا مسرفا في إباحيته، لا يكاد ينصرف إلى نفسه حتى يذكر الموت ونهاية الإنسان المحزنة، فيصف لك دموع الميت حينما تطحن الأرض قلبه وتعبث برفاته أقدام العابرين، وهو لا ينسى الديدان وهي تنهش أديم الجسد البشري، فيحس لها وخزا كوخزات ضمير يؤنب صاحبه، فانظر إلى ما يقول بودلير في قصيدة عنوانها «ندامة بعد الموت»:
عندما ترقد يا طيف جمالي القاتم، تحت تمثال من الرخام الأسود، في كهف مخدعك الرطب، تحت قپول ذلك المأوى، وعندما يعصر الحجر الكبير بثقله المروع جوانب صدرك، هنالك في خفة حالمة بهجة سيكف ذلك القلب عن ضرباته ورغائبه، وستقف هذه الأقدام المتقحمة المغامرة عن عدوها.
وهنا سيهمس هذا القلب أو القبر الذي ساهمني هواجسي وأنا مستغرق في شرودي الأزلي طيلة تلك الليالي: «لمن وقع هذه الخطى؟!» «من أنت أيتها الأقدام الفاجرة؟؟ أنت التي لم تعرفي بعد ما هي دموع الموتى!!»
وكوخزات تأنيب الضمير ستمضي الديدان في التهام جسدك ...
وهل هناك شيء أروع من دموع الموتى؟! وهل هناك من ألوان الألم ما هو أشد وأقسى من وخزات الضمير؟! إن في أمثال هذه الخواطر ما ينفي عن بودلير صفة الإيمان بالشر، فهو لم يكن إلا مدفوعا بعوامل الحياة، وتحت عبء آلامه إلى تصوير هذه الفظائع، وهذا ما يتفق ورجل يتألم للموتى، لا لأن أقداما فاجرة تطأ رفاتهم، كما يقول المعري فيلسوف شعراء العرب:
خفف الوطء ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
ولكن لأن ذرات أجسادهم تبكي بدموع قلوبهم ...
وإذن فلا موضع لهذا الاعتبار، فمهما كان تمرد بودلير مستمدا من فلسفة عقلية غير سليمة، ومهما كان شذوذه مستمدا من ذات حياته، فلا يمكننا إلا التسليم بأنه رفع إلى الأدب أسمى صور الخيال والفكر، وأنه رفعها باقتناع لأنها في جوهرها تثبت شجاعته وإخلاصه الرفيع لفنه، فلم ينحط إلى التجارب الفجة، ولم يسف إلى اللا فنية العاملة باسم التجديد.
وأخيرا فإن بودلير قد استطاع أن يطبع بطابع لا يمحى كل شيء بصفاء مشعشع بالنور، وبساطة تامة، وتخلص رشيق، في عبارات كلها صدق وكلها جمال، غير مقيد بتلك الهرطقة الشلاء، ففكرة الفن عند بودلير هي فكرة التحايل والمهارة.
وعندي أن «ألكوك» قد أحاط بذلك كله حين يقول: «وهكذا الدنيا التي خلقها بودلير، دنيا حالمة بالجمال، وروح العزاء المرفه عن العاطفة ما تراوح بها طغيانها بين الحرة والضيق ... إن تفوق بودلير في الصور الشعرية قد أغناه عن تلمس شواهد حية على مذهبه العلمي، وعما يدخل في وحدة الفن من الصورة والصوت واللون والرائحة، فمقاييسه عطرية الشذى، فطرية اللون، وإيقاعه الموسيقي يترجم دائما عن أصداء مزاجه الشعري، أما أسلوبه فقد تحول حتى ليرى واضحا، بسيطا، رائعا».
لقد كان بودلير فنانا صادقا، طموحا، محبا للجمال. وعلى العكس مما يرى الكثيرون فإنه باندفاعه المزن في تلويث الجمال الأرضي، ورده كل أنثى امرأة عاهرة، قد أفشى عاطفته المكرسة لعبادة الجمال المطلق.
ولكنه غامر وكابد كثيرا في نشدان حرية الفكر، من حيث هي حرية الفن ، وليس لنا إلا أن نتمثل قوله:
وسأظل دائما وربما إلى الأبد - كذئب وقع في كمين - أثب إلى قمة المثل الأعلى ...
الفصل الثالث
في الأدب الإنجليزي الحديث
من رسائل الكاتبة «ربيكا وست»
الكاتبة ربيكا وست
Rebeeca West
من أشهر الأديبات في هذا العصر، وقد كتبت في كبريات المجلات والصحف الإنجليزية والأمريكية في شئون السياسة والأدب، ومن مؤلفاتها: هنري جيمس، عودة الجندي، سباع وخراف، والصوت الأجش وسانت أوجستين.
ملك ناصية الأدب الإنجليزي قبل الحرب العالمية الماضية كتاب أعلام لم يبق منهم بيننا اليوم غير رجلين هما برنارد شو وهربرت جورج ويلز.
وإذا كان أولهما قد ناهز الرابعة والثمانين من عمره، ولم يعد ينفحنا كعادته بقصصه الموسوم بالتقدير الفائق، فإنه ما يزال يمنعنا بأجل مواهبه المستمدة من طبيعته البالغة التأثير، ومرحه الساخر الذي أحله منزلة شعبية مرموقة يتناهى عندها الطموح، وإنا لنلمس في أطواء نفسه شعور الإخاء الذي يبتهج به القرويون، وأرق الميول الإنسانية التي يحتفل بها المزارعون وهم يروون الشعر ويتحدثون عن الشعراء.
فسائقو السيارات في لندن، وبائعو الورد، يعرفون هذا الشيخ الأديب بلحيته البيضاء، وقامته المديدة، وسمته العجيب، وهو يذرع الشوارع والطرقات بخطاه الواسعة؛ وهذه الصحف والمجلات تتسابق إلى التقاط عبارة من آخر دعاباته وتتنافس في نقل إحدى نوادره وفكاهاته، ومن عجب أن يغلو هذا الشيخ المسن في تهكمه حتى ليتدفق على الناشئة والأيفاع بالروح الساخر الذي تعودوا هم أن يلذعوا به من يكبرونهم من الكهول والشيوخ.
وبهذا استطاع «شو» أن يبرز من الإعجاب به، وحدة من حياتنا الشعبية قلما يستطاع تحقيقها في جماهير مختلفي الأمزجة والأطوار كالذين تزخر بهم كبريات المدن.
أما ويلز فمع أنه تجاوز الثالثة والسبعين من عمره إلا أنه لا يزال مرموق الأثر، ملحوظا بالاعتبار والتقدير، وفي مثل هذه السن نواجه رجلا رصينا راسخا، محبا للعراك، حاد الطبع، خصبا، متدفق الحيوية، كأنما هو في منتصف العمر الذي بلغه اليوم، وهو فوق ذلك دءوب لا يكل ولا يمل، كأنه ڤولتير إنجليزي، مع بعض متناقضات لطيفة تحببه إلينا وتجعله أثيرا بإعجابنا .
هربرت جورج ويلز
ومع أن ثورته هذه لا خطة واضحة لها، ولا شرح لمذهبها، إلا أنه كمصلح اجتماعي، لا يتردد في رفع عقيرته بالدعوة إلى اطراح القديم وتخلصنا من عيوب التشبث به والمنافحة عنه.
وهو يستحثنا في الوقت نفسه إلى تنظيم مستقبلنا على ضوء العلم الهادئ الواضح، ولكن حين نختلف في الرأي معه فإنه يندفع في المعترك بروح سام مشرب بالفن اندفاعا يناقض الروح العلمي الذي يدعونا إلى اتباعه.
ولم يكن هناك خلال الحرب الماضية من طراز ذينك العلمين اللذين أسلفنا القول عنهما غير رجل واحد هو «وليم سومرست موم
William Somerest Maugham ».
فنحن هنا إزاء رجل آخر يرجع جلاء قريحته وطبعه المصقول إلى العمل الذي أحبه وآثره، وإلى المنطق الذي استمده من طوارئ حياته، كما يرجع في ذلك أيضا إلى عائلة إنجليزية امتدت أصولها منذ أجيال بعيدة إلى أرض فرنسية، حيث كان قد أرسل به صغيرا إليها عقب وفاة أمه ليكون في كنف أقارب قضى سوء الطالع أن يكونوا غير متعاطفين، ولكنه باستخفاف صبي ذي شعور مرهف، مضطرم الحنين إلى وطنه، لم يدخر جهدا في إدخال السرور إلى منزل يهتم به جماعة من الغرباء النازحين في أرض أجنبية، ومنذ ذلك الحين شب على غرار أصيل من أرومته، فجعل قوام أعماله الأدبية النظر في حياة الإنجليز الخاصة، وشحذ من نظرته في الحياة عمله كطبيب، وقد أورثه الدم الإنجليزي المتدفق في عروقه حب الأسفار وجوب البحار، ولم يكن يسأم الانفراد بنفسه، بل إن ذلك قد رزقه إمعان الفكر في الحياة.
وفي كتابه «قصارى القول» الذي نطالع فيه تاريخ حياته، نرى كيف مضى مطوفا بأنحاء الإمبراطورية القاصية وكيف أنه استلهم هذه الحياة ما تفرد به من عقل محلل، وجأش رابط، خلق ركين، وقد يبدو عجيبا اندماج مثل هذا الرجل في بيئات الحكام والمستعمرين، وأوساط الجنود والملاحين، الذين التقى بهم في حلاته واتصل بهم خلال عمله، ولكن ذلك ما آثره من قبله الشاعر العظيم رديارد كبلنج
Rudyard Kipling
وعظمه بحرارة ونال منه رضى لا يحتمل تأويلا، ولقد كتب كبلنج عن أولئك الرجال كما عرفهم، وصورهم بالحالة التي رآهم عليها، أما «موم» فقد كتب عنهم بطريقته التحليلية نافذا إلى حياتهم من خلال علومه ومععارفه، فالغريب إذن هو أن الشعب الذي قرأ لكبلنج ما كتبه عن هؤلاء الرجال وأعجب به واستساغه، هو نفس الشعب الذي أقبل على قراءة ما كتبه موم عنهم واستساغه أيضا، وهذه علامة التحول في الوضع دون أن يرجع ذلك إلى تفاوت في الخلق، أو فتور في العزيمة والإقدام.
ولكن «موم» استطاع أن يخدم الإمبراطورية، وستبقى الإمبراطورية التي أحلها اهتمامه، وحباها أعظم التقدير والتبجيل.
أجل إننا نتحول، إن عقليتنا المركبة فينا قد تطورت كثيرا، وأصبحت أكثر قابلية لمقابلة الجدل المحتشم، وأعظم مرونة لمعالجة المسائل المعقدة، أكثر وأعظم مما كانت عليه من قبل، وللتدليل على ذلك نعرض لمستر بريستلي
وأعماله الأخيرة.
فهذا مؤلف نابه معروف للسواد الأعظم من الناس، تبرز في سمته شخصية مشاكس عنيد، أقرب في شدة مراسه إلى المزارعين الأقوياء منه إلى كاتب يدبج المقالات، إنه قوي كملاكم، يتكلم بنبرات كالقرويين إذا هضبوا بالقول، وهو لا يفتح فمه إلا بإشارات وإيماءات عنيفة، متباينة الأثر في سامعيه، فإما أن تثير حقدهم عليه مدى الحياة، أو تجعلهم أصدقاءه إلى الأبد.
وهو يكتب متدفقا متمثلا ألوانا من العظمة، ليحصل على مكافأة أدبية، أو ليدير مسرحا، أو ليضرب في الأرض في رفقة أقاربه المنتشرين في كل الأصقاع، وقد أصاب النجاح بأمثال كتابه «الأصدقاء الأخيار
The Good Companions » المحتفل بالرصانة والدعابة وتبسيط مبادئ الرقي المأثورة عن تعاليم شارلز ديكنز
Charles Dickens .
وقد أنشأ في الوقت الأخير رسالة مسهبة بعنوان «نصف الليل في الصحراء» وقصتين تمثيليتين بعنوان «الوقت وآل كونوأي» و«كنت هنا من قبل» وتدور حوادثهما على استكناه أسرار الزمن، وهل المستقبل موجود منذ الأزل؟ وهل نساق إليه قسرا؟ أم نحن نصنعه بتصرفاتنا وأفعالنا مختارين؟ وإذا كان الزمن هو هذه اللفائف التي تطوى؛ فهل لطوله نهاية؟ أم هو غيب مستغلق؟ أم أن الأفكار التي تمر ببالنا هي التي ترسمه كما يقول الفيلسوف العظيم نيتشه؟
ومثل هذا الكاتب المتميز بصفاته الجوهرية، ومثل سماعه الذين يتبعونه بالتصفيق والتهليل، صورة من إنجلترا الجديدة التي تبدو أبعد تأملا في الحياة، وإن دل ذلك على شيء فعلى تحول جديد، قوامه الجرأة في التعبير على نطاق شامل مطابق للحقيقة، ولنأخذ على سبيل التدليل اتجاه «ألدس هكسلي
Aldous Huxley » هذا الذي يشار إليه بالبنان ويبدو حجة في كل الاتجاهات التي يرمي إليها، إن طول قامته ستة أقدام وسبع بوصات، فهو أول عملاق ينصبه التاريخ مرشدا للعقول، وكان في صغره طفل معجزات فأشار إليه «مارسيل بروست
Marcel Proust » في كتابه «البحث عن الوقت المفقود» كعلم من أعلم الأدب الأوروبي الحديث مع أنه لم يكن تجاوز في ذلك الحين العشرين من عمره.
ألدس هكسلي
وهو مزاج من إرادة لا تلين، وعزيمة لا يخمد أواراها، ودأب لا يخفف منه اعتلال صحته، وتحزب أعمى لآرائه، وقد جعل منه كل أولئك أشهر مؤلف إنجليزي معاصر، له اتجاهاته المتشعبة في الأدب الإنجليزي وإحاطاته المتساوقة بالآداب الفرنسية والألمانية والإيطالية واللاتينية والإغريقية، هذا إلى توجيه رفيع لفن القصة، وتلك الرشاقة وخفة الروح اللتين يجري بهما الحوار مع القصد في تصوير الطبائع، فهو لا مشبه له عندنا ولا ند له في هذا.
وينظر «ألدس هكسلي» في عمله إلى مستقبل حافل بالطمأنينة كأديب بارز ولكنه لا يقنع بذلك لأنه يدرك أن من واجب الرجل الفنان أن يوجه نفسه حيث يشاء نبوغه، على أن يكون هذا التوجيه لخير المجتمع؛ ولذلك فقد كتب عن «الدنيا الجديدة الباسلة» فأنجز بكتابه هذا أعظم عمل فني رفيع، ومع ما توخى فيه من البساطة والسهولة، فقد أعده هجوما على المدنية الأوروبية حاشدا فيه من ألوان الفكر والمعرفة ما لم يحشده الفيلسوف «إشبنجلر
Spengler » في مجلديه الشهيرين.
وقد وصف في كتابه هذا عقلية شاب أبيض نشأ بين قبائل السود المتوحشة، وليس ثمة من صلة تربطه بالثقافة التي كونته غير أعمال شكسبير الأدبية، فاستطاع هكسلي بهذا الوضع أن يكشف عن الوحشية وعدم التعقل الشائعين في كثير من المثل المتجاوبة بها عبارات شكسبير والتي هي جزء من ثقافتنا، وعما في كثير من مثلنا العليا في الحب والخطيئة والسلطان من آثار هذه الوحشية.
ولكن بوصفه دنيا جديدة، بنيت خارج نطاق تلك القبائل وعلى تخطيط من الأساليب العقلية الخالصة، حيث يعرف الحب بأنه تنظيم العلاقة بين الذكر والأنثى من الحيوان، وليس ثمة تعريف للخطيئة إلا أنها ما يؤذي المجتمع، فقد أبان عما في أعمق غرائزنا من العقم والمجافاة لهذه الدنيا، ورغم هذا فقد شقت عبقرية هكسلي بهذا العمل اتجاها جديدا له خطره، حطم به البناء الثقافي الذي نعيش فيه جميعا، وسد المنفذ الوحيد المرئي لنا، وكان من الحتم عليه إذا كان رجلا عظيما بحق، أن يدلنا على منفذ آخر أمين نجد السلامة فيه أمرا واقعا ملموسا.
وفي الواقع يتعين على هكسلي أن يجرد من نفسه في المستقبل كاتبا اجتماعيا أكثر منه فنانا، كما تنطق بذلك أعماله الأخيرة في رواية «ضرير في غزة
Eylelss in Gaza » وفي مقاله «الغايات والوسائل
Ends and Means » حيث يبشر برسالته الجديدة صريحا مخلصا أبلغ ما تكون الصراحة والإخلاص.
وهذه الرسالة الجديدة لا تختلف كثيرا عما بشر به تولستوي من قبل، أي إن الإنسان لا يستطيع أن ينقذ نفسه إلا بالتقشف والنسك والتحرر من الرغبات السفلية الوضيعة، وليس ببعيد أن يتاح لنا في حياتنا شهود هذا الطور الجديد متفردا بشخصيته الهامة التي تفرد بها تولستوي.
وقد أثبتت عبقرية هكسلي بهذا العمل الذي استرعى كل انتباه أنه يعد بحق سليل العلامة هكسلي الكبير، صديق داروين وحواريه، وأنه نشأ على غراره مشربا بتعاليم اللاأدرية.
وقد نرى في كتاب كثيرين آخرين من الإنجليز ما يثبت أنهم مضوا في ذات البحث عن تعليل الوحي والوصول إلى مصدر من وراء العقل يمكنهم من كشف أسرار الحياة، ولقد أثر ذلك في بعض اللامعين من الناشئة فأخذوا بالمعتقدات الكاثوليكية التي آثروها عند الكاتب القصصي «إفلين وف
Evelyn Waugh » في رواياته «التدلي والسقوط» و«قبضة من التراب» و«الأجسام الخسيسة» التي يذم فيها المجتمع الذي قام بعد الحرب ويقدح فيه بما أبدعته مخيلته وبما رزقه من الثروة البيانية، وكما فعل «جراهام جرين
Graham Green » الذي برهن بروايته «بندقية للبيع» على أنه من أعظم كتاب الأقصوصة الموهوبين، أصحاب الشعور المرهف كما كان ويلز في صباه، وكذلك كونراد وكيلنج أيام كانا من رواة الأقاصيص.
وإذا نظرنا خارج الكنيسة فإنا نرى شارلس مورجان
Charles Morgan
الذي حاز نجاحا باهرا وتفوقا منقطع النظير بقصته «الينبوع» فسجل بها فتحا جديدا في دراسة المثل العليا للتصوف، وكذلك «ناومي ميتشيصن
Naumi Mitchison » الكاتبة القاصة التي اتخذت من المخلفات القديمة أو التراث الكلاسيكي مادة لروايات أشرب فيها العلم بنار البشرية المشبوبة، وقد عملت مع «جيرالد هيرد
Gerald Heard » الأخصائي في علم الاجتماع لإيجاد قاعدة دينية جديدة تلائم عصرنا هذا. وكانت ميتشيصن إلى جانب ذلك من السياسيات المهيجات اللاتي يتلاعبن بالعواطف، وما أكثر أولئك الذين أدى بهم بحثهم عن مصدر الوحي وتعليله لا إلى تغيير معتقداتهم الدينية بل معتقداتهم السياسية، ومنهم شعراء الشباب أمثال «سيسيل داي لويس
Cecil Day Lewis » و«وستيفن سبندر
Stephen Spender » و«ي. ه. أودن
W. H. Auden » الذين يعنون بصقل أشعارهم وتصفيتها لتمجد وتخلد بجمالها الموهوب وليس بالزخرف المجلوب، و«فورستر
E. M. Forster » الذي بقي أرق كتاب القصة وأغزرهم شاعرية، و«رالف بيتز
Ralph Bates » الذي أخرج النفيس من القصص القوي المؤثر عن حركات العمال في أوروبا بقلم ناقد مرهف الحس، ومؤرخ موسيقي، وكذلك «رالف فوكس
Ralf Fox » واضع تاريخ حياة جنكيز خان، و«ڤيرچينيا وولف
Virginia Woolf » الكاتبة العظيمة التي أصابت نجاحا شعبيا كبيرا بروايتها «الأعوام» التي رسمت فيها تدرج اليخوت من الصبا إلى مختلف أطوار العمر في جيل كامل!
ولئن أصاب التحول والتغيير كل شيء في مضطرب هذه التيارات فقد بقي شيء واحد لا يتحول ولا يتغير، ذلك هو معدن إنجلترا وعنصرها.
فنحن ننجب الأعلام بغير ما ضن أو من، ونطلعهم مشابهين لأولئك الذين كانوا موضع المباهاة في أيام سابقة، أيام كانت لنا كل المعارف، وكانت عظمتنا سافرة لا ترقى إليها شائبة.
ولقد أنجبنا أيضا المحسنين النافعين من رجال البيوتات الذين نلقبهم بالأرستقراطيين، ومع ما يئودهم من أثقال الخدمات العامة وما يحوطهم من المغريات الشتى، وصنوف العبث واللهو، ومع أنهم لم تهيأ لهم الفرص ليبرزوا في مجال الأدب والفن، فقد أقبل بعضهم على عمله إقباله على لهوه بكل ما هيأته له الطبيعة من مزاج، وأعدته له مواهبه الفنية، فاجتمع لنا في كتبهم وخطبهم ورسائلهم لون نفيس من الأدب تتجلى فيه الفطنة والذوق الرفيع.
ولقد أعطوا في كل ما أنشأوا من الكلمات والأساليب، وصوروا من المعاني والأخيلة الدليل على أن روح الجمود لم تكن من تقاليدنا في يوم من الأيام.
الجزء
قصائد مترجمة
الفصل الرابع
القبرة
للشاعر الإنجليزي «بيرسي بيش شيلي»
ولد هذا العبقري عام 1792 ومات غريقا في ليجهورن بإيطاليا عام 1822، وإن الثلاثين عاما التي عاشها لتتضاءل أمام نضجه الفني وإنتاجه الغزير الحافل بأسمى النماذج الشعرية في قصائده الرائعة.
ويعد بحق الشاعر الفرد الذي يتقدم وحده الشعراء نوابغ الأعمار في جميع الأجيال حتى اليوم.
ويتفرد شعره بهذه الموسيقى المرحة الطلقة الصافية التي توصف بالقيثارة التي أيقظت أعذب الأنغام في قلب الحياة والتي انتزعت الرقة والحلاوة من جفاء الزمن وقساوته، ولكن المدرسة الحديثة تعتبره أعظم الشعراء المتصوفة في الإنجليزية بعد وليم بليك.
وقصائده الثلاث في السحابة، والرياح الغربية، والقبرة، من أشهر الغنائيات في عالم الشعر.
ولما كانت القصيدة الأخيرة من أحفلها بصور الخيال والجمال التي لا مشبه لها، فقد آثرت نقلها إلى العربية غير مجترئ على معاني الشاعر وأفكاره وسياقه الشعري بشيء من الحذف، بل مضيفا ما يقتضيه إظهار المضمر من المعنى وتبسيط المركب من الخيال مراعيا في التعبير عن الأصل الإنجليزي ما توحي به مقتضيات البيان الشعري العربي، وجامعا ما أمكن بين الاثنين.
يا أيها الروح يهفو حوله الفرح
تحية أيهذا الصادح المرح
من أمة الطير هذا اللحن ما سمعت
بمثله الأرض، لا روض ولا صدح
أنت الذي من سماء الروح منهله
خمر إلهية لم تحوها قدح
يفيض قلبك ألحانا يسلسلها
فن طليق من الوجدان منسرح!
وعاليا، عاليا، لا زلت منطلقا
عن الثرى، تصل الآفاق آمادا
مثل السحابة من نار مسعرة،
والبرق مؤتلقا، والنجم وقادا
يهفو جناحاك في أعماق زرقتها
وأنت تضرب في الآفاق مرتادا
تشدو فتمعن في أجوازها صعدا
فإن علوت بها أمعنت إنشادا
ومائج ذهبي النور قد غرقت
في ذوبه الشمس عبر العالم الثاني
توهج السحب البيضاء حمرته
فتستحيل عليها ذات ألوان
أشعة ذات أمواج غدوت بها
تطفو وترسب في لجيها القاني
كأنما أنت جذلانا تراوحنا
روح من الطرب العلوي نوراني
تذوب حولك إما طرت في أفق
غلالة الأرجوان الشاحب الساجي
كنجمة في سماء الليل خافقة
تذوب في فلق للصبح وهاج
يا من تطربني ألحان غبطته
وما رأيت له طيفا بمعراج
ألا أراك فإني سامع نغما
يهفو إلي بإطراب وإبهاج
وصاعدا في مضاء السهم أرسله
قوس من الكوكب الفضي منزعه
ينأى فيخبو رويدا وهج شعلته
حتى يلاشي كأن الفجر يتبعه
وترسل العين ترعاه هنا وهنا
وما يبين لنا من أين مطلعه!
حتى إذا عزنا المرأى وأجهدنا
دل الشعور على أن ذاك موضعه!!
هذي السماء بموسيقاك مائجة
والأرض يغمرها من صوتك الطرب
وصفحة الليل أصفى ما يكون سوى
غمامة خلفتها وحدها السحب
وقد بدا القمر الوضاح يمطرها
أرسال ضوء على الآفاق تنسكب
يرمي السموات سيل من أشعتها
تكاد تسبح في طوفانه الشهب
من أنت! يا من يجوب الليل منفردا
ولم تقع لي عليه بعد عينان؟
أي الخليقة قل لي هل أنت تشبهه
وأيها منك في أوصافه داني؟
وهذه السحب أصباغا مشكلة
في رائع من فريد اللون فتان
لا ينزل الغيث منها مثلما نزلت
شتى أغانيك في سحري ألحان!
كشاعر في سماء الفكر مختبئ
دل الوجود عليه لحنه العالي
ألحان أغنية أمسى يرتلها
كمرسل من نشيد الخلد سيال
أسلن بالعالم السالي خوالجه
حتى استحال شجونا قلبه الخالي
بعثن من ألم فيه ومن أمل
ما لم يكن منه في يوم على بال
كأن حورية في ظل شاهقة
من البروج تقضي العيش في خلس
لم يغمض النوم عينيها ولا خمدت
نيران قلب لها في فحمة الغلس
باتت تلطف آلاما تساورها
في عزلة بنشيد ساحر الجرس
تطوف ألحان موسيقاه مخدعها
كأنه الحب في إيقاعه السلس
كأن بين الربا التفت خمائلها
فراشة من سبيك التبر جلواء
يا حسن أجنحة منها مذهبة
قد رقشتها من الأسحار أنداء
تري السماء صفاء فهي إن خطرت
فللسماء بهذا اللون إغراء
تجلو الأزاهر والأعشاب طلعتها
إذا بدت ولها فيهن إخفاء
كزهرة الحقل في غيناء سرحتها
لم يملأ النور من أجفانها حدقا
حتى إذا لفحتها الريح هاجرة
زكت وأربت على أملودها ورقا
وأرج الحقل من أنفاسها عبق
يشوق كل جناح نحوها خفقا
تهفو إليها من الأنسام أجنحة
من كل منطلق من عطرها سرقا
ووقع لحنك في الأسحار أرخم من
وقع الندى فوق أعشاب البساتين
قد نقط الزهر المنضور سلسله
وجاد بالطل أفواف الرياحين
يا من علا صوته في الأفق منسجما
تصحو الأزاهر في أفنانها الغين
كل البدائع مهما افتن مبدعها
لم تعد لحنك في صوغ وتلحين
قل لي أمن ملكوت الروح منطلق
أم طائر أنت في الآفاق هيمان؟
أي الخواطر من حسن ومن بهج
يشيعها منك في الأرواح وجدان؟
لم تشرئب قلوب من أضالعها
لغير صوتك أو تنصب آذان
حديث حب وخمر بات يسكبه
من جانب الله أنغام وألحان!!
من أين تلك الأغاني أنت ترسلها؟
من أي مطرد الينبوع منسجم؟
من أي ثائرة الأمواج زاخرة؟
وأي تلك المروج العذبة النسم؟
من أي ضاحية الآفاق صاحية؟
أي السهولة والأغوار والقمم؟
وأي حب أليف منك أو وطن؟
وأي جهل لما نلقاه من ألم؟
وفي منامك والآفاق حالمة
وفي انتباهك والظلماء إصغاء
لا بد من نبأ للموت تعرفه
وفي فؤادك عنه اليوم أشياء
لأنت أعمق فكرا في حقائقه
بما نراه ونحن اليوم أحياء
أو لا! فكيف انسجام اللحن مضطردا
يجريه من رائق البللور لألاء؟!
إنا نفكر في ماض بلا أثر
ومقبل من حياة كلها غيب
ومستحيل نرجي برق ديمته
وكل ما نرتجيه منه محتلب
وكم لنا ضحكات غير صادقة
ما لم يشب صفوها التبريح والوصب
وإن أشهى الأغاني في مسامعنا
ما سال وهو حزين اللحن مكتئب!
هبنا على رغم هذا ليس يجمعنا
بالحقد أو كبرياء النفس أوهاق
فلا القلوب لدى البأساء جازعة
ولا بهن إذا روعن إشفاق
وأننا قد درجنا في خليقتنا
بلا دموع تذريهن آماق
فكيف كنا إذن نلقاك في فرح!
أويغمر الروح لحن منك رقراق؟!
يا أعذب الطير موسيقى وأروعها
من كل رائق أنغام وألحان
ويا أعز لنا من كل ما جمعت
نفائس الكتب من دري تبيان
يا ما أحق اقتدارا منك قدرته
بشاعر لبق التصوير فنان
أنت المبرأ في حب وعاطفة
يا من تعاليت عن أرض وإنسان
أما تعلمني مما يفيض به
غناؤك العذب تطرابا وتحنانا!
ذاك الجنون الذي يهدي توافقه
إلي من صدحات الخلد ألحانا!
ألست تلهمني وحيا يفيض به
فمي، فأملأ قلب الكون إيمانا!
أشدو فيلقي إلي الكون مسمعه
يصغي إلي كما أصغي لك الآنا!
الفصل الخامس
الشاعر وكتابه
للشاعرة الأمريكية «إدنا ڤنسنت ملاي»
إلى الوراء أيها الموت، إلى وجرك أيها المتلون الختال، إني أسترق أنفاسي من جذور هذا النبات، أنشب براثنك ما شئت، واستثر كل ما فيك من قوة، فستجهد كثيرا، وستضيق بضجرك ليالي طويلة، وستطمر كثيرا من العظام قبل أن تسحق عظمة واحدة من هيكلي الرقيق.
ومتى يدركني الموت؟ ومتى يحل بي الفناء؟
أعندما يشيع الذبول في هذا الجسد، ويلف نبات الأرض هذا الرأس بضفائره الصفر؟ أعندما يقف العشاق يعجبون مني ويتساءلون عني، من أكون؟ أنا ذلك الراقد تحت أطباق الثرى محتجبا عن ضوء القمر؟
أهذا فنائي الأبدي أيها الموت؟ أعندما يقف هذا القلب عن خفقانه فلا يردد شهيقا ولا يصعد زفيرا؟
أبهذه النهاية المهينة تلاشى روحي أيها الموت؟
آه ... عندما يذوب ثلج الشتاء، أيها الأصدقاء، ويساقط ذوبه الرغام والهشيم فلا تبكو علي، ولا تندبوني يا رفاقي.
ليس في شيء من هذا معنى من معاني فناني ... بل تحققوا موتي الخالد، في تلك الساعة التي لا يجد كتابي قارئا له ... ساعة تتلقفه الأرض ويطويه الخمول ويحجبه النسيان، فلا يضمه صدر، ولا ترتفع له صيحة معجب بالشيء الذي لم يرو بعد، هذا الذي تنطوي عليه صحائفه.
وعندما ترث كثرة العرض نسخة من أكداسه، فلا تجد من عرض الناس شاريا بعد طول انتظار، ينقدها الثمن البخس، ويأخذها صفقة غبن.
وعندما تلقى أكواما مهملة مركومة في طريق قذر، تلطخه العجلات العابرة بالوحل والدنس.
أيها المعجب ... قف قليلا وانظر خلال غبار القرون، وتناول هذا الكتاب ثم قلب صفحاته المهلهلة بيد رفيقة؛ اقرأني ولا تكلني للموت!
تقص هذه الرسائل الذابلة، والمس المناعة في هذا الغلاف الحزين، تجدني ملء قلبك وسمعك، فقد كنت يوما ذات هذا الكتاب!
عندما تحول هذه الشرايين أليافا في جسم الأرض، فانظر إلى هذين المحجرين الغائرين، تحت هذا الحب النامي المستوفز لعودة الربيع، وهو يخترقهما بجذوره المنطلقة انطلاق النيازك المنقضة، واشهد هذه العروق الوردية، وهي تهوي إلى قرارة هذا الأصيص الأسود (يعني جمجمته) ثم تنفتل لتصوب صعدا كأنما تتنسم المطر!
أيها الصبية ... أيتها الصبايا، إذا استلقيتم تحت هذا السياج، وأخذتم بأسباب النجوى، فاذكروني ولا تكلوني للفناء؛ أيها الشبان، أيتها الشابات، أنتم أيها المتخطرون في الغابات محدقين إلى طلع الغار الوردي، مستغرقين في البكاء والعتاب، امزجوني بعهودكم ووعودكم.
لا تتركوني للموت! أيها المزارعون الرائحون تحت الغيم الرقيق، وتحت الشمس المتلألئة، واذكروني عندما تهيئون حصادكم، وتجمعون الحب من ذوائب الشجرات اليابسة، وعندما يلوح لفح الظهيرة القائظة ثمر الفرصاد فيستحيل جنى شهيا.
وأنتم أيها الرعاة المتطلعون من أعالي التلال، حيث المروج الخضر وسنانة تحلم بجلجلة الأجراس، مرنة في أعناق القطيع الأمعط.
وأنتم أيها الملاحون! أيها الصارخون في صخب العاصفة، أيها الصيادون التائهون في صقيع الشتاء وفي بهر الجليد الأشهب.
اذكروني ولا تكلوني للموت!!
أيها الرجال! يا من يشتهون الرقاد، ويا من يشترون باليقظة لحظات من المرح، إذا ما مرت بكم أغنية قديمة، ذات روعة وصفاء، فاذكروني، إنها صادرة مني.
أيتها النساء المكدودات، أيتها المتلمسات شيئا من الراحة إلى أن يغلي القدر، انتزعن مني بعض السلوى وخذن مني مسراتكن؛ وأنتن أيتها الباكيات في أعماقهن حتى لا يكدرن بالبكاء نوم الرجال، امزجنني ببكائكن.
أيها الأطفال، أيها السارقون من ضحكات العجائز، لتركعوا عند جزع منقط بالندى، أو تحت طنف تزويه الأشجار العارية ، لتتندروا بأحاديث القداسة والحب، وأقاصيص الأبطال واللصوص، وأساطير المردة! اذكروني ولا تكلوني للموت.
إن الشمس التي تضيء في الليل، والجبال الراسية على هذه الأودية، تحملني إلى النور حيث أراوحكم وأغاديكم من هذه الشرفة كهذه الطيور المرفرفة عليها.
وأنت أيها اللحاد!! امض في عملك، اغمرني بوابل من حصبك، ثم ثن بهذا المعول، فستنفرط عقود كثير من الأزهار، وسيصدأ كثير من الأكاليل وضفائر الذهب، وسأمضي أنا في غنائي بينما تطمر أنت هذه الأكوام صلصالا سافيا في الأرض.
الفصل السادس
عودة الملاح
لشاعر العرش البريطاني «چون ماسفيلد»
يا فرحتي! للبحر أرجع ثانيا
متفردا بعبابه وسمائه
أقصى مناي سفينة ممشوقة
وبزوغ نجم أهتدي بضيائه
وصرير دقتها، وعزف رياحه
وخفوق قلع أبيض في مائه
وأرى الضباب يرف فوق جبينه
في شاهب من لونه وروائه
يجلوه ألاق رمادي السنى
متطلع بالفجر خلف فضائه
يا فرحتي! للبحر أرجع ثانيا
كيما ألبي المد في طفراته
هذا المزمجر، لست أنكر صوته،
إن الوضوح يشيع في نبراته
أقصى مناي لديه يوم عاصف
يهفو رقيق الغيم في سبحاته
ورشاش موج مستطار تحته
زبد يفور الرغو ملء كراته
وضجيج زمج مائه متخبطا
بالموج وهو يثير من صرخاته
يا فرحتي! للبحر أرجع ثانيا
جواب آفاق، غريب مسالك
أطوي مسارح طيره ومسابحا
للحوت عبر طريقي المتشابك
حيث الرياح كأنما وخزاتها
حد المدى، وشبا الحسام الفاتك
أقصى مناي رواية محبوكة
من نسج قرصان طروب ضاحك
ولذيذ أحلام وقد طاب الكرى
وتزايلت صور هناك تواركي!!
الفصل السابع
أغنية القطيع
من رمزيات الشاعر المعاصر «أوربرت ميتول»
من خلال حظائرنا التي شيدها الجبروت، رحنا نرقب أحزان العالم في صمت ورباطة جأش.
لقد عرفنا الدم المهراق، ورأينا شؤبوبه وكيف ينبثق في غير ما تنهدة أو حشرجة، ورأينا ذرارينا وكيف تعلف ويرجى سمنها للخنجر المصلت في يد الناحر.
في عيوننا الصافية ترقد كل خفايا الأبدية وتتوارى أسرار الفناء أو العدم.
وإذ يترفرق في أسماعنا ثغاء الزعيم تخطر في مرح ورشاقة مجاوبين ثغاءه، فإن أجفل رأيتنا في أثره كموجة متدفعة من الجنون حتى يقعد به العثار، وإذ ذاك تتطلع إلى زعيم جديد نسير تحت إمرته.
صاح خروف متلكئ في آخر القطيع «ولماذا تروعنا هذه المجزرة الممجدة فننكص على أعقابنا؟! ...».
ولكن أسراب القطيع راحت تثغو في غضب وكأنها تقول «ألا تذكر كيف ذهبنا بأقدام خالية من القذر ورجعنا بأدمغة فارغة؟! إن نبل الصنيع يقتضينا الفرار ما استطعنا إليه سبيلا». «إننا نحمي بذلك خرافا لن تجود بمثلها البطون».
فإذا ما أباح قطيع دمه فإن المعيز ستذكر لنا هذا القول المأثور؟».
لحظة ثم هوى الراعي علينا بعصاه صارخا مؤنبا «إلى الوراء! إلى حظائركم أيها الحمقى».
الفصل الثامن
بيت الراعي
للشاعر الفرنسي «ألفرد دي فيني»
ولد ألفرد دي فيني عام 1797، ومات عام 1863 فهو من شعراء النهضة التي وجهت الأدب الفرنسي وجهات جديدة رفيعة.
وقصيدته هذه في بيت الراعي
La Maison Du Berger
التي أهداها إلى حبيبته «أيفا» أو «مدام درفال» أو المرأة التي يعنيها، من أروع ما أنشأه من الشعر، وتقع في ثمانية وأربعين مقطعا، آثرنا ترجمة المقاطع الثمانية الأولى منها لاتفاقها مع عنوان القصيدة، ولأنها ذات موضوع طريف حافل، يتكلم فيه الشاعر بدقة ورقة وصراحة وعظمة عن القلب والروح والجسد، وشقاء النفس الشاعرة بهذا العالم الجارح، ومدنيته الجافية القاسية، وهو في هذه الأبيات يعبر عن حبه الأسمى للطبيعة ويجلو من براءتها ونقائها وحنانها صورا فتانة أخاذة.
وشعر دي فيني كما وصفه «سنت بيف» يجمع بين الآلام والاستسلام والفخار وهو شعر البطولة والمآسي، شعر القلب الأبي الجريح، شعر المتشائم الرقيق الشعور، الناطق في حالتي اليقظة والشرود بروح المتصوف العذبة، ورموزه الساحرة، في أسلوب يبدو أحيانا غامضا، ولكنه عظيم وخلاب؛ ويبدو أحيانا أخرى فظيعا في صراحته ولكنه لم يقل فيه كل شيء عن أسرار قلبه التي ظل محتفظا بها حيال القدر الأخرس.
فهذه العبارات الغامضة التي تحتمل الكثير من التأويل وهذه الأخيلة المتشعبة التي يذهب فيها الفكر بعيدا، حاولنا أن نوفق بين أمانة النقل وبين تعريبها واضحة جلية في هذه الترجمة التي ننسخ بها ترجمة أخرى سبق نشرها من قبل .
إن يكن قلبك الشجي المعنى
أرهقته حياتنا أعباء
مثل نسر دامي الجناحين مضنى
مستميتا يصارع الإعياء
حاملا فوق مسترق جناح
مثل قلبي من بؤس هذي الحياة
عالما قاتلا سحيق النواحي
بارد الجو، حالك الظلمات
رازحا في عذابه يتلوى
مثقلا من فوادح الأعباء
كلما ضج تحتهن تنزى
جرحه الخالد السخين الدماء
أو يكن بات لا يرى الحب، هذا
الكوكب الهادي الصدوق الوفيا
من له وحده يضيء، ويجلو
الكون في ناظريه أفقا وضيا
أو تكن روحك السجينة عافت
ذلك الخبز في الحياة طلابا
هو خبز الأسير في القيد باتت
نفسه من موارد الحتف قابا
يتلقاه مكرها بيديه
ملقيا من يمينه المجدافا
وهو يحني للبحر شاحب وجه
بينما يندب الحياة اعتسافا
وهو بينا يقتاف في الهدار
منفذا بين موجه للفرار
إذ يرى فوق منكب منه عاري
وصمة الذل صورت بالنار
أو يكن جسمك الحيي عرته
هزة من عواطف كامنات
بعدما مل عالما أرهقته
في حماء جوارح النظرات
باحثا في قصي تلك الحزون
ليداري جماله الفتانا
عن مكان من العيون مصون
فيه يحمي جلاله أن يهانا
أو تكن منك عافت الشفتان
كاذب القول تستقيه سماما
أو يكن قد تورد الخدان
خجلا من رؤى ملئن أثاما
فاهجري المدن وارحلي لا يسمك
ذل عيش فيهن غير طليق
ارحلي الآن! لا ينل قدميك
دنس من غبار هذا الطريق!
أشرقي من سماء فكرك حينا
وانظريها في ذلة وإسار
نصبت للخلائق المرهقينا
كصخور قدت من الأقدار
وانظري للحقول والغابات
حرة طلقة كهذا البحر
حول تلك الجزائر المعتمات
ولتكن في يديك طاقة زهر
تجدين الطبيعة الآن منك
في انتظار رهيبة الإصغاء
والثرى مرسلا على قدميك
من تعاشيبه سحاب الماء
وإذا الأرض من غروب الشمس
رتحتها تنهدات الوداع
وإذا هذه الزنابق تمسي
وهي تهتز بالأريج المضاع
واختفى في فضائه الجبل النا
ئي، ومدت معابد الصفصاف
ناصلات الألوان في صفحة الما
ء غصونا نقية الأقواف
وتهادى هنالك الشفق العا
ني ليلقى وساده في الوادي
فوق عشب من الزمرد فتا
ن وعشب مذهب الأبراد
تحت هذي الجزوع مستحييات
حيث هذا النبع الفريد النائي
بين هذي الخمائل الحالمات
وهي تهتز رعدة في الفضاء
حيث يسري مستخفيا في حجبه
لائذا بالكروم مثل الظل
ملقيا في الغدير شاهب ثوبه
فاتحا في المساء سجن الليل
فوق طودي نبت كثيف تحامى
خطوات الصياد عند الدبيب
عاليا عن جباهنا يتسامى
وهو مثوى الراعي، ومأوى الغريب
فتعالي هنا نجدد ذماما
ونخبئ خطيئة وغراما
قدست من خطيئة، لا أثاما
قد دفعنا لفعلها إلهاما
وإذا كان ذلك العشب خفضا
وهو يهتز هزة المرتاع
فتعالي! إني أدحرج أرضا
لك تحت الظلام بيت الراعي!
هو بيت يسري على عجلات
سمت عينيك سقفه المزدان
عاطر الباب معتم الرحبات
مثل خديك لونه المرجان
فيه ظل وفيه زهر نضير
بينها خلوة لنا وتداني
مخدع صامت الفراش وثير
يلتقي فيه شعرنا في حنان!
الجزء
زكريات أوروبية
الفصل التاسع
الليلة الأولى
كانت الشمس الغاربة ترسل أشعتها الأخيرة على صفحات الماء وفي حواشي الغمام الأبيض، وقد بدت منائر ڤينسيا الرائعة ذات القرميد الأحمر، والآجر الوردي، كأنها سهام من النار مصوبة إلى عدو لما تظهر طلائعه في الأفق البعيد.
واقتربت السفينة رويدا من الساحل وقد اتسع مدى النظر في الخليج الفاتن الذي اختارته ملكة الأدرياتيك عرشا لها منذ أجيال بعيدة، وامتد سلطانها منه على البلاد المترامية والبحار القاصية في ظل جمهوريتها العتيدة، هذا العرش الذي أفرغت الطبيعة في تنسيقه كل ما أوتيت من ذوق ورزقت من بصر، فهنا الماء الأزرق يأتلق في ثبجة الشفق الأرجواني، وهنا الصخور الرابضة على جزيرة جورجيا الصغيرة وقد تدلت من فوقها الأشجار حتى لامست بأوراقها جبين البحر، كعذارى يتلعن بأعناقهن ليشهدن منظرا معجبا، وهناك عبر الساحل الدور البيزانطية بشرفاتها الزجاجية الكبيرة وكأنما ينبثق من كل نافذة شؤبوب من اللهب، وبين هذه وتلك تتأرجح الجندولات بقياديمها الفضية على صدر الماء، وتذهب وتجيء الزوارق بأشرعتها المختلفة الألوان وقد خفقت في حواشيها نسمات المساء، وترددت منها صدحات مطربات على إيقاع ألحان رخيمة يعلو ويخفت صداها في وسط هذا المضطرب العجيب!
ورست السفينة، وعلا ضجيج النوتية، وأخذ الركاب ينادون الحمالين لرفع أمتعتهم، ووفقت إلى مغادرة السفينة دون عناء، وبعد لحظات كان الجندول يتخطر بي بين الأمواج الهادئة وينعطف بي في قنوات المدينة تحت الجسور الرائعة التي لا مشبه لها في العالم، وقد بدأ الليل يبسط جناحيه الغدافيين على ما حولنا، والنوتي يصيح كلما اقترب من مفرق قناة منبها القادم إلى مكانه، وعبست السماء دون إنذار، وانهمر المطر مدرارا فلم ألتفت إلى هذا المزاج الغريب الذي تفردت به طبيعة أوروبا، فقد كنت مأخوذا بسحر هذه المدينة وجمالها ولطافة الذوق المنبث في كل حجر من أحجارها، واستغرقت شعوري هذه المشاهد البديعة ونحن نجوس خلالي القنوات تحت أضواء المصابيح المعلقة على أبواب الدور وهي تسرج وتطفأ في مهاب الهواء البارد، وصاح النوتي وقد أشرفنا على قناة كبيرة: هذا هو الفندق يا سنيور، وهذا قنال «سان ماركو».
ووثبت من الجندول باللهفة التي تستولي دائما على كل سائح يرتاد بلدا غريبا، وسرعان ما وجدت أمتعتي في الغرفة المختارة، فخلعت معطفي وغيرت ثوبي وغادرت الغرفة عجلا عاري الرأس، تحية مستعرة للمدينة التي كانت زيارتها حلما من أحلامي.
وحينما توسطت ردهة الفندق هتفت بي فتاته: المطر غزير يا سنيور! قلت: هذا جميل يا آنسة. ولم يكن ردي مبنيا على المغامرة أو عدم الاكتراث ففي سواحل مصر الشمالية ألفت منذ حداثتي المطر المنهمر، والبحر المضطرب، والسماء الغائمة، والنوء العاصف، والبرق اللامع، وهذا سر الملاح التائه الذي عرفه ركاب السفينة المتأرجحة في يد العاصفة وهم يعجبون من هذا الفتى الأسمر الذي يقتحم غرفة المائدة ليملأ معدته بالطعام بينما هم مستلقون على ظهورهم من دوار البحر أو ممسكون بمعداتهم الخاوية من الألم والاضطراب.
وابتسمت الفتاة قائلة لي برطانتها الإنجليزية: إلى أين؟ قلت: إلى ميدان «سان ماركو». فأومأت بيدها اللطيفة إلى جسر صغير، واندفعت حيث أشارت، وما كدت أرفع رأسي حتى وجدتني حيال مشهد، إن أنس فلن أنساه ما حييت، وقفت حيث أن وسمر ناظراي فيما حولي ومرت لحظات كأنها نهزات وحي هامر أو إلهام غامر، وأخذت عيناي تنبيان المرائي وتتثبتان مما تريان تحت أضواء العواكس الكهربائية والثريات المعلقة، بنظام هندسي فريد في أرجاء المكان ... هذا ميدان «سان ماركو»! أي روعة؟ أي فتنة؟ إن الألفاظ عاجزة عن تصوير ما أرى، وأجد نفسي مفعمة بما لا طاقة لي على الإبانة عنه أو وصفه؛ غاص بصري في هذا الجمع الحاشد وكأن يوما من أيام ڤنيسيا القديمة قد عادها هذا المساء، وكأن هذا الحشد في انتظار الدوج العظيم، مرتقبا طلوعه من شرفة القصر الخالد، كل العيون متجهة حيث الكنيسة وحيث القصر وحيث البناء التاريخي العجيب الذي يحيط بالميدان إحاطة السوار بالمعصم، وقد نهض برج الساعة في ركن الميدان سامقا كأنه عملاق من عمالقة الأساطير أو كأنه «جلڤر» لفظ أنفاسه حيث هو دون أن يشعر به الناس!!
تحركت قدماي، ونزلت الميدان، عن يميني وعن شمالي موائد مصفوفة، ومقاعد مبثوثة، غاصة بالجالسين، مزدحمة بالوافدين من شعب المدينة، ومن حولهم جمهور سائر لا ينقطع كأنه سلسلة متصلة الحلقات تلف على دولاب دائر؛ وفي وسط الميدان نهضت منصة الموسيقى برجالها تحت الأضواء الباهرة، وقد وقف الرجال بأردية السهرة السوداء وفي أيديهم آلات العزف والنفخ والنقر.
واشرأبت الأعناق، ودارت العيون، ووقف السائرون في أماكنهم، وأمسكت كل شفة عن همسها، وارتفعت يد «المايسترو» فبدأ اللحن هادئا ثم تعالى رويدا، ثم انفجر كأنه عين ثرة دافقة، ثم ماجت الألحان فكانت مزاجا أخاذا يثير الشجو ويهز القلب ويفعم النفس، وانتهت الموسيقى من عزفها وارتج الميدان بالتصفيق وهتاف التقدير والاستحسان، وانطلق غلمان ألحان مطوفين بالموائد حتى بدأت الموسيقى لحنها الثاني فلم يكن ثمة من سعادة يحلم بها إنسان أكثر من هذه الليلة، كان مطر، ولكن ماذا يفعل المطر بهذه النفوس المتعطشة إلى فيض هذا الفن العالي؟ وما بلل الثياب وارتعاش الأجسام حيال هذا السحر الدافع؟ إذ تسبح النفوس وتنهل القلوب وتتكلم العيون وتتدانى الرءوس الحانية وتتشابك الأيدي المحبة كأنما تجدد ميثاقها لسطان الحب القاهر على هيكل الفن الساحر!
واشتد المطر فحال دون العزف، وجمع الرجال أوراقهم وغادروا المكان ونهض الناس، ونهضت بينهم أتملى بناء المكتبة، وبينا أغادر المكان مر بي رجل تترفق ساعده سيدة صغيرة غريرة كأنها حمامة مقدسة من حمام هذا الميدان ولكنها ذات ريش أبيض ... وأخذ الرجل يناقش السيدة وهي تعارضه وتتحداه، فهمت هذا من حركاتهما قبل أن أفهمه من لغتهما، ونظر الرجل إلي فوجدني إزاءه فرفع يده مرات بالتحية هاشا، فأحنيت رأسي محييا باسما، ولم يترك لي فرصة حتى أقبل علي قائلا: هل للسيد أن يدلني على ريالتو؟ قلت: ما هذه الريالتو؟ وكانت إيطالية الرجل سقيمة حتى لا يكاد يبين، فتدخلت السيدة وتكلمت بالإنجليزية وبطلاقة: هو يسأل عن «پونت دي ريالتو» قلت: المعذرة يا سيدتي، إني غريب هنا، حضرت الليلة ولما يمض علي في هذه المدينة ساعتان. فافتر ثغرها، وأدرك الرجل معنى ما أقول فسألني: ألدى السيد مانع من صحبتنا فنحن غريبان أيضا؟ ثم استطرد في سؤاله: أأنت هنا وحدك؟
قلت: نعم.
قال: وأين زوجتك؟
قلت: لا زوج لي.
فتعجب الرجل وكأنما كان جوابي باعثا على استثارة دهشته.
قلت: هل في الأمر غرابة؟
فابتسم قائلا: كلا ولكن ڤينسيا مدينة العرائس!
قلت: إذن أنتما زوجان جديدان؟
فغضت السيدة ناظرها حياء وتورد خداها وضغطت على ساعد زوجها بلطف ورقة كأنما تمنعه من الإفاضة!
فابتسمت لهما وسألتهما: ألا تعرفان شيئا عن هذه المدينة؟
فهز الرجل رأسه علامة النفي.
قلت: إذن سأتولى أنا السؤال عن ريالتو لأني أتكلم الإيطالية قليلا.
ووضعنا أيدينا في أيدي بعضنا البعض بحركة طبيعية محضة كأننا رفقاء معرقون في المودة.
واخترق ثلاثتنا الميدان صفا واحدا حتى حاذينا البرج السامق الذي تصدع منذ ربع قرن وجدد بناؤه قبل الحرب العظمى بقليل، فأخذت خطواتنا تهدأ وأنظارنا تتجه نحو الكنيسة وخيولها الأربعة البرونزية اللامعة.
قلت: ما أبدع هذا البناء!
فسألني الرجل: أولم تشهده غير الآن؟
فأغنتني السيدة عن الجواب وأخذت تداعب زوجها: ألم يقل لك إنه لم يمض عليه غير ساعتين في المدينة؟
واقتربنا مليا من مدخل الكنيسة وتلاقت نظراتنا فابتسمنا وقد زاد فيض النور، فتابع الرجل حديثه: لشد ما تروعني هذه الخيول البرونزية المطلة من فوق المدخل، صدقني أيها الرفيق إني أحبها وأخافها في وقت واحد، فإني كلما وقفت أتأمل اقتدار الفن الذي صنعها، أتخيلها حية تتحرك وأنها ستطؤني بحوافرها هذه!.
ثم ملنا إلى الصور المزدانة بها واجهة البناء المصنوع من قطع الموازايك البللوري والفضي واللازوردي والأصفر الفاقع والأحمر القاني.
قلت للصديق: لقد جاء دوري . قال: حسنا. قلت: انظر إلى هذه الصورة فأخذ يتأملها وأنا أحاوره: هذه جثة الرسول مرقص. هذا الرسول الذي ضن البنادقة على مصر بجثته فعملوا على اغتصابها. فهتف الرجل: ومن أين لك ذلك؟
قلت: تأمل يا صديقي فإن التاريخ يحمل مسئولية روايتي، هذه جثة الرسول في الصندوق مغطاة بأوراق الشجر الأخضر واللحم الطري؛ وها هم الخونة بأزيائهم الشرقية يعينون المغتصبين على إخفاء الجثة ونقلها إلى السفينة المنتظرة. فسألتني السيدة بدورها: وماذا صنعوا بالجثة؟ قلت: كما ترين، هذا مقرها وهذا البناء هيكلها العتيد!
فقالت مداعبة: إذن لا ضير أيها السيد ولا غبن، فلو بقيت في مصر لما أقيم لها مثل هذا البناء النادر المثال الذي يتحدى الفنانين بأناقته وفخامته. فحنيت رأسي اعترافا بمنطقها السليم، وسرنا نتأمل العقود الرائعة ذات العمد الرخامية الناطقة بأعاجيب الفن في قصر «الدوج» فقلت للسيدة: هذا فن أجدادي. فنظرت إلي كأنها تسألني الإيضاح، قلت: ألم تزوري إسبانيا؟ قالت: كلا. قلت: وأنا مثلك.
فابتسمت وعادت تنظر إلي وهي تمزح: هل أنت إسباني؟ قلت: كلا. إذن ما لأجدادك وهذا البناء؟ فطربت لهذا الحوار الجميل. وانطلقت أحدثها: «إن أجدادي ضربوا خيامهم في رمال الصحراء وخرج منهم الأنبياء والرعاة المنشدون والفلاسفة والمفكرون، ومنهم أيضا الفنانون المبتكرون، انظري سيدتي إلى هذه العقود وإلى هذه الأعمدة وإلى هذه الشرفات، هذا الفن العربي وجد قبل بناء هذا القصر بمئات السنين، ولا تستكثري سرقة الفن على قوم اجترأوا على سرقة رسول، قالت: ولكنهم بدلوا فيه وغيروا.
قلت: نعم، والفن في نظر بعض النقاد تحايل ومهارة وأساسه الاقتباس.
قالت: وهل الكنيسة أيضا مثل هذا القصر؟
قلت: كلا، إن قبابها السامقة تمت إلى كنيسة الحواريين المقدسة التي كانت بالقسطنطينية ولا أزيدك معرفة فهذان العمودان الرخاميان استحضرا أيضا من القسطنطينية وركبا في القرن العشرين، أما أولهما فيحمل تمثال أسد «سان ماركو» المجنح، أما الثاني فيحمل تمثال «سان تيودو» الجمهوري الفينيسي، وكان محاربا استشهد في الحرب تحت لواء مكسيمليان.
فمضت في مزاحها قائلة: عجبا، ومن أين لك هذا الوصف الدقيق الشامل وأنت لما يمض عليك ها هنا ساعتان؟ قلت: لا تعجبي أيتها الصديقة العزيزة؛ فإن في العالم مفاتن رسمتها المطالعة في هذه الذاكرة، وفي ڤنيسيا الحمراء غنى الشعراء وكتب الملهمون، حتى في هذا الأسد الضخم الرافع قبضته البرنزية إلى الأفق الهادي وفي هذا البحر الذي لا صياد فيه ...!
ولم أكد أتم كلمتي حتى صاح الصديق: إن الساعة الحادية عشرة ولم نصل بعد إلى «الريالتو» ونحن ظماء يا صديقي إلى البيرة فأسرع بنا إذن، وغدا نتم حديثنا عن الرسول مرقص والفن العربي.
وسرنا نسأل هنا وهناك عن «بونت دي ريالتو» حتى وصلنا القنال العظيم وأخذ بأبصارنا الجسر المعلق عليه، وفي الحق لم يكن بحثنا عنه ساعة كاملة، ولا مسيرنا كل ذلك الوقت عبثا؛ فإن هذا الجسر يعتبر من أعاجيب الهندسة التي تفرد بها «أنتونيو دايونتي» عام 1590.
وصعدنا الدرج الواصل إلى منتصفه فإذا بنا وسط حان صغير انتثرت في جوانبه موائد حمراء صغيرة، صفت حولها المقاعد بأناقة وذوق فاتن فاخترنا مكانا، وأقبل غلام الحان بابتسامته العريضة، وما هي إلا دقائق حتى غصت المائدة بأقداح البيرة الكبيرة الفائرة الزبد! وانطلقنا في حديثنا عن مصر، وأخرج الصديق بطاقته وقال: إذا شئت فاكتب لي عند عودتك وأعطني عنوانك لأكتب إليك. فتأملت البطاقة وهتفت بالرجل: هل أنت حفيد السياسي العظيم «بلسودسكي»؟ فضحكت السيدة حتى كادت تستلقي بكرسيها على الأرض وقهقه الرجل قائلا: إنها مصادفة! إني أستاذ في جامعة فرسوڤيا.
ثم أفاض في حديثه عن برلندا وتمنى لو زرتها معهم وتحدثنا عن الفن البولندي، فذكرت له كيف التقيت بالمصورة الفنانة «أولجا بوزنانسكا» في قصر السنيوريا بفلورنسا، وأخذ هو يحدثني بدوره عن مميزات فنها وعن مصور بولندي آخر هو الفنان «فالكاف باسكوفتش» الذي أحرز جوائز كثيرة في معارض الفن الحديث، والتفتت السيدة إلينا متململة وهي تتهكم علينا بقولها: ولم لا تتحدثان أيضا عن تماثيل كومانسفسكي؟. ألا تخلصان من حديث القصور والصور والمتاحف هذه الليلة؟ أيها الرجال هذه فنيسيا الحمراء!
قلت مداعبا: فلننصرف إذن إلى حديث الحب ومغامرات العشاق في هذه المدينة، ولنبدأ بهذا الشاعر الذي فر بعشيقته الشاعرة إليها، أو فلنبدأ بحديثه فربما كانت هي التي فرت به ... وربما كانا يجلسان مثلكما فوق هذا الجسر وإلى مثل هذا الخوان وفي هذا المكان، وربما كان يجلس إليهما في تلك الليالي الخالدة رجل مثلي غريب عنهما أيضا ... فقهقه الرجل طربا لهذه العبارات الموفقة، أما هي فقد افتر ثغرها النضير عن ابتسامة مشرقة عذبة؛ قالت: ليس في هذه الإثارة ما يبهج، وربما كان فيها ما يشجي! فقد لقي هذا الشاعر المسكين من حب هذه الشاعرة ما لقي، ولقد كانت امرأة عنيفة الأهواء، جامحة النفس، متقلبة، كثيرة التنقل بين عشاقها فمن موسيقي إلى شاعر إلى طبيب ... ومن يدري؟ ولكنه كان صادق الحب وكان خياله يلهب حبه وكان سعيدا بهذا الخيال فجاء مرضه في هذه المدينة شؤما عليه ...
وقال الرجل: ولكنكما نسيتما أشياء عن هذين العاشقين، فلم تكن «جورج ساند» تحب في موسيه ما تحبه المرأة المكتملة الأنوثة في الرجل عادة، إن الحياة التي اضطرب فيها قلبها قد سلبها ما ظنت أنها وجدته في ربيب أبولون: صورة وادعة، وعربكة لينة، وقلب ناضر، وجانب رقيق، ولكن الأنثى قد استيقظت فيها على صوت خشن غريب، هو صوت الطبيب الذي يعود شاعرها المريض. غير أن ذلك القلب الدامي الذي حرك الرحمة والحنان في قلب العالم كان قد وقع نشيده وغناه، وخلد فيه هواه وهو يهتف: لندع ساعة البرج في قصر الدوج الهرم تعد عليه لياليه المسئمات، ولنعد على ثغرك العاصي يا جميلتي هذه القبلات المغتفرة!
وشاعت روح هذا الشعر في نفوسنا وتملكتنا رغبة في المرح فرفعنا أقداحنا، ومال الرجل على صاحبته وهو يقول: ألا تغنينا الآن يا عزيزتي شيئا من ألحانك؟ قالت: أي الألحان تريد؟ قال لحنك الروسي المفضل. فنظرت إلى الماء المتألق تحت الجسر وقد بدا نوتي يغني في جندوله البعيد فبدأت إنشادها:
لا نجم، لا مصباح
يلمع في السهل
قد نامت الأدواح
مقرورة الظل
مطمورة الأشباح
في مهدها الثلجي
هذا شعاع لاح
يخفق في وهج
الحارس السهران
قد فتح البرجا
يتلو على النيران
أغنية الفولجا
واللهب السكران
يرقص في ناره
والنغم الفرحان
يلهو بقيثاره
أطلقت إنشادي
يا من تغنيني
قيثارك الشادي
حلو الأرانين
يدعو لميعادي
الحب والأحلام
يا حارس الوادي
قد باحت الأنغام
هذا الفتى الممراح
قد أغلق البابا
واللهب الوضاح
من خلفه غابا
لأنجم، لا مصباح
يلمع من بعد
لا صوت، لا أشباح
إني هنا وحدي
يا أمل العمر
يا حلم العذراء
يا توأم الفجر
يا ابن الصبا الوضاء
يا ملك الحب
إني لك الليله
فاطبع على قلبي
أو شفتي قبله!
وصفقت طربا وإعجابا بهذه الأغنية الجميلة وقلت: أهي من الأغاني الاثنتي عشرة للشاعر ألكسندر بولك؟ قالت: إنها من أغاني السهول القديمة، ولعبت نشوة الراح برأس الصديق فأخذ يداعب امرأته بغير تحفظ، فانصرفت عنهما إلى القنال موهما إياهما أني أتأمله، ولاحظت السيدة ذلك، فتورد خداها وأخذت تدفع عنها الرجل النشوان، وأدركت معنى عزوفي عنهما فبادرتني هاتفة: أرى السيد غارقا في أفكاره؟!
فالتفت إليها باسما وأنا أقول: أجل يا سيدتي؟ إني لا أزال أفكر في الطريقة التي نسترد بها جثة الرسول مرقص. فضحكت قائلة: ما عليك الآن من ذلك ورفعت قدحها وأشارت محيية به فرفعنا قدحينا ... ووقفت تنسق ثوبها وهي تقول: هيا بنا أيها الصديق فإن الليل قد جاوز منتصفه وفي الغد نعقد مؤتمرنا في ميدان «سان ماركو» لننظر في شكواك من البنادقة المجترئين على بلادك. وهبطنا الدرج وسرنا وأنا أداعبها بقولي: «حذار يا سيدتي! إذا لم نصل إلى نتيجة غدا فإني سأنتقم للرسول مرقص من ڤنيسيا»!!
فقالت في دهشة : وكيف ذلك؟
قلت: سأسرق حمامة مقدسة وأفر بها إلى مصر؟
قالت ضاحكة: كما صنع أخ لك من قبل!
قلت: إني أتكلم جادا وسترين كيف أفر بهذه الحمامة؟
قالت: أإلى القاهرة الحمراء أيضا! أليس كذلك أيها الشاعر؟
قلت: القاهرة الخضراء يا صديقتي وسأفرد لهذه الحمامة عشا في خميلة على ضفاف النيل. فضحكت متممة: وجنة من جنات فرعون! قلت: نعم جنة فيها من كل فاكهة زوجان.
وكأنما أدركت السيدة ما ترمي إليه دعابتي هذه فتمايلت من سكر الصبا وسحر الليلة، وسرت إلى جانبها والرجل يتعثر في خطاه حتى وصلنا أول الميدان فاستندت إلى ذراعي وهي تقول: أرجو أن تسرع أيها الصديق قبل أن يأوي الحمام إلى أوكاره ولا تنس موعدنا غدا. فحييتهما وافترقنا، كل في طريقه إلى مأواه.
الفصل العاشر
في ميدان إسدرا
هذه روما الخالدة تتأهب لاستقبال البعثة المنشوكية، وكأنما غمرتها موجة من مباهج أيامها الخالية، فحيثما سرت أعلام خافقة، وثريات متألقة، وقد ازدحمت أرصفة الشوارع والطرقات بالغادين والرائحين وهم يتطلعون إلى النوافذ الموشحة بأوراق الشجر وضفائر الورد، أو إلى الفترينات المرصعة بألوان الثياب الزاهية، والقطع الفنية الخلابة؛ وكنت في طريقي إلى شارع الناسونالي وأنا أجتاز ميدان فينسيا محتشد الخواطر، مفعم النفس بالأثر الفني الرائع الذي أقيم إلى جانبه للجندي المجهول، ذلك البناء الرخامي ذو الدرج العريض العالي، يشرف عليه تمثال عمانويل الثاني وهو ممتط صهوة جواده، وتحته أربعة من الجند الأحياء مسمرين في أماكنهم حول إكليل كبير من الورد اليانع، حتى لتخالهم جزءا من هذا الأثر الرائع، أو بعض تماثيله يستكمل بها رونقه، ويستتم بها الفكرة التي رفع من أجلها لذلك الجندي الباسل.
وكانت رفيقتي في هذا اليوم الصحفية السويسرية «تنجلفدر»، وقد استرعى انتباهها استغراقي في تأملاتي ونحن ننحدر إلى شارع الناسونالي، فشدت على يدي بلطف، وهمست قائلة: «أفق يا صديقي فإن للسير في الشارع نظاما خاصا»، فنظرت إليها نظرة المفيق من حلم جميل، فاستطردت قائلة: يجب أن نجتاز عرض الطريق إلى الرصيف المقابل حيث نندمج في موكب العابرين إلى الميدان، وعليك أن تضع قدمك وأنت منتبه؛ لأن السيارات هنا لا أبواق لها، وترفقت ساعدي وسرنا حيث أشارت، وغرقنا في تيار مندفع من الناس، نتسمع إلى لهجاتهم المختلفة، فهؤلاء بقية من الإنجليز والأمريكان العائدين من الشرق في طريقهم إلى باريس، وأولئك طلائع الألمان الوافدين في موسم العنب الذي تحتفل به إيطاليا كل عام احتفالها بأعيادها الوطنية والدينية، وبين هؤلاء وأولئك الإيطاليون المرحون وهم يتأملون هذه الوجوه الغريبة التي لفحتها شمس إيطاليا السافرة.
قلت لصديقتي وأنا أحاورها: «ماذا أعددت لي من فجاءات البهجة والمرح؟ فأشارت إلى الأمام قائلة: «انظر أيها الشاعر، فهنا الليلة شعر، وغناء، وموسيقى» وكنا قد أشرفنا على ميدان إسدرا، أبهج ميادين روما في الليل، ذلك الميدان الذي يرسم محيطه نصف دائرة يبلغ مداها مئات الأمتار، ويحيط به بناءان متماثلان من الطراز الروماني انتثرت المصابيح الكهربائية في عقودهما الوسطى انتثارا عجيبا، ففي منتصف كل عقد مصباح من الحديد المشغول لا يختلف عن نظائره في أرجاء الميدان، والتفت أنابيب الضوء الزئبقي حول الشرفات والمظلات خطوطا أفقية وهاجة أحالت الليل نهارا، وبدت النافورة الرائعة في منتصفه، وقد انثالت شآبيب مائها متلألئة تحت الأضواء العاكسة المختفية كأنها دهاليز من أشعة الشمس تمرق خلال الغمام الأبيض، وهذه العقود المتشابكة بمصابيحها السوداء تخيل لك كأنك في طريق «اللوفر» عند المساء، وهذه النافورة تذكرك بنوافير ميدان الكونكورد، ولكن أين هذه من تلك، إن نافورة واحدة من نوافير الكونكورد لا يتسع لها هذا الميدان الذي أراه الآن رحبا، والذي أشعر بالغبطة وانشراح الخاطر كلما اجتزته عابرا، واندفعت وصديقتي إلى أحد المشارب، حيث الموسيقى الوترية المترجمة عن أدق اهتزازات العصب الإنساني، والمعبرة عن أرق ميوله وأحاسيسه!! خلصنا من زحام الواقفين المتسمعين وأخذنا مكاننا حول مائدة صغيرة ساقتنا الصدفة السعيدة إليها؛ إذ لم يكن هناك غيرها خاليا من الموائد.
وانتهت الموسيقى من عزفها بين عاصفة من التصفيق المهذب المحبوب، وقامت فاة رشيقة فوق المنصة فنزعت لوحة لم أتبينها وعلقت لوحة جديدة، ما كاد الجمهور يقرأ ما كتب عليها حتى اشرأبت أعناقه وتنصتت أسماعه؛ ذلك أن عنوان اللحن «مدام بترفلاي موسيقى بلليني» وبدأت الموسيقى عزفها وسط ذلك الصمت الرهيب الذي لم تعكره صيحة بائع، ولا بوق سيارة، ولا بكاء طفل، ولا نباح كلب، ولا تهامس مستهتر! نحن في ميدان مفتوح يجتازه حولنا ألوف وألوف من الناس، ومع هذا فلن تحس إلا ما أخبرتك به.
صورت لنا الألحان شتى أحلام وذكريات خلتها أطيافا مرفرفة في ذلك الجو السحري البديع الذي يخلقه الفن القادر خلقا، ويعيده كيفما شاء، حتى خلت أن الليل نفسه بدأ يزفر، وأن النسمات الندية أقبلت من قمم الجبال والمروج البعيدة وحوافي الجداول، لتسمع هي الأخرى صوت الطبيعة المتفجر بالسحر والجلال، واختتمت الموسيقى عزفها، والتفت المايسترو مواجها تلك القلوب الشاعرة والوجوه الشاكرة والأكف الثائرة.
وقامت الفتاة الأولى فنزعت اللوحة الصغيرة، وعلقت لوحة جديدة تبينت اسم لحنها فإذا به «سونيا» تغنيه الآنسة «كارلوتا».
همست صديقتي السويسرية قائلة: هذا لحن رائع، وأغنية عاطفية شاجية! وأخذت تتمايل من الطرب ولما تبدأ الفتاة إنشادها، وهنا ارتفع في وسط المنصة عمود معدني رفيع يحمل معجزة العصر الحديث، معجزة اللاسلكي، وصعدت فتاة ما كاد الجمهور يلمحها حتى دوت الأكف بالتصفيق هادرة صاخبة، كانت ذهبية الشعر، وردية الوجه، في ثوب أبيض ناصع يحتكم في جسمها احتكاما عجيبا، لم يترك ثنية من ثناياه أو حنية من حناياه إلا أظهرها، فأظهرنا بذلك على المعجزة الكبرى التي تتحدى كل معجزة ... المرأة، أو معجزة الخلق.
وقفت الفتاة أمام الجهاز اللاقط تصلحها بيدها حتى استوى إزاء فمها الباسم، ثم دارت في الجالسين بعينين تستبدان بالغرائز، وتستأثران بالمشاعر، وترسل صوت الأوتار رفيقا، رخيا، ناعما، وبدأت إنشادها وهي تضم يديها إلى صدرها الخافق ضما حبيبا كلما اهتاج اللحن شجاها، أو وافق هواها، أو كلما أومأ لها الفن أن تصدع بما أمرها به، هذه القيثارة الإلهية التي ركبت في لهاتها والتي أخذت تهتز تحت أنامل القدرة، لم تدع للقياثير الصادحة حولها على صدور الشبان والشواب من أترابها صوتا يشعرك بغير وجودها هي، وغير غنائها الساحر، اللهم إلا حين تسمو النبرة، وتغلو العاطفة غلوها الفني المقدر، ويجأر «الڤيلنشلو» بصوته الأجش الشجي، فهنالك لا إنسان ولا إنسانة، ولا عازفة ولا شادية، ولكنها أرهام من السحر تسمع لوقعها على قلبك نقرا يستثير أجمل مشاعرك، ويستخف أنبل خلائقك.
وانتهى برنامج الليلة وبدأ الخدم يدورون بالشراب على طلابه، ويجمعون نقودهم ممن هموا بمغادرة المكان، وأخذ عشاق الرقص في ارتقاب الفتيات حيث يبدأ ليل جديد بين الكأس والمخاصرة في أبهاء المكان.
وكانت صديقتي - على رقة طبعها ودقة انتباهتها ولطف إشارتها - معنية بكتابة بعض خواطرها أو مذكراتها في مفكرة صغيرة، وكنت أرقبها باسما وما كادت ترفع وجهها حتى صاحت معتذرة عن انصرافها عني بهذا الشاغل البريء، وأخذت تجمع حقيبة يدها وهي تقول: هيا يا صديقي فأنت متعب ولا شك ... قلت: كلا والأمر على خلاف ذلك، ولنا الآن أن نشرب قدحين من الأوروم، وأن نتحدث فيما وعدتني به هذا الصباح، لأن طريقي غدا إلى «نابولي» كما تعلمين! فأجابت وهي تغض من نظراتها: لقد غلبت حيائي هذا اليوم عندما أرسلت لك بتحية الصباح مع خادمة غرفتك، وحدثت نفسي: ماذا يقول هذا الرجل الغريب عني؟! وماذا يكون ظنه بي؟! على أنك كنت وحيدا على مائدتك، وكنت أنا وحدي أيضا، وكنت فاضلا عندما شكرتني ودعوتني إلى زيارة كنيسة سان بيتر، فإني كاثوليكية ولم يكن أحب إلي من زيارة هذا المعبد، ولست صحفية بصحيح المعنى كما أخبرتك وإن لم أكذب عليك، فإني أشتغل محررة خطابات في بنك ... وأراسل بعض الصحف والمجلات بما يهم قراءها من شئون المرأة في الممالك والمدن التي أغشاها كل صيف، وقد جهزت أمس لشقيقتي - رغم الخلاف الذي بيني وبين أسرتي البروتستانتية - هدية جميلة بمناسبة زفافها الذي يتم هذا الأسبوع، وعلي أن أرسلها غدا، وقد أعددت لها عرضا جميلا في غرفتي فقم بنا الآن إلى الفندق حتى أقف على رأيك في هذه الهدية، فإن ملاحظاتك تعجبني ... قلت: أوليس لك رغبة في القدح الأخير؟ فربتت على كتفي وهي تقول: أتريد أن تحتال على تكوين رأي جميل بهذا الشراب؟ قلت: إني رجل متضارب الآراء لا أستقر على حال، والمرأة تزيد في حيرتي إذا وكلت إلي بأمورها، وإنما يشجعني الشراب على البت في شئون النساء فإنهن بارعات في انتحال العيوب، لاذعات النقد يتطلبن من الرجل السداد والكمال في كل شيء ... قالت: كفى مزاحا أيها الشاعر وسأبادلك النخب على أن يكون القدح الأخير، وأفرغنا قدحينا نهلة واحدة ونهضة واقفة وهي تقول: هلم يا صديقي ؛ فمشيت إلى جانبها وهي متكئة على ذراعي ونفسي تحدثني بأمرها، وسألتها: وهل شقيقتك يا صديقتي أكبر منك سنا؟ قالت: بلى! إنها شقيقتي الوحيدة. فاستطردت قائلا: أوليس لك خطيب؟ فاصطبغ وجهها حياء وتعثرت لفظة بين شفتيها، قلت: معذرة فما أردت إلا الحديث. قالت: يا صديقي لست تعرفني كل المعرفة فأحدثك طويلا عن حياتي، ولا علي أن أخبرك أن زفافي أيضا كاد يكون هذا الأسبوع لو لم أفسد حياتي بالصراحة؛ لأني لم أكن خبيثة يوما ما. قلت: معنى ذلك أن الرجل أفسد حياتك! فابتسمت قائلة: ليس من حقك أن تعرف أكثر من هذا، وإن كان من حقي أنا أن أخبرك، بيد أني أختصر الحديث اختصارا، فأقول لك إنك تحمل صورة الرجل المتفتح القلب، فإذا أحببت يوما فاحذر أن تقول لعذراتك إنك تحبها، كن غامضا فإن لذة الحب في الشعور المبهم، لقد قلت يوما للرجل: إني أحبك، فتقلص حبه سريعا، وزايله اندفاعه نحوي، وفارقني عطفه، واستحال مخلوقا آخر يستغل عاطفتي، ومنذ هذه اللحظة وأنا أخاف الرجل، الرجل الذي يريد أن ينتزع من أفواه العذارى كلمة «أحبك» ... وكنا قد وصلنا إلى الفندق.
الفصل الحادي عشر
يوم في ڤرساي
ما أجمل الصباح، وأرق نسماته، وأصفى سماءه، بهذا كنت أحدث نفسي وأنا أنحدر من شارع غاليلي إلى الشانزليزيه العظيم، متذكرا وقفتي منه من أيام وأنا أستعرض جماله من قمة قوس النصر ذي الشعلة الخالدة اللهب، هذا البناء الضخم متوسطا ميدان النجمة، تمثلته في هذه اللحظة فريسة وقعت في خيوط عنكبوت جبار، امتدت من أركان مدينة خيالية، وكأن الشعلة الخافقة اللهب، روح الفريسة المضطربة تتحدى المصرع، وتعلن عن قوة الحياة المشبوبة المضطرمة؛ كم من مساء فاتن في باريس، وكم من ليلة ساحر، وكم من صباح جميل عذب كهذا الصباح، يحبب إليك مصافحة النور والنسيم، عاري الرأس، خفيف القدم، وأنت تعبر الشانزليزيه والكونكورد والتويلري حتى اللوفر، الذي احتقب كنوز الأمم، أو إذا جنحت بك النفس، فعطفت من الكونكورد على المادلين وسان ميشيل وحدائق اللوكسمبرج وانسربت بعدها في أبهاء الحي اللاتيني لتستعيد بعض ذكريات جميلة حملتها من مطالعاتك لكتاب وشعراء وفنانين مرحين، ماجنين، عابثين، استقامت بمرحهم ومجانتهم وعبثهم حياة جادة مذخورة بالأدب الحي، والفن المشرق العالي.
لو سلفت لي حياة في هذه الأماكن المعطرة بروح القدم، لاستغرقتني الذكريات، ولكني رجل حائر قلق، تطالعني الصور من هنا ومن هناك، فألحظها بالنظرة العابرة والتأملات الخاطفة، وسرعان ما أعود إلى نفسي، لأسكن إلى طبيعة هادئة، أفكر فيما أنا مقبل عليه في يومي من عمل أو لهو، ولست رجل مغامرات، ولكن الأقدار تأبى إلا أن تضع في طريقي أينما سرت حادثا غريبا، وشاغلا عجيبا، وعبثا أحاول أن أكون الهادئ الناعم البال، وكل ما في هذه المدينة يتآمر علي، شد ما يشقي الخيال أصحابه ... فإن كل حجر من أحجار الطريق، وكل ورقة صفراء تنتفض في يد الريح الهبوب، وكل نافذة يضطرب وراء زجاجها النور، وكل مقعد خشبي منتبذ بالظلام تحت أشباح الشجر السوداء، يغريه بالاندفاع، ويدعوه إلى المرح، ويصرخ به: إن الحياة في باريس للمتمرد الخطير، والمتشرد الكبير، فماذا عليك وأنت هنا طليق من أسر العادات واصطناع الوقار، لو عببت من هذه العيون الدافقة وتخففت من ثيابك، وقذفت بنفسك في هذا المضطرب الساحر!
أقتحم هذا الجو العاصف بالشهوات، وانظر من وراء هذا الزجاج، فإن الضوء الضعيف المترقرق في أوكار مونبارناس يؤكد ذلك أن حياة القوم هنا ليست حسا محضا ولا جسدية مطلقة ... وأن الخمر التي تعاقرها في الكوبول تحدرت من أكرم أعصاب الحياة، وليست من حدائق الرين وكروم الجنوب ... وهذه الأجساد العارية في التابوران وأسفينكس والهومير والفولي برجير، هي أسمى ما وصل إليه الفن الإلهي تمثيلا وتصويرا، وهي في طريقك غدا تماثيل وتصاوير يقسرك السحر المودع فيها على التطلع إليها واكتناه سرها العظيم ... وإن نبأة صوت تصل إلى أذنك وأنت تجتاز الڤندوم في هدأة الليل، وحركة سيارة تقف إزاءك في الحلك القاتم، فإذا بك مندفع نحوها، وإذا صوت رقيق يسألك عود ثقاب، ويد مرتعشة ترفع سيجارة إلى فم رقيق باسم، وعينان شاخصتان إلى وجهك، فإذا ما أضاء الثقاب، وامتدضت يدك، واقترب وجهك، أحسست هذه الرغبات التي تتجاوب بها الأدغال في أول فجر للربيع! في هذا المكان، وهذا الظلام الرهيب، وهذا الغموض، وهذا الحنين المبهم الذي يتنازع كائنين غريبين. المجهول أيها الشاعر، أروع وأغلى ما تبحث عنه في حياتك من كنوز ...
وهكذا سرت أحاور نفسي، وأنا أتصفح وجوه الباريسيات المبكرات إلى عملهن، وهن يتخطرن فوق الأرصفة وفي عيونهن من أسرار الليل الذاهب ألق، وفي شعورهن من خمر المساء الغابر عبق، وكنت على موعد، وما هي إلا دقائق حتى كنت أشرب القهوة الفرنسية اللذيذة على إحدى موائد «كافيه دلاييه» ملتقى الغرباء من أبناء الشرقين الأدنى والأقصى، وكان شريكي في المائدة شاب أنيق البزة، حسن الوجه، عرفت منه أنه سوري ولد بالإسكندرية وأنه يشتغل بتنظيم بعض الرحلات في باريس وضواحيها، وتحدثنا عن ذلك ودعاني إلى الاشتراك في رحلة تمتعني بحظ وافر من البهجة. قلت له: لقد رأيت كل شيء. قال: ولكنك لم تقرأ البرنامج. ودفع إلي ببضع ورقات وأشار بأصبعه إلى إحداها. قلت: لقد زرت فرساي وعرجت على ملمازون وانتهيت إلى فونتنبلو ... قال: ولكنها حفلة مساء في حدائق فرساي الفاتنة، موسيقى ورقص أكروباتيك على الأضواء المختلفة الألوان وأسهم من نار وكانت هذه آخر حفلات الموسم. فوافقته على رأيه وفي الميعاد المحدد كنت في السيارة المختارة سيارة المتكلمين الإنجليزية، ودرجت بنا في طريق ضاحية «سان كلو» التي حفل بذكرها القصص الفرنسي، وشاءت الصدفة أن يكون معنا هذا الشاب السوري المرح، فأخذ يمزح مع الركاب بلهجة إنجليزية فكهة، وهو ينظر إلي من حين إلى حين باسما، كأنما يحفزني إلى مساجلته، ولكن هذا الخبيث كان قد أعد شيئا في طوايا نفسه، فوقف وسط السيارة خطيبا وهو يقول: «سادتي: هنا جنتلمان مصري غريب مثلكم، يتكلم الإنجليزية، وقد لاحظت عليه انفراده بينكم، وكلكم أزواج تتسلون وتضحكون، فمن دواعي سرورنا كجماعة تعنى بتوفير مباهجكم، أن يكون له حظ مشاطرتكم سمركم وحديثكم.» انطلقت كلمات هذا الشاب كأنها أنباء خطيرة يتسمعها قوم معنيون بها، وشخصت العيون إلي ، السيدات يبتسمن ويغمغمن علامة المجاملة والتحية، والرجال ينظرون ويشيرون بأصابعهم على الطريقة الفاشتية، والآنسات أين هن؟! هناك وجهان يشرقان بنضارة الصبا، ويتلظيان صحة وعافية. يتوسطهما وجه سيدة كريمة لما تفارقه وسامته وقسامته، عرفتهن فيما بعد، فهذه السيدة دينماركية من كوبنهاجن وهاتان ابنتاها، وهما كأمهما من الفتنة والخفة ورقة الجانب وعذوبة النفس على قدر عظيم، وددت لو شكرت هذا الخبيث على ما صنع؛ فإن سحر أوروبا ليس ببالغ من نفسك أثره إلا في ظل صديقة تشاطرك غدوك ورواحك، أو تقاسمك مائدتك، أو تبادلك حديثها، أو يناسم عطفها قلبك. ورحت من طربي أشعل سيجارة وأنا أتأمل مفاتن الطبيعة من زجاج السيارة، وإذا بيد تربت على كتفي، فالتفت أرى ما هنالك ... فوجدت سيدا أمريكيا يسألني عود ثقاب ... وأدنيت الثقاب منه فأشار إلى جانبه، فإذا سيدة مشيقة، ناضرة العمر، أنيقة، ضاحكة الوجه، صففت شعرها على طريقة القرن الثامن عشر، وقصت جانبيه على طريقة القرن العشرين، عيناها العسليتان يشرق في كل منهما قبس من السحر في إنسانين ضارعين، كأنها طفلة إلهية هبطت لأول مرة عالم الأرض، كانت يدي المرتجفة تدني لهب الثقاب من سيجارتها وعيناها لا تفارقان وجهي كأنهما بوغتتا برؤية مخلوق غريب لا عهد لهما به، واضطربت روحي تحت نظراتها وانطلقت صيحات مجهولة شريرة تصرخ من أعماقي: إنها ... إنها المرأة المنتظرة ... وفرت هذه الأشباح والأصداء على صوت السيارة وهي تقف على أبواب فرساي؛ وجزنا أسوار القصر ودخلنا ردهته وكانت لا تزال إلى جانبي، وكان الزحام عظيما جدا حتى لا يكاد يعرف الإنسان من أين يمضي وإلى أين يتجه، وصاح الدليل بنا أن نحرص على متابعته، وألا نبطئ في ذلك وإلا ضللنا طريقنا في أبهاء القصر وهيهات إلى أن نهتدي من سبيل، واندفعنا إلى الحجرات نتملى جمالها، ونتحسس بأبصارنا المبهورة روعة النقوش ودقة الرسوم، والدليل يروي من أنباء القوم وأسرار حياتهم في هذا القصر المنيف ما يشبه الأساطير، أين لويس الرابع عشر؟ وأين سمياه العظيمان من بعده؟ وأين ابن الثورة التي عقها؟ أين أولئك الذين مرحوا في هذه الحجرات، وطالعوا الأمل واليأس من هذه الشرفات؟! كل ما في القصر ينطق بالنعيم الزائل والسلطان المندثر، جدران تكاد لا تعرف فيها أثرها اليد الصناع المقتدرة، وصور يذهب الخيال بين الظل والنور فيها، وسقوف موجت صفحاتها بالنقوش وموهت حواشيها بالذهب، كأنها لجة ضربت في شفقين ملتهبين ما بين المشرق والمغرب، وجزنا عتبة الباب العاشر إلى صالة المرايا الكبرى، وانتثرنا في أرجائها نصوب العين حينا، ونصعدها حينا آخر، وننقل خطانا على ريث، نستعرض ذكرياتها ونتأمل ما أسبغ التاريخ عليها من جلال وخطر، يا للقدر الساخر والزمن الوثاب!! كم مرت بهذه المرايا أشباح طواها الموت، وتطلعت وجوه زواها التراب وأشرقت ابتسامات أطفأها القدر، ولم يبق إلا صوت يقول إني أشم رائحة الدم!!
خلصت من مآسي هذه الحجرة إلى حجرة المرأة الطفلة، إلى اللاهية العابثة، هذه صورتها معلقة في مكانها كما نقلت عن الأصل المودع في متحف روما، وهذا تمثالها النصفي، ورأسها المترفع الجميل، تياها بعنقها المرمري الرقيق الذي حزه الفولاذ القاسي، بين الضحك والاستهزاء، أو بين الحقد والبغضاء، يا للأسى! كنا نمر في الحجرات والمخادع التي داسها بقدميه اليائس المحروم، واقتحمها الناقم الغضوب، إنه ثأر لإنسانيته، كان شعوري ذاك الذي صورته لك وأنا أضطرب في هذه الحجرة المشئومة التي احتفظت ببعض أثاثها، حجرة ماري أنتوانيت! جئت لأتسلى ساعة من زمن فأعقبتني مسلاتي حزنا وندما، وأورثتني إشفاقا وألما، وهممت بالهرب من هذا الجو، فألقيت نظرة الوداع على وجهها الباسم، وملت عنها إلى النافذة المريضة أتأمل الحدائق التي تملأ الأفق، فالتقت نظراتنا ... كانت هي أيضا تنظر من النافذة القريبة، كنت أظنها بعيدة عني، وكنت أحسبني منفردا بنفسي، ولكنها هي ... حيث وقفت بها الأقدار على قيد خطوتين مني، باسمة مشرقة الوجه، ملتهبة الخدين بما تحير فيهما من ماء الشباب، كنت أجدها دائما إلى جانبي والجماعة تضغطنا ضغطا كلما جزنا بابا، أو عبرنا دهليزا، أو اجتمعنا حول صورة نتملاها، أو أثر ثمين نتحراه، وعبثا حاولت ألا يمس ثوبي ثوبها أو يمر ظلي بظلها، فقد كنت مأخوذا بها وكان جمالها خطرا لا يستطاع دفعه أو توقيه، وكان رجلها ولا شك يعرفها أكثر مني، فكان يرمقني من حين إلى حين بنظر صارم حديد، حتى خيل لي أني مطارد يلاحقه خوف، أو هارب يتأثره حتف، ولكن هذه الملكة المسكينة كما جنت على زوجها جنت علي ... والتفتت إلي قائلة: خسارة فادحة أن تفقد هذه الحجرات أثاثها وأن تعرى من رياشها! قلت: إن الثورة لا عقل لها فهي بنت العاطفة الشرهة الهائجة، وقد أكلت في طريقها ما صادفته. قالت: أعرف ذلك. ولم تكد تتم عبارتها حتى أقبل الرجل، ومشينا معا إلى خارج القصر ونحن نتندر بما كان من أهله، وأي عدوى من الترف الفاجر قد أصابت خدمه حتى أورثتهم شر أمراض الاستهتار فكانوا يقذفون بالقدر من النوافذ بلا حرج وبلا وازع، وكيف أن طرق التدفئة جميعها قد عجزت عن إرضاء الأميرات والوصيفات والخليلات والمضيفات في الشتاء القارس، فكن يستلقين على الأرائك الوثيرة متأطرات على فوهات المدافئ المتنقلة، مشمرات عن سوقهن، نصف عاريات، لينعمن بالدفء، ويعرضن أجسامهن للحرارة بينما تستغرقهن الأحاديث اللذيذة والأسمار العذبة، وكان طربها بهذا الحديث شديدا فألقت سؤالا غريبا قالت: أشيد قصر فونتنبلو لماري أنتوانيت؟ فلم أحر جوابا، ودس الرجل يده في جيبه فأخرج كتابا صغيرا قلب فيه بضع صفحات وهو يغمغم بأنفه: وأقامت فيه مدام دي پاري، فهتفت مازحة: وهن مشيدات القصور! قلت: ما في ذلك غرابة ولا هو بمستكثر عليهن. فاسترسلت في مزاحها قائلة: ومن تعني؟ فتدخل الرجل قائلا: يعني الجميلات الفاتنات. وكأنما أراد بهذه العبارة أن يشعرني بوجوده، فاندفعت قائلا: وفيهن خيرات فاضلات، وإن أنس يا سيدتي، فلن أنسى ذلك القلب المودع في صندوق على رفرف الأنڤليد، قلب المرأة التي شاركت چيروم حياته أملا وألما، فأوصت بأن يرفرف قلبها على قبر زوجها، حقا لقد كان چيروم عظيما كشقيقه نابليون.
وانصرفنا إلى حديث الفن فسألتني أرأيت أروع وأفخم من هذا القصر وحدائقه الغناء؟
فأجبتها قائلا: ليس للفخامة ولا الضخامة حساب كبير في رأي الفن الحديث، فإن للرشاقة جمالا، وللبساطة روعة، وهذا الطابع المعماري نراه في كثير من قصور أوروبا بله فرنسا، وليس غريبا على فونتنبلو واللوڤر والتريانون والباليه رويال والأنڤليد أيضا، وأنت ترين الصور والنقوش المزدانة بها تلك الحجرات وكأنما استعيرت من بعضها البعض وإن شئت فهي من بلاد غير بعيدة، في قصر السنيوريا بفلورنسا، وقصر الدوج بالبندقية، ولا أحدثك عن الفاتيكان وروائعه، أما هذه العمد الضخمة والرفارف العريضة المطلة من فوقها فهي من بلاد أخرى غير بعيدة أيضا، وقد أخذ الفرنسيون عن الفن الروماني أجمله وأبدعه، وأخذوا عن الفن الإغريقي أرشقه وأروعه.
قالت: وهناك أيضا بلاد غير بعيدة عن روما وأثينا، وعنها أخذ العالم أرفع الفنون. قلت: بل لا يزال يأخذ عنها يا سيدتي! فابتسمت قائلة: ومن أنبأك أنها بلادك؟ قلت: في إشارتك اللطيفة ما يغني يا سيدتي، ومصر تحمد لك هذا الاعتراف بلسان أحد أبنائها. فبدت على وجهها علائم بهجة خفية وهي تنظر إلى ذوائب الأشجار السابحة في لجة الشفق الأحمر وكنا قد وصلنا إلى تمثال فاتن يمثل فتاة عارية تسبح في الماء.
فسألتني قائلة: أيعجبك هذا التمثال؟ فأجبتها: بل ويكاد يفتتني. قالت: وما سر إعجابك؟ قلت: هذه الحياة التي تكاد تدب فيه، بل هذا الجسد الفاتن وإن صيغ من جماد هامد! قالت: ولماذا خلا فنكم القديم من هذا اللون؟ قلت: تعنين الأجساد العارية؟ قالت: بلى. قلت: كان ذلك خضوعا ولا شك لروح الديانة، وأنت تعرفين أن الفراعنة وهم أبناء الآلهة قد خضعوا في حياتهم وحكمهم للكهنة وطقوسهم، فكيف بالفنانين وهم من أبناء الشعب الذين كانوا لا رأي ولا سلطان لهم. ولا عجب في أن يتأثر كل شيء في هذا البلد بروح الديانات، فمنه استمدت الشرائع جميعها هذه الطقوس التي نقرأها، ولقد كان المصريون القدماء أعلى بصرا بالحياة وأسمى بالروحانيات دنيا، بيد أني أحب أن ألقي ضوءا على هذه الناحية فأنت ولا شك قد زرت مصر! قالت: وأتمنى عودة إليها من جديد، وحياة طويلة على ضفاف نيلها، بين رمال صحرائها وأشباح نخيلها. قلت: وهل زرت الأقصر ؟ قالت: وعرفت سر القرود في مقبرة توت عنخ آمون.
قلت: وهل رأيت ذلك «الكاباريه» في مقبرة «نخت»؟ قالت: ورأيت «الأرتست» العاريات. قلت: حسنا؛ فهذه المقبرة صورة من الرغبات المكبوتة التي كانت تضطرب تحت ضغط الكهنة؛ فقد حرموا على الفنانين تمثيل الأجساد العارية! ومما أذكره أن فنانا حرا لم يطق صبرا على هذا الحرمان فصنع تمثالا عاريا صغيرا، ولكنه خشي العاقبة فتخلص منه بإلقائه في مقبرة الأميرة «تسن» التي اكتشفت منذ أعوام في حرم الأهرام؛ وقد رأيت هذه التمثال غير متقن الصنع، نتيجة الاضطراب الذي يطوف بأفكار الثوار ويظهر أثره في أعمالهم، ولكن هناك يا سيدتي أمرا آخر مرجعه النفس، فإن للأجواء آثرها الغالب في تكوين الميول وصقل الأذواق كأثرها في تكوين الأجسام، وفي ذلك الجو المصري السافر الذي يكاد يروع البصر إشراقه، حتى لتعظم فيه دقائق التركيب وتبرز خفايا الصنع، في مثل ذلك الجو تنزع النفس إلى شيء من الحجاب، وتحاول إخفاء بعض النواحي المكشوفة المفضوحة، إنها اللا شعورية الفنية التي تؤثر الغموض والإبهام أحيانا وهذا على العكس من الأجواء الأوروبية المحجبة القائمة التي يختنق فيها البصر، فإنها تقتضي الكشف وتلزم السفور، ومن هذا ترين يا سيدتي أن الفنان المصري نصيبه من الإحساس الفني بالجمال، وقدره الرفيع من التعبير عنه.
وكنت أتكلم بحماسة واندفاع بالغين كأنني أنشد قصيدة من ذات نفسي، وكنت ألمح إعجاب السيدة ورضاء الرجل وانتهى مطافنا إلى المطعم القريب فتناولنا عشاء شهيا وأقبل المساء ... وانتهى الليل بانتهاء حفلة عيد الحرية في حدائق فرساي ... وطلع علينا الفجر والسيارة تجتاز بنا غاية بولونيا بين سقسقة العصافير وتغريد العنادل.
وبعد أيام، وقفت أتأمل أنوار باريس الباهرة وأنا واقف في ممر العربة والقطار ينهب بنا الطريق إلى لوزان فإذا بصوت عذب ووجه ساحر أعرفه، وابتسامة تومض بها شفتان، ويد غضة ترفع سيجارة إلى فم رقيق ... وهي تضحك وكأنها تذكرني بأول ثقاب أشعلته لها ... ورحت أتنسم عطر دخانها وقد همت بالانصراف وهي تقول: أرجو لك سفرا سعيدا ولعلك ذاكري يوما في مغرب شمس على ضفاف النيل، أو في أمسية من أمسياتك المصرية المرحة، ومدت يدها إلى يدي مودعة، فرفعتها إلى فمي وانحنيت أطبع عليها بقية القبلة وقد انزلقت شفتي الجافة على بشرتها الناعمة ... ووقفت أرقبها وأنا أكاد أنوء بالسر العظيم وقد بدأ خيالها يختفي في الممر الطويل وهي في زيها البديع ومشيتها الساحرة.
الفصل الثاني عشر
فتاة برن
كانت غرفة الطعام هادئة النور، لا تنبعث في فضائها أضواء هذه المصابيح الصغيرة ذات الألوان البهجة التي كانت تزدهر بها الموائد البيضاء كل أمسية، حتى لتبدو كأنها حديقة مثالية تضيء مجامر وردها في ليلة شرقية قمراء؛ ولم يكن غير خوان صغير في صدر المكان يجلس إليه ضابط شيخ، وهو يشرب قدحا كبيرا من النبيذ الأحمر على مهل وفي تأمل هادئ عميق، وكنت جالسا إزاءه تحت الشرفة العريضة أرقب الكنيسة القوطية ذات البرج السامق الذي طالما أصغيت إلى رنات نواقيسه في أصباح يوليو المائجة بالنور، الناسمة بالعطر، وكان السكون يفيض على هذا المساء فليس إلا صوت المطر المنهمر في الخارج، وهذه الأصداء التي ترسلها إلينا من الميدان عجلات السيارات المخوضة في المياه الدافقة تحت الأفاريز، وأولئك العابرون بخطاهم القوية المتزنة على أحجار الطريق، واستغرقتني ذكريات الأيام الأولى التي قضيتها في هذه العاصمة الجميلة وأنا آخذ الطريق الصاعد إلى «الجورتن» في الضفة الثانية من النهر، أو أهبط المنحدر الفاتن إلى المتحف التاريخي، أتملى نفائسه وبينها تحف شرقية جميلة معروضة في بعض غرفه، فهذه الأواني الخزفية، المزدانة بالآيات والحكم العربية، وهذا الإيوان الخشبي من القرن العاشر الهجري بطنافسه وزخارفه المموهة بالذهب، وهذا المخطوط من القرآن الكريم بنقوشه الفارسية الدقيقة، وهذه المجموعة من أزياء الحريم في الشرق الإسلامي من الشنتيان إلى الحبرة إلى اليشمك، ثم هذه الروائع الأخرى التي تعجب الفنان، وتجذب الشاعر، وتفتن الأديب، وبينها نسخة من الطبعة الأولى لرواية «تليماك» بورقها الكتاني السميك الكبير الحجم، وطباعتها ذات اللونين الأسود والأحمر، بالحروف الجرمانية الشجراء، وإلى جانبها آلة الطباعة الأولى لجوتنبرج.
واستغرقتني هذه الصور لحظات ولحظات حتى انتبهت على صوت الضابط وهو يغادر المكان في بزته العسكرية الأنيقة ويلقي بتحيته إلي بادي العظمة، موفور المهابة!
وأقبلت الخادمة الشابة وهي تقول: يؤسفني أيها السيد أن تظل وحدك في هذا المكان ولكن ربما حضرت مس «كارين» هذه الليلة فهي قد علمت بحضورك الآن! قلت: شكرا يا آنسة، ومن ترى ذلك السيد! ألا يبيت الليلة هنا؟ قالت: إنه قادم من «سانت جالن» في طريقه إلى الحدود وهو في انتظار فرقته التي تصل إلى «برن» بقطار نصف الليل.
قلت: وهل تقومين وحدك بشئون الفندق هذه الليلة؟
قالت: لقد ذهبت الفتيات ليدبرن أمورهن قبل رحيل الرجال، حتى مسز ڤايل أيضا ... فإن زوجها يغادر المدينة بعد ساعتين لينضم إلى فرقته في «بازل»، وأنت تعلم أن الشبان قد ذهبوا إلى صفوف الجيش بعد أن أعلنت التعبئة العامة هذا المساء.
قلت: أرجو أن يعودوا قريبا إلى أهلهم وديارهم وأحبابهم، وأحب ألا تجهدي نفسك من أجلي، فكل ما أطمع فيه فراش أتوسده هذه الساعات الباقية من الليل.
قالت: لا عليك أيها السيد فإن مس «كارين» قد حدثتني عنك وليطب خاطرك.
قلت: أخشى أن يكون وجودي الآن قد شغلك عن أداء واجب عزيز ... فتورد وجهها وهي تميل إلى الباب دون أن تجيب، ورحت أسائل نفسي أليس لهذه الفتاة الوسيمة أليف تبتهج لمرآه أو يخفق قلبها بنجواه؟ أوليس من ينتظر قبلتها أو عناقها أمام عربة القطار في هذا الليل وتحت هذا المطر؟ ... وانطلق الخيال يخلق من الوهم الطارئ قصة حب عاثر أو حبيب غادر، ولاح لي في هذه اللحظة خيال «كارين» هذه الشابة الحسناء التي تبذ العذارى رقة وخفرا، إنها في الثانية والعشرين من عمرها، تؤمن بالسحر المصري القديم، وتكلف بحديث الحريم في الشرق، وتثق بطوالع النجوم، وتصدق قراءة الكف، وتسأل عن المستقبل وتبحث عن الحب والرجل المنتظر، إنها تثق بآرائي وتندفع في حماسة إلى حديث الفن بلهجة إنجليزية حلوة جذابة قلما سمعت مثل موسيقاها من أفواه الإنجليزيات أنفسهن، وكنت أعجب لهذه الشابة الذكية القلب المشرقة الروح التي قضت شطرا من عمرها الباكر في بيئات الإنجليز الخاصة وتحت سماء إنجلترا كيف تسلم عقليتها بهذه الخرافات وتعلق بنفسها هذه المعتقدات المضحكة! وتمثلتها على مكتبها وهي تراجع حساب الفندق وكلما أجهدها الفكر مرت بالقلم على فمها القرمزي الصغير، وهي بشعرها الكستنائي المنفوش وعينيها الرماديتين ووجنتيها البارزتين كشاعرة نبيلة بهرتها رؤى علوية طافرة، أو سحرتها أنغام قدسية عاطرة! وذكرت اليوم الأول الذي التقينا فيه على الباخرة الصغيرة بين «أنترلاكن وتون» وهي متكئة على حاجز السفينة ترقب الرغو الفائر تحت قدميها، وقد امتد خطوطا عريضة طويلة والهواء يرفع جانبي معطفها الحريري الأبيض الهفهاف إلى ما فوق ذراعيها فكأنها ملك السحاب يضرب بجناحيه الناصعين في الزرقة الصافية متقدما رعيلا من الغمام الأبيض! وتحدثنا في براءة روحين متجردين من نوازع الدنيا ومنازعها عن ذلك الجو الشعري الفاتن، وكانت خيالية مفتونة بالصور والألوان والأنغام والأصداء، فوجدت في صاحبها الموافق ورفيقها المجاوب، وتكلمنا عن الثلوج في قمة چوفراو، وجبال الألب الداكنة السوداء، كما تبدو من هذه الغابة الصادحة عند منابع الرون بين حدود سويسرا وفرنسا، وأنشدتني مقطوعة للشاعر الأسباني «جوستانو بيلكور» عن فيلا «كارلوتا» على شاطئ بحيرة كومو، وعقدنا مقارنة بين البحيرات السويسرية والإيطالية ومساقط الماء في جبال إنسبروك ومنابع الرين، وتحدثنا عن الصحراء والبحيرات الأفريقية والنيل المقدس، ثم أسمعتني أبياتا للشاعر الإنجليزي «جون كيتس» يخاطب فيها «النيل» بقوله: يا ابن جبال القمر الأفريقية العريقة في القدم! يا وادي الأهرامات والتماسيح!
وقالت إنها كانت تظن سكان ذلك النهر المقدس من العمالقة وأن لهم مثل أجسام التماسيح ضخامة ومثل فهود الأدغال قوة وضراوة.
وانتهى بنا المطاف إلى هذا الفندق الذي تديره خالتها مسز ڤايل، هذه المرأة المتشككة ذات الوجه الجامد الذي لا ينم عن عاطفة ولا يختلج بإثارة ما، وكانت ترى في علاقتي بابنة أخيها ما لا يروقها، وكانت تقابل بالامتعاض ابتهاج الفتاة بلقائي وبالتحدث إلي، ولا أنسى هذه الليلة منذ أربعين يوما وكنت منكبا على خرائط لبعض ممالك أوروبا أقرأ أسماء البلدان والعواصم وأرسم بالحبر الأزرق خطا طويلا متعرجا أبين به طريق صاعدا من مارسيليا إلى كوبنهاجن وهابطا إلى برلين ففارسوفيا فڤينا إلى نابلي ثم صاعدا ثانيا إلى ميلانو فمنحرفا إلى نيس فمارسيليا.
وكانت كارين إلى جانبي تساعدني في قراءة الخطوط الدقيقة ساعة طرقت هذه المرأة الباب بعنف واقتحمت علينا الغرفة بغتة، وعلى صوتها الأجش الجاف انتفضنا ذعرا وسقطت نقطة كبيرة من الحبر لم تلبث أن غطت ثلاث مدن كبيرة وسودت الفضاء بين براغ وفرسوڤيا وڤينا، ولشد ما تشاءمت من ذلك الحادث وتطيرت له وهما حتى ذلك المساء وأنا أعبر نهر إلبي من ضاحية ڤيزر هرش إلى درسدن فإذا بركان من الحديد ينصبها بعض الجند على جوانب الجسر وقد برزت فوهات المدافع من جوانبها، والناس يتجمعون إزاءها من بعد، وهم في ذهول وذعر ووجوم، وفي الساعة الثالثة غادرت فراشي لأستقل آخر قطار يغادر المدينة على نذير الحرب! وكانت أوروبا كلها ترقص في هذه الليلة على فوهة البركان الثائر.
وظلت هذه المشاهد والحوادث تتوالى على خاطري كأنني أستعرض شريطا سينمائيا وعيناي غائصتان في لجة الليل القائم وأنا في يقظة كالحالم، حتى أفقت على ضوضاء وأصوات تتجاوب بها أرجاء الميدان، وأسرعت إلى ردهة الفندق هابطا درج المدخل فإذا بالخادمة وقد وقفت ترقب المشهد من حانوت بائعة التبغ المجاور وفجأة نظرت إلي وهي تهتف: مس «كارين»! مس «كارين»! فوثب الدم في عروقي وتطلعت أمامي فإذا بها في ذات الثوب الأزرق الذي رأيتها فيه أول مرة، وكان وجهها ينم عن فرح بلقائي رغم الحوادث التي توالت ف هذا اليوم على العالم.
ومدت يدها إلي فاحتوت كفي راحتها الصغيرة وهي تنبئني بسرورها لعودتي، وأسفها على انقطاع رحلتي، وسألتني إن كنت سأبقى غدا في برن فقلت: غدا يا عزيزتي أخبرك فليس لي أن أقول شيئا هذه الليلة فربما جدت حوادث أخر، قالت: لقد أعلن المذياع نبأ إغلاق الموانئ الإيطالية وانقطاع المواصلات بين فرنسا وإيطاليا، ولا أحب أن أزعجك عن راحتك بمثل هذه الأنباء التي تعتبر عادية بالنسبة للمتوقع! قلت: حسنا «يا كارين» وارتفع الضجيج في تلك اللحظة واختلطت الأصوات من صدحات أبواق ودقات طبول وخطوات جند وخيول وعربات وسيارات موسوقة بالمدافع والذخائر ولفائف الأسلاك الشائكة وغيرها من أدوات الميدان.
وجذبتني «كارين» إلى منحنى قريب يشتد فيه الضوء، ونكاد نلمس منه بأيدينا الجنود وهم يمرون بخوذاتهم اللامعة تحت الأضواء ورذاذ المطر، وجباههم متألقة بالعرق وقطرات الماء، وعيونهم اليقظة الصافية تومض بالقوة والفتوة والأمل؛ كانوا يسيرون صفوفا بخطواتهم ذات الإيقاع الموسيقي الرتيب، يغمرهم الجلال وتفيض عنهم الروعة، وينطق موكبهم بأنبل المعاني، وكانت «كارين» الحسناء تلوح بمنديلها الأبيض وتنثر على شبابهم ابتساماتها وهم يومئون بنظراتهم المقدرة المعبرة عن ابتهاجهم بهذه التحية الصادقة، وأثر في هذا المشهد الرائع وهز أعصابي هزا عنيفا، فقد ذكرت وطني وذكرت ما نحن مقبلون عليه في غدنا من جد الحياة وجلادها، وقلت لنفسي هل يتاح لي أن أرى لمصر مثل هذا الشباب المستقتل المتفاني وهو يسير في موكب الحياة مفتول السواعد مشبوح العظام؟ وهل يقدر الله لي أن أشهد فتياتنا وقد وقفن مثل هذه الحسناء، وفي مثل هذا المنحنى، تحت الظلام والمطر والريح القارس لينثرن ابتسامتهن على جباه شبابنا البواسل وهم في طريقهم إلى الميدان.
واختفى خيال الموكب الكبير، وتلاشت أصداؤه على رنين ساعة الميدان وهي تدق مؤذنة بانتصاف الليل.
وأمسكت يدي بيدها وسارت بي إلى الفندق، وأنا مفعم القلب بأحاسيس مهمة، ونوازع غامضة أكاد أترنح منها لذة ونشوة.
ووقفنا في الردهة وهي تقول: إن سفر عشرين ساعة في القطار وفي مثل هذه الظروف السيئة يتقاضاك الراحة الآن وأنت متعب ولا شك، قلت: إن لقاءك يا عزيزتي راحة المتعب وشفاء العاني، قالت: أراك ذلق اللسان لبق العبارة فتعال بنا نشرب القهوة معا وتحدثني بأنباء رحلتك منذ فارقتنا.
وتكلمت مع الخادمة ودخلنا غرفة الموسيقى بعد أن أغلقت بابها ثم تهافتت على مقعد صغير وهي تقول: الآن يطيب الحديث.
قلت: حبذا حديثك أنت «يا كارين» فإني في حاجة إلى ما يبهجني.
قالت: أسفا يا صديقي فإن هذه الحرب كما سدت طريقك فقد سدت طريقي أيضا.
قلت: هذه مفاجأة ولا شك فبالله حدثيني.
قالت: كنت على وشك السفر إلى باريس صباح أمس، وكادت تكون هذه الليلة أولى ليالي في الأوبرا ولشد ما كنت سأحلم بالسعادة والمجد وأنا أرتل النشيد على موسيقى بلليني في أوبرا «نورما» في موسم هذا العام.
قلت: لا علم بذلك يا صديقتي.
قالت: أنت تعرف أنني قضيت عامين في ميلانو أتلقى فن الغناء وأني اشتركت في أغاني أوبرا «كوستانتينو» التي وضع ألحانها «فرنسسكو جاسبارين» كما اشتركت في غنائيات كثيرة في روكال وسكالا وكانت تؤثرني بإعجابها المغنية الراقصة «جاپرييلا بيزانسوني» بطلة «كارمن».
قلت: أنت لا زلت في مطلع شبابك، ومستهل حياتك، ولا تزال أمامك الأيام طويلة بعيدة الآماد، المستقبل لك فلا تأسي على شيء فربما انتهت الحرب قريبا جدا.
قالت: إن التفاؤل يرضي الأحلام ويقنع الأوهام بعض الأحيان فلنحلم ولنتوهم!
قلت: إذا شئت فإني سأجعل لك من هذا الحلم حقيقة محسوسة ومن هذا الوهم واقعا ملموسا.
قالت: أسرع إذن فإني واثقة بك.
قلت: فكري يا سيدتي قليلا في باريس، ولنجعل من برن باريس، وليكن هذا الفندق هو دار الأوبرا، ولتكن غرفة الموسيقى هذه هي المسرح، أما هذه الموائد والأرائك فهم النظارة، فانهضي الآن أيتها الفنانة الشابة، ومري بأناملك الفاتنة على هذا البيان، ووقعي اللحن وأرسلي صوتك القوي الحنون بأغاني نورما، ولتفض روحك بأرخم النغم وأرقه وأبدعه! ولتملكي قلب هذا الأثير، وليكن لك فيه ملك الغناء الخالد ... وفتح الباب ودلفت منه الخادمة بإناء القهوة، قلت: قفي يا آنسة وضعي هذا الإناء بعيدا ثم خذي مجلسك على يسار هذه المملكة الموعودة ... فارتبكت الفتاة وفتحت فمها دهشة، وضحكت «كارين» وهي تشير إلى المقعد الصغير على يسارها وكأنها تدعو الفتاة إلى تلبية هذه الدعوة ... وأقبلت الفتاة وقد زايلها ارتباكها وخجلها وانفرجت شفتاها عن ابتسامة جميلة فهتفت «كارين» بها قائلة: اسمعي يا «إرنا» إن هذا الساحر يتكلم الآن بروح أجداده، هؤلاء السحرة يعاقبون الذين لا يطيعونهم ولا يأتمرون بسلطانهم، وهأنذا أقدم فروض طاعتي ... واعتدلت في جلستها وقد اتخذت هيئة الملكة الشادية وبدأت إنشادها بصوت يتماوج مرحا، ويتفجر شبابا، ويترسل صفاء، وعذوبة، وسحرا؛ وانفعلت بغنائها هي فاستحالت طيفا نابضا باهتزازات هذه الأنغام المنطلقة في سكون الليل تودع السلام، والحب، والرحمة في قلب هذا العالم.
وصفقنا لها كثيرا، وصفقت لنفسها ونهضت واقفة، وقد حارت دمعة صافية في عينها وهي تقول: بالله إني متأثرة أكاد لا أملك نفسي، هلم إلى غرفتك الآن يا صديقي فإني سأنام في غرفة خالتي، فعم مساء وإلى الصباح، قلت: تنامين الآن؟ قالت: وهل في ذلك غرابة، قلت: كلا، وصافحتها بحرارة كأنما كنت أودعها.
وفي الصباح راجت الشائعات بأن الأمم الصغيرة معرضة للغزو لأنها منافذ إلى فرنسا ولأن حدودها خالية من الحصون الفولاذية ونصحني من أثق به أن أغادر البلاد فورا وإلا عرضت نفسي لمتاعب هائلة.
وتناولت طعام الغداء عجلا.
ووقفت «كارين» بالحمال العجوز على باب غرفتي وأنا أجمع ثيابي وأطوي معطفي على يدي، وهبطنا الدرج حتى الباب الخارجي، وكان المطر شديدا، والبرق يلمع في جوانب السماء، كأنه حراب القدر تصرع الزمن العاتي، وقبلت يدها وهي تضغط بها على فمي كأنها تقبلني هي الأخرى وأخذت طريقي إلى المحطة وأنا أقرع بقدمي أحجار الطريق والمطر ينهمر مدرارا فوقي ويكاد ينفذ من ثوبي والمعطف لا يزال مطويا على يدي وأنا مستغرق في شرودي مستعيدا حلم الأمس الجميل!
الفصل الثالث عشر
باريس
وعلى غير المتوقع اهتز قلب الأثير بالنبأ الخطير: أن الألمان داخل أبواب باريس! وقد سلمت باريس نفسها إلى الغزاة، وانهارت الجمهورية الثالثة، ومضى القدر في سخريته فحل عيد الحرية بعد أيام من هذا الحادث فإذا الأحرار مستعبدون وإذا مدينة النور ترسف في الظلام. وقد صور الشاعر إحساسه بذلك الحادث التاريخي ذاكرا باريس في محنتها، مطوفا بمعالمها الحبيبة إلى نفسه، وكيف لا يذكر الشعر الكونكورد ونافورتيه العظيمتين والمسلة المصرية السامقة؟ وكيف لا يهيب بنابليون في مرقده بالأنفليد؟ وكيف لا يهتف بالثوار في ساحة الباستيل؟ بل كيف لا يبكي أجمل الليالي وأمجد أعياد الحرية في حدائق فرساي! وأخيرا كيف لا يذكر الشعر فرنسا بمبادئ ثورتها التي كفرت بها حتى سول الجنرال سراي لنفسه أن يقذف عاصمة الأمويين بقنابل مدافعه منذ ستة عشر عاما!
سألوني عن بياني وقصيدي
أسفا. باريس! قد مات نشيدي!
لك ذكراك ولي عهد بها
كيف أنسى ذكرياتي وعهودي
أنا لا أنسى ليالي على
روضك الرفاف بالزهر النضيد
ثمر الفكر ومجنى نوره
ومراح العين والقلب العميد
خطرة عابرة عدت بها
عودة الغواص بالدر الفريد
فاعذري المزهر في كفي إذا
أخرسته ضجة الرزء الشديد
يوم قالوا جلل القيد يدا
حطمت بالأمس أصفاد العبيد
حملت مشعل حرياتهم
في شراة من شباب المجد صيد
كيف يا باريس بالله هوى
ذلك النجم من الأفق البعيد؟
إن ينل منك المغيرون فما
فتحوا غير تخوم وحدود!
لست بنيانا، ولا أرضا، ولا
غاب آساد، ولا جنة غيد
أنت معنى عالم الفكر به
يتحدى قبضة الباغي المريد
كعبة الأحرار! هذي محنة
راعت الأحرار في أكرم عيد
صرع النور به وانحسرت
جبهة الشمس عن النور الشهيد
وأتى الليل، ومن أهواله
أن ترى بين ظلام وقيود
أين من ڤرساي أفق ضاحك
مشرق عن أمل الشعب البعيد
وعلى كل طريق موكب
صادح الأبواق خفاق البنود
لكأني اليوم ألقى مأتما
وأرى الكنكرد كالقبر الحريد
حال شدو الماء في أحواضه
نفشة الغرقى ببحر من صديد
وقفت مصر به ساخرة
من نحوس تتوالى وسعود
غلب الصمت عليها وهي في
صمتها الخالد طلسم الوجود
ساحة الباستيل! حان الملتقى
وتعالت صرخة الفجر الوليد
أين أبطالك؟ ماذا! أترى
ضرب الليل عليهم بالوصيد ؟
أغمدوا أسيافهم؟ ويح، وما
عودوا أسيافهم حبس الغمود
ويحهم قد شيعوا أعيادهم
بين عصف النار أو قصف الحديد
فوق أرض صبغت من دمهم
وتحدت كل جبار عنيد
فوق أحجارك صرعى أمسهم
فلذات كتبت سفر الخلود
فاذكريهم بالذي مر بهم
واقرأي تاريخهم، ثم أعيدي!
أيها العائد من غاراته
راقدا تحت قباب «الأنڤليد»
تلك راياتك، فانظر! أترى
من سيوف تحتها أو من جنود؟
أين من برلين أو آفاقها
جيشك الظافر بالجيش البديد
تطأ الأرض إلى مشرقها
موغلا في أثر الدب الشريد
لفرنسا همة لا تنثني
أمشت في النار أم تحت الجليد
بالقليل الجمع من أبنائها
تنزع النصر من الجمع العديد
أمم ترسف في أحقادها
دنتها بالصفح والصنع الحميد
لم تسير فوقها دبابة
أو تباغتها بطير من حديد
شرف الحرب كما لقنته
ملتقى سيفين في ظل البنود
فاعذر اليوم فرنسا إنها
وثقت بالعهد في دنيا الجحود
قرعت النصر كأسا! ويحها!
صرعتها خمرة النصر التليد!
رقدت عن غدها وانتبهت
حيث لا ينفع صحو من رقود
أسفرت سيدان عن مأساتها
وتهاوى حجر الحصن المشيد
ثغرة أنفد منها خنجر
قد تلقته على حز الوريد
شهد المجد لها باسلة
خضبت بالدم من نحر وجيد
فابعث العزة من تاريخها
وتألق بسناه من جديد
واطلع اليوم عليها سيرة
ركن الشاعر واهتف بالقصيد:
أيها الفاتح لا يغررك ما
أنت فيه من حصون وسدود
لك في العبرة المثلى فلا
تأمن الزلة في أوج الصعود!
ربة النور سلاما كلما
هتف الشعر بماضيك المجيد
لك في كل خيال صورة
برئت من وصمة العصر الجديد
غير ذكرى يرجع الفكر بها
لليال من عصور الظلم سود
لهف نفسي لدمشق ولمن
خر فيها من جريح وشهيد
من شواظ يقذف الموت على
ركع في ساحة الله سجود
فأنا الشرقي لا أنسى الذي
حاق من حكمك بالشرق العتيد
المساواة التي أعلنتها
أعلنته بنذير ووعيد
والإخاء الحر ما كان سوى
مدفع يرمي بمرد ومبيد
وطني الروحي، إن أغضب له
فلآباء كرام وجدود
وتراث خالد من أدب
أنا فاديه بروحي ووجودي
كفرت ثورتك الكبرى به
وهو المحسن يجزى بالكنود
سار بالإسلام نورا وهدى
بسنى عيسى خطى الحق الطريد
النبيون همو ثواره
حاملو الشعلة، أعداء القيود
فخذي بالحق والروح الذي
هز بالثورة أركان الوجود
وابعثيها ثورة أخرى فما
يعرف الأحرار معنى للجمود!
الفصل الرابع عشر
من مراجع الكتاب
Verlaine, his life & his work (T. Werner Laurie)
طبعة لندن 1919. (Titans of Literature) (By Burton Rascoe)
طبعة لندن 1933.
Baudelaire Poems in Prose (Arthur Symons)
طبعة لندن 1928.
Arthur Symons’s Baudelaire, a study (Elkin Mathewa)
طبعة لندن 1909.
Baudelaire, Fleuts Du Mal (Beresfont Egan & C. Bower Alcock)
طبعة لندن سنة 1939.
An Anthology of World Poetry
طبعة لندن سنة 1930.
Anthologie des Poètes Francais (Fernand Mazade)
طبعة باريس سنة 1925.
Page inconnue