والذي بلبل كيانه، أنه ما إن دخل إلى الزقاق، حتى ضاعت منه ساقاه الغليظتان المنفوختان، ولم يعد يعرف موضع قدميه الكبيرتين المفلطحتين اللتين تشقق أسفلهما، حتى يكاد الشق يبلع المسمار، فلا يبين له رأس.
ارتبك الرجل رغم القسوة التي ضم بها نفسه؛ لأن الزقاق كان يمتلئ بصغار كالفتافيت يلعبون ويصرخون، ويتسربون بين رجليه، ويسرح واحد من بعيد وينطحه، ويشد آخر «البشت» من ورائه، ويصيبه شقي بصفيحة في أصبع قدمه الكبير النافرة عن بقية أصابعه.
ولم يستطع إزاء هذا كله إلا أن يسلط عليهم لسانه، فيخرب البيوت فوق رءوس آبائهم وأجدادهم، ويلعن الداية التي شدت رجل الواحد منهم، والبذرة الحرام التي أنبتته.
ويرتعش عبد الكريم بالحنق، وهو يسب ويمخض ويبصق على البلد الخائب الذي أصبح كله صغار في صغار، ويتساءل، و«بشته» يهتز، عن معمل التفريخ الذي يأتي منه من هم أكثر من شعر رأسه، ويزدرد غيظه وهو يطمئن نفسه أن الغد كفيل بهم، وأن الجوع لا محالة قاتلهم، و«الكوريرة» سرعان ما تجيء فتطيح بنصفهم.
وتشهد عبد الكريم وهو يشعر براحة حقيقية حين خلف النحل وراءه في الزقاق، وأصبح يشرف على الواسعة التي تحيط بالبركة في وسط البلد.
وانبسط الظلام الكثير أمامه؛ حيث تعشش البيوت المنخفضة الداكنة، وترقد أمامها أكوام السباخ كالقبور التي طال عليها الإهمال، ولا شيء بقي يدل على الأحياء المكدسين تحت السقوف إلا مصابيح متناثرة في الدائرة المظلمة الواسعة، وكأنها عيون جنيات رابضات يقدح منها الشرر، ويأتي نورها الأحمر الداكن متبخترا من بعيد؛ ليغرق في سواد البركة.
وتشتت بصر عبد الكريم في الظلام الفاضي، ودار برأسه هنا وهناك، ورائحة الماء الصدئ في المستنقع تتلوى مع تقوس خياشيمه. وفي الحال شعر بالضيق يكتم فتحات أنفه، فشدد من قبضة يده، وزاد انحناؤه، وكاد يرمي «بالبشت» على حافة البركة.
وكان ما ضايقه وكتم أنفاسه شخير الأرانب أهل بلده، وهو يمتد مع انتشار الظلام، ولحظتها كان ما يلهلب سخطه أكثر هو طنطاوي الخفير، وكوب الشاي «الزردة» التي عزم عليه بها في حبكة المغرب، والتي لولا دناوته، وجريان ريقه عليها، ما ذاقها.
وتمشى عبد الكريم في الواسعة وأذنه لا تسمع حسا ولا حركة، ولا حتى صيحة فرخة، وكأنه وسط جبانة، وليس في رحاب بلدة فيها ما فيها من خلق الله.
وحين بلغ منتصف الواسعة توقف، وكانت لوقفته حكمة، فهو إذا أطاع ساقيه ومشى، أصبح بعد خطوات قليلة في قلب بيته، وإذا أغلق دونه باب الدار، كان عليه أن يخمد أنفاسه وينام. وهذه اللحظة لم تكن في عينيه قمحة واحدة من النوم، بل كان مخه أروق من ماء «الطرمبة»، وأصفى من العسل الأبيض، ولا يهمه السهر، ولو لهلال رمضان.
Page inconnue