أرخص ليالي
نظرة
الشهادة
على أسيوط
أبو سيد
ع الماشي
الهجانة
الحادث
رهان
5 ساعات
الأمنية
أم الدنيا
المرجيحة
المأتم
حصة
مشوار
بصرة
المكنة
شغلانة
مظلوم
في الليل
أرخص ليالي
نظرة
الشهادة
على أسيوط
أبو سيد
ع الماشي
الهجانة
الحادث
رهان
5 ساعات
الأمنية
أم الدنيا
المرجيحة
المأتم
حصة
مشوار
بصرة
المكنة
شغلانة
مظلوم
في الليل
أرخص ليالي
أرخص ليالي
تأليف
يوسف إدريس
أرخص ليالي
بعد صلاة العشاء كانت خراطيم من الشتائم تتدفق بغزارة من فم عبد الكريم، فتصيب آباء القرية وأمهاتها، وتأخذ في طريقها الطنطاوي وأجداده.
والحكاية أن عبد الكريم ما كان يخطف الأربع ركعات حتى تسلل من الجامع، ومضى في الزقاق الضيق، وقد لف يده وراء ظهره، وجعلها تطبق على شقيقتها في ضيق وتبرم، وأحنى صدره في تزمت شديد، وكأن أكتافه تنوء بحمل «البشت» الثقيل الذي غزله بيده من صوف النعجة.
ولم يكتف بهذا، بل طوى رقبته في عناد وراح يشمشم بأنفه المقوس الطويل الذي كله حفر سوداء صغيرة، ويزوم، وقد أطبق فمه، فانكمش جلد وجهه النحاسي الأصفر، ووازت أطراف شاربه قمم حواجبه التي كانت ما تزال مبللة بماء الوضوء.
والذي بلبل كيانه، أنه ما إن دخل إلى الزقاق، حتى ضاعت منه ساقاه الغليظتان المنفوختان، ولم يعد يعرف موضع قدميه الكبيرتين المفلطحتين اللتين تشقق أسفلهما، حتى يكاد الشق يبلع المسمار، فلا يبين له رأس.
ارتبك الرجل رغم القسوة التي ضم بها نفسه؛ لأن الزقاق كان يمتلئ بصغار كالفتافيت يلعبون ويصرخون، ويتسربون بين رجليه، ويسرح واحد من بعيد وينطحه، ويشد آخر «البشت» من ورائه، ويصيبه شقي بصفيحة في أصبع قدمه الكبير النافرة عن بقية أصابعه.
ولم يستطع إزاء هذا كله إلا أن يسلط عليهم لسانه، فيخرب البيوت فوق رءوس آبائهم وأجدادهم، ويلعن الداية التي شدت رجل الواحد منهم، والبذرة الحرام التي أنبتته.
ويرتعش عبد الكريم بالحنق، وهو يسب ويمخض ويبصق على البلد الخائب الذي أصبح كله صغار في صغار، ويتساءل، و«بشته» يهتز، عن معمل التفريخ الذي يأتي منه من هم أكثر من شعر رأسه، ويزدرد غيظه وهو يطمئن نفسه أن الغد كفيل بهم، وأن الجوع لا محالة قاتلهم، و«الكوريرة» سرعان ما تجيء فتطيح بنصفهم.
وتشهد عبد الكريم وهو يشعر براحة حقيقية حين خلف النحل وراءه في الزقاق، وأصبح يشرف على الواسعة التي تحيط بالبركة في وسط البلد.
وانبسط الظلام الكثير أمامه؛ حيث تعشش البيوت المنخفضة الداكنة، وترقد أمامها أكوام السباخ كالقبور التي طال عليها الإهمال، ولا شيء بقي يدل على الأحياء المكدسين تحت السقوف إلا مصابيح متناثرة في الدائرة المظلمة الواسعة، وكأنها عيون جنيات رابضات يقدح منها الشرر، ويأتي نورها الأحمر الداكن متبخترا من بعيد؛ ليغرق في سواد البركة.
وتشتت بصر عبد الكريم في الظلام الفاضي، ودار برأسه هنا وهناك، ورائحة الماء الصدئ في المستنقع تتلوى مع تقوس خياشيمه. وفي الحال شعر بالضيق يكتم فتحات أنفه، فشدد من قبضة يده، وزاد انحناؤه، وكاد يرمي «بالبشت» على حافة البركة.
وكان ما ضايقه وكتم أنفاسه شخير الأرانب أهل بلده، وهو يمتد مع انتشار الظلام، ولحظتها كان ما يلهلب سخطه أكثر هو طنطاوي الخفير، وكوب الشاي «الزردة» التي عزم عليه بها في حبكة المغرب، والتي لولا دناوته، وجريان ريقه عليها، ما ذاقها.
وتمشى عبد الكريم في الواسعة وأذنه لا تسمع حسا ولا حركة، ولا حتى صيحة فرخة، وكأنه وسط جبانة، وليس في رحاب بلدة فيها ما فيها من خلق الله.
وحين بلغ منتصف الواسعة توقف، وكانت لوقفته حكمة، فهو إذا أطاع ساقيه ومشى، أصبح بعد خطوات قليلة في قلب بيته، وإذا أغلق دونه باب الدار، كان عليه أن يخمد أنفاسه وينام. وهذه اللحظة لم تكن في عينيه قمحة واحدة من النوم، بل كان مخه أروق من ماء «الطرمبة»، وأصفى من العسل الأبيض، ولا يهمه السهر، ولو لهلال رمضان.
وكل هذا بسبب دناوته، وسواد الشاي في الكوب، وأفعوانية طنطاوي، وبسمته الزرقاء، ودعوته التي لم يفكر في رفضها.
ليس هناك نوم؟ طيب.
ورجال البلدة الخناشير قد انكفئوا يغطون من زمان، وتركوا الليل لصغارهم الملاعين ، فماذا يفعل عبد الكريم؟
يسهر؟ وأين يسهر؟
صحيح؟! أين يسهر؟
هل يلعب «الاستغماية» مع الأولاد؟
أو تزفه البنات وهن يقلن: يا ابو الريش انشالله تعيش؟ صحيح أين يسهر؟ وهو أنظف من الصيني بعد غسيله، وليس معه قرش صاغ واحد، حتى يذهب إلى «غرزة» أبو الإسعاد، ويطلب القهوة على البيشة، ويتبعها بكرسي الدخان، ويجلس ما شاء بعد ذلك على ريحة القهوة والكرسي، يراقب حريفة «الكوتشينة» من صبيان المحامين، ويستمع إلى ما لا يفهمه في الراديو، ويضحك ملء قلبه مع السباعي، ويلكز أبا خليل وهو يقهقه، ثم ينتقل إلى مجلس المعلم عمار مع تجار البهائم، وقد يشارك في الحديث عن سوقها التي ركدت ونامت.
ليس معه قرش! جازاك الله يا طنطاوي!
وهو لا يستطيع أن يخطف رجله إلى الشيخ عبد المجيد؛ حيث يجده متربعا والمدفأة أمامه، والكنكة النحاسية تغلي وتوشوش على مهل، والشيحي جالس بجواره، يقص بكل ما في صوته من رنين، ما حدث في الليالي التي شاب لها شعره، والأيام التي انقضت وأخذت معها بضاعته من عقول الناس القدامى الفارغة الطيبة، وجعلته يتوب عن النصب والسرقة، وقلع الزرع على أيدي النماردة من سكان هذا الجيل.
لا يستطيع أن يتنحنح ويطرق باب الشيخ عبد المجيد؛ لأنه أول الأمس فقط، دفع الرجل من فوق مدار الساقية، فأوقعه في الحوض، وأضحك عليه الشارد والوارد، لما دب الخلاف بينهما على مصاريف إصلاح الساقية، ومن ساعتها ولسان الشيخ لا يلافظ لسانه.
كان الشيطان ساعتها شاطرا، ولكن طنطاوي بدعوته أشطر، الله يخرب بيتك يا طنطاوي.
وماذا عليه لو سحب عصاته «المشمش» ذات الكعب الحديد، ومر على سمعان، وانطلقا إلى عزبة البلابسة، فهناك سامر، وليلة حنة، وغوازي، وشخلعة، وعود، وهات إيدك ...
وإنما من أين يا عبد الكريم «النقطة»؟ ثم المساء قد دخل، ويجوز أن سمعان ذهب يصالح امرأته من خالها والطريق خائنة، والدنيا كحل.
يا ناس، لماذا هو الخائب الساهر وحده؟ وطنطاوي لا شك قد استنظف مصطبة رقد عليها في «دركه»، وراح في النوم، نامت عليه البعيد أثقل حائط.
وماذا يحدث لو عاد إلى بيته هكذا كالناس الطيبين، ولكز امرأته فأيقظها، وجعلها تنير المصباح، وتمسح زجاجته، وتشعل الموقد، وتسخن له رغيفا، وتحضر الفلفل الباقي من الغداء، وحبذا لو كان قد بقي شيء من الفطيرة التي غمزتها بها أمها في الصباح، وآه لو صنعت له بعدها كوزا من الحلبة، وجلس كسلطان زمانه يرقع الثلاثة مقاطف التي بليت مقاعدها، ويصنع لها آذانا وقد تملصت آذانها.
ماذا يحدث بالله إذا كان هذا؟
هل تنتقل المحطة من مكانها؟
وهل يعمل العمدة ليلة لوجه الله؟
وهل تنطبق السماء على جرن القمح؟
أبدا، لن يحدث شيء من هذا.
ولكنه أعرف الناس بامرأته، وأعرف من شمهورش برقدتها كزكيبة الذرة المفروطة، وقد تبعثر حولها الصغار الستة كالكلاب الهافتة، ولن تصحو حتى لو نفخ إسرافيل في نفيره، وإذا تفتحت ليلة القدر وقامت، فماذا تفعل؟
أهو يحاول الضحك على نفسه؟
وهل الذي يزمر يغطي ذقنه؟
المصباح بالعربي ليس فيه «جاز» إلا ما يملأ نصفه، والمرأة في حاجة إليه كله لتعجن وتخبز طول الليلة الآتية إذا عاش أحد، ثم الأولاد لا ريب قد جاعوا ساعة المغرب، وأكلوا الفلفل بآخر رغيف في «المشنة».
وهل تبقى فطيرة الصبح لتنتظر سهرته؟ وعليه أن يطمئن نفسه، فلك الحمد، ليس في داره حلبة ولا سكر، ولا يحزنون.
ولن يستطيع طول عمره أن يحظى بكوب مثل التي لحسها لحسا عند طنطاوي.
الله يجحم روحك يا طنطاوي يا ابن زبيدة. •••
ولو أن أحدا عن له أن يقضي حاجته في الواسعة، ورأى عبد الكريم في وقفته، مزروعا كزوال المقاتة أمام وجه البركة الداكن، لظن في التو أن الرجل مسه شيطان أو لبسته شيخة.
وعبد الكريم معذور، فالحيرة التي كان فيها أوسع منه، والمسألة أنه رجل على نياته، لا يقرأ الليل ولا يكتبه، والجيب خال، والليلة شتاء، والشاي يكوي رأسه، وجهلة السهر من أمثاله قد غيبهم النوم من سنة مضت في سابع أرض.
طالت من أجل ذلك حيرة الرجل، وطال وقوفه، وأخيرا فعلها وقر قراره.
وقطع الباقي من الواسعة في استسلام، وقد رأى أن يقضي ليلته كما اعتاد قضاء البارد من لياليه.
وأخيرا استقر في وسط داره، وقد أغلق الباب بالضبة وراءه، وتخطى أولاده وهو يزحف في الظلام على قبوة الفرن حيث يتناثرون، ومصمص بشفتيه وهو يئن منهم ومن الظلام، ويعتب بينه وبين نفسه على الذي رزقه بستة بطون تأكل الطوب.
وكان يعرف طريقه، فطالما علمته ليالي البرد الطريق، وعثر آخر الأمر على امرأته، ولم يزغدها، وإنما أخذ يطقطق لها أصابع يديها، ويدعك قدميها اللتين عليهما التراب بالقنطار، ويزغزغها في خشونة بعثت اليقظة المقشعرة في جسدها.
وصحت المرأة على آخر لعنة أصابت طنطاوي في ليلته، وسألته في غير لهفة وفمها يملؤه التثاؤب عما جناه الرجل، حتى يسبه في عز الليل.
فقال وهو ينضو ثيابه، ويستعد لما سيكون: هه، الله يخرب بيت اللي كان السبب. •••
بعد شهور كانت النساء كالعادة يبشرنه بولد جديد، وكان هو يعزي نفسه على السابع الذي جاء في آخر الزمان، والذي لن يملأ طوب الأرض بطنه هو الآخر.
وبعد شهور وسنوات كان عبد الكريم لا يزال يتعثر في جيش النمل من الصغار الذين يزحمون طريقه في ذهابه وأوبته، وكان لا يزال يتساءل كل ليلة أيضا، ويداه خلف ظهره، وأنفه يشمشم حوله عن الفتحة التي في الأرض أو السماء، والتي منها يجيئون.
نظرة
كان غريبا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانا كبيرا مثلي لا تعرفه في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقدا حقا؛ ففوق رأسها تستقر «صينية بطاطس بالفرن»، وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة، وكان الحوض قد انزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه حتى أصبح ما تحمله كله مهددا بالسقوط.
ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل، وتلمست سبلا كثيرة وأنا أسوي الصينية، فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية، ثم أضبطهما معا، فيميل رأسها هي، ولكنني نجحت أخيرا في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان، نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبا؛ حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.
ولست أدري ما دار في رأسها، فما كنت أرى لها رأسا، وقد حجبه الحمل، كل ما حدث أنها انتظرت قليلا لتتأكد من قبضتها، ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة «ستي».
ولم أحول عيني عنها، وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات، ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي ينظف بها الفرن، أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين.
وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض، وتهتز وهي تتحرك، ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها، وتخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء، ولكنها سرعان ما تستأنف المضي.
راقبتها طويلا، حتى امتصتني كل دقيقة من حركاتها، فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة.
وأخيرا استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع المزدحم في بطء كحكمة الكبار.
واستأنفت سيرها على الجانب الآخر، وقبل أن تختفي شاهدتها تتوقف ولا تتحرك.
وكادت عربة تدهمني وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شيء على ما يرام، والحوض والصينية في أتم اعتدال، أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج، ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها، وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون.
ولم تلحظني، ولم تتوقف كثيرا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف، استدارت على مهل، واستدار الحمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة.
ثم ابتلعتها الحارة.
الشهادة
ما كدت أضع قدمي في قطار حلوان، حتى استرعى انتباهي رجل جالس في آخر العربة، منهمك في مطالعة جريدة.
وتوقفت لحظة، وفي ثانية واحدة كان كل شيء أعرفه عن الرجل قد بدأ يبرق في ذاكرتي كالأنوار الخافتة البعيدة، وأمسك وعيي بخيول واهية تربطني بجزء قديم من حياتي، وراح يجذبها برفق، وفي كل جذبة كنت أستعيد يوما وأياما وسنوات غير قليلة قضيتها في مدرسة دمياط الثانوية، وأستعيد معها أحلام صباي، وسحرية دمياط تتقاذفها وتلهو بها، وأماني مراهقتي وهي تدفعني وحيدا، غريبا، في عالم البلدة الذي يكسوه ضباب شاعري يلف الناس والوحدة والسكون.
وتراجعت بي الأيام إلى مبنى المدرسة الكبير، وحوشها الواسع، وأطفال وشبان صغار يلهون فيه بطرابيشهم التي فقدت معظم خيوط أزرارها، وتثنت جدرانها، وتعود الأيام إلى الفصل الضيق، ومقعدي في أول الفصل، والحفني أفندي مصطفى مدرس الكيمياء يكاد يحتل كل ما بقي في الفصل من فراغ، بكرشه الضخم، ورقبته الغامضة المختفية وراء شحم كثير ينسدل من تحت فكه، ووجهه السمين ذي التجاعيد الغليظة، وسترته التي حال لونها، والتي كانت أصغر بكثير من جسده، وسرواله الذي يحشو فيه ساقيه المنتفختين حشوا فيبدو كشراب طويل، وكلماته البطيئة التي تفصلها فترات حزق طويلة وهو يشرح، حتى إذا ما أخذه الحماس، واستطرد مسرعا في شرحه تتلاحق أنفاسه لاهثة، ويمد يده يخرج منديله المنكوش يمسح به العرق الذي يقطر من حواف تجاعيده.
ومع أن تلاميذ الفصل كان لهم هدوء أهل دمياط، إلا أنهم ما كانوا يستطيعون أن يتمالكوا أنفسهم في حضرة الحفني أفندي، وكان المخضرمون الجالسون في أواخر المقاعد هم أحسن من يقلدونه، وأول من يضحكون عليه إذا أدار ظهره، والبادئين برش الحبر من ريشهم على سرواله حين يمر بين التخت، وهم الذين يلصقون له ذيول الورق الملون في سترته إذا ما هم بمغادرة الفصل، وما كان يكتشف ما حدث له عادة إلا في الحصة الثانية حين يدخل، وفي وجهه صرامة عسكرية، وعلى خدوده احمرار فاقع، وفمه لا ينطق بحرف، وإنما يزغر لنا كلنا، ونحن واجمون صامتون، ويختار أي تلميذ، وغالبا ما يكون من الجالسين في الصفوف الأمامية، ويلعن أباه، ثم يهدأ الحفني أفندي.
ومع ذلك كان يعاملنا كالرجال الكبار، وكثيرا ما كان يقطع الدرس، ويحدثنا عن متاعبه؛ فقد كان يقيم وحيدا في لوكاندة، وكانت عائلته في مصر، فيكلمنا عن الجزار الذي خدعه، وباع له رطل اللحم ثلاثة أرباعه عظام، وخادم اللوكاندة الذي أكل من الباقي قطعتين كبيرتين حين أرسله يشوي اللحمة، وكيف أصبح ذات مرة، فوجد حافظته قد اختفت، وفيها اثنان من الجنيهات.
ويحدثنا عن ابنه الذي يغوي البنات في مصر، والذي رسب ثلاث مرات في السنة الواحدة من أجل هوايته، وعن امرأته التي تأبى أن تسكن دمياط، والتي يرسل لها في أول كل شهر معظم ماهيته.
كنا نسمع منه هذا، ونضحك في بعض الأحيان، ونتظاهر بالحزن في بعضها، وهو لا يشاركنا في كليهما، وإنما كان وجهه يحفل بالاشمئزاز والاشمئناط كمن يعاني من مغص دائم.
وما كان الرجل يلقى تقديرا من أحد؛ فتلاميذه يعبثون به، وزملاؤه يسخرون منه، والناظر يتجهم في وجهه ويلذعه كلما رآه بالنقد، والمفتشون يكتبون عنه أزفت التقارير، بل لا يتورعون عن تجريحه أمامنا في الفصل.
وكنت من المجتهدين الجالسين في أول الصفوف، الذين تهدد اللعنة في أي وقت آباءهم.
وكنت أكره «الشرز» الواحد الذي يرتديه صيف شتاء، حتى كان يخيل إلي أن زغبه الخشن ينغرز في جسدي أنا، وكنت أكره رباط عنقه الذي يلقيه على ناحية نائية من ياقته، وأكره أصابعه الملفوفة القصيرة، وهو يهرش بها كرشه المنبعج، وأكره أسنانه الصفراء بغير دخان، ومنديله المتكرمش المتسخ حين يخرجه من جيبه ويدعك به أسنانه في وسط المعادلة التي يشرحها، ثم يعيد المنديل، ويستأنف الدرس، وكأن شيئا لم يحدث.
مع أني كنت أكره كل هذا منه، إلا أنني كنت أحبه، فوراء جسده التخين القصير، ومشيته المتطوحة، وصراحته، ونظرته الممغوصة، وطربوشه الملقى إلى الخلف في قلة اكتراث، كان وراء هذه طيبة كنا نتحسسها بقلوبنا الصغيرة، فنحبه، ولكن حبي له ما كان يمنعني من المشاركة في الضحك عليه، ولا من سترته، وقد أغرتني ذات يوم فعلقت له فيها ذيلا.
ولا أنسى يوم دخل علينا الفصل، وترنحنا ونحن نقف له، وتناول من تحت إبطه أوراق إجاباتنا في امتحان الفترة، وسكتنا فقد كان كل ما يمت إلى سيرة أي امتحان كفيلا بإشاعة الرهبة فينا، وأفسح له سكوتنا واديا متراميا راح يندد فيه بخيبة تلاميذه، وقلة نفعهم.
وبعد أن التقط أنفاسه الكثيرة اللاهثة التي تعقب حماسه، أشار إلي، وأشاد بإجابتي، وأخرج ورقتي وتلاها كنموذج للإجابة، وأقول الحق سرت في بدني فرحة عظمى أعادت إلي ذكرى اليوم الجليل في حياتي، يوم رأيت نمرتي بين الأرقام الناجحة في امتحان الابتدائية.
ولقبني بعدها زعيم الكيمياء، وسقت أنا فيها رغبة في الاحتفاظ باللقب، مضيت أذاكر كالآلة حتى انتقل الحفني أفندي إلى مدرسة أخرى.
وكان وداعنا له حافلا.
كان كل ما تذكرته مجرد قبضة واحدة سريعة من ذكرياتي، مرت بخاطري، فأشعلت النار في رماد حياة بأسرها، عشتها، ونسيتها، وأصبح بيني وبينها ما يزيد على عشر سنين.
وما إن انتهى الوهج الذي خلفته القبضة، حتى كنت قد عبرت ممر العربة، ووجدت نفسي أقف في آخرها أمام الرجل الذي في يده الجريدة.
وجلست على المقعد المقابل، وسألته في كثير من التهتهة إن كان يذكرني.
ونظر إلي الرجل بنفس نظرته المشمئزة الممغوصة، ولم يقل شيئا، فاستطردت ألحم الكلام في الكلام، وأدخل الثالثة فصل أول في المعادلات وقانون الغازات، وأنبوبة الاختبار التي انفجرت ذات مرة، والرفاعي، والدغيدي، وأحمد مسلم من شطار الفصل.
وبعد كثير بان على الرجل أنه تذكرني، أو بالأحرى تذكر صبيا صغيرا يشبهني كان من تلاميذه. ولم يظهر عليه أنه سر لهذه الذكرى فلا ريب أنه استعاد أذيال الورق الملون، وتأنيب الناظر، وعبث الجميع به.
ولكني انطلقت أحدثه عن الأيام التي مضت، والسنين التي لم تغير في مظهره، ولم تضف إلى علامات العمر فيه علامات جديدة، وحدثته عن الكلمات الصغيرة السريعة التي كان يغمرني بها، والتي أصبحت علامات بيضاء دفعتني قويا في طريق الحياة، وعن التقدير الذي أختزنه له من زمن.
وتعجب قليلا، وبعد أن كان واضحا أنه يضن بالكلام، بدأ يحدثني حديث الإنسان عن المدارس التي تنقل فيها، وعن الوزارة التي تضن عليه بالدرجة، وعن زملائه الذين أصبحوا نظارا، وهو لا يزال مدرسا، وعن امرأته التي طلقها، ونفقتها التي تستغرق مرتبه، وابنه الذي ترك المدارس، وذهب يمثل في السينما.
وسألته عن طلبة هذه الأيام وأنا أضحك، فلم يجبني، وإنما أخرج منديله العتيد من جيبه، ودعك أسنانه، ثم بصق من النافذة.
وذكرته بحكاية زعيم الكيمياء، فابتسم لأول مرة، وأخذ ينصت باهتمام حين قصصت عليه كيف دخلت مسابقة الكيمياء وكنت الأول، وكيف التحقت بكلية الطب وتخرجت، ولي سنين وأنا طبيب.
وحين وصلت إلى هذا الحد، انفجر في ضحكة طويلة اهتزت لها كل أرجاء جسده، وزغدني في كتفي وهو يقول: يا شيخ اتلهي، اتلهي!
وحتى حين أطلعته على بطاقتي الشخصية وأنا أقول له: كل ده بفضلك.
بان عليه حرج كبير، وضرب كفا بكف، وهو يقول: في المدة القصيرة دي، تبقى دكتور! دكتور!
فقلت مرة أخرى: كل ده بفضلك.
وكنت أقولها في حماس الصبي الذي كان في دمياط، وفي رهبة الفتى أمام أستاذه، وفي تلعثم المبتدئ حين يقابل الفنان الذي وصل.
وطول المدة التي أمضاها في مدرستنا ما رأيت الحفني أفندي سعيدا أبدا؛ ولذلك تفرست في ملامحه، وقد بان فيها تعبير بدائي عن سعادة تطرق وجهه ربما لأول مرة.
وأخذ يفرك كفيه، ويطبطب على فخذه، ثم يروح بالجريدة عن وجهه الذي احتلته ابتسامة واسعة بانت لها أسنانه، وقد اسود صفارها القديم.
وبين الفينة والأخرى يردد: والله عال، أهو واحد من دمياط نفع، والله عال، واحد نفع.
وأقول له إننا كلنا نفعنا، ولكنه لم يكن معي، وإنما كان يستغرقه شعور قوي يشيع فيه أحاسيس لا عهد له بها.
وجاءت المعادي، وكاد ينسى أنها محطته، وشد على يدي بحرارة وهو يشكرني بأنصاف كلمات، ولا أدري على أي شيء كان يشكرني، وودعته حتى باب العربة، وابتعد القطار بي، وهو يلوح بيده، وفرحة كبيرة تقلقل خطواته، والابتسامة تتموج في وجهه، وسعادة غامرة تطفح من عينيه.
كان كالطفل الذي نجح لتوه في الشهادة الابتدائية.
على أسيوط
- يا سيدي، والنبي يا سيدي، يا ناس، يا ناس، حرام عليكم، دانا جي من أسيوط، جي ماشي يا ناس، على رجلي، وبقالي هنا سبوع، سبع ليالي بايت، نايم على الرصيف قدام المستشفى، دانا مريض، مريض يا عالم، غلبان يا هوه ، ورجلي ما عدت طايق ريحتها، المدة ضربت في وركي، دا حرام، والنبي دا حرام، واللي خلق النبي دا ما يخلصوش.
وقبل أن تمتد أذرع «التومرجية» القوية تنتزعه، وتعيده من حيث جاء، تململ الطبيب في كرسيه، وقطع الحديث الدائر بينه وبين الحكيمة، واستدار إلى المناكف الجديد.
وعبر الطبيب على الوجه الصدئ الذي أمامه، والذي كله شعرات وفجوات وغضون، عبر في سرعة وفي ملل، فالمترددون على المستشفى كلهم ملبدو الوجوه بغيوم الحاجة والمرض، ولكن الطبيب توقف قليلا، متفرجا، عند ملاءة السرير القديمة التي اسود لونها الأصفر الباهت، وامتلأت بالبقع والخروق، والتي عمم الرجل بها رأسه، وتدلى طرفها بجانب وجهه كذيل ملطخ بالوحل لكلب عجوز.
ورمق الطبيب في قليل جدا من الدهشة رجله الملفوفة في عدد كثير من الخرق والأشرطة والجوارب القديمة من مختلف الألوان والأحجام، وقد كست رجله من قمة أظافرها إلى مفرق فخذيه، فضخمت الرجل وكبرتها، حتى أصبحت كصبي مستقل صغير يرتكز عليه الرجل في ناحية، ويستند في الناحية الأخرى إلى فرع شجرة غليظ ملتو غير مشذب.
انتهى الطبيب من استعراضه في لمح البصر، واستقرت عينه على الشيء الذي يهمه من كل هذا، على ورقة المستشفى البالية المتسخة، وقد استماتت قبضة الرجل عليها. وفي الحال شد منه الورقة، وقلبها في اشمئزاز، ثم انفرجت أساريره فجأة، وزأر في الرجل: يا بني آدم، أنا مش محولك من أسبوع لعيادة الجراحة، إيه اللي جابك هنا تاني؟ هنا يا مغفل حاجة اسمها الاستقبال بس، فاهم؟
وقفز «التومرجي» يشاطر في الزئير ويقول: دا مكتوب له، يحول في عربة كمان، أما ناس ما بتختشيش.
وكاد الرجل أن يبتسم لولا أن وجهه خانه، فبدأ يغمغم: يا خيه يا سعادة البيه، ما الجراحة حولت لباطنية، وباطنية حولت لسرية، وسرية حولت لجدية، وآديني رجعت تاني، وبقالي أسبوع يا سعادة البيه بارقد على الرصيف، وآخ...
ورد الطبيب بسرعة وغضب: طاب، وحاعملك إيه؟ وأنا مالي يا أخي؟ أنا ملزوم؟ أنا ملجأ؟ أنا لوكاندة؟ اسمع، مش عايز دوشة، أنا حاحولك الجراحة تاني في عربية برضه، إنما وشرفي لو شفت وشك بعد كده ...
ورفع الرجل يده الفارغة، وأمال جسده حتى كاد يلمس المنضدة التي يجلس إليها الطبيب، واندفع يقول ولا شيء يوقفه: لا لا لا، والنبي يا بيه، أنا مش عايز علاج واصل، والنبي يا بيه دانا ...
وانفجر الطبيب كالبركان: أمال عايز إيه؟!
وكان انفجاره هو إشارة البدء لأيدي «التومرجية» لكي تلتف في جبروت حول الرجل، وتقتلعه من الغرفة، فناضل بكل ما يملك ضعفه من قوة يحاول تخليص نفسه، وقال في وهن ومسكنة: والنبي يا بيه، والنبي وحياة والدك، مش عايز الجراحة، حولني على بلدي، حولني على سيوط.
أبو سيد
الدنيا كلها سكون، والصوت الوحيد الذي يتسرب إلى الحجرة كان ينبعث من «وابور الجاز» وهو يون في ضعف مستمر واهن، وكأنه نواح طفل عنيد مسلول، ولا يقطع ألون الشاحب البعيد إلا زحف «الكوز» على أرض الحمام، ثم صوته وهو يبتلع الماء ويصبه بعد ذلك في ضوضاء مكتومة.
واستمر الوابور يزن، والكوز يحف ويبتلع وينصب ماؤه، وصفيحة الماء تقرقع، استمرت الأصوات كلها تتضارب وتحلق كالوطاويط في سماء الحجرة، حتى جاد الوابور بآخر أنفاسه، وانطفأ، وعاد المكان إلى سكون الدنيا الثقيل.
ومضى وقت طويل قبل أن يفتح باب الحمام، ويسمع رمضان نقيق «القبقاب» على البلاط وهو يقترب، ويعلو وهو يقترب، حتى دلفت امرأته إلى الحجرة، وأحس بنفسها الذي ليس غريبا عليه يملأ الجو.
وظل «القبقاب» رائحا غاديا، وضوء المصباح ينتقل من مكان إلى مكان، وهمهمة حزينة خافتة تنحدر، وتعلو من فم امرأته مع اقتراب الضوء وابتعاده، ظل هذا يدور ورمضان مغلق عينيه، ومصر على إغلاقهما، ولم ينتفض ويفتحهما إلا على قطرات من الماء البارد تلسع وجهه.
وجمده قليلا مشهد امرأته، وقد وقفت منكوشة الرأس، والمشط الخشبي في يدها، تدكه بين غزارة شعرها الأكرت، ثم تشده بكل ما تستطيع ليحرث طريقه بين الجذور والسيقان، وقد زمت وجهها السمين الخمري اللامع، وارتسمت دقائق التجاعيد حول أنفها السهل الفاطس، وبان النور من عينيها اللتين ضيقتهما في فروغ بال، بينما رذاذ الماء تدفعه جذبة المشط، فيتساقط هنا وهناك، وعلى ثوبها الشيت النظيف ذي الورود الكبيرة الباهتة.
وانتهى جمود رمضان، ثم عاد إلى نومته، وقال في شيء من التحدي وهو يغلق عينيه: مش تحاسبي يا وليه، قزازة اللمبة حطق من الميه، وردت المرأة بكلام مضغوم لم يفسره، ولم يهتم به، فقد عاد يتنفس بعمق، ويكن رجله، ثم يفردها، ويشخر بمطلق إرادته، ثم قرر أن ينام.
وحين كان يجذب اللحاف فوق أكتافه، وارب عينيه، وألقى نظرة أخيرة على زوجته التي كانت يدها تمتد إلى المصباح تمسيه، وشعرها قد تم نظامه، وازدادت لمعته، ووجهها قد ابيض، حتى كادت تختفي تجاعيده في تلك الابتسامة الكبيرة الرائعة التي احتلت وسطه.
وارتعش رمضان، وأسرع يصفق عينيه في عنف؛ فقد كان يعرف من زمان سر هذه الابتسامة، فاليوم يوم الخميس، والليلة ليلة الجمعة.
وأحس الرجل بالسرير ذي الأعمدة الرفيعة يهتز، ويزيق، ثم بامرأته تستوي على السرير، وتدخل تحت الغطاء، وعبقت في الدنيا التي يصنع اللحاف سماءها رائحة المرأة مختلطة برائحة ثوبها الشيت، ورائحة الصابون الرخيص الذي دعكت به جسدها.
وكح رمضان، وكان لا يريد أن يكح، وطال سعاله. وقالت امرأته ووجهها إلى الناحية الأخرى في صوت حنون ذليل: مالك يا سي رمضان؟
ثم سكتت قليلا قبل أن تقول في همس خافت مليء بالإثم: اوعى سيد يكون صاحي. - ولما لم يرد، تنهدت في حرقة تصاعدت من كبدة قلبها، واهتزت أعمدة السرير وهي تستدير لتكمل آهتها، حتى أصبح وجهها يتدفأ بكثير من الحرارة والخشونة المنبعثة من رمضان.
وكان الرجل ساعتها يلهث، ولفح أنفاسه يحملها بعيدا إلى حيث لا يراهما أحد، ثم يلوكها في نشوة ويدغدغ ضلوعها في حنان، ومدت يدها وملست على جبهته اللزجة بالعرق، ثم أرسلت أصابعها تتحسس رقبته الغليظة النافرة العروق، وقالت في صوت خنفته، وأطالت فيه حتى غدا كمواء قطة جائعة: اسم الله عليك يا خويا، اسم النبي حارسك يا ضنايا، وكح رمضان، وكان لا يريد أن يكح، وزام من خلال فمه المطبق، ثم اهتز السرير وهو يستدير ليعطيها ظهره.
وما كانت هذه أول ليلة يستدير فيها، ولا كانت هذه أول مرة يكح فيها ويزوم ويعبس، وهو لا يذكر كم شهرا مضت، وهل بدأت المسألة عقب أيام العيد الصغير أم قبله، وهناك ضباب كثيف بينه وبين البداية، فما فكر في الأمر أبدا ولا اعتبر ما حدث - يوم حدث - بداية لأية نهاية، تماما كما لم يتبين جاره سي أحمد الكمساري في شركة الأوتوبيس أن السخونة التي أصابت ابنته، ممكن أن تكون البداية لنهاية يعزيه فيها الناس على البنت.
والناس على هذه الحال، وكذلك رد ما أصابه في تلك الليلة إلى نوبة البرد التي ألمت به، ومرت أيام. وراح البرد من جسده، وحين استيقظ ذات صباح، ووجد العافية قد ردت إليه، قرر أن يفعلها في نفس المساء.
وانشرح خاطره لقراره ومضى إلى الميدان يردد في انتعاش مطلع الموال الوحيد الذي يعرفه، وتسلم صرة الميدان كما تركها، ووقفت العربات لإشارته كما اعتادت أن تقف، ويده قوية في قفازها الأبيض القديم كما كانت طول عمرها، وبدلته بزرائرها الصفراء اللامعة محبوكة عليه، تبرز أكتافه، وتضيق فوق كرشه فتكوره وتجعله كالبطيخة أمامه، وقبعته يلمع فوقها الدهان الذي لا يفلح في إخفاء كل ما فيها من قذارة وبلى، وقلمه الثابت الثقيل في يده يلتقط نمرة العربة في سرعة الواثق من يومه وأمسه وغده يدونها بخطه الواضح الذي كان يفخر بجماله، كانت الدنيا هي الدنيا، الدنيا التي هنا والتي هو ملكها، كانت لا تزال بخير، ولا يزال يتربع على عرشها، ويحكمها بصفارته، ويعز من يشاء، ويذل من شاء فقط متى لوح بقفازه.
وحين كان يكتب أول مخالفة كان عقله سارحا في الليلة التي سينفض فيها عن نفسه خمول المرض الذي لازمه أسبوعا، ولكن أمور اليوم شغلته، وعيونه الزائغة هنا وهناك تنقر المخالف من تحت حافة القبعة، هذه العيون ألهته عن الخاطر، ولم يتنبه له إلا هناك، حين كان يجاهد في خلع حذائه الميري الثقيل، وقد ألقى بجسده المنهوك على «الكنبة»، وامرأته تلقي إليه بتحيتها الوادعة، ثم تتربع على الأرض وتقول في حماس أطفأت العادة جدته: عنك أنت.
وطوقت يدها اللينة قليلا سمانة رجله، بينما مقدمة حذائه أصبحت مدفونة بين أثدائها، وحينئذ نقر الخاطر فوق رأسه.
ولم يعتبر ما جاء في باله عملا صبيانيا، فراح يزغزغ المرأة بحذائه الثقيل العريض، وهي تضحك، وتنهره، وتدفعه، وتميل إلى الوراء، ثم على جانبها، حتى تكاد تلمس الأرض، وتشدد من قبضتها على عضلات رجله، وترخي القبضة في بطء، وهو قد استمرأ اللعبة، وانتشى وهو يعب من صوت امرأته التي كانت تمطه، وترفعه، ثم تحيله همسا، ونصفها يضحك، ونصفها يتدلل، وكلها تريد وترغب. •••
في ضباب البداية يذكر رمضان هذه الليلة ولا ينساها، فقد حاول في كل دقيقة منها وسالت عليه بحور العرق، وقد أصم شعوره عن العالم، وأصبح هو وامرأته والفراش كل دنياه وتفكيره.
وأزاحته المرأة مرات ومرات، ولعن أباها آلاف المرات، والمعركة تدور وتدور لا تهبط إلا حين يتململ الصبي، حتى يكاد يستيقظ، وتبدأ حين يعود إلى غطيطه، ويعود اللعاب يسيل من جانب فمه.
وهجعت المحاولات قرب الفجر، ونامت المرأة، ولم ينم رمضان.
وليلتها مضت، وليلة أخرى جاءت، وصراع جديد نشب، وثقة رمضان في نفسه ورجولته تستميت وهي تدافع عن نفسها، والواقع وما يحدث يسلب هذه الثقة كل ما تملك.
وأخيرا سلم رمضان بعد ليال، وقال لنفسه في صباح يوم بصوت لا يدري أكان مسموعا أم غير مسموع: لا حول ولا قوة إلا بالله، والله ضعت يا رمضان واللي كان كان.
ولم تكن أول مرة يتحاشى فيها امرأته وهي تقدم له الفطار، وإنما كان يود أن يزيحها في هذا اليوم من أمامه، ثم يسرح ويخبط رأسه في الحائط عله ينفلق، كان شيء غريب يدور فيه، فبالقوة والعافية والعرق والليالي الطويلة كان عليه أن يصدق أنه لم يعد رجلا. وكان هو يأبى أن يصدق، ويكابر هذه الحقيقة، وهو مكسوف خجل كما لو كانوا يزفونه في البلد فوق الحمارة، وهو عاري الجسد وعلى رأسه كومة طين.
ويعود من جديد يقول وكأنه يتلو آية الكرسي ليطرد جنية من الجان: والله ضعت يا رمضان، واللي كان كان.
ويصمت، ثم يقطع لقمة كبيرة من الرغيف ولا يأكلها ويقوم، وينظر من النافذة، ثم يكح ويبصق بصقة كبيرة على العشش التي فوق السطوح أمامه، ويعود إلى جلسته أمام الطبلية، ويسرح في صمت طويل آخر، وهو يحدق في الطعام، ويمضغ صمته حتى يشبع فيرتدي البدلة، وكأنه يخلع كل ملابسه، ثم يتسلل من البيت كحرامي النحاس، وجسده هارب منه، وأطرافه لا يعثر عليها.
وحين يقف وسط الميدان، والعربات تزدحم حوله، والأرض والسماء تتحرك، وهو وحده الواقف الهامد الضائع، حينئذ يشعر بتفاهة هذه المملكة التي له، ويضايقه القفاز الأبيض، ويحس بالقبعة وكأنها حجر الطاحونة يكتم أنفاسه، ويومها لا يقيد محضرا واحدا، وماله هو والمحاضر والمخالفات، فليدع من يخطئ يخطئ، ومن يتحطم يتحطم، ومن يقتل يقتل. وهل هو الذي ينظم الكون؟ لعن الله العربات وأصحاب العربات، والمرور، وكل ما يمت إلى خلية النحل التي يلسعه دويها وصرخاتها.
ولأول مرة في حياته كره بيته، ووجه امرأته النحس، ولم يعد توا إليهما.
وفي خطوات لا يهمه وقعها، ولا أين تقع راح يدق الشارع بحذائه الثقيل، وقد كفأ القبعة فوق جبهته، وامتلأت أخاديد وجهه بالاشمئزاز واليأس، وفك حزامه العريض، وتمنى أن ترحمه عربة نقل وتأكله. ووصل أخيرا إلى باب الإنسان الذي لا يصادق في المدينة إنسانا سواه، وطرق الباب - ونادرا ما كان يطرقه - ولم يفاجأ طنطاوي، وإنما رحب به وسأله عن الصحة، وكالمعتاد عن البلد والقرايب والنسايب، والذي مات، والذي عاش، ومن تزوج، ولكنه فوجئ فعلا حين قطع رمضان أسئلته، وقال في جد: اسمع يا واد يا طنطاوي، عايزين تعميرة.
ولم يكن رمضان يشرب الحشيش كثيرا، ولكنه شرب هذه المرة حتى إن طنطاوي لم يأتمن الطريق عليه، فأصر على مرافقته، ولم يرفض رمضان، ولم يقبل، ولم يرد على أسئلة صاحبه عن السر الذي يكمن وراء سكوته.
وفي الطريق سرح رمضان بعيدا، وأوغل في الزمان والمكان، حتى وصل سكينة جارتهم في بيتهم القديم على الترعة، ثم السنوات القليلة التي أعقبت بلوغه، وكان رمضان يتوقف عن السير، ولا يدري لماذا، ثم تجذبه ذراع طنطاوي فيمشي، ويسرح، ثم يتوقف، حتى خطر له خاطر قاله في انبهار: يكونشي يا ولاد الحشيش ينفع؟!
وانفجر ضاحكا، وقد كف عن المشي، وغمغم الطنطاوي وهو يهز رأسه في رثاء: الجدع انسطل والنبي.
وهم رمضان أن ينطق، وكادت الكلمة تغادر فمه، ولكنه لحق نفسه، وابتلع الكلمة، وابتلع معها ريقه الجاف. وحين جره الطنطاوي من يده عاد حذاؤه يقرع الطريق مرة أخرى. •••
ولم ينفع الحشيش، أبدا.
وعاش رمضان بعد لياليها صامتا، لا يتحدث إلا حين يمد إنسان يده، فيستخرج من جوفه كلاما كالعصارة الفاسدة لا نكهة له ولا معنى، وإنما هو مزيج من الضجر والتبرم يعكره سخط غامق بليد، وامرأته تتكلم، وتكثر من الكلام، وهو لا يتحرك. وعمله في الميدان أصبح علقما يشربه في بطء الساعات التي يقضيها نصف واقف، وتحيته التي طالما انتفض بها لرؤسائه في مرورهم تضاءلت ووهنت، وأصبح ينتزعها من جسده كما ينتزع الناب الفاسد. وأصبح يتخبط في حبل طويل من الأكاذيب التي يقصها على الطبيب، فيمنحه اليوم أو اليومين إجازة يقضيها حيث لا يقضيها.
وعمره ما عاد لبيته إلا ويده مشغولة بشيء، ولو بربطة فجل، فصار يعود ويده خاوية تتأرجح بجانبه، وكأنها ليست من جسده.
وفي ذات عودة، سلم على حماته، وكانت قد حضرت لتوها، وتندى جبين امرأته لبروده وعدم مبالاته، وأكلت النيران قلبها وحديثه لأمها لا يخرج عن: إزيك، سلامات، ثم صمت طويل من صمته البارد، تعقبه سلامات أخرى، حتى ضاقت الضيفة فلم تكد تلهف صلاة العشاء، حتى تمددت على السرير، وهي تئز بآهاتها، وتشكو من مفاصلها.
ولم تمض ساعة حتى كان ممددا بجانب ابنه وامرأته على الحصيرة تحت أقدام الفراش.
وأيقظته حماته حين عثرت به لما قامت تتوضأ قبل الفجر، وحين كانت تخطئ كعادتها وهي تقرأ الفاتحة بصوتها الخشن، كان يسأل نفسه بعدم اكتراث، ترى ما الذي جاء بها؟
وكان الجواب ينتظره في المساء حين تنحنحت الحاجة بعد العشاء، وقد تربعت على الأرض، وأسندت ظهرها إلى الحائط، وانتهت من إحاطة نفسها ورقبتها وصدرها بالمحرمة الكبيرة البيضاء، وبدأت تقول بصوتها المبحوح: بقى يا بني ما خبيش عليك.
والحق أنها أخفت عنه الخطاب الذي أرسلته لها ابنتها من ورائه، وإنما راحت تسوق له القصة في حنكة العجائز. وكام صمته هو الذي شجعها على أخذها دور أمه وأخته، ثم ناصحته حين قالت: وكل عقدة وليها يا ابني حلال، ألف حلال.
عقدة ماذا؟ وحلال إيه؟ وماذا جاء بك؟ ومالك أنت وما أضناك يا ابنة المركوب؟ وبدأت اللعنات التي تنهال من داخله إلى داخله تصنع بصابيص النار التي ألهبت ثورته، فحتى هذه اللحظة لم يكن قد أدخل امرأته في المسألة، ولم يعترض وجودها وشعورها ورأيها طريقه، وهو يترنح في الخرابة وحده، إنه ليس وحده، ومن يدري كم معه الآن؟
وشبت الثورة في حريق هائل قلب الطبلية، وأطفأ المصباح، وسمع الجيران طقطقة حطبها حين علا صوته في زئير مرتفع: علي الطلاق ما انتي نايمة في بيتي.
وباتت الحاجة وابنتها عند الجيران وقبل الشروق كان القطار يحمل الأم وحدها إلى البلد، ولو كان للبنت مكان في دار أخيها لحملها هي الأخرى.
كان رمضان في نفس الوقت يتسرب من الحارة، وهو يتلفت حوله حتى لا يراه أحد، وحين قابله أبو سلطان وصبح عليه غمغم بتحية قصيرة، ورأسه منكس، وأقدامه تسعى في عجلة حتى يتوارى عن الأنظار. وكذلك فعل مع عبد الرازق بائع الجرائد، والحاج محمد الفوال، وكل الوجوه التي يعرفها والتي لا يعرفها. كانت أقل حركة فيها سره، والكلمة الواحدة فيها إشارة واضحة، والضحكة فيها سخرية منصبة عليه، كل الناس يعرفون حتى الواقف بجانبه، المتعلق معه في عامود الترام، حين زغر له بعينه والترام يميل، كان يعرف هو الآخر.
ومضى إلى صرة الميدان كالريح وهو يتمنى أن يشف ويشف حتى لا يراه أحد.
وبدأ العمل.
ومن لحظتها بدأ يحس أنه واقف في الوسط كالواجهة الزجاجية يتطفل عليه كل غاد ورائح. ويحاول كل محدق وناظر أن ينكش سره الباتع، وخيل إليه وهو يحاول ضم ضفتي نفسه ليحكم إغلاقها أن الناس يضعون عيونهم وأنوفهم بين ضفتيها، حتى تبقى مكشوفة مفتوحة. ودعاه فشله إلى صب جام غضبه على الناس، وقضى اليوم بطوله يدون المخالفات، ويهدر بأوقح الألفاظ، ويزور مركز البوليس جانيا ومجنيا عليه، وكان يومه حافلا. •••
وتلقف الميدان من ساعتها رجلا كئيبا غريبا، لا يفك وجهه الأسمر الجاف إلا ليعقده، ولا يتكسر صمته بكلمة تائهة عابرة إلا ليعود إليه الصمت يلون سمرته، ويرتعش له شاربه الذي نماه وشوشه، حتى غدا كحزمة متنافرة من عشب شيطاني.
وميدانه تحول ميدان رعب، وهو أصبح «بعبع» السائقين تخفق قلوبهم، وهم يمرون أمامه - وما أقل ما يمرون - ويتندرون بينهم وبين أنفسهم على الجاويش الأسمر أبي شوارب، وخشونته وسلاطة لسانه، وحقده المرير على كل امرأة سولت لها نفسها أن تقود عربة، أو حتى تعبر الميدان.
ثم امرأته.
آه من امرأته!
لقد أضناه التفكير فيها، ماذا كانت تفعل يا ترى حين عاد مرة إلى البيت ولم يجدها، قالت له يومها: إنها كانت عند أم حميدة، أم حميدة، أم حميدة الصعيدية، وأخوها مهني، الولد الذي يلبس السكروتة المكوية التي تظهر أفخاذه، ويعقص الطاقية، ماذا كانت تفعل عند أم حميدة؟
ويوم أن ضبطها تطل من الشباك بلا منديل، بنت الكلب، وبلا منديل!
وهكذا اعتاد التأخر في العودة بعد أن أدمن على باب طنطاوي، وعاد مرة في شيخوخة الليل، وارتدى جلبابه الأبيض، وأحكم طاقيته الصوف فوق رأسه، وفرش جسده المنهك المخدر فوق السرير، وأصوات اليوم تطن في أذنه، وحديث طنطاوي ينبثق في مخيلته، ثم يختفي.
وتبين بعد أن خف الطنين وغاب طنطاوي أن امرأته لا زالت مستيقظة، ليس هذا فقط، بل إنها تنهنه بنحيب مبتل، وكان رمضان ليلتها قد بلغ به الأمر منتهاه، ووصل إلى حافة مقاومته، فظل بكاء المرأة يتساقط على الحاجز الجامد الذي وضعه بينهما فيلعقه، والحاجز يرق، حتى لم يعد يفصله عنها إلا اللحاف، وظل ينصت لبكائها، وهو لا يملك إلا الصمت، حتى انهار، وقال وكل جزء من جسده ينشج بغير دموع: بس قوليلي يا نعيمة، أعمل إيه؟
ولم ترد، وإنما كانت تحملها شهقة وتضعها شهقة، وقد انخرطت في بكاء عال.
وهزها رمضان في حنان ذليل، وعاد يسألها. وما كان ينتظر منها شيئا، وإنما ألحف في سؤالها ليغلب عجزه ويشرك إنسانا على الأقل في حل لغزه. •••
وبدأ البحث عما يفعله الناس، وبدأ السؤال، وفتح رمضان الكتاب، والتمس حل عقاله عند أصحاب الحل والربط، وزار أسياد البلد كلهم، وأطعمته نعيمة الحمام والمنجة من توفيرها، ومص زعازيع القصب، وترنح على دفة الطار في الزار، واستيقظ مع الفجر مرات ليرمي العمل في البحر، وسوت له امرأته الفطير مختلطا بدمائها، وتجرع من العطار كل ما عند العطار.
وفي كل مرة كان يعود وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا.
ثم عرف رمضان الطريق إلى المستشفى السري، وتعرف في طابور المرضى على رفاقه، وآنسته الصحبة بقدر ما امتلأ الكيس الذي خيطته له نعيمة بزجاجات الدواء، وفرغ الكيس وامتلأ، وانغرزت الإبر في عروقه وفي عضلاته، ودخل المستشفى وخرج.
وجاءت حماته ومعها بعض النقود، وراحت النقود كما راحت غيرها، ولم تفرغ مشورات الحماة ونصائحها ولا آراء الأهل وأطراف الأهل.
واستمر رمضان يفتش عن رجولته في كثير من اليأس، سائلا كل من يلقاه، جاريا وراء كل مشير، متتبعا كل أصبع، وحديثه أثناء ذلك لا يدور إلا عن البحث الذي وهب له نفسه. والحديث يدور في صلاة الجمعة، وعلى القهوة، وفي سوق السمك، وعلى محطة الترام، ومع تومرجي المستشفى، وحتى مع حضرة الضابط، كل هذا والحال مثل الحال. •••
كان الحديث يدور بين رمضان ونعيمة فوق السطح والشمس تدفئهما في ذلك اليوم من أيام الشتاء، وكأحاديث الضحى الدافئ كان الكلام يشرق ويغرب في كسل هادئ، والوقت يمضي، ورمضان في يوم راحته لا يسأل ولا يسأل، ونعيمة قد اشترت «سردين» الغداء من الصباح، وتمددت في استسلام فاتر، ودار الحديث ودار، وكانت لهجة رمضان أرق ما يكون، فلعله فكر كثيرا في امرأته، وأنب نفسه كثيرا حين فكر ، فاختار هذا اليوم بالذات، وهذه الساعة نفسها ليقول كل ما يثقل ضميره.
واقترب مما يريد، وطأطأ كلامه وكأن حديث الضحى لا زال يدور وهو يقول: اسمعي يا نعيمة. - خير.
وتردد رمضان، ثم أسلمه تردده إلى سكون راح يخلص نفسه من حرجه، ويتملص منه ليقول: مش، مش أحسن أخلص ذمتي من الله و...
وحين نظرت إليه في كسل وبشائر ضحكة تكاد تهب منها لحديثه المتعثر، استمر هو يتهته: أحسن، أحسن، أطلقك يا نعيمة.
واعتدلت المرأة حتى واجهته، ودبت على صدرها، وقد اربدت ملامحها، وبان فيها عتب كثير: يا عيب الشوم يا رمضان، إيه الكلام ده؟ دانت أبويا وخويا وتاج راسي، دانت في عيني من جوه، هو أنا أسوى الأرض اللي بتمشي عليها، دانا خدامتك يا حبيبي، بقى ده كلام، مقصوصي شاب، وشعرك ابيض، ونعمل زي العيال، دا دا يصح يا ابو سيد.
ولم يسكتها إلا موجة البكاء التي أوقفت لسانها، وسحبت المنديل من فوق رأسها، وضمدت به دموعها حين قامت هالعة تهبط السلم، وهي تتعثر على درجاته.
وتركت وراءها رمضان يتحسس تجاعيد وجهه، ويملس على رأسه التي كادت تخلو من الشعر، ويمر بيده على بطنه المتكور، ويشد شعر رجله الكث الذي ابيض أكثره، وينظر إلى ابنه سيد.
وتأمل الصبي وكأنه يراه لأول مرة منذ سنوات!
كان سيد يرقد أمامه، وقد غطى رأسه بكراسة الحساب، وظل الرجل يلتهم الولد بعينيه ويتوه، ثم يعود إليه غير مصدق.
لا حول ولا قوة ...
أيكون قد نسي سيد في زحمة البحث عن رجولته؟
أيكون قد نسى حتى أن له ابنا؟
أبو سيد ينسى سيد، ولا يذكر من الدنيا إلا نفسه!
كيف حدث هذا؟ كيف؟ - سيد، يا سيد، تعال يا سيد، اقعد هنا جنبي، أيوه كده، يا ابني يا حبيبي، باسم الله ما شاء الله، وكبرت يا سيد، بقيت طولي، خليني أبوسك يا سيد، هه، وكمان مرة، يا ابني أنت كنت فين، وأنا فين، وكبرت يا سيد، وحتبقى راجل، وأجوزك يا سيد، سيد حجوزك واحدة حلوة، حلوة ، لأ أربعة، أربعة حلوين عشان خاطرك، وتبقى راجلهم، فاهم فاهم يعني إيه راجلهم يا سيد؟ معلهش بكرة حتفهم وتخلف، سامع يا سيد حتخلف، وأشيل خلفتك يا سيد بإيدي دي، فاهم يا سيد.
ع الماشي
كان ما ضايق الأستاذ وهو عائد من الإسكندرية في الأوتوبيس الصحراوي أن جاره في العربة عرف أنه محام، وكان لا يخاف في الدنيا شيئا أو يعبس لشيء قدر خوفه وعبوسه إذا حدث في مكان ما، وعرف الناس أنه محام؛ فهو يعلم تماما أن الأسئلة حينئذ تنهال عليه، وتنهال معها الاستفسارات، ولا يهم أن يكون هو متضايقا أم غير متضايق، مستريحا أم غير مستريح، فهم لا يفرقون بينه كإنسان، وبينه كمحام، إنما يرونه دائما وفي كل وقت محاميا.
جلس الأستاذ في العربة، وهو يستعيذ بالله خائفا أن يبدأ الجار حديثه؛ ولهذا راح ينظر من النافذة، وقد ترك أفكاره ترعى على مهلها في الصحراء الجدبة الممتدة، وتمرح فيها من أقصاها إلى أقصاها.
ولم ينفع هذا؛ إذ سرعان ما أحس بلكزة خفيفة أعادت أفكاره من انطلاقها، وسمع جاره يقول: دي فرصة سعيدة يا أستاذ والله.
فقال الأستاذ وهو يزوم: مرسي.
وأقبلت فترة صمت كان قلب الأستاذ فيها كالريشة في مهب الريح، فقد كان يعلم أن جاره سوف يتحوقل بفمه، ويتبسمل بعد قليل، ثم يفتح باب الكلام ويا ويله لو فتح الباب.
ولم يخب ظن الأستاذ؛ إذ ما أسرع ما قال الجار: ألا من فضلك يا أستاذ؟
فقال المحامي في اشمئناط: نعم. - حضرتك بقى مدني والا جنائي والا مخدرات؟
فرد المحامي على البديهة، وكأنه محام: كل حاجة، كله كله.
ومن تجاربه السابقة مع أمثال ذلك الجار كان الأستاذ يعرف أن المتحدث يسكت هنا، وتبدأ فترة صمت أخرى.
وفعلا أغلق الرجل فمه المبتسم قليلا، ثم فتحه قائلا: أهلا وسهلا، تشرفنا.
واستطرد بعد هنيهة: حضرتك لازم تعرف بقى الأستاذ «...» المحامي.
وتردد الأستاذ قليلا، ثم استخار الله وقال: لا والله، متأسف معرفوش.
واستنكر الجار: متعرفوش إزاي، دا أشهر من نار على علم!
فقال الأستاذ بفروغ بال: أهو اللي حصل، قسمتي كده! والله وديني وما أعبد ما أعرفه. - دا راجل جبار، ناصح تمام، ياما دوخ قضاة ومحاكم. - يا سلام؟! بقى كده؟!
وسكت الجار ولم يرد، وخاف الأستاذ من هذه السكتة، فقد كان يعرف ما وراءها إذ بعد قليل قال الجار: يعني المدني حضرتك تفهم فيه برضه؟ - طبعا، طبعا، أمال إيه.
قال الأستاذ هذا ولم يسأل عن السبب مخافة أن يحدث ما لا تحمد عقباه.
ولكن الجار تفوه بلهجة من لا يهمه الأمر: دا بس أصل فيه حكاية كده.
وأطبق الأستاذ فمه لا يود فتحه، وكأنه ليس هنا.
ولم يثبط هذا من همة الرجل، فسرعان ما أردف: حكاية كده غلبوا فيها المحامين، هو مش حضرتك بتدافع في المدني برضه، أصل أنا خايف أضايق حضرتك.
وأصر المحامي على صمته ولم يرد.
ومع هذا تنحنح الجار وقال: الحكاية غلبوا فيها كتير، اوعى تكون حضرتك مضايق والا حاجة، شوف يا سيدي، بقى أصل في سنة 1925 كان لي بيت وارثه عن أبويا، وكان فيه ورثه تانيين.
وبدأ الجار يروي القصة بحذافيرها من يوم أن كانت إلى يومنا هذا، ويشرح ما مرت به، والجلسات، والنقض، ونقض النقض، والأستاذ قد انشوى واستوى وهو يصغي، ومضطر أن يصغي.
وكانت العربة في هذه الأثناء قد وصلت «الرست هاوس»، فنزل المحامي والرجل وراءه، وأكمل القصة وهما يتناولان القهوة، وينفضان ما عليهما من أكوام التراب، ودفع المحامي الحساب والجار مستمر في الرواية. وفي الطريق إلى العربة كان الرجل قد انتهى، أو كاد، فسأل بلهجة لا تخلو من حداقة: وإيه رأي سيادتك بقى؟!
ولا بد للأستاذ أن يكون له رأي، أمال أستاذ إزاي؟!
وقال المحامي رأيه، وحينئذ مط الجار ابتسامته على آخرها، وقال: طيب لو سمحت بقى ولو فيها مضايقة بس تكتب لي مذكرة، الكلمتين اللي قلتهم سيادتك دلوقتي كفاية قوي، أصل الحكاية عقدة وصعبة، دوخت المحاميين، والنبي أنا خايف أكون بضايقك، طب بزمتك؟ وحياة والدك مانتاش مضايق؟ لا لا، متتعبشي نفسك يا أستاذ، القلم أهه وآدي الورقة يا سيدي، متشكرين قوي، متشكرين خالص، عاجزين عن الشكر، يا سلام، دي فرصة سعيدة، بيقولوا رب صدفة خير من ألف ميعاد، بقى حضرتك ما تعرفش الأستاذ «...» ياه، دنيا، دا كان أعز أصحابي.
وكتب الأستاذ المذكرة وهو يفور ويمور وينفخ.
واعتزم أن يترك المقعد الذي كان يجلس فيه، وأن يبحث له عن آخر بعيد كل البعيد عن هذا الجار، حتى لو اضطره الأمر أن يتخلف عن العربة.
وأفلح الأستاذ في اغتصاب مكان، وظل قلبه مع هذا في مهب الريح مخافة أن يكون الجار الجديد أحد المتحدثين الذين سواء عرفوه أم لم يعرفوه، فأسئلتهم لا تهدأ ولا تنتهي، ولكن الجار كان رجلا طيبا صموتا ما فتح فمه، ولا حتى ألقى ناحيته بنظرة، ولو على سبيل المجاز.
ورغم أن الدنيا كانت قيظا، والعربة أصبحت كالفرن الذي ليس له مدخنة، والغبار من كثرته صار له لسع الناموس، وأزيز الذباب، والمقاعد عليها بحور عرق في وسطها ناس، رغم هذا فقد استراح الأستاذ لصمت الجار الراحة كلها، وأحس بقلبه ينعنشه ثلج بارد.
وراحت العربة تئن وهي تقطع الطريق الملتوي الطويل، وشعر الأستاذ بعد قليل أنه يود معرفة الساعة التي ستصل العربة فيها، وكان ممكنا أن يسأل جاره ببساطة، ولكنه لم يشأ هذا حتى لا ينبش الجار فيفتح فمه، ولا يقفله أبدا.
ولكن في مطب من المطبات الكثيرة مال الأستاذ على الجار، فكاد يوقعه وكلمة من هنا، واعتذارات من هناك تعرفا، واتضح للأستاذ أن جاره دكتور، واكتفى الأستاذ بالذي كان فأغلق باب الحديث، وأحكم الإغلاق.
وانتهت المطبات، وسارت العربة كالريح، والأستاذ صامت، وجاره صامت أيضا، ولكن بعد وقت تذكر المحامي شيئا، ونسي قراره فابتسم وقال لجاره: الا حضرتك بقى دكتور في الطب، والا في ...
وحين وصلت العربة إلى القاهرة، وغادرها الركاب كان الأستاذ لا زال يقول للطبيب: لا لأ، متتعبشي نفسك، بلاش روشتة، آدي القلم والورقة، اسند هنا على ضهر العربية، بس والنبي عايز دوا يقضي عليه، دا مغلبني قوي الصداع ده، زي ما قلت لحضرتك، من سنة 36، والروشتات أهيه، اوعى أكون ضايقتك يا دكتور والنبي؟ متشكرين، متشكرين قوي، بقى حضرتك بتشتغل في إسكندرية، يا سلام عالصدف السعيدة، يا سلام!
الهجانة
قال البعض: إن السبب هو نصف فدان القطن الذي اقتلعت شجيراته في الليل من أرض البرنس.
وقال آخرون: إنه النقب الذي حدث في اصطبل الإبعادية المجاورة.
ورد بعض ثالث، وكاد يقسم أن السبب هو الحريق الذي اجتاح الساقيتين القبليتين في وقت واحد.
يختلف الناس دائما أبدا على السبب، ولكنهم يذكرون تماما عصر الجمعة الذي جاءوا فيه، وتمشت مع مجيئهم الهمهمات تزحف في القرية، وتقول: الهجانة وصلوا.
كان الرجال يزومون بها، ثم تتشعب أصواتهم مملوءة بالخوف والتشاؤم تارة، وتارة تحفل بغبطة ساهمة، فإن جديدا سيحدث في القرية، وما أقل ما يحدث في القرية من جديد.
وكان الصغار يتلقون الكلمة من أفواه آبائهم، وترتعش أجسادهم بالخوف من الغرباء الذين لم يسمعوا عنهم أو يروهم، ثم تنبسط وجوههم بالفرح؛ لأنهم سيرونهم.
وأصبح لا حديث للنساء إلا عن العبيد الطوال السمر ذوي الأرجل الرفيعة الجافة والكرابيج المسقية بالزيت.
ولم يرهم أحد حين دخلوا القرية، ولا حين تسربوا إلى دوار العمدة، وكأنهم وصلوه من جوف الأرض، ولكنهم ما إن استقروا في الدوار، حتى حفل الشارع الذي بجواره بأناس يتبصصون على القادمين، ويتسمعون ما يجد من الأخبار، وحينئذ تميل الرءوس على الرءوس، وتجري الإشاعات رائحة غادية مخترقة البلدة من أقصاها إلى أقصاها.
ومن غير أن يلف مناد أو ينبه خفير، سرت الأوامر تحملها آذان إلى أفواه، وأفواه إلى آذان.
وعرف الناس في غمضة عين أن الويل لمن يخطي عتبة داره بعد المغرب، وعليهم إرجاع المواشي قبل حجة الشمس، وعليهم بعد هذا ألا يوقدوا نارا، أو يشعلوا مصابيح، ثم ليتعشوا ويصلوا ويناموا في الظلام، والويل لمن لا يعجبه الحال.
وكما يعم الصمت ساعة الإفطار في رمضان، سكتت الألسن فجأة في الحلوق على أثر هذه الأنباء، واهتزت الرءوس تجتر الأوامر السريعة المتلاحقة على مهل وفي وجوم.
وشعر كل واحد أن الأمر أكثر من أن يفكر فيه وحده، فتقارب الجيران مذهولين في حلقات، وامتلأت القهوة الوحيدة بالناس، وقد أصبحت مصدر التخمينات.
وعلى قدر ما أذهلهم ما سمعوه، فقد استنكروه وأبوا تصديقه. •••
ولم يستطيع مخبول أن يتصور أن القرية كلها قد نامت من المغرب، والليل انقضى دون أن يسمع للعشاء أو للفجر آذان، لم يتصور مخبول حدوث هذا.
ولم ينتظر واحد منهم أن ينصت له آخر، فراحوا كلهم يتكلمون في انفعال واضح، وقد علت الأصوات، واهتزت الأيدي، وكلما ارتفع الجدال وازدحمت القهوة كثرت آذان النساء والبنات الملتصقة بالنوافذ، تلتقط ما استطاعت التقاطه، ثم تطير به إلى المتحفظات القاعدات أمام الأبواب يتبادلن الآهات والحسرات.
وكان من المستحيل أن تستمر الحال على هذا المنوال، فشيئا شيئا كلت الأصوات، وهدأت المحاورات، ولف الحاضرون أيديهم حول كوبات الشاي والقرفة، فقد كان هذا آخر عهدهم بالقهوة التي ستغلق أبوابها بعد اليوم، ويبحث محمد أبو حسين صاحبها لنفسه عن عمل ثان، هكذا قالت الأوامر.
وسرعان ما بددت الجماعة الوجوم الذي أدى إليه النقاش، واستطاع جمعة أن يرفع صوته الأخنف، حتى يسمع الموجودين ما كان يود قوله من زمن: والنبي لماشي في نص الليل، واللي يقابلني حتف في وشه.
ورد عليه حامد الصعيدي الذي يعمل الطعمية أيام السوق بصوته اللزج قائلا: يا شيخ اتلهي، دانت لو دقت كرباج ...
وضحك الجمع، واستمروا يضحكون، وشعبان مقاول الأنفار يدق بيده على صدره ويقول: بذمة محمد أنا آكل عشرة من الكتربنت السود دول.
وساهاه عبد الفتاح الخفير، وهو في حموة كلامه، ودلق بعض الماء في قفاه، وانتفض شعبان ملسوعا خائفا، ولعلعت القهقهات.
وقال الخفير بعد أن شبع ضحكا: إنتو عارفين إيه يا ولاد؟ دول بنادقهم هندي من أم حداشر طلقة، مش زي الممغوصة بنادقنا الأرمنتوه.
وأخذ بعد هذا يشرح، في لهجة العالم، الفرق بين الهندي والأرمنتوه، وعدد قليل يسمع، بينما الباقي قد تفرق يتهامس، ويتحدث في شئون العيش.
وساعتها كان نفر من الأعيان جالسين يستنشقون الهواء في الخلاء على مقاعد محطة القطار ومعهم العمدة، وتلقفوا الأنباء باهتمام قليل، وأنصتوا إلى العمدة وأشداقه تضخم الكلمات، ثم تفرطها على دفعات، وهو يقول إن البلد تلفت، والخلق باظت، والذمم خربت، والناس تخاف ولا تخجل، ولا يصلحها إلا الكرابيج الغريبة.
وكان الأعيان يموءون وهم يوافقونه على كل ما يقول، بل تمنى واحد منهم لو كان الود وده ليبقى الهجانة تسوق الناس أمامهم كالنعاج أعواما وأعواما. •••
وأصفر العصر.
وكانت البلد قد أفرغت ما لديها من كلام، وعرفت كل الأخبار والشائعات، ورويت من السخرية بنفسها ومن إخافة بعضها بعضا.
وحين رأى الناس خيالاتهم تطول وتمتد، تذكروا المغرب وما ينتظرهم فيه.
وتحرك المصدقون والمكذبون والمتفكهون في كل اتجاه، حتى أصبحت القرية كعش النمل، وأسرعت النسوة إلى الغيطان يستعجلن الأزواج، ويروين ما حدث.
وازدحمت الأطباق والأذرع الملحة أمام الدكاكين، وتصاعدت أدخنة كثيرة من المواقد والأفران، وقد تكهربت تنجز الطعام والخبز.
وفي النهاية قطعت الأرجل من الشوارع، وتجمع الناس في استغراب وسخرية حول الطبالي يحاولون ابتلاع العشاء، والشمس ما زالت طالعة.
وراح الآباء والأمهات يعدون الأولاد، ويرون من الغائب، ويوصونهم ويخيفونهم من الشياطين السود، ومن مغادرة الدور.
واختفت الشمس وراء نخيل الحوشة وحدها، ودون أن يراها أحد، فقبل المغرب كانت الأبواب قد أغلقت كلها، والناس رابضين في الدور وفوق السطوح.
ولم ينم الناس. وكيف ينامون؟! وانطلقوا يتحدثون داخل المنادر والقاعات، غير مقتنعين بالذي حدث ولا مقيمين له أي اعتبار.
وجاء قطار الثامنة يتهادى، وسمع الناس صفيره، فانقطعت الأحاديث واستعدت الآذان كلها لسماع ما يجري للعائدين من البندر في القطار، الذين بلا شك لم يعلموا بما جد، ولم يهيئوا أنفسهم له.
وارتجت قلوب كثيرة، وبكت نساء، ونهنهت عجائز، والآذان تشرخها الصرخات التي عمت القرية، وتلسعها أصوات الاستجارة والهرولة والركض.
وأعقب الضجة سكون أغرق الليل والظلمة والناس، ما كان يقطعه إلا دبيب الأحذية الميري الثقيلة، وهي تحف بالأرض بين الحين والحين، والصوت الرفيع ذو اللكنة البربرية الغريبة يقول وكأنه مطواة تقطع: مللي هناك؟
ولا يرد عليه أحد، وقد ينبح كلب بعيد، ثم يعود الصمت الغامق.
وبات الناس ليلة طويلة أكثرها خوف ويقظة، والقرية قد لفها جو خطير محير.
وأدرك الناس في حسرة حينئذ أن المسألة جد لا هزل فيها، وأن الذي يقع ستزهق روحه، وتسلخ الكرابيج جتته. •••
وطلع الصبح.
وتفتحت الأبواب، وانطلق الخلق كالدجاج الذي ضايقته زحمة القفص، وكانوا حين يتبادلون تحية الصباح يقولونها بقلوب متورمة، وأرواح خجلة، كانوا كالذي فقد شيئا، ولكنه لا يدري كنه ما فقد.
وتناقل الناس وهم يتفرقون وراء رغيف الخبز ما حدث للعائدين من البندر، وكانوا يتناقلونه في فتور خافت، وحين علموا أنهم ربطوا بحبل، وقضوا الليلة في الدوار بعد علقة نصفها الموت، كانوا يهزون رءوسهم ولا يقولون شيئا، أو ينطق الواحد بكلمة لا معنى لها، ثم يسكت.
وبدأ يوم طويل كغيره من الأيام، ومضى النهار في تلكؤ يخنق الأنفاس، وحين عاد الرجال في الظهر وما بعد الظهر منهكين مشتتين التقت الجماعات فوق المصاطب، وأمام الدور، وقد أغلقت القهوة. وكان كلامهم كثيرا لا روح فيه ولا فائدة كثرثرة النساء، وكل منهم يغرق في رواية تفاصيل ما سمعه من دبيب أثناء الليل، ويقص نفس الحكاية عما حدث بعد قطار الثامنة.
وحين مج الناس الكلام والعودة إليه، تحول الحديث الدائر على مصطبة المعلم عمر إلى ناحية أخرى؛ لما عن لعبد الغني الجمل أن يطيل لسانه. وعبد الغني هو المنقذ دائما من الحديث الممجوج؛ فهو لا يعدم نكتة يرنها على الحاضرين، فينسوا كل شيء، وتستغرقهم فكاهات عبد الغني، وكان هو نفسه فكاهة، بقامته القصيرة التي تطاولها قامات الصغار، ورأسه التي مثل حبة البطاطس، وطاقيته الصوف المنطبقة بحذافيرها على جبهته، والتي حولها المنديل المحلاوي القديم ملفوفا ومربوطا بعقدة خبير، حتى لا يبين شعره، وما كان له شعر. فتحت طاقيته كانت قرعته حمراء راشحة، وكان الناس إذا لم تسعف النكتة عبد الغني يجدون في رأسه المتنفس، ويجذب الجريء منهم طاقيته، فتفج الحمرة من رأسه، وتنهال عليها البصقات.
غير أن ما حدث وجد فيه عبد الغني ثروة ما بعدها ثروة، فراح يقلد الأوسطى عبد الخالق الحلاق السمين الطويل ذا الشوارب، وهو ممسك بحقيبته الخشبية التي فيها العدة في يده، ورافعا باليد الأخرى ذيله، والكرابيج تنهال عليه، ولا يستطيع الجري، أو حتى التحرك، وإنما يقول في تهتهة عاتبة مختنقة بالبكاء: ما يصحش يا افندي، يا افندي ما يصحش.
وينفلت عبد الغني في براعة إلى عمك دعدور بائع السردين الذي نظره شيش بيش، والذي يصر دائما على التحدث بالمنطق والحجج والقانون، وعلى فلسفة كل ما يدور في البلد من حادثات، وعبد الغني كان حين يغمز دعدور لا يخلو فؤاده من بعض الحقد، فقد كان الناس يضحكون لفلسفة دعدور الساذجة أكثر من ضحكهم لنكات عبد الغني المفتعلة، التي يدافع بها عن نور رأسه.
وعلى غرة وجم الجالسون والواقفون وكفوا عما هم فيه حين همس الشحات في صوت آمر: هس يا جدع، أهم جم.
وما انتهى حتى كان الثلاثة يمرون من أمامهم، وكانت هذه أول مرة تقع عليهم الأبصار في وضح النهار، وسن كل واحد عينيه محاولا أن يلتهمهم بنظراته. كان فيهم واحد طويل رفيع ملفوف كعامود التليفون يبدو أبو عوف الجمال طفلا إذا وقف بجواره، وكان الثاني أقصر منه إنما له شلاضيم أعوذ بالله منها يبرز بينها ضب من الأسنان اللامعة البياض، وكأنها أصابع المذراة، وكان ثالثهم مبططا مربعا وعيناه يقدح منهما الشرر، وكانت وجوههم في سواد الهباب، وحلكة ليالي آخر الشهر، ويقطع سوادها تشريطات، وعلى كتف كل منهم بندقية، وفي يده كرباج طويل تلتف حوله أسلاك نحاسية صفراء تنتهي بعقد غليظة، العقدة منها تطلع بقطعة لحم.
ومروا بلا سلام أو كلام، وكأنهم فائتون على جبانة، وما كاد دعدور يفتح فمه يعلق على الموقف بعدما ابتعدوا حتى أقفله ثانية، وأحكم الإقفال. فقد عاد الثلاثة وفي عيونهم شر مستطير، ودون سابق إنذار ارتفعت الكرابيج مرة واحدة، ثم دوت، بينما لكنتهم تقول في حقد: على بيتك، يا بنت الكلب.
وكان الشاطر هو الذي أخذ ثوبه في أسنانه، وقال: أخلو لي الطريق. وفي غمضة عين لم يكن في الشارع كله إنس واحد، وجرى الثلاثة وراء الناس كالنحل الفائع، وكانت وقعة الذي يقابلهم أسود من شعر رأسه.
ويومها نامت البلد من العصر. •••
ومر يومان وثلاثة وخمسة، ولا حديث للناس خلال الساعات التي يستطيعون فيها الحديث إلا عن الهجانة وما فعلوه. فالليلة دخلوا على الحاج مصطفى وهو يتعشى، وقلبوا الطبلية وضربوه، ثم تسلقوا السطح وراء الحاجة فألهبوها وهي تجأر بالصراخ.
وفي الغد تتناقل الألسن ما حدث لعبد الحميد وامرأته حين أشرفت على الوضع، وخرج غصبا عنه يحضر أم مخيمر الداية، وكيف ظلوا يضربونه حتى قال: أني مرة.
وليلتها بات في الدوار ووضعت امرأته وحدها، واستمرت تنزف إلى أن جاءتها الإسعاف في الصباح.
والا يوم قابلوا شيخ البلد وجف ريقه، ووقف لسانه وهو يردد: أنا الشيخ، أنا الشيخ، أنا الشيخ.
يقولها ويرددها حتى والكرابيج تنهال عليه والهجانة تقول: شيكه إيه يا هراميه، خش بيتك.
وكل حديث من الأحاديث كان يزيد انكماش الواحد في جلده، فأصبح لا هم لكل إنسان إلا أن ينهي ما في يده حتى يلزم داره، أما الذين كانوا يعملون في البندر ويجيئون في القطار، فقد استغنى أكثرهم عن عمله، وداروا في القرية بلا عمل، والباقي فضل ألف مرة أن يبيت على أي وجه في البندر، ولو على الرصيف.
وفي يوم السوق كانت قصة تحكى، ويعقبها استنكار كثير. فقد ضربوا ليلتها مرسي أبو إسماعين. وصحيح أن مرسي لم يكن يملك قيراطا واحدا، وليس في حوزته فدان إيجار، إنما كان ولدا ولا كل الأولاد، كان ابن ليل قتل وسرق ونهب، وفي صدره العريض الراسخ ترقد قصص تشيب لهولها الولدان، ومع هذا ففي البلد كان يعيش في حاله، وأدبه في معاملة الناس مضرب الأمثال، كان يعود المريض ويعزي في الميت، ويساعد الضعيف، وينتقم للمظلوم، ويقف لكل صغير وكبير، وكانت البلد تفخر به إذا جاء مجال الفخر بين أبطال البلاد، ويروون عنه كيف لوى سيخ الحديد وكسر المسمار، ورفع كيس القطن وحده على الجمل. وعلى حسه كان الناس يتركون محاريثهم ومواشيهم في الحقول، وبعد هذا كله تضربه الهجانة! وتطلق عليه النار إرهابا حين حاول المقاومة! ثم تدك صدره بعد ذلك بدبشك البنادق وكعوب الأحذية!
واضطر الناس في النهاية أن يصدقوا حين كانوا يقاربون السوق، ويمرون بالمركز، ويشاهدون أبو إسماعين قابضا على حديد النافذة كالأسد الجريح.
وعادوا يومها من السوق، وكل يقول لنفسه: ابعد عن الشر وغني له. •••
وكما تتهادى مياه الترعة لا يقلقها إلا موجات خانعة لا تكاد تشب حتى تموت، عاش الناس وقد رضوا بما كان وسلموا بما حدث، وما قد بقي في قلوبهم من استنكاف زال وانمحى، ولم يعد بها إلا تسليم ذليل، حتى العمدة الذي كانت كل بادرة تصل إليه، فيسمعها، ويجعل أذنا من طين، وأخرى من عجين، قابلوه ذات ليلة، فقال لهم إنه العمدة، فردوا عليه: ولو، خش بيتك.
ودخل بيته، وأغلق الباب بالضبة والمفتاح دون أن يقول ثلث الثلاثة كام.
وبلغت الحكاية الناس، وضحكوا في سرهم على العمدة، وتشفوا فيه، وعرفوا أنه غلبان مثلهم ولا حول له ولا قوة، وأنه لم يعد الحاكم الناهي في البلد.
وتطلع الناس إلى الحكام السود الجدد، وبدءوا يتعرفون أسماءهم، ويخلطون بين حسن الطويل وجاسر القصير، وسلطان الذي له عيون الذئب، ومضوا يتحسسون أخبارهم، ويعدون عليهم كل ساكنة وواردة، ويعرفون يوما بيوم من عند من سيأكلون؟ ومن أي بيت من بيوت الأعيان سيحمل لهم عبد الفتاح الخفير الصينية الحافلة فوق رأسه.
وكان الصغار سباقين إلى تتبع ما يدور في غرفة الهجانة، فكانوا يدسون أنظارهم خلال نوافذها، ثم يزهقون من التطلع، فيجرون وراء بعضهم وهم يقلدون أصوات العساكر ومشيتهم، ويستعيضون عن الاستغماية أثناء الليل بالجري بالأطواق أثناء النهار، ويلحفون على آبائهم حتى يشتروا لهم كرابيج مثل التي مع الهجانة، وحين لا يجدون في إلحاحهم أملا يصنعونها هم من ذيول البهائم التي يذبحها أبو أحمد الجزار، وكذلك من أجزاء أخرى، وبدلا من الزجر الذي كانوا يلقونه من الآباء في أول الأمر، تساهل الآباء، بل تعدى الأمر حدود التساهل، وتدخلت سيرة الكرابيج فيما كان يدور بين الرجال من أحاديث، وكانت المجادلات لا تنتهي حول صنعها وحول البلاد التي تصنعها، وهل هي مصر أم السودان؟
وكان الطلبة والتلامذة الذين يقضون إجازتهم بالبلدة يسمعون الأحاديث، ويسخرون من الجهل الذي يسودها، ويتفضل واحد منهم، ويصلح ما أفسده الجهل، ويتطرق الكلام إلى الهجانة أنفسهم، ويصغى الناس في شيء من الإكبار إلى الأفندية، وهم يسخرون بالحكام السود، ويتفكهون عليهم، ثم ينقلبون بجرأتهم على البلدة الجبانة التي تتمسح في أحذية عساكر ثلاثة، لا يساوي الواحد منهم مليما أحمر.
وكان الناس يعرفون سر سخط التلاميذ، فقد منعت الأوامر الجديدة طوابيرهم التي كانت تجوب القرية رائحة غادية، وكذلك سهراتهم إلى نصف الليل على الميزانية الحجر، وجريهم وراء بعضهم في دروب البلدة النائمة، وتربصهم بالبنات.
وكان الناس يسمعون الكلام ويسكتون، فالمتاعب لا تنقصهم، ولكن كان بعضهم لا يسكت، فالبدراوي محترف كتابة العرائض والبلاغات مضى عليه أسبوع، وله كل يوم عريضة، وكل صبح بلاغ، يفند فيها ما صنعه العساكر بالبلد، ولكنه حين عرف أن الهجانة قد علمت بأمره، نفض يده من الكتابة، واندفع يتقرب إليهم ويتلطف معهم، ويرجع بنسبه إلى دنقلة حيث جاءوا، ويتطوع بإبلاغهم سرا ما يحدث وراء ظهورهم، ولم ينفعه كل هذا حين قابلته الهجانة، التي لا تعرف عربي، ذات ليلة، وقد اطمأن إلى صداقتهم، فجعلوه يعض الأرض وهو يستعرض تربة أجدادهم.
وكانت البلد حين يسلمها يوم كئيب إلى آخر أشد منه كآبة يزداد شعورها بأنها كانت في نعمة، وزالت، وأن الخراب قد حل، ويكاد محمد أبو حسين صاحب القهوة يخبط رأسه في الحائط على رزقه المقطوع، وتجار الكيف معه ساخطون، والخفراء يصرون على أسنانهم، ويكتمون وهم في أعماقهم يتمنون مصيبة عاجلة تطيح بالهجانة، وقد أصبحوا هم وشيخهم وعمدتهم دلاديل، وصار لزاما عليهم أن يقضوا الليل بطوله ساهرين، والدكاكين وقفت حالها، والعاملون بالبندر لا يجدون الخبز، ولا صلاة ولا عبادة أو سهر، وإنما ضرب وإهانة ومسخرة، وكأنما البلد بأناسها عزبة أبيهم، والحكايات تترى عن ركنتهم في زقاق مبروكة، ومبروكة تاجرة البيض العازبة كانت الركنة في زقاقها حدثا تتلاعب له الحواجب، وتغمز العيون.
والناس في صبرهم كالجمال، تشهد وتسمع وتقاسي حتى تحين اللحظة.
وقد حانت. •••
كان مرسي أبو إسماعين قد مضت أيام على خروجه من الحجز، ولكنه لم يمكث في البلد إلا يوما واحدا، ثم غادرها إلى حيث لا يعرف أحد. ويومها كان الناس يتدبرون في ملل ماذا يطبخون ليلة النصف من شعبان، وفوجئ الذين خلفهم النهار في البيوت بالهجانة، وهي تجري هنا وهناك هالعة. وما أثار جريانهم الخوف بقدر ما أثار الاستغراب، فما كانوا يرتدون بدلهم أو أحذيتهم الثقيلة، وليس في أيديهم كرابيج، وإنما حفاة عراة، وقد نكشت شعورهم السوداء الغامقة.
وحسب الناس أن شيئا خطيرا قد حدث، أو أن حريقا شب، فلم يتمالكوا أنفسهم، وجرى البعض وراءهم. غير أن الخبر عرف في النهاية، واتضح أن عبد السلام النجار هو الذي وقف لهم على رأس الشارع، والورداني هو الذي أحضر السلمين وربطهما معا، ثم صنع منهما قنطرة وصلت حائط الدوار بحائط بيت أبو حسين، وبقية الرجال كانوا على السطح، وكان مع عبد المجيد سكينة طويلة بحدين، ومع الورداني بلطة، ومع صالح بندقية ميزر، وكان مع أبو حمد شمروخة الذي ما رفعه مرة إلا وكسر به رأس.
والمهم أن مرسي أبو إسماعين الشارب من لبن أمه هو الذي تسلل وحده إلى الغرفة التي ينام فيها الهجانة في النهار، وخرج حاملا بنادقهم.
وقص الرواة وشهود العيان ما جرى بعد هذا، وكيف تذلل الطغاة إلى العمدة، وكادوا يقبلون مداسه، وكيف بكى جاسر وهو يستعطف الرجل ويرجوه أن يعثر لهم على البنادق حتى لا يروحوا في ألف داهية. واختلفت الروايات في رد العمدة، ولكنها اتفقت على أن الرجل استعبط عليهم وأفهمهم أن الأمر قد خرج من يده، مع أنه يعرف، وكل الناس يعرفون من هم أولاد الحلال الذين فعلوها.
ويسكت الرواة، فالبقية قد شاهدها كل الناس، حين انقلب المركز والنيابة، وجاء ضباط من المديرية، وارتبكت الدنيا، ولم يتوقف التليفون عن الرنين.
وانتهى اليوم وقد سيق الهجانة محروسين.
وحين أقبل الليل كان عشرة من أهل البلد قد غيبهم المركز، والمباحث تقص الأثر وراء أبو إسماعين، والقهوة لا تزال مغلقة، والناس تتساءل في قلق عما يحدث غدا، وهل يجيء هجانة آخرون، أم يكتفي الحكام بالذي مضى؟
ورغم هذا فقد أوقد الناس المصابيح، ورأوا النور في الليل وقد اشتاقوا إلى النور، وأذن المغرب والعشاء، وامتلأ الجامع بالمصلين، وانطلقت الضحكات لأتفه الأسباب، وبلا أسباب، ولعب الطلبة والتلامذة الكرة في ضوء القمر، وانتشرت مواكب الصغار تجوب القرية مهللة فرحانة، وأحدهم يهتف بأغنية خارجة عن الهجانة والباقون يردون، حتى الصبايا لم يخجلن، فرحن يرددنها هن الأخريات، وتتوقف المواكب عند السامر الذي أحياه عبد الغني، وقد تحزم بمنديله، وكشف رأسه عن عمد فبانت حمرتها، وهو يرقص، وعمك دعدور يطبل له على طشت النحاس، والشارع قد ازدحم بالضاحكين المصفقين وهم يردون على عبد الغني ويقولون:
أهي ليلة يا جميل.
أهي ليلة والسلام.
الحادث
ذات عام كان عبد النبي أفندي والست حرمه في مصر، وكانت الدنيا صيفا، وعبد النبي أفندي يمشي بجوار امرأته بجسده الذي هو طويل حقا، ولكنه ذلك النوع من الطول الذي لا يبدو له عرض، فلا سمنة تبرزه، ولا أكتاف ممشوقة تنسيك رفعه، وإنما شيئان هاكعان مضمومان تتعلق عليهما سترته كأنها معلقة على شماعة، ومع أنه كان يرتدي بدلة، إلا أنك كنت تستطيع أن تدرك للتو أنه لم يعتد ارتداءها، فقد كان يخطر فيها وكأنه لا يزال يخطر في الجبة والقفطان، ويمد يده وكأنها لا زالت طليقة في الكم الواسع الهفهاف. وكنت تستطيع أن تقسم أن نار المكوى لم تلسع بدلته منذ أن وجدت، وكذلك لا تقدر أن تخمن متى وجدت، ومع ذلك فالمحافظة على الملابس كانت في دم عبد النبي أفندي؛ ولهذا كان يضع منديله النص نص الأبيض بين رقبته وبين ياقة سترته حتى يمنع عنها العرق الذي ينضحه قفاه الأسمر، وكذلك كان يفعل في طربوشه، والغريب بعد هذا أن ياقة السترة، وحافة الطربوش كانتا دائما من أمتع الأمكنة التي يحلو للعرق والتراب البقاء فيها واستعمارها.
وبالقياس إلى وجه عبد النبي أفندي الذي قدمت سحنته حتى اسودت، وتناثرت تجاعيده في طيبة قبيحة، ولكنها طيبة والسلام، بالقياس إلى وجهه، كان وجه امرأته الماشية بجواره حلوا أبيض فيه احمرار، ليس هذا فقط، بل إنها كانت ترتدي ثوبها الحرير الأحمر الذي دخلت به، وفوقه الفستان الشفاف الأسود، وكانت تضع فوق شعرها الطويل البري قبعة ذات ريشة، كان عبد النبي أفندي قد اشتراها لها أيام «مودة» القبعات، ولم تنس الست تفاحة أن تسدل فوق وجهها البيشة الكحلية التي تثنت أطرافها ولمعت أجزاء منها، وتلاصقت من كثرة ما وضعتها على وجوه أطفالها حين كان يصيبهم الرمد.
وكان عبد النبي أفندي وهو يهم بخطوة ليلاحق امرأته، كان في لحظة من تلك اللحظات التي يحس الإنسان فيها أن الدنيا عال، وكل شيء جميل، ولم تكن هذه السعادة لأنه في مصر، فقد زارها مرات قبل هذه المرة ليسعى حتى لا تنقله الوزارة من المدرسة الإلزامية التي هو مدرس فيها، زارها قبل الآن مرات، وعرف العتبة وكوبري عباس والمعرض وشارع المبتديان الذي فيه بيت حافظ أفندي وترام 4 الذي يروح السيدة.
لم يكن سعيدا إذن لأنه في مصر، ولكنه كان عامرا بالنشوة؛ لأن تفاحة معه هذه المرة، هادئة بجواره كالحمل الرضيع، لا تعايره كعادتها بكبره وصغرها، ولا تركب رأسها وتمتطي لسانها، وتسخر منه ومن علمه، ومن «حتة» المدرس الذي لا طلع ولا نزل، وإنما هي صامتة مدهوشة ذاهلة، وهو يفرجها على مصر، ويريها، ولو مرة واحدة في حياته أنه يعرف أكثر منها، وله نفع أكثر من نفعها في بعض الأحيان.
وكان هذا ثاني يوم لهما في القاهرة، وكذلك آخر يوم، كان عبد النبي أفندي قد أتى بها في طراوة العصر؛ ليريها البحر، وكانت هي في ذهولها لاهية عن كل شيء إلا عن نساء مصر، ولحمهن المكشوف، وعيونهن التي تحدق في قحة وفجور ناحية الرجال دون أدنى خجل أو كسوف، وكانت إذا مرت بها واحدة لا تستطيع أن تكتم ما في نفسها، فتبعث وراءها بسلسلة طويلة من الشتائم واللعنات.
وحين انتهى عبد النبي أفندي بها إلى مكان على الشاطئ توقف، ومضغ ملء فمه فرحا قبل أن يقول: شايفة يا تفاحة، أهو دا النيل اللي بيقولوا عنه.
وردت تفاحة وقد فاجأها البحر، فتاهت في ملكوته ونسيت عيون النساء: ياه، يا خرابي يا عبد النبي!
ولهثت قبل أن تستطرد: دا والنبي يبلع طوره زي بحر مويس.
وانتظر عبد النبي أفندي متلذذا وامرأته تهضم انبهارها، وقلبه يرفرف بالفرحة وهو فخور بالنيل الذي أدهش تفاحة - وما كان شيء يدهشها - وكأن ذلك البحر نيله، القاهرة بحالها إحدى ضياعه.
وقبل أن تستيقظ تفاحة من غفوة الدهشة التي انتابتها، عسعس عبد النبي أفندي بلا وعي في جيبه، فعثر على حبة حمص كانت باقية، فألقى بها بلا وعي أيضا في فمه، وخلع طربوشه نهائيا، وأمسكه في يده، فبان شعره الخفيف المنكوش الذي لا يفلح في إخفاء صلعته، وقال بصوته الفرحان، وهو يحاول نفخ كرشه المتواضع، ويمد الكلمات، ويجد السعادة في مطها والركون عند أواخرها: وادي يا ستي، قصر إسماعين باشا.
وابتلع عبد النبي أفندي ريقه، وأخذ يحرك حافة الطربوش بين أصابعه وكأنها مسبحة، ومصمص ما تبقى من الحمصة في ضرسه الوحيد الذي نخره السوس، واستعد للشرح، وفعلا بدأ يتكلم، ولكن تفاحة كانت قد رأت لحظتها الكوبري العريض الذي تمر عليه عربات بأكملها، ثم يسع الناس بعد ذلك أيضا. ولم تنتظر ما يقوله، وإنما انطلقت كالمشدوهة ناحية الكوبري، ولحقها عبد النبي أفندي وهو يداري سخطه غير يائس، ولم يتوقف لتسأله، وإنما انطلق من نفسه يروي لها قصة الكوبري، ويشير إلى الأسدين الرابضين، والتمثال الذي في نهايته، ويمسح رذاذ كلامه بالمنديل، ثم يعود يضعه حول ياقة سترته، ويدق بعصاه - وكانت له عصا - على الأسفلت ليريها متانته، وتنحني، فينحني معها على الحاجز، ويستمر يتكلم وهو يريها الماء الذي يمور ويفور ويتموج.
وأخيرا نطقت تفاحة، سألته: اللا يا عبده، صحيح البحر ده مالوش قرار؟
وأجاب عبد النبي أفندي أنه بالتأكيد له قرار، فلم تصدقه، بل وتاهت عن نفسها وعنه وخيل إليها وعيناها تتابعان الموج في شغف أن الكوبري يتحرك بها ويتراجع، وعادت تحدق في الكوبري وقصر النيل، واطمأنت إلى أن كل شيء ثابت في مكانه لا يسير، وتعجبت أكثر، ثم تاهت مع الماء مرة أخرى.
وفجأة، جأرت بكلمة سمعها عبد النبي أفندي صرخة، فارتاع، ووقف ينظر إليها ضائع العقل، واستمرت هي تصرخ وتقول: الحق، حوش يا جدع.
ولم تسعفها الكلمات، فلكمت كمية الدهن القليلة التي تصنع جنب عبد النبي أفندي، وقد تشنج فمها وتصلبت أطرافها، وودت من صميمها أن ينفذ لها عبد النبي ما تريده قبل أن يرتد إليها رمشها.
وكان هذا ما يضايق عبد النبي فيها فما أكثر ما كانت تدفعه وتصيح فيه، وتشده، طالبة منه أن يفعل شيئا دون أن تقول ما هو ذلك الشيء، ويقف عبد النبي لحظتئذ حائرا نافذ البال، وكأنه أعمى يريد أن يلضم إبرة. - يا شيخ اتحرك، الله، الحق يا عبد النبي، يا ستار يا رب، يا رب استر، استر يا رب.
ودبت على صدرها وابيض وجهها وكاد يصفر.
وعلى قدر ما استطاع اتجه عبد النبي ببصره إلى حيث كانت تنظر، فما وجد شيئا غير ما توقع أن يجد، ولكن إلحاح زوجته وقرصاتها ودفعها، جعلته يكذب نفسه، وتتقارب أجفانه، ويتلاصق حاجباه العريضان الخفيفان صانعين تجعيدة مفرطحة فوق أنفه، محاولا أن يجد ذلك الشيء الذي أرعب تفاحة فأرعبته.
وكان صبر الزوجة قد نفد فنطقت أخيرا وقد عذبها فهمه الحميري. - حوش يا راجل، الولد! فين إيه؟! ياباي عليك، أهه يا أعمى!
وحدق عبد النبي أفندي مستغربا في الماء، وهناك في وسط النيل رأى الحادث.
كان العصر قد بدأ يشحب وينتهي، وكانت الشمس الذاهبة التي في السماء والشمس الغارقة المدفونة في الماء، كانت شعاعاتها تصطدم على سطح الموج الصغير المتراقص، فتتفتت الشعاعات إلى ملايين من ذرات ماس تتناثر في كل اتجاه، وفي وسط هذا البريق العائم كان هناك قارب أبيض صغير يكاد يبلغ حجمه حجم القوارب التي يصنعها العابث بالورق، وكان في القارب طفل، طفل دقيق يرتدي بذلة البحارة البيضاء، وكان الهواء يداعب شعره الأصفر في عنف رقيق، وكأنه ما يهب إلا ليداعب شعره، وكان الصغير جالسا في أتم الهدوء، وفي اتزان الكبير المالئ يده من قوته، وذراعاه الصغيرتان البضتان تمسكان بالمجاديف في ثقة، وتعملان بلا هوادة.
وكان ممكنا أن تمر ساعة بأكملها قبل أن يقتنع عبد النبي أفندي، ويسلم بحقيقة ما يراه، ولكن المسألة لم تأخذ وقتا طويلا، فبعد أن حملق من هنا، ثم أحكم وضع الطربوش، وأدلى رأسه على قدر ما استطاع، وحملق من هناك، وثنى رقبته مرة إلى اليمين ومرات إلى اليسار، بعد هذا كله أغلق عينيه، وقال بصوت فيه تأنيب: جرى إيه يا شيخة؟ طربتيني!
وانتفضت امرأته تقول وغيظها يشتد: جرى إيه إيه؟! مانتاش شايف؟! حوش يا راجل. - بس لو تطولي بالك، لازم أبوه وأمه هنا واللا هنا، أمال! لازم، الله! هي لعبة؟ واللامش معقول يا سيدنا لفندي؟
وسيدنا لفندي الذي توجه عبد النبي إليه بالخطاب لم يكن واحدا، وإنما كان كثيرين، وكان بعضهم قد وقف يتفرج على تفاحة وعبد النبي، وقد أعجبه مرآهما، ثم مضى بعد أن أشبع فضوله.
وكان البعض قد رأى الطفل فعلا فاسترعى الطفل انتباه الجزء الأكبر من تفكيره، ثم لما علا صوت تفاحة واشتد حماسها بدأ يوزع انتباهه بين الطفل وبين المرأة ذات الزي الغريب، وما تقوله والرجل الذي معها.
وكان بعض ثالث قد أخذ الأمر على محمل الهزل، فمضى يلعق بلسانه ثوب تفاحة وبيشتها، وطربوش عبد النبي أفندي وحذاءه، دون اكتراث لما يحدث داخل النيل، ولم يعدم الأمر أن يكون هناك أفندي واحد عاقل راح يتطلع إلى الطفل، ويتابع القارب بناظريه، وقد امتصه المشهد كله، ولم يتبين أحد أن كان يحدث نفسه، أو يرد على عبد النبي أفندي حين قال: يا سلام! أما ناس صحيح!
وأسرع عبد النبي أفندي يلحم الحديث حتى لا ينقطع: دا لازم خواجة، مش معقول ده ابن عرب.
وردت أصوات تقول: أيوه دا لازم ابن جنيه.
وعقبت أصوات أخرى: أيوه يا سيدي، الفرنجة اللي على أصلها بأه! أما تفاحة فقد كان همها طول الوقت مركزا في إنقاذ الولد، فقد كانت متأكدة أنه حالا سيغرق في ذلك البحر الواسع الذي لا قرار له.
ولذلك، وحين لم يسعفها عبد النبي استدارت تقول في إلحاح عصبي، ولم تكن تدري لمن تقول: الله! حوشوا يا جماعة، هو مافيش خير؟! والنبي لو كنت راجل ...
وكانت الجماعة في شغل عنها بالدوامات الصغيرة من النقاش التي أخذت تلف وتدور حول القارب، والطفل، وأبويه وأحيانا حول لون شعره، والملابس التي يرتديها. ولمح الأفندي ابن الحلال الواقف تفاحة في عصبيتها وذعرها، فرمقها بنظرة فيها سخرية متنكرة في ابتسامة رثاء، وقال على مهله: يا ست متخافيش، دا الولد بيتفسح.
وأسعد الرأي الجديد عبد النبي أفندي الذي كان واقفا لا رأي له ولا حول، فانضم إليه في التو، وقال مجيبا على دهشة امرأته واستنكارها: أيوه، أمال، بيتفسح.
وردت تفاحة على عجل وهي لا تصدق: يا لهوي، وأهله سايبينه كده؟
وفي هذه اللحظة تهلل وجه الأفندي ابن الحلال، وقد اشتد إعجابه بما يجري، وقال وهو يبتسم في تؤدة ويشير إلى الشاطئ الآخر: أهم، أهم.
وأقلعت العيون كلها صوب الشاطئ الثاني حتى التقت بشبحين بعيدين ممدودين يرتديان أبيض في أبيض، وفوق رأس أحدهما «إيشارب» أخضر وهما يلوحان بأيديهما، والطفل يلوح لهما هو الآخر بذراعه القصيرة في نشاط وغبطة.
وقال عبد النبي أفندي في جذل أبوي: دول لازم يا عيني أبوه وأمه.
وتحدته تفاحة وهي لا تصدق قائلة: بقى يعني هم سايبينه صحيح يتفسح؟!
فرد عبد النبي أفندي، وقد أفاق من جذله وأصبح من رأيها: أمال إيه؟ مجانين! فرنجة كدب ضلال.
وكانت تفاحة تغلي، فليكن الولد في فسحة أو في مصيبة، ولكن أي أب مجنون هذا؟ وأية أم ملحوسة؟ وكيف يجلس هذا الشحط ممددا جسده على الحشيش، بينما ابنه يكاد الماء يطبق عليه؟ وكيف تحتمل هذه المرأة أن تلوح بيدها للولد هكذا في رقاعة؟ ألا تستحق بالذمة قطع هذه اليد؟
أهذه مصر؟ وآباء مصر وأمهاتها؟ - تفوه علادي بلد.
قالتها تفاحة وهي تبصق في حقد وشدة محاولة دفع البصقة، حتى تصل إلى الشاطئ الآخر، ولكن الريح الطيب تكفل بردها كاملة غير منقوصة إلى وجه عبد النبي أفندي، وفوجئ المسكين، وبهت، ولكنه سرعان ما تناول منديله يمسحها، واهتز جسده كله وهو يقهقه ويمزح مع امرأته قائلا: اخصي عليكي هبلة ما تختشيش، كدهه؟
واستدارت تفاحة دون اكتراث لما حدث ومشت وهي تتمتم: قال إيه؟! قال بيتفسح! والنبي لو كان عيل من عيالي كنت دبحته، أنهي مغفل يأمن على كبده؟
وأسرع وراءها عبد النبي أفندي محاولا أن يهدئ من ثائرتها، ولكن غضبها لم ينفثئ وظلت ما تبقى من النهار وبوزها شبرين.
وعند رجوعها إلى اللوكاندة في سيدنا الحسين وعبد النبي أفندي جالس يراجع الكشف الذي كتبه بالأشياء الواجب شراؤها من مصر قبلما يجيئون، وتفاحة تصلي على النبي مرات لتستطيع أن تتذكر شيئا راح عن بالها أن تمليه، وحين يئست من تذكره، قطعت يأسها قائلة: أما عجيبة، صحيح اللي يمشي يشوف أكتر.
واستخلص عبد النبي أفندي نفسه، وألقى نظرة على ركاب الترام قبل أن يقول وهو لا يزال سارحا بما في الكشف: يشوف إيه؟!
وأيضا لم ترد عليه، وإنما مضت تحدث نفسها وتقطع الكلمات: قال بيتفسح قال! يخي يلعن ...
وفي آخر قطار وهما عائدان إلى البلد مدفونان في زحمته، جاءت جلسة تفاحة بجانب عجوز كانت نازلة في قليوب.
ولم يكن مستحيلا أن يبدأ الحديث، وغادرت الولية القطار في قليوب وهي الأخرى لا تصدق ما روته جارتها عن الطفل، وسنه التي لا تزيد عن الأربع سنين، والقارب والبحر.
ولما وصلا البلدة والليل قد تأخر، وعلمت أن الأولاد قد انتهزوا فرصة غيابها، واستحموا كما كانوا يريدون في الترعة، لم تستطع الانتظار فأيقظتهم واحدا وراء الآخر، ولهلبت كلا منهم بعلقة.
ومع الصباح توافدت النساء يسألنها عن مصر وعن الفاتحة التي أوصينها بقراءتها في السيدة، وعما طلبنه منها، ووعدت بإحضاره، ولم تذكر تفاحة من كل زيارتها إلا حكاية المفعوص الذي طوله شبر، والذي كانت أحيانا تقول إنه غرق أمام عينيها، وأحيانا أخرى لا يطاوعها قلبها، فتروى أن مراكبيا أنقذه، وعلى أي الحالين كانت تلعن أباه، وتسب أمه.
ولم يبرح الولد مخيلتها أسابيع طوالا.
أما عبد النبي أفندي فمع أنه كان ينسى كل ما يمر به من حادثات مهما كنت الحادثات إلا أن هذه الواقعة بالذات كثيرا ما كانت تراوده، وحينئذ كان يتذكر جمال الولد، وصفرة شعره، وثباته، واطمئنانه، وثقته، ويده الصغيرة البضة وهي تدفع المجداف، وفي الحال كانت ترتسم أمامه صورة ابنه الكبير محمد، الداخل باسم الله ما شاء الله على عامه العاشر، ويده الخشنة الماسكة طول النهار بلقمة العيش المغموسة في العسل الأسود، والعسل يتساقط منها على الأرض وفوق جلبابه، وداخل صدره، والذي يضع رأسه خجلا بين فخذيه إذا أقبل ضيف، وما إن يبدأه أحد بالكلام - أي كلام - حتى يتراجع خائفا، قائلا بصوت كمواء القطط: ياما، ياما تفاحة.
كانت ترتسم أمامه صورة ابنه فيخطط الدوائر على الدرج الذي أمامه بقطعة الطباشير التي في يده، ويمصمص ضرسه المثقوب بصوت مسموع، ثم يتنهد وهو ينساب في حلم يقظان جميل، فيرى محمدا راكبا ذات يوم قاربا وحده عابرا النيل في ملابس بيضاء نظيفة، وقد استوى شعره ولمع، واحمر وجهه وابيض، وهو غير خائف من الماء، ولا مقيم وزنا للبحر العريض.
رهان
كان يومها من أيام الصيف الحلال، والطريق الزراعي الطويل ليس فيه ذبابة ولا غراب، والدنيا ظهر، والحر يكتم أنفاس السكون، ويكفن صغار النسمات، ويجعل من «غرزة» الشرقاوي جنة وحيدة على جانب الطريق الذي يتلوى بالقيظ والنار.
وكان في «الغرزة» ساعتها أربعة من زبائنها الدائمين، الذين تسرب موسم القطن إلى محافظهم، فجعلها تمتلئ بالبرايز والقروش والخمسات. وكانوا يتحدثون بكلام فاتر ممدود، وفيما عدا هذا كان صالح بائع التين الشوكي يتربع بجانب قفصه، وقد مال فوقه، وغرق في صمت حزين وهو ينش الذباب عن تينه، وأحيانا عن وجهه. والشرقاوي صاحب المكان استغرقه الصراع مع النوم وأمامه «وابور» الجاز مطفيا، ولا يصغي إلى فرج، عامل رش الطريق، المتربع بجوار عامود من الأعمدة التي تحمل سقف الغرزة، والذي كان يطلب في إلحاح تتخلله فترات صبر طويلة أن يأذن له الشرقاوي فيشرب على «الجوزة» كرسيا من الدخان.
ودخل القادم الغريب.
كان أعرابيا طويلا ناشف العود، يرتدي قميصا من البفتة القديمة يكشف عن ساقيه اللتين التصق جلدهما بالعظام، وحول وسطه حزام عريض من الصوف يشد ظهره، وفوق رأسه شال في لون التراب، وعقال باهت تقطعت خيوطه، والعرق قد صنع فوق وجهه المدبب بحورا وأنهارا، وعيناه يكاد الدم يسيل منهما.
ورد الجالسون سلامه، ووضع من فوق كتفه خروفا صغيرا كان يلهث، وحين سأل عن الماء أشار الشرقاوي إلى الزير المدفون في الأرض، وشرب الرجل كل ما كان في قاع الزير، ثم أخذ مكانه فوق المصطبة، وقد انتقل الماء في سرعة من بطنه إلى وجهه.
ولم تكن الألسنة تستطيع احتمال الغفوة وفي حضرتها غريب، وسرعان ما دار الحديث، وعرف الجالسون من أين هو قادم وإلى أين هو ذاهب، وما لبث الاستخفاف أن انزلق إلى الألسنة حين أدركوا أن الرجل لا ناقة له ولا جمال، ولا نقود معه ولا حشيش.
وفي الوقت الذي كان الملل قد بدأ يتسرب إليهم، كان صالح قد بدأ ينشط، ويكف عن نش الذباب، ويساهم في الحديث بنصير وافر، ويتغزل في التين وطراوته التي تنزل على القلب فتحييه.
وأصبح صالح وحده هو الذي يتكلم، ولعاب الباقين يتحرك لكلامه.
واستفتح واحد منه بخمسة «كيزان» واستكثر الباقون الخمسة عليه، وأهمل هو استكثارهم، وأعلن أنه يستطيع التهام القفص كله.
وضحك الموجودون، وسألوا «شيخ العرب» عن رأيه وهم يضحكون، وتوقفوا حين قال العربي في صوته المؤدب الخافت: أنا آكل ميه.
واستكثروا الرقم، بل لم يتصورا أبدا أن الثور نفسه يستطيع أن يأكل مثل هذا العدد.
وحاوروه وداوروه وهم يسخرون، ولكنه أصر على الرقم، وقدم الخروف الصغير ضمانا لكلمته.
وأخرج واحد محفظته وقد قبل الرهان، واستعد لدفع ثمن المائة إذا أكلها الرجل.
وكاد صالح يطير من الفرح وهو يقشر، والعربي يأكل، والباقون في نفس واحد يعدون.
وتحرك فرج من جلسته، ونسي كرسي الدخان، وانضم إلى صالح يقشر معه.
وكان الاثنان لا يلاحقان فم الرجل، وهو يتاوي «الكيزان» واحدا وراء الآخر في سهولة وسرعة، وكأنه يقذفها في بئر لا قرار لها.
وحملق الشرقاوي في الرجل وقد غادره النوم إلى غير رجعة، وراح يهمس وهو يعد مع زبائنه ومع صالح وفرج.
وعند الأربعين فك الرجل حزامه.
وحوالي الستين طلب الرجل ماء، فأسرع الشرقاوي يجري ويملأ الكوب من الترعة.
وفي التسعين طلب الرجل ماء للمرة الثانية، دفعه في جوفه، ثم تكرع طويلا، وفي بطء وثقة أتى على المائة، وأكل بعدها كوزا آخر من أجل الحاضرين.
وما إن انتهى حتى ألقى نظرة على وجوه الموجودين التي كلها صمت ودهشة، وانتظر برهة يلتقط أنفاسه، ثم حمل الخروف، وفي هدوء ألقى عليهم السلام ومضى.
وقبل أن يختفي عن الأنظار أسرعت العيون كلها تحدق في بطنه، ثم بدأت الجماعة تستعيد ألسنتها.
وقال الشرقاوي وهو يهز رأسه: إن الرجل من عرب الغرب، ولا بد أنه عزم على التين، وحضر الجن قبل أن يأكله. قال ذلك وتلفت يمنة ويسرة، ثم سمى وهو يبصق في عبه.
وقال صالح: إن في بطنه دودا كان يبتلع التين أولا بأول.
وتنحنح فرج وقال: إن العرب كالجمال لهم معدتان.
وأكد رجل من الذين انتفخت محافظهم إن العربي سينفجر بعد قليل ويموت، وأنهم لا ريب سيعثرون عليه بعد يوم أو يومين طافيا فوق ماء الترعة، أو مكوما تحت الكوبري.
وكثرت الأقاويل، وبعدت التخمينات والتفسيرات، وكادت تنشب معركة.
أما الرجل فقد مشى في الطريق، وبدايات المغص تلوي أحشاءه وكل ما يهمه أنه تغذى، وسكتت عنه ولو هنيهة مسامير الجوع، وليكن بعد ذلك ما يكون.
5 ساعات
كنت أجلس على المقعد ذي المسند العالي، وأمامي المكتب المتهالك، وقد ملأه الأطباء الذين عملوا قبلي بأسمائهم التي حفروها عليه، والحجرة قديمة قدم القصر العيني، وكل شيء فيها قد رأيته مرات ومرات حتى ارتويت. كل شيء حتى بقايا القطن والشاش والدماء الجافة المتناثرة فوق الأرض، والترمومتر المكسور الذي وارته الممرضة لتوها في ركن الغرفة، كل شيء حتى الأنات الصادرة من الكمساري الراقد هناك، وقد انتهيت من إعطائه حقنة لم تستطع بعد أن تخدر المارد الجبار الذي كان يعتصر كليته.
وفجأة دق جرس الإسعاف.
دق في قصر مرتفع مبتور.
ولهذا الدق عند كل الناس معنى، معنى يحمل في طياته رهبة تشرخ قلوبهم، ورعشة تنتفض لها أعصابهم، فإنه يعني إنسانا يموت أو سيموت. أما عند الأطباء فإنه يحمل في طياته عملا، ويبعث في تفكيرهم بالخيط وقد لضم في الإبرة، والجلد وقد تعقم، ورائحة المخدر وقد تصاعدت مختلطة برائحة صبغة اليود، وحشرجة إنسان يتعذب.
ودق الجرس مرة ثانية.
وتوقفت، وتوقف التومرجي عن سرحانه، واستدار ليلقي ببقية سيجارته خلسة، ثم عاد ينظر إلي من جديد، وقد زال الحرج الكثير الذي شعر به طيلة أنفاسه المختلسة.
وسادت فترة صمت كنا نتسمع خلالها عويل عجلات «الترولي» وهو ينساب قادما إلينا عبر الممر الطويل.
ودلف رجل الإسعاف إلى حجرة الاستقبال، وقال وهو يكاد يلهث: حالة ضرب نار يا بيه! واحد ظابط اغتالوه في الروضة! ضرب نار! ضابط! اغتيال!
لم أعد نفسي حينئذ لصبغة اليود وماسك الإبر والخيط، فقد اختفى من شخصيتي تماما عامل الحياة، وطفحت تلك الكلمات القلائل فوق ذهني يدفعها بركان يختزنه شعوري عن الاغتيال والظلام وضرب النار.
وقبل أن أستعيد نفسي، انساب «الترولي» إلى الحجرة في نفس اللحظة التي مزقت فيها سكون المستشفى كله صرخة مدوية طويلة صادرة من الأدوار العليا.
وغادرت المقعد في لهفة وانكببت على الجريح أراه وأرى النار التي أتت عليه.
والحق أنني لم أر ما حدست رؤيته؛ فقد كان الرجل يرقد في ثقة، وقد أسبل عينيه وشبك ذراعيه فوق صدره وزم شفتيه، واسترعتني ملامحه، كانت فيها مصرية، مصرية من ذلك النوع الذي يوقظ فيك مصريتك، ويجعلك تعشقها من جديد. وكان أسمر، تلك السمرة التي إذا ما تمعنت فيها وجدت في صفائها تاريخ شعاعات الشمس المجيدة التي صنعت الحضارة على جانبي النيل، وكان شاربه الأسود الكث يلون تلك السمرة، وتستشف منه رجولة، رجولة تبعث القشعريرة في الرجال، وكان جسده صلبا شاهقا، وعنقه ممتلئة غليظة، كان يضج بالحياة والفتوة. ومع هذا يقولون مضروب بالنار.
وقفت أحدق فيه ولا أتحرك، ولم أعد إلى نفسي إلا حين هم بالكلام؛ إذ ملت عليه ألتقط الكلمات، وإذا بي أقول في صوت مستنكر هامس: إيه؟! قتلوك؟!
ومضى في نفس صوته المملوء المنخفض الرنان يقول: قتلوني في الضلمة، ضربوني بالنار، هنا في ضهري.
وسألته، وأنا ملسوع دهش: مين، مين هم؟!
فقال وهو مسترسل بنفس صوته الذي كان يجذبني إليه بقوة وعنف: المجرمين ورئيسهم، العصابة كلهم، أولاد الكلب.
ثم توقف لحظة، وحدق بعينيه السوداوين الواسعتين، وكأنه يخترق سقف الحجرة إلى ما وراءها من سماء: كده يا فاروق، تقتلني؟!
وتلقف الواقفون كلماته، وسرت الهمهمة من داخل الحجرة إلى الخارج، إلى الشارع، إلى البلد كله، إلى التاريخ.
وأحسست بنفسي أنفعل وكأن نارا قد شبت في، كنا أيامها تحت حكم فاروق، وكانت هناك أحكام عرفية، وكان الظلام والسخط يخيم على مصر، ويعشش في قلوب الناس.
وكان لا يحمل إلي إلا ضحايا العربات وعجلاتها، وصرعى الترام، وعتاة المتشاجرين، وكان ذلك أول جريح أراه مضروبا بالرصاص.
ولم أعد أتمالك نفسي.
تناسيت أني طبيب، وتناسيت ما علي من واجب، ولم أعد أفكر إلا كمصري يختنق بالظلم، ثم يرى الظالم صرع أخاه.
وغمغم الرجل المسجى أمامي.
وعدت أنظر إليه وأدقق النظر.
كان وجهه يصفر ويصفر، وكانت تقاطيعه المفتولة تتراخى تحت وابل من نقط العرق الصغيرة، وهي تتجمع فوق جبهته، وعلى وجنتيه كقطرات الندى تتجمع على زهرة تذبل، وتلمست جسده فوجدته باردا، لم تكن برودة الثلج، إنما كانت برودة ممر طويل في نهايته الفناء والضياع.
وقفزت إلى ذهني في قوة الانفجار تلك الكلمة التي طالما استبشعتها: صدمة!
نطقت بها غير شاعر أني أنطق، ومددت يدي أتحسس ذراعه مرة أخرى لأرى نبضه، وصدرت من بين شفتيه التي كانت قد ازرقت تماما أنة طويلة عميقة تعوي وتتلوى، وجمدت يدي في مكانها. - آخ، آه، دراعي، دراعي مخلوع.
والتقط بضع أنفاس لاهثة.
وكنت أعرف الألم الذي لا يطيقه بشر حين تتحرك الذراع المخلوعة، إنه الألم الذي يصدم، ويقتل، ويميت. ومع هذا فقد كان علي أن أرى الإصابة، وكان علي أن أديره، وأوقفت شعوري، وأوقف الرجال الموجودون أنفاسهم ورنات آهاته وآلامه، تخرسنا جميعا.
واستقر بصري على أربع دوائر سوداء، وحولها ظلام الجلد المحترق. وكنت أعرف ما يؤدي إليه السواد والظلام، فقد كان يؤدي إلى ثلاث قطع محمية من الرصاص استقرت داخل الصدر، وقطعة نفذت واخترقت الرئة، وسال من منفذها الدم.
وقلت وكأنني أستنجد بشيء غامض، ولكنه قادر: الإسعاف السريع.
كان في هذه الكلمات، إذا احتاج الأمر أن أقولها، ما يرد لهفتي دائما ولهفة المريض في بعض الأحيان، وهرج التومرجية والممرضات في كليهما. كان فيها معنى النجدة، كانت تصور لي ظلام الريف الواسع المفتوح، وإنسانا يستغيث في لهفة راجفة، فإذا بلهفته ترد إليه، ورجفته يعقبها طمأنينة، حين يسمع من بعيد ومن أغوار الظلام، ذلك الصوت المغيث، تردده فتحات الفضاء: جايلك يا واد، جايلك. •••
وعلى نفس السرير الذي مات عليه عبد العليم الطالب الصغير الذي أصيب بخبطة هوجاء في رأسه أثناء المظاهرات، والذي مات عليه صديق ابن العربجي الذي مرت فوق صدره عربة أبيه فتهشمت ضلوعه، والذي مات عليه شعبان وصالح وعبد اللطيف ومحمد، على نفس هذا السرير رقد عبد القادر الجريح وحوله أسطوانات الأكسيجين، وأجهزة نقل الدم، وأوعية الماء الساخن، وطلاء الحجرة الأبيض الناصع، وأزيز غلاية الماء، وحفيف البخار المتصاعد، ومجموعة من الأطباء، وممرضة، وصمت ترعشه أنات عبد القادر.
وما كادت آخر قطرة من أول لتر من الدم تأخذ طريقها إلى قلبه، حتى اختفت قليلا تلك الصفرة التي علت وجهه، وخفتت حركات عينيه، حتى تركزت حدقتاه علي، وظل يحدجني ببصره طويلا كالذي يتحفز لفعل شيء دون أن ينطق بحرف. وعجبت لهذا التحديق، ثم زاد عجبي وأخذت دوائر صغيرة من القلق تنداح في صدري.
وفي اللحظة التي بدأ الخوف يأخذ طريقه إلي تحركت شفتاه، وتغيرت ملامحه، ثم استقرت تقاطيعه على ابتسامة كانت أجمل ما رأته عيناي ليلتها.
ولست أدري ما ارتسم على وجهي لحظتها، فقد أحسست بفرحة غامرة دق لها قلبي.
وطالت ابتساماتنا، وامتدت، حتى قلت له وكأنني أقولها متأخرا جدا: إزيك؟ إزيك دلوقت؟
ونطق بهمسة لاهثة: أحسن، أحسن كثير.
وشيئا فشيئا بدأت ابتسامته تتلاشى وراء غيوم، ثم اختفت، وأظلمت ملامحه، وتقاربت تقاطيعه، وانطلقت من سواد عينيه أشعة تبرق، فقلت وأنا قلق: مالك؟! فيه حاجة؟!
وتوترت أنفاسه اللاهثة، واندفع يقول كالذي يخنقه كابوس: أيوه، علي، علي، الندل، يجرني للضلمة. وأنا صاحبه، صاحبه، الخاين، بس لو أروق له، وأروق لهم.
وتعبت تقاطيعه، وخفت البريق، وأصبح سواد عينيه أكثر سوادا، وتلألأت فجأة تلك القطرات الصغيرة الشريرة من العرق على جبهته وعلى وجنتيه.
ولعل الابتسام هو ما كان يحاول فعله فلا تطاوعه قسماته حين قال في صوت خافت غير مهتز: ميه، عاوز أشرب، عطشان.
وكانت يدي أسبق من يد الممرضة أمدها إليه بقطعة القطن، وقد بللتها بالماء لأمسح بها شفتيه ولسانه. وطاوعته القسمات في النهاية، فابتسم وهو يقول: متشكر، متشكر يا دكتور، كمان، كمان، عطشان، يا ناس، عاوز أشرب.
وكانت يدي أسبق من يد الممرضة؛ لتمنع عنه الماء هذه المرة.
وسمعت نقرا على الباب، وحين فتحته وجدت الممر الطويل يضيق بالناس والهمسات والتوجس، واندفعت العيون نحوي، ولمحت في كل العيون تساؤلا، ورجاء، رجاء في أمل.
ودخل كاتب الاستقبال، صامتا على غير عادته، لا تستقر نظراته كالذي يبحث عن شيء، ونسي ما يبحث عنه. واتجه إلى الركن الذي وضعنا فيه أشياء عبد القادر، بذلة في ظهرها ثقوب، وقميص أبيض لا تهتم لبياضه بقدر ما تقشعر للدائرة الحمراء البشعة على صدره الأيمن، وعلبة فيها ثلاث سجائر، ومنديلان، وقطعة حلوى، وحافظة نقود فيها فوق ما فيها من أوراق صورة قديمة تثنت حوافها لطفل صغير.
وتلكأ الكاتب قليلا بعد أن انتهى من مهمته، ودار ببصر ذاهل في أرجاء المكان، واستقرت عينه بعد تردد على عبد القادر، ثم غادر الحجرة تاركا خلفه أصداء همهماته المكتومة.
وأغلقت الباب. •••
وكان الوقت قد تأخر ، والمصابون الذين يتطلبونني قد انتهوا أو كادوا، والليل قد عم أرجاء المستشفى، والظلام في الخارج واسع واسع لا حدود له، والنور في الداخل ساطع يلمع له كل شيء، والغلاية تزن، والممرضة تتثاءب، والتومرجي واقف قد ألصق ساقيه بحافة السرير، والهواء أصبح لزجا ثقيلا.
وأحسست أول الأمر أن أشياء كثيرة حولي تلهث.
ثم شعرت بالحجرة كلها تزفر، وكأنها رئة محموم.
والتفت حول قلبي أصابع رفيعة غامضة، وشددت قبضتها.
ووجدت نفسي أقف، وأتمشى في الحجرة، ورفعت «كوبس» الغلاية، وأعدت رباط «محلول الملح»، وما كان في حاجة إلى رباط.
ومع هذا بقيت الحجرة كلها تلهث كرئة المحموم.
وعلى حين بغتة عرفت ما حدث.
ووقفت أرقب صدر عبد القادر الصاعد الهابط، وأتمعن فيه وهو يجاهد ليستخلص الهواء، فتتقبض كل جارحة من جسده، ويصبح وجهه كالقمر المخنوق، ثم يناضل ويتألم وهو يناضل، حتى يدفع القليل الذي استخلص، ويستعد للأقل الآتي.
كان يتنفس، وكأنما حجر ضخم يجثم فوق صدره، ولا يستطيع منه فكاكا.
واحتار السبب في رأسي قبل أن يجد الجواب.
وأملت نفسي قليلا أرى الجانب الأيمن.
ورأيت الدم، الدم لا كما اعتدت رؤيته يلون جرحا أو يخضب رأسا، وإنما الدم المندفع في نافورة حمراء، وقد أغرق الملاءات، وشبعت منه المرتبة، ومضى يتساقط عبر حديد السرير الأبيض نقطة وراءها نقطة، وسربا وراءه أسراب.
لقد بدأ النزيف.
وبحثنا جميعا عن كل ما استطعناه من قطن وشاش نكتم به الدم المتصاعد الوهاج.
واحمر القطن الأبيض وامتلأ. واعتصرناه، ثم وضعناه فعاد يمتلئ ويتسرب منه الدم بإصرار وعمد إلى أرض الحجرة.
وأفلحنا أن نسد الثقب المتربص تحت الثدي الأيمن كالعدو المبين، وألصقنا عليه المشمع طبقة فوقها طبقة، ولم أثق في المشمع، فوضعت يدي فوقه أكتم بها النزيف.
ووقع بصري على يدي، فوجدتها كلها دم جف، وآخر لم يجف.
ولم يكن هذا أول دم أراه، كانت رائحة الدم تملأ أنفي دائما منذ أن عملت في الاستقبال، الرائحة التي لها دفئه، الدفء الخانق القابض، والتي تلمح خلالها زفارة كعفن الموت، الرائحة التي تذكرك بالمذبوحين والمبقورين، ومن في صدورهم سل.
ولكن في تلك الليلة، كنت كلما رأيت دم الجريح المغتال يجف فوق يدي، وينكمش حين يجف، كلما أوغلت في تأملي للجريح الذي لا بد كان رجلا ككل الرجال، نمى من طمي وادينا، ومضغ قمحنا، وارتدى قطننا، وصنعت أذرتنا خلاياه.
وكلما أوغلت في تأملي، كلما همت أستعيد ما فات، وأرى الأجداد والآباء، والشهداء الذين لهم أسماء فوق الرخام، والشهداء الذين بلا أسماء ولا رخام، وأرى الناس ونفسي، وكل من له عرق، وكل من له خال، وكل أولئك القانعين بالألم.
أهيم، ثم أعود إلى يدي التي فوق صدر الجريح، إلى الأصابع التي تحاول عبثا أن تمنع موتا جديدا، وأي موت؟
عدت مرة لأجد اللاصق الذي وضعته قد انتزعه الدم الساخن المتصاعد، والنافورة قد بدأت.
وضغطت يدي، وأجلت بصري أراقب بقايا الزجاجة الخامسة من الدم، وهي تسيل من الجهاز إلى شرايين الجريح، وتدفعها الشرايين إلى الثقب الذي ما كانت يدي تستطيع أن تفلح في سده، وينتهي الدم إلى خيط النقط الغليظ، وهي تتساقط على أرض الحجرة الصلبة.
وفرغ كل ما في المستشفى من دماء صالحة.
ولم يفرغ الدم المنبثق.
وكنت وزميل جاء يساعدني تتقابل نظراتنا، ثم تتباعد لتغيب عقولنا.
وكان لا بد من دم آخر.
وانتهت دورة الزميل على مستشفيات القاهرة كلها، وقد عاد بلتر واحد، آخر لتر من الدم في البلد، وآخر ما نتعلق به، وقد يئسنا من الأمل.
وكنا قد يئسنا.
فصدره الصاعد الهابط كان قد بدأ يخرخش، والفقاقيع التي تكونت في كرات حول فمه، وسمرته أخذت مكانها رمادية لا تمت إلى الأحياء.
وكثيرا ما رأيت أناسا، ورأيت جرحى، ورأيت جرحى يموتون، ولكن كان صعبا علي أن أصدق أن عبد القادر سيموت. كان قد أقبل في أول الليل فما أحسست أن في صدره رصاصا، وقضيت بجواره ساعات، خمس ساعات. أسمع حديثه اللاهث، وأرى فتوته تنكمش وتنكمش، والعملاق الذي كان يضمر ويضمر، وجسده الذي كان قد ابتلع الجروح فما ظهر لها أثر، أصبح كل ما فيه الجروح، وكنت أكثر الوقت معه وحيدا، وكان هو خائفا من الموت، وكنت خائفا عليه، وكان كلانا عنده أمل. كنت أستمد أملي من الزجاجات والمورفين وحمام الكهرباء، وكان يستخلص أمله من أملي، ويناضل وهو يستخلصه كما يقاتل وهو يستمد الهواء.
وكان يقول لي في أول الليل: يا دكتور، وكنت أقول له يا كابتن، ثم ناداني باسمي، وناديته باسمه. وكان الوقت يمضي، في بطء ثقيل، وكانت الأحداث كثيرة تكاد تستغرق عمرا بأكمله، وكنت أحس طوال العمر الثقيل أنه مضروب في ظهره، وأنه مغتال، وأنه مظلوم؛ لأننا كلنا مظلومون.
وما كنت وحدي الذي حدث له هذا.
كنت والممرضة والتومرجي قد ألف بيننا ذلك العمر، وهدتنا الخمس ساعات، وصاحبنا عبد القادر في رحلته، فعزت علينا الصحبة، وأصبحنا كالأسرة الواحدة ذات الجرح الواحد.
وكان اليأس هو أمض ما نستطيع ابتلاعه.
وكان اللتر الأخير الذي جاء به الزميل أهم حدث في ليلتنا.
ورحنا نعالج وضعه وإحكامه بحرص، ونكل في البحث عن وريد نضع فيه الإبرة، وقد اختفت كل الأوردة، فلا تومرجي أو حكيم، إنما مجموعة من البشر تكافح من أجل إنسان، إنسان قد أصبح عزيزا عليها.
وسرى الدم الجديد.
وتقاربنا حول الفراش نرقب النتيجة، ونخفي وجلنا ونحن نرقب رجلنا، وهو يئن بلا فم، ويتلوى ويرفع ساقه ويدفعها، وتنقبض أيديه وتنبسط بقوة، وجسده يصارع النزيف الداخلي.
وهدأ الجسد بعد هنيهة، واستمر الأنين الخافت المتواصل؛ الأنين الذي يثير فيك كامن أشجانك، فتذكر كل ما مر بحياتك من أحزان، وتبكي على كل من مات.
وحدسنا أن الأزمة قد مرت، والدم الأخير قد أفلح.
ولكن كان الهدوء الذي ساد جسده لا يطمئن، وكانت الخرخشة التي في صدره تزداد، حتى أصبحت كأصوات المنشار، وهو يغور في الخشب.
وكانت الساعة تبتعد عن الثالثة.
وفجأة توقفت أنفاسه، واشرأبت أعناقنا، ولكنه عاد يفتح شفتيه؛ ليبصق ملء فمه، دما أحمر، نفس الدم الذي كان منذ هنيهة في الزجاجة.
واحمر القطن من جديد وهو ينضح الدم.
وتباعدت أجفانه التي كانت مسدلة من أمد بعيد، وسقط الضوء على عينيه، وهما تحدقان في لا شيء، وتحدقان في ضعف، وكأنهما لا تريان شيئا، تباعدت أجفانه، وانساب من حلقه صوت لا يكاد يسمع، وهمس: ميه، عطشان.
وبللت فمه بالماء، بل أقول الحق جعلته يرتشف ما شاء من كوب الماء المثلج الذي أحضرته له.
وفتح فمه بعدها مرة، ومرة، ومرات ليبصق الدم.
وأصبح الجرح الذي في جانبه أوسع من فمه، وما يجئ منه أغزر.
ثم راح في غيبوبة.
ورحنا في صمت.
وتلفت حولي لأجد الحجرة قد وقف ما فيها من هواء، ومصابيح النور حولها دوائر لها ألوان، والجدران تردد حشرجة أنفاس تتباعد وتطول، والوقت أبطأ من بطئه حتى لكأن بين الثانية والثانية عام، وزميلي يكاد يقف على أطراف أصابعه، وقد أمسك بالسرير وسمر عينيه على زجاجة الدم، والممرضة راحت عيناها تعدو بين الفم الذي أصبح كالجرح، والجرح الذي أصبح كالفم، والتومرجي قد أمسك بمفتاح أسطوانة الأكسجين واستمات عليه.
كنا جميعا نتحفز ونستعد، كنا نحس بشيء غامض مخيف يحوم حولنا. وكانت قلوبنا وسواعدنا وعقولنا متشابكة متلاحمة تحاصر رجلنا، وتمنع عنه الحائم المخيف.
وتباعدت الثواني، وضاقت الحجرة، حتى ما عدنا نستطيع التنفس.
واندفعنا نحوه كما نقذف بأنفسنا في خضم البحر لانتشال غريق، وتصببنا مياها ونحن ندفع الهواء إلى رئتيه، ونخترق صدره بإبرة طويلة، حتى تصل إلى قلبه، فيحركه العقار، وننفخ في الزجاجة ليذهب الدم جميعه مرة واحدة إلى عروقه، ونفتح أسطوانة الأكسيجين على آخرها؛ ليعلو صدره.
وحاربنا عدوا قويا لا نراه.
كنا نكز على أسناننا، ونبذل طاقاتنا كلها، ونحس أننا نستطيع دك الجبل، وهز السماء وأرجاف الأرض.
ولكن الحقيقة كانت تلاحقنا.
وخفنا أن نصدق، ورحنا نراوغها ونسابق بعضنا بعضا في المراوغة والهروب، ونسرع في اعتصار أنفسنا، وضم قوانا، ويزداد إيماننا بخداع الحقيقة.
وجاءنا من الركن نحيب الممرضة المكتوم.
واقشعرت أجسادنا من النحيب، وانتفضنا نبذل ما في وسعنا من جرأة اليائس ومقدرته.
وعلا نحيبها، فأصبح كدوي الطبول.
ودفع التومرجي أسطوانة الأكسيجين جانبا، وارتمى فوق عبد القادر وهو ينهنه ويبكي، ويقتلع النفوس ببكائه الرجالي الخشن ويقول: آه يا حبيبي يا خويا.
وأفقت على قول زميلي، والدموع تغص حلقه: البقية في حياتك.
وتسربت إلى نفسي من خلال كلماته تلك اللحظة التي نعرفها جميعا، والتي نحس فيها أننا أوهن من الضعف، وأتفه من العجز، وأننا مضيعون، تلك اللحظة التي لا نملك معها إلا البكاء، فيحملنا البكاء إلى بكاء.
وجال بخاطري أن أعانق زميلي وأضم ما في صدري إلى ما في صدره، وأخفي ما أحس به من خجل إزاء فشلنا أمام الموت، أخفيه فيما يحس به من خجل.
ولم أفعل، وبقينا بلا زمن، راجين، نتأمل الرجل المسجى، وتحز الخسارة في قلوبنا، وأعيننا ثابتة في مكانها لا تغادر وجهه الوديع الذي كان يلمع بالعرق، آخر عرق، وملامحه التي استراحت في هدوء دائم.
وحين واريناه تحت الغطاء كان الشك في موته لا زال يملأ منا النفوس.
الأمنية
كان «البرعي» يتساءل في غبطة وحيرة عن الوجه المليح الذي طالعه في ذلك الصباح، فما كان يعتقد أبدا أن اللحظة التي داخ، وهو ينتظرها قد تأتي هكذا فجأة، وبمثل السهولة التي جاءت بها.
ومع أن «أوضة» التليفون كانت خالية تماما، ودوار العمدة ليس به إنس، والخفير ذهب يفطر وأوصاه بالحجرة خيرا، مع هذا كله، خاف أن يراه أحد، فأطل برأسه من الباب، ونظر هنا وهناك، فلم يجد إلا قوافل الأوز والبط، وهي تروح وتنقنق وتجيء في الشارع الضيق، وديكين نافرين يتعاركان، وكلب ابن عمه الأجرب راقد يتصيد الذباب على مهل مطمئن.
ووارب البرعي الباب، ولف حول المائدة الكبيرة الوحيدة بالحجرة، وقد تشقق سطحها وامتلأ بدوائر الحبر السوداء، ولم يتردد وهو يجلس على الكرسي المتهالك الذي سقط معظم خيزران قاعه، وضايقته الجلسة حتى اضطرته أن يعقص ظهره إلى الوراء كثيرا، وأن يمد رجليه الحافيتين تحت المائدة.
وذكرته جلسته التي لم تخل من عظمة بالشيخ عبد المعطي عامل «التلافون» وهو قاعد على الكرسي، وقد وضع رجلا فوق الأخرى، وخلع العمامة عن صلعته التي لها نعومة الخيار، وأسندها إلى دفتر الأحوال القديم الذي صنع له جلدا من ورق اللحمة الأصفر.
ولم يسترسل البرعي في سرحانه، فالأمنية كانت تلهبه، وصندوق «التلافون» المثبت في الحائط أمامه كان يجذبه بمغناطيس لا يستطيع مقاومته. وهز البرعي رأسه في غبطة فلا شيء الآن يحول بينه وبين رغبته، ولا أحد موجود في الدنيا كلها إلا هو و«التلافون».
وتمطى في دلال وهو يقف، واقترب من الصندوق، وتملى فيه برهة، ودقق في سلكه الفيراني الطويل، وهو ينتهي في الزجاجتين المملوءتين بشيء غريب.
ومد البرعي يده في قليل من الوجل، ونقر على الصندوق. وكاد يضحك وهو يتوقع أن يرد واحد من داخله، ويقول: مين؟ وابتسم وهو يرجع إلى أيام بلاهته وصغره حين كان يسميه «اللفلفون»، ويعتقد أن داخله بني آدم صغير وضعته الحكومة ليكلم الناس.
ولم يضيع وقتا أكثر من هذا في السخرية بنفسه، وإنما مضى يملس على الصندوق الناعم، ويتحسس البوق الذي يبرز من مقدمته كما تبرز شفاتير حسن العبد، وتصل أصابعه إلى الأجراس الموضوعة كأجراس العجلات، فينقر عليها بأظافره، وتنحدر يده إلى السماعة المعلقة بجانب الصندوق، فيلف قبضته حولها، ويمر بيده فوق الحبل الذي يتدلى منها، ويمل هذا، فيرتد إلى الناحية الأخرى، ويلعب بيد التلافون الحريرية السوداء، ويكاد يديرها.
وقبل أن يفعل شيئا آخر، اتجه إلى الباب، واطمأن من جديد إلى خلو الطريق، وعاد إلى التلافون، وأمسك السماعة بقوة، ثم رفعها قليلا قليلا في حرص شديد. واستغرب حين وجدها ثقيلة كرطل الحديد، وكلما ثقلت يده بها، دق قلبه، وسال العرق من يده، ونسي الابتسامة التي لا يدري متى علقها فوق وجهه.
وأصبحت السماعة أخيرا في حوزة قبضته بعيدة عن الصندوق، فقلبها على ظهرها وبطنها أمام عينيه، وأعجبه الثقب الذي في أسفلها، ووضعها تحت طاقتي أنفه وشمها، فلمح فيها رائحة عرق الشيخ عبد المعطي التي يعرفها جيدا، وتعرفها معه كل بلدهم ميت غنيم.
ثم، ثم وضع السماعة فوق أذنه، حتى التحمت بها، وحملق في الحائط الذي تساقط طلاؤه، وهو يسمع هديرا عجيبا كدوي وابور الحرث البعيد، وبعد أن زالت صدمته الأولى تسربت إلى أذنه من وسط الهدير أصوات كنقيق الضفادع، فكز على أسنانه، ونقل السماعة بسرعة إلى أذنه الثانية، وكتم أنفاسه حتى لا يفوته شيء.
وانتشى.
فقد استطاع بعد جهد أن يميز صوتا يقول: أيوه يا سيدي، وأصوات كثيرة أخرى ترد عليه، ثم تبعد كلها، وتختلط، ولا يربطها في رأسه إلا دوي وابور الحرث الذي بدأ يدير رأسه، ولا ينعشه إلا صوت رفيع ممدود يقول بين الحين والحين: ألووه، يا أخينا ألوووه.
وتبين بعد عناء كبير، وبعد أن تلاحقت أنفاسه، وابتلع ريقه مرات أن نقيقا يقول من بعيد جدا: يا مركز، فيرد عليه آخر له بحة كحشرجة أم سليمان.
وما اهتم البرعي بمسألة في حياته قدر اهتمامه بمعرفة كل ما يقولون، فأمسك السماعة بكلتا يديه وضمها بشدة إلى أذنه.
وكاد يقهقه وكأن الأصوات تزغزغه، وأحس أنه سعيد، وأنه يستطيع عمل أي شيء، وأنه هو الآخر ممكن أن يمط صوته، ويطيل عنقه، ويقول: يا مركز.
وقالها فعلا في سره، ثم همس بها بينه وبين نفسه، وكأنها الفاتحة يقرؤها.
وحين اطمأن إلى أن حادثا لم يحدث بعد همسه، اجتاحته نوبة عاتية من الجرأة السعيدة، وزعق وقال: طب هه، يا مركز، يا واد يا مركز.
وكما تقرع طبلة السحور، وجد أذنه يخرقها صوت أجوف عال تبين بعد وقت أنه يقول: أيوه يا ميت غنيم.
وشعر أنه وقع، وأصبح قلبه في أطراف أقدامه، وسقطت طاقيته فلم يعبأ بها.
ومأمأ وفأفأ وأذنه قد ماتت على السماعة التي تطبل كل لحظة وتقول: أيوه يا ميت غنيم.
وأصبح لا شيء في عقله، ولا شيء على لسانه إلا أن يردد مرة أخرى: يا مركز.
فيجيئه الجواب غاضبا: أيوه يا جدع. - يا مركز. - أيوه يا محروقة يا ميت غنيم. - يلعن، يلعن أبوك يا مركز.
قالها، ورمى السماعة بقوة وهو يحس بكل ارتياح.
ثم اندفع إلى الخارج كالريح.
أم الدنيا
كان مطعم الدرجة الثالثة في آخر عشاء يسوده جو غريب، ومع أن الضوء كان قويا باهرا، ودقائقه تتساقط في عدد لا نهاية له على كل شيء فتبدو وجوه الجرسونات الحليقة الناعمة، والمفارش البيضاء والملاعق، والأكواب الزجاجية النظيفة، تبدو كلها لامعة أنيقة، وكأنها طليت بماء النور.
مع هذا إلا أن المسافرين كان حديثهم همسا خافتا، يدور معظمه حول الوصول إلى الإسكندرية في الصباح الباكر، ثم نهاية الرحلة بعد الظهر في بيروت، وكان بعض الحديث يدور حول البحر ودواره وصرعاه في اليومين السابقين الراقدين، لا يستطيعون التحرك أو حتى العشاء.
وأثناء الهمسات والابتسامات كان من المسافرين يجولون بأبصارهم في أرجائه، ويودعون كل شيء بأعينهم ويودعون بعضهم بعضا، وقد أحسوا بلذعة؛ إذ سيتركون وجوها قد اعتادوا عليها وألفوها، بل بدا الجرسونات أكثر رقة، والناس ينادون بعضا منهم بأسمائهم وقد عرفوها، ويتبادلون معهم فكاهات سريعة، وهم يوزعون الطعام.
وكان المسافرون أنفسهم خليطا متنافرا، بعضهم سائحون، وبعضهم أجانب عائدون، ولبنانيون، وأروام.
ثم كان هناك بعض مصريين، سبعة من المصريين الذين جمعتهم الرحلة، ولا شيء سواها.
وصحيح أن الرسام العائد من إيطاليا، والذي كان جالسا في ركنه المعهود يمضغ الطعام على مهل تائه لم يكن يبدو عليه أنه مصري، إلا أنه كان كذلك، بل من حي الحسينية بالتحديد. وكان في آخر عشاء أيضا لا زال منطويا على نفسه، ولا زال يحدق في الفتاة التي خلبت لبه، وجعلته يمضي الأيام الأربعة التي استغرقتها الرحلة يلتهمها بنظراته، ويراها، كما رآها أول مرة، أجمل فتاة في الوجود، فلم تقع عينه أبدا على شبيه ولو من بعيد لذلك الجمال، جمال الجهاز الدقيق، الرائع الدقة، الجمال الذي ليس فيه وجه كالقمر، وعينان مثل عيون المها، وشفتان كحبات الكريز، وصدر بارز، وسيقان ملفوفة، وإنما ذلك الجمال الذي لا تنبع الروعة من أجزائه مهما بلغت من سحر، إنما هو كاللحن الموسيقي الفريد، يحس الإنسان بما فيه من عبقرية إذا استمع إليه كله، واستوعبه كله وعاش فيه.
هكذا رآها أول مرة.
وهكذا أحس بها، ثمينة في دقائقها، حتى ليخاف على ملامحها من نظراته، رائعة في كلها، حتى لتروي ظمأ البشر أجمعين إلى الجمال.
وثيابها كانت بسيطة ، بل كان الجمال في بساطتها، بنطلون واسع وبلوزة، وحول عنقها إيشارب بنفسجي عقدته في إهمال بسيط مثير، كان يعبث به الهواء فيتطاير، ويبهت لونه، ويتلاشى وكأنه يستحيل إلى عطر وبنفسج.
ولم يكن أول ما وضع قدمه في الباخرة يحلم برؤيتها، بل ما كان يفكر حتى في دخول المطعم ولا العشاء، كان يومها مثل بقية المسافرين يحس بالانتقال المفاجئ من المدن والجبال والشاطئ إلى البحر والطبيعة الجديدة التي احتوته؛ ولهذا كان يشعر بقلق غامض يمور في صدره، ويدفعه للبحث عن شيء لا يدري كنهه، فراح يجوب الباخرة، ويقف ولا يدري لماذا يقف، ثم يسير ولا يدري أين يسير، ويتفرج على كل شيء، حتى على الفرشة التي ينظف بها البحار ظهر الباخرة، ويفكر في كل شيء، حتى في شيال محطة نابولي الذي لا ريب قد استغفله، ويتلكأ ليسمع حديث البحارة الإيطاليين، وتعجبه نغمة دقات العشاء، وهي تخفت وتعلو وتبتعد، ويذهب هكذا وبلا إرادة إلى المطعم، وهناك يراها، وحينئذ يدرك كنه ما ظل يبحث عنه، ويحس بالقلق الغامض يهدأ، ويصبح كالراحة الأبدية في صدره.
ولم ير شيئا سواها طيلة الأيام الأربعة، وقنع بالتحديق فيها من بعيد لبعيد، وهو يحس بها إحدى معجزات الكون، وينتشي برؤيتها، كما ينتشي برؤية السحاب المضيء، وأنوار القرى المبعثرة على جانبي مضيق مسينا، وهي تبرق في الليل كنجوم الأرض، والبحر العميق الذي لا يهجع.
لم يحاول حتى أن يعرف اسمها، ولا من أين جاءت أو مع من تقيم. ورآها ترقص «الدبكة» مع اللبنانيين، وسمعها تتحدث بالفرنسية مرة، والإنجليزية مرة أخرى، وأحب إنجليزيتها تماما مثلما أحب الفرنسية، وهي تنساب في رقة من بين شفتيها.
وظل يعبدها هكذا بنظراته إلى آخر عشاء.
وبينما الرسام في هذا، كان هناك مدرس مصري آخر عائد من البعثة مشغولا كالعادة بمزاولة هوايته في التعرف إلى الناس ومحادثتهم، وفي ذلك الوقت كان يتحدث باهتمام مع جار جديد له تعرف عليه قبل العشاء بدقائق، وكان سعيدا جدا بالفرصة التي انتظرها طويلا؛ فالرجل قد أتعبه وحيره أمره، وهو يراه لا يغير ملابس الكشافة التي ركب بها الباخرة، ولا يكل عن التجول فوق ظهر المركب برأسه قليلة الشعر، ووجهه الأحمر الشديد الحمرة، والشعر الأصفر القليل الذي حول ركبتيه المكشوفتين، والكتاب الأزرق الذي لا يتركه من يده.
حيره الرجل طويلا، حتى أتيحت له الفرصة في آخر عشاء، فعرف أنه سائح ألماني في طريقه إلى مصر، وأن الكتاب الذي في يده هو عن آثارها.
وكان بيترو هو أسهل من تعرف إليه من الناس؛ إذ بعد أن وضع حقائبه في الكابينة، وصعد إلى البوفيه، وتلفت فلم يجد إلا وجوها متعبة، عجوزا ممسكة بمجلة، وفوق عينيها نظارة، ورجلان سمينان مالت رأساهما، وراحا يتهامسان، وراهبة شديدة البياض ساهمة تحدق.
وعانس كان يبدو أنها إنجليزية جالسة ترمق الموجودين باشمئناط، ولا شيء غير هؤلاء سوى المقاعد التي تنزلق وتتخبط كلما تمايلت الباخرة فوق صدر الموج الصاعد الهابط.
ولم يجد حينئذ ما يغريه، فاتجه إلى البوفيه، وابتسم لبيترو الجرسون الواقف يعد القهوة، وكأنهما صديقان قديمان، وقال له هاشا باشا بالإيطالية: بونا سيرا.
فقال بيترو: بونا سيرا سنيور.
وهكذا انتهى كل ما يعرفه من الإيطالية، وبدأ يستعين بالإنجليزية التي ذهب إلى إنجلترا يتخصص في تدريسها، وعاد يعد الماجستيراه، ولاحظ أن بيترو يجاهد بأدبه الكسول ليلم أطراف إنجليزيته، ويجيب على أسئلته الكثيرة.
ومع هذا طال حديثه مع بيترو.
وعجب المدرس لذلك الإنسان الذي له بيت وزوجة وأولاد في فينيسيا، والذي لا صديق له سوى البحر، وقد عمل فيه ثلاثين عاما، وأصبح لا يطيق ساعة واحدة يقضيها في البر، حتى ولو قضاها في بيته وبين أولاده.
وعلى مائدة العشاء لم يكلفه الأمر أكثر من ابتسامات أربعة أصبح بعدها يعرف كل شيء عن الأربعة الجالسين بجانبه إلى مائدة العشاء.
وكان الأمس فقط هو أكثر أيامه ازدحاما، فقد عرف فيه أكثر من ثلاثين مواطنا لبنانيا عائدين من المهجر.
وكان أغرب من عرفه حقا هو اليوناني العجيب الذي ليس في رأسه شعرة واحدة سوداء، والذي لم يصدقه أبدا وهو يروي كيف ذهب إلى العراق شابا قبل الحرب الأولى ليعمل في حقول البترول هناك، وكيف ظل يعمل ويكدح، حتى انتهت الحرب الثانية. ولما أحس بالكبر وأراد أن يستريح باع كل ما يمتلكه، وعاد إلى اليونان هو وزوجته.
والذي أضحكه بحق أن اليوناني العجوز قال إنه لم يحتمل البقاء في اليونان، ولم يرتح إلى معاشرة مواطنيه، وقد مات أصدقاؤه وتفرق معارفه، وأنه أحس فعلا بالغربة في بلده، وامرأته ضاقت بلداتها اليونانيات، وكانت تبكي دائما حين يتهمنها بأن الصحراء قد خشنت طباعها وغيرتها؛ ولهذا قرر بعد شهور قليلة قضاها في اليونان أن يعود إلى العراق هو وزوجته، فقد اشتاق إلى الماء هناك، وإلى البيت الذي على نهر الفرات، والذي طالما حلم به.
ويقهقه المدرس كلما تذكر العجوز، وهو يتنهد، ويقول بلكنته العراقية الأجنبية: وين أنت شيخ جابر؟ وين أنت جافري؟ وين كلكم؟ كلكم؟
وبينما المدرس في آخر عشاء منهمكا في حديثه مع الجار الجديد الذي تعرف به، ومنهمكا في مناقشة ما يحتويه الكتاب الأزرق عن مصر، ويتحمس وهو يعطي للسائح نمرة تليفونه، ويعرض عليه مرافقته طوال فترة إقامته.
بينما هو في هذا، كان أربعة مصريين آخرين يحتلون المائدة التي بجواره، وكانت العين لا تفلت مصريتهم، وحول المائدة طربوش وجلباب، ووجوه سمراء وأفواه فيها طعام، وضحكات، وقبضات تدق، وظهور مائلة إلى الوراء كثيرا، ومائلة معها المقاعد، ونكت تترى، و«قافية» قد انهالت على الجرسون الطلياني، وهيصة، وكلام.
وكان الأربعة خدم أمير مصري قضوا معه الشتاء في نيس، ثم أرسلهم يسبقونه إلى مصر.
وكان الأوسطى شرف الطباخ مرحا على غير عادته، وكان يرتدي نفس جلبابه الإفرنجي الذي له جيب ساعة على الصدر، والذي فيه ساعة لها «كتينة» غليظة، وعلى رأسه كانت طاقيته البفتة، وذيلها محبوك على جبهته. وكان جالسا على راحته بجسده الضخم الذي في ضخامته طيبة وعنقه الغليظ السمين، ووجهه المنتفخ الأشداق الوديع القسمات، وشاربه الكث الذي تناثرت فيه شعرات بيضاء قليلة، وكان الأوسطى يرف بعينه إلى المرأة الرومية البدينة، ويقشعر جسده، فيخفي القشعريرة بضحكة عالية تتردد بين أشداقه.
ومنذ حادثة البوفيه والمرأة تكهربه كلما رآها، فهو قد ركب الباخرة بعد أن قضى في بلاد الناس شهورا طويلة عانى في أثنائها ما عانى من الحنين إلى امرأته فردوس وسروالها البمبي المشغول بالدانتلا، والذي يصل إلى الركبة، وكان أحيانا يضعف، ولكنه كان لا يطيق أبدا أن يرتكب الفحشاء، ولو بالنظر، وحين احتوته الباخرة كان لا يزال عند تصميمه الأكيد، ولكن تلك المرأة ذات الأرداف، أعوذ بالله، هل سلطها الشيطان عليه؟ لقد كان جالسا في أمان الله في البوفيه يومها يلعب «الولد يقش» مع عوض أفندي، ومن حيث لا يدري ولا يعلم وجدها واقفة بجواره تبتسم، وحدث أن مالت الباخرة، فجعلت المرأة تكاد تلتصق به، أو على وجه التحديد جعلت ردفها الأيمن يلطشه في جانبه، ومن ساعتها وكلما رآها وقف شعر رأسه، بل وقف شعر جسده كله.
وكان عوض أفندي كالعادة جالسا بجواره، وعينه لا تفارق الطبق الذي أمامه، وطربوشه محكم الوضع على رأسه، ووجهه الأسمر هادئ لا اضطراب فيه، ولا يلمع منه في الضوء إلا مكان العصفورتين اللتين كانتا مرسومتين على جانبي وجنته، ثم أزالهما بماء النار، وبقي مكانهما لأبيض يلمع، وكان عوض أفندي هو المختص بقهوة الأمير وتقديمها، وهو الذي عليه انتقاء البن وتذوقه وضبط السكر.
وكان ابن حلال لا يعرف لفا ولا دورانا، وقد قضى أيام الرحلة كلها يقرأ في المصحف الذي يحمله معه دائما، حتى كاد يختم الربعة، وكان هناك شيء خطير يشغله ويربكه ويسد نفسه؛ فهو كان يصلي على ملاءة السرير، وظل يصلي عليها طوال الرحلة وما أدراه أن الملاءة طاهرة والناس الذين في الباخرة لا يعرفون طهارة أو يحزنون؟
والأدهى من هذا أنه لا يجد أحدا على الباخرة يفتيه، وكل من عليها فسقة لا يصلون.
أما الأوسطى حامد الجالس ووجهه في الحائط المقابل، فقد كان سائق الأمير الخاص، وكان لهذا أتعسهم جميعا. وكانت العربة الجديدة سبب تعاسته؛ فقد اشتراها الأمير من أوروبا، وكان على حامد أن يتولى شحنها على نفس الباخرة، وقد فعل هذا على أتم ما يرام، ولكنها أصيبت بخدش واضح.
ولم يفكر حامد أثناء المجيء كله إلا في ذلك الخدش، وكيف يداويه، وهل يفلح في إخفائه عن عين الأمير الذي شغف بالعربة وجن بها، خاصة وهو الآن لا ريب قد وصل مصر من زمن، وينتظرها على أحر من الجمر، ولم يفكر إلا في هذا، ولم ير إلا وجه الأمير الغاضب وعقله الصغير، ولسانه وهو يرطن بالتركية ويرفده.
وعلى عكسه، كانت الدنيا لا تسع سعد الله السفرجي، وقد اشترى بكل ماهيته بدلة، أول بدلة في حياته، ولم يلبسها من ساعة أن اشتراها، وإنما تركها في صندوقها الكرتون الكبير، وكل ليلة كان يفتح الصندوق، ويخرج السترة ويتلمسها، وأحيانا يرتديها ويخطر بها أمام المرآة، ثم يخلعها ويطويها ويعيدها إلى مكانها في الصندوق، وقضى الرحلة كلها وهو سعيد بملمسها الدافئ، وبجيبها الداخلي الصغير الذي توضع فيه الفكة، ولا يستطيع أن يتخيل بالمرة أنه سيرتديها يوما ويصبح أفنديا.
أما السابع، فقد كان ينزوي في آخر عشاء في ركنه المعهود لا يعجبه ضجيج مواطنيه، وتشمئز له نفسه، وتنتابه موجات الضيق، وهو يشاهد مواطنه الآخر المدرس الذي لا يمل الاحتكاك بالناس ولا التظرف إليهم. وكان السابع عائدا من البعثة كالمدرس والرسام بعد أن أخذ الدكتوراه في قانون من القوانين، وكان مفروضا أن يعود في الدرجة الثانية، ولكنه آثر أن يحصل على الفرق، ويعود في الثالثة، وكانت مشاغله أكثر من أن تسعها الثانية والثالثة معا، أربعة وثلاثون طردا معه، فيها هدايا وتحف وأشياء عانى في نقلها العذاب الأليم، ومن قبل أن تبدأ الرحلة وهو مهموم يدبر كل تصرفاته يوم الوصول، وكم يأخذون في الجمرك، أو هل يعدونه يا ترى تاجرا.
وكان على العشاء الأخير يحدج مواطنيه، ويحسدهم على قلوبهم الخالية وضحكاتهم التي لا هم فيها. •••
وانتهى العشاء.
وتسلل المسافرون إلى الشرفة التي أمام المطعم.
واستند بعضهم إلى الحاجز، ومشي البعض متلكئا، وجلس آخرون.
وكانت الدنيا رائعة.
ظلام ليس أجمل من النجوم تملؤه، ونجوم ليس أجمل من الظلام يحيطها، وهدير البحر يتدفق إلى الآذان وكأنه آت من حناجر ملايين معذبة تعيش في أماكن مجهولة وراء الليل، واهتزازات موتور الباخرة التي يرتج لها كل شيء لا تنقطع، والطلاء الأبيض الذي يلون حتى الحبال، والأضواء الكثيرة التي تحيل الباخرة إلى نجفة كبيرة عائمة في الظلام.
وتوقف الرسام لا يتحرك، وقد بلغت به النشوة حد السكون والاستسلام، وأحس بخياله يمضي على وقع دقات المحرك واهتزازاته، ويجتاز ذلك الحاجز الرقيق الذي يفصل بين حياته وأحلامه، فيعيش وكأنه يحلم، ويحلم وكأن أحلامه حياة.
وصحا على قبلة عبرت بأحلامه، فدق الحاجز بيده كما لو كان يثور، وأخذ طريقه إلى الفراش وهو ساخط على نفسه وضعفه واكتفائه بمشاهدة الفتاة، وكأنها طبيعة صامتة، لا حياة فيها ولا حياة فيه. ولما احتواه الفراش لم ينم، ولكنه راح يتقلب ويثور ويؤكد لنفسه ما استقر عليه عزمه، وكان قد قرر أن يبقى في الباخرة حتى تنجلي الزحمة، ثم يذهب إلى الفتاة ويحدثها، ويطلب منها بلباقة في آخر الحديث أن تقضي معه بضع ساعات في الإسكندرية، حتى يحين ميعاد إقلاع الباخرة.
ونام أخيرا وهو يرقب المحادثة التي سوف تدور، وينتقي كلماتها، بل ويجرب نفسه حين ينطقها.
والتهم المدرس عشاءه كالموهوم، ومضى حالا إلى فراشه، فقد عرف من أحد جيرانه أن وكيل وزارة المعارف مسافر في الدرجة الأولى على نفس الباخرة، وكان عليه أن يتعرف به؛ إذ من يدري؟ ربما؟! ربما أقنعه بكفاءته؟! وجائز جدا أن يقتنع، وجائز أن يعينه ناظر مدرسة أو على الأقل مدرسا أول في القاهرة، وفكر ثانية واحدة في الغد، وكيف سيجد المنيرة؟ لا بد أن أحداثا كثيرة قد وقعت. لا بد أن البواب العجوز قد مات، وصبي موقف التاكسي قد أصبح سائقا. وما لبث أن عاد إلى الوكيل، وظل يفكر ويرتب الأمر بكل دقة حتى أصبحت كل خطوة كاملة العدة في عقله، وأحس بعقله المتعب يرتاح وتثاءب.
وفي نفس الوقت كان الأوسطى شرف راقدا في الفراش، ونار موقدة تحت ظهره، ويده تعبث بشاربه، وتزن ابتسامة المرأة الرومية البدينة التي لوحته بها على العشاء، ويديرها على كل وجه، وقال وهو ينفث زفيره بحرقة: آه لو الواحد يقنيها.
وقطع عوض أفندي صلاته وسلم وسأله عما يقول.
ولم يجبه الأوسطى شرف فلحظتها كان بالتحديد في ليلة الدخلة، والباب موصد عليه وعلى ذات الأرداف، ثم وجد نفسه يستعيذ بالله من فكرة كانت تحوم حوله وتلح ولا ينفع فيها نش، وكان آخر ما رأته عيناه ازدحام الناس الشديد، وتدافعهم والمرأة أمامه، وداهمه النوم قبل أن يطرد الفكرة أو يستعيذ بالله.
واستأنف عوض أفندي صلاته وهو يقضي فروض الأيام التي مضت، وقد أدرك أخيرا أن الملاءة التي اعتاد الصلاة عليها غير كاملة الطهر.
ولما انتهى وقبل أن يطفئ النور جاء حامد، وكان قد ذهب للمرة المائة يرى الخدش، ووجد أنه أخطر مما كان يحسب، وأن رفته لا جدال فيه ولا شك.
وسأله عوض أفندي عن الساعة، فأجابه حامد وهو يتسلق سرير الأوسطى شرف ليصل إلى فراشه، وعاد عوض أفندي يسأله ويكذب ساعته، وبعد إصرار ومناوشات أدرك عوض أفندي مرعوبا أنه نسي تقديم ساعته، فظلت دائرة بتوقيت أوروبا، ومعنى هذا أن كل ما فات من صلاته باطل.
وفيما كان حامد يريح جسده المنهك برقت في ذهنه فكرة جهنمية، فماذا يحدث لو طلى الخدش بورنيش حذائه ليداريه؟ وبعد أن يمر أول يوم يصلحه على حسابه؟ وهل إذا فاتت على الأمير تفوت على الوكيل؟ كل شيء محتمل، ولكن ليس لديه خيار. وحين جاء النوم كانت البطالة وأيامها السود تجذبه من ناحية، والأمل يداعبه من ناحية أخرى، ولكن على أي الحالين كان طلاء الخدش أول ما يجب عليه في الصباح.
وأطفأ عوض أفندي النور والحزن يأكل قلبه على الفروض الضائعة، وحين كان يقرأ آية الكرسي ويلف يده حول رأسه كان قد صمم على أن يقضي الفروض كلها قبل مغادرة الباخرة، فيصلي الفجر، وينوي بعده للقضاء. ونام وهو يتمتم: إن شاء الله.
وفي ذلك الوقت كان دكتور القانون يبحث عن طرد ناقص، ووجده أخيرا تحت الفوطة، وابتسم للطرحة السوداء والفستان الحرير التي يحتويها الطرد، والتي أحضرها لأمه، ورأى نفسه دون أن يدري في قريتهم، والناس يقولون يا دكتور، ويسألونه عن أوروبا، والتهاني، وبابهم الكبير المفتوح، وأمه تحاول من فرحتها أن تزغرد وهو يخجل ويمنعها.
وعاد إلى نفسه وراح يحسب كل دقيقة من ساعات الصبح، ويحدد أين يقف وعدد الشيالين، ويوصي نفسه بالمحاسبة على طرد البللور، ويخمن المبلغ الذي سيسكت به موظف الجمرك، وتعب عقله ونام. ومع هذا كانت تتصاعد منه بين الحين والحين غمغمات تدور كلها حول الطرود.
وكان سعد الله السفرجي آخر من أوى إلى كابينته، فليلتها ذهب كما تعود إلى بيترو، وعب من خمره التي بلا ضرائب أو جمارك حتى ارتوى وفضفض كل ما عنده من إنجليزية وعربية وسريانية، واستمر يبحث عن الممر المؤدي إلى الكابينة، حتى عثر عليه الخادم السهران فقاده إليها، وما إن دخل حتى تهاوى جالسا على الأرض، وأتعبه الجلوس فتمدد لا يلوي على شيء، وعثرت يده حين فردها على صندوقه الكرتون، وفي داخل الصندوق ملست أصابعه على صوف البدلة الخشن، ورفت بذهنه المدووش ومضات، النادي النوبي، أبو عفان، الواقفة تحت المصباح في ميدان سليمان، والواحد مبسوط، البدلة.
ولدى ذكرها راق مخه تماما، وأقسم أنه لن ينزل من الباخرة إلا وقد ارتداها، ووضع يده في جيب بنطلونه، بنطلونه. •••
واستيقظ السبعة.
وكان الواحد منهم حين يفتح عينيه، ويرى الضوء منتشرا على غير العادة، يتولاه خوف داهم، وكأنه تلميذ صحا بعد فوات الامتحان، ولا تكاد دقيقة واحدة تمضي عليه إلا ويكون مندفعا إلى ظهر الباخرة كالسهم، وهو لا يدري ما الذي يدفعه؟
حتى عوض أفندي الذي كان أول من صحا، لما ذهب ليتوضأ، أحس بشيء كالهاتف يأمره، فترك الوضوء وأسرع إلى فوق.
وكان دكتور القانون هو الوحيد الذي وقف على باب الكابينة يحرس الطرود، ويروح ويغدو وثمة قلق ينهش خطواته.
وكان الصاعد إلى الظهر يذهله السكون المستتب، فالباخرة تنساب بنعومة فوق البحر الذي هدأت أمواجه، والدنيا فيها سكون الصبح المبكر، والناس كثيرون متشبثون بالحاجز، ويفتشون بأنظارهم الأفق، ولا يجدون شيئا، ومع هذا يزدادون تشبثا، وتصطبغ ملامحهم بترقب عظيم كالذي يتوقع أنباء هامة، أو يتطلع إلى معجزة.
وكانت طيور النورس هي الوحيدة التي تحدث ضجيجا صغيرا مفاجئا حين تنقض على سطح الماء وترتطم به.
وأظلم الأفق قليلا، ثم أشرق على خط رمادي طويل.
وسرت همهمة، هي، مش هي، دي سحابة، لسه بعيد.
وأطلقت الباخرة صفارة لها ضجيج مبحوح مرتعش.
وأبطأت من سيرها، وانخفض أزيز المحرك.
وصفت زرقة السماء، حتى أصبح لا يعادلها إلا زرقة البحر.
ومن بين الزرقتين أهل موكب الشمس، وظهرت طلائعها، ثم بدأ القرص الأحمر الكبير والهيبة تحيطه يتقدم في بطء وجلال.
ومضت الباخرة في حرص هادئ كالحبيبة حين تتسلل إلى لقاء الحبيب، والناس فوقها يرقبون تعاقب الألوان والمشاهد، وكأنهم يتابعون أحداثا مثيرة على شاشة عرضها السموات والأرض.
ومن حيث لا يتوقع أحد ارتفع صوت نسائي له رخامة الصبح المبكر يقول: ماريا، فرانشسكا، لينا، سيلفانا.
وتعالى صخب أربع بنات صغيرات كأنهن جئن في بطن واحدة، واستطرد الصوت الرخيم يقول: كويستا، إيجيتو، ماريا، كويستا، الساندريا.
وتحولت العيون إلى مكان الصوت؛ حيث كانت تقف أم إيطالية على صندوق قديم حائرة موزعة بين بناتها اللائي حملت واحدة منهن، والباقيات يصرخن ويجذبنها من ثوبها، ويقرصنها، وبين رغبتها في رؤية الخط الذي عند نهاية الأفق، وهو يتحول إلى أرض.
وأيقظت ضجة الصغيرات الناس من ترقبهم وانبهارهم.
وخبط الأوسطى شرف حامد على كتفه، ثم ضمه وهو يهتز ويقول: واد يا حمادة، ولا يا حمادة، وصلنا يا واد.
وسكت قليلا، ولما تبين أن التي على مرمى البصر أرض حقيقية انتابته الخفة: والنبي هيه، بلدنا أهه، يا سلام يا جدعان.
وكان سعد الله يقول لعوض أفندي: وصلنا يا عم عوض؟! - وصلنا يا أبو السعود. - ودي مصر يا عم عوض؟! - والنبي مصر يا خويا. - وعشنا وشفناها؟ - وشفناها. - أم الدنيا؟! - أم الدنيا؟! - ووصلنا؟
وتلفت عوض أفندي إلى الواقفين غير مصدق، وأحس بنفسه يستعيد عنفوان شبابه، وكل ما فيه مرح، وهو يسمع الأفواه تردد مصر، إيجيبت ، إيجيتو، ليجيبت، الساندريا، كايرو، ألكس.
وغير بعيد كان يدور بين المدرس والرسام أول حوار لهما على الباخرة، وهما واقفان كتفا إلى كتف وعيونهما عند الشاطئ البعيد: يا أخي ليها وحشة. - ياه، الواحد نفسه في قرص طعمية سخن. - الله، دي فعلا ليها، الله، الواحد قلبه بيدق. - بقى هي دي اللي الواحد سابها قرفان. - بزمتك مش شامم الريحة؟ - شوف الراجل ومراته لازقين في بعض وعمالين يبصوا إزاي؟ - صحيح! ريحة! والنبي مصر لها ريحة، بزمتك مش شامم. - يا ترى أخبارك إيه يا مصر؟ ومين مات ومين عاش؟
وعاد المدرس بأنظاره إلى الناس، ورأى الراهبة واقفة متجهة إلى حيث تتجه العيون ووجهها أبيض قد كسته حمرة طارئة، وشفتاها تتمتمان بشيء وكأنها تستقبل المذبح.
ورأى كذلك اليوناني العجوز الذاهب إلى العراق، فقال له بصوت لا ضابط له: أم الدنيا أهه يا خواجة.
وابتسم العجوز وقال: لا خبيبي، لا، أنا واحد أمي هناك، عند الفرات، وضحك المدرس أطول وأعمق ضحكة جرؤ عليها من أربع سنين.
ولم يعد يحتمل الدكتور وهو يسمع المولد المنصوب على ظهر الباخرة، ولا يرى شيئا، وما كاد يلمح أحد البحارة حتى أوصاه بالطرود على عجل، ثم طار إلى الظهر.
ودوت صفارة الباخرة طويلة ممدودة هذه المرة.
وأقبل لنش بخاري فيه بحار، وفيه عساكر وضباط، وحين كان اللنش يدور حول نفسه ليرسو خلع قائد اللنش طربوشه ولوح به قائلا بترحيب طيب، لا ادعاء فيه: حمد الله عالسلامة يا جماعة، حمد الله عالسلامة.
واندفع الأوسطى شرف يقول بصوت كالرعد: الله يسلمك، ميت فل عليك.
وسكت يستجمع أنفاسه، ثم انفجر بكل ما يملك. - تحيا مصر يا جدعان، والنبي تحيا مصر، الله، هو احنا لنا غيرها يا اخوانا، والنبي لولا بركتها ما نساوي بصلة، الله دي بلدنا! دي بلدنا يا رجالة والا إيه؟!
وتهدج صوته حتى ظن الناس أنه يبكي.
وأصبحت الإسكندرية تملأ الأفق، وبدت كبيرة لا تحدها الرؤيا، وبدت الباخرة إلى جوارها كالسردينة الميتة الطافية.
وبعد هذا نسي السبعة أنفسهم، ولم يعوا وهم يختمون الجوازات ، ويحضرون الأمتعة، ويتعاونون على حمل طرود الدكتور وقد انتابتهم خفة الأطفال في يوم العيد.
وعلا الضجيج حتى أصبح الصارخ لا يسمع نفسه.
ولاح الرصيف.
المرجيحة
لم تكن الضجة التي يثيرها الصغار تهم عبد اللطيف في ذلك اليوم، لا هي ولا غيرها من مهام الحياة أو توافهها، فقد كان يوم العيد، العيد الكبير، اليوم الذي أنتظره شهرين كاملين، وهو يحسب له ويعد ويختلف مع امرأته في العد والحساب، حتى جاء.
وخيل لعبد اللطيف - وقد طال انتظاره - أن اليوم سيأتي فجأة، كبيرا، واسعا، عريضا، ولكنه عندما جاء لم يكن كذلك أبدا، أشرق فجره، ثم نما صبحه، وكبر ضحاه في بساطة وبلا تهليل، تماما كما يدفع هو بيده «المرجيحة» لترتد إليه بعد ذلك متبخترة متمايلة، فيها ما فيها من الأطفال، وقد اندس بينهم بعض الكبار، كان اليوم في بساطة قدومه كالزمن وهو يدفع «مرجيحة» الحياة بيده القوية، فتذهب أيامنا وتجيء ليالينا هكذا في يسر وبلا ضوضاء، وإنما نحن الذين نصخب، ونحن الذين نصرخ، ثم نحن الذين نلعن الزمن بعد ذلك، ونسخط على الأيام.
وقف عبد اللطيف يدفع المرجيحة بيده، ويمد يده الأخرى يتحسس الملاليم التي تتلاصق في جيبه، ويفركها بأصابعه ويرنها في راحته، ويحس بنشوة كتلك التي يحسها حين يعب أول نفس من الجوزة في الصباح، فلم يكن يرى فيها ملاليم، ولم يكن يرى فيها أنها لا تساوي ورقة صغيرة من ذات العشرة قروش، وإنما كان يرى في ملمسها غير الناعم حلما بأكمله ظل يعيش فيه شهرين طويلين كئيبين.
ولا يتركه إحساسه بجيبه وقد امتلأ، إلا حين يسلمه إلى ذكريات أيامه، أيام كان يكسب ملء جيوبه قروشا وعشرات، ثم لا تذهب بعيدا، فقد كان يضيعها على كيفه ومزاجه، ولا يندم، فهو صاحب كار متين وهو أحد أفراد عائلة النجارين، العائلة التي عن لجدها أن ينفض يده من الزراعة، وقد زهق منها، فتعلم النجارة بعد عناء وأورث أولاده وأحفاده الحرفة، حتى حذقوها واحتكروها، ثم تفرقوا وتناثروا في أرجاء البلدة وما جاورها من البلاد.
وعبد اللطيف لا يكدب على نفسه، فليست النجارة في القرية في حاجة إلى فن وحذق بقدر ما هي في حاجة إلى قوة وساعد، ولم يكن عبد اللطيف يملك كليهما، كان مريضا، تسربت البلهارسيا إلى مثانته حتى أفقدته القدرة على التحكم في نفسه، وتناثر مرضه حوله، وتهامس الناس به، وتهامسوا معه باللقب الجديد الذي أطلقوه عليه «الطاجن» المشروخ. ولم يلبث هو أيضا أن اعترف بينه وبين نفسه أنه مشروخ، وأنه مريض، وأنه لن يكون أبدا كجودة ذي الساعد الممتلئ الغليظ الذي تنفر عضلات يده عندما يمسك بالقدم كأنها جذع نخلة «حياني»، ولم يكون كأبي خليل الذي يوقف الساقية الحديد وحده، وهو يضحك فتردد الساقية الجوفاء رعدات ضحكه.
إنه ضعيف مسلوب القوة، وكان يرقب - من خلال وهنه وعجزه - نصيبه من سنويات القرية وهو يصغر ويصغر. كان يرقبه في مرارة معتلة وحقد ضعيف واهن، فالناس ما عادوا يأتمنون قوته على سواقيهم ومحاريثهم وفئوسهم، وإنما يلجئون لغيره من أفراد العائلة القوية، ويلجئونه معهم إلى أن يترك بدوره صناعة المحاريث وإصلاح السواقي إلى عمل الطبالي الصغيرة ومفاتيح الأبواب الخشبية، وإلى أن يسعى إليه الناس حين يلم بهم عرس، حتى يركب الدولاب أو ينصب السرير.
وكان نتاج هذه جميعها والحمد لله يكفي أن ينعم عبد اللطيف وامرأته وابنه وابنته بالرطل والنصف من اللحم كل يوم ثلاثاء، ويكفي أن يشتري حصيرة يرقدون عليها كل سنة، وأن يضيف إلى سقف وسط الدار المكشوف قطعة خشبية جديدة كل ستة أشهر، ولكنه لم يكن يكفي أن يسد مطالب الأفواه اللاصقة برقبته، فلا هو يقفل فم امرأته على قطعة لبان ولا يطبق فم ابنته على فص برتقال، ولا يكفي ابنه. لعنة الله على ابنه، هذا القزم الذي ظن يوم بشرته به الحاجة صباح أنه سيكون قوته المسلوبة وجذع النخلة الذي ينقصه، فإذا به ينشأ هكذا أصفر عليلا معوج الجذع والساق. - كده يا محمد ماشوفش فيك يوم راجي.
كانت هذه الكلمات على لسانه طول اليوم، كان يتوقع من ابنه الكثير، ولا يرحم ابنه حين لا يستطيع إلا أقل القليل، إنه لم يعلمه كيف يمسك الكماشة ليقتلع بها المسمار إلا بعد أن أصابه بأربعة جروح لا زالت بيضاء في رأسه، وبعد أن قذف به في الترعة مرتين، ومع ذلك فلم يستطع أن يمسك بها أبدا على الأصول!
كان عبد اللطيف يجتر كل هذا، ثم يكز على أسنانه، ويطلب من امرأته في جفوة أن تحضر له العدة والجوزة، ويرتشف في نهم من كوب الشاي الأسود، ويعب الدخان الكثيف الأزرق من الكرسي، ويشد الحزام الصوف إلى وسطه، ثم يفك حصره مرة أو مرات، ويستنزل اللعنات على أجداد ابنه، ثم يبصق في يده، ويمسك القدوم، ويعمل على مهل، وفي اشمئزاز ضعيف مقهور.
يعمل على مهل وامرأته الحلوة تختلس النظرات إليه من تحت أهدابها الطويلة، وقد ربطت رأسها بالقمطة الحمراء وسبسبت شعرها الأسود المجعد اللامع، حتى يبين طرفه من القمطة، ومدت رجلها البيضاء الممتلئة فبان قدمها النظيف الذي قضت وقتا طويلا في حكه بالحجر.
تختلس النظرات إليه وهو لا يدري أهذا الذي في وجهها ابتسام أم هو براعم ضحكة ستنفجر بعد حين. وعندما يكل ساعد عبد اللطيف - وما أقرب ما يكل - ينظر لها بعين فيها حمرة خابية، وفيها حيرة، وبوجه تائه مشحون ويكاد يقول: آه يا نبوية يا قتلاني.
والحق أنها كانت تقتله، وكانت تدفعه تحت جنح الظلام إلى الفص الأسود يغتصبه من تاجر الأفيون، وهو يقول له في غيظ: بكرة يا أخي أديلك.
كانت تقتله؛ لأنه كان يأكل ويستحلب لعاب شهيته وهو يمضغ حتى يستطيع أن يجرع كوب الشاي، وكان يقبض على الكوب بيده وتترنم أذنه بالنغم الذي يصدره وهو يحتسي السائل الأسود اللزج، ليتبعه بأنفاس الدخان.
وكان يأكل ويشرب الشاي، ويذيب الفص، ويلتهم الدخان؛ ليقضي الليل بطوله ويده تعبث بشعر امرأته الأسود المسبسب، بينما قمطتها قد انحلت، وتاهت في المخدة.
ولم تكن المشكلة تنتهي بانقضاء الليل، ولا بمضي الليالي، وإنما كان يراود عبد اللطيف السؤال الحائر: ترى هل نبوية قانعة بما يقدمه لها؟
وإذا راجع أخماسه وأسداسه واقتنع أو استطاع بوسيلة ما أن يضحك على نفسه ويقتنع، فإنه يسأل نفسه مرة أخرى وفي سؤاله شك مرتجف: وحكاية الطاجن المشروخ هذا، ترى هل وصلتها هي الأخرى؟ وهل إن كانت وصلتها قد أسقطته من عينها؟ تلك أسئلة كانت تدور بخلده، وإنما كان يتهيها بعينيه الحائرتين ترمقان نبوية في شك وفي لهفة وهما تقولان مرة أخرى: آه يا نبوية يا قتلاني. •••
اليوم يوم العيد.
وعبد اللطيف قد اطمأن على نفسه بعد أن اختطف نظرة إلى هندامه في مرآة الدولاب القديم الذي دخل به، ورأى شاربه الرفيع متهدلا حول فمه كما يحب أن يراه، ورأى وجهه الأصفر النحيل قد اجتز منه الأوسطى عبد السميع شعيرات ذقنه، فبدا ناعما رغم ما به من حفر قديمة، بل بدأت خيوط من حمرة باهتة صنعتها الموسى تتبعثر في وجهه كما يحمر شفق يوم مغبر حين يظهر القمر.
اليوم يوم العيد، اليوم الذي تناسى عبد اللطيف ضعفه، وتناسى وعاءه المشروخ، وتناسى زحمة الحياة بين النجارين التي دفعته إلى نصب المرجيحة في العيد، وأن يقف بجوارها هكذا حليق الذقن مرتديا ثوبه الأبيض الجديد الذي اشتراه من ثلاث سنوات، واحتفظ به للمناسبات. تناسى هذا كله، ولم يعد يذكر إلا الملاليم التي تعمر جيبه، وإلا المرجيحة التي نصبها جودة، ثم لم يكسب من ورائها شيئا. كان جودة عملاقا قويا؛ ولهذا لم يفز بنصيب من ثروة الصغار، فقد كانوا يخافونه، ولا يطمئنون أبدا إلى يده الضخمة حين تدفع المرجيحة، فتقذف بها إلى كبد السماء؛ ولهذا كانوا يستريحون لعبد اللطيف، ولعبته القديمة، ويده النحيلة التي لن تعلقهم أبدا بين الأرض والسماء.
وأسعد هذا عبد اللطيف، أسعده أن يرى نفسه قد انتصر ولو ساعات قليلة كل عام، أسعده أن يتجمع الأطفال حوله، وأن يتعلقوا بجلبابه، وأن يصرخوا منادين: والنبي يا عم عبد اللطيف، وأن يحجزوا أماكنهم قبل حلول دورهم بأدوار، وأن يشخط هو فرحا ويصرخ منتشيا. وكان أول ما فكر فيه حين سرت النسوة في جثته أن يغني، يغني بأعلى صوته حتى يصل غناؤه إلى أسماع جودة، يغني ويرد الصغار عليه، ويحمسهم هو ويطيل في أشواطهم حتى يرفعوا عقيرتهم أكثر وأكثر لينفجر جودة.
وكان الأطفال دائما مع المنتصر، وكذلك كانوا يتجمعون حول عبد اللطيف وحول قطع الأخشاب الأربع التي تمسك بمرجيحته العتيقة.
وكان هذا التجمع الكثير من أطفال معظمهم يشاهد العيد، ويحضر إلى المراجيح لأول مرة في حياته. كان هذا السبب في الصرخة المدوية التي انبثقت من راكبي المرجيحة، وفي الصدمة القوية التي سبقت الصرخة، وفي سالم ابن العمدة، وقد تكوم على الأرض لا حراك به، والدم يندفع في غزارة من جرح عميق في رأسه بعد أن صرعه مقدم المرجيحة، وهو واقف يشاهد هبوطها وصعودها في سذاجة وبلاهة. - مات، مات يا ولاد، ابن العمدة مات، يا خرابك يا عبد اللطيف.
وكان يكفي لخراب عبد اللطيف أن يشتم ابن العمدة، أو لا يقف إجلالا للعمدة. فما بالك وقد جرح سالم جرحا لم يقتله، وإنما سالت له دماؤه في كثرة.
وحين جروه إلى المركز وسألوه كثيرا قبل أن يلقوا به في الحجز المظلم، كان هو قد شبع من كل إحساس، حتى استوى فوق غيبوبة من شعوره فلم يعد يهمه أن ذبحوه أو خنقوه. وماذا يأخذون منه هو الراقد فوق بلاط السجن، وقد ساب على نفسه، واصفر جلده وراح في دنيا غير دنيانا؟!
ولم يمكث عبد اللطيف في السجن كثيرا؛ لأنه مات، ويحكون أنه قال قبل أن يذهب: البركة فيك يا محمد، يا ابني.
ولم تحل البركة بمحمد، وإنما حل به المرض وامتلأ بطنه بالماء، وأطلق عليه رفاقه لقب محمد الزير، وكان ثقل بطنه يضطره إلى الرقاد أياما كثيرة في دارهم، تاركا الطبالي والمحاريث والفئوس تتكوم وراء الباب، حتى يأتي أصحابها، وقد يئسوا من إصلاحها، فيأخذوها بعد أن يتبادلوا الألقاب مع أمه نبوية. وجاء اليوم الذي خلا فيه كل ما وراء الباب.
وكان محمد في خلال رقداته الكثيرة الطويلة يتساءل في عجب وفي دهاء مريض: من أين يأكلون؟
ولم تكن إجابة السؤال تهمه أو تهم أخته أو أمه، ولكن أهل القرية وعائلة النجارين خاصة كانوا يهتمون، وكانوا يقضون الليالي الطوال في مناقشة المصدر الذي يبقيهم أحياء، وفي المناقشات تدلف طاقية المعلم أحمد الوبر و«لاسته» الحريرية، وحذاؤه «الأجلسيه» اللامع.
والمعلم نمر كبير، نمر يحمل في جيبه علبة فيها الحشيش مقطعا وملفوفا في ورق شفاف، وفيها الأفيون يرقد في أبنوسية العنبر، ويحمل بجانب العلبة محفظة تمتلئ دائما بالأوراق الخضراء، وفوق العلبة والمحفظة أكتافه العريضة، ومن أعلى أكتافه تبرز رأسه التي تعرف من أين تفتح الأبواب.
وكان عبد اللطيف قبل موته قد ارتكب هفوة صغيرة، فقد مات وعليه لأحمد حساب. وكان المعلم يعرف كيف يحيل الحساب الصغير بدراية وخفة وفهلوة إلى قبضة رقيقة متلصصة يطرق بها باب المرحوم، فتفتح له نبوية وفوق فمها ابتسامة.
وكان محمد في رقدته فوق الفرن يتساءل في مكر أيضا، بينه وبين نفسه، عن قمطة أمه الحمراء النظيفة، وعينيها اللتين كثيرا ما زارهما الكحل، وخدودها الملتهبة، وكعوبها التي يقفز منها الدم. كل هذا ولم يمض على وفاة أبيه شهران، يتساءل محمد، ثم لا يهتم بالإجابة، فقد كان ينظر إلى بطنه العالي، وقد أخفى الدنيا عن عينيه ولم يعد يربطه بالوجود إلا يد أمه البضة، وهي تحمل له كوب الشاب العلقم، وتقول في رفق ونعومة: خد يا اخويا، خليك تخف.
ولم يتحمل يوما كل هذا.
كانت أمه قد فرغت من الخبيز وأرقدته فوق الفرن الملتهب، حتى تصبب عرقا وحمت عظامه، فقال لها بصوت جعله أضعف ما يستطيع: ألا يا أما المعلم أحمد بييجي كتير ليه؟
واحمرت خدود أمه، وابتسمت، ثم تضاحكت وقالت له وقد بانت أسنانها البيضاء الحلوة: يعني ما انتاش عارف ليه؟
فقال في سذاجة حقيقية: لا والنبي.
فغمزت بعينها، وقالت هامسة وهي تشير إلى الغرفة: أصله بيتكلم على أختك.
وبردت عظام محمد، وذهب العرق عنه، وانزاح عن خاطره هم كثير. وصدق هذا، بل لم يجد مانعا لديه أن ينام أحمد في بيتهم، بل يكاد يقيم في النهاية معهم حين قرأ فاتحة أخته.
وكان محمد ينام كثيرا فليس له عمل إلا النوم، وكان لا يشعر بالحياة، وهي تمضي إلا حين يخف الظلام، فيعرف أن النهار قد حل، وانتشرت معه ذرات الغبار التي تثيرها أخته حين تكنس أرض الدار، ولا يشعر بحياة من حوله إلا حين تسقيه أمه الشاي، أو تحضر له أخته الغذاء، أو يغمزه المعلم أحمد بقرش الحلاوة الطحينية.
ومع هذا، فمن خلال الطاقة الضيقة المعتمة التي يطل منها على الحياة، لم يفته أن يراعي التنافس الذي استوى على أقدامه بين أمه وأخته في جلي الكعوب، وتسريح الشعر، وقرص الخدود حتى تحمر. ولم يفته أيضا أن أمه وأخته أصبحتا وكأن لا هم لهما إلا إرضاؤه والتنافس على تلبية إشاراته ورغائبه. وكان المعلم أكثر منهما.
وفي يوم تناول فيه محمد إفطاره من اللبن الرائب، ثم تقيأه ولم يكف عن القيء إلا الظهر حين غاب عن الوعي.
وزار البيت في هذا اليوم عدد كبير من الناس، وانعقدت مجالس وفضت مجالس، ودار الشاي مرات ومرات، وأخرج المعلم في كل مرة علبته من جيبه ليحلي أقداح القهوة، وكان آخر المجالس ذلك الذي دارت فيه الجوزة، وانتشت الأكواب، واستمر إلى ما بعد منتصف الليل.
واستقر الرأي بعد هذا كله على ذهاب محمد إلى طبيب البندر في الصباح.
ومن الفجر دارت نبوية تقرع الأبواب لتستعير حمارا يوصل ابنها، وقرعت الأبواب مرات كثيرة دون جدوى. وما كان للحمار أن يأتي إلا من خلال المعلم ومن تحت أهداب علبته، وقد جاء.
ورآه الطبيب، وبعد كلمة من هنا وجنيه من هناك، حجز محمد في مستشفى المركز.
وغاب محمد بعد هذا عن وعي الناس والقرية، وشيئا فشيئا عن وعي المعلم وأمه ثم أخته. •••
كانت الأحاديث على ظهور الأفران أو فوق المصاطب تبدأ بأمشير وما فعله في الأرض والناس، والسكر الذي تأخر صرفه، وتقاوي القمح الفاسدة، ثم تنتهي بفاتحة البنت التي قرأها المعلم.
وكان يعقبها أو يسبقها قصة شعر أمها المسبسب، وشبشبها العالي واللبانة التي تطرقع في فمها، ثم حداقة المعلم وفهلوته .
وقد يتحد الناس ويأتلفون حول أي شيء، ولكنهم ينقسمون دائما ويختلفون على من يقع عليها الاختيار، وهل يتزوج المعلم البنت أو أمها.
وتستمر الإشاعات رائحة غادية، تعيد قصة المرجيحة التي كان ينصبها عبد اللطيف كل عيد، ويظل المعلم هو الآخر يروح ويجيء بينهما فلا يستقر عند البنت أو حتى عند أمها.
المأتم
وقف أبو المتولي على باب الجامع، وشمس الضحا تنصب على وجهه «الأشعل» فتعذبه، ويتوهج لها شعر رأسه الناصع البياض كشعر الأرانب، وتزداد كذلك حمرة أجفانه الخالية من الرموش، المضمومة بإحكام حتى تمنع الضوء من التسرب إلى مقلتيه.
وقف يحاور الشمس وتحاوره، ولم يستطع أن يرى ما أمامه إلا بعد أن مد رقبته، وأدخل رأسه في ظل الجامع، بينما بقي جسده خارج الباب، وحينئذ راح يطوف بعينيه الصغيرتين الضعيفتين داخل الجامع، حتى عثر على بغيته جالسا يغالب النوم بجوار عامود، فنادى بصوته الأخنف الهادئ: يا شيخ محمد.
وكانت همهمة الناس الكثيرين الذي يحفل بهم الجامع لا تفنى حين تغادر أفواههم، ولا تتبدد، وإنما تبقى، وتنتشر كالنحل في كل اتجاه، وتظل تتخبط بين جدران المسجد الوقورة العالية الملساء، فتصنع بتخبطها رنينا عريضا أجوف يدوي به المكان.
ولم ينفع صوته الأخنف الهادئ، فقد ضاع نداؤه في هالة الرنين، ورفع صوته أكثر وكافح ليرفعه، حتى احمر وجهه، وأصبح كعرف الديك.
وأخيرا سمع الجالس بجوار العامود، فأدار رأسه كمن كان يتوقع النداء، وأسرع بعينيه إلى الباب، ثم لم أجزاءه وأسرع بنفسه.
وأحس أبو المتولي بالراحة حين سمعه الراجل، فذلك كان يعني انتهاء مهمة عينيه الشاقة، فأغلقهما ولم يبق إلا شعاعا رفيعا كافيا لأن يتحسس به ما حوله. - غبت ليه يا مبروك؟
ولم يرد أبو المتولي أن يضيع الوقت في سلام أو كلام مع الشيخ محمد، ووضع اللفافة التي كان يحملها فوق يديه على المصطبة البارزة من باب الجامع، وكان في اللفافة رضيع ميت ملفوف بجرام أجرب باهت، وقال: صلي يا شيخ محمد.
وتلكأ الشيخ قليلا، وتغمز وتلمز بعينيه اللتين يغطي مقلتيهما سحاب أزرق ، وحرك رقبته وبص إلى اليسار، ثم استدار إلى اليمين، وابتسم ابتسامة كلها مكر ساذج، وهم أن يقول شيئا، ولكن أبو المتولي الحانوتي كان فارغ البال، ناشف الريق، فشدد الضغط على أجفانه، ورفع وجهه إلى فوق، وكأنما يتحدى الشمس والشيخ محمد معا، وقال: يوهوه، بس صلي الأول.
وأكمل غضبته بخبطة على جلبابه، ثم استدار وبحركة لا إرادية ثبت كفا فوق عمامته من أمام، وكفا أخرى من الخلف، وجذب العمامة بقوة ليحبكها ربما للمرة العاشرة منذ الصباح.
ولم يتحرك من مكانه إلا بعد أن نوى الشيخ، وبعد هذا مضى يراقب الخناقات الصغيرة الناشبة بين البائعين والمشترين - وما كان أكثرهم - حول الجامع وأمامه، ثم أتعبته الشمس فاتجه بعينيه إلى الظل؛ حيث كانت حلقة ذكر قائمة على قدم وساق، وكانت الحلقة تضم جمعا قليلا متنافرا من الناس، وعلى رأسهم شيخ مجذوب له «شرف» أحمر، وقد علق في كتفه «مخلاية» لا يعلم ما فيها إلا الله، وكان الشيخ يمسك بمجلس الذكر على دقات مسبحته فوق عصاته المصنوعة من ماسورة حديدية، وأثناء هذا ينشد ويوشح، وكان صوته أقبح من وجهه.
ولما جاء بائع العرقسوس، ورنت صاجاته وصيحاته، تذكر أبو المتولي ريقه الجاف، ولم يستطع أن يقاوم إغراء الضباب المثلج الذي يحيط بزجاج الإناء، والذي ترد رؤيته الروح، فمد يده بنصف قرش للرجل، وأزاح الرغاوي المتجمعة على سطح الكوب بنفخة واحدة من زفيره، ثم سمى ومضى يجرع، وأعجبته «الشوية» فمد يده اليمنى من خلال فتحة جلبابه، وهو يشرب، وانتزع من جيب الصديري تعريفة أحمر، وأعطاه للبائع، وتلاعبت حنجرته التي لا تكاد تظهر من رقبته، وهو يتاوي الكوب الثاني.
وتكرع، وحفل جسده بالعرق.
ورمق بائع جميز بربع عين، ولم يعجبه الجميز، فرجع إلى الباب ليجد أن الشيخ محمد قد انتهى من الركعتين. - السلام عليكم ورحمة الله.
قالها الشيخ محمد، وهو يحملق ناحية الحانوتي، وقالها بصوت مرتفع منغم، وكأنما يوبخ أبا المتولي ويؤنبه، ثم انخفض صوته حتى أصبح حوقلة وهمسا، وانخرط في ختم الصلاة.
وألقى عليه الحانوتي نظرة فيها شك وعدم اطمئنان وسأله: بقى ودينك يا شيخ، الواد على القبلة مظبوط؟
ورفع الشيخ محمد صوته بختام الصلاة، وكأنما يرد عليه: اللهم صل وسلم وبارك.
ولم يجز هذا على الحانوتي، فعاد يقول: بقى بذمتك أنت على وضوئك يا شيخ محمد؟ - على سيدنا محمد وعلى ... يا أخي هو مافيش إسلام، وعلى آله وصحبه وسلم.
وهمهم أبو المتولي بكلام لم يفهمه هو نفسه، ثم مد يده وحمل اللفافة فوقها، وكان الشيخ قد أنهى الختام على عجل، فقال وهو يمسح وجهه بكفيه ويقبلهما: يبقوا كام بقى يا عم متولي؟
وتوقف الحانوتي وقد عاوده ملله، وازدادت عصبيته وكأنه يحمل فوق يديه أرطالا من حديد، وصمت لحظة صمت اليائس؛ فقد عمل كل ما في وسعه ليتجنب الخوض في مثل ذلك الكلام، ولكن ما باليد حيلة، وببطء قال: بدهه يا شيخ محمد، يبقوا سبعة. - سبعة؟! سبعة إيه؟! وحياة الست مسكه وأم هاشم وأولية الله تمانية يا مبروك. - سبعة يا شيخ محمد والله العظيم سبعة. - دانت صاحب عيال يا عم متولي، وحياة سيدي، الله، أدحنا فيها، الواد اللي جبته من الحنفي الصبح، واحد، والبنت بنت عمك. - اسمع يا شيخ محمد، علي الطلاق سبعة. - أ ... أ ... أ ... لا حول ولا قوة إلا بالله، مش يا مبروك. - علي الطلاق سبعة. - أف، أنت وذمتك يا شيخ، الله وكيلك. - وصلك كام يا شيخ محمد؟ - حتة بعشرة يا مبروك.
وانتظر الحانوتي حتى يحسب الحسبة، ثم قال: يبقى باقيلك من حساب السبعة أربعة ساغ. - بس ... بس ... يعني ... - بس إيه؟ - بس وأنت سيد العارفين يا عم متولي، النهاردة رطل القوطة بكذا، والبامية بكيت، ولا ليالي ولا مياتم، والحالة كرب، والولية امبارح اشتريت لها سبرين. - طماطم إيه! وهباب إيه! يا شيخ اصطبح وقول يا فتاح، الصيف أهو طالع، والنزلة جايه ومش حتلحق تحوش عن قفاك، خليها على الله، خد.
وتردد الشيخ محمد، وهو يكن يده، ثم يفردها، ولكنه توكل على الله، وتناول ما في قبضة الحانوتي وتحسس الشلن الورق، وأدخل رقبته في الجبة القديمة، وفرفط غمزاته ولمزاته، وفركه بين أصابعه، وطبقه، وكاد يرده، ولكنه سحب ناعما، وحدق من خلال الضباب الذي أمام عينيه، وقال: طب هات ساغ كمان يا مبروك.
ولم يسمعه أحد، فأبو المتولي كان قد اختفى باللفافة في زحمة الناس.
حصة
الفكرة شيء إنساني عجيب، فهي دائما تتطلب عملا وجهدا، وأحيانا تخطر للإنسان فكرة، فيظل يستضعفها ويهملها وهو كاره ما وراءها من عمل حتى يقتلها، وأحيانا تخطر له فكرة فيها جدة، وفيها روعة ولذة، فتقلب هدوءه رأسا على عقب، وتنفخ فيه أطنانا من النشاط.
وإسماعيل بيه الماحي واتته فكرة، وكان لا يدري من أين جاءته، ولا أي وحي هبط عليه بها، وكل الذي يدريه أنه كان ممددا في فراشه في الحجرة الزرقاء البحرية من «الفيللا» أو على الأقل هكذا وجد نفسه حين استيقظ، وهو لم يستيقظ مرة واحدة كخلق الله إنما استيقظ مرات، وكان في كل مرة يراود نفسه: هل يصحو أم ينام كما كان؟ وإذا صحا فماذا يفعل، وماذا وراءه؟
وفي هذا اليوم لم يكن وراءه شيء أهم من النوم، ومن أجل هذا كانت استشاراته لنفسه لا تستغرق وقتا طويلا يعود بعدها لتستضيفه الملائكة.
واستيقظ مرة، وساءل نفسه كالعادة، ثم قرر أن ينام، ولكن قراره كان خيالا على وهم؛ فإن جسده كان قد تشبع ولم يعد فيه مكان لذرة نوم واحدة.
ولم يكن هناك حل إلا أن يتناوم، ويقنع نفسه بأنه في أحلى نعاس، وهو في أتم يقظة، وجازت الحيلة على جسده وفوتها على نفسه، إنما عيناه لم تحتملا أجفانهما المضمومة طويلا، فسرعان ما أزاحتا الأجفان وخرجتا إلى النور.
وسلم لعينيه المفتوحتين، وجابهته حينئذ مشكلة عويصة، فهو لم يكن يعرف الوقت، وساعته التي على «الكومودينو» بجانبه واقفة لا حراك بها، والضوء في ذلك الريف اللعين لا يعتمد عليه، فشعاعات الشمس قاسية فظة تنفذ من أسمك «شيش»، وتجعل السادسة تبدو كأنها الثانية بعد الظهر.
وتلوى في الفراش قليلا وتثاءب، وماء، وشد على جسده ملاءة السرير الزرقاء الرقيقة وأرخاها، وعرى ساقه فأحس بنسمة من البرودة تغطيها، وعرى حينئذ الثانية.
وما كاد يستريح إلى البرودة التي تلامس أطرافه حتى جذب الملاءة، فقد سمع أزيز ذبابة، ثم رآها، وجاءت وراءها واحدة ثانية.
وخلقت له الذبابتان مشكلة أعقد، فمن أين يجيء الذباب؟ وكيف يقتحم الناموسية؟ أيكون فيها ثقب؟ أتكون قد بليت؟ أم تكون الذبابتان قد قضيتا معه الليلة داخل الناموسية؟ وما يدريه أنهما اثنتان فقط؟ ألا يجوز أن ثالثتهما قد حومت حول فمه وهو نائم؟
وانقبض لهذه الخطرة، وانصرف عن المشكلة كلها إلى الوقت الذي لا يعرفه، كان عليه ليعلم الساعة أن ينادي على عبده، وفي النداء مشقة، وقد لا يسمعه أحد أو قد ترد الست تلومه على كسله، أو قد يضطر للنهوض من الفراش، وإذا نهض كان عليه أن يغتال الذبابتين بالمرة، وهذه مشقة أخرى.
من أجل هذا انصرف عن مشكلة الوقت أيضا، وقنع بالتحديق في أرجاء الحجرة، وكان الظلام المضيء المنتشر فيها يشع غموضا أعجبه، ويصنع من زرقة حيطانها ضفافا لبحيرة هادئة، وراح يسبح في البحيرة على زوارق من أحلامه.
وفجأة واتته الفكرة.
وفي التو اعتدل، ثم جلس على الفراش، وأزاح الملاءات الرقيقة الهفهافة، وخرج من الناموسية، وأصبح على السجادة، وغادر الحجرة وهو يقبض ذراعيه وينفضهما بقوة.
وكانت الست هي أول من رآه، وقبل أن تفتح فمها، سألها بلهفة: الساعة كام؟ - حداشر ونص يا سيدي. - ياه.
وتركها قبل أن تفتح له فاها مرة أخرى، وأسرع إلى الحمام. ولم يمكث به سوى بضع دقائق وخرج، وكان عبده يتلكأ في الممر منتظرا أن يسأله عما إذا كان يحب الفطار في الفراش أو على السفرة، وفوجئ عبده بالبيه وهو يأمره بصوت عاجل أن يحضر القبعة، وأسرع عبده يتلكأ ويحضرها، وسمعت الست الأمر فجاء صوتها من بعيد وهي في الصالة الثانية: على فين؟
واحتار البيه قليلا، ثم قرر أن يقول: آه، مفيش نازل تحت.
فردت عليه مستنكرة: دلوقت ... ليه؟ فيه إيه؟ من غير فطار؟ وبالبيجامة؟ - ماليش نفس. - طيب، خد الشاي بس. - لا، أنا راجع أفطر.
وتناول القبعة من عبده وهو على أول درجة في السلم، ثم نزل مهرولا وزعقات الست تتبعه وهو يرد عليها، وكلاهما لا يهتم بما يقوله الآخر.
ولمحه عم عبد الله الجنايني وهو يخطو أولى خطواته داخل الجنينة، فجاء مهرولا بجسده القصير المنحني ووقف وبينه وبين البيه بعد غير قليل، وابتسم، وتجعد شعر ذقنه النابت الأبيض، وأطلت سنتاه الوحيدتان، المهددتان في كل لحظة بالانهيار، أطلتا من سعة فمه، وانطلق صوته يقول بارتعاشة فيها زمن طويل: الجنينة نورت يا سعادة البيه، داحنا من زمان.
ورد عليه إسماعيل بك والنوم لا زال يهدج من صوته: اسمع أنت عزقت حوض الياسمين بتاع إمبارح؟
وابتسم عم عبد الله بسنتيه الأماميتين قائلا: أمال يا بيه. - طيب وريهولي.
ومشى إسماعيل بك فوق «المشاية» كلها، بينما اكتفى عم عبد الله بالقناة التي بجوارها، فراح يخوض في قاعها المبتل، ويبتسم بين الحين والحين ويقول: من هنا يا بيه، اتفضل، الناحيادي، لا مؤاخذة.
ووصلا أخيرا حوض الياسمين، وتفحصه البيه بعيني صقر، ونصف وجهه تظلله القبعة والنصف الآخر تلسعه الشمس، ودار حول الحوض وعم عبد الله يراقبه ببسمة طيبة فخورة كلها ثقة، وكأنه فنان يباهي بما صنع، وضاعت ابتسامته حين توقف البيه عند ركن الحوض، وتملى في أرضه، ثم أشار إلى ناحية منه قائلا في اتهام: دي، هنا، ده عزيق يا راجل!
واقترب عم عبد الله، وحدق هو الآخر بنظره الذي على قده، ثم قال: آه، دي ريشة الحوض يا سعادة البيه، ما تتعزقش. - مين قالك؟ مين علمك؟ إيش عرفك؟
وسكت عم عبد الله وهو لا يدري بماذا يجيب، وتدلى فكه على قدر ما سمحت به عضلاته المستهلكة وهو يسمع البيه يقول للمرة الثانية: أيوه، هات فاس. - العفو يا بيه، داحنا ... - يالله. - إنما ... دا تعب على سعاد ... - تعب إيه راجل انته! دي رياضة، يالله روح.
وانطلقت من إسماعيل بيه كلمة «روح» كما تنطلق البندقية وفي أعقابها انطلق عم عبد الله.
والبيه بينه وبين نفسه لم يكن في حاجة لأن يكهرب الرجل هكذا ليستطيع تحقيق الفكرة التي واتته، وكان ممكنا أن يطلب الفأس ببساطة ويعزق، ولكنه فعل ما فعل من قبيل التسلية، فمزاجه يومها كان رائقا، وإذا لم يتسل على عم عبد الله فعلى من غيره يتسلى؟
وعاد عم عبد الله يجري وفي يده الفأس، وقبل أن يتناولها البيه تردد الرجل لحظة، ثم تهته قائلا: عن ... عن إذن سعادتك.
ولم ينتظر الإذن، واندفع يجري، وعاد وقد غسل يد الفأس وأزال ما علق بها من طين خشن جاف.
والتقط البيه الفأس في رشاقة كما يلتقط عصا «البلياردو»، وقد أحس بخفة تكاد تطير به، وشعر بالريف، والصباح، وجو العزبة، تعيده في سرعة سحرية من السابعة والثلاثين حيث هو إلى السابعة عشرة، بل تكاد تصل به إلى السابعة.
وزرر سروال «البيجامة»، ثم رفع الفأس. وكانت - ككل الفئوس التي في عزبته - جافية فظة لها حد عريض ورأس غليظ. وأنزل البيه الفأس فنزلت على طول حافتها فلم تغر في الأرض قليلا أو كثيرا.
وحاول عم عبد الله أن يتنحنح فلم يستطع، وقنع بأن يقول في صوت يريد كتمه وابتسامة كبيرة تطل منها سنتاه الطيبتان: مش كده لا مؤاخذة يا بيه، لا مؤاخذة اعوجها شوية.
وجاءه الرد من بين ساقي البيه وقد انحنى وظهره إليه: اسكت أنت، أنت مالك.
وارتقعت الفأس، وهوت وقد اعوجت إلى ناحية. وغورت في الأرض هذه المرة. وسر البيه، وتحمس، ورفعها بسرعة وأنزلها، وأخذه الحماس.
ووقف عم عبد الله يتفرج غير مرتاح، فقد كانت هذه أول مرة يرى فيها البيه منحنيا، ويرى فيها سترة «بيجامته» وقد تهدلت، وتهدل ما تحتها، فبان جلده أبيض كاللبن الحليب. ولم يطل حرجه فسرعان ما انفرج فمه، وهز رأسه وتوقف لبرهة، ثم عاد يبتسم ويكاد يضحك ويهز رأسه من جديد.
وتنبه عم عبد الله بعد مدة أن وقفته خلف البيه فيها شيء من قلة الذوق فتحرك ليواجهه. وأدرك وهو يدور أن البيه ولو أنه لم يخبط إلا بالكثير عشرين خبطة، قد تعب، فالفأس كانت تغيب حتى يقتلعها من الأرض، وتغيب حتى يقتلعها من الهواء . ولم يعجب عم عبد الله أبدا حين أصبح أمام البيه، فألفى وجهه قد صار قطعة من الدم، والعرق يسيل بحورا فوق حمرته، ورأسه لا يقل دما وبحورا عن وجهه، والقبعة كان قد ضاق بها فرماها، وأنفاسه تلهث وهي تسابق بعضها البعض.
وضيق عم عبد الله جفونه الأربعة، وانكمشت التجاعيد في وجهه فاتسعت زميلاتها عند جبهته، واتخذت سيماه طابع الجد. وتقدم خطوتين فأصبح أمام البيه تماما، وقال وهو ينحني ويمد يده ناحية الفأس: عنك يا سعادة البيه، عنك، ودا كلام.
وتسمر في مكانه حين جاءه جواب البيه كالرعد: اوعى، امشي.
ولم يكن لديه وقت ليمشي فيه أو يختفي، وكذلك ما كان لديه وقت يستغرب فيه من لهجته؛ فقد رفع البيه الفأس وهو ينتزع النفس بكل قواه، ثم تعلقت الفأس فوق رأسه لا تريد أن تهبط، وشيئا فشيئا تراخت يده، وقذف بالفأس إلى ناحية، وجلس مرة واحدة.
ولم يستطع الصبر على جلسته، فمدد جسده غير حافل بخشونة الأرض وما فيها من قلاقل وطوب، وعثرت أصابعه الممتدة في كل اتجاه على شجيرة ياسمين نابتة، فاقتلعها وهو يجاهد ليملأ رئتيه بالهواء.
وكان عم عبد الله في ذهول تام، فالذي حدث كان كثيرا عليه أن يواجهه، أو يصنع شيئا حين يواجهه. وكان لا يمكن أن يصدق أن العشرين خبطة التي خبطها البيه ممكن أن تفعل مثل هذا في بني آدم.
وذهل أكثر حين لهث البيه ونفس يحييه ونفس يميته. - آه، ياه ... هنا ... قلبي.
وتحرك عم عبد الله في شبه يقظة متمتما: كفا الله الشر يا سعادة البيه، خير، خير إنشا الله.
واقترب حتى أصبح بجواره تماما، وانحنى وأمسك يد البيه في وجل، واستمر يتمتم ويقول: خير، خير إنشا الله.
وكانت طراوة اليد التي يقلبها ويشد عليها غريبة على يده، وجزع عم عبد الله حين رأى ما أحدثته الفأس فيها من فقاقيع انفجر بعضها واختلط سائلها الأبيض.
وأسبل البيه جفونه، وقال في ضعف لاهث: اندهلي، اندهلي، الست ... ح ... حالا.
واندفعت ساقا عم عبد الله تلفان على بعضهما وتجريان. ولم يكن جري عم عبد الله سريعا، فالرجل قد شاب وتلخلخ وجاوز السبعين من زمان.
ولما رجع لم تكن معه الست وحدها، بل جاءت معها الست الصغيرة، وعبده، وأم حياة الطباخة وكاتب الأنفار. وكانوا كلهم يهرولون، وعم عبد الله يحاول أن يريهم الطريق. ووجدوا البيه مطروحا لا حول له ولا قوة، وعيناه مغمضتان، ويده على قلبه والعرق يغطيه.
وكانت أصواتهم عالية مختلطة تسأل عما حدث وتخمن، وأحس بهم البيه ففتح عينيه، وضغط برفق على قلبه، وأزاح وجهه إلى الناحية الأخرى، وكان لا يزال يلهث حين قال: آه، ذبحة، ذبحة صدرية يا نعمت، خلاص.
وبهتت الست، وبدأت ذرات العرق تخترق الكريم الذي فوق وجهها، واقشعرت شفتاها وهي تقول محاولة دون جدوى أن تبتسم: اخص عليك يا سمسم، ذبحة إيه يا شيخ!
ورد عليها بصوت ضعيف كليل: وحياتك ذبحة، آه، قلبي، جنبي، دراعي، دراعي منمل.
وأجابت الست في لهفة: دي لازم يا شيخ ذبحة كدابة.
وكانت الست الصغيرة تقول في نفس الوقت: ما تقولشي كده يا بابا، دانت تعبان بس، دي لازم الشمس، دي ضربة شمس.
وقال البيه في تبرم خافت: أبدا يا ناس، أبدا، بزي الشمال، الحقوني، هاتو دكتور، بسرعة، الحقوني.
وأسرعت الست الصغيرة إلى الفيللا، بينما أشارت الست الكبيرة إلى الباقين، وتعاونوا في حمله دون أن تتحرك له شعرة، وابتعد الموكب في بطء، وكان يتوقف قليلا، ثم يعود إلى المضي، وكان صوت البيه يضعف قائلا: قلبي، الحقوا ... خلاص.
وكان صوت الست يرتفع قائلا: وطي صوتك، اسكت، الله، اسكت.
أما عبده وكاتب الأنفار وأم حياة، فكانوا واجمين وكأن على رءوسهم الأسى.
وخلف الموكب وراءه عم عبد الله والذهول لا يزال مستحوذا عليه، والخواطر تذهب به إلى اليمين، ثم تسرع به إلى أقصى اليسار، ثم تصطدم وتتبعثر لتتركه حائرا، تائها لا مخرج له.
ولم يمنعه ذهوله من الجلوس.
ولم تمنعه حيرته من أن يخرج علبة الدخان الصفيح من جيب «صيديريه» ويلف سيجارة، ويقدح زناده ويشعلها.
ويبدو أن شدات الدخان راق لها باله، وأزاحت عن كاهله ذهولا وهما، فقد عادت إليه ابتسامته طائعة مختارة.
وبعد أن رمى البقية الباقية من سيجارته، قام وتمشى إلى «السراية»، ولم يبرح نافذة «السلملك»، حتى غادر الطبيب المنزل، واطمأن إلى أن الحكاية جاءت سليمة، وأنه لا ذبحة هناك ولا ضربة شمس.
وعاد من فوره إلى حوض الياسمين، وشمر عن ساعديه، ووضع ذيل قميصه في فتحة «الصديري»، وبصق في يده وأمسك بالفأس. وقال بصوته الراجف وهو يرفعها: هه، قال بهوات قال، أمال إحنا ما بتخدناش الدبحة ليه؟ دا كان زمان الواحد ادبح، وشبع دبح.
وهوى بالفأس في ضربة قوية مزقت الأرض.
مشوار
كانت «مصر» إذا جاءت سيرتها في حديث عابر يرتج على الشبراوي، ويرى أنه غير عائش، ويتحسر على ساعة واحدة يقضيها في القبيسي أو عند المعلم أحمد في الترجمان، ويجتر شوقه إلى حفلة من حفلات النهار في السينما الأهلي، ويرتد عقله بسرعة إلى الأيام الخوالي التي قضاها في الجيش؛ حيث كان يذرع مصر من مشرقها إلى مغربها كل أسبوع.
وغالبا ما كان ينهي الشبراوي لهفته وحسرته وشوقه بأمنية ليس كثيرا على الله أن يحققها، فيهيئ له ظرفا مناسبا، وقرشين حتى يشد الرحال إليها، ويستعيد يوما من أيامه.
وأصبحت الجملة التي يعرفه بها زملاؤه من كثرة ترديده لها: أبيع عمري على ساعة فيكي يا مصر.
ولكنه لم يضطر إلى بيع عمره، فقد أتى الفرج من حيث لا يدري، ومن باب لم يعمل له حسابا قط. فهو جالس في المركز جلسته منذ أربع سنوات، وإذا بجماعة حافلة تدخل، وبعد سؤال وضجيج اتضح أنها امرأة مجنونة من كفر جمعة ومعها أهلها وأقارب الأهل والجيران، وملأ الصراخ المكان، فالتمت الناس وضاق المركز.
ودق قلب الشبراوي في أمل بين ضلوعه، فلا مناص من إرسال المرأة إلى مستشفى الأمراض العقلية في مصر مع «مخصوص»، ومن غيره ينفع أجدع مخصوص؟
ولم تكن ثمة حاجة إلى وساطات أو شفاعات للمعاون. فقد تنصل كل العساكر من المهمة ومن مسئوليتها. وحين تقدم هو إلى المعاون طائعا مختارا انتهى الأمر.
وفي الحال أرسل الواد عنتر صبي البوفيه إلى امرأته يخبرها بسفره، وبأن تجهز له لقمة في منديل، وترسل الخمسين قرشا الصحيحة بأمارة ما هي موضوعة في كيس المخدة.
ومضى نصف ساعة.
وأصبح كل شيء جاهزا، وخطاب مفتش الصحة معدا، واستمارات السفر مكتوبة، وليس باقيا إلا أن يضع رجله في القطار ليكون بعد ساعات في قلب مصر.
ولم يكن هينا أن يصدق الشبراوي أن ما حدث كان حقيقة، وأن الأمر انتهى هكذا بسهولة ونعومة، وأنه صحيح سيرى مصر مرة أخرى، ويتفسح فيها، ويركب الترام، ويقابل الإخوان والأصحاب، ويتعشى نيفة عند المعلم حنفي.
لم يكن ذلك هينا، ولكنه مضى بخطوات تضطرب بفرحة لا يصدقها إلى المحطة، ومعه ما يزيد على المائة نفر، وكلهم يوصونه بزبيدة وبأن يكون صبورا معها.
وغمزه أبوها بريال، وأعطاه زوجها بريزة، وهز الشبراوي رأسه كثيرا، وابتسم باستمرار، وهو يؤكد لهم أنها في عينيه، وأن يطمئنوا عليها، ويعتبروه أخاها من أمها وأبيها.
وكان الموكب وهو يخترق البلدة يسترعي انتباه الناس ويجدون الشبراوي على رأسه، فيسأله الذين يعرفونه أين هو ذاهب، وكان يجيب في تواضع: لحد هنا.
فيعود السائل يتمحك: لحد فين.
فيجيب الشبراوي وهو يزيد من قلة اهتمامه. - كده لحد مصر.
وكثيرا ما كان يأتيه الجواب: هنيالك يا عم.
وتنمل السعادة في أحشاء الشبراوي.
وبعد انتظار كثير جاء قطار الدلتا، وركب هو وزبيدة، وجلست هادئة ساكنة، وتحرك القطار في أمان الله.
وتحسس الشبراوي الأوراق للمرة الثالثة، وقد وضعها بعناية في جيبه الداخلي، ولما رأى أن لا متاعب هناك، وأن الحال مثل القشطة، فك حزامه البوليسي العريض، واستراح، وكاد ينسى زبيدة.
وانتهى قطار الدلتا من ركناته وسرحاته ومحطاته التي لا تفرغ، ثم دخل المنصورة كالدودة السوداء الطويلة، وعبر الشبراوي الكوبري، وزبيدة في يده، وهو لا يني عن ترديد: بركاتك يا سيدة زينب.
وسأل عن قطار مصر فوجده رابضا ينتظره، وركب وأجلس زبيدة بجوار النافذة. وجاء بائع الليمون فشرب منه كوبتين في نفس واحد، ومد الثالثة إلى زبيدة ، ولكنها دفعتها في تبرم وحنق، وهدهد عليها وهو يتبع الكوبة زميلتيها.
وتحرك القطار والناس فيه آمنون مطمئنون، وزبيدة تنظر من الشباك كالطفلة الصغيرة وعلى فمها ابتسامة نيئة، والشبراوي تطقطق له السعادة أصابعه.
وقبل السنبلاوين استدارت زبيدة فجأة، ثم دبت على صدرها في عنف، وقالت وهي تنظر إليه في اتهام غريب: يا لهوي.
ونزل الشبراوي مهرولا من جنات سعادته، ورد عليها في انفعال: مالك يا اختي، مالك يا زبيدة؟!
ولم تجبه، وإنما وضعت كفها تحت أنفها، وبأقصى قوتها أطلقت زغرودة خالية من كل هم.
وأعقبتها بسرب طويل من الزغاريد.
والتفت الركاب إليها، وصمتت العربة كلها في دهشة عظمى.
وتخلخل الشبراوي وداخ قليلا فلم ينطق بحرف.
وبعد أن حاول ابتلاع ريقه، فلم يجد له ريقا طبطب على زبيدة، ومعلشي يا اختي، حقك علي، طولي بالك، اعملي معروف، بلاش فضايح، وكلمتين من كلماته الهادئة وسكتت زبيدة.
ولكن الركاب لم يسكتوا، بل انطلقت ألسنتهم تعلق همسا على ما حدث، ثم ارتفعت الأصوات. كل هذا والعيون لا تتحول عنه أو عنها.
وسمع بأذنه واحدة تقول: دي لازم مراته يا ضنايا.
ورنت ضحكة في آخر العربة، وتنحنح الرجل الجالس أمامه وهو يفيق من غفوته، ووقف طفلان فوق المقاعد يتفرجان.
وعرق الشبراوي حتى نفذ العرق إلى بدلته الصفراء ومد يده، ولم المنديل الذي كان قد فرده ليغير ريقه، ثم عقده كما كان.
وسأله جار لم يعجبه الحال: هي الست مالها يا شاويش؟
وقال الشبراوي وقد استرد لسانه وإن لم يسترد مفاصله: أبدا، ولا حاجة.
وسكت قليلا، ثم أضاف: أصلها.
وضم أصابع يمناه، ثم حركها في دائرة بجوار رأسه، وهز الرجل جسده كله يؤمن على ما قال الشبراوي، وكأنه قد اكتشف شيئا عويصا.
ولم يكن الشبراوي قد كف عن تحريك يده حين استدارت إليه زبيدة، وتكلمت بأعلى صوتها ومعالمها مدببة مشحوذة: ولا حاجة إزاي، إزاي يا جدع ولا حاجة؟!
ونظر الشبراوي إليها في جزع حقيقي، وهي تقترب بخلقتها من وجهه، وتراجع برأسه حتى ألصقها بخشب العربة واضعا المنديل بما فيه بينه وبينها.
ولكنها أنهت اقترابها منه فجأة، وانتصبت واقفة، ثم فتشت سقف العربة بعينين زائغتين وزعقت بكل ما تستطيع: ولا حاجة إزاي، يسقط عمدة بلدنا إبراهيم أبو شعلان، يسقط عمدة بلدنا، يعيش جلالة الملك، يعيش جلالة الملك الريس محمد بيه أبو بطة.
وطقت زغرودة فائرة.
ووقفت العربة على رجل، وطار النوم من عيون النائمين، وأخذ الرجل الجالس أمامه المقطف من تحت المقعد، ثم مضى مسرعا. وفي ثانية أصبح لزبيدة والشبراوي نصف العربة، بينما انزوى كل الركاب في النصف الآخر متوجسين شرا.
وغادر العربة نفر قليل من المسافرين، بينما أبقى حب الاستطلاع معظمهم.
وأصبحت بدلة الشبراوي كالمغسولة بعرقه، ومد يده يرغم زبيدة على الجلوس وينهي الموقف، ولكنها خبطته على يده، وتأودت وهي تزغرد وتقول: يسقط عمدة بلدنا، يعيش جلالة الملك الريس أبو بطة.
وانطلقت ضحكات بائعي الكازوزة والفول السوداني، وجرت وراءها ضحكات المسافرين، ولم يجد الشبراوي مانعا من ضحكه هو الآخر، ولكنه لم يضحك طويلا، فقد فوجئ بالمسألة تنقلب جدا لا هزل فيه، وروعه من زبيدة أنها مدت يدها، ورفعت ذيل ثوبها تريد أن تخلعه، وكانت ترتدي ثوبها فقط، وهجم عليها يوقفها، ودفعته وهي تزغرد، وقامت معركة.
ولو أنه تغلب عليها آخر الأمر فأقعدها بالقوة وربطها بكوفية تبرع بها واحد من المسافرين، مع هذا إلا أنها كانت قد فعلت شيئا أفقده صوابه، فقد قذفت بطربوشه من نافذة القطار، الطربوش الذي ظل فوق رأسه من يوم أن دخل الخدمة، وبقيت فروته عارية بيضاء إلا من شعره القليل القصير.
ولم تهدأ زبيدة حتى بعد أن فعلت هذا، وظلت تطلق الزغاريد، وفي كل مرة: يسقط العمدة ويعيش الريس.
وقرابة بلبيس كان الهدوء قد أخذ طريقه إلى عقلها، وسكتت حتى بدأ بعض الجريئين من الركاب يعودون إلى أماكنهم، وكان الشبراوي يمنع نفسه منعا عن قذفها من القطار، فقد كان يغلي على طربوشه الذي ضاع أمام عينيه.
واستمر يغلي حتى دخل القطار محطة مصر.
وانتظر الشبراوي حتى نزل كل الناس، ثم شدها بعنف، ولف ذراعه حول ذراعها وجعلها لاصقة بها كالكماشة، ولكنها لم تكن في حاجة إلى كل هذه الشدة، فإنها كانت تمشي معه كالحرير المطاوع.
وبهره ميدان المحطة، ولكن الظروف لم تكن متاحة أمام الذكريات لتشغل باله.
وعلى الفور ركب الترام وهي معه أعقل ما تكون، ونزل في العتبة، وخرم على شارع الأزهر، واشترى طربوشا بالريال، وهو يلعن زبيدة وأباها وفلوسه الحرام.
ولم يسترح إلى الطربوش الجديد فوق رأسه، وأحس أنه ثقيل كقطعة الدبش.
وعقد العزم على أن يجعل زبيدة تغور من وجهه أولا، ويتخلص من مسئوليتها، ثم بعد ذلك تكون مصر كلها له وهو لها، واستراح لهذا القرار، وركب الترام والناس فيه فوق بعضهم، وغرق يراجع ما فات من متاعبه وما سيجيء، ولكنه صحا في نصف الطريق يطمئن على زبيدة، فوجدها لاصقة بأفندي من الراكبين وفكها قد تدلى في بلاهة راضية، والأفندي منسجم غاية ما يكون الانسجام، ومتشاغل بقراءة جريدة يحملها. وزغدها الشبراوي وهو يشدها بعيدا، وانقلب الرضا الذي على وجهها غضبا، وزغردت وسقط العمدة، وعاش الريس أبو بطة.
وأوقف الكمساري الترام بلا محطة، وأنزل الشبراوي وهو يشبعه لوما وتريقة وتقريعا على ركوبه ومعه واحدة لها هذه الخطورة.
ووجد الشبراوي أنه من المستحسن أن يأخذها كعابي إلى المحافظة، ومشت زبيدة على يمينه وقد صممت ألا تكف عن زغردتها، والتأم شارع محمد علي كله وراءهما وبجوارهما، وكلما كثر الناس علا صوت زبيدة، بينما راح الشبراوي في غيبوبة ووجهه لا يرتفع عن الأرض.
ورأى العسكري الواقف أمام باب المحافظة هذا الجمع مقبلا، وفيه زغاريد وأصوات فتوقع حدثا مثيرا، ووقف الشبراوي يسأله عن طبيب المحافظة، وعرف العسكري الحكاية بخبرته ورثى له، فالساعة كانت قد جاوزت السادسة ولا أحد هناك.
وسأله الشبراوي بلهفة: طيب وبعدين؟ - فقال العسكري بكل هدوء: تعال بكرة. - بكرة؟ بكرة إزاي؟ - بكرة الصبح.
ثم أعقب العسكري جوابه بشخطة فرقت الناس وفي جعبتهم أكثر من نادرة.
وتوسل إليه الشبراوي وهو يسأل إن كان ممكنا تركها إلى الصباح في المحافظة.
وحدجه العسكري بعينيه دون أن يتكلم، وفهم الشبراوي فسحب زبيدة ومضى. ومن هذه اللحظة بدأ يطرق عقله طرف المشكلة، وبدأ يفكر كيف يبيت ومعه هذه الداهية، ولكنه كان متعبا مهدودا، وله ساعات لم يدخل جوفه طعام.
ودخل أقرب قهوة في باب الخلق؛ حيث جلس وأجلسها بجانبه وكتفه في كتفها. ولم يعبأ أبدا بتحديق الجالسين فيه وفيها ولا بما يقولون. وطلب شايا وتعميرة، وشربهما، وأحس بالخدر يتمشى لذيذا في جسده، وأفاق من خدره على شيء حدث داخله، فجعله يتململ ويرتد إلى أقصى الخلف، ثم يتلوى إلى أقصى الأمام. وقدر أنه لن يستطيع الاحتمال وعليه أن يبحث في التو عن المكان الذي يقضي حوائج الناس، وسأل الجرسون وعلى وجهه ألم. وأشار الرجل إلى مكان لا يبعد كثيرا.
ولكن ... زبيدة.
وتلفت حوله، ولم يكن صعبا أن يبدأ حديثا سريعا مع جاره الذي كان يرتدي بالطو وجلبابا بلديا، وعرف منه أنه مخبر في المحافظة. واضطر الشبراوي أن يقص الحكاية من طقطق إلى سلام عليكم، وأن يختمها راجيا المخبر أن يأخذ باله من زبيدة، حتى يعمل مثل الناس ويعود، وما كاد الرجل يقبل بغير ترحيب، حتى اندفع الشبراوي وكأنه طلقة.
وحين عاد كانت القهوة قد انقلبت إلى مولد تحييه زبيدة.
وجرها الشبراوي في غلظة بعد أن ألحف في الاعتذار للمخبر، ومشى وهو لا يدري أين يذهب، وكان الوقت يمضي والشمس غابت، والأضواء القوية تزغلل عينيه محاولة تذكيره بالذي مضى، ولكنه كان في عالم آخر.
وظل يبحث في ذاكرته حتى عثر على قريب له من بعيد، طالب في الزراعة في الجامعة، وعثر أيضا في ذاكرته على مكان بيته.
وتاه في الجيزة ساعات، فقد كان يعرف البيت في النهار فقط.
وأخيرا استدل عليه، ودق الباب، وفتح قريبه، وسلم عليه بحرارة، وأنت فين يا أخي، والله زمان، وإزاي الجماعة.
وقبل أن يدخل في الموضوع زغردت زبيدة بحماس، وكانت ما فتحت فمها طول الوقت.
ونظر إليها الشبراوي، وتمنى لو كان معه سكين ليذبحها.
ولم يدخل في الموضوع أبدا، إنما انسحب في سكون وهو يروي لقريبه نتفا متفرقة من الحكاية.
وحين احتواه الشارع قال لزبيدة وهو يضغط على ذراعها يريد كسرها:
واستمر يهدد ويتوعد وهي ماشية بجواره كالأوزة لا تلوي وزي ما تيجي.
واستمر يهدد ويتوعد وهي ماشية بجواره كالأوة لا تلوي على شيء.
وذكره المؤبد الذي يريد الرواح إليه بالقسم، ووجد أنه حقا أصلح مكان يأويها ويأويه في تلك الليلة السوداء.
والأوتوبيس، وفي خطوتين كان أمام الشاويش النبطشي في قسم السيدة.
والحكاية أعادها، وقد تمرن عليها وحبكها.
وهز الشاويش رأسه في بطء وهو يقول: دي مسئولية يا حبيبي، وأنت سيد العارفين.
ورد الشبراوي وغيظه يحترق: طب حطنا في الحجز.
وفي بطء قال الشاويش: برضه مسئولية.
وحين غادر القسم كان يلعن كل ما يمت إلى المسئولية والسائلين بصلة، ويكاد يضرب نفسه وهو يلومها على هذه المسئولية التي اندب فيها كالرطل.
وحين كان يسترد أنفاسه لاحت له فكرة اللوكاندة، ولكنه نبذها في الحال فهما اثنان، وزبيدة حرمة، وخطرة، والحسبة فيها بالراحة خمسون، ستون قرشا، والحكاية على الله.
ولم يبتعد الشبراوي كثيرا، فقد تربع أمام جامع السيدة وجذبها، حتى تهاوت بجانبه، والحياء يمنعه من البكاء، فلم يكن يعتقد أن إنسانا آخر في العالم له مثل تعاسته، وبؤسه. وكان مجاذيب الست حولهما كالنمل، وحين زغردت زبيدة ضاع صوتها في تمتمة الشيوخ وبسملتهم وزقزقة النساء ودوامات الذكر.
وسر الشبراوي لهذا وانبسط، فلم يعد فيما تفعله زبيدة غرابة أو شذوذا. وفي الواقع كان هو الغريب الشاذ بين هذا الجمع، وكان هو التعس الوحيد كذلك. وتمنى أن يفقد عقله حتى ينجذب ويسعد ويستريح مثلهم.
ورغما عنه بدأ يخرج من نفسه ومن آلامه وغيظه ويرمق ما يدور حوله. وكان ما يدور مسليا، فلا أحد يسأل الآخر ماذا يفعل أو ينهاه عن فعله، وانصرف الشبراوي بكليته إلى الشيخ الذي بجواره، والذي كان ممددا مسترخيا في موازاة الحائط، وقد أسند رأسه إلى ساعده، وراح يرقب الناس الغادين الرائحين بلا أدنى مبالاة، وفي وجهه اكتفاء واستمتاع، وكأنه ملك العصر والأوان، وكان بين الحين والحين يخفض رأسه، ثم يرفعها بعد مدة، ويحدق في الشبراوي ويقول في صوت ممدود عميق ساخر: وحد الله.
فيوحد الشبراوي في سره.
ثم يغيب الشيخ ليعود ينظر إليه نظراته التائهة الطويلة.
ومر واحد من فوق الرصيف، ورمى بعقب سيجارة، وجاءت في متناول الشيخ، وفي اتزان واطمئنان وثبات مد الشيخ يده والتقطها، وشد منها نفسا عميقا، وأخرج دخانا كثيرا من جوفه وهو ناعم ملتذ، وأطل بنظرة سعيدة على الشبراوي وحلقات الدخان تلهو في بطء حول وجهه وقال بكل ثبات: وحد الله.
ولم يتمالك الشبراوي نفسه، وضحك، وتمنى أن يرقد مثل رقدة الشيخ، وأن يكون خالي الهم والمسئولية مثله. وحين مرت المسئولية على لسان وعيه التفت ناحية زبيدة، فوجدها تتثاءب.
وكاد يرقص من الفرحة.
ولم يطل بها التثاؤب وشيئا فشيئا مضى جسدها يثقل ويستكين، ثم راحت في النوم.
ولأول مرة تملى الشبراوي في وجهها، لم تكن حلوة، ولكنها كانت بيضاء، وكانت صغيرة وأقدامها فيها طين وجروح وخلخال غليظ. وكانت في نومتها لا تفترق عن العاقلين.
ولاحظ الشبراوي أن ثوبها مشقوق وفخذها بائن منه، وخفض من بصره وهو يلم الثوب ويغطيها.
ثم انخرط في تخريف لا يعرف له أول من آخر مع الشيخ حتى نام.
وحين تقدم الليل، وسكنت الدنيا، وتكوم محاسيب الست يغطون بجوار الحائط كالقرود التي أنهكها يوم مشحون بالرقص والنط، كان هو يتساءل عما أزال الغضب منه فلا يجيبه إلا الشخير الذي كاد يقلق السيدة في مقامها.
وصمم أن يسهر الليل بطوله ولم يكن هذا سهلا، فالنهار قد هده، والسفر أخذ منه ولم تبق لديه عافية بعد أن امتصت المشغولية وطول التفكير عافيته.
وطال عليه الليل وهو نصف نائم يرنو إلى ساعة الميدان، ويستعجل الوقت الذي يتهادى في بطء ثقيل الدم.
وما جاءت السابعة حتى كان في المحافظة ينتظر الطبيب وينش الناس من حولهما كما ينش الذباب وزغاريد زبيدة تلعلع بلا انقطاع. وأخيرا جاء الطبيب، وبعد كثير كان هو وزبيدة أمامه، وقلب الرجل الأوراق، ثم قال وهو يؤشر عليها: خدها القصر العيني عشان تتحط تحت الملاحظة.
وأخذها الشبراوي مستسلما وخرج، ومن ترام إلى ترام وصل القصر العيني، وسأل واحدا فلم يجبه، ونظر آخر إلى زبيدة ثم مضى، ودلته تمرجية عجوز على الاستقبال.
واستمع الطبيب إلى زبيدة وهي تهتف بسقوط العمدة وحياة الريس، وضحك كثيرا وهو يسألها فتجيبه وتهلوس وهي تجيب، وكان حين يضحك يرتاح الشبراوي أيما ارتياح، ويطمئن. ولكن الطبيب اتخذ في النهاية طابع الجد وأخبره أن لا مكان لها في قسم الملاحظة، وكتب هذا على الأوراق.
وسأله الشبراوي وروحه تحت لسانه: وأعمل إيه؟ - روح المحافظة تاني. - تاني!! - أيوه تاني.
وكان وهو خارج يحمل الدنيا فوق قرنه، وفعلا راودته نفسه أن يقتل زبيدة ويقتل الأطباء كلهم، ثم يعمل مجنونا وينتهي، ولكن الأمر لم يتعد حدود المراودة البريئة.
وعاد إلى المحافظة وهو يلهث، وقرأ الطبيب ما كتب الطبيب وقلب الأوراق مرة أخرى، ثم فاجأ الشبراوي بسؤاله إن كان قد أحضر أحدا من أقاربها، وأحس الشبراوي بغصة وهو ينفي أنه أتى بأحد.
وأخبره الطبيب أن هذا ضروري لملء استمارة المستشفى، وأن عليه العودة ببساطة من حيث جاء.
وبهت الشبراوي واصفر وهو يقول: أرجع الدقهلية بيها؟! - أيوه.
وضربها الشبراوي في عقله فوجد أن هذا أحسن حل، ولكنه تنبه إلى أمر ذي بال، فقال للطبيب: مش ممكن يا بيه، دانا معايا استمارة رجوع واحدة بس بتعتي. - يا ابني لازم حد من قرايبها. - أنا في عرضك يا بيه. - يا ابني دي مسئولية ما أقدرش أتحملها.
وكانت مرارة الشبراوي قد انفجرت من هذه المسئولية. وقبل أن تتولاه ثورة يحطم معها كل ما أمامه قطعت زبيدة الحديث بزغرودة رطبة، وفي أقل من لمح البصر خلعت ثوبها المهلهل، ثم اندفعت خارجة فجأة، وجرت في حوش المحافظة والكل مذهول قد عقدت الدهشة أيديه وأرجله.
وكان الشبراوي هو أول من جرى وراءها بكل ما يملك من قوة. وحلق الناس والمساجين والعساكر عليها، وأفلح الشبراوي في الإمساك بها فتملصت منه، وهي تهتف بسقوط العمدة، وعضته، وصرخ الشبراوي، ثم هوى على وجهها بكفه وسال الدم من فهمها وأسنانها. وأعيدت إلى غرفة الحكيم وهي تهتف وتتمرد وتزغرد.
وجاء قميص الكتاف وتعاون أربعة على إدخالها فيه.
وتدحرجت زبيدة على الأرض وهي تحاول التخلص، والدم يسيل فيلون أسنانها ووجها وشفتيها، واللعاب يصنع الزبد حول فمها.
وحرر الطبيب الاستمارة على عجل، ووقف الشبراوي مبهوتا يرقبها، وينتفض بدنه مما تفعله في نفسها.
وذهل وهو يكتشف بعدما وضعت زبيدة في قميص الكتاف أنها مجنونة، وأنها لا تفقه مما تقول حرفا، وليس لها ذنب فيما قاساه، ثم إنها لم تأكل وما شربت وهي معه، ولا حتى حين كانت في البلد.
وشعر بشفقة غريبة تدب في نفسه وهو يراها تتدحرج، وتخبط رأسها في الأرض وتتلوى.
وقال له الطبيب: خلاص.
وانتهت بذلك مهمة الشبراوي ومسئوليته.
وكان يخيل إليه أنه سيحيا ليلة لوجه الله إذا انتهت مهمته، وتخلص من زبيدة ومصائبها، ولكنه تلقى الخبر وكأن غيره هو الذي يعنيه الخبر.
وجاءت العربة وأركبوا زبيدة فيها، وهي تزغرد وتهتف بحياة جلالة الريس، والناس كلهم يضحكون.
وتحرك الشبراوي كالمطعون ورجا السائق أن ينتظر دقيقة، ثم جرى واشترى رغيفا من الفينو وحلاوة طحينية، وأعطاها للعسكري الذي يرافقها وهو يقول له في رجاء حار: والنبي توكلها وتخلي بالك منها، اعمل معروف وحياة اللي ماتولك تتوصا بها.
ومضت العربة.
وتسلل الشبراوي من المحافظة إلى المحطة مباشرة، وقد شبعت نفسه من مصر ومن الدنيا، وبين الآونة والأخرى كان يلمح كفه التي ضرب بها زبيدة، فيقشعر جسده بخجل لم يحسه في حياته.
بصرة
- آه، أهو جه. - ليلتك سودة يا مليم. - أما حتبقى حتة ملعبة. - دي حتبقى مدعكة. - شد حيلك يا حمودة وهات لنا أجله. - أهو دلوقت تحلى الفرجة يا ولاد.
ومضى الجالسون في القهوة يتقاذفون التعليقات، وهم يتسمعون إلى الضحكات العالية التي تترى من الخارج، وقرقعة الصفائح الفارغة، ودبيب الأقدام الثقيلة التي تجري، وكأنها أقدام فيل.
وظهر «مليم» السقا في النهاية، مقهقها صاخبا لاعنا أبا الدنيا ومن تهمه الدنيا كعادته. ووضع صفيحتي «الجاز» الفارغتين والعصا التي فيها الخطاطيف فوقهما، وضحكت عيناه لكل الموجودين في سخرية خالية من الهم، ثم انتحى كرسيا نائيا جلس عليه، ووضع ساقا فوق ساق، وصفق بيديه كأحسن زبون، فتعالت الضحكات لجلسته وتصفيقه.
وجاء نبقة «الجرسون» يلبي الطلب في احترام مصطنع، وزغده المليم وهو يأمر بواحد شاي بالحليب وكرسي دخان.
وعوى فيه وهو يقول: خلي بالك مالكرسي، فاهم.
ومضى نبقة عنه سريعا وهو يغني في صوت روتيني ممدود: صل عالنبي، تكساب.
وكأن جلسة مليم قد حلت عقد الألسنة كلها فانهالت عليه لاذعة متفكهة، بادئة بقدميه الكبيرتين العريضتين على قصر، وقد جمعتا كل ما استطاع حفاؤهما جمعه من طين، وصاعدة إلى ساقيه العاريتين الوارمتين بالعضلات وكأنهما فخذا كندوز، ثم قميصه الذي كان هو كل ملابسه، وقد تحزم عليه بقطعة بالية من شبكة صيد، فجعل له «عبا» تدلى له القميص فوق ركبتيه الخشنتين المشققتين، ولا تهدأ الألسن حتى تتمرغ فوق صدره الموشوم عليه فتاة تمسك بيديها سيفا، وتختنق تحت غزارة شعر صدره الكثيف الشائخ. وتمتد اللذعات إلى وجهه واصفة إياه بالرغيف المحروق، وقعر الحلة الأسود، ثم تصل إلى صلعته التي كانت الشيء الوحيد الأبيض الماسخ فيه.
كل هذا ومليم جالس لا تخدش النكات جارحة فيه، وإنما هو حكم عدل بينها، يستعذب الحلوة ويستملحها، ويفرق بين السخيف والجديد فيها، ولا يسب صاحب البائخة، ولا يمدح قائل الجديدة، إنما يضحك فقط إذا أعجبته النكتة، وكانت ضحكاته من نوع فريد، كانت فيها طبول ودفوف وقرقعة صفائح، ثم ذيل طويل رفيع يختمها به.
ولما بدأ ضحك الجالسين يهمد، وقلت نكاتهم وقدمت، لجأ مليم إلى الحيلة التي يلجأ إليها دائما ليضحكهم، فوضع قروشا في حلقه، حتى وصلت زوره، ولا يدري أحد كيف كانت تصل إلى زوره، ثم دق على رقبته فشخشخت القروش، وضحك، ولم يملك الناس حينئذ أنفسهم.
وهدأت أخيرا العاصفة التي أثارها مليم بدخوله، وكان المغرب قد حل، وبدأت العربات المارة في الشارع تضيء مصابيحها، وكان نبقة قد رش ما أمام القهوة بالماء، وفتح الراديو على آخره ليجتذب الزبائن، وأشعل الكلوب وعلقه، واستوت شالية النار في الخارج فأدخلها وكلها بصابيص متوهجة، ووضعها بجوار «النصبة»، وغطى نارها بالرماد لتعيش وتكفى السهرة. وكان المعلم قد اتخذ مكانه أمام البنك، وطلب فنجال القهوة السادة، وأمر نبقة بتغيير ماء «الجوزة» ليستطيع أن يشرب كرسي المغرب.
وكان حمودة جالسا بجوار المعلم، وقد أمال جسده قليلا في تحفز، فمنذ الصباح والكل يتحدث عن اللعبة التي ستقوم الليلة بينه وبين مليم، والكل يستعد ويتنبأ.
وقال له المعلم وهو يمد الغابة إليه، فتناولها، وجذب نفسا قصيرا، وأخرج الدخان، ثم أراح ظهره على ظهر الكرسي محاولا بجهد أن يلد واحدة من ابتساماته، وكان يستعمل ابتساماته دائما لإخفاء ما به من تعب، وهو في الحقيقة كان يتعب، ومع أنه كان رجلا طويلا عريضا، إلا أنه كان يعمل صبيا لموقف العربات. وكان ينغرز اليوم بطوله في الشارع، والشمس في نافوخ رأسه العالي المهدل الشعر، وعينه الحولاء التي فيها بياض كثير زائغة هنا وهناك علها تلمح راكبا، وحنجرته الراقدة كالقبوة لصق عنقه تهتز وتتعالى وهو يجأر قائلا: اللي رايح شبين، شبين والكفر. بتلاتة ساغ لشبين.
وكان يقضي اليوم هكذا ينادي على الناس ويشحن العربات، ويتشاجر مع السائقين على «الفية»، ويسب الركاب والموقف والعفاريت الزرق، ثم يخرج آخر النهار بصوت ما عادت البحة تؤثر فيه، وبجاكتته التي كانت قميصا من مخلفات الجيش وقد ارتداها فوق جلبابه الذي كان له لون ذات يوم، وبجيب القميص الذي على صدره، وقد عمر بالقليل من النقود. يخرج آخر النهار بهذا كله إلى القهوة، وقد يخرج إلى المركز، وقد يسافر في عربة ليشحن دور الفجر في شبين، وقد لا يخرج بشيء على الإطلاق.
سأل المعلم حمودة عن الحال، وسكت حمودة قبل أن يقول إنها مثل اللبن، وحاول المعلم أن يقيس ما في سكتته من طول ليعرف ما في جيبه من نقود، ولما اطمأن المعلم قال وهو «يخمن» الكرسي: الواد مليم بيتحنجل.
وابتسم حمودة، وحدق في المعلم بعينه الحولاء، وقال في اشمئزاز: دابن «...» هو مش حيسكت إلا أما أدبوا عشرتين.
وجاء الدور على المعلم ليبتسم، فتبين سنته الأمامية المطلية بالبلاتين، ونفض ما علق في بلغته من تراب وهو يقول: حلو، آدي الجمل وآدي الجمال.
وكانت أسماع الجالسين حول المعلم قد اجتذبها الحديث، وأصاخت، فاستعذبت الحديث، وعلا صوت حمودة، وترددت صيحته بين جنبات القهوة، وكأنه ينادي على الركاب قائلا: والنبي لما يكون ابن جنية، دانا أكله، دانا مضيع عليها شبابي.
وتلفت الجالسون يبحثون دو وعي عن مليم فلم يجدوه، وارتفعت همساتهم تتساءل، وأراحهم المليم حين أقبل بعد قليل، وقد ملا دور الماء للقهوة، وتحولت الأنظار إليه وهو يتمخطر تحت عبء الصفيحتين الممتلئتين وواحدة تجذبه بثقلها والأخرى تدفعه، ورجلاه تنتفخ عضلاتهما وهما تأخذان طريقهما بين الصفيحتين في حنكة وخبرة وقوة.
وقهقه مليم لما رأى نفسه محطا للأنظار، ورقص بالصفائح.
وأعجب نبقة رقصه فاتخذ البوفيه طبلة وراح ينقر، وساح المليم رقصا، وقد ترك العصا ترتكز وحدها على مؤخرة عنقه، بينما يده قد ارتفعت إلى فوق، والأخرى قد وضعها في وسطه.
وابتسم المعلم، وانفرجت أسارير حمودة، وانهالت اللعنات والألسنة تهري مليم، ثم سكتت الضجة قليلا حين علا صوت المعلم: اسمع يا واد يا مليم، فيكشي عشرتين بأربعة صاغ.
ورد مليم وهو لا يزال يرقص: أربعة ساغ، أربع برايز، أربع وقات، أربعة النينو كوانينو، كله ماشي يا معلم، ما يهمكش، ملعون أبو الدنيا، ملعون أبو ...، ملعون أبويا، هأوو.
وتوالت الأحداث مسرعة.
فحالا أعدت أحسن منضدة أمام حمودة، وكانت هي الوحيدة التي لها سطح من الأبلكاش الناعم لولا بعض الحفر السوداء التي صنعتها بقايا السجائر والبصابيص فيه. وتولى الجالسون أمر الصفيحتين فأنزلوهما، وأفرغوهما في الزير الراقد بجانب النصبة. وتولى آخرون دفع المليم وهو يتدلل ويصدر كل الأصوات التي تجيء على خاطره من فمه ومن أنفه على حد سواء، والكل يعرف أنه في لحظته تلك أسعد خلق الله؛ لأنه سيلعب وما أدراك ما هو المليم حين يلعب؟
وما إن استوى مليم في مكانه، حتى تلفت حوله، ثم دق المنضدة بجمع يده وهو يقول كالأسد: أجدع كوتشينة يا وله.
وعاد نبقة مسرعا بالكوتشينة الوحيدة الجديدة في القهوة، وما كانت جديدة، بل كان المعلم يحضرها من نادي الموظفين؛ حيث يلعبون بها البوكر ليلة أو ساعة من ليلة ويتركونها جديدة أو تكاد ليشتريها المعلم وأمثال المعلم.
وألقى نبقة الدستة بدراية، فجاءت كما أرادها وسط المنضدة تماما. وسرعان ما امتدت إليها يد المليم، فأخرجها من العلبة، وقبلها وهو يلعن أباها ويقهقه، ثم بلل إبهاميه بالكثير من لعابه وعدها بطريقته الغريبة السريعة والأنظار كلها بين أصابعه، ثم فنطها وجعل وسطها في طرفيها، ثم جعل طرفيها في وسطها ووضعها وهو يدق المنضدة في قوة ويقول لحمودة في تحد: اقطع.
وكان حمودة ينظر إلى حركاته في اشمئزاز ظاهر وليس بينه وبين صفعه إلا قراريط معدودة، وقبل أن يرد على تحديه وقف نبقة كالزوال ووضع يده فوق «الكرت» قائلا: عايزين إيه؟
وطلب حمودة شيشة، وطلب المليم كازوزة بالثلج، ولم يتحرك نبقة إنما قال: كمان طلبين تانيين، دي الكوتشينة الجديدة يا عالم.
وحدق فيه الاثنان دون أن ينطقا بحرف، واستدارت نظراتهما إلى المعلم تستنجده، ولكنه هز رأسه مؤمنا على كل كلمة قالها صبيه، وفي استسلام طلب كل منهما مشروبا آخر.
وأيضا لم يتحرك نبقة، إنما قال في لهجة حاسمة: ايدكو عالتأمين.
وفي تهور أخرج مليم قرشين من ظرف جواب قديم كان يضع فيه كل ما يملكه من نقود، وكان يدسه دائما بين طيات حزامه.
وفي بطء وامتعاض استخرج حمود شلنا ورقا من جيب قميصه ورماه بقلة اكتراث على الطرابيزة.
وفرق مليم.
وبدأ اللعب. •••
بدأ اللعب في هالة من الصمت الجاد لفت اللاعبين، ثم اتسعت حتى قتلت كل الهمهمات التي كانت تنبعث ممن حولهما. ولم يكن هؤلاء كثيرين، كانت نفس الوجوه التي يسيل عرقها كل مساء، ويلمع تحت سطع الكلوب، وهي تحملق في الأوراق التي على الطرابيزة، والتي في أيدي اللاعبين، كان الجالس على يمين مليم، والواضع كتفه فوق كتفه، حتى ليكاد ينحيه عن كرسيه، كان عبد الودود، وهو رجل لا هشة له ولا نشة، له ثلاثة قراريط يزرعها فجلا وطماطم، ومزاجه الذي يؤرقه أن يجلس في القهوة يراقب اللاعبين، ويزجر هذا في لطف وضعف؛ لأنه يغالط، ويناصر صاحب الحق إن كان هناك صاحب حق. وكان الجالس بجانبه محمد صانع الحصر، وكان كعادته يلوك في فمه متلذذا حبة نعناع، فهو لا يدخن، ولا يحشش، ولا يشرب الجوزة إلا معزوما، ومع ذلك فقد كان حريفا كبيرا، ولكنه تاب عن لعبها حين أقسم من عام مضى بالطلاق ألا يلعبها، ولم يحنث في قسمه، واكتفى أن يجلس جلسته تلك إذا ما انتصب المجال، ويهتف في فرح للعبة الحلوة، ويمصمص حبة النعناع لكل لعبة تفلت.
وكان مصيلحي يجلس بجوار محمد ويزاحمه، محاولا أن يجد له منفذا إلى المنضدة، ومصيلحي كان تلميذا في المدارس، صغيرا إذا ما قورن بالكبار الجالسين حوله، ولكن ذلك لم يمنعه أن يكون أكثرهم نقودا في بعض الأحيان، ولم يحل بينه وبين أن ينازل واحدا منهم في كثير من الأحيان، وكأنه كان يجد في الكوتشينة والقهوة سحرا خاصا يجذبه بعيدا عن أصدقائه ولداته من التلاميذ أمثاله، فكنت لا تراه إلا جالسا في القهوة بجلبابه النظيف، لاعبا إن كان هناك مجال للعبه، أو متفرجا متحمسا إن عز المجال.
ثم كان هناك الشافعي وأبو الخير وعبد ربه، وهم أنظف الموجودين من كل ما يمت إلى المعاملة بصلة. كان لا عمل لهم في القرية فموسم العمل قد انتهى، فكانوا يأتون كل يوم إلى البندر علهم يجدون عملا، وكانوا لا يجدونه، فتلمهم قهوة المعلم بلدياتهم، وكثيرا ما كان يزجرهم، وغالبا ما كان يتركهم حين كان يجد لأكتافهم البلوطية وأذرعهم البرية عملا عنده، وكفاهم ثمنا أن يجلسوا على القهوة.
وكانوا هم الآخرون يزاحمون ويبحلقون، وتعلموا الكوتشينة من كثرة ما زاحموا وبحلقوا، وكان حلمهم الأكبر أن تفضى دستة قديمة تآكلت أوراقها وتمزقت، حتى ينتحي بها أبو الخير وعبد ربه جانبا ويلعبا، ويعد لهم الشافعي الأبناط، فمع أنه كان أضعفهم بنية، إلا أنه كان الوحيد الذي يستطيع أن يعد حتى يصل المائة.
وانتهت العشرة الأولى.
ومع أن الأولى ليست دائما بذات قيمة، وكل واحد يحاول فيها أن يختبر حظه، ويتعرف مهاوي زميله، ويريح التوتر الذي في أعصابه، والذي يسبق اللعبة، مع هذا إلا أن المليم حمرق، وأصر على أنه هو الغالب.
وسواء كان غالبا أو مغلوبا، فقد كان له إصرار عجيب على أنه الغالب، حتى يلومه الموجودون كلهم، ويقنعوه بأنه المغلوب. وكان يوافق حينئذ على مضض كأنه مظلوم مهضوم.
وهكذا لعب مليم، فمع أنه كان حريفا لا بأس به، ويجيد «الدق» والاستدراج والتفنيط، إلا أنه كان يعتمد أكثر ما يعتمد على الضجة التي يصنعها، والإهانة التي لا يني عن توجيهها لخصمه، ومع هذا فقد كان الكل يعجبون لخارق عاداته، كان يكفي أن يضع أوراقه بين سبابته وإبهامه ليعرف كم زوجا ناقصا على أخذ الورق، وكان ماهرا في دس الأولاد والعشرة الطيبة والورق الثمين لتكون من نصيبه. وكان يفعل هذا ويخفيه بزعيقه وغلبته، وهزة وسطه، وملايين الصلاة على النبي، ووحدوه، التي يجأر بها بين كل لحظة وأخرى.
ويا سلام لو جاءته بصرة، كان يقف نصف وقوف ويزغرد، أو إن كان متحمسا يستعجل فيصرخ، ثم يدب الورقة بكل ما يملك من قوة على الطرابيزة قائلا: بصرة، شاهدين.
وغالبا ما كان هذا يدفع الغضب إلى زميله، ويشوش تفكيره، فلا يستطيع أن يحسب ما فات من أوراق أو أن يخمن ما سيجيء، وحينئذ يضطرب ويلقي له بأي ورقة، فإذا بها بصرة ثانية.
وكان حمودة أتعس خصم لمليم؛ فهو ليس صاحب كلام كثير، وإذا تكلم خرج كلامه سريعا موجزا كأنه طلقات مدفع سريع، وما أقرب ما يغضب، فيمط وجهه حتى يصبح طويلا كاللبانة الممدودة، وتتنافر عيناه، ثم تتوالى الطلقات من فمه، ويثور. كان هذا حمودة على طبيعته، أما حين كان يلعب مع مليم فكان حينئذ لا يتكلم، ويكسو وجهه قناع متحفظ جامد؛ فقد كان يرى أنه بلعبه مع مليم إنما ينزل عن مستواه، فهو ابن عيلة، ومليم هذا لا يعرف أحد كيف جاء إلى البلد، ولا من أين جاء، فقد أصبحوا يوما ووجدوه بينهم، ولا زال كما كان يوم جاء صائعا هلفوتا، يملأ صفائح الماء للمحلات من حنفية المجلس البلدي، كل صفيحة بمليم، وينام حيثما اتفق، في القهوة حينا، وفي الخرابة التي وراءها حيث يقوم السوق حينا آخر. صحيح أنه يقول إنه من الغربية، ويهدد كل يوم بترك البلدة والذهاب إلى أهله في بلاد العز، ولكنه لم ينفذ تهديده أبدا.
ثم إن حمودة متزوج وله بنتان، أما هذا فلا زوجة له ولا ولد، وإنما هو يلف تارة مع عفيفة السبارسية، وأخرى مع أم الشحات العجوزة صاحبة الغرزة.
وحمودة كان يرى نفسه متعلما، فقد قضى عاما في المدرسة الإلزامية، أما مليم فأين تعلم؟ إنه أمي جاهل لا يجيد إلا الرقص والدق على عنقه حتى يشخشخ.
من أجل هذا كان حمودة يعامله بحرص، وإذا ضايقه مليم بصراخه وجعجعته كان يلقي عليه نظرة بجانب وجهه الذي فيه عينه، ويكز على شفته، ثم يسكت.
وعلى هذا اشتد الخلاف على العشرة، وكان المتفرجون يقولون إن حمودة هو الغالب، وكانوا يقولونها في قسوة ليست غريبة عليهم، فهم يخذلون المغلوب مهما كان المغلوب، ويشيع فيهم سرور وحشي وهم ينهشون كل ما يبذله الخاسر من محاولات يائسة للنيل من انتصار زميله. واستسلم مليم في النهاية بقحة غاضبة وهو يزأر ويموء غير موافق، وطالب أن يولوا الحساب واحدا له ذمة. واقترح الجالسون «الأستاذ» مصيلحي، ووافق اللاعبان، وكل منهما يمدحه بكلمة. وانتشى مصيلحي وقد أسعده أن يرتضوه حكما وأمينا.
ودار اللعب.
كان مليم يمسك الأوراق متقاربة، ويكاد يلصقها في صدره، ولا يفتحها إلا بحساب. وكان يراقب حمودة في دقة وحذر وهو يفرق، ويفتش الورق في كل مرة «يقش» فيها حمودة، ولا يطمئن إلا إذا رأى الولد بعينه.
وكان لا يكتفي بتفنيط حمودة، فيمسك الدستة، ويكاد يمزقها تفنيطا لولا زغرات المعلم التي توقف كل شيء عند حده.
وعلى النقيض، كان حمودة يمسك أوراقه مفرودة مبعثرة في غير اعتناء، فيعطي مليما الفرصة لكي يعرف أوراقه بنظراته المختلسة المتلصصة. وكان لا يجاري مليما في شكوكه وظنونه السوداء، إنما كان مخه هو الذي يعمل فقط، فهو يحسب كم ثمانية تبقت، وهل انتهت السبعات أم بقيت الكومي، وساعات كان يغلبه طبعه، فإذا بدا أن العشرة سيخسرها كان يتصنع الغباء، ويبدأ في العد من جديد، ويناكف ويغالط، ولكن بغير ضجة أو ضوضاء.
وكسب مليم العشرة الثانية.
وتنهد الجالسون في ارتياح، فمعنى هذا أن تستمر اللعبة.
وسكت حمودة فلم ينطق بحرف، ولم يهدأ مليم، فقام ورقص هنيهة وهو يزعق بملء صوته ثم جلس.
وعلى ذلك أصبح كل منهم مغلوبا في عشرة، وبدءوا يلعبون عشرة أخرى؛ ليتخلص أي منهم من غلبه، ويصبح الثاني مغلوبا في العشرتين.
وهكذا بدأ التطبيق.
ومعه بدأ الحماس، حماس المتفرجين، فالتطبيق يكون عادة أحمى من العشرات الأولى، ففيه سينجلي من يتحمل الحساب وحده.
وكذلك بدأ حماس اللاعبين، وإن كان يشوبه بعض الاطمئنان، فعلى فرض أن أحدهما خسر العشرة، فله أن يلعب عشرتين «فرق»، ولا يستطيع الجالس أمامه أن يقوم إلا إذا غلبه مرتين متتاليتين.
وهكذا، فالأمل ممدود، واللعبة بدأت تزهو، والليل طويل، ولا شيء يعدل ما هم فيه من لذة محمومة.
ودور في الثاني في الثالث راحت العشرة، وأصبح اللعب كله عند مليم، ولم يحزن، ولم يثر، وكذلك لم يضحك أو يرقص، بل اندفع على الفور يقول بصوت هادئ وفي عينيه ألف عفريت: الفرق.
وابتسم حمودة ابتسامة صفراء، وهو يقول بصوت فيه نخوة وعدل: أديك فرق زي مانتا عايز، أصول لعب، واللا إيه يا إخوانه ما تقولوا.
ويزوم الإخوان، وتتمشى بينهم موجة أمل وفرح، وتصبح الموجة عاصفة حين يقول مليم، وهو يطلب المشروبات على الفرق: أنا مش عايز حاجة، شوف الرجالة يشربوا إيه يا نبقة.
ولا يتخلف حمودة، بل يسرع قائلا: هات لي كرسي دخان، وهات للأستاذ حاجة، والمعلم تعميرة.
ويتهلل الجالسون المتفرجون وقد حانت لحظتهم، ويطلبون وينتقون ويوصون، ويعرفون أن فائدة الفرجة قد هلت.
ويبدأ اللعب في عشرتي الفرق.
ولهذا تنظف المنضدة، ويزيح حمودة عبد الودود الراقد فوق كتفه، وتتخلخل الكراسي وتتباعد، ويتقارب بعضها، ويسود غير قليل من الهرج والمرج.
ويغمز المعلم لنبقة، ويأتي نبقة كالزوال، ويمد يده، ويلعب أصابعه دون أن ينطق حرفا.
ويدق مليم على زوره وهو يضحك ورقبته تشخشخ، ثم يخرج من فمه أربعة قروش.
ويبدأ اللعب وقد قل الضحك، وزاد التربص، واشتدت رقابة مليم على أصابع حمودة، بينما الأخير قد أدرك أن مليما يرى ورقه، فحاول أن يحتفظ به مضموما مخفيا، وسرعان ما سها عن محاولاته، فعادت أوراقه إلى ما كانت عليه. •••
كان الراديو قد انتهى، وعزف السلام ومضت بعد هذا ساعة، وكان نبقة قد أتى بالمقاعد من الخارج ورصها صفوفا بجوار الحائط، ثم لم ضلف الباب الأربعة، وأغلق ثلاثا منها. وكان الكلوب ما زال يوش ويهمس، وإن كان نوره قد ضعف، وكان مليم وحمودة جالسين جلستهما، والورق مفروشا أمامهما، والمتفرجون قد تسرب النوم إليهم فقاموا، ولم يبق إلا الأستاذ ماسك الحساب. وعند البنك كان المعلم يحاسب نبقة، وكانت هناك خمسة قروش ناقصة، وكان الصبي رابضا على الأرض عند قدمي المعلم، مسندا ظهره إلى الحائط، محاولا أن يلم في رأسه كل الطلبات «الشكك» التي أخرجها، وأن يجد بينها الخمسة قروش. وكان المعلم مريحا رأسه على البنك ووجهه إلى نبقة، ويكاد يغرز الماشة التي أمامه في عينيه، منتظرا نتيجة محاولاته على جمر خبيث.
والذي حدث أن نبقة لم يتذكر، وإنما فوجئ هو والمعلم بصوت مليم يوقظ القهوة من سكوتها، ويهتف كأنما زال عنه الطاعون: راحت. - راحت إيه يا حلوف؟!
وقبل أن يتحرك المعلم كانت المنضدة قد قلبت، وبعثرت الكوتشينة على الأرض، وكانت يدا حمودة حول رقبة مليم ضاغطة عليها.
ولم يتحرك المعلم، وإنما حدق كالصقر، وقال: بس يا بهيم أنت وهوه.
وفي نفس واحد، وفي كلمات ملتهبة متلاحقة، قص كل منهما قصة تختلف عن الأخرى تماما، ولم ينس كل واحد منهما أن يستشهد بالأستاذ.
ولم يقل المعلم شيئا إنما ظلت عيناه محدقتين في ثبات مريع. وسكت الاثنان، ثم انحنيا يجمعان الأوراق المبعثرة ويعيدان المنضدة والكراسي إلى حيثما كانت، وفي هدوء ساكت جلس مليم ، وقد أقر بغلبه، وكان معنى هذا أن اللعب قسم، ومعناه أيضا أن هناك «تطبيقا» على كل اللعب، وأن هناك فرقا بعد التطبيق.
وأخيرا غض المعلم من بصره، وقال ولهجته ونظراته وبهتان ابتسامته تعني جميعها عكس ما يقول: ما كل واحد يشيل النص، وننتهي يا سيادنا.
وهب الاثنان في نفس واحد يرفضان. كان عند كل منهما الأمل أن يخرج من اللعب سليما، وأن يقضي السهرة، ويسقي المشاهدين وأصحابه على جيب الآخر، ثم يتندر بانتصاره أمام الرواد أسبوعا أو أسبوعين.
وقال المعلم وقد انفثأ غضبه وكأنه يسلم بالقضاء والقدر: على كيفكو، أنا معاكو يا سيادنا لآخر الطريق، أما نشوف.
ثم أكمل وكأنه كان ناسيا: بس إيدكو عالتأمين.
وأخرج مليم كل ما معه، وأحصاه فوجده ينقص عن التأمين نصف قرش، واحتار قليلا، ثم أخرج علبة سجائره من عبه، وأخذ منها السيجارتين الباقيتين وأكمل بهما التأمين.
أما حمودة فلم يكن قد بقي معه شيء، فأخرج من جيبه مطواة لها سلاح طويل، وناولها للمعلم. وأخذها الرجل وتفحصها، وفتحها وقفلها وعين حمودة تبرق وهي ترقبه، بينما مليم هاجع ساكن.
وقال المعلم وهو يهز المطواة في يده: ما تكفيش. - ودين النبي أنا شاريها من طنطا بخمستاشر ساغ يا راجل حرام.
وقال المعلم مرة أخرى: ما تكفيش.
وخلع حمودة قميصه، واكتفى المعلم.
كان نور الكلوب قد شحب كثيرا، وكان «الأستاذ» ليس، واستأنفا اللعب.
في عينيه ذرة نوم، وحماسه لم يفتر، لا للعب، فما كان هناك لعب، إنما للعمى الذي أصاب اللاعبين، فأصبح كل منهما يسرق سرقات ساذجة مكشوفة، ومع ذلك لا يراها زميله، وكل منهما يرمى البصرة، ولا يلحظها الآخر أو يشعر بها. وكان «الأستاذ» عن كل هذا ساكتا لا يفتح فمه.
وانتهى المعلم من حساب نبقة، وخصم القروش الخمسة من يوميته، وانتحى ركنا وجلس يلتهم العشاء الذي أحضرته له امرأته من المغرب بعد ما عزم بفتور على الجالسين. وبعد أن غسل يديه جلس ينتظر نهاية اللعبة، ويسمع ما يدور.
كان حمودة إذا سبق يشم نفسه ويقول: العب يا ابو صفايح يا نتن، والنبي ما انا مخليك تعرف وشك من أفاك، والنبي لمتوبك عن مسكها.
وكان مليم إذا اجتاز حمودة بأبناط قليلة يصرخ، ويزغزغ نفسه، ويقلد الديكة والمعيز والحمير، ولا يرد إلا بقوله: كله ماشي، كله عال، صل على سيدك، أهي دي تاكل دي، ودي تروح مع دي. يا سلام يا ابو الملاليم، والنبي حقيتك تبقى نص ريال، بصرة.
يقولها ملء فمه، وملء قوته، ولا يسكت إلا حين يناوله المعلم كلمتين كاللكمات.
ولما قاربت العشرة على الانتهاء جاء الرجل بنفسه، وجلس يشهد ويراقب ويحكم.
وخسر مليم فأمسك بالمنضدة في قسوة واربدت ملامحه، وقال: إزاي، إزاي، احسبوا تاني، مش معقول، احسب يا سي أستاذ.
غير أن شهادة المعلم الواثقة الخافتة المطمئنة جعلت غير المعقول معقولا، وبانت الهزيمة على مليم حين قال بصوت غليظ: العب الفرق يا ابن ...
وكان الفرق يعني تأمينا جديدا، وقال مليم للمعلم بصوت منخفض متوهما أن حمودة لا يسمعه: خلي التأمين بأجرة الشهر الجاي.
وهز المعلم رأسه قائلا: ما ينفعش، هو حد عاش.
وكأنما أهان رده مليما، فقال بكبرياء ضعيفة مجروحة: يكفيك الصفايح يا معلم، خدهم. - الاثنين بستة ساغ.
وبحلق فيه مليم ولم يقل شيئا، ولكنه مد يده يفرق. ولكي يخلص المعلم ذمته من الله أخرج من جيبه ثلاثة قروش هي كل ما تبقى بعد التأمين، ووضعها أمام مليم.
وأشار المعلم لنبقة حتى يحضر الطلبات، ولكنه توقف في منتصف إشارته، وقد تذكر شيئا فقال وهو يبتسم: إيه رأيكو يا ولاد، فيه سمك ورز، تاخدوا الفرق منه.
ووافقا في التو فقد كانا جائعين، وقد أصابهما غثيان من كثرة ما عبا من قهوة وشاي ودخان.
وأحضر نبقة بقايا عشاء المعلم.
وفي دقائق اختفت البقايا.
ومن جديد فنط حمودة الكوتشينة.
وبعد أن ألقى بتعليماته لنبقة، وهمس له أن لا يدعهما يلعبان إلا عشرتين فقط، خرج وقفل الباب وراءه. •••
قبل شروق الشمس، كان المعلم يأخذ طريقه إلى القهوة وهو يتمتم بختام صلاة الصبح، ويده ترفع ثوبه من خلفه، ويده الأخرى تحرك مسبحته الكهرمان في رزانة وخشوع.
وحين فتح الباب بمفتاحه كانت القهوة يسودها ظلام تخرقه خيوط من ضوء ما قبل الشروق التي تنفذ من الثقوب الكثيرة في نافذتيها، وفي حائطها نفسه. وكان هواؤها ثقيلا فيه دخان، وله رائحة، وكان الكلوب مطفيا، والأرض عليها أكوام من تفل الشاي، وقشر السوداني، وورق المعسل الفارغ، وفيها برك صغيرة من ماء أسود حالك.
وكان نبقة راقدا يشخر على كنبة طويلة، وقد تعرت ساقاه، وتعلقت إحداها في الهواء.
وعلى المنضدة الأبلكاش، كان هناك مليم وحمودة، وقد ألصقا رأسيهما ليستطيعا رؤية الأوراق على ضوء اللمبة «أم ساروخ» ولهيبها يتلاعب وينفث هبابه فيسود وجهيهما، ويلتهم ما شاء من شعر حمودة النافر في كل اتجاه. وكان الأستاذ هناك أيضا، وقد ربع يديه، ووضع فوقهما رأسه، مائلا إلى اليمين ليلمح أوراق حمودة، ثم مرتدا إلى اليسار ليرى ما عند مليم.
ويبدو أن أحدا لم يحس بمقدمه، أو إن كانوا قد شعروا فإنهم لم يبالوا بالقادم، ولا بمن يكون، ولكنهم أفاقوا تماما على صوت المعلم، وقد عادت هامته إلى الارتفاع، وجحظت عيناه على آخرهما في غضب واستنكار ودهشة: يا فتاح يا عليم، هو أنا حقلبها قمار، هو انتو موظفين يا ولاد الكلب يا جعانين، واد يا مليم، واد يا حمودة، فز أنت وهوه عمى في عينك منك له، أصل العيب مش عليكو، العيب على الصايع دهه.
وشد المعلم نبقة من رجله المعلقة في الهواء فرماه على الأرض، وصحا الولد شاهقا هالعا، ولكنه لم يمهله فانهال عليه بكفه ومسبحته وبلغته وقدميه.
وهنا فقط تحرك الثلاثة الذين كانوا واجمين مسمرين على مفاجأتهم الأولى، وكأنهم ضبطوا متلبسين، ولا أمل لهم في نجاة. كان أولهم الأستاذ الذي انسل كالنسمة مغادرا القهوة، وتبعه مليم وحمودة، وكل منهما يجر نفسه جرا وعيناه مطفأتان محمرتان فيهما تعب مريض، وقد تجمعت نقط بيضاء جافة على أركانهما، ووجهه ممتقع أصفر يختلط فيه الإنهاك بهباب المصباح. وليس في رأسيهما إلا طوابير من العشرات الطيبة والأولاد ومئات البصرات. وامرأة حمودة وبناته وصفائح مليم والغربية بلده.
ومضيا على غير هدى في الضوء الرمادي الباهت.
المكنة
كانت إدارة «مكنة» الطحين مثل كسوف القمر ووهج البرق، إحدى الطلاسم التي لا يفهمها أحد، ومع هذا فالناس كانوا ينتظرون إدارتها بصبر فارغ، ويحسبون ليوم الطحين ألف حساب، ويحمدون الله أن هيأ لهم مكنة قريبة من البلدة.
ولم يكن أحد يدري متى بنيت ولا كيف أحضرت عدتها مع أن الشيخ الهادي العجوز يزعم أنه رأى بعينه «الونش» الذي حملها، ولكن الجيل الحديث لا يطرق باله هذا الزعم، ولا يصدقه فمن يومه وهو يراها هكذا قائمة ثابتة كالجميزة الطاعنة، ترسل دقاتها مثل القلب النابض بنغم منتظم رتيب.
وكان الناس حين يمرون فوق السكة الضيقة المؤدية إلى الطريق الزراعي، ويرون باب المكنة مفتوحا، وشبح الأوسطى محمد يروح ويجيء داخلها يدركون من فورهم أنها سرعان ما تدور، فيلقي كل مستعجل نظرة خاطفة إلى الباب، ويتلكأ من ليس وراءه عمل، وقد يجلس البعض فوق كومة السباخ القريبة. يحدث هذا من بعيد لبعيد، ولا يجرؤ أحد على الاقتراب، حتى الأولاد الذين كان الطفل منهم مستعدا أن يتنازل عن الرغيف الذي في يده، أو الجلباب الذي يرتديه على اللحم ليستطيع مشاهدة ما يدور في الغرفة المظلمة المصنوعة من الصلج، حتى هؤلاء الصغار كانوا غير راغبين في المجازفة بأعمارهم والاقتراب، فالكل يعلم أن الأوسطى محمد هناك، وأنه الآن في أتعس حالاته، ولو وضع إنسان عود كبريت على طاقة أنفه في هذا الوقت لاشتغل العود.
والذي يرى الأوسطى محمد في غيظه وسخطه وحنقه يعجب حين يشاهده يدخل المكنة في الصباح، يربت على العدة القديمة المهروشة المتآكلة بيده، ويطمئن إلى سلامتها، وإلى أن ذرات الدقيق الناعم لم تتسرب من حجرة الطحين، ولم تفسد خضرة دهانها الذي لم يبلى. ويدور الأوسطى محمد حولها، ويفرغ وعاء الزيت، ويعمر الوابور ثم يشعله، ويضعه في مكانه من العدة حتى تسخن «طاستها»، ولا يتوقف أثناء هذا عن دق أشياء بداخلها، وتلمس أشياء، وتجربة مسالك ومقابض، حتى يرى بينه وبين نفسه أن الوقت قد حان، فيضع رجله في «الحدافة» الكبيرة الضخمة، ويستند بذراعيه القويتين إلى الحائط، ثم يستعين بالسيد البدوي، ويدفع العجلة.
وقد تقوم «المكنة» في ساعة، وقد لا تقوم، فيسب لها الأخضرين. وقد تعمل مرة، ويتصاعد صوتها الحبيب إلى نفسه من المدخنة الحديدية، ولكنه لا يلبث أن يتلاحق وقعه، ويهبط حتى يموت ليعود إلى إشعال الوابور، وتسخين الطاسة.
ونادرا ما كانت تقوم قبل العصر بعد أن يكون الأوسطى قد هدهد عليها وهو حانق، واستعطفها وهو يكاد ينفجر، وتحايل عليها، وداعت «البستم» ونغمش «الشنابر» بأصابعه.
وحين يتم قيامها كان الأوسطى ينتظر قليلا ليطمئن أنها لن تفعلها معه وتقف، وأن العادم تمام، و«البوبينات» شغالة بالمضبوط.
وكان حينئذ ينفض يده منها، ويمسحها بقطعة «الاصطبة» وهو يقول بكل الحقد الرءوف الذي في قلبه عليها: الله يلعن أبو أصحابك.
وكان وهو يستدير لا يستطيع إخفاء شبح ابتسامة راضية يداريها عن المكنة وهو يخرج. وكان يغادر الباب المظلم وعليه غبرة وزيت وشحم، وهو لا يني عن مسح الجاز والعرق الذي في وجهه وذراعيه وصدره بقطعة «الاصطبة»، ثم يضعها في حرص بجوار الحائط الصاج. ويمشي إلى الخليج القريب حيث يغمر كل ما هو بائن من جسده بالتراب، ويظل يدعكه حتى يتحول إلى طين أسود يغسله، فينداح الزيت والجاز على سطح الماء في حلقات.
ويعود بعد هذا إلى جلسته المختارة تحت شجرة الخروع بجوار حائط المكنة، وفي مواجهة بابها، وتكون الأدوات جاهزة، فيتربع ويشعل النار في الاصطبة من الولاعة النحاس التي صنعها بنفسه. ويغلي الماء في الكوز الذي له يد طويلة من السلك المبروم، ويظل يغلي الشاي حتى يستوي ويخرط مرات.
ولا يستطيع إنسان أن يحدثه قبل أن يرتشف في بطء حكيم، وفي خبرة الكييف القطرات الأول من الشاي ذي الكيان الأسود.
وكان الناس يقولون إن في شايه رائحة الجاز، وأنه يلقط من الزيت الذي لا تخلو منه يده، ولكن كل من شاركه مرة كان يؤكد أن الجاز - إن كان هناك جاز - يضفي على الشاي نكهة ذات مزاج لذيذ، ويجعل مذاق العنبر.
وكان الأوسطى محمد لا يتحدث كثيرا، وإذا تكلم فإنما لينفض متاعبه، ويروي كيف حرنت طلمبة الماء، أو كيف انزلق السير عن الطارة، أو كيف ضبط ذات مرة امرأة من حاملات المقاطف تحاول دخول غرفة العدة، وهم ببعثرة ما تحمله لولا تدخل الناس.
وكان إذا انحرف الحديث وخرج عن المكنة، ينطق بكلمة أو كلمتين، وكان كلامه في المليان فهو لا يعجبه الحال المائع، ولا الثرثرة التي لا فائدة منها.
وكان مستمعوه القليلون - وهم دائما قليلون - ينظرون إلى وجهه الذي احترق الجزء الأسفل منه، وبقي الجلد مكانه سميكا لا ينبت فيه شعر ذقنه التي كثيرا ما يتركها تنبت وتترعرع، ولا تفلت العيون شاربه الذي لا هو بالكثيف أو الخفيف، وإنما منفوشة نهاياته ومتفرقة، ذائبة في لحيته النامية.
كان مستمعوه ينظرون إليه، ثم يهزون رءوسهم بين موافقين وقانعين بالسكوت، فإنهم يعرفون أن لا نتيجة من وراء جداله، وأنه إذا قال شيئا لا يتحول عنه ولو أعطوه مال قارون.
ولم تكن لهجته تتغير حتى حين يكلم الحج طه. والحج كان يستأجر المكنة من صاحبها الذي له في البندر بيوت وماكينات، ولم يكن الحج أول مستأجر ولا صاحبها أول صاحب. ففي خلال أعوام كثيرة تقلبت من يد إلى يد، وانتقلت من بائع إلى مشتر، ورهنت مرات وفك الرهن، والأوسطى محمد يتنقل معها، ويلف، وليس بينه وبين مستأجرها كلام أو سلام، فالحج جالس في غرفة الطحين يزن المقاطف والأجولة على «الطبلية»، ويحاول مغالطة الزبائن في كيلة أو نصف كيلة، ويحاول الزبائن الجور عليه، واستعطافه واستجداءه إذا لم ينفع الجور أو يجدي.
والأوسطى محمد ليس له داع بما يحدث، فالعدة هي كل دنياه. لم يكن له زوجة، فقد ماتت من أمد طويل بعد أن خلفت له شحاتة، وما تزوج بعدها أو فكر في الزواج، وإنما علم شحاتة، وكان يطمع أن يرثه في صنعته، ولكن الولد خاب وفسد، وبعد أن رأى الويل في تعليمه أصول الكار ذهب، واشتغل صبيا على عربة نقل في البندر ، وكثيرا ما كان يبيت هناك فلا يراه أبوه أو يسمع عنه.
ولم يكن الأوسطى محمد ساخطا على ابنه أو غاضبا منه، وكان إذا جاءت سيرته أو حكى واحد أنه رآه، يصمت وتتعمق ملامحه، ثم يقول: خليه يشوف اللي شفته.
وأهل البلد كلهم كانوا يعرفون الأوسطى، ويسلمون عليه ويحيونه، إلا أنه لم يكن يعرف منهم، مع طول إقامته بينهم، إلا القليلين. ولم يكن يسهر إذا عن له السهر إلا مع عائلة الهواشمة التي تصنع الأقفاص، فكان يضمهم سطح منزلهم، ويجلسون بين أكوام الحطب، وتدور كراسي الدخان الحاف، ثم يتركهم الأوسطى ويذهب لينام في بيته ذي الغرفة الواحدة التي لها طاقة صغيرة عالية، وكان قد استأجر البيت يوم جاء بخمسة قروش في الشهر من نعسة أم هاشم. وماتت نعسة وتركت له بنتها التي تذهب إليه كلما قرصت الحاجة زوجها، وعلى كل ثدي من أثدائها ذباب وطفل معلق، تطالبه بالقرشين.
وكان يدفع لها على مضض، ووجهه معقود، فأجره كان ضئيلا، ومع هذا فما طالب بزيادة أبدا، فقد كان يضن بكرامته أن تخدش إذا رفض الحج طلبه، وكان قانعا بالمكنة، واضعا فيها كل همه، حتى قطعة الأرض الفضاء الصغيرة التي أمامها ظل يرشها ويرويها ويزرعها حتى أصبحت جنة، وحجرة المكنة كانت كالعروسة، وكان يضن بدنياه المحدودة أن يرشقها واحد بنظرة، أو يستحل لنفسه التطلع إليها أو الجلوس فيها.
وكان الناس يعزون انطواءه على نفسه ومكنته إلى أنه مصاب بداء الكبر؛ ولهذا فأنفه دائما في السماء، بل كان يذهب الذاهبون إلى أنه مريض بالسل، وأنه السبب في اعتداده وفي وجهه الذي لا ينفك.
وذات يوم حدث شيء لم يتوقعه أحد.
فقد فاجأ الأوسطى محمد ابن الحج طه داخل غرفة العدة، وهو يحاول أن يلمس الحدافة الضخمة الدائرة، ورأى الأوسطى أن السير يكاد يلهف ثوبه ويقطعه، فعلق الولد من أذنه وهو يفركها في غيظ بين أصابعه، ثم سحبه إلى الخارج كالعنزة العاصية.
وذهب الولد باكيا منتحبا إلى أبيه، وفار دم الرجل، وجاء مسرعا إلى حيث كان يجلس الأوسطى تحت الخروعة يصنع الشاي. وقال له بوجه أصفر عليه قطرات صغيرة من العرق، وبعينين زائغتين، وشفاه مرتجفة: يا أوسطى محمد، شوفلك شغلة تانية.
ولم يتحرك الأوسطى أو يثور، وإنما ظل ممسكا بالكوز، رافعا بصره إلى الحج، محدقا فيه، ثم قال بعد برهة وبعد أن جاهد ليبتسم حتى اعوج شاربه: بس كده، حاضر.
وشرب شايه على مهله، ثم قام وأوقف المكنة، ولم أشياءه، ومضى.
خرج الأوسطى محمد من هنا، وبدأ الناس يتقاطرون على الحج طه الذي كان لا يزال يرتعش، ويحاولون إرجاعه عن قراره. واستمرت المحاولات دون فائدة، ودون أن يلين قلب الرجل أو يتحرك له ضمير. وانقلب الناس إلى الأوسطى محمد يلحون عليه أن يستسمح الحج، ولكنه كان يرد عليهم وهو ساهم في تصميم أكيد: والنبي لما أحلق فردة من شنبي وأسيب فردة.
ويئس الناس الطيبون من محاولاتهم، فتركوا ما يحدث يحدث، وأمرهم إلى الله.
وتناقش أهل البلدة كثيرا فيما كان، وانتشرت الأقاويل تلوم الحج وتؤنبه، وتقول إنه لو لف الأرض سبع مرات فلن يجد أحدا مثل الأوسطى محمد. وكان الأوسطى يسمع الكلام ويبتسم فهو أدرى منهم بقيمته، فما كان إنسان يعرف مثله أسرار المكنة، فقد رباها على يده، وعرف متى تعصي وكيف تلين، وما هي الدفعة التي تديرها، والضغطة التي تلف حدافتها، ثم الغمزة التي توقفها. كان يعرفها أكثر من نفسه، ويعرف مزاجها وضعفها مثلما يعرف مزاجه وضعفه. وكان واثقا أن الحج سيأتيه حالا وهو صاغر، ويسوق عليه الناس كي يرجع.
في ذلك اليوم وقفت المكنة طول النهار، وفي اليوم التالي رجع الحج من البندر، وفي جعبته أوسطى آخر قضى ساعات كثيرة يلهث ويعرق ويستريح، وحين غابت الشمس ضرب الجنيه الذي أخذه بعد مساومة في جيبه، وانصرف دون أن يتكتك للمكنة صوت.
وطالت السهرة على سطح الهواشمة، وامتد الحديث عن خيبة الأوسطى الجديد.
ولم ييأس الحج، فغاب عن البلدة قليلا، ثم عاد ومعه ثلاثة من الأسطوات. وهلكت امرأته وهي تعد لهم الطعام والشاي كل يوم وهم يتخبطون ويختلفون.
وكلما طال تخبطهم كان الأوسطى محمد يسعد غاية ما تكون السعادة، حتى إنه ما كان ينتهي ضحكه، وحتى أصبح الناس يأنسون إليه فيكلمهم، ويهزر معهم، ويلكزهم أحيانا.
وكان انفراج وجهه بعد طول تكشير وتقطيب بالنسبة إليهم فاكهة في غير أوانها، فذهب ما كانوا يشعرون به من رهبة تجاهه، وأحسوا أنه إنسان مثلهم من دم ولحم، وأنه ليس مريضا أو متكبرا، وإنما طبعه حلو، ودعابته رائقة.
ومع أن الناس وحشهم صوت المكنة، وانقطع عنهم دقها القوي المكتوم، ولم يعد هناك طحين أو بياض أرز، وفرغ الفضاء الذي حولها من الحمير والجمال، وانتهى زعيق الرجال أمامها وزحمة النساء، وراح الناس يقترضون من بعضهم الدقيق، مع كل هذا إلا أنهم كانوا مع الأوسطى محمد، وكانوا على أتم استعداد لقضاء أيام كثيرة دون أرز أو طحين.
وكانوا يسخرون بالحج وبالأسطوات الذين يأتي بهم، ويتنبئون معه بفشلهم وبأنهم سيرجعون كما جاءوا ووجوههم مثل قفاهم.
وأثناء هذا لم يقطع الناس الطيبون محاولاتهم الملحة للصلح، ولكن الحج أبى إلا أن ينفذ كلمته، ولو صار فيها ضرب نار. وحين زهق ركب القطار إلى مصر، وعاد في ذات اليوم، ومعه أوسطى يرتدي عفريتة زرقاء.
وتهامس الناس وهم ينظرون إلى صغر سنه، وذقنه الملساء، وبشرته التي ليس فيها خشونة، ثم تنبئوا له بالفشل الذي لحق بسابقيه.
وكان الأوسطى محمد ساعتها جالسا على جسر الترعة يتحدث إلى الناس، ويتحدث الناس إليه، ويشرق الحديث ويغرب ولا محور له إلا الأوسطى الذي جاء من مصر، والذي يرتدي عفريتة آخر الزمان.
وكان الأوسطى محمد يؤكد للحاضرين أن هذا الصبي لو حاول إدارتها فستنفضه وتلقيه في الخليج.
وكان يتحدث في ثقة وإيمان كما لو كان يتكلم عن نفسه.
وعلى حين فجأة انبعثت تكتكة عنيفة، ثم انقطعت. •••
وانتهى الحديث في التو، وصمت الموجودون وكأن ألسنتهم ربطت إلى أوتاد. وتحولت الأنظار كلها إلى الأوسطى محمد الذي كان صامتا، وفي صمته دهشة غير قليلة، وفي أعماقه يغلي قلق استحوذ عليه، ولم يغب عن الأنظار. ورغم أن ثقته في نفسه وفي المكنة كانت لا حد لها إلا أن الفأر بدأ يلعب في عبه، فقام دون أن ينطق بحرف أو يسأله الحاضرون أين هو ذاهب. وتمشى على الجسر واضعا يديه خلف ظهره، ورأسه مائلة على صدره، وعقله يتأرجح بين الشك واليقين.
وقادته قدماه غصبا عنه إلى المكنة، وجلس على حافة المصلى القريبة وعيناه مصوبتان إلى بابها، وأذنه تتسمع دوي الوابور وهو يسخنها، وثمة ابتسامة واثقة غير مصدقة حائرة على شفتيه.
واتسعت ابتسامته وهو يشاهد الأوسطى الصغير يستعين بالحج على إدارة الحدافة، ولكن البسمة غاضت تماما من وجهه حين رأى البستم المعلون يلف ويدور ولا يقف، والحدافة قد انطلقت من نفسها كالمجنونة، وقد أخفت السرعة هيكلها وابتلعته، بينما المدخنة اندفعت تنفث حلقات الدخان في نظام لا تشوبه شائبة.
ولم يحتمل الأوسطى محمد، ففز من جلسته واقفا وهو يكذب ما يراه وما يسمعه، وشيء لاسع ينهش صدره، وهو يلمح الأوسطى الصبي يغادر الحجرة وعلى سيماه بشر كثير، والناس يتجمعون حوله، ويسلمون عليه، ويرحبون به، ويدخل بعضهم يتفرج على المكنة الدائرة، ويهنئ الحج ويشد على يده.
وقف الأوسطى محمد وحيدا مزروعا في مكانه، والناس رائحة غادية من أمامه لا يلحظونه ولا يلحظهم. وقبل أن يغادر مكانه انتزع من صدره تنهدة حارقة طويلة، وغمغم باشمئزاز، وكأنه الزوج يضبط امرأته متلبسة بخيانته: الله يلعن أبو صحابك.
ثم بصق ملء فمه.
شغلانة
كان عبده في حاجة إلى قرشين.
ولم تكن هذه أول مرة يحتاج فيها عبده، فقد أمضى عمره باحثا عن القرشين.
كان في الأصل طباخا، تعلم على يد الحاج فايد الشامي، وأتقن الصنعة، حتى إن طبق «الدمعة» كان حين يخرج من يده محبوكا محوجا يحظى بإعجاب المعلم نفسه.
ولكن الحال لا تدوم على وتيرة واحدة، وهكذا اشتغل عبده صبيا في الورشة التي بجوار المطعم، ثم طرده صاحب الورشة، فعمل بوابا فترة من الزمن، وأشرف وحده على عمارة من عشرة طوابق، ثم أسلمه عوده الفارع وساعده القوي إلى عربات النقل، فأصبح شيالا حتى أصيب بالفتق .
وعبده كان له صوت، وصوته لم يكن جميلا، ولكنه كان قويا طازجا، وحين كان يبيع الخيار والشمام والعنب كان يلفت الشارع كله إلى بضاعته بنداء واحد.
وقد عمل عبده ذات مرة سمسارا، وكان يجوب الأزقة ليل نهار بحثا عن حجرة خالية، وكان يجدها، ويجد معها العشرة قروش، ثم استطاع أن ينفذ إلى كهنوت السماسرة، فيقبض القروش العشرة بلباقة من الزبون، ولا يجوب الأزقة أو يجد الحجرة.
وعبده في شغل القهاوي عجب، وكان أيام عزه يقف في أرضية القهوة وحده ليلة العيد، فلا يؤخر طلبا أو يكسر كوبا.
وكانت له زوجة، يسكن وإياها حجرة وحولهما الجيران. ورغم المعارك الصغيرة التي كانت تنشب بين نسائهم وامرأته، فقد كانوا على العموم أناسا طيبين، يواسونه ويقرضونه إذا لم يعمل ويدعون له، وأحيانا يقترضون منه إذا وجد العمل، والدنيا ماضية به وبهم تبيع لهم العيش بالميزان، وتنقص كل يوم في الميزان، وإنما هي الدنيا والسلام.
كان عبده في حاجة إلى قرشين.
وهذه المرة كانت حاجته قد طالت، ولم يكن هناك أمل في نهايتها، ومعارفه القدامى حفيت قدماه، وهو يلف عليهم ويدور، ويعود من لفه ودورانه بنفس وجهه المقطب العابس، ويديه الخاويتين، ويدق الباب فتفتح امرأته فلا يحييها، ولا تحييه، وينام على الحصيرة، ويسد أذنيه عن لغط نفيسة ودوشتها وهي تجره جرا إلى الذي يحدث كل يوم، وإلى تهديد صاحب البيت، وأنصاف الأرغفة الحاف وأرباعها التي يتصدق بها الجيران، والعيد القادم، وأقة الخوخ التي نفسها فيها، وتتوحم عليها، وابنته التي ماتت، وابنه الذي في الطريق والخوخة التي سيولد بها.
وطالت هذه المرة على غير عادتها، وعلا صوت نفيسة حتى لم يعد يحتمله، وأصبح لا يطيق النظر إلى وجوه جيرانه ورءوسهم المهتزة الآسفة على شبابه وقلة بخته، أو تمنياتهم التي لا يمضغها تحت أسنانه أو يستر بها جسد نفيسة.
وفي يوم وعبده عائد، قالت له نفيسة إن طلبة قد أرسل له.
وأحس عبده بفرحة فإن أي سؤال في مثل حاله يعني الأمل، وليكن أملا كاذبا إلا أنه أحسن من لا شيء على أية حال.
وفي التو ذهب إلى طلبة، وكان سيد القاطنين في البيت بلا جدال، فقد كان يعمل تمورجيا في المستشفى، وكان كذلك أحدث القاطنين.
ورحب به طلبة، وابتسم عبده لترحيبه في خجل، وما كاد طلبة يسأل عن الحال حتى قص عبده الحكاية، وكان عبده يشعر بالراحة وهو يقصها ويتحدث عن أيام مجده وذكرياته، كان إذا أحس بالنظرات تقشعر وهي تعبر جلبابه المهلهل لا يستريح حتى يتكلم عن حرفة، وعن الناس الذين عرفهم وعمل معهم، وكأنه يداري خروق جلبابه، وحين يتكلم عما فات كان صوته يمتلئ ونفسه تكبر ويشعر بأنه كان رجلا، ثم يخفت حديثه وتتبرم لهجته، ويسخط على الدنيا والزمان والناس، ويتشوق إلى الخير الذي ضاع، ويشمئز من الشر الذي ملأ القلوب، ثم كانت كلماته تصغر، وصوته يضعف وابتسامة خجلة تأخذ طريقها إلى وجهه، وهو يتحدث إلى جليسه عما صار إليه، ويسأله بعد أن يفرغ كل الضعف الذي في صوته، وتنتهي كل الاستكانة التي يهمس بها، يسأله إن كان يعرف له الطريق إلى عمل.
واستمع طلبة، وقاطعه كثيرا وهو يستمع، ثم أخبره في النهاية بأن هناك عملا ينتظره.
ورجع عبده، وكأن ليلة القدر قد فتحت له.
وحدث نفيسة كثيرا عن طلبة وترحيبه وطيبته، وأمرها أن تذهب في الغد بعدما ترجع من عند الطلبة الذين تغسل لهم إلى امرأته وتساعدها، وتسليها.
ومن الفجر كان عبده مستيقظا، وقبل شروق الشمس كان هو وطلبة أمام قسم نقل الدم في المستشفى، وانتظر وجاء أناس مثله وانتظروا، وفتح الباب في العاشرة، ودخلوا، وأخذ عبده بالمكان الذي كله سكون وصمت. ونفذت إلى أنفه رائحة كالفنيك تملأ الجو، وجعلت معدته تطفو حتى تصل إلى حلقه، وأوقفوهم طابورا وسألوه وهو كالذاهل، واستجوبوه وعرفوا اسم أمه وأبيه، وكيف مات خاله وعمه، وطالبوه بصورة، وبحث عبده فلم يجد إلا صورته الملصقة على تحقيق الشخصية الذي يحمله دائما خوفا من الطوارئ والعساكر.
ودفعوا إبرة في وريده، وأخذوا منه ملء زجاجة من الدم الأحمر. وقالوا له: بعد أسبوع.
وخلال الأسبوع كان عبده لا يزال في حاجة إلى القرشين، ولا يزال غاديا رائحا يبحث، وأنصاف الأرغفة وأرباعها كادت تفرغ، بل فرغت. وفي الميعاد تماما كان أمام القسم، وفي العاشرة فتح الباب، وقالوا للذي قبله في الطابور: لا.
وحين تصلب الرجل في مكانه أزاحوه وهم يقولون: دمك فاسد.
وخفق قلب عبده.
ولكنه كف عن الخفقان حين قالوا له: أيوه.
ولما تثاقل في مكانه أزاحوه وهم يقولون: حناخد منك النهاردة.
وكاد عبده يركب رأسه، ويمضي في الطابور مهللا مقهقها كما كان يفعل في عز شبابه، ولكنه كان جائعا، ففرح على مضض وانتظر.
وبعد قليل نادوا عليه، وأدخلوا ذراعه في ثقب لا يسع إلا ذراعه، وخاف عبده، ولكنه اطمأن حين وجد على يمينه واحدا وعلى شماله آخر. وأحس بذراعه كلها يغمرها شيء بارد، وكأنها وضعت في لوح من الثلج. واندست فيها بعد برهة مسلة، وتأوه، ثم لم يعد شيء يضنيه فسكت، وأتاح له سكوته أن يتفرج على المكان، وأن يرفع رأسه ويشب ويختلس النظرات خلال الزجاج الفاصل، فيلمح فتيات كالورد يرحن ويجئن في صمت وليس لهن ضب امرأته، ولا ثوبها الأسود، وأدرك عبده بعد برهة أنهم ليسوا كلهم فتيات، وإنما بينهن بعض الرجال، ولكن وجوههم هي الأخرى كانت بيضاء كالقطن المندوف ولامعة كالحرير. وراح عبده يحسد ذراعه والرجال الذين في الداخل، ويتمنى أن تطول ذراعه وتطول حتى تصل أصابعه إلى قناع واحدة من الفتيات فيشده، ويقرص وجهها الحلو.
واستمر عبده يشب ويتأمل الوجوه المقنعة، ويخلط بين الرجال والفتيات، حتى بدأ الزجاج الفاصل يضيء وينطفئ أمام عينيه، والوجوه الحلوة تغطيها الأقنعة، ثم تنحسر عنها.
وأحس أنه تعب.
وشعر بذراعه تبرد، ثم شعر بها تسخن وتبرد.
وسأل الذي عن يمينه: هم حياخدوا قد إيه؟
وأجاب الآخر وهو يغمغم وكأنما ينوي ليتوضأ: أنا عارف! بيقولوا نص لتر.
وانتهى الحديث.
ودقوا على ذراعه وهم يقولون: خلاص.
ومشى عبده وهو غير ثابت وسأل عن القرشين، وقالوا له: انتظر.
وانتظر.
ودفعوا له جنيها وفوقه ثلاثون قرشا، وخصموا الدمغة، وكانوا كراما فأفطروه.
وقبل أن يرجع إلى البيت مر على الجزار فأخذ رطل اللحمة، وفات على الخضري فاشترى البطاطس، ودق باب الحجرة وهو يبتسم.
وحين فتحت نفيسة ووجدته محملا ردت تحيته، وحملت عنه ما في يده وقد انتابتها خفة، وكادت - لولا الحياء - تقول إنها تحبه وتموت فيه.
وطبخت نفيسة، وشاعت رائحة «التقلية» في الحجرة، وتسربت إلى أرجاء البيت، وشمشم الجيران، وابتسم بعضهم، وتحسر آخرون وهم واجمون.
وأكل عبد اللطيف حتى ملأ بطنه، ثم تهور واشتري بطيخة.
وفي الليل لم يسمع لامرأته زعيق، ولا نصبت الزفة، وإنما دار بينهم همس كحديث الحبايب.
وانتهى الأسبوع، وقبل أن ينتهي كان عبده قد صرف كل ما أخذ.
وفي الميعاد ذهب إلى المستشفى، ومد ذراعه، وأخذوا منه ما أخذوا، وأعطوه ما أعطوه، ولم ينسوا فأطعموه.
وارتاح عبده إلى العمل الجديد، فليس فيه إمارة معلم أو شخطة أوسطى ولا تمحيكة عسكري، وليس عليه إلا أن يذهب كل أسبوع إلى هذا المكان النظيف الذي كله أبيض في أبيض، ويعطيهم نصف لتر من دمه، ويناولونه الثمن، وتدبر امرأته عيشهم بما يأخذه، ويكون جسده قد دبر الدم، حتى إذا ما انتهى الأسبوع يعود ليعطيهم الدم ويناولونه النقود.
كان عمله «ألسطة»، وحساده كثيرين.
وكانت حال امرأته معه على كف عفريت، فحين يقبل وفي يده ما في يده تبسم له، وتكاد تزغرد، وحين ينام طيلة الأسبوع لا تدعه ينام، وإنما تحدثه عن رجليه الرفيعتين، ووجهه الذي يصفر، وتقص عليه في كلمات مبتورة عابرة، ما تقوله نساء «الحتة» عنه، وكيف عايرتها حميدة حين تشاجرت معها بزوجها الذي يبيع دمه. وأحيانا كانت تهدهد عليه وتشفق، وكأنها أمه، وتغطيه في الليل وتثقل في الغطاء ولا تجعله يتحرك من مكانه أثناء النهار، وإنما دائما بين يديه تلبي كل إشاراته، وكأنه طفل مريض.
وكان عبده يلمس هذا، ويشعر بالمرارة وهو يلمسه، ولكن ماذا يهم.
صحيح أنه كلما أخذوا منه الدم يدوخ وينام بجوار حائط المستشفى حتى العصر.
وصحيح أن الناس تتكلم، وكلام الناس كثير، ولكن المهم أن وابورهم والع، وإيجارهم مدفوع، والذي لا يعجبه هذا فليشرب من أوسع بحر.
غير أن عبده ذهب يوما إلى المستشفى، ولم يجلسوه أمام الثقب، وإنما نادوا عليه، وقالوا له: لا. - ليه؟ - أنيميا. - أنمية إيه؟ - فقر دم. - وماله؟ - ما ينفعشي. - وبعدين؟ - لما تقوى. - أنا قوي أهه، أهد الحيطة. - هبوط في القلب. - مالكوش دعوة. - تموت. - أنا راضي. - صحتك، الإنسانية. - ودي إنسانية يا جدعان؟! - مش ممكن. - يعني مافيش فايدة؟ - ولا عايدة.
وفي هذا اليوم نسوا فلم يطعموه.
ومن جديد أصبح عبده في حاجة إلى قرشين.
مظلوم
كان لنا صاحب اسمه عبد المجيد، وكنا لا نذكره إلا ونذكر الحشيش، فهو من رواده الأول القلائل، وله فيه صولات وجولات، وله معه تاريخ حافل طويل.
وكنا لا نراه إلا «مسطولا» ونكون واثقين حينئذ أن في جيبه بقية.
ومرت علينا أيام كان لا حديث لنا فيها إلا عن عبد المجيد ونوادره. كانت كل كلمة من كلماته نكتة، وكل رد من ردوده قفشة، وكان لا يجيء ذكره إلا ويحكي كل منا عشرات مما حدث له مع عبد المجيد، وعشرات مما حدث لعبد المجيد.
وكان عبد المجيد يعمل طبيبا في مستشفى كبير، والناس يعتقدون أن الطبيب لا بد أن يكون قصيرا، سمينا له كرش وعنق غليظ، وعلى عينيه نظارات، وفوق ملامحه بسمات طيبات.
ولكن عبد المجيد كان على عكس هذا، فهو طويل رفيع، نحيف، شاحب الوجنات.
ولا أريد الاسترسال في الحديث عن عبد المجيد، فالحديث عنه طويل، وسيرته كسيرة الحيات إذا وجدت لها بداية فلن تستطيع العثور لها أبدا على نهاية.
المهم أنه في ليلة كان عليه نوبتجية الاستقبال، وكان لا بد أن يسهر الليلة كلها استعدادا لما تتمخض عنه المدينة من أحداث. وكان لا يمكن أن تمر مناسبة كهذه دون أن يستعد لها، ويبالغ في الاستعداد. ودخن عبد المجيد حتى أصبحت عيونه ليست حمراء تماما، ولا هي بيضاء، إنما لها وردية البين بين. وجلس على مكتبه في حجرة الاستقبال، وبدأت أسراب الموجوعين والممغوصين تفد إليه صارخة.
وفي أعقاب هذه الأسراب جاءته إحدى المعضلات؛ إذ دخل ضابط ومعه اثنان من العساكر يحرسان رجلا قصيرا محنيا ذا خدود غائرة. ووضع الضابط أوراقا كثيرة على مكتب الطبيب، وقص عليه الحكاية بالاختصار، وقال له إنهم هاجموا «غرزة» ففر كل من فيها، واستطاعوا إمساك هذا الرجل، وحين فتشوه عثروا معه على قطعة حشيش، وفيما هم مشغولون بمتابعة الهاربين غافلهم وابتلعها، وإنه حاضر إليه ليعمل للرجل غسيلا للمعدة، ويستخرج ما فيها من حشيش.
وأعجبت المعضلة صاحبنا عبد المجيد، وقد وجد فيها لذة ولحلها جدة تختلف كل الاختلاف عما جرت به الليلة من أولها الطويل.
ونظر إلى الرجل الواقف والحديد في يديه، وسأله بلهجة خبير، وبحنكة ناب أزرق: أنت يا واد بلعتها واللا رميتها.
وأجاب الرجل في ذلة ذليلة، وضعف ضعيف، وبراءة دونها براءة الأطفال: أنا يا بيه؟! بلعت إيه؟! والله معرف حتى شكله والنبي مظلوم! يا ناس مظلوم!
ونظر له عبد المجيد وقد كبر في عينه وابتسم وكأنما يقول له: لا والله جدع يا واد! يحميك!
ولم يكفه التشجيع الصامت، فأصر على أن يفك الحديد من يديه. وبعد مناقشة قصيرة اقتنع الضابط ذو الوجه الأحمر والشارب الأصفر والعيون الزرق.
والمفروض أن الطبيب هو الذي يقوم بعملية غسيل المعدة، ولكنها ليست عملية أو شيئا من هذا القبيل، إنما هي إجراء يستطيع أن يقوم به أي ممرض؛ ولذلك أمر الطبيب عبد السلام أن يعد الغسيل. وذهب الرجل وفي صحبته العسكريان إلى الحجرة الأخرى، وبقي الضابط والطبيب وحدهما في المكتب.
وكان من المستحيل أن يظلا ساكتين، وبدأ الحديث بالفتاة المرسومة على مجلة كانت في يد الطبيب، ثم تشعب الحديث واكتشف الاثنان أنهما كانا ذات عام في مدرسة ثانوية واحدة، وأنهما يموتان في أغاني أم كلثوم، وأن الضابط يسكن في العباسية، ولعبد المجيد شلة أصدقاء فيها، وأن الاثنين لم يأخذا بعد إجازتهما الاعتيادية، فالرؤساء يحتجون بزحمة العمل. وقبل أن تمضي سلسلة الاكتشافات إلى نهايتها، قال الضابط: يا أخي حاجة تعكنن بصحيح! داحنا كنا قاعدين حتة قعدة في روف واحد نعرفه في مصر الجديدة، والليلادي كان لنا صاحب لسه جاي معمر من فلسطين، وحليت القعدة وأم كلثوم كانت بتغني هلت ليالي القمر، ولسه يدوبك بنبتدي، والواحد بدأ يتنعنش ويحس انه صح تمام إلا والمخبر جايني ومعاه أمر التفتيش، أعمل إيه؟ رحت قاطع القعدة وقايم معاه، الله يلعن أبو دي عيشة، بذمتك مش حاجة تعكنن؟!
ووافقه الطبيب أن هذا شيء يعكنن، وافقه وهو ينظر إلى عيني الضابط الجميلتين، وقد غرقت حبتاهما الزرقاوان في بحيرة، ليست حمراء تماما، ولا هي بيضاء، إنما لها وردية البين بين.
وقبل أن يوافقه أكثر، ويحكي له فصلا مماثلا حدث له في إحدى ليالي سلطنته، دخل عليه عبد السلام التومرجي قائلا بفرح وتهليل، وكأنه اكتشف أمريكا: الحتة أهه يا بيه، الراجل نزلها، دي تطلع قرشين.
فرد الأومباشي: قرشين إيه؟ أقطع دراعي إن ما زادت عن ربع وقية خروبتين.
وهز العسكري رأسه هزة خبير، وقال: لأ، وحتة حلوة، باين عليها غبارة يا بوي.
وعلى عجل غادر الطبيب والضابط المكتب، والتفوا كلهم حول الرجل القصير الراقد فوق المنضدة العالية يستخرج كل ما في جوفه من خير ومن شر. وشخط الطبيب في عبد السلام يأمره بوضع القطعة مع بقية الغسيل في حرز ويختمه بالشمع، وتلألأت عين الضابط الوردية بالفرح، وقد ثبتت الجريمة، وأصبح جسدها في حرز حصين. واقتيد الرجل في النهاية. وقد أعيد الحديد إلى يديه ومشى بين حراسه يقول في صوته الضعيف الثائر: مظلوم يا ناس، والله مظلوم.
في الليل
كانوا قد تجمعوا كما اعتادوا التجمع كل ليلة، وكان الملل قد بدأ يتسرب إليهم، وأملهم في ظهوره راح يتأرجح.
وجاء واحد وقال إنه رآه عند الجامع.
وتهلل الجالسون والواجمون.
كان بعضهم قد مدد رجليه في إعياء وملل، وكان آخرون قد تربعوا، والباقون قد أراحوا ظهورهم على الجدار ليريحوا ما فيها من ألم ممض، وكانت أجسادهم كلها ليس فيها موضع لتعب آخر، وقد أتوا بعد العشاء كالأشباح الناحلة السمراء قد اختلط في وجوهها العرق بالرماد، وطالت لحاها، واحمرت منها العيون.
وجاء قادمون جدد.
وتبادلوا تحية المساء مع الجالسين، تبادلوها في فتور، وكان الواحد منهم ما يكاد يجلس حتى تزحف ذرات التعب الذي لاقاه طول النهار كجيوش النمل آخذة طريقها إلى رأسه، فيتخدر جسده لزحفها، ويسكر، ويحس بالراحة تتصاعد من جوفه فتلطف جفاف حلقه، وكأنها حبات نعناع.
وقال واحد وهو يناجي نفسه أكثر مما يخاطب الآخرين: يا سلام، الدنيا ضلمة يا ولاد، والعتمة حلوة.
وما كان الليل جميلا لما فيه من سكون أو نجوم، وإنما كان جميلا؛ لأن ليس فيه عمل، ولأن فيه راحة وجلوسا، ولأنهم يستطيعون فيه الحديث، ويحسون إذا جلسوا واستراحوا، وتحدثوا أنهم بشر مثل سائر البشر.
ومع أن الليل كان هناك، وكانوا جالسين مرتاحين إلا أنهم ملوا ما راحت أفواههم تلوكه من تافه الأخبار، وسرعان ما مات الكلام على أفواههم وتجمد.
وتبادلوا نظرات متثائبة، في تثاؤبها تساؤل، وفي تساؤلها قلق غامض.
ومرة أخرى راحت أسئلتهم تترى عنه.
وقبل أن يعودوا ويملوا السؤال، جاءهم الصوت الرطب الواضح المخارج، الحلو، المملوء بالرنين، يقول: مساء الخير يا رجالة. •••
وتحركت ألسنتهم، وقد طال سكوتها: مسا الخير يا عوف، ليلتنا ندا يا عبده، أنت فين يا أخي، يا ميت ندامة على اللي حب ولا طلشي.
وبينما الجماعة قد علتها ضجة الترحيب به، لم يتمالك بعض منها نفسه، وهو يرى الابتسامة الحائرة التي تود الظهور على وجه عوف فيمنعها أدبه، لم يتمالك نفسه وهو يقارن وجهه الجاد بالهزل الذي قاله، والذي سوف يقوله، فانطلق يضحك.
ولم ينتظر عوف أن يهدأ الهيجان، وإنما انسل في رقة وأدب، وركع في سرعة على ركبتيه قبلما يقوم له أحد، ومد يده في خجل مؤدب وسلم عليهم واحدا واحدا بحرارة، وهو يقسم ألا يتعبوا أنفسهم ويقوموا، واندفع الذين لم يضحكهم أدبه، فضحكوا على حرارة سلامه وغلظ قسمه.
وأخيرا جلس، بينما تنحى أناس، واعتدل آخرون، وامتدت أذرع تصلح أوضاع الجالسين، وتوسع الحلقة.
وتلاقت العيون والأسئلة كلها عليه، وقد تربع ووضع قبضتيه متلاصقتين في حجره كما اعتاد أن يفعل ، ولمعت بشرته السمراء والابتسامة ما زالت تتردد قبل ظهورها على ملامحه.
كانوا يودون سؤاله مثلا إن كان قد وجد عملا. وآخر عمل كان يقوم به عوف كان مع تجار البهائم؛ إذ كان عليه أن يوصل بضاعتهم من المواشي إلى الأسواق قبل الفجر، وحين ينفض السوق يعود بما بقي دون بيع، وما جد بالشراء، وكان لا يعود قبل حلول الظلام. وانتهى موسم التجارة، ووقفت سوق البهائم، وأصبح عوف مرة أخرى بلا عمل.
وكانوا يودون سؤاله أيضا أين كان طيلة ما بعد العشاء؛ إذ لا ريب أنهم كانوا لا يعرفون كيلة إلا ذرة، وما جرته عليه من مصائب، ولا ما أجبرته عليه من سؤال وهمس وإلحاف.
وما استمر السكون الذي صنعه قدوم عوف طويلا؛ إذ سرعان ما رفع رأسه، وحدق فيهم جميعا دون أن ينطق حرفا، وأدار رقبته، وشمشم بطاقتي أنفه، وتابع الموجودون حركاته وهم صامتون يخمنون ويستعدون. وظل عوف برهة يحاور عيونهم ويلاعبها، ثم جعل ابتسامته تضحك ضحكتها القصيرة الخاطفة، وأتبعها بقوله، وكأنه يستنكر: واللا هاو آريو يا رجاله!
وانفجر الجمع ضاحكا.
ولم تتحمل الصدور ما فيها من ضحكات، فسعلت، وضحكت، ثم سعلت. واستلقى بعضهم على ظهره ليضحك أكثر، وانثنى البعض حتى لاصق وجهه الأرض وهو يضرب بيده على فخذه، وقد تشنج ضاحكا.
لم يكن ما قاله عوف يستحق كل هذا الانفجار، بل ما كان قوله غريبا على أسماعهم، ولكنهم كان يكفي أن يروه أو يسمعوه، أو حتى تأتي سيرته، لتنساب منهم الضحكات. كان هو التميمة القادرة دائما على فتح أفواههم، وقد سمرها طول النهار.
ولم تكد الموجة الأولى تنحسر، ويبدأ الضحك يتحول إلى همس ضاحك، حتى قال عوف بصوته الذي فيه بحة رنانة يذوبون فيها: كيلة الدرة يا ولاد!
ودون أن يعرفوا ما هي الحكاية قهقهوا بكل ما يملكون من صدور.
واستطرد عوف والقهقهات تترى من حوله: أنا سايب الولية من غير عشا يا جدعان!
ولعلعت الضحكات، ووضع البعض أيديهم على بطونهم، حتى لا تتمزق، بينما تعبت بطون الآخرين.
ولما لم يجز عليهم ما في وجهه من جد ولا ما في ابتسامته المؤدبة من تردد، ولا ما في ملامحه من حزن وتأثر، هز رأسه في يأس، ووسع ابتسامته على قدر ما استطاع، وتلفت حوله وهو يدير رقبته في استسلام، وعلى يمينه كان هناك جالس قد استحوذ عليه النعاس رغم كل تلك الضجة، وراح يفقر، ورأسه تهوي على صدره، ثم تنتفض عائدة إلى مكانها فوق رقبته.
ومضى عوف يتأمل الرأس الصاعدة الهابطة عن يمينه وقد ران عليه تفكير عميق، وكأنه أمام معضلة لا حل لها. وكان الجالسون ينظرون إليه، ثم إلى النائم، ولا يستطيعون بعد هذا أن يملكوا زمام أنفسهم فيضحكون. وبدا على عوف أنه قد وجد الحل، فقرب فمه من أذن النائم، ثم قال بأعلى صوته، وكأنه يهش على جدي كبير: سك، سكك دبحه!
وثارت عاصفة ضحك عاتية، واستيقظ النائم على ثورتها نصف مذهول، واسترد وعيه وهو يضحك، ثم أسرف في الضحك حتى قهقه، ولما رأى العاصفة مستمرة قام، وخلع طاقيته الصوف ورماها، وداس عليها بقدمه الغليظة، ثم سب أبا الدنيا وقعد وهو يبتسم في سذاجة وذهول.
ونسي عوف نفسه وسوق الماشية والكيلة وما بعد العشاء، وقد أعجبه ما أشاعه فيهم من ضحك وحياة، بل إنه أحس بشيء غير قليل من الفخر والتيه، وهو يرى كلماته تتلاعب بعقولهم، فتحركها أنى تشاء.
ونسي الحاضرون أنفسهم هم الآخرون، ونسوا حياتهم.
وما كان يأتيهم النسيان إلا بعد عناء.
وبدءوا يضحكون ضحكا حقيقيا.
وأيضا ما كان يأتيهم الضحك إلا بشق الأنفس.
كانوا يضحكون أول الأمر وهم فقط يقلدون من يضحكون.
ثم يحسون أن ما هم فيه يستحق الضحك فعلا فيضحكون.
ثم يرون أن ما أمامهم فرصة ينعمون فيها بضحك لا ثمن له، وهم ما اعتادوا أمثال تلك الفرص، فيضحكون لحاضرهم ويختزنون ضحكات أخرى للمستقبل.
ثم كانوا يتذكرون ما قاسوه في النهار، وما سوف يبذلونه في الغد المقبل، فيتشبثون بما هم فيه من ساعة أنس، ويضحكون ويغصبون على أنفسهم، ويضحكون أكثر وأكثر.
ولا يدوم هذا إلى الأبد.
فسرعان ما يمسح عجوز منهم الدمعة الضاحكة عن عينه، ويقول بصوت فيه رنة ندم، وكأنه اقترف إثما: اللهم اجعله خير يا ولاد. •••
وفي لحظة من لحظات السكوت نادى واحد وطلب شايا لعوف.
وأحس الموجودون كلهم أنهم غفلوا عن شيء خطير، وأنهم أخطئوا في حق الرجل، وقد منعهم الهرج من القيام بالواجب؛ ولذلك راحوا يتنافسون، وكل منهم يصر أن شاي عوف سيكون على حسابه. وعوف قد جلس جلسته المتربعة المؤدبة الخجلة يتمتم من بين شفتيه الوادعتين: خلي عنكو يا رجالة، خلي عنكو.
ولكن الرجال لم يخلوا عنهم، بل وطلب كل منهم لنفسه طلبا، وكأنهم يجلسون في أحسن قهوة، والمكان ما كان حتى غرزة، وإنما هو فضاء صغير تحده البيوت الداكنة المنخفضة، وفي وسطه حفرة، فيها نار، وعلى النار براد كبير، رأى صاحبه أن يجلس، ويضحك، وأيضا يعمل، فكان يصنع لهم القهوة والشاي، ويرص لهم الكراسي.
وسرعان ما وزعت الأكواب على الذي معه، والذي ليس معه، فما كان لحظتها مهما من الذي يدفع، وقد أصبح ما في جيب كل منهم ليس هو محط تفكيره وبؤرة اهتمامه، ولكن أصبح ما في الجيب آخر ما يفكر فيه، وإخراجه أسهل، والندم الذي يعقبه أقل وأوهى.
وراحت أفواههم التي عليها بقايا ضحكات وابتسامات ترتشف ما في الأكواب، وأحسوا لأصوات رشفاتهم، وحشرجة شفطهم ترنيمة رائقة تتصاعد في جوف الليل الساكن الساجي، وكان القدح الذي في يد عوف مجمع أنظارهم؛ فقد كان ممسكا إياه بطريقته الرشيقة، ويرتشف منه بفمه الذي ضيقه ودقق من فتحته، بينما لمعت سمرة وجهه بعرق خفيف أشاعه دفء الشاي.
وأخذ واحد منهم رشفة ذات نغم طويل، ثم مصمص حلقه، وقال: إزاي الحال؟
ولم ينتظر ليرد عوف، وإنما مضى يسأله: إزاي الحال دلوقتي؟
سأله وهو يبتسم، وفي تؤدة واتزان قبل عوف باطن يده، ثم قبل ظهرها ونظر إليه بعينيه التائهتين السارحتين، وقد ضيق المثلث الضاحك الذي فيه شاربه، وقال: عال، نحمده، أنضف من الصيني بعد غسيله، والأشيا معدن.
وسخسخ الحاضرون ضاحكين، وتساقط بعض ما في الأكواب على أيديهم فلسعها، وتساقط على أثوابهم فما سألوا فيها، بينما اصطدمت الضحكات الخارجة من أفواههم بالرشفات الداخلة، فاحتقنت الوجوه، وشاعت فيها حمرة غريبة على ما كان فيها من شحوب، ولم يرحمهم عوف، وإنما استطرد: هو طول ما أنت فيها يا أبو وش يملا كنكة إحنا حنشوف طيب؟!
وانهال عليه بلسانه.
وكان المضحوك عليه أول الضاحكين، فما تأثر أو اربد، بل أسعده في الحقيقة أن يتخذه عوف هدفا للذعاته. وما كان أحد يستطيع أن يزعل من عوف أو يتأثر من كلامه، كانوا كلهم قد أجمعوا على حبه رغم أنه كان أفقر رجل في القرية، ورغم أن حياتهم كانت جدباء صعبة لا يستطيع الحب أن يجد له مكانا فيها، ولا يستطيعون العيش إلا إذا كرهوا وحقدوا وتخاطفوا. كانوا ككل من في القرية يودون الحياة، ولا حياة هناك إلا بالصراع، ولا بقاء إلا للأقوى.
وفور فيهم ما احتسوه من قهوة وشاي نشاطا، وتلمظ عوف ووجهه يلمع، وبحث فيهم بعينيه التائهتين، ثم توقفت ابتسامته وقتا غير قليل على واحد منهم، وأشار إليه بطرف ابتسامته، وقد ضيق إحدى عينيه، وقال في أدبه وخجله: إلا معاكشي حتة ألف يا عوبد؟
ولم يملك الرجل يده فامتدت للتو في جيبه، وأخرج علبة صغيرة غمس فيها عود كبريت وقدمه لعوف، وعليه سنة أفيون، وحين كان يرجع العلبة إلى جيبه، وقد عاد ينظر كما كان ينظر إلى الرجال حوله، لمح في عيونهم رغبات، ومرة أخرى لم يستطع أن يملك يده، فاستمر عود الكبريت رائحا غاديا بين العلبة وبين ألسنتهم، وقد أخرجوها من أفواههم ومدوها على قدر ما يستطيعون.
وعلى رشفات الشاي مصمصها عوف والألسن حوله تتحرك في الأفواه المقفلة فتنبعج لحركتها الأشداق. وفي جرعات أخرى من الشاي ابتلعوا ما أذابوه، وبدأ الانسجام.
وأحسوا جميعا بريقهم يجف وحلوقهم تطلب الكثير من الدخان. ودارت الجوزة التي لا شيء عليها، وراح الرجال يعتصرون صدورهم ويجذبون الأنفاس، وتزدحم عروق رقابهم النحيلة بما في أجسادهم من دم قليل، وهم يجذبون ويجذبون، والجوزة تكركر وتجأر كعربة نقل ينوء محركها بما فوقها من أحمال، وغامت الجلسة بسحابات الدخان الرمادي الرخيص، وهي تنعقد وتنفض فوق الرءوس.
وقال عوف وكلماته تصنعها دفعات الدخان التي ينفثها: عارفين الحرب قامت ليه يا رجالة؟
وانتبهت العقول كلها، وصمت القليلون المتحدثون، فقد كانوا يتوقعون هذا السؤال أو مثله من زمن، ويأملون وقد طال بهم الانتظار أن يتحفهم عوف بحكاية.
ولم يجب عوف مرة واحدة، إنما بكلماته التي كان ينتقيها بخبرة وروية، ثم يقطعها وينغمها ويمثلها، وبملامح وجهه التي يملك زمامها كلها، ويستطيع أن يقول بها ما شاء دون حاجة إلى كلام، وبحنجرته التي تخرج منها الأصوات لها بحة الناي الحزين الذي يضحك حزنه، بهذا كله بدأ عوف في رواية القصة، فتنحنح ثم قال: إنتو عارفين جدكو عامر يا ولاد؟
وضحكوا قبل أن يقول حرفا آخر؛ إذ ما كادوا يتصورون الجد عامر العجوز الذي ترك وراءه التسعين، وبدأ يتطلع إلى المائة، والذي قضى حياته كلها لا يعرف إلا الزرع والصلاة، والذي كانوا أول الأمر يجعلون من كلامه حكما يرددونها في المناسبات، لا لشيء إلا لأنه عجوز وشعره أبيض كله. ما كادوا يتصورون الجد عامر، وعوف يردد نفس حكمه بنفس كلماته، فيدركون مدى سخفها، وكثرة ما فيها وما في حكم الكبار كلهم من تخريف.
ما كادوا يتصورون هذا حتى ضحكوا وأغرقوا في الضحك، واستمر عوف يقول وهو يغالب ابتسامته: كان مرة جدكو عامر هو وأبوكو اسماعين قاعدين يشمسوا في ضهر الزريبة، وانتو عارفين الاتنين ولله الحمد خبراء من الدرجة الأولى في الفقر وقلة البخت، وبعدين السياسة حزقت أبوكو اسماعين قوي، قام قال: إلا بذمتك يا جد مخيمر، وحياة الله يرحمها دنيا وآخرة جدتي أم عاشة، وحق من أماتها يا شيخ، عارفشي الحرب قامت ليه؟ قام جدكو عامر هرش ضهره في الحيطة وقاله: بقى يا ابن أم خرزة ما نتاش عارف ليه؟
قال له: والله أهو أنا عارف كل زقاق في السياسة إلا المدعوقة دي.
قام جدكو عامر اتنهد، وقالوا إيه: أما عقلك فارغ صحيح، دا يا واد الحكاية بسيطة قوي، الألمان قالوا للإنجليز طياييركو ما تمشيش مع طياييرنا في سكة واحدة، الإنجليز قالوا رأسنا وألف سيف، وهب راحت قايمة.
وما كانت تلك أول مرة يرويها، ومع هذا فقد ضحكوا لها، وأسرفوا في الضحك، فالحكاية من فمه كانت لها لذة، وروايته لها وتمثيله إياها كانت تضفي عليها رونقا جديدا.
وانتهت القصة ولم تنته القهقهات التي انبعثت وراءها، والتي كانت تتصاعد حية مليئة بالحياة والرغبة فيها، تتصاعد من أعماق القرية الراقدة كبقعة سوداء كبيرة من الصمت القتيل.
وأعادت ضحكاتهم الكثيرة كل ما جار عليه الزمن من إنسانيتهم وانتشوا وهم يحسون أنهم مثل الأفندية تماما، لهم قعدة ومجلس، وتحكى من أجل إيناسهم القصص.
وتعالت الأصوات تطلب من عوف المزيد، وقد هضموا كل ما فات.
وتمنع عوف أول الأمر ككل فنان، ثم انطلق يحكي عن أبيه وكيف كان لا عمل له إلا الصيد بالسنارة، وكيف كانوا يتعشون كل يوم سمكا.
ويحكي عن لسان أبيه وطوله، خاصة ساعة الطبلية، وما كان يتبادله هو وأبوه من قفشات حتى ينقلب عشاؤهم آخر الأمر إلى سامر يتجمع له الناس، ويتسمعون من وراء الباب، ثم يذهبون بعيدا ويضحكون.
والمرة التي طلعت لأبيه في السنارة فردة حذاء، والمرة التي رأي فيها الجنية وكاد يتزوجها.
ولا تفرغ قصص عوف.
وكانوا يحبون كلهم حكاية ذهابه إلى المولد وهو صغير، والثلاث ورقات والملحمة الكبيرة التي قامت ليلتها، واستوعبت كل ما في المولد من شماريخ وخيزرانات وحلاوة ورجال.
ولا يستكن لسان عوف.
كان يسخر من كل شيء، من الناس، ومن نفسه، ومن الحياة التي يحيونها.
كان قد لف مصر من أولها إلى آخرها، ودخل السينما، وشاهد المتاحف وقام بأنواع لا أول لها ولا آخر من الأعمال، وعاش في القاهرة، وعرف مخابئ الإسكندرية أيام الغارات، وتعلم هاو آريو من الجيش الإنجليزي حين كان فيه، وكان يدور دورته ويعود إلى القرية: «ألاقي أبوك الحجعلي لسه بيقول للفحلة، عاه يا بنت الأنيتة، وخالتك أم بركة لسه بتدور على فرن خابز تشحت منه رغيف، والعمدة لسه متنك على قرماية الخشب، وأبوك مخيمر واقف جنبه لابس حتة العباية اللي ما تساويش ثلاثة ابيض، ودي بنت مين اللي فايته يا مخيمر؟ يقوله دي بنت فلان يا عمدة اللي اجوزها علان، واللي طلقها تلتان، حاجة تفلق اللي ما ينفلقش، الدنيا تنشال وتنهبد وبلدنا ولا هي هنا، يا رب لا اعتراض ولا مانع، إنما أدنته شايف.»
وحين كانوا يسمعونه يشرق ويغرب ويقول كل ما عنده كانوا يهزون رءوسهم ويضحكون وهم يوافقون، ويحسون بفرحة وهم يوافقون، ويزدادون بكل حكاية من عوف إيمانا بأن حياتهم لا جديد فيها، ولا طريف، حتى الموت ما كان فيه جديد، وإنما كان عودة حزينة لحزن قديم، الناس تولد وتكبر، ثم تموت، والبقرة تدور في الساقية مغماة لا تدري أين تسير، وعيون الساقية تغترف الماء من باطن الأرض، وتمتلئ به، ثم تصبه العيون ليعود إلى الأرض وباطنها، لا جديد في حياتهم ولا طريف. •••
وفجأة سكت عوف عن كلامه، وسكت الناس لسكوته، وتحولوا ينظرون حيث ذهبت عيناه، ومن بعيد أقبل شبح أسود طويل عرفوا فيه امرأته وكلها سواد في سواد، حتى وجهها قد غطته، زيادة في الحياء، بشاشها الأسود الذي لا يخلو من ثقوب.
وكانت تمسك بمفتاح ضبة بابهم الخشبية وتتلاعب به.
ومن بعيد أيضا جاء صوتها رفيعا كقوامها، طويلا كطولها: عبد الرحمان.
وأرتج على عوف ومأمأ برأسه، ثم خفضها وهو ينحني حتى أصبحت بين فخذيه، وقال في همس مملوء بالخوف الذي يضحك: ولاد، أنا مش هنا.
وسمعوها تغمغم بكلام لم يسمعوه، ثم نادت بعد برهة بصوت يائس وقد نفد صبرها: يه، شوفوا الراجل يا خواتي وأنا لفيت عليه البلد حتة حتة، عبد الرحمان.
وأفلح البعض في كتم ضحكاته، ولم يفلح آخرون، ولعلها لمحته وهو منحن وقد قارب الأرض، فإنها صرخت قائلة: وطي كمان وطي، مانتاش مكسوف والنبي عليك، سايب الدار على الحميد المجيد، وجاي تنصب السامر بتاع كل ليلة، عبد الرحمان.
ولم يجد عوف بدا من الظهور فاعتدل شيئا فشيئا، وهو يقول لمن حوله هامسا: أهي قلبت بغم يا رجالة.
ورفع صوته جادا لا أثر للهزل فيه، وقال: روحي يا بت.
وتعالت الضحكات لجده وإمارته.
وردت المرأة وقد عيل صبرها: والنبي يا شيخ؟! اسم الله عليك وعلى حواليك! مش تلايمها شوية، فين يا راجل حق كيلة الدرة اللي انت قايللي دقيقة واحدة وحاجيبه؟
وبنفس الصوت الجاد قال عوف بعصبية أكثر وقد تذكر كل شيء: روحي يا بت اختشي.
وضحكوا كما لم يضحكوا في ليلتهم، بل في أعمارهم كلها.
وأغاظت ضحكاتهم المرأة، فقالت وهي تكاد تصرخ: والله مانا منقولة إلا أما تجيب حق الكيلة، دا صاحبتها قاعدالي في الدار م المغرب، سامع والا لأ.
وأجاب عوف بصوت عال: لا مش سامع.
فقالت وهي مغيظة: عنك ما سمعت، هه، وآدي قعدة.
وحاولوا مرة أخرى أن يتأدبوا ويكتموا الضحكات، والمرأة تنتقي لنفسها مجلسا فوق كومة سباخ عالية. ورفع عوف رأسه ونظر إليها وهي ممتطية الربوة كأم قويق، وسكت برهة، ثم قال بصوت نصفه ضاحك، ونصفه جاد:
روحي يا بت يا ام وش زي وش السلندر.
ومع أنهم ما كانوا يعرفون ما هو السلندر، إلا أنهم انثنوا وتمايلوا مقهقهين، وعيونهم قد شدت إلى عوف الجالس لا يعرفون إن كان هو جادا في كلامه أم هازلا.
ولم تسكت المرأة، وإنما قالت على الفور: والنبي ماني مروحة يا ابو راس أنعم من البريزة الماسحة.
واستمرت الضحكات تترى بلا انقطاع.
وقال عوف وهو يزيد النصف الضاحك من صوته: والنبي ان ما روحتي لقايم فاتح بطنك، ومطلع منه طعم.
وما عاد الحاضرون يتمالكون أنفسهم، ولا يعرفون إن كانوا يضحكون أو لا يضحكون.
وبينما هذا يحدث كان بعضهم يفكر فيه من ناحية أخرى، وتمنى أكثر من جالس أن يمد يده إلى محفظته الكالحة ويستخرجها، ثم يسقط في يد عوف ثمن الكيلة. ولكن كانت أمانيهم بصيرة، وأيديهم قصيرة، جد قصيرة.
وكان عوف هو الآخر يضحك بقلب، ويحلم بقلب آخر أن تمتد يد في حجره وتدفئ أصابعه بالثلاثين قرشا التي داخ عليها من المغرب. وبقيت أصابعه باردة في حجره.
وشخط عوف في المرأة قائلا: علي الطلاق إن ما روحتي ...
وعلى الفور نزلت المرأة، واستدارت عائدة بشبحها الأسود الطويل.
وقال عوف وقد سره ما أحدثته الشخطة، واستعاد لسانه الحاد: شايفين يا ولاد، والنبي رجل مراتي اليمين بتنفس.
واختلطت القهقهات بالأصوات، وسمعوا ضحكة تفلت من المرأة المبتعدة رغما عنها.
وكانوا قد تعبوا وما عادوا يستطيعون الضحك فسكتوا. وسكت الليل، وسكت كل شيء وأصبح لا صوت هناك إلا نقيق الضفادع، وتنهدات البعض والماء وهو يغلي في البراد ويفور.
حتى عوف كان قد أرخى رأسه على صدره، وكأنه يفكر.
واستمر الصمت زمنا لم يقطعه إلا عوف حين رفع رأسه، وقال وهو يستغرب منهم السكوت، ويحدق فيهم: والله هاو يا رجالة.
وانفجروا يضحكون، واستمرت الضحكات تنفجر، وهي لا تريد أن تنتهي، وكان يبدو أنها لن تنتهي لولا أنهم سمعوا همهمة لم يألفوها، وحمل إليهم الظلام جعجعة شيخ الخفراء المعهودة، ونبراته القاطعة الحادة: واد انت وهوه، إنتو عاملينها غرزة يا ولاد الكلب. قوم قامك عفريت منك له.
وكان أول من تسلل لا يلوي على شيء هو خالي الوفاض منهم، أما الذي في حافظته قرش أو يتدفأ جنبه بورقة، فقد تكاسل قليلا وهو يقوم، ولما وقف تثاءب كثيرا وتمطى، ثم مضى في خطوات وئيدة وهو يلقي بالسلام إلى من حوله، ويشدد على عوف باللقاء في ليلة ثانية، وكلهم يحسون أن الليلة قد انتهت، وما كان يريد لها أحد أن تنتهي.
واستوقف شيخ الخفراء عوف، وقال له بعد أن اطمأن إلى ذهابهم جميعا: واد يا عوف، إزيك؟
وفهم عوف ما يريد، فقال له وكأنه يؤدي فرضا عليه: هاو آريو يا شيخ الغفر.
وقهقه الرجل، وظل يقهقه ويتلوى وعوف يأخذ طريقه إلى داره.
ومضى الليل. •••
وقبل شروق الشمس الجديدة كانوا جميعا يأخذون طريقهم إلى النهار، وكانوا يأخذون طريقهم إليه، ووجوههم باسمة وأطياف من الليلة التي مضت تلوح لهم، وتظل عالقة بخاطرهم تخفف ما في نهارهم من حدة.
وكان عوف يتسلل هو الآخر كالعصفور المبتل، مؤدبا وخجولا؛ ليستأنف همسه وسؤاله عن ثمن الكيلة.
Page inconnue